6 .
تفسير الشعراوي 6. |
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
وعندما نقرأ كلمة { اسْتَزَلَّهُمُ } نعرف أن (الهمزة والسين والتاء) للطلب، تطلب
ما بعدها، مثل: استفهم أي طلب الفهم، استعلم يعني طلب العلم، استقوى يعني طلب
القوة، و " اسْتَزَلَّ " يعني طلب الزّلل، ومعنى " الزَّلل "
هو العثرة والهفوة، أي أن الإنسان يقع في الغلط، إذن فالشيطان طلب أن يزلوا، {
بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } ، كأن الشيطان لا يجترئ على أن يستزل أحداً ممن آمن إلا
إذا صادف فيه تحللاً من ناحية، لكن الذي ليس عنده تحلل لا يقوى عليه الشيطان، ساعة
يأتي الإنسان ويعطي لنفسه شهوة من الشهوات فالشيطان يرقمه ويضع عليه علامة ويقول:
هذا ضعيف، هذا نقدر أن نستزِلّه. لكن الذي يراه لا يطاوع نفسه في شيء من التحلل لا
يقترب ناحيته أبداً.
ولذلك فالنفس هي مطية الشيطان إلى الذنوب، وفي الحديث الشريف: " إن الشيطان
يجري من ابن آدم مجرى الدم " وعندما يرى الشيطان واحداً تغلبْه نفسه في حاجة
فالشيطان يقول: هذا فيه أمل! وهو الذي يجري منه مجرى الدم كما سبق في الحديث، أما
الملتزم الذي ساعة تُحدثه نفسه بشيء ويأبى فالشيطان يخاف منه، إذن فالشيطان لا
يستزل إلا الضعيف، ولذلك فالذي يكون ربه على ذِكْر منه دائماً لا يجترئ عليه
الشيطان أبداً.
إن الله - سبحانه - قد سمى الشيطان " الوسواسَ الخناس " ، إنه يوسوس
للناس، لكنه خنَّاس فإذا ذُكر اللهُ يخنِس، أي يتأخر ويختفي ولكنّه ينفرد بك حين
يراك مٌنعزلاً عن ربك، لكن حين تكون مع ربك فهو لا يقدر عليك بل يتوارى ويمتنع عن
الوسوسة إذا استعذت عليه بالله.
إذن فقوله: { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ } يعني طلب منهم أن يزلوا
نتيجة لأنه عرف أنهم فعلوا أشياء أَبْدَوا وأظهروا فيها ضعفهم، { إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } وكلمة { بِبَعْضِ مَا
كَسَبُوا }.. كأن قول الله { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } أنه لم يأخذهم بكل
ما كسبوا؛ لأن ربنا يعفو عن كثير. { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ
بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ }.
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } لماذا؟ عفا عنهم تكريما لمبدأ الإسلام الذي دخلوا فيه
بإخلاص، ولكن نفوسهم ضعُفت في شيء، فيُعطيهم عقوبة في هذه ولكنه يعفو عنهم فهذا هو
حق الإسلام، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }.
ويقول الحق بعد ذلك: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ
كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ
غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ... }
(/546)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
والضرب في الأرض هو السعي واستنباط فضل الله في الأرض وفي سبيله لإعلاء كلمته،
فالذين كفروا يرتبون الموت والقتل والعمليات التي يفارق الإنسان فيها الحياة على
ماذا؟ على أنه ضرب في الأرض أو خرج ليقاتل في سبيل الله، وقالوا: لو لم يخرجوا ما
حصل لهم هذا! سنرد عليهم، ونقول لهم: كأنكم لم تروا أبداً ميتاً في فراشه. كأنكم
لم تروا مقتولا يسقط عليه جدار، أو يصول عليه جمل، أو تصيبه طلقة طائشة، هل كل من
يموت أو يقتل يكون ضارباً في الأرض لشيء أو خارجا للجهاد في سبيل الله؟!
ّإذن فهذا حُمق في استقراء الواقع، وجاء الحق بذلك ليعطينا صورة من حكمهم على
الأشياء، إنه حكم غير مبني على قواعد استقرائية حقيقية. فإذا عرفنا أنهم كفروا
نقول: هذه طبيعتهم، لأننا نجد أن حكمهم ليس صحيحا في الأشياء الواضحة، وما دام
حكمهم ليس صحيحاً أو حقيقيا في الجزئيات التي تحدث - فإذا عرفتم أنهم كفروا فهذا
كلام منطقي بالنسبة لهم - فشأنهم أنهم لا يتثبتون في أحكامهم فلا عجب - إذن - أن
كانوا كافرين.
{ أَوْ كَانُواْ غُزًّى } , وغُزى: جمع غازٍ، مثل: صُوّم وقُوَّم؛ يعني جمع: صائم
وقائم. { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ
اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ }. إذن فالله سبحانه وتعالى يصور لهم ما
يقولونه ليعذبهم به، كيف؟ لأنهم عندما يقولون: لو كانوا عندنا لكنا منعناهم أن
يخرجوا أو يُقتلوا، إذن فنحن السبب.
وهكذا نجد أنهم كلما ذكروا قتلاهم أو موتاهم يعرفون أنهم أخطأوا، وهذه حسرة في
قلوبهم، ولو أنهم ردوها إلى الحق الأعلى لكان في ذلك راحة لهم ولَما كانوا قد
أدخلوا أنفسهم في متاهة، ويحدُث منهم هذا حتى نعرف غباءهم أيضاً؛ فهم أغبياء في كل
حركاتهم وفي استقراء الأحداث الجزئية، وأغبياء في استخراج القضية الإيمانية
الكلية، أغبياء في أنهم حشروا أنفسهم وأدخلوها في مسألة ليست من شأنهم، فأراد ربنا
سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك حسرة عليهم.
{ لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ
ذالِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } إن القضية الإيمانية هي { وَاللَّهُ يُحْيِـي
وَيُمِيتُ } أي هو الذي يَهَب الحياة وهو الذي يهب الموت، فلا الضرب في الأرض ولا
الخروج في سبيل الله هو السبب في الموت، ولذلك يقول خالد بن الوليد - رضي الله عنه
-: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربةُ سيف أو طعنة
رمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر - أي حتف أنفه - فلا نامت أعين
الجبناء.
والشاعر يقول:ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مُخْلِدِي؟
أي يا من تمنعني أن أحضر الحرب هل تضمن لي الخلود ودوام البقاء إذا أحجمت عن
القتال. ويكمل الشاعر قوله:فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت
يديويختم الحق الآية بقوله: } وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ { فكأنهم قد
بلغوا من الغباء أنهم لم يستتروا حتى في المعصية، ولكنهم جعلوها حركة تٌُرى، وهذا
القول هنا أقوى من " عليم "؛ لأن " عليم " تؤدي إلى أن نفهم
أنهم يملكون بعضاً من حياء ويسترون الأشياء، ولكن علم الله هو الذي يفضحهم لا، هي
صارت حركة واضحة بحيث تُبْصَر. فجاء قوله: } وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
{. ويقول الحق من بعد ذلك: } وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ
مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ {
(/547)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
والذي يحرص على ألا يخوض المعركة مخافة أن يُقتل، فما الذي يرجح عنده هذا العمل؟
إنه يبتغي الخير بالحياة. وما دام يبتغي الخير بالحياة، إذن فحركته في الحياة في
وهمه ستأتيه بخير، فهو يخشى أن يموت ويترك ذلك الخير، إنه لم يمتلك بصيرة إيمانية،
ونقول له: الخير في حياتك على قدر حركتك: قوة وعلما وحكمة، أما تمتعك حين تلتقي
بالله شهيداً فعلى قدر ما عند الله من فضل ورحمة وهي عطاءات بلا حدود، إذن فأنت
ضيعت على نفسك الفرق بين قُدرتك وحِكمتك وعِلمك وحَركتك في الكسب وبين ما يُنسب إلى
الله في كل ذلك، ولذلك يقول الحق:
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ
اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }
وبعد ذلك يقول الحق: { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ
}
(/548)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
ولنا أن نلحظ أن قول الحق في الآية الأولى جاء بتقديم القتل على الموت قال تعالى:
{ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ } وجاء في هذه الآية
بتقديم الموت على القتل قال - جل شأنه -: { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ }
فقدم القتل على الموت في الآية الأولى لأنها جاءت في المقاتلين، والغالب في شأنهم
أن من يلقى الله منهم ويفضي إلى ربه يكون بسبب القتل أكثر مما يكون بسبب الموت حتف
أنفه، أما هذه الآية فقد جاءت لبيان أن مصير جميع العباد -ومرجعهم يوم القيامة
يكون إلى الله - تعالى - وأن أكثرهم تزهق نفسه وتخرج روحه من بدنه بسبب الموت،
فلذا قدم الموت هنا على القتل. إذن فكل كلمة وجملة جاءت مناسبة لموقعها. إنه قول
الحكيم الخبير.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ... }
(/549)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
إن الآية كما نرى تبدأ بكلام إخباري هو { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ
لَهُمْ }. فكأنه - سبحانه - يريد أن يقول: إن طبيعتك يا محمد طبيعة تتناسب لما
يطلب منك في هذه المسألة، هم خالفوك وهم لم يستجيبوا لك حينما قلت: إليَّ عباد
الله، إليَّ عباد الله إني رسول الله، وهذا شيء يٌحْفِظ ويُغضِب. ولكنه لا يُحفِظ
طبيعتك ولا يُغضب سجيتك لأنك مفطور مع أُمّتك على الرحمة. فكأنه يريد أن يُحنن
رسول الله على أمته التي أصابته بالغم؛ فقال له: إياك أن تجازيها على هذا؛ لأن
طبيعتك أنك رحيم، وطبيعتك أنك لست فظاً، طبيعتك أنك لست غليظ القلب، فلا تخرج عن
طبيعتك في هذه المسألة، مثلما تأتي لواحد مثلا وتقول له: أنت طبيعة أخلاقك حسنة،
يعني اجعلها حسنة في هذه.
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي بأي رحمة أودعت فيك. ساعة
تقول: بأي رحمة فأنت تبهم الأمر، وعندما تُبهم الشيء فكأنه شيء عظيم؛ لأن الشيء
يُبهم إما لأنه صغير جدا، وإما لأنه كبير جدا، فالشيء إذا كان كبيرا يكون فوق
المستوى الإدراكي، وإذا كان صغيرا جدا يكون دون مستوى الإدراك. ولذلك فالأشياء
الضخمة جدا نرى منها جانبا ولا نرى الجانب الآخر، والشيء الدقيق جدا لا نراه،
ولذلك يقولون: هذا الشيء نكرة، وذلك يدل مرة على التعظيم ويدل مرة على التحقير،
ومرة يدل على التكثير، ومرة يدل على التقليل. فإن نظرت إلى أن الإدراك لا يستوعبه
لضخامته إذن فهو كثير، وإن رأيت أن الإدراك لا يستوعبه لِلطفه ودِقَّته، وأنه ليس
في متناول البصر يكون قليلا أو دقيقا.
إذن فقول الحق: { فَبِمَا رَحْمَةٍ } أصلها هو: برحمة من الله طُبعت عليها لِنْتَ
لهم، و " ما " لماذا جاءت هنا؟ إنك إما أن تأخذها إبهامية.. يعني بأي
رحمة فوق مستوى الإدراك، رحمة عظيمة. أو تقول: " فبما رحمة " أي أن
" ما " تكون اسما موصولا. وكأن الحق يقول له: فبالرحمة المُودعة من
خالقك فيك والتي تُناسب مٌهمتك في الأمة لِنْت لهم، وما دامت تلك طبيعتك فَلِنْ
لهم في هذا الأمر واعفُ عنهم واستغفر لهم.
وهذه الآية جاءت عقب أحداث حدثت في أُحد: الحدث الأول: أنه صلى الله عليه وسلم رأى
ألا يخرج إلى قتال قريش خارج المدينة بل يظل في المدينة، فأشار عليه المحبون
للشهادة والمحبون للقتال والمحبون للتعويض عما فاتهم من شرف القتال في " بدر
" أن يخرج إليهم، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأيهم، ولبس لأمته،
فلما أحسوا أنهم أشاروا على رسول الله بما يخالف ما كان قد بدر منه، تراجعوا
وقالوا: يا رسول الله إن رأيت ألا نخرج، فقال:
" ما ينبغي لِنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل " فما دام قد استعد
للحرب انتهى الأمر، هذه أول مسألة وهي مسألة المشورة.
وبعد ذلك تخلف ابن أُبيّ بثُلثُ الجيش وهذه مسألة ثانية، أما المسألة الثالثة فهي
مُخالفة الرُماة أمره صلى الله عليه وسلم وتَرْكهم مواقعهم على الرغم من أنه صلى
الله عليه وسلم قد حذرهم من ذلك وقال لعبد الله بن جبير الذي أمَّره على الرماة:
" أنضح عنا الخيل بالنَّبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فأثبت
مكانك لا نؤتَين من قَبْلك " ، ولكنهم خالفوا عن أمر رسول الله. والمسألة
الرابعة هي: فِرارهم حينما قيل: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسألة
الخامسة: أنه حين كان يدعوهم؛ فروا لا يلوون على شيء.
كل تلك أحداث كادت تترك في نفسه صلى الله عليه وسلم آثاراً، فكأن الله سبحانه
وتعالى يقول: أنا طبعتك على رحمة تتسع لكل هذه الهفوات، والرحمة مني، وما دامت
الرحمة موهوبة مني فلا بد أني جعلت فيك طاقة تتحمل كل مخالفة من أمتك ومن أتباعك.
ولا تظن أنك قد أُرسلت إلى ملائكة، إنما أُرسلت إلى بشر خطاءون، البشر من الأغيار،
فلهذا اجعل المسألة درساً، وأنا فطرتك على الرحمة، وأنت بذاتك طلبت مني كثيراً من
الخير لأمتك، ومن رحمته أن جبريل نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله
قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت
فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فسلم على ثم قال: يا محمد إن الله قد بعثني إليك
وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله
وحده ولا يشرك به شيئا ".
فأنا أطلب منك الرحمة التي أودعتُها في قلبك فاستعملتها في كل مجال، وبهذه الرحمة
لنت لهم، وبهذه الرحمة التفُّوا حولك، التفوا حولك لأدبك الجم، ولتواضعك الوافر،
لجمال خلقك، لبسمتك الحانية، لنظرتك المواسية، لتقديرك لظرف كل واحد حتى إنك إذا
وضع أي واحد منهم يده في يدك لم تسحب يدك أنت حتى يسحبها هو، خُلق عالٍ، كل ذلك
أنا أجعله حيثية لتتنازل عن كل تلك الهفوات ولْيَسَعها خُلقك وليسعها حلمك، لأنك
في دور التربية والتأديب. والتربية والتأديب لا تقتضي أن تغضب لأي بادرة تبدر
منهم، وإلا ما كنت مُربيا ولا مُؤدبا.
} وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ { لماذا؟
لأنك تُخرجهم عما ألفوا من أمور الجاهلية.
والذي يخرج واحدا عما ألِف لا يصح أن يَجْمَع عليه إخراجه عما اعتاد بالأسلوب
الخشن الفظ؛ لأنه في حاجة إلى التودد وإلى الرحمة، لا تجمع عليه بين أمرين تقبيح
فعله، وإخراجه عما ألف واعتاد، ولذلك يقولون للذي ينصح إنسانا، النصح ثقيل؛ لأن
النصح معناه تجريم الفعل في المنصوح، فعندما تقول لواحد: لا تفعل هذا، ما معناها؟
معناها أن هذا الفعل سيء، فما دمت تُجِرّم فعله فلا تجمع عليه أمرين، إنك قبحت
فِعْله وأخرجته مما أَلِف، وبعد ذلك تنصحه بما يكره لا، إنه في حاجة إلى ملاطفة
وملاينة لتستل منه الخصال القبيحة، ونحن نستعمل ذلك في ذوات أنفسنا حين نجد مرضا يحتاج
إلى علاج مر، فنغلف العلاج المر في غلاف من السكر بحيث يمر من منطقة الذوق بلا ألم
أو نغص، حتى ينزل في المنطقة التي لا تحس بهذه المرارة؛ لأن الإحساس كله في الفم.
فإذا كنتم تفعلون ذلك في الأمور المادية، فلا بد إذن أن نطبق ذلك أيضا في الأمور
المعنوية، ولأن النُصح ثقيل فلا تجعله جدلا ولا ترسله جبلا، وخِفة البيان تؤدى عنك
بدون إثارة أو استثارة، وبلطف يحمل على التقبل..
بهذا تصل إلى ما تريد، ومثال ذلك حكاية الملك الذي رأى في منامه أن أسنانه كلها
وقعت، فجاء للمعبر ليعبر، فقال له: أهلك جميعا يموتون، التعبير لم يُسر منه الملك،
فذهب لواحد آخر فقال له: ستكون أطول أهل بيتك عمرا، إنه التعبير نفسه، فما دام
أطول أهل بيته عمرا، إذن فسيموتون قبله، هي هي، ولذلك قالوا: الحقائق مرة
فاستعيروا لها خفة البيان.
} وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ { إذن
فبالرحمة لِنت لهم وبلين القول تبعوك وألفوك وأحبوك. و " الفظُّ " هو:
ماء الكرش، والإبل عندما تجد ماءً فهي تشرب ما يكفيها مدة طويلة، ثم بعد ذلك عندما
لا تجد ماء فهي تجتر من الماء المخزون في كرشها وتشرب منه، في موقعة من المواقع لم
يجدوا ماء فذبحوا الإبل وأخذوا الماء من كرشها، الماء من كرش الإبل يكون غير
مستساغ الطعم، هذا معنى " الفَظّ " ، ونظرا لأن هذا يورث غضاضة فسموا:
" خشونة القول " فظاظة، والغلظ في القلب هو ما ينشأ عنه الخشونة في
الألفاظ.
} وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ {. إنها
رحمة طُبِعت عليها يا رسول الله من الحق الذي أرسلك. وبالرحمة لِنت لهم وظهر أثر
ذلك في إقبالهم عليك وحُبهم لك؛ لأنك لو كنت على نقيض ذلك لما وجدت أحداً حولك.
إذن فالسوابق تثبت أن هذه هي طباعك، وخلقك، هو الرحمة واللين.
وبعد ذلك اعفُ عنهم، وقلنا: إن " العفو " هو: مَحْو الذنب محوا تاماً
وهو يختلف عن كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ يعني أن تكون المسألة موجودة في نفسك أيضا
إلا أنك لا تعاقب عليها؛ لأنك كففت جوارحك وصنت لسانك، أما المسألة فما زالت في
نفسك، لكن العفو هو أن تمحو المسألة كلها نهائيا، وتأكيدا لذلك العفو فأنت قد
تقول: أنا من ناحيتي عفوت.
لا. المسألة لا تتعلق بك وحدك، لأنك لا بد أن تستغفر الله لهم أيضا، فمن الممكن أن
يعفو صاحب الذنب، ولكن ربي ورب صاحب الذنب لا يعفو، فيوضح الحق: أنت عفوت فهذا من
عندك؛ لكنه يطلب منك أن تستغفر لأجلهم. كي لا يعذبهم الله عما بدر منهم نحوك.
} فَاعْفُ عَنْهُمْ { هذه خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.. } وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ { بسبب ما فعلوه، وترتب عليه ما ترتب من هزيمتكم في " أحُد " ،
وشجك وجرحك، ولا تقل: استشرتهم وطاوعتهم في المشورة، وبعد ذلك حدث ما حدث، فتكره
أن تشاورهم، لا تقفل هذا الباب برغم ما حدث نتيجة تلك المشورة وأنَّها لم تكن في
صالح المعركة، فالعبرة في هذه المشقة هي أن تكون " أحدُ " معركة
التأديب، ومعركة التهذيب، ومعركة التمحيص، إذن فلا ترتب عليها أن تكره المشورة، بل
عليك أن تشاورهم دائما، فما دام العفو قد رضيت به نفسك، وما دمت تستغفر لهم ربك،
واستغفارك ربك قد تستغفره بعيدا عنهم، وعندما تشاورهم في أي أمر من بعد ذلك فكأن
المسألة الأولى انتهت، وما دامت المسألة الأولى قد انتهت، فقد استأنفنا صفحة
جديدة، وأخذنا الدرس والعظة التي ستنفعنا في أشياء كثيرة بعد ذلك.
ولذلك تجد بعد هذه المعركة أن الأمور سارت سيرها المنتصر دائما؛ لأن التجربة
والتعليم والتدريب قد أثر وأثمر، لدرجة أن سيدنا أبا بكر - رضي الله عنه - عندما
جاءت حروب الردة، ماذا صنع؟ شاور أصحابه، فقال له بعضهم: لا تفعل. فهل سمع
مشورتهم؟ لا. لم يسمع مشورتهم، إنما شاورهم. فلإنقاد المشورة حُكم، ولرد المشورة
حكْم، المهم أن تحدث المشورة؛ ونعمل بأفضل الآراء فالمشورة: تلقيح الرأي بآراء
متعددة، ولذلك يقول الشاعر:شاور سواك إذا نابتك نائبة يوما وإن كنت من أهل
المشوراتلقد اهتدى الشاعر إلى كيفية تقريب المعنى لنا، فعلى الرغم من أن الإنسان
قد يكون من أهل المشورة والناس تأخذ برأيه، فعليه أن يسأل الناس الرأي والمشورة،
لماذا؟ ها هو ذا الشاعر يكمل النصيحة:فالعين تنظر منها مادنا ونأى ولا ترى نفسها
إلا بمرآةإن العين ترى الشيء القريب والشيء البعيد، لكن هذه العين نفسها تعجز عن
رؤية نفسها إلا بمرآة، وكذلك شأن المسألة الخاصة بغيرك والتي تعرض عليك، إن عقلك
ينظر فيها باستواء ودون انفعال؛ لأنه لا هوى لك، والحق هو الذي يجذبك. لكن مسائلك
الخاصة قد يدخل فيها هواك ويُحليها لك ويُحسنها.
إذن فالمشورة في أحُد كانت نتيجتها كما علمتم، وكأن الله يقول لرسوله: إياك أن
تأخذ من سابقة المشورة أن المشورة لا تنفع، فتقاطعهم ولا تشاورهم؛ لأنك لن تظل حيا
فيهم، وسيأتي وقت يحكمهم بشر مثلهم، وما دام يحكمهم بشر مثلهم فلا تحرمه أن يأخذ
آراء غيره، وعندما يأخذ الآراء وتكون أمامه آراء متعددة فهو يستطيع أن يتوصل إلى
الحكم الصحيح بحكم الولاية وبحكم أنه الإمام، ويستطيع أن يفاضل ويقول: هذه كذا
وهذه كذا، إلا أن يُفوض غيره.
} وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ { وقد
عزم رسول الله أيضا على الحرب ولبس لأمته، أكان يلبس اللأمة - وهي عُدة الحرب -
وبعد ذلك يقولون له: لا تخرج فيدعها؟ لا؛ فالمسألة لا تحتمل التردد. } فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ { وهذه فائدة الإيمان، وفائدة الإيمان: أن
الجوارح تعمل والقلوب تتوكل، معادلة جميلة! الجوارح تقول: نزرع، نحرث، نأتي بالبذر
الجيد، نروي، نضع سماداً ونفترض أن الصقيع قد يأتي ونخشى على النبات منه فنأتي بقش
ونحوه ونُغطيه، كل هذه عمل الجوارح. وبعد ذلك القلوب تتوكل.
فإياك أن تقول: المحصول آتٍ آتٍ لأنني أحسنت أسبابي، لا.لأن فوق الأسباب
مُسَبِّبَها. فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل، هذه فائدة الإيمان لأنني مؤمن بإله له
طلاقة القدرة، يخلق بأسباب ويخلق بغير أسباب. الأسباب لك يا بشر، أما الذي فوق
الأسباب فهو الله، فأنت حين تعمل أخذت بالأسباب، وحين تتوكل ضمنت المسبب وهو الله
- سبحانه -.
إذن فالجوارح تعمل والقلوب تتوكل. إياك أن تظن أن التوكل يعني أن تترك الجوارح بلا
عمل، لا، فهذا هو التواكل أو الكسل، إنه التوكل الكاذب، والدليل على كذب من يقول
ذلك أنه يحب أن يتوكل فيما فيه مشقة، والسهل لا يتوكل فيه، ونقول للرجل الذي يدعي
أنه يتوكل ولا يعمل: أنت لست متوكلا، ولو كنت صادقا في التوكل إياك أن تمد يدك إلى
لقمة وتضعها في فمك. كن متوكلا كما تدعي، ودع التوكل يضع لك اللقمة في فمك واترك
التوكل ليمضغها لك!
وطبعا لن يفعل ذلك، ولهذا نقول له أيضا: إن ادعاءك التوكل هو بلادة حس إيماني وليس
توكلا.
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: } وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ { و } عَزَمْتَ { تقتضي عزيمة،
والتوكل يقتضي إظهار عجز، فمعنى أني أتوكل على الله أنني استنفدت أسبابي، ولذلك
أرجع إلى من عنده قدرة وليس عنده عجز، وهذا هو التوكل المطلق.
وفي حياتنا اليومية نسمع من يقول: أنا وكلت فلانا، أي أنني لا أقدر على هذا الأمر
فوكلت فلانا. ومعنى توكيله لفلان انه قد أظهر عجزه عن هذا الأمر. ولهذا ذهب إلى
غير عاجز. كذلك التوكل الإيماني، فالتوكل معناه: تسليمك زمام أمورك إلى الحق ثقة
بحسن تدبيره، ومن تدبيره أن أعطاك الأسباب فلا ترد يد الله الممدودة بالأسباب ثم
تقول له اعمل لي يارب؛ لأننا قلنا في سورة الفاتحة: إن الإنسان يدعو قائلا:{
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5]
ومعنى " نستعين " أي نطلب منك المعونة التي نتقن بها العمل. وبعد ذلك
يقول الحق: } إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ
فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ... {
(/550)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
الحق يقول هنا: { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ، المؤمنون
بمن؟ بالله. وما داموا مؤمنين به فمن إيمانهم به أنه إله قادر حكيم عالم بالمصلحة،
ولا يوجد أحسن من أنك توكله.
وعندما نقرأ { إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } فقد نسأل: وما هو
المقابل؟ المقابل هو { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ
بَعْدِهِ }. إذن فأنت دخلت بالأسباب التي قالها الحق سبحانه وتعالى مُؤتمرا بأمر
القيادة السماوية التي مُثلت في الرسول المبلغ عن الله، وقد أخذت عُدتك على قدر
استطاعتك، إياك أن تقارن عَدَدَك بعدد خصمك أو تقارن عُدتك بعُدة خصمك؛ فالله لا
يكفيك أن تقابل العدد بالعدد ولا العُدة بالعُدة،وإنما قال: أنت تُعد ما استطعته،
لماذا؟ لأن الله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن به؛ لأنه لو كانت المسائل
قدر بعضها، لكانت قوة لقوة. لكن الله يريد أن يكون العدد قليلا وتكون العدة أقل
وأن نعترف ونقول: هذا ما قدرنا عليه يارب. ونثق بأنك يارب ستضع مع العدد القليل
مدداً من عندك، فأنت المعين الأعلى، فسبحانك القائل:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىا لَهُمْ }[محمد:
11] والحق هنا يقول: { إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } فأنت تضمن
نصر الله لك إن كنت قد دخلت على أن تنصره.
كيف نعرف أننا ننصر الله؟ نعرف ذلك عندما تأتي النتيجة بنصرنا، لأنه سبحانه لا
يعطي قضية في الكون وبعد ذلك يأتي بالواقع ليكذبها، وإلا فالمسلمون يكونون قد
انخدعوا - معاذ الله - لأنه لو جاء الدين بقضية ثم يأتي الواقع ليكذبها، فلا بد أن
يقولوا: إن الواقع كذب تلك القضية. لكن الحق قال: { إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ } ويجيء الواقع مؤكدا لهذه القضية، عندئذ نحن لا نصدق في هذه القضية
فقط، بل نصدق كل ما غاب عنا، فعندما تظهر جزئية ماديَّة واقعة محسوسة لتثبت لي صدق
القرآن في قضية؛ فأنا لا أكتفي بهذه القضية، بل أقول: وكل ما لا أعلمه داخل في
إطار هذه القضية.
ولذلك قلنا: إن الحق سبحانه وتعالى ترك بعض أسراره في كونه، وهذه الأسرار التي
تركها في كونه هي أسرار لا تؤدي ضرورات؛ إن عرفناها فنحن ننتفع بها قليلا في
الكماليات، ويترك الحق بعض الأسرار في الكون إلى العقول لتستنبطها، فالشيء الذي
كان العقل يقف فيه قديما يصبح باكتشاف أسرار الله مقبولا ومعقولا، كأن الشيء الذي
وقف فيه العقل سابقا أثبتت الأيام أنه حق إذن فما لا يُعرف من الأشياء يُؤخذ بهذه
القضية أو بما أُخِذَ من الغير.
يقولون - مثلا- اكتشف الميكروب على يد " باستير " ، لكن ألم يكن
الميكروب موجودا قبل " باستير "؟ كان الميكروب موجودا، ولم يكن أحد
يراه؛ لأن الشيء إذا دق ولطف لا نقدر أن ندركه؛ فليس عندنا الآلة التي تدركه، ولم
نكن قد اخترعنا المجهر الذي يكبِّر الأشياء الدقيقة آلاف المرات.
وكذلك اخترع الناس التلسكوب، فبعد أن كان الشيء لا يرى لبعده، أصبح يرى بوساطة
التلسكوب، وإن كان الشيء ضئيلا جدا ولا نراه. فقد استطعنا أن نراه بوساطة المجهر
المسمى " الميكروسكوب ".
و " التلسكوب " يقرب البعيد و " الميكروسكوب " يكبر الصغير
فنرى له حركة وحياة، ونجد له مجالا يسبح فيه، وهذا جعلني إذا حدثني القرآن أن لله
خلقا غاب عن الحس لا يدرك من جن وملائكة، فلا أُكذب ذلك، لأن هناك أشياء كانت
موجودة ولم تدخل تحت حسى ولا إدراكي مع أنها من مادتي، فإذا كانت الأشياء الأخرى
من مادة أخرى مثل الملائكة من نور، أو الجن من النار، ويقول لي سبحانه إنهم
مخلوقون وموجودون فأنا لا أكذب ما جاء عن الحق؛ لأن هناك أشياء من جنسي كانت
موجودة ولم أستطع أن أراها.
إذن فهذه قربت لي المسألة، فعندما يقول الحق: } إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ
غَالِبَ لَكُمْ { فنحن نعرف أن نصر الله مترتب على أن تدخل المعركة وأنت تريد أن
تنصر الله، وتنصره بماذا؟ بأنك تحقق كلمته وتجعلها هي العليا، وليس هذا فقط هو
المطلوب، بل لتجعل - أيضا - كلمة الذين كفروا السفلى.
} وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ { إنه في ظاهر
الأمر يكون معنا، لكننا نشعر أنه تخلى عنا، لماذا؟ لأننا نترك بعضا من تعاليم
الله، إذن فهو في المظهر العام معكم كمسلمين، ومن معيته لكم أن يؤدبكم على
المخالفة فيخذلكم عندما تخالفون عن أمره.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله: } وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
{ وفي الآية السابقة قال سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ { ،
والذي لا يتوكل على الله عليه أن يراجع إيمانه.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: } وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ
يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... {
(/551)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
ما معنى " يغٌل "؟ أولا: " الغلول " هو الأخذ في الخفاء. وهو
مأمخوذ من " أغل الجازر " - أي الجزار - أي عندما يسلخ الجلد يأخذ بعض
اللحم مع الجلد، ثم يطوي الجلد مخفيا ما أخذه من اللحم، هذا هو الأصل، وأطلق شرعا
على الخيانة في الغنائم، ففي هول المعارك قد يجد المقاتل شيئا ثمينا فيأخذ هذا الشيء
خفية، وهذا اسمه " الغلول " ، وأيضا كلمة " الغِّل في الصدور
" أي إخفاء الكراهية، وكل المادة إخفاء.
والحق يقول: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } لماذا؟ لأن من الجائز أن
الرماة - في غزوة أحد - ساعة رأوا الغنائم أقبلوا عليها؛ لأن غنائم بدر لم تكن قد
قسمت بين كل من اشتركوا في القتال، فالذي كان يعثر على غنيمة كان يأخذها، وكانت
بدر أول معركة، وكان الهدف من ذلك تشجيع المقاتلين. وكان الرسول صلى الله عليه
وسلم: قد قال: " من قتل قتيلا فله سلبه ".
وظن المقاتلون في أحُد أن المسألة ستكون مثل بدر، وظن البعض أن الرسول لن يعطيهم
غنائم، فيوضح الحق سبحانه وتعالى: بأن هذه مسألة وتلك مسألة أخرى، فمن يفعل مثل
هذا يكون قد غَل. وساعة تسمع: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي أن من
طبعه صلى الله عليه وسلم ومن فطرته وسجيته ألاَّ يتأتى ذلك منه أبدا، لكن من
الجائز أن يحدث مثل ذلك من واحد من أمته، إذن فهناك فرق بين امتناع المؤمن أن يكون
غالاً، أي يأخذ لنفسه شيئا من الغنيمة، وامتناع الرسول أن يكون غالاًّ، لأن طبعه
وسجيته لا تستقيم مع هذه، لكن الأمر يختلف مع المقاتلين؛ فمن الممكن أن يكون أحدهم
كذلك، فسيدنا عمر في معركة الفرس، حينما جاء جماعة بتاج كسرى، والتاج فيه كل
النفائس وتلك سمة عظمة الملوك، فقال الفاروق عمر: إن قوما أدوا إلى أميرهم هذا
لأمناء. فقد كان من الممكن أنهم يخفونه.
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } وساعة تسمع { وَمَا كَانَ } أي: وما ينبغي
ولا يصح أن يكون ذلك الأمر، وبعد ذلك يأتي بالحكم العام فيمكن أن يحدث غلول من
أحَدٍ فيقول: { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فالذي غل
في حاجة وخان فيها يأتي بها يوم القيامة كما صورها الرسول صلى الله عليه وسلم:
" والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حلّه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة،
فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيرا له رُغاء أو بقرة لها خُوار، أو شاة
تَيعَر، ثم رفع يديه حتى رُئيَ بياض إبطيه يقول: اللهم قد بلغت ".
إن من يأخذ حراما في خفية يأتي يوم القيامة وهو يحمل البعير أو البقرة أو الشاة
مثلا. وآه لو كان ما أخذه حمارا فله نهيق!!
فإذا كان سيأتي بما غل يوم القيامة - فالذي أخذه سيفضحه - ولذلك تسمى "
الفاضحة " ، و " الطامة ". إذن فمن الممكن في الدنيا أن يأخذها
خفية ويغُل. لكنه سيأتي في يوم القيامة وهو يحمل ما أخذه على ظهره، ثم يقول مناديا
رسول الله: يا محمد.. يا محمد، لأن كل مسلم قد علم واطمأن إلى أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رءوف ورحيم وأنه لن يرضى بهذه الحكاية، لكن رسول الله أبلغ عن عقاب
من يفعل ذلك في حياته، وعلى كل المؤمنين به ألا يفكروا في الغلول وأخذ الغنيمة
خفية.
ولماذا تكون الغنيمة في الحرب شرا؟ لأن المقاتل يعيش أثناء القتال في مهمة أن تكون
كلمة الله هي العليا فكيف يرضى لنفسه بهذه المهانة وهي إخفاء الغنيمة؟ إنه يحارب
من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، ويجب أن يكون في مستوى ذلك.
وبعد ذلك يأتي الحق بالقضية العامة: } ثُمَّ تُوَفَّىا كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ
{ ، وهي تشمل الغلول في الغنيمة والغلول في غير الغنيمة، ولنتصور هذه بالنسبة لكل
من يخون أمانة أؤتمن عليها، وأنه سيأتي يوم القيامة يحمل عمارة - مثلا - لأنه
بناها بغير أمانة أو يحمل أطنانا من سمك لأنه سرقها، أو يحمل أطنانا من الجبن
الفاسد التي استوردها. فكل من سرق شيئا سيأتي يوم القيامة وهو يحمله، وإذا كنا
نشهد أن الناس لا تطيق أن تفضح بين الخلق، والخلق محدودون لأنهم المعاصرون، فما
بالك بالفضيحة التي ستكون لعموم الخلق من أول آدم إلى أن تقوم الساعة. إذن فعلى كل
إنسان أن يحرس نفسه لأن المسألة ستنفضح.
} وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّىا كُلُّ
نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ { وما دام سبحانه سيوفى كل نفس ما
كسبت فكل سيأخذ قدر ما فعل، فلا ظلم، فلو ترك الأمر بلا حساب لكان هذا هو الظلم
وحاشا لله أن يظلم أحدا، وبعد تلك التهيئة والإيضاح يقول سبحانه: } أَفَمَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {
(/552)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
والحق سبحانه وتعالى حين يطرح بعض القضايا طرح الاستفهام، فهو يطرحها لا ليعلم هو
فهو عالم، ولكن ليستنطق السامع، ونطق السامع حجة فوق خبر المخبر، فلو قال: إن الذي
يتبع رضوان الله لا يساوي من ذهب إلى سخط الله لكان ذلك إخبارا منه وهو صادق فيما
يقول، لكنه سبحانه يريد أن يستنطق عباده بالقضية، { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ
اللَّهِ كَمَن بَآءَ } , { بَآءَ } أي: رجع { بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ }.
لا شك أن كل من يسمع عن الفاروق بين اتباع الرضوان، أو الرجوع بالسخط يقول: إن
اتباع الرضوان يرفع درجة الإنسان، والذي يبوء بالسخط يهبط إلى درك الخسران،
فالقضية قالها السامع.. فكأن الحق يستنطقنا بالقضية لتكون حجة علينا، والذي يتبع
رضوان الله بالطاعة، أيساويه من يرجع إلى سخط الله بالمعصية؟!
أفمن يتبع رضوان الله فلا يغُل في الغنيمة ولا يختان في الأمانة كمن غل في الغنيمة
وخان في الأمانة؟
أفمن اتبع رضوان الله بأن استمع لأوامر الله حين استنفره لجهاد العدو، كمن لم يذهب
لنداء الله ليكون في جند الله مقاتلا لعدو الله، لا؛ فالذي لا يستجيب لنداء الله
هو من يبوء بسخط الله.
و " السخط " هو: إظهار التقبيح، لكن إظهار التقبيح قد لا يؤثر في أناس
غليظى الإحساس، لا تنفع فيهم اللعنة أو الشتائم؛ لذلك جاء سبحانه بالحكم: {
وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } { وَمَأْوَاهُ } أي المكان الذي يأوي
ويرجع إليه هو جهنم وبئس المصير. وبعد ذلك يقول الحق: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ...
}
(/553)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{ هُمْ دَرَجَاتٌ } أي ينزلون في الآخرة منازل على قدر أعمالهم، فكما ترى الدرجات
موصلة إلى المراقي العالية كذلك في الآخرة كل إنسان مُحاسب بعمله، ويأخذ عليه
درجة، ولنا أن نلحظ أن الحق يستخدم كلمة { دَرَجَاتٌ } بالنسبة للجنة؛ لأن فيها
منازل ورتبا، أما فيما يتعلق بالنار، فيأتي لفظ " دركات " ، فالدركة
تنزل، والدرجة ترفع.
{ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ } فالله هو العادل الذي ينظر لخلقه جميعا على أنهم
خلقه، فلا يعادي أحدا، إنه يحكم القضية في هذه المسألة سواء أكانت لهم أم كانت
عليهم، وبعد ذلك يردفها - سبحانه بقوله: { واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
ليطمئن هؤلاء على أن الله بصير بما يعملون فلن يضيع عنده عمل حسن، ولن تهدر عنده
سيئة بدرت منهم. { واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }. ونحن نسمع كلمة "
يعمل " وكلمة " يفعل " وكلمة " يقول " ، والعمل أهم
الأحداث، لأن العمل هو تعلق الجارحة بما نيطت به، فالقلب جارحة عملها النية،
واللسان جارحة عملها القول، والأذن جارحة وعملها الاستماع، والعين جارحة وعملها أن
تنظر. إذن فكل جارحة من الجوارح لها حدث تنشئه لتؤدي مهمتها في الكائن الإنساني،
إذن فكل أداءِ مُهِمّة من جارحة يقال له: " عمل ".
لكن " الفعل " هو تعلق كل جارحة غير اللسان بالحدث، أما تعلق اللسان
فيكون قولا ومقابله فعل، إذن ففيه قول وفيه فعل وكلاهما " عمل " إذن
فالعمل يشمل ويضم القول والفعل معا؛ لأن العمل هو شغل الجارحة بالحدث المطلوب
منها، لكن الفعل هو: شغل جارحة غير اللسان بالعمل المطلوب منها، وشغل اللسان
بمهمته يسمى: قولا ولا يسمى فعلاً، لماذا؟ لأن الإنسان يتكلم كثيرا، لكن أن يحمل
نفسه على أن يعمل ما يتكلمه فهذه عملية أخرى، ولذلك يقول الحق:{ ياأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ
اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2-3]
إذن فالقول مقابله الفعل، والكل عمل { واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } قولا
أو فعلاً وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ
إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ... }
(/554)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
والذي يمن على الآخر هو الذي يعطيه عطية يحتاج إليها هذا الآخذ، فكأن الحق يقول:
وهل أنا في حاجة إلى إيمانكم؟ في حاجة إلى إسلامكم؟ أصفة من صفاتي معطلة حتى تأتوا
أنتم لتكملوها لي؟ لا، إذن فحين أبعث لكم رسولا رحيما بكم، فالمنة تكون لي وحدي.
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ
أَنْفُسِهِمْ }.
أكان يبعثه مَلَكا؟ لا. بل بعثه من البشرية؛ كي تكون الأسوة فيه معقولة. فعندما
يقول لكل مسلم افعل مثلى، فالمسلم عليه أن يطبق ما يأمره به الرسول، لكن لو كان
مَلَكا أكانت تنفع فيه الأسوة؟ لا، فقد يقول لك: افعل مثلى، فتقول له: لا أقدر
لأنك مَلَك، ومن يدعي الألوهية لرسول، فهو ينفى عنه الأسوة؛ لأنه عندما يقول: كن
مثلي، يمكنك أن تقول: وهل نقدر؟ أنت طبيعتك مختلفة، فهل نصل لذلك؟! لا نقدر، ولذلك
فالذين يقولون بألوهية رسول، إنما يفقدون الأسوة فيه، والمفهوم في الرسول أن يكون
أسوة سلوكية، وأن يكون مبلغا عن الله منهجه، وأن يعلن بشريته ويقول: أنا بشر
وأستطيع أن أمثل وأطبق المنهج. إذن فهو أسوة سلوكية تطبيقية.
والرسول مبعوث للكل، فلماذا كانت المنة على من آمن فقط!؟ لأنه هو الذي انتفع بهذه
الحكاية، لكنَّ الباقين أهدروا حقهم في الأسوة ولذلك تكون المنة على من آمن.
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ } وما هي المنة؟ المن: الأصل فيه أنه
القطع، لكن حين نسمعها نجدها تستعمل في أشياء متقابلة، فمثلا: المن هو العطاء بلا
مقابل، والمن هو: تكدير النعمة بالتحدث بها، مثل قوله تعالى:{ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ
أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 262]
إذن فالمن الذي نحن بصدده هو العطاء بلا مقابل، ولكن المن قد استعمل في تكدير
النعمة بكثرة الكلام فيها، فقد يقول الإنسان لمن يمن عليه: لا أريد النعمة التي
تتكلم عنها دائما، إذن فالمن استعمل في النعمة وفي تكدير النعمة، تقول: مَنَّ على
فلان إذ أنقذني من ضيق كنت فيه، ويقال: فلان ليس فيه مُنة، أي ليس فيه قوة، وكلها
تدور في معنى القطع، فإذا استعمل في النعمة والعطاء نقول: نعم فيها قطع؛ لأن
النعمة جاءت لتقطع الحاجة، ففيه حاجة ثم جاء عطاء، والعطاء قطع الحاجة. فاستعملت
في معناها.
فإذا جاءت نعمة بعد حاجة والحاجة انقطعت بالنعمة فلا بد أن تأتي بفعل بعدها وهو أن
تشكر من أنعم عليك، وخصوصا أنه الله، فالمن يقطع الشكر لأنك إن مننت بالنعمة
وأظهرت تفضلك بها على من أسديتها إليه فقد تسببت في أن الآخذ لا يشكرك بل إنه
يتضايق من نعمتك وقد يردها عليك.
فإذن: هنا قطع للشكر، فإن قطعت حاجة محتاج فهذا يسمى " نعمة " وإن فخرت
بنعمتك عليه حتى كدرتها فقد قطعت ومنعت شكره لك، وهذا يسمى " مَنَّا "
أي أذى لأنه يؤذي مشاعر وإحساس الآخذ. وإن قطعت مطلقا اختصت باسم " المنَّة
" ، يقولون: فلان لا مُنة فيه أي لا قوة عنده تقطع في الأمور، وهنا يقول: }
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ { و " منَّ " هنا بمعنى أعطى
نعمة، والنعمة في الدنيا تعطيك على قدر دنياك، و " منة " الله برسوله
صلى الله عليه وسلم تعطيني عطاء على قدر الدنيا وعلى امتداد الآخرة، فتكون هذه منة
كبيرة.
} لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِين إِذَْ { ، و } إِذْ { يعني ساعة أي حين
بعث فيهم رسولا منهم فقد عمل فيهم منة وقدم لهم ومنحهم جميلا كبيرا وأنعم عليهم
نعمة، } إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً {. فإذا كان مطلق بعث رسول كي يهدي الناس
إلى منهج الله يكون نعمة فماذا إذا كان الرسول من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى
لأنه ما دام من أنفسهم؟ إن هذه تكون نعمة أخرى لأنه مادام من أنفسهم ومن رهطهم ومن
جماعتهم، هو معروف نسباً وحسباً ومعروف أمانة، فلا يخون، ومعروف صِدقاً فلا يكذب،
كل هذه " مِنة " ولم يتعب أحداً في أن يبحث وراءه: أكذب قبل ذلك حتى
نعتبر ذلك كذبا؟ أخان قبل ذلك حتى نعتبر ذلك خيانة؟ لا. هل هو من الناس المدعين
الذين يريدون أن يقيموا ضوضاء من حولهم؟ لا. بل هو في الحسب والنسب معروف، جده عبد
المطلب سيد البطحاء ولا يوجد واحد من أهله تافها.
وعرف الجميع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمانة منذ صغره، إذن فالمقدمات
تجعل الناس لا تجهد نفسها في أن تتحرى عنه أصادق هو أم غير صادق؟ إذن فهو مِنّة،
ولذلك حينما بعث الله سيد الخلق إلى الخلق؛ كان هناك أناس بمجرد أن قال لهم: إني
رسول الله، آمنوا به، لم يقدم معجزة ولم يقولوا له: ماذا ستقول أو ماذا تعمل؟
بمجرد أن قال: إنه رسول الله صدقوه، فعلى أي حيثية استندوا في التصديق؟ لقد
استندوا على الماضي.لقبتموه أمين القوم في صغر وما الأمين على قول بُمتهمهاهو ذا
سيدنا أبو بكر رضي لله عنه يقول: إن كان قد قال فقد صدق - إذن فالمقدمات التي
يعرفونها عنه كانت هي الحجة في تصديق الرسول، وخديجة - رضي الله عنها آمنت به،
أقال لها المعجزات والقرآن؟ لا. بل بمجرد أن قال لها: أنا رسول الله. قالت له:
صدقت فلا بد أن تكون رسولا، هو نفسه كان يتشكك وهي مؤمنة به، هو نفسه يتساءل: لعل
ذلك يكون كذا، وذهبت به خديجة - رضي الله عنها - إلى ورقة بن نوفل وأوضحت لرسول
الله أنّ ما تقوله لا يمكن أن يوقعك في بلية أو خزي أو ذِلةً؛ لأن صفاتك جاءت
كمقدمات لهذه النتيجة، وهي أنك رسول كريم " إنك لتحمل الكلّ وتكسب المعدوم
وتعين على نوائب الدهر، والله لا يخزيك الله أبداً " ، إنسان بهذه الصفات لا
يمكن أن يأتيه شيطان، وتعال نذهب معا لأهل الكتاب الذين لهم علم بهذه المسألة.
كأنها آمنت برسالة رسول الله قبل أن يقول لها ورقة بن نوفل شيئاً.
إذن فقوله: } مِّنْ أَنْفُسِهِمْ { أي معروف لهم، فلم يأت لهم بواحد سقط عليهم من
السماء، وقال: هذا رسول، لا. إنه رسول } مِّنْ أَنْفُسِهِمْ { ، وهذه أول مِنّة، }
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ
أَنْفُسِهِمْ { ، هذا إذا أخذت المحيط القريب أنه من الرهط ومن القبيلة ومعروف
لهم، } مِّنْ أَنْفُسِهِمْ { أو من جنس ونوع العرب، وهذه أيضاً مِنّة، فساعة أن
يتكلم سيفهمونه ولا يحتاجون إلى وساطة أو ترجمة، والرسول عندما يأتي ليخرج الناس
من الظلمات إلى النور، يريد أُناسا تفهم عنه، فأوضح لهم: لم أكلفكم لتقولوا ماذا
يريد، لا، هو من أنفسكم، وهو إنسان له مواصفاتكم، ولكنهم لفرط عنادهم لم يؤمنوا
مصداق ذلك قوله تعالى:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ
الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94]
إنهم يستكثرون كيف يبعث الله بشراً ويجعله رسولاً، وهذا غباء في الاعتراض، ويأتي
الرد الجميل من الله.{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ
مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً
}[الإسراء: 95]
أنتم من البشر، فلا بد أن نأتيكم برسول من جنسكم، حتى إذا قال لكم: افعلوا كذا
تقولون: نعم؟ لأنه بشر ويعمل ونحن بشر نستطيع أن نعمل مثله.. لكنه لو كان مَلَكاًَ
لقال الواحد منكم: وهل أنا أقدر أن أكون كالَمَلك؟ إذن فلا تنفع هذه الحكاية،
وهكذا منّ الله على المؤمنين. إذ بعث فيهم رسولا. } مِّنْ أَنْفُسِهِمْ { ، إن
أخذتها على أساس أنها قبيلة محدودة ومعروفة فهي منة، وإن أخذتها على أنه من جنس
عربي فيكون اللسان واحداً فهي مِنّة، وإن أخذتها من الجنس العام وهو الإنسان فهي
مِنّة أيضاً.
وهل اعتبار معنى واحد من المعاني ينقض المعاني الأخرى أو تأتي كلها في سلك واحد؟
إنها معانٍ تأتي كلها في سلك واحد؛ لأن المتكلم هو الله، وما دام المتكلم هو الله
فيكون عطاء اللفظ أكثر من عطاء ألفاظ الخلق، } لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ { ، وهناك قراءة -
وإن كانت قراءة شاذة - تقول: } مِّنْ أَنْفُسِهِمْ { (بفتح الفاء) أي من أشرفهم
لأنه من بني هاشم وهم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب.
وماذا يعمل الرسول؟ يُفهم من قوله: " رسولا " أنه لا يأتي بشيء من عنده،
بل هو - مع هذه المنزلة الحسنة بخُلُقه الجميل وماضيه الناصع - هو مع هذا رسول
وليس له في الأمر شيء، إذن فمرسله خير منه، فلا تتنبه إلى هذا الرجل العظيم فحسب
بل يجب عليك أن تسأل: من أين جاء؟ لا بد أن تلتفت إلى أن الذي بعثه أعظم منه.
} رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ { ، وكلمة }
يَتْلُواْ { يعني يقرأ لأن الكلمة تتلو الكلمة، فالذي يقرأ أي ينطق كلمة بعد كلمة،
كلمة تالية بعد أخرى } يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ { وكلمة " الآيات
" - كما نعرف - تستعمل للأمور العجيبة؛ اللافتة للنظر، تقول مثلا: فلان آية
في الحس. أي حسْنُه لافت للنظر، وتقول: فلان آية في الذكاء، صحيح أن هناك أذكياء
كثيرين، لكنه آية في الذكاء.. أي أن هذا الإنسان أمره عجيب في الذكاء، إذن فكلمة
" آية " معناها: الأمر العجيب، وهو الذي يقف الإنسان عنده وقفة طويلة
ليتأمل في عجائبه.
والآيات نوعان: آيات منظورة في الكون مثل قول الحق:{ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ }[فصلت: 37]
وكل ظواهر الكون تعتبر أشياء عجيبة. والنوع الثاني: هو آيات القرآن مثل قوله
الحق:{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
}[النحل: 101]
إذن فالآيات هي الأمور العجيبة وهي قسمان: منظور ومقروء، المنظور: كل الكون، والمقروء:
هو القرآن، فالقرآن يفسر آيات الكون، وآيات الكون تفسر آيات القرآن، والرسول جاء
يتلو آيات القرآن، وكانت عجيبة عليهم، لكن الآيات الأخرى التي في الكون يشاهدونها
ويرونها، لقد جاء الرسول بآيات مقروءة ليلفت الناس إلى الآيات المنظورة، وبتلك
الآيات المنظورة يكون العجب من دقة خلق الكون؛ فينتهي الإنسان إلى الإيمان بِمَن
خلق هذا الكون.
إن الحق يقول عن الرسول: } يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ {
والمسألة ليست أنه يتلو الآيات ليعجبوا منها فحسب، لا. فالرسول له مهمة إيمانية
تلفت كل سامع للقرآن إلى من خلق ذلك الكون الجميل البديع الذي فيه الآيات العجيبة.
ثم يعطي الرسول من بعد ذلك المنهج الذي يناسب جمال الكون، إذن فالرسول ينقل
المؤمنين إلى المنهج الذي يُزكي الإنسان وأنت إذا سمعت كلمة } يُزَكِّيهِمْ { فأنت
تعرف أنها من الزكاة. والزكاة أول معانيها: التطهير؛ والتنقية؛ والنماء. والآيات
التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جاءت لتزكيهم.
وهذا التطهير لمصلحة المُطَهِّر أو المُطَهَّر. إنه لمصلحة المطهِّر التنقية
والنماء لمصلحتكم أنتم وهذا لا يشكك في التكليف؛ لأن التكليف لم يأت للمُكلِّف،
إنما جاء للمُكلف، وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - فالرجل يكون ميسور الحال
وعنده مال وعنده عقارات وأطيان، وبعد ذلك يحب لأولاده أن ينجحوا في المدارس
فيشجعهم قائلا لكل منهم: إن نجحت فسأفعل لك كذا.
هو لا يريد منهم شيئا لنفسه، فعنده النعمة الكافية، هو يريد - فقط - مصلحتهم هم.
إذن فالمكلف لن ينتقع بتكليفنا أبدا، فالتنقية لصالحنا والتطهير لصالحنا والنَّماء
لصالحنا - والتزكية هي: تطهير وتنقية ونماء - ولننظر إلى الحالة التي كانت
الجاهلية عليها، هل كانت طاهرة؟ هل كانت نقية؟ هل كانت نامية؟ لم يكن بها وصف من
تلك الأوصاف، لأنها جاهلية، فكلهم محكومون بالهوى والجبروت والسلطان والقهر، ونعرف
أن أول ما يهتم به الإنسان هو أن يستبقى حياته وبعد ذلك يستبقى نوعه، وبعد ذلك
يستديم ما حوله، والتزكية شملت كل أمر من هذه الأمور، تزكية في الإنسان نفسه، في
ذاته، بدلا من أن يكذب لسانه طهره عن الكذب، بدل أن تمتد عينه إلى محارم غيره طهر
عينه من النظر للمحرمات، وبدلا من أن تمتد يده خفية وتسرق فهو لا يفعل ذلك.
والسرقة - كما نعلم حتى عند من يسرق - نقيصة، بدليل أن اللص يتوارى ويحاول أن
يسترها وألا يراه أحد، لأنها رذيلة ونقيصة. ويأتي المنهج فيقول له: لا تسرق، ويطهر
المنهج حركة جوارح الإنسان في الأرض، ويطهر قلبه من الحقد كي يعيش مرتاحا، وتبقى
قوته مصونة للعمل الجاد المثمر، فلِمَ يبدد قوته، ولم يبدد نظراته، ولم يبدد
علاقاته بالناس؟
إذن فالمنهج ينمي الإنسان، إنه تطهير وتنقية ونماء له، وبعد ذلك عندما يصاب الإنسان
بالعجز وعدم القدرة، فلن يستذله الغير لكي يعطيه لقمة. لقد زكاه المنهج من هذه
ونقاه من الذلة وجعل له من مال القادر حقا، والقادر هو الذي يبحث عن الضعيف ليعطيه
حقه؛ لأن العاجز عندما يرى كل المؤمنين حوله قادرين يبحثون عنه ليعطوه حقه وليس
مجرد صدقة يتصدقون بها عليه حينئذ يقول: أنا لست وحدي في الكون. أنا في الكون
بفلان وبفلان، فتكون تنمية له، وما دام الكل يعطيه.
أما عن بقاء النوع فماذا يعني؟ إن الحق يريد طهارة الإنسان والذرية التي تأتي وأن
يجعل لها وعاءً شريفا عفيفا، وإطارا لا تشوبه شائبة فجاء المنهج ليزكيكم في كل شيء
يزكي حركات جوارحكم فلا تتجه الحركة إلا لتحقق المطلوب منها عند من خلقها، فالخالق
قد أوضح: يا عين حدودك كذا، يا لسان حدودك كذا، يا يد حدودك كذا، يا رِجلُ حدودك
كذا، يا قلب حدودك كذا، فالذي خلق كل جارحة هو الذي أعطى لكل منها حدودها فلا
تجاوز ولا تهاون ولا إفراط ولا تفريط، فإن خرجت عن غير ما وضع لها في منهج الله
فقد خالفت.
وهكذا نرى أن المنهج قد جاء يزكيكم أي يطهركم وينقيكم وينميكم في كل مجال من
مجالات الحياة.
} وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ { وساعة يقول الحق: } الْكِتَابَ {
فهو يقصد الكتاب المنزل إنه القرآن، والحكمة هي السنة. والحق يقول:{ وَاذْكُـرْنَ
مَا يُتْـلَىا فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْـمَةِ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً }[الأحزاب: 34]
وآيات الله معروفة وهي آيات القرآن، والحكمة هي سُنَّة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وهنا يقول الحق: } يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَاب { ، إذن فالكتاب هو القرآن، سيتلو عليهم آيات القرآن وبعد ذلك يعلمهم ما
جاء في هذا الكتاب. بعض المفسرين قال: لا بد أن نحمل " الكتاب " هنا على
معنى آخر غير القرآن، فقالوا: الكتاب يعني الكتابة، وأول عمل زاولوه في الكتابة
كتابة المصحف. إذن فالتقى المعنيان، ولذلك في غزوة " بدر " كان يتم فداء
الأسرى إما بالمال وإما أن كل أسير يجيد القراءة والكتابة إذا أراد أن يفدي نفسه
فعليه أن يقوم بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة فقد كانت الأمة أمية,
يقول سبحانه وتعالى:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ
يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ }[الجمعة: 2]
لذلك نجد أن تفسير الكتاب بالكتابة هو المناسب للأمية، أو خذ هذه اللقطة على أساس
أن هناك فرقا بين التلاوة والتعليم، التلاوة: يتلو عليهم، أي أن الرسول هو الذي
يتلو، والتعليم يكون بأن يتلوا هم القرآن. } وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ { و " علَّم " أي نقل العلم من مُعَلِم إلى مُعَلَّم.
ويختتم الحق هذه الآية بالقول الكريم: } وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ { وهناك أساليب تأتي في القرآن فيها " إن " وتجد كل " إن
" في موضع لها معنى يختلف عن الآخر، فمثلا تأتي " إن " شرطية، يعني
يأتي بعدها فعل شرط وجواب شرط مثل قوله الحق:{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ
مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ }[آل عمران: 140]
أي إن يمسسكم قرح فلا تيأسوا ولا تبتئسوا. فقد مس القوم قرح مثله، وقوله الحق:{
إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ }[البقرة: 271]
إننا هنا نجد أنَّ " إن " شرطية، ففيه شرط وجواب شرط. ومرة تأتي "
إن " وبعدها " إلا ":{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي
وَلَدْنَهُمْ }[المجادلة: 2]
وهو سبحانه يتكلم هنا عن الذين يظاهرون من نسائهم، أي يقول الرجل لامرأته: أنت
علىّ كظهر أمي، إن أمك هي التي ولدتك وامرأتك لم تلدك، فلو كانت أمك لكانت محرمة
عليك، } إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ { ، فعندي هنا "
إن " وبعدها " إلا " وما دام جاءت " إلا " فالذي بعدها
يكون مثبتا، والذي قبلها يكون منفيا، مثل قولنا: " ما قام القوم إلا زيداً
" إن زيداً مختلف عنهم.
} إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ { أي: ما أمهاتهم إلا اللائي
ولدنهم، إذن فـ " إن " هنا ليست شرطية لكنها هنا " إن "
النافية وتعرفها بوجود " إلاَّ ".
ومرة ثالثة تأتي " إن " لا هي شرطية، ولا هي نافية مثل آيتنا هنا }
وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ {. ونقول: هذه " إنْ "
التي هي تخفيف " إنَّ " أي " إنْ " هنا مخففة من الثقيلة
ويكون المعنى وإنّ الحال والشأن والقصة والواقع أنهم كانوا في ضلال مبين. ويقول
النحاة: اسمها ضمير الشأن - أي الحال والقصة - وهو محذوف.
وما هو الضلال؟ يقولون: ضل فلان الطريق أي مشى في مكان لا يوصله للغاية، أو يوصل
إلى ضد الغاية؛ لأن الضلال في الدنيا والأمور المادية قد لا يوصلني لغايتي
المرجوة، وقد لا يوصلني لشر منها أو لمقابلها، لكن في الأمر القيمى ماذا يفعل؟ إنه
لا يوصلك إلى الغاية المرجوة وهي الجنة فحسب ولكنه يوصل للمقابل وهو النار، هذا هو
الضلال المبين، إنه ضلال واضح؛ بدليل أن النقائص التي جاء الإسلام ليطهر الإنسان
منها، يحبّ مرتكبها ألا تُعلم عنه وسط الناس، فالسارق يسرق لكن لا يحب أن يعرف
الناس أنه لص، والكاذب يكذب لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه كذاب، بدليل أنك عندما
تقول له: يا كذاب تكون له صاعقة. إذن فالنقيصة تُفعل وصاحبها لا يريد أن يراها أحد
أو يُعرف بها.
} وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ { أي ضلال ظاهر وهو ضلال يعرفه
صاحبه بدليل أننا قلنا في قصة سيدنا يوسف؛ حيث نجد في القصة اثنين من الفتيان قد
دخلا السجن، وماذا حدث لهما:{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ
أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي
أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }[يوسف: 36]
لقد رأوا في يوسف عليه السلام كأن عنده ميزان الإحسان فهو يعرف الحسن والقبيح،
ولأنهما يعرفان ميزان الإحسان فلا بد أن تكون المسائل بالنسبة لهما واضحة. ولماذا
لم يقلها واحد منهما من قبل؟
لقد شهدا هذه الشهادة لسيدنا يوسف لأنهما يطلبان الآن مشورته في تأويل الرؤى. كان
يوسف عليه السلام مسجونا، ولم ينظر إليه أحد إلا كمسجون. ومن سلوكه معهما في السجن
عرفا أنه طيب ومحسن. ولذلك التفتا إليه ورأيا فيه أنه قادر على تأويل رؤيا كل
منهما. مثلما قلنا: إن المنحرف نفسه يعرف قيمة الفضيلة، وهكذا نجد أن الفضيلة
مسألة ذاتية وليست نسبية، أي أنه حتى المنحرف عن الفضيلة يرى الفضيلة فضيلة.
وبعد ذلك يعود الحق إلى قضية عجيبة، فإذا كان الله سبحانه قد من على المؤمنين
بالرسول، ومن أنفسهم، وجاء يتلو عليهم آيات الله، وجاء يزكيهم طهارة ونقاء ونماء،
وجاء ليعلمهم الكتاب والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه، أو البحث عن أسرار الأشياء
كان يجب عليكم - إذن - أنه إذا قال قولة لا تخالفوا عنها أبدا، وعندما يجري على
يديه أمر فهو لا يحتاج إلى مناقشة، إذن فما حكايتكم؟
يقول الحق: } أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا
قُلْتُمْ أَنَّىا هَـاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ... {
(/555)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
لماذا تقولون: كيف يهزمنا الكفار؟ لقد حدث لكم ذلك لأنكم خالفتم الرسول الذي منَّ
ربكم به عليكم، وآتاكم، وزكاكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، كان مقتضى ذلك أن كل ما
يقوله الرسول الذي هو بهذه المواصفات أن تطيعوه، ولا يقولن أحدكم: لماذا تحدث هذه
الهزيمة؟ ولا يقولن أحد لماذا حكاية أحُد وكيف يهزمنا الكفار؟ إنَّ هذا لا ينسجم
مع ما قيل من أن الله مَن عليكم وبعث فيكم رسولا، ثم إن أحُداً ليست مصيبة بادئة،
بل مصيبة جاءت بعدما أصبتم من أعدائكم مصيبة، ونلتم منهم ضعف ما نالوا منكم.
فأنتم بدأتم ببدر وأعطاكم الله الخير. أنتم قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، وهم قتلوا
سبعين ولم يأسروا أحداً في " أُحد " ، أنتم أخذتم غنائم في بدر، وهم لم
يأخذوا أي غنيمة في أحُد، ما العجيبة في هذه!! كان يجب أن تبحثوا في ذواتكم وفي
نفوسكم، هل كنتم منطقيين مع إيمانكم ومع قيادة الرسول لكم!؟ أيكون منكم ذلك السؤال
وهو " أنى هذا " ، لأن " أنى " معناها استنكار أنَّ هَذَا
يحدث أي من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله وفينا النبي
والوحي وهم مشركون ونقول لكم: وهل كنتم على مستوى الإيمان المطلوب؟ إن مستوى
الإيمان المطلوب يقتضي منكم أن تنفذوا ما قاله الرسول، وأنتم لم تكونوا على هذا
المستوى، الذي كنتم عليه في بدر.
وساعة تسمع " أو لما " فهناك همزة الاستفهام ثم " واو عطف " ،
" أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا " ، و " لما
" هنا هي الحينية، فماذا يكون المعنى، لقد آمنتم بالله إلها وآمنتم بالرسول
مبلغا، أحين تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها تقولون أنى هذا؟
كان المنطق ألا تسألوا هذا السؤال أبدا لأنكم آمنتم بإله عادل له سنن لا تتبدل ولا
تتحول. أكان يترك السنن من أجلكم!؟{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن
قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً }[الأحزاب: 62]
وفي موقع آخر من القرآن يقول سبحانه:{ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ
بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }[فاطر: 43]
فلو أنكم استحضرتم الإيمان بالإله الذي أطلق السنن في الكون ليسوس به أمر ملكه بما
يحقق أمر المصلحة لما قلتم هذا وما دمتم قد آمنتم بأن الإله هو الذي صنع تلك السنن
فكان الواجب عليكم أن تعلموا أن الإله لن يجاملكم بإبطال سننه من أجل أنكم نُسبتم
إليه أولا بأنكم مسلمون، فإنكم إن خالفتم فسنن الله واقعة، وكان يجب أن تفهموا هذا
الأمر، وكان يجب ألا تسألوا هذا السؤال، وقد آمنتم بالله إلها له سنن، وآمنتم
بالرسول المبلغ عن الله.
أحين تصيبكم مصيبة مع هذا الإيمان قد أصبتم مثليها، وتقولون: أنى هذا؟ أنتم حدث
منكم أنكم أصبتم خصومكم، وياليتكم أصبتموهم بمثل ما أصابوكم به بل أنتم مثليها،
كان يجب أن تعرضوا عملكم على الموازين الإيمانية؛ فإن عرضتموه على الموازين
الإيمانية لم سألتم هذا السؤال: " أنى هذا "..
وساعة تسمع " أنى هذا " فلها معنيان: إما أنها تأتي بمعنى (كيف يحدث
هذا)؟ وإما بمعنى (من أين يحدث هذا)؟ فإن كانت لأعيان وتحب أن تعرف، مثلما أحب
سيدنا زكريا أن يعرف: من أين يأتي الرزق لسيدتنا مريم وهي في المحراب:{ كُلَّمَا
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ
يامَرْيَمُ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ
يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37] أي من أين؟ وتأتي مرة أخرى
بمعنى " كيف ":{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىا قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ
عَلَىا عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىا يُحْيِـي هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ }[البقرة: 259]
أي كيف يحيي؟ إذن فمرة تكون بمعنى " من أين " ، ومرة تكون بمعنى "
كيف " ، والذين دخلوا معركة أحُد كانوا ينكرون ويستعجلون لعدم انتصارهم..
فأوضح لهم الحق: لو كنتم مستحضرين قضية الإيمان بإله عادل وضع في كونه سننا وهو لن
يغير سننه ولن يحولها من أجلكم أنتم، إن عليكم أن تعرفوا أن الله لا يتغير من أجل
أحد، ولكن يجب أن تتغيروا أنتم من أجل الله.
} أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا {: و "
لما " يعني: حين، واسمها: " لما الحينية " و " لما "
تكون أيضا من أدوات وعوامل الجزم مثل: لَمْ و " لم " تنفي، و "
لمَّا " أيضا تنفي مثل قوله الحق:{ وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ }[الحجرات: 14]
أي أن الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد. إنما من الجائز أنه قد يدخل بعد ذلك، هذه اسمها
" لَما " الجازمة. وهناك " لما " الشرطية مثل قولنا: لما يقوم
زيد يحرث كذا، وهذه فيها شرط، وفيها الزمن أي حين يقوم يحدث كذا، مثل قوله الحق:{
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ *
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ }[الصافات: 103-105]
أي حين أسلم وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي ناديناه،
والواو هنا مقحمة مثلما في قوله تعالى: } حَتَّىا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ
أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا { أي قال لهم. ومعنى مقحمة.. جيء بها
للتوكيد والتقوية أو جاءت الواو هنا لتفيد أن نداء الله لسيدنا إبراهيم جاء مصاحبا
لإلقاء ابنه إسماعيل على وجهه ليذبحه.
فـ " لمّا " هذه وفي الآية التي نحن بصددها هي " لما الحينية
" ، أحين تصيبكم أي: أوقت تصيبكم مصيبة قد أصبتم مثليها " قلتم أنى هذا
" كان يجب أن تقارنوا لماذا أصَبْتُم في بدر مِنْ عدوكم ضعف ما أصاب منكم،
ولماذا أصاب عدوكم منكم يوم أُحُدٍ هذا؟ كان يجب أن تسألوا أنفسكم هذا السؤال؛ لأن
الميزان منصوب وموضوع، وما دمتم تغافلتم عن هذا فسيأتي لكم الرد.. قل يا محمد لهم
رداً على هذا: } هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ {. لقد خالفتم عن أمر الرسول، وما
دمتم خالفتم عن أمر الرسول، فلا بد أن يحدث هذا بمقتضى إيمانكم بإله له سنن لا
تتحول ولا تتبدل. } أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ
مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىا هَـاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ {.
وبعد ذلك تذيل الآية بقوله سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
{. فما موضعها هنا؟ موضعها أنه ما دامت لله سنن، وسنن الله لا تتبدل، والله موصوف
بالقدرة الفريدة له فلن يأتي إله آخر ويقول: نبطل هذه السنن. وما دام لا يوجد إله
آخر يقول ذلك فهو سبحانه قدير على كل شيء، وهو قدير على أن تظل سننه دائمة، ولا توجد
قوة تزحزح هذه القضية؛ لأن السنن وضعها الله. فمن الذي يغيرها؟ إنها لن تتغير إلا
بقوة أعلى ومعاذ الله أن تكون هناك قوة أعلى من قوة الله؛ لذلك يوضح سبحانه: أنا
قدير على كل شيء وقدير على أن أصون سنني في الكون، فلا تتخلف ولا توجد قوة أخرى
تُحوِّل هذه السنن أو تبدلها.
ولا تظنوا أن ما أصابكم جاء فقط لأن السنن لا تتغير، لا، فهذا قد حدث بإذن من
الله، فالله أوضح للكون: من يخالف أمري أفعل فيه كذا. إذن فالكون لم يحدث فيه شيء
دون علم الله وإذنه.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ
اللَّهِ... {
(/556)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
أي أنه سبحانه قد جمع المؤمنين وجمع الكافرين في أحُد بإذن منه وبعلمه والنتيجة
معروفة عنده، وأنه سيحدث منكم كذا وكذا، إذن فهذا أمرٌ معلوم، أو { بِإِذْنِ
اللَّهِ } أي في السنن التي لا تتخلف، فالمسألة لم تأت بغير علم الله، لا. لقد
جاءت بإذن الله ولا تتخلف - تطبيقا - عن أَحَدٍ من خلقه أبداً مهما كانت منزلته.
{ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ } ساعة ترى أمراً أجراه الله ليعلم الذين نافقوا، وليعلم المؤمنين،
نعرف أن الله عالم بهم قبل أن تقع الأحداث، ولكن علمه لا يكون حجة على الغير إلا
إن حدث منه بالفعل؛ لجواز أن يقول: يارب أنت حاسبتني بعلمك أن هذا سيحدث، لكن ما
كنت لأفعله. فيوضح الحق: لا. أنت قد علمته لأنك فعلته وصار واقعاً منك وتقوم به
الحجة عليك.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت كمعلم تقول لواحد من الطلبة: أنت راسب،
فيقول لك: لا، لا بد أن تمتحنني. تقول له: أنا أعرف أنك راسب. فيقول لك: أنا لا
آخذ بعلمك بل لا بد أن تمتحنني. تقول له: تعال أمتحنك. وتعطيه بعض الأسئلة فيرسب.
وهنا يصير علمه برسوبه أمراً واقعاً، وهو كان يعلمه بسبق علم، لكنه الآن لا يقدر
أن يجادل لأنه صار واقعا محسوساً.
ويقول الحق: { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } ومنهم الثابت الإيمان الذي لا يتزعزع
ويعلم أنه إذا أصابته مصيبة بما قدم لنفسه، هذه المصيبة تزيده إيماناً بإلهه.
ويقول الحق من بعد ذلك: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ
تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ
نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ
مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ... }
(/557)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
وقوله: { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } أي يجعلهم يظهرون وينكشفون أمام
الناس، وإلا لو لم تحدث هذه الأحداث فكيف كنت تعرف المنافق؟ سيستر نفسه. لا بد إذن
أن تأتي أحداث لتظهره وتفضحه، فالمنافق يراوغ؛ لذلك يأتيه الحق بأحداث ليظهر على
حقيقته، وقد كان.
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا }.. وكانت المدينة مهاجمة، وإذا انتصر الكفار
فسيدخلون ويسْبون ويأخذون المسلمين أسرى ويفعلون كل منكر!! فقال عبد الله بن عمرو
بن حرام الأنصاري للمنافقين: اخرجوا وقاتلوا معنا، وإن لم تخرجوا لتقاتلوا معنا..
اخرجوا لتدفعوا عن أنفسكم وعن أموالكم وعن نسائكم؛ لأنهم إذا انتصروا على المسلمين
فسيدخلون ويفعلون كذا وكذا، إنه دعاهم إلى القتال على طريق إثارة الحمية والأنفة
فيهم وذلك بعد أن يئس من أنهم لم يقاتلوا في سبيل الله، ولما رأى إصرارهم على عدم
الخروج قال لهم عبد الله: اذهبوا أعداء الله فسيغني الله رسوله عنكم.
إذن ففيه فرق بين القتال في سبيل الله وبين الدفاع عن النفس فقال { قَاتِلُواْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا }.. أو ادفعوا عنا ولو بتكثير سوادنا وإظهار
كثرتنا حتى يظن المشركون أن معنا أناسا كثيرين. { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً
لاَّتَّبَعْنَاكُمْ }.. وعندما نتابع هذا المنطق في القصة في ذاتها نجد أن "
ابن أُبَيّ " كان من رأيه أن يظل رسول الله في المدينة لماذا؟ لأنه قد ثبت
بالتجربة أنه إذا جاء قوم ليغيروا على المدينة ودخلوها فأهل المدينة ينتصرون
عليهم، وإذا خرج لهم أهل المدينة فهم ينهزمون.
إذن فالقضية واضحة في ذهن ابن أُبَيّْ، فهو لم يرض أن يخرج لأن التجارب أثبتت له
أنهم إذا خرجوا عن المدينة ليحاربوا العدو فعدوهم ينتصر عليهم، وإذا ظلوا انتصروا،
إذن فهو واثق من نتيجة الخروج، ولكن ما دامت المسألة قد صدرت من رأس النفاق عبد
الله بن أبيّ فأنت لا تستطيع أن تحكم أين الحق، فمن الجائز أن آثار يوم هجرة الرسول
عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة هذه الآثار كانت باقية في نفس " ابن
أبيّ " ففي ذلك اليوم الذي جاء فيه الرسول إلى المدينة كان هو اليوم الذي كان
سيتوج فيه المنافق " ابن أُبَيّْ " ليكون ملكاً على المدينة، فلما جاء
الرسول بهذا الحدث الكبير تغير الوضع وصار التاج من غير رأس تلبسه، فهذه قد حملها
في نفسه.
{ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } لقد ادّعى ابن أبيّ أن
الخروج من المدينة هو كإلقائه إلى التهلكة وليس قتالاً؛ لأن القتال تدخله وعندك
مظنة أن تنتصر، إنما هذا إلقاء إلى تهلكة وليس قتالاً، لكن أقال: { لَوْ نَعْلَمُ
قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } وهو صادق؟
إن الحق يفضحهم: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } ،
فقبل ذلك كانوا في نفاق مستور، وما دام النفاق مستوراً فاللسان يقول والقلب ينكر
ويجحد، فهم مذبذبون بين ذلك؛ لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، هذه المسألة جعلته
قريبا من الكفر الظاهر.
} يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ {.. إذن فالقلب عمله
النية الإيمانية، واللسان قد يقول ولا يفعل ما يقول، ولذلك قلنا: إن المنافق موزع
النفس، موزع الملكات، يقول بلسانه كلاما وقلبه فيه إنكار، ولذلك سيكونون في الدرك
الأسفل من النار؛ لأنهم غشاشون، ونفوسهم موزعة.
} يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ { والقول ضروري بالفم؛
لأن القول يُطلق ويراد به البيان عما في النفس، فتوضيح الإنسان لما في نفسه كتابة،
يعتبر قولاً - لغة - ولذلك فالذي يستحي من واحد أن يقول له كلاما فهو يكتبه له في
ورقة، فساعة يكتب يكون قد قال، وهؤلاء المنافقون يقولون كلماتهم لا بوساطة كتاب بل
بوساطة أفواههم، وهذا تبجح في النفاق، فلو كانوا يستحون لهمسوا به: } يَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ { إذن فاللسان لم يتفق مع القلب.
فالقلب منعقد ومصر على الكفر - والعياذ بالله - واللسان يتبجح ويعلن الإيمان.
ونعرف أن " الصدق " هو أن يوافق القول الواقع، والواقع في القضية
الإيمانية نية في القلب وحركة تُثبت الإيمان، أما المنافقون فلسانهم لا يوافق
قلبهم، فلما كان ما في القلب مستورا ثم ظهر إلى الجوارح انكشفوا. وهذا هو السبب في
أنهم كانوا أقرب إلى الكفر، } يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي
قُلُوبِهِمْ { وهذا لون من نقص التصوير الإيماني في القلب، كأنهم يعاملون الله كما
يعاملون البشر مثلهم.
وبعد ذلك يقول الحق: } الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ
أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن
كُنْتُمْ صَادِقِينَ {
(/558)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
فعندما أراد ابن أُبَيٍّ أن يخذل الجيش، وافقه بعض المنافقين ولم يوافقه البعض.
هؤلاء الذين خرجوا للقتال والجهاد ولم يوافقوهم ثم قتلوا فرحوا فيهم، وقالوا: لو
كانوا أطاعونا ومكثوا في المدينة ولم يخرجوا لما انهزموا ولما قتلوا، وكأن الحق
يوضح لنا أسلوبهم؛ لذلك سنأخذهم من منطقهم.. هم قعدوا وقالوا عن إخوانهم الذين
قُتلوا في المعركة والذين هم من جماعتهم: { لَوْ أَطَاعُونَا } كأن قولا صدر منهم:
" أن اقعدوا " ولكن القوم الآخرين الذين هم أقل نفاقا. لم يطاوعوهم
وخرجوا، فحدث لهم ما حدث.
فكيف يرد الله على هذه؟ انظروا إلى الرد الجميل: أنتم تقولون: { لَوْ أَطَاعُونَا
} ، فكأن طاعتكم كانت وسيلة لسلامتهم من القتل. إذن فأنتم تعرفون طريق السلامة من
القتل. والذي يعرف طريق السلامة من القتل هل يعرف طريق السلامة من الموت؟ ولذلك
يقول الحق سخرية بهم: { فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ
صَادِقِينَ } وفي ذلك رد عليهم من كلامهم { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا }.
وما دمتم تعرفون وسيلة للسلامة من القتل فاستعملوا هذه الوسيلة في أن تدفعوا عن أنفسكم
الموت. وأنتم مع المتقدمين منكم والحاضرين تموتون ولا تستطيعون رد الموت عنكم، إذن
فأنتم لا تعرفون طريق السلامة من الموت؛ فكم من مُحارب عاد من الحرب سليما، وكم من
هَارب من القتال قد مات وانتهى، وهَبْ أن بعضا من المؤمنين المقاتلين قد قُتل، إن
الذي قُتل في المعركة ليس أهون على الله ممن سلم من المعركة، هؤلاء أحب إلى الله
وقد عجل الله لقاءهم وأنزلهم المنزل المقرب عنده.
ونعرف أن الحدث إنما يُحمد ويُذم بالنسبة للغاية منه، فكل حدث يُقربك من الغاية
يكون محموداً، وكل حدث يُبعِدك عن الغاية يكون غير محمود، فإذا كانت الغاية أن
تذهب إلى الاسكندرية مثلا؛ فقد تذهب إليها ماشيا فتحتاج إلى عدة أيام، وقد تذهب
إليها راكبا دابة فتحتاج إلى زمن أقل، أو تذهب إليها راكبا عربة فيقل الزمن
لساعات، أو تذهب إليها راكبا طائرة فتصلها في نصف الساعة، فكلما كانت الوسيلة قوية
كان الزمن قليلا؛ لأننا نعلم أن القوة الفاعلة في النقلة تتناسب مع الزمن تناسبا
عكسيا. وكلما زادت القوة قل الزمن، وما دامت غايتي أن أذهب إلى الاسكندرية. فالذي
يُعجل لي الزمن ويقلله لأذهب إليها أفضل أم لا؟ إنها الوسيلة الأفضل.
فما دامت الغاية أن تذهب إلى لقاء الله وأن تعيش في جواره ومعيته، فحين يُعجل الله
ببعضنا فيأخذهم من أقصر طريق فهذا أفضل بالنسبة لهم أم لا؟ هذا أفضل، وهكذا نرى أن
الناس تنظر للموت نظرة حمقاء، إن موت المؤمن الحق الصادق الإيمان إنما يقربه إلى
الغاية، فما الذي يُحزنني!
(/559)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
أنتم تخافون الموت، ولكن هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا بميتين، لأن حياتهم
حياة موصولة؛
إن هناك فارقا كبيرا بين الموت والشهادة، فالذي يقتل شهيدا تكون حياته موصولة، ولن
يمر بفترة موتنا نحن، ولنفهم أنهم أحياء عند ربهم، أي بقانونه سبحانه، فلا تُحَكّم
قانونك أنت، فأنت - كما قلت - لو فتحت القبر ستجد هؤلاء القتلى مجرد أشلاء. هم
عندك أشلاء وأموات في قانونك أنت. لكنهم أحياء عند ربهم يرزقون؟
فالحياة تختلف عن الموت في ماذا؟ إن الإنسان إذا زهقت روحه وفارقت جسده انقطعت
حياته، في ظاهر الأمر انتهى ولم يعد ينتفع برزق ولا بأكل؛ لأن الرزق جُعل لاستبقاء
الحياة إذن فلا رزق، لكن الله سبحانه يريد أن يعطينا مواصفات تؤكد أن الشهيد حي.
ومن ضروريات الحياة أنه يٌرزق أي ينتفع باستبقاء الحياة، وعلينا أن نفهم أن
العندية عندك غير العندية عند الله. فالشهيد حي عند ربه ويُرزق عند ربه رزقا يناسب
الحياة التي أرادها له ربه. ونعلم أن الرزق هو الخاصية التي توجد للأحياء. وعندما
نقرأ قول الله: { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } قد يقول قائل: من الجائز
أنك تأخذ إنسانا وتُبقيه حيا وتعطيه طعاما وشرابا لكن أهو فرح بموقعه؟ لا. لذلك
يجب أن ندرك ونعرف أن حياة الشهيد ليست في قبره ولكنها عند ربه وهو فَرِح بموقعه
لذلك يقول الحق: { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
(/560)
فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
والعدل يتحقق بين البشر بأن كلا منهم يموت. ولكن الفضل أن يعجل الله انقضاء الحياة
في الدنيا لمن يُحبهم بالاستشهاد وينقلهم إلى رضوانه ونعيمه { فَرِحِينَ بِمَآ
آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وليس هذا فقط، بل إننا نجد الأخوة الإيمانية قد
بقيت فيهم وليست كخاصية الأحياء بل أنقى وأبقى من خاصية الأحياء، فالخاصية
الإيمانية تقتضي أن يُحب المؤمن لأخيه ما يُحب لنفسه، والشهداء في حياتهم عند ربهم
كذلك، مما يدل على أن الحياة التي يحياها الشهداء هي حياة نامية فيها رزق ومواجيد
وفرح، وكل شهيد يعتبر أن هذا فضل من الله قد فضله به. ولذلك فالشهيد يستبشر بالذي
لم يأت من بعده من إخوانه المؤمنين ويقول: يا ليتهم يأتون ليروا ما نراه.
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم }: { وَيَسْتَبْشِرُونَ }
من البُشرى، والبشرى هي الخبر السّار { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُواْ بِهِم } ويلحقوا أي يأتوا بعدهم، فالشهداء يقولون: إنهم سيأتون لنا
وما داموا سيأتون لنا فنحن نٌحب أن يكونوا معنا في النعيم والخير الذي نحيا فيه.
وكل منهم يشعر بالمحبة لأخيه، لأنه يعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا
يكمل إيمان أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه ". وعن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم
في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل
العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن فضلهم قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما
صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا من الحرب.فقال الله - عز وجل -:
أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هذه الآيات: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما
بعدها.
ونعرف أن " البِشْرَ " عادة هو الفرحة، وهي تبدو عَلَى بشَرة الإنسان،
فساعة يكون الإنسان فرحا، فالفرحة تظهر وتُشرق في وجهه ولذلك نُسميها "
البشارة " ، لأنها تصنع في وجه المُبشَّر شيئا من الفرح مما يعطيه بريقا
ولمعانا وجاذبية.
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم
ألا خوف عليهم، فهؤلاء الذين لم يستشهدوا بعد قد يخوضون معركة ما، فيقول الحق على
لسان الشهداء لكل منهم: لا تخف لأنك ستذهب لخير في الحياة { أَلاَّ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.
وبعد ذلك يقول الحق: { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ... }
(/561)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
إن الحق سبحانه لا يضيع أجر هؤلاء الذين قاتلوا في سبيل الله، وها هو ذا سبحانه
وتعالى يقول: { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ... }
(/562)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
انظر إلى المنزلة العالية كي تعلم أن الهزة التي حدثت في أُحُد أعادت ترتيب الذرات
الإيمانية في نفوس المؤمنين. ولذلك أراد الله ألا يطول أمد الغم على مَن ندموا
بسبب ما وقع منهم، وألا يطول أمد الكفار الذين فرحوا بما أُلحق بالمؤمنين من الضرر
في المعركة الأخيرة، هؤلاء المشركون فرحون، وهؤلاء المسلمون في حزن؛ لأننا قلنا:
ما داموا مسلمين ومؤمنين فلهم الحق، وإن قَصَّروا فعليهم عقوبة، وسبحانه قد أنزل
بهم العقوبة لكن بقي لإسلامهم حق على الله؛ لأنه أجرى تلك الأقدار ليُهذب ويُمحص
ويُربي، فلا يطيل أمد الغم على المؤمنين ولا يمد الفرحة للكافرين، فيأتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم والحالة كما تعلمون هكذا، ويؤذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم في
الناس بطلب قريش قائلا: " لا يخرجن معنا إلا من حضر معنا القتال ".
ويخرج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم بعدد لايزيد على عدد المقاتلين الذين كانوا
يواجهونهم حتى لا يقال إنهم جاءوا بمددٍ إضافي، بل بالعكس، فالذين خرجوا لمطاردة
الكفار هم الذين بقوا مع الرسول في أُحد، ونقص منهم من قُتل ونقص منهم أيضا كل من
أثقلته جراحه. لقد كانوا أقل ممن كانوا في المعركة، وكأن الله يريد أن يبين لنا أن
التمحيص قد أدى مطلوبه.
هم في هذه الحالة استجابوا للرسول، كأن المسألة جاءت رد اعتبار لمن شهدوا المعركة؛
حتى لا يضعفوا أمام نفوسهم؛ وحتى لا يجعلوها زلة تطاردهم وتلاحقهم في تاريخهم
الطويل، بل يعلمون أن معركة أُحد قد انتهت وعرفوا آثارها.
وبمجرد أذن مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنداء السابق استجابوا جميعا، ولم
يُسمح إلا لجابر بن عبد الله أن يكون إضافة لهم؛ لأنه أبدى العذر في أنه لم يكن مع
القوم؛ لأن له أخوات سبعاً من البنات وأمره أبوه أن يمكث مع أخواته لرعايتهن، فسمح
له رسول الله.
- وكما قلنا - فإن الله أراد بكل أحداث أُحُدٍ أن يُعيد ترتيب الذرات الإيمانية،
وما دامت الذرات الإيمانية قد انتظمت فقد تم إصلاح جهاز الاستقبال عن الله، وفي
لحظة واحدة يستجيبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أنهم يلاحقون الكفار،
وذهبوا إلى حمراء الأسد وكان ما كان. وبعد ذلك أرسل الله لهم من جنوده من
يُخَذِّلُ هؤلاء القوم الكافرين، ويقول لهم: إن محمدا قد خرج إليكم بجيش كبير.
ونلحظ أن الحق سبحانه يجيء هنا بقوله: { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ } وهي تقابل
" من خالفوا " أمر رسول الله وهم الرماة، { الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ
للَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْح }.
لقد استجابوا وهم مُرهقون ومُتألمون ومثخنون بالجراح؛ فكل واحد منهم قد ناله نصيب
من إرهاق القتال، ومع ذلك استجابوا لله وللرسول، وكل منهم أصابه القَرح أو
القُرح.. يعني الألم أو الجرح، { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ
أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وهم قد أحسنوا في الاستجابة؛
لذلك فلهم الأجر العظيم، { أَجْرٌ عَظِيمٌ } لأن ما حدث منهم من أمر المخالفة قد
أخذوا عليه العُقوبة.
ويقول الحق بعد ذلك: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً... }
(/563)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
المسألة ليست ذلك فقط، المسألة أن المنافقين راحوا يُروجون إشاعات كاذبة بأن
المشركين قد اسْتَدعوا عددا جديدا من كفار مكة وذلك ليخيفوا المؤمنين، فلم يخف
مؤمن واحد { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } وساعة ترى كلمة " الناس " فاعرف أن الإيمان بعيد
عنها، وما داموا " أناسا " فهم يقابلون أناسا آخرين، ومن يغلب فهو يغلب
بجهده وشطارته وحسن تصرفه، لكن المؤمن يقابل الكافر، والمؤمن يتلقى المدد من ربه.
قيل: إن الشيطان قد يتمثل على هيئة حشد من الناس ليُرهب المؤمنين، والشيطان من
عالم الجن، وعالم الجن يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، وقد أعطاه الله القدرة
على أن يتشكل بما يُحب. فله أن يتشكل في إنسان، في حيوان، أو كما يريد، ولكن إذا
تشكل فالصورة تحكمه لأنه ارتضى أن يخرج عن واقعه ليتشكل بهيئة أخرى، فإذا ما تشكل
على هيئة إنسان، فقانون الإنسان يسري عليه، بحيث إن كان معك مسدس أو سيف أو خنجر
وتمكنت منه وطعنته يموت. وهذا هو ما رحمنا من تخويفهم لنا.
ولذلك تجد أن الشيطان يظهر لمحة خاطفة ثم يختفي، لأنه يخاف أن يكون الإنسان الذي
أمامه واعيا بأن الصورة تحكمه، فعندما يتمثل لك بأي شكل تخنقه فيُخنق؛ لذلك يخاف
من الإنسان، فلا يظهر إلا في لمحات خاطفة.
ويمكن أن نفهم أيضا قول الحق: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } أن هناك بعضا من الكفار أشاعوا أن أبا سفيان وصحبه قد
حشدوا حشودهم، فكلمة " جمعوا " تعطي إيحاء بأنهم جاءوا بمقاتلين آخرين،
أو أن فلولهم قد تجمعت، وسواء هذا أو ذاك فهم عندما فروا فروا فلولا، لأن القوم
المنهزمين لا يسيرون سيرا منتظما يجمعهم، بل يسير كل واحد منهم حسب سرعته، ويصح أن
يتجمعوا ثانية، أو جاءوا بناس آخرين، ولنا أن نلحظ أن الأسلوب يحتمل كل ذلك.
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ } ومثل هذا القول قد يفت في عضد المؤمنين، لكن التمحيص الإيماني قد
صقل معسكر الإيمان فلم يهتموا بهذا الكلام، وهكذا أثمر الدرس الأول، لقد تعلموا أن
المخالفة عن أمر الله الممثل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد المخالفة
تجعل الضعف يسرى في النفس، لكن التثبت والتمسك بأوامر رسول الله صلى الله عليه
وسلم يُعزز الإحساس بالقوة؛ لذلك لم يأبهوا لهذا التهديد بل قالوا: { حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فلم يهتموا بالعدد وفهموا أن الإيمان يقتضي أن
يقاتلوا الكافرين حتى يُعذبهم الله بأيديهم، وفي هذا درس لكل مُحارب، فعندما
تحارب، فأنت إما أن تكون منصورا بإيمانك بالله وإما أن تكون على عكس ذلك:
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَىا }[الأنفال: 17]
لقد فطنوا إلى أنفسهم، وتغير الترتيب الإيماني في أعماقهم، ونلمس ذلك في أن بعضا
من الناس جاءوا يصدونهم ويخذلونهم، فلم يستطيعوا بل زادهم هذا القول إيمانا }
وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ { ، لقد فطنوا إلى أن قوة الله
هي التي تنصرهم والله حسبهم وكافيهم عن أي عدد من الأعداد وهو نعم الوكيل، ومعنى
" الوكيل " أنني عندما أعجز عن أمر أُوَكِّلُ أحدا فهو وكيل عني، وعندما
نوكل الله فيما عجزنا عنه فهو نعم الوكيل، لماذا؟ وتأتينا الإجابة: } فَانْقَلَبُواْ
بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ { ، ولقد نصروا بالرعب الذي أنزله الله في قلوب أعدائهم
ولم يشتبكوا مع الكفار، فصدق قول الله:{ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
كَفَرُواْ الرُّعْبَ }[الأنفال: 12]
ويأتي الحق من بعد ذلك بما يصدق القضية: } فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ
اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ... {
(/564)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
وهذه القضية يجب أن يستشعرها كل مؤمن يتعرض لتمحيص الحق له، وعلى كل مسلم أن يتذكر
تلك التجربة، تجربة أحُد، فليلة واحدة كانت هي الفارق بين يوم معركة أحُد ويوم
الخروج لملاحقة الكفار في حمراء الأسد، ليلة واحدة كانت في حضانة الله وفي ذكر
لتجربة التمحيص التي مر بها المؤمنون إنها قد فعلت العجب؛ لأنهم حينما طاردوا
الكفار، لم يأبهوا لمحاولات الحرب النفسية التي شنها عليهم الأعداء، بل زادهم ذلك
إيمانا وقالوا: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }.
إذن فقد تجردوا من نفوسهم ومن حولهم ومن قوتهم ومن عددهم ومن أي شيء إلا أن
يقولوا: الله كافينا وهو نعم الوكيل لمن عجز عن إدراك بغيته. لقد عرفوا الأمر
المهم، وهو أن يكون كل منهم دائما في حضانة ربه، وقد أخذ صحابة رسول الله وآل بيت
رسول الله هذه الجرعة الإيمانية واستنبطوا منها الكثير في حل قضاياهم.
وقول الله سبحانه: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } يُذكرنا بالإمام
جعفر الصادق ابن سيدي محمد الباقر بن سيدي علي زين العابدين وكان من أفقه الناس
بالقرآن، وكان من أعلمهم في استنباط أسرار الله في القرآن، إنّه كان يجد في قول
الحق: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } استنباطا رائعا، فهو يتعجب لأي
إنسان أدركه الخوف من أي شيء يخيف، والإنسان لا يخاف إلا أمرا يَنْقُضُ عليه
رَتََابَة راحته، ويقلقه ويهدده في سلامه وأمنه واطمئنانه، ويكون لهذا الخوف مصدر
معلوم، فإذا ما تعرض المؤمن لمثل هذا الخوف فعليه أن يتذكر قول الحق: { حَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } لأنها قضية نفعت الجيش كله في معركته مع الكفار،
فحين يأخذ الفرد هذه الجرعة فهو يستعيد رباطة الجأش. واشتداد القلب فلا يفر عند
الفزع.
وينبهنا سيدنا جعفر الصادق إلى هذه القضية لنفزع إليها عند كل ما يُخيفنا فيقول:
عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
إنه بنظرته الإيمانية يتعجب لإنسان أدركه الخوف ثم لا يفزع إلى هذا القول الكريم {
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ، ثم يستنبط بإشراقاته سر هذا فيقول:
لأني سمعت الله بعقبها يقول: { فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } وانظروا إلى قول سيدنا جعفر الصادق: " فإني سمعت
الله بعقبها " هو قرأ بنفسية المؤمن الصادق، فالمؤمن حين يقرأ كلام الله إنما
يستحضر أنه يسمع الله يتكلم إنه يقول: فإني سمعت الله بعقبها يقول: {
فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ }
ولذلك فالحق يقول:{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[الأعراف: 204]
فأنت حين تستمع إلى القرآن فالله هو الذي يتكلم، ومن العيب أن يتكلم ربك في أذنك
ثم تشغل عنه وهو ربك، إذن فعلاج الخوف هو أن تقول من قلبك: { حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وأن تقولها بحقّها، فإن قلتها بحقها كفاك الله شرّ ذلك
الخوف، لأن الله يقول بعد { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }: {
فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ }
انظر إلى النعمة والفضل، إنهما من الله، وقد تصيبك النعمة والفضل ولكن تقدر ذلك في
أخريات الأمور، فأوضح الله أن النعمة زادت في أنها غنيمة باردة، ولم يحدث فيها أن
مسّنا سوء، إن ذلك هو قمة العطاء ورأسه وسنامه، فإذا قدرته في أخريات الأمور فقد
أخطأت التقدير { فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } ونتيجة لتلك التجربة النافعة هي أن { اتَّبَعُواْ رِضْوَانَ
اللَّهِ } ، وقد نجحت التجربة مع المؤمنين.
ويقول الإمام جعفر الصادق ليكمل العلاج لجوانب النفس البشرية، ويصف الدواء فالنفس
البشرية يفزعها ويقلقها ويجعلها مضطربة أن تخاف شرًّا يقع عليها، وعلاج هذا: }
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ { ، ويضيف: وعجبت لمن اغتمّ ولم يفزع إلى
قول الحق سبحانه:{ لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ }[الأنبياء: 87]
و " الغمّ " قلق في النفس، ولكنك لا تدرك أسبابه، فأسبابه مُعقدّة، صدر
يضيق، ولذلك تقول: أنا صدري ضيق، أنا متعب ولا أدري لماذا؟ أي لم يمرّ بك الآن
أشياء تستوجب هذا، إنما قد تكون حصيلة تفاعلات لأحداث وأمور أنت لا تتذكرها الآن،
هذا اسمه " غمّ " ، فإذا ما فزع العبد إلى قول الحق سبحانه: } لاَّ
إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ { فالعبد يقرّ
بذنبه ويقول: هذا الغمّ لم يأتني إلا لأنني خرجت عن المنهج، ويذكرنا سيدنا جعفر
الصادق بأنه سمع بعدها قول الله:{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ }[الأنبياء: 88]
والذي قال ذلك هو سيدنا يونس } فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
{.
وهذه الاستجابة من الله ليست خاصّية كانت ليونس عليه السلام، لأنه سبحانه قال: }
وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ { أي أنه باب واسع أدخل الله فيه كل المؤمنين،
ويضيف سيدنا جعفر الصادق: وعجبت لمن مُكر به ولم يفزع إلى قول الله:{ وَأُفَوِّضُ
أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }[غافر: 44]
فإني سمعت الله بعقبها يقول: } فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ {.
ومُكر به معناها بيّت له الشر بحيث يخفى، لأن المكر هو: تبييت من خصمك لشرّ يصيبك،
بينما أنت تقف يجانب الحق، فيكون هذا المكر شراً يُبيِّت لخير وحق، وهذا هو المكر
السّيء، ويقابله مكر حَسن، ولذلك يقول الحق:{ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ
إِلاَّ بِأَهْلِهِ }[فاطر: 43]
إذن فهناك مكرٌ ليس بسيء، كأن يُبيت صاحب الحق لصاحب الشرّ تبييتا يخفى عليه، هذا
اسمه مكر خير؛ لأنه محاربة لشرٍّ؛ ولذلك يوضح لنا الله هذا الأمر: افطنوا إلى هذه،
فإن كانوا يمكرون ويُبيِّتون، فهم إن بيّتوا على الخلق جميعاً لا يُبيِّتون على
الله لأنه سبحانه العليم، الخالق، المُربّي، وإن يُبيّت الله لهم فلن يستطيعوا كشف
هذا التبييت، إذن فالله خير الماكرين؛ لأن تبييتهم مكشوف أمام الخالق؛ لذلك فهو
مكر ضعيف، أما المكر الحقيقي فهو الذي لا توجد وسيلة تعرفه بها.
ونواصل مع سيدنا جعفر الصادق قوله في علاج النفس البشرية فيقول: وعجبت لمن طلب
الدنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قول الله:{ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ
بِاللَّهِ }[الكهف: 39]
فإني سمعت الله يعقبها بقوله:{ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً
* فعسَىا رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ }[الكهف: 39-40]
واستنبط سيدنا جعفر الصادق ذلك من حكاية صاحب الجنة:{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ
جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ
أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فعسَىا رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً
مِّن جَنَّتِكَ }[الكهف: 39-40]
إنك حين تقول: } مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ { فإن الدنيا
تأتيك مهرولة، لأنك جرّدت نفسك من حولك، ومن قوة حيلتك وأسبابك، وتركت الأمر لله
سبحانه وتعالى القادر على كل عطاء.
إذن فالجوانب البشرية في النفس: هي خوف له علاج ووَصْفَة، وهمٌّ له علاج ووصفة،
ومكر بك له علاج ووصفة، وطلب دنيا وسعادة لها علاج ووَصْفَة، والوصْفة التي نحن
بصددها هنا: } وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُواْ
بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ {.
والنعمة أن يعطيك الله على قدر عملك، والفضل من الله هو أن يزيدك عطاء، ولم يمسس
السوء أحداً من المؤمنين الذين طاردوا المقاتلين من قريش، وكان من نتيجة ذلك أنهم
جمعوا بين كل ما وهبه الله لهم؛ من نعمة وفضل مع اتباعهم رضوان الله؛ فقد صارت
المسألة بالنسبة لهم تجربة مُحسّة ومُجرّبة } وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {.
لقد حاول المنافقون أن يثبطوا المؤمنين عن لقاء كفّار قريش، فيريد الحق أن يكشفهم،
ويظهر الدافع إلى مثل ذلك الموقف من المنافقين؛ لذلك قالوا للمؤمنين: } إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ {
ويظهر الله للمؤمنين حقيقة موقف المنافقين: } إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ
يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ... {
(/565)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
إنها صرخة الشيطان الذي يخوِّف أولياءه، ويَصحُّ أن يصرخ الشيطان صرخته وهو يتمثل
في صورة بشر، ويصح أن ينزغ الشيطان بصرخته لواحد من البشر فيصرخُ هذا الإنسان بنزغ
الشيطان له { إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ }.
وعندما نقرأ القرآن بدقة صفائية إيمانية فلا بد أن نفهم عن القرآن بعمق، فمن هم
أولياء الشيطان؟ أولياء الشيطان في هذا الموقف، إما كفّار قريش، وإما المنافقون أو
هما معا. و { أَوْلِيَاءَهُ } هم أحبابه الذين ينصرون فكرته.
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يُبلّغنا: إنما ذلكم الشيطان الذي قال: إن الناس
قد جمعوا لكم فاخشوهم، هذا الشيطان إنما يخوف أولياءه.
وللوهلة الأولى نجد أن الشيطان مُفترض فيه أن يخوّف أعداءه. ونحن هنا أمام شيطان
ينزغ بعبارة التخويف، فمن الذي يخاف وممن يخاف؟
المفروض أن يُخيف الشيطانُ أعداءه، هذا هو المنطق.
فنحن في حياتنا العادية نقول: خوّفت فلاناً من فلان، أو خوفت فلاناً فلاناً إذن
فالشيطان يحاول هنا أن يتسلط على المؤمنين ويخوفهم من أوليائه الكفار والمنافقين،
ونعرف في اللغة أن هناك في بعض المواقف يمكننا أن نحذف حرف الجر ونصل الجملة،
ونُسمّيه " مفعولاً منه ". مثال ذلك قول الحق:{ وَاخْتَارَ مُوسَىا
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً }[الأعراف: 155]
فموسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً.
وعلى ذلك نقرأ قول الحق: { إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ } ونفهم منها؛ أن ذلكم الشيطان يخوِّفكم أنتم من أوليائه، لأن حرف
الجر في الآية الكريمة محذوف، ويعاضد هذا ويقويه قراءة ابن عباس وابن مسعود:
يخوفكم أولياءه، وينبه الحق المؤمنين ألاّ يخافوا من أولياء الشيطان فيقول: {
فَلاَ تَخَافُوهُمْ }.
وهذا يوضح لنا أن الشيطان إنما أراد أن يُخوّف المؤمنين من أوليائه وهم المنافقون
والكافرون. وبعض المفسرين قال: { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } المقصود بهم أن
الشيطان يخوّف أولياءه حتى يَجبنوا من القتال، فنزغ فيهم أنهم إن خرجوا للقتال فقد
يموتون ولكن إن جاز ذلك القول على المنافقين الذين لم يخرجوا مع الرسول لملاقاة
المشركين فكيف يجوز ذلك على الصنف الثاني من أوليائه وهم الكفار؟ إن الكفار قد
خرجوا فعلا لقتال المؤمنين. ونفهم من قول الحق: { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ }
أن أولياء الشيطان ليسوا هم الخائفين ولكنهم هم المخوِّفون: { إِنَّمَا ذالِكُمُ
الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ
مُّؤْمِنِينَ }.
فالحق سبحانه يطلب من المؤمنين أن يصنعوا معادلة ومقارنة، أيخافون أولياء الشيطان،
أم يخافون الله؟ ولا بد أن يصلوا إلى الخوف من الله القادر على دحر أولياء الشيطان.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: { وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً... }
(/566)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
لقد كان المنافقون في أول المعركة مُختفين ومستورين، ثم ظهرت منهم بادرة الانخذال
في أُحُد فكانوا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، ولكنهم من بعد ذلك سارعوا إلى
الكفر، فكأن هناك من يلاحقهم بسوط ليتسابقوا إلى الكفر.
وها هو ذا الحق سبحانه قد حدّد عناصر المعركة، أو قوى المعركة، أو ميدان المعركة
أو جنود المعركة فينبه رسوله: { وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي
الْكُفْرِ } ولم يقل: لن يضروكم شيئا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته
المؤمنين ليسوا طرفاً في المسألة، فعداء الذين يسارعون في الكفر هو عداء لله؛ لذلك
يقول الحق: { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً }. كأن المعركة ليست مع
المؤمنين. ولكنها معركة الكافرين مع الله، وما دامت المعركة مع الله فالمؤمنون جند
الله؛ وهم الصورة التي أرادها الله لهزيمة الكافرين:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ
اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ
قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ }[التوبة: 14]
فلو كانت معركة الكفر مع المؤمنين بالله فقط لقال الله: ولا يحزنك الذين يسارعون
في الكفر إنهم لن يضروكم شيئا، لكن المسألة ليست هكذا، لقد أراد معسكر الكفر
والنفاق أن يدخل معركة مع الله، ولا توجد قوة قادرة على ذلك، ولهذا يطمئن الله
المؤمنين أكثر، ليزدادوا ثباتاً على الإيمان؛ لأن الكل من البشر مؤمنين وكفاراً
أغيار، وقد يتحول بعض من البشر المؤمنين الأغيار عن المنهج قليلاً، فعندما تكون
المعركة بين بشر وبشر فقد يغلب أحد الطرفين بقوته.
ومن أجل المزيد من الاطمئنان الكامل نقل الله المعركة مع الكفر إلى مسألة أخرى،
إنه بجلاله وكماله وجبروته هو الذي يقف ضد معسكر الكفار. والمهم فقط أن يظل
المؤمنون في حضانة الله. والرسول كان يحزنه أن يُسارع البعض إلى الكفر. فهل رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم أنه إنما جاء مٌبلّغًا فقط؟. إنه يعلم ولكنه كان
يحرص - صلى الله عليه وسلم - على أن يؤمن الناس جميعاً ليذوقوا حلاوة ما جاء به،
هذا الحرص هو الذي يدفع الحُزن إلى قلب الرسول، وعندما يرى واحداً لا يتذوق حلاوة
المنهج، فالرسول يأمل أن يذوق الناس كلهم حلاوة الإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم
رءوف رحيم بالمؤمنين، بل وبالناس جميعا { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ } ودليل ذلك أن جاءه التخيير. " فقد نادى جبريل رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال: " إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد
بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم
قال: يا محمد، إن الله قد بعثني إليك وأنا ملك الجبال لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن
شئت أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بل أرجو أن يخرج
الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا " ".
فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبقى على هؤلاء فقط ولكنه يحرص أيضاً على الأجيال
القادمة. وقد كان. وخرج من أولاد كفار قريش صناديد وأبطال وجنود دعوة وشهداء.
فَكَان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما أخبر الله في آيات القرآن - يحزن عندما
لا يذوق أحد حلاوة الإيمان، ويقول الحق:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف: 6]
وفي موقع آخر يقول الحق:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ
مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3-4]
والحق سبحانه وتعالى لا يريد أعناقاً، لكنه يريد قلوباً تأتي له بعامل الاختيار
والمحبة، فباستطاعته وهو الخالق الأكرم أن يخلق البشر على هيئة غير قابلة للمعصية،
كما خلق الملائكة، إن كل الأجناس تٌسبّح بحمده، إذن فالقرآن يُبيّن حِرصَه صلى
الله عليه وسلم بأن يؤمن الناس جميعاً وأن يذوقوا حلاوة اللقاء بربهم، واتّباع
منهج الله, وحلاوة التشريع الذي يُسعدهم ويُسعد كل ملكاتهم. فإذا ما جاءت المسائل
على غير ما يُحبُّ رسول الله. فها هو ذا قول الله سبحانه: } وَلاَ يَحْزُنكَ
الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ {.
وهذا دليل على أن الله يريد أن يُبلّغ البشر: أيها الناس إن من فَرْط حُبّ الرسول
لكم أنه يحزن من أجل عِصيانكم وأنا الذي أقول له: لا تحزن. والرسول صلى الله عليه
وسلم رحيم بالأمة كلّها، كما يقول القرآن:{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 107]
ويكفيه موقفه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، حين تذهب كل أمة إلى رسولها
ليردّها، فتأتي الأمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُكرمه الله بقبول شفاعته
حتى يُعجل الله بالفصل والحساب، وهذه رحمة للعالمين؛ لأنهم من هول الموقف يتمنون
الانصراف ولو إلى النار.
ونحن قلنا سابقا: إن الحق سبحانه وتعالى علم انشغال سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بأمته وبرحمته بهم، فقال له الله - ليريح عواطفه ومواجيده - ما ورد هنا في
الحديث الشريف:
فعن عبد الله ابن عمر بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول
الله عز وجل في إبراهيم: } رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ
فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي {.
وقول عيسى - عليه السلام - } إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {. " فرفع يديه وقال:
اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله
ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله
عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: (إنا سنرضيك
في أمتك ولا نسوؤك) "
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - له موقف آخر يدل على كمال رحمته بأمته، فقد
أنزل الله فيما أنزل من القرآن الكريم - بعد فترة الوحي - قوله تعالى: }
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا {.
انظروا إلى ما ورد عن سيدنا علي في هذه الآية، فقد روِيَ أنه - رضي الله عنه - قال
لأهل العراق: إنكم تقولون: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: } قُلْ ياعِبَادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً {. قالوا: إنا نقول ذلك قال: ولكنّا -
أهل البيت - نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: } وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضَىا {. وفي الحديث لما نزلت هذه الآية قال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: (إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار).
كما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لكل نبيّ دعوة مستجابة
فتعجل كل نبيّ دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي يوم القيامة ".
وهكذا نرى شغل رسول الله بأمته كأمر واضح موجود في بؤرة شعوره.
إذن فقول الله: } وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ { هو
توضيح من الله لرسوله بأنهم لم يسارعوا في الكفر تقصيراً منك، فأنت قد أديت واجبك،
ويضيف سبحانه: } إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً { ولم يقل سبحانه: إنهم
لن يضروك، أو لن يضروا المؤمنين، لا بل لقد جعل سبحانه وتعالى المعركة معه وهو
القوى ذو الجبروت إنّه هنا يطمئن المؤمنين.
ويريد الله ألا يجعل للذين يسارعون إلى الكفر حظاً في الآخرة فيقول: } يُرِيدُ اللَّهُ
أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { وما دامت
هذه إرادات الله في ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة، أيكون لهم عمل يصادم مرادات
ربهم؟ لا.
إنه سبحانه يريد بما شرّع من منهج أن تأتيهم سُنّته، والله يعذّب من يخالف سُنته
التي شرعها. لأنه جلت قدرته يطلب من المكلفين أن يطبقوا سنته التي شرعها لهم.
وفرق بين وجود " لام العاقبة " التي تأتي حين يكون في مُراد العبد شيء،
ولكن القُدرة الأعلى تريد شيئاً آخر، وهي تختلف عن " لام الإرادة "
والتعليل فـ " لام الإرادة والتعليل " تتضح في قولنا: ذاكر التلميذ
لينجح، لأن علّة المذاكرة هي الرغبة في النجاح، أما " لام العاقبة " ,
فتتضح عندما يقول الأب لابنه: أنا دللتك لترسب آخر العام.
أدللّ الأب ابنه حتى يرسب؟ لا، ولكن الأب يأتي هنا بـ " لام العاقبة "
أي كان للأب مراد، ولكن قدرة أعلى جاءت على خلاف المراد.
ونوضح المسألة أكثر، فالحق يقول في قصة سيدنا موسى:{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّ
مُوسَىا أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ
تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ }[القصص: 7]
ونحن لا بد أن نتنبه إلى قول الحق: } فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ { والإنسان العادي
لو قال لامرأة تحمل رضيعها: إن خفت على ابنك فألقيه في البحر. هذه المرأة لن
تُصدّق هذا القائل، لكن أم موسى تلقت هذا الوحي من الله، والتّلقّي من الله لا
يُصادمه فكر شيطان ولا فكر بشر، فالإلهام من الله يتجلّى في قوله: } وَأَوْحَيْنَآ
إِلَىا أُمِّ مُوسَىا {. وما دام الله هو الذي ألهمها، فإن خاطر الشيطان لا يجيء.
ولذلك قامت أم موسى بتنفيذ أمر الله. ويطمئنها الله فقال لها: } وَلاَ تَخَافِي
وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {.
ويُنبّه سُبحانه أم موسى أنه لن يردّه إليها لمجرد أنه قرة عين، ولكن لأن لموسى
أيضاً مُهمّة مع الله. وفي لقطة أخرى يقول الحق عن مسألة الوحي لأم موسى:{ إِذْ
أَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّكَ مَا يُوحَىا * أنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ
لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ
عَلَىا عَيْنِي }[طه: 38-39]
والحق هنا في هذه اللقطة يصف وقت تنفيذ العملية التي أوحى بها، ففيه فرق بين
التمهيد للعملية قبل أن تقع كما حدث في اللقطة السابقة حيث قال لها الحق: }
فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ {. كان ذلك هو الإعداد، ثم جاء
وقت التنفيذ، فقال الحق لموسى: } إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّكَ مَا يُوحَىا {.
إنها سلسلة من الأوامر المتلاحقة التي تدل على أن هذه العملية كانت في وقت أخذ
جنود فرعون لأطفال بني إسرائيل ليقتلوهم، إنه سبحانه يبين لنا أن جنود الله من
الجمادات التي لا تعي تلقت الأمر الإلهي بأن تصون موسى، فكلمة " اقذفيه
" تدل على السرعة، وتلقّي " اليم " الأمر من الله بأن موسى عندما
يُلقى في البحر، فلا بد أن يلقيه إلى الساحل. } إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّكَ
مَا يُوحَىا * أنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ
فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ { إنها أوامر للمُسخّر من المخلوقات التي لا
تعصى.
لكن كيف تكون أوامر الحق لعدو لله؟ إن الله يدخلها كخاطر مُلحّ في رأس فرعون
ليُنفّذ مُراد الله. إن امرأة فرعون تقول له ما جاء في قوله تعالى:{ وَقَالَتِ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىا أَن
يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }[القصص: 9]
لقد دخل أمر الله كخاطر، والتقطه آل فرعون لا ليكون قرة عين لامرأة فرعون، ولكن
لأمر مختلف أراده الله.
فهل ساعة الالتقاط كان في بالهم أن يكون موسى عدوّاً أو قرة عين؟ إنها " لام
العاقبة " التي تتضح في قوله: } لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً {.
فالإنسان يكون في مُراده شيء، ولكن القدرة الأعلى من الإنسان - وهو الله - تريد
شيئاً آخر.
الإنسان في تخطيطه أن يقوم بالعملية لكذا، ولكن القوة الأعلى من الإنسان تريد
العملية لهدفٍ آخر، وهي التي أوحت للإنسان أن يقوم بهذه العملية. ويتجلّى ذلك
بوضوح في العلة لالتقاط آل فرعون لموسى. كان فرعون يريده قٌرّة عين له، ولكن الله
أراده أن يكون عدوّاً لفرعون. وفي هذا المثال توضيح شامل للفرق بين " لام
العاقبة " و " لام الإرادة والتعليل " وعندما نرى أحداثاًَ مثل هذه
الأحداث فلا نقول: " هذا مراد الله " ولكن فلنقل: (العاقبة فيما فعلوا
وأحدثوا خلاف ما خططوا).
وبعد ذلك يقول الحق: } إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ.... {
(/567)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
إنهم لن يضروا الرسول وصحابته لأنهم في معيّة الله, وهم لن يضروا الله، وفي ذلك
طمأنة للمُؤمنين، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أيها المؤمنون بي المصدّقون بمحمد
إن المعركة مع الكفر ليست معركة المؤمنين مع الكافرين، ولكنها معركة ربكم مع هؤلاء
الكافرين, وفي هذا اطمئنان كبير.
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ } ، و " الاشتراء
" صفقة، والصفقة تقتضي " ثمناً " و " مُثمناً ". و
" الثمن " هنا هو الإيمان، لأن الباء تدخل على المتروك، و "
المثمَن " هو الكفر لأنه هو المأخوذ. فهل أخذوا الكفر ودفعوا الإيمان ثمناً
له؟ وهل معنى ذلك أن الإيمان كان موجوداً لديهم؟
نعم كان عندهم الإيمان؛ لأن الإيمان القديم هو إيمان الفطرة وإيمان العهد القديم
الذي أخذه الله على الذّر قبل أن توجد في الذّر الأغيار والأهواء:{ وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا
أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[الأعراف: 172]
أو على الأقل كان الإيمان والكفر في متناولهم؛ بانضباط قانون الاختيار في النفس
البشرية، لكنهم أخذوا الكفر بدل الإيمان. والبدلية واضحة، فقد استبدلوا الكفر
بالإيمان، فالباء - كما قلت - دخلت على المتروك. لقد تركوا الإيمان القديم وهو
إيمان الذّر، أو تركوا إيمان الفطرة فالحديث الشريف يقول: " كل مولود يولد
على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه ".
لقد انسلوا من الإيمان، ودفهوه ثمنا للكفر، فعندما يأخذ واحد الكفر، فهو قد أخذ
الكفر بدلاً من الإيمان وهم { لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } لماذا؟ لأننا إن افترضنا أن الدنيا كلها قد آمنت فهذا لن يفيد الله في
شيء. والحديث القدسي يقول:
قال الله تعالى: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا
تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا
من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكُم،
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر
لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي
لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك
في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل
واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما
ينقص المخْيَطُ إذا أُدْخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم
إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ".
إذن، فلا الإيمان من البشر يزيد الله شيئاً، ولا الكفر ينقص من الله شيئاً؛ لأن
الإنسان قد طرأ على ملك الله، ولم يأت الإنسان في ملك الله بشيء زائد، فالإنسان صنعة
الله وخلقه من عناصر ملكه - جلت قدرته - ويستمر الحديث في توضيح أنَّ الحق سبحانه
لا يعالج شيئاً بيديه فيأخذ منه زمناً. لا، إنه سبحانه جلّت مشيئته يقول للشيء:
كُن؛ فيكون.
وكلمة " كُن " نفسها هي أقصر أمر. إنّ أمره ألطف وأدق من أن يدركه على
حقيقته مخلوق. لكن الحق يأتي لنا بالصورة الخفيفة التي تجعل بشريتنا تفهم الأمر.
فالذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّو الله شيئاً ولهم عذاب أليم. فهم لن يعيشوا
بِنَجْوَةٍ وبُعد عن العذاب، بل سيكون لهم العذاب الأليم.
ونحن نجد أن الحق يقول مرة في وصف مثوى الكافرين إنه عذاب أليم، ومرة أخرى لهم
عذاب عظيم ومرة عذاب مهين، لماذا؟
لأن العذاب له جهات متعددة، فقد يُوجد عذابٌ مؤلم، ولكن المُعَّذب يتجلد أمام من
يُعذبّه ويُظهر أنه ما زال يملك بقيّة من جَلَد، إنه يتألم لكنه يستكبر على الألم،
ولذلك قال الشاعر:وتجلّدي للشامتين أُريهمو أني لِرَيْب الدهر لا أتضعضعُفالتجلّد
هو نوع من الكبرياء على الواقع. ولذلك يأتي من بعد ذلك قوله الحق إن لأمثال هؤلاء
عذاباً مهيناً، أي إنهم سيذوقون الذّل والألم، ولا أحد فيهم يستطيع التجلد. وهذا
النوع من العذاب لا يقف فقط عند حدود الألم العادي، ولكنه عذاب عظيم في كمّيته
وقدره، وأليم في وقعه. ومهين في إذلال ودكّ النفس البشرية وغُرورها؛ لذلك فعندما
نجد أن العذاب الذي أعده الله للكافرين موصوف بأنه " عذاب أليم " ومرة
" عذاب عظيم " ومرة " عذاب مهين " فلنعرف أن لكل واحدة معنى،
فليست المسألة عبارات تقال هكذا بدون معنى مقصود.
وأريد أن أقف هنا في هذا الحديث عند " لام العاقبة " لأن البعض يحاول أن
يخلق منها إشكالات إنّ هؤلاء المتربصين لكلام الله يحاولون النيل منه، وهم لا
يبحثون إلا فيما يتوهّمون - جهلاً - أنه نقاط ضعف، وهو سبحانه وتعالى يقول عن
الكفار والعياذ بالله وهم في النار:{ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا
فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ
كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً
حَتَّىا أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ }[المؤمنون:
107-110]
لقد انشغل الكفار بالسّخرية من أهل الإيمان بإشارات أو لمزٍ وغمزٍ أو اتهام
بالرجعية أو الدروشة أو مثل ذلك من ألوان السّخرية، لدرجة أنهم نسوا مسألة
الإيمان، فما الذي أنساهم ذكر الله؟ لقد أنساهم ذكر الله انشغالهم بالسّخرية من
أهل الإيمان.
لقد قضى الكفار وقتهم كله للسّخرية من أهل الإيمان حتى نسوا ولم يتذكروا أن هناك
خالقا للكون. وهذا ما يسمى " غاية العاقبة " وليست غاية وعلة للإرادة،
لأنهم لم يريدوا نسيان ذكر الله ولكن أمرهم انتهى إلى ذلك.
وسيُعذّب الله الكافرين عذاباً أليماً وعظيماً ومُهيناً. ولكل وصف مراده في النص
حتى يستوعب كل حالات الإهانة من إيلام، فالذي لا يألم بشيء صغير ولا يتحمل الألم
القوي سيجد الألم الكبير، وكذلك الذي يتجلد على الألم العظيم، سيجد الألم المهين.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي... {
(/568)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
وعندما نسمع قول الله: " ولا يحسبن " فهو نهي، وقد نهى الله الكافرين عن
ماذا؟ إن الكافر عندما يجد نفسه قد أفلت في المعركة من سيف المؤمنين وأن عمره قد
طال في الكفر، فهو يظن أن الحق سبحانه وتعالى تركه لخير له؛ لأنه يفهم أن عمره هو
أثمن شيء عنده، فما دام قد حوفظ له على عمره فهو الخير. نقول لمثل هذا الكافر: إن
العمر زمن، والزمن وعاء الأحداث، إذن فالزمن لذاته لا يُمَجد إلا بالحدث الذي يقع
فيه، فإن كان الحدث الذي يقع في الزمن خيراً؛ فالزمن خير. وإن كان الحدث الذي يقع
في الزمن شراً، فالزمن شر وما دام هؤلاء كافرين، فلا بد أن كل حركاتهم في الوجود
والأحداث التي يقومون بها هي من جنس الشر لا من جنس الخير، لأنهم يسيرون على غير
منهج الله. وربما كانوا على منهج المضادة والمضارة لمنهج الله.
وذلك هو الشر. إذن فالله لا يملي لهم بقصد الخير، إنما يملي الله لهم لأنهم ما
داموا على الكفر فهم يشغلون أوقات أعمارهم بأحداث شرّية تخالف منهج الله. وكل حدث
شرّى له عذابه وجزاؤه. إذن, فإطالة العمر لهم شر.
والحق سبحانه يقول: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي
لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } و " يحسَبَنَّ " هي فعل مضارع، والماضي
بالنسبة له هو " حسِب " - بكسر السين - ولذلك قال الحق سبحانه في موقع
آخر من القرآن الكريم:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا
وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2]
إن الماضي هو " حَسِبَ " - بكسر السين - والمضارع " يحسَب " -
بفتح السين -. أما حَسَبَ " يحسِب " - بكسر السين - في المضارع وفتحها
في الماضي فهي من الحساب والعدد، وهو عدد رقمي مضبوط.
أمر " حَسِبَ " و " يحسَب " فتأتي بمعنى الظن، والظن كما نعرف
أمر وهمي، والحق سبحانه يذكرهم أن ظنونهم بأن بقاء حياتهم هو خير لهم ليست حقاً.
بل هي حدس وتخمين لا يرقى إلى اليقين.
صحيح أن العمر محسوب بالسنوات؛ لأن العمر طرف للأحداث، والعمر بذاته - مجرداً عن
الأحداث - لا يقال إن إطالته خير أو شر، وإنما يقال: إن العمر خير أو شر بالأحداث
التي وقعت فيه، والأحداث التي تقع من الكافر تقع على غير منهج إيماني فلا بد أن
تكون شراً، حتى ولو فعل ما ظاهره أنه خير فإنه يفعله مضارة لمنهج الله. فلو كانت
المسألة بالعملية الرقمية؛ لقلنا: " حسَب " و " يحسِب " -
بفتح السين في الماضي وكسر السين في المضارع - لكن هي مسألة وهمية ظنية؛ لذلك نقول
" يحسَب " - بفتح السين في المضارع - أي يظن.
وهو سبحانه يقول: } إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ { ما الإملاء؟ الإملاء هو تمديد الوقت
وإطالته. ولذلك نجد في القرآن:{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي
ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً }[مريم:
46]
إنه يأمر سيدنا إبراهيم أن يهجره مدة طويلة. هذا هو معنى } وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً
{.
والمقصود هنا أن إطالة أعمارهم بعد أن أفلتوا من سيوف المؤمنين. ليست خيراً لهم
ولا يصح أن يظنوا أنها خير لهم، لأن الله إنما يملي لهم؛ } لِيَزْدَادُواْ
إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ { وهنا نجد " لام العاقبة ".
وإياك أن تقول أيها المؤمن: إن الله قد فعل ذلك ليعاقبهم. لا؛ لأن الله سبحانه
وتعالى قد وضع سننه في الكون ويطبقها على من يخرج على منهجه، فمن يصنع إثما يعاقبه
الله عليه } إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً { فكل ظرف من الزمن
يمر عليهم يصنعون فيه أعمالاً آثمة على غير المنهج.
} وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ { وتأتي كلمة " مهين " وصفاً للعذاب مناسبة
تماماً؛ لأن الكافر قد يخرج من المعركة وقد تملكه الزهو والعجب بأن أحداً لم يستطع
أن يقطع رقبته بالسيف، ويتيه بالعزة الآثمة، لذلك فالإيلام هنا لا يكفي، لأنه قد
يكتم الألم ويتجلد عليه، ولكن العذاب عندما يكون مهيناً فهو العقاب المناسب لمثل
هذا الموقف. والمتكلم هنا هو الله، وسبحانه العليم بالمناسب لكل حال.
ومن بعد ذلك يقول الحق: } مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىا مَآ
أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىا يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ... {
(/569)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
وساعة نسمع " ما كان " فلنعرف أن هنا " جحوداً " أي أن هناك
من يجحد القضية, ويسمونها " لام الجحود ". فقبل حادثة أًحُد، كان
المنافقون متداخلين مع المؤمنين. أكان الله يترك الأمر مختلطاً هكذا، ولا يُظهر
المنافقين بأحداث تبين مواقعهم الحقة من الإيمان؟ لا، إنه سبحانه وتعالى لا يقبل
ذلك؛ حتى لا يظل المنافقون دسيسة في صفوف المؤمنين. وكان لا بد أن تأتي الأحداث
لتكشفهم. وجاءت أحداث أُحُد لتهيج الصف المنسوب إلى الإيمان، وتفرزه ليتميز الخبيث
من الطيب، مصداقاً لقوله الحق:{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ }[الرعد: 17]
إذن كانت أحداث أُحُد ضرورية.
وقوله الحق: { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ } مقصود بها أن الله لم
يكن ليدع المؤمنين ويتركهم عرضة لاختلاط المنافقين بهم بدون أن يتميز المنافقون
بشيء من الأشياء، حتى لا تظل المسألة مقصورة على ما يٌعلمه الله لرسوله من أمر
المنافقين. فلو علم الله رسوله فقط بأمر المنافقين، ولو أعلن الرسول ذلك للمؤمنين
دون اختبار واقعي للمنافقين لكان ذلك مجرد تشخيص نظري للنفاق يأتي من جهة واحدة،
وأراد الله أن تأتي حادثة واضحة وتجربة معملية واقعية تبين وتظهر الواقع، وحتى
ينكشف المنافقون، وحتى لا يعترض أحد منهم عندما يوصف بأنه منافق، وحتى لا يكون هذا
الوصف مجرد كلام من الخصم، بل بفعل ارتكبوه هم عملياً، وبذلك تكون الحجة قوية
للغاية.
لقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الأولى في الصلاة؛ لأن كل منافق منهم
أراد أن يَحبك مسألة نفاقه، ويُواريه، فيحرص على ما يندفع المؤمنون إليه، والمنافق
كان يعرف أن المؤمنين يتسابقون إلى الصلاة، فهو يسارع ليكون في الصف الأول من
الصلاة. ويخبر الله سبحانه وتعالى رسوله:{ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ
يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }[محمد: 30]
أي لو لا حظت كلامهم لعرفتهم، مثلهم مثل كل المنافقين في الدنيا، تلاحظ في كلامهم
لقطة من نفاق؛ فالمؤمن حين يجلس مع جماعة من المنافقين ويأتي وقت صلاة الظهر ويدعو
الأذان إلى الصلاة، تجد المؤمن يقول: فلنقم إلى الصلاة, وهنا يسخر المنافق ويقول
للمؤمن: لتأخذني على جناحك للجنة يوم القيامة. ومثل هذه الكلمة يكون " لحن
القول ". أو عندما يدخل مؤمن على جماعة من الناس فيهم منافق، فيستقبل المنافق
المؤمن بلهجة من السخرية في التحية، " كيف حالك أيها الشيخ (فلان) "؟
ومعنى ذلك أنه غير مستريح لوجود المؤمن فيسخر منه.
وذلك من " لحن القول " الذي يظهر به المنافق.
ومثل هذه العمليات عندما يواجهها المؤمن الواعي المستنير الذي يتجلى الله عليه
بالإشراقات النورانية، مثل هذه العمليات تكون وقوداً للمؤمن وتزيد من إيمانه؛ لأن
المؤمن على منهج الحق، وقادر على نفسه؟ والمنافق لا يقدر على نفسه؛ لذلك يريد أن
يسحب المؤمن من عقيدته ليكون معه على النفاق والعياذ بالله.
وعلى المؤمن أن يوطن نفسه على أنه سيواجه منافقين يريدون أن يردوه عن الإيمان،
وسيجد أناساً يسخرون منه ويتغامزون عليه، مصداقاً لقوله الحق:{ إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ
بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ
فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ
عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ }[المطففين: 29-33]
والمنافق أو الكافر قد يقول لأهله: لقد رأيت اليوم شيخاً أو رجل دين أو متدينا
فسخرت منه وأهنته ويتندر المنافق بمثل هذا القول في بيئته الفاسدة، ويكشفها الحق
لنا بقوله الكريم. ليطمئن المؤمنين، ويعوض كل مؤمن عما يصيبه من أهل النفاق
والفساد:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى
الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
}[المطففين: 34-36]
فالحق سبحانه يسأل المؤمنين يوم القيامة: هل قدرنا أن نجازي الكفار والمنافقين
الذين سخروا منكم؟ فيقولون: نعم يارب العالمين قد جوزوا وأثيبوا على فعلهم أوفي
الجزاء وأتمه وأكمله.
إن سخرية المنافقين والكافرين من المؤمنين لها أمد دنيوي ينقضي، ولكن السخرية في
الآخرة لا تنقضي أبداً. وعندما نقيسها نحن المؤمنين، نجد أننا الفائزون الرابحون
إن شاء الله. فلو ترك أي منافق ليتداخل في أحضان المؤمنين، ولا يظهر ذلك للمؤمنين
لكانت المسألة صعبة العلاج، ولهذا يقول الحق للرسول صلى الله عليه وسلم:{ وَلَوْ
نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }[محمد: 30]
والحق لا يكتفي بذلك، لكنه يكشف لنا واقع المنافقين بتجارب معملية حتى لا يقول
واحد منهم: لست منافقاً. وعندما يظهر الله المنافق ويكشفه بحادثة مدوية فعليه،
ومخجلة تبين أنه منافق، فيكون قد وُصم بالنفاق، لأن كثيراً من الناس الذين يظلون
طوال عمرهم ينافقون اعتماداً على أنهم مسلمون في الظاهر لا يتركهم الله، بل لا بد
أن يأتي الله لهم بخاطر من الخواطر ويقعوا في فخ اكتشاف المؤمنين لهم حتى يعرفهم
المؤمنون ويقيّموهم على حقيقتهم، فسبحانه وتعالى القائل:
} مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىا مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّىا يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ {.
وكلمة " يذر " تعني " يترك " أو " يدع ". والدارسون
للنحو يعرفون أن هناك فعلين هما " يذر " و " يدع " ، أهملت
العرب الفعل الماضي لهما، فهذان الفعلان ليس لهما فعل ماضٍ. ونستخدمها في صيغة
المضارع.
والحق سبحانه لم يكن ليدع المؤمنين على ما هم عليه من الاختلاط واندساس المنافقين
بينهم وعدم معرفة المؤمنين للمنافقين؛ لذلك يميز ويظهر الخبيث من الطيب.
فلا يكتفي بإخبار النبي بأمر الخبثاء فقطـ، ولكنه يكشف الخبثاء بفعل واقعي. فيقول:
} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ {؛ لأن الله لو أطلعكم على
الغيب لتعرفوا المنافقين لأنكروا أنفسهم منكم وستروها عنكم، ولذلك يجري سبحانه
الوقائع لتكشف الخبيث من الطيب، وبعد ذلك يوصم المنافق بالنفاق بإقرار نفسه وإقرار
فعله.
} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ {. إنه جل وعلا يختار من رسله من يشاء
ليطلعهم على بعض الغيب حتى يزدادوا ثقة في أن الله لا يتخلّى عنهم، أي يعطي للرسول
دلالات على المنافقين، حتى يزداد الرسول ثقة في أن الله لا يتخلّى عنه.
والله برحمته لا يكشف الغيب لكل المؤمنين، فلو اطلع المؤمن على الغيب لفسدت أمور
كثيرة في الكون. وَهَبْ أن الله أطلع الإنسان على غيب حياته، فعرف الإنسان ألف
حادثة سارة ثم حادثة واحدة مكدرة؛ فإن كدر الإنسان بالحادثة الواحدة المكدرة التي
تقع بعد عشرين عاماً يفسد على الإنسان تنعمه بالأحداث السارة.
وإن كان الإنسان يريد أن يطلع على غيب الناس فهل يقبل أن يطلع على غيبه أحد؟
فلماذا تريد أيها الإنسان أن تعرف غيب غيرك؟ أيرضى أي واحد منا أن يعرف الناس
غيبه؟ لا. إذن فستر المعلومات عن الناس وجعلها غيباً هي نعمة كبرى.
ومع ذلك فالناس تُلح أن تعرف الغيب. ونرى من يجري على الدجالين والعرافين ومن
يدعون كذباً أنهم أولياء لله، وكل ذلك من أجل أن يعرف الواحد بعضاً من الغيب. وهنا
نقول: ليست مهارة العارف في أن يقول لك ماذا سيحدث لك في المستقبل، لكنها في أن
يقول واحد من هؤلاء المدّعين لمعرفة الغيب: إن حادثاً مكروهاً سيقع لك، وسأمنعه أو
أدفعه بعيداً عنك. لا أحد يستطيع دفع قدر الله, ولذلك فلنترك المستقبل إلى أن يقع.
لماذا؟ حتى لا يحيا الواحد منا في الهم والحزن قبل أن يقع. إذن فقول الحق: } وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ { هو سنة من الله لأن نظام الملك
ينتظم بها ويحتاج إليها.
فكل إنسان له هزات مع نفسه، وقد تأتي له فترة يضعف فيها في شيء من الأشياء، فإذا
ما عرف الغير منطقة الضعف في إنسان ما، وعرف هذا الإنسان منطقة الضعف في أخيه،
فلسوف يبدو كل الناس في نظر بعضهم بعضا ضعافاً. ومن فضل الله أن أخفى غيب الناس عن
الناس. وجعل الله إنساناً ما قوياً فيما لا نعلم، وذلك قويَّا فيما لا نعلم، وبذلك
تسير حركة الحياة بانتظامها الذي أراده الله.
} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ { والحق يجتبي من الرسل، أي بعضاً من الرسل -
لا كل الرسل - ليطلعهم على الغيب حتى يعطي لهم الأمان بأنهم موصولون بمن أرسلهم،
فهو سبحانه لم يرسلهم ليتخلّى عنهم، لا، إنهم موصولون به؛ لذلك يطلعهم على الغيب،
وقلنا: إن الغيب أنواع: فمطلق الغيب: هو ما غاب عنك وعن غيرك.
ولكنَّ هناك غيباً غائباً عنك وهو معلوم لغيرك، وهذا ليس غيباً.
مثال ذلك إن ضاعت من أحدكم حافظة نقوده، وسارقها غيب، ومكانها غيب عن صاحبها، لكن
الذي سرقها عارف بمكانها، إذن فهذا غيب على المسروق، ولكنه ليس غيباً على السارق.
لأنه ليس غيباً مطلقاً، وهذا ما يضحك به الدجالون على السذج من الناس، فبعض من
الدجالين والمشعوذين قد يتصلون بالشيطان أو الجن؛ ويقول للمسروق حكاية ما عن الشيء
الذي سُرق منه هؤلاء المشعوذون لا يعرفون الغيب؛ لأن الغيب المطلق هو الذي لا
يعلمه أحد، فقد استأثر به الله لنفسه.
ومثال آخر: الأشياء الابتكارية التي يكتشفها البشر في الكون، وكانت سراً ولكن الله
كشف لهم تلك الأشياء، وقد يتم اكتشافها على يد كفار أيضاً. فهل قال أحدٌ: إنهم
عرفوا غيباً؟ لا؛ لأن لمثل هذا الغيب مقدمات، وهم بحثوا في أسرار الله، ووفقهم
سبحانه أن يأخذوا بأسبابه ما داموا قد بذلوا جهداً، والله يعطي الناس - مؤمنهم
وكافرهم - أسبابه. وما داموا يأخذون بها فهو يعطيهم المكافأة على ذلك. ولله المثل
الأعلى، وسبحانه منزه عن كل تشبيه، أقول لكم هذا المثل للتقريب:
المدرس الذي يعطي تمرين هندسة للتلميذ ليقوم بحله، فهل مجيء الحل غيب.؟ لا؛ لأن
التلميذ يعرف كيف يحل التمرين الهندسي؛ لأن فيه المعطيات التي يتدبر فيها بأسلوب
معين فتعطى النتيجة. وما دام التلميذ يخرج بنتيجة لتمرين ما بعد معطيات أخذها،
فذلك ليس غيباً.
ولذلك فعلينا أن نفطن إلى أن الغيب هو ما غاب عن الكل، وهذا ما استأثر الله بعلمه
وهو الغيب المطلق، وهو سبحانه وتعالى يطلع عليه بعضاً من خلقه من الرسل، وهو
سبحانه القائل:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً *
إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ }[الجن: 26-27]
وأما الأمر المخفي في الكون، وكان غيباً على بعض من الخلق ثم يصبح مشهداً لخلق
آخرين فلا يقال إنه غيب، وعرفنا ذلك أثناء تناولنا بالخواطر لآية الكرسي:{ اللَّهُ
لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ
نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ }[البقرة: 255]
إن الحق سبحانه قد نسب هنا الإحاطة للبشر، ولكن بإذن منه، فهو يأذن للسر أن يولد،
تماماً كما يوجد للإنسان سلالات ولها أوقات معلومة لميلادها، كذلك أسرار الكون لها
ميلاد.
وكل سر في الكون له ميلاد، هذا الميلاد ساعة يأتي ميعاده فإنه يظهر، ويحيط به
البشر. فإن كان العباد قد بحثوا عن السر وهم في طريق المقدمات ليصلوا اليه ووافق
وصولهم ميعاد ميلاده، يكونوا هم المتكشفين له. وإن لم يحن ميعاد ميلاد هذا السر
فلن يتم اكتشافه واذا حان ميلاد السر ولم يوجد عالم معملي يأخذ بالأسباب والمقدمات
فالله يخرج هذا السر كمصادفة لواحد من البشر. وحينئذ يقال: إن هذا السر قد ولد
مصادفة من غير موعد ولا توقع.
وأسرار الله التي جاءت على أساسها الاكتشافات المعاصرة، كثير منها جاء مصادفة.
فالعلماء يكونون بصدد شيء، ويعطيهم الله ميلاد سر آخر. إذن فليس كل اكتشاف ابناً
لبحث العلماء في مقدمات ما، ولكن العلماء يشتغلون من أجل هدف ما، فيعطيهم الله
اكتشاف أسرار أخرى؛ لأن ميلاد تلك الأسرار قد جاء والناس لم يشتغلوا بها. ويتكرم
الله على خلقه ويعطيهم هذه الأسرار من غير توقع ولا مقدمات.
ويستمر سياق الآية } فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ
وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ { وهو سبحانه يخاطب المؤمنين. والحق سبحانه
وتعالى إذا خاطب قوماً بوصف، ثم طلب منهم هذا الوصف فما معناه؟. ومثال ذلك قول
الحق سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ }[النساء: 136]
إنهم مؤمنون، والحق قد ناداهم بهذا الوصف. معنى ذلك أنه يطلب منهم الالتزام
بمواصفات الإيمان على مر الأزمان لان الايمان هو يقين بموضوعات الايمان في ظرف
زمني والأزمان متعاقبة لأن الزمن ظرف غير قارٍ. و " غير قارٍ " تعني أن
الحاضر يصير ماضياً، والحاضر كان مستقبلاً من قبل. فالماضي كان في البداية
مستقبلاً، ثم صار حاضراً، ثم صار ماضياً. والزمن " ظرف " ، ولكنه ظرف
غير قار.. أي غير ثابت. لكن المكان ظرف ثابت قار. فكأن الله يخاطبك: إن الزمن الذي
مر قبل أن أخاطبك شُغِل بإيمانك، والزمن الذي يجيء أيضاً اشغله بالإيمان.
ّإذن معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا داوموا على إيمانكم. } وَإِن تُؤْمِنُواْ
وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ { ولنا أن نتصور عظمة عطاء الحق، فالمنهج
الإيماني يعود خيره على من يؤديه، ومع ذلك فالله يعطي أجراً لمن اتبع المنهج. إذن
فعندما يضع الحق سبحانه وتعالى منهجاً فإنه قد فعله لصالح البشر وأيضاً يثيبهم
عليه، وهو يقول:{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا * وَمَنْ
أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمَىا }[طه: 123-124]
إن المتَّبع للمنهج يأخذ نفعه ساعة تأدية هذا المنهج. ويزيد الله فوق ذلك انه
سبحانه يعطي المتبع للمنهج أجراً، وهذا محض الفضل، وقلنا من قبل: إن العمر الذي
يمده الله للكافرين والمنافقين ليس خيراً. إذن فعلى الناس أن يأخذوا المسائل
والأزمنة بتبعات وآثار ونتائج ما يحدث فيها.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ
اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... {
(/570)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
لقد ظن بعض من المنافقين والكفار أن طول العمر ميزة لهم، وها نحن أولاء بصدد قوم
آخرين ظنوا أن المال الذي يجمعونه هو الخير فكلما زاد فرحوا. فيقول الحق: { وَلاَ
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ }. فالمال
قد جاءهم من فضل الله، ذلك بأنهم دخلوا الدنيا بغير جيوب. ولا أحد فينا قد رأى كفناً
له جيوب. ولا أحد فينا قد رأى قماط طفل وليد له جيوب. فالإنسان يدخل الدنيا بلا
جيب، ويخرج بلا جيب. وكل ما يأتي للإنسان هو من فضل الله، فلا أحد قد ابتكر
الأشياء التي يأتي منها الرزق. ويمكن أن تبتكر من رزق موجود. فتطور في الوسائل
والأسباب وللإنسان جزء من الحركة التي وهبها الله له ليضرب في الأرض، ولكن لا أحد
يأتي بأرض من عنده ليزرع فيها، ولا أحد يأتي ببذور من عنده لم تكن موجودة من قبل
ويزرعها، ولا أحد يأتي بماء لم يوجد من قبل ليروي به، فالأرض من الله، والبذور
عطاء من الله، والماء من رزق الله، وحتى الحركة التي يتحرك بها الإنسان هي من فضل
الله.
فبالله لو أراد إنسان أن يحمل الفأس ليضرب في الأرض ضربة، فهل يعرف الإنسان كم
عضلة من العضلات تتحرك ليرفع الفأس؟ وكم عضلة تتحرك حين ينزل الفأس؟!!
وعندما يضرب الإنسان الفأس. فهو يضربها في أرض الله. والذي أراد لنفسه فأساً فإنه
يذهب إلى الحداد ليصنعها له، لكن هل سأل الإنسان نفسه من أين أتى الحديد؟ وفي هذه
قال الحق:{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
}[الحديد: 25]
إذن فماذا تُوجد أنت أيها الإنسان؟
أنت تأخذ المواد الخام الأولية من عند الله، وتبذل فيها الحركة الممنوحة لك من
الله، وأنت لا توجد شيئاً من معدوم؛ بل إنك توجد من موجود، فكل شيء من فضل الله.
وأنت أيها الإنسان مضارب في كون الله. فعقلك الذي يفكر، من الذي خلقه؟ إنه الله.
وجوارحك التي تنفعل للعقل من الذي خلقها؟ إنه الله.
وجوارحك تنفعل في منفعل هو الأرض، بآلة هي الفأس، ثم ترويها بماء هو نازل من
السماء. فما الذي هو لك أيها الإنسان؟ إن عليك أن تعرف أنه ليس لك شيء في كل ذلك،
إنما أنت مضارب لله. فلتعطه حق المضاربة.
والحق سبحانه لايطلب إلا قدراً بسيطاً من نتاج وثمرة الأرض.. إن كانت تروي بماء
السماء فعليك عشر نتاجها. وإن كانت الأرض تروي بآلة الطنبور أو الساقية فعليك نصف
العشر.
والذي يزرع أرضا فإنه يحرثها في يوم، ويرويها كل أسبوعين.
أما الذي يتاجر في صفقات تجارية فهي تحتاج إلى عمل في كل لحظة، لذلك فإن الحق قدّر
الزكاة عليه بمقدار اثنين ونصف بالمائة.
إذن فكلما زادت حركة الإنسان قلل الله قدر الزكاة. وهذه العملية على عكس البشر.
فكلما زادت حركته. فإنهم يأخذون منه أكثر!!
والله سبحانه يريد أن توجد الحركة في الكون؛ لأنه إن وجدت الحركة في الكون انتفع
الناس وإن لم يقصد التحرك. وبعد ذلك فأين يذهب الذي يأخذه الله منك؟. إنه يعطيه
لأخ لك ولغيره. فما دام سبحانه يعطي أخاً لك وزميلاً لك من ثمرة ونتيجة حركتك، ففي
هذا اطمئنان وأمان لك، لأن الغير سيعطيك لو صرت عاجزاً غير قادر على الكسب. وفي
هذا طمأنينة لأغيار الله فيك. فإن جاءت لك الأغيار فستجد أناساً يساعدونك، وبذلك
يتكاتف المجتمع, وهذا هو التأمين الاجتماعي في أرقى معانيه. إذن فهذا كله من فضل
الله.
} وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ
هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ { إن الذين يبخلون بفضل الله يظنون
أن البخل خير لمجرد أنه يكدس عندهم الأموال، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن الحق يقول: }
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ { أي أن ما بخلوا به يصنعه
الله طوقاً في رقبة البخيل، وساعة يرى الناس الطوق في رقبة البخيل يقولون: هذا منع
حق الله في ماله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يصور هذه المسألة تصويراً دقيقاً حين يبين لنا أن من
يُطلب منه حق الله ولم يؤده، يأتي المال الذي منعه وضن وبخل به يتمثل لصاحبه يوم
القيامة " شجاعاً أقرع " وهو ثعبان ضخم، ويطوق رقبته. قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا
أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - يقول: " أنا
مالُك أنا كنزك " ثم تلا قوله تعالى: } وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ { إلى آخر الآية ".
إذن فالذي يدخر بخلاً على الله فهو يزيد من الطوق الذي يلتف حول رقبته يوم
القيامة.
} وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ { نعم فلله ميراث السماوات والأرض، ثم يضعها فيمن يشاء، فكل ما في الكون
نسبته إلى الله، ويوزعه الله كيفما شاء. إن الإيمان يدعونا ألاّ ننتظر بالصدقة إلى
حالة بلوغ الروح الحلقوم، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: " إن تصدّق
وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم: "
لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان " لانه عند وصول الروح الى الحلقوم لا
يكون له مال.
قول الحق: } وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ { قضية تجعل القلب يرتجف خوفاً
ورعباً، فقد يدلس الإنسان على البشر، فتجد من يتهرب من الضرائب ويصنع تزويراً
دفترين للضرائب، واحداً للكسب الصحيح وآخر للخسارة الخاطئة ويكون هذا المتهرب من
الضرائب يملك المال ثم ينكر ذلك، هذا الإنسان عليه أن يعرف أن الله خبير بكل ما
يعمل. وبعد ذلك يقول الحق: } لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ... {
(/571)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
روى - في سبب نزول هذه الآية الكريمة: قال سعيد بن جُبير عن ابن عباس - رضي الله
عنهما - لما نزل قوله تعالى: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } قالت اليهود: يا محمد افتقر ربك، فسأل
عباده القرض؟ فأنزل الله { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ }.
والذين عايشوا الإسلام في المدينة كانوا من اليهود. واليهود كما نعرف كانوا
يَدِلون ويفخرون على العالم بأنهم أهل كتاب وعلم ومعرفة، ويدلون على البيئة التي
عاشوا فيها أنهم ملوك الاقتصاد كما يقولون الآن عن أنفسهم. كل من يريد شيئاً يأخذه
من اليهود. وكانوا يبنون الحصون ويأتون بالأسلحة لتدل على القوة. وجاء الإسلام
وأخذ منهم هذه السيادات كلها، ثم تمتعوا بمزايا الإسلام من محافظة على أموالهم
وأمنهم وحياتهم.
أكان الإسلام يتركهم هكذا يتمتعون بما يتمتع به المسلمون أمناً واطمئناناً، وسلامة
أبدان وسلامة أموال ثم لا يأخذ منهم شيئاً؟ لقد أخذ منهم الإسلام الجزية. فلم يكن
من المقبول أن يدفع المسلم الزكاة ويجلس اليهود في المجتمع الإيماني دون أن يدفعوا
تكلفة حمايتهم. ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا أبو بكر الصديق الى اليهود
في المكان الذي يتدارسون فيه فعن ابن عباس قال: دخل ابو بكر الصديق بيت المدراس
فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم
وأحبارهم ومعه حبر يقال: أشيع، فقال له أبو بكر: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم،
فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله من عند الله قد جاء بالحق من عنده، تجدونه
مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله
من حاجة من فقر، إنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه
لأغنياء، ولو كان عنّا غنيَّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا
ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر - رضي الله عنه - فضرب وجه
فنحاص ضربا شديداً، وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت
عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين.
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: يا محمد أبصر
ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما حملك على ما صنعت
يا أبا بكر "؟ فقال يا رسول الله: إن عدوّا الله قال قولا عظيما، يزعم أن
الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجَهه, فجحد
فنحاص ذلك وقال: ما قلت ذلك.
فأنزل الله فيما قال فنحاص } لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ
إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ {.
هؤلاء لم يفطنوا إلى سر التعبير الجميل في قوله سبحانه:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ
اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }[الحديد: 11]
فإن هذا القول هو احترام من الحق - سبحانه - لحركة الإنسان في التملك. لماذا احترم
الله حق الإنسان في التملك؟ هو سبحانه يريد أن يغري المتحرك بزيادة الحركة، ويحمل
غير المتحرك على أن يتحرك. فإن طلب سبحانه شيئاً من هذا المال فهو لا يقول
للإنسان: أعطي ما أعطيت لك. بل كأنه سبحانه يقول: إنني سأحترم عرقك، وسأحترم
حركتك، وسأحترم فكرك، وسأحترم جوارحك وطاقاتك وكل ما فيك، فإن أخذتُ منك شيئاً فلن
أقول لك أعطني ما أعطيت لك، لكن أقول لك: أقرضها لي؛ وإن أقرضتها فسوف تقرضها لا لأنتفع
بها، ولكنها لأخيك. وقد اقترض من القادر فيما بعد وذلك لك أنت إذا أصابتك الحاجة.
لماذا لأنني أنا الله الذي استدعيت خلقي إلى الوجود. وما دمت أنا الله الذي
استدعيت الخلق إلى الوجود فأرزاقهم مطلوبة مني.
إن الواحد من البشر عندما يدعو اثنين من أصدقائه فهو يصنع طعاماً يكفي خمسة أو عشر
أشخاص. وما دام الله هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود فهو الذي يكفل لهم الرزق.
وعندما يكفل لهم الرزق فلا بد أن يتحركوا. وعندما يتحركون فهو سبحانه يضمن آثار
الحركة، وذلك حتى ينال كلٌ ما يرضيه، أو على الأقل ما يكفيه من الضروريات.
ولذلك عندما جاءت آثار الحركة من المال وتدخل البشر فيها تأميماً وغير ذلك من
الإجراءات قلّت الحركة. لكن الله سبحانه وتعالى يعلم حرص الإنسان على منفعة نفسه
فيغريه بذلك حتى يتحرك وسينتفع المجتمع بحركته، سواء قصد الإنسان أو لم يقصد. إذن
فحين يقترض الحق سبحانه وتعالى من بعض خلقه لبعض خلقه، فهو سبحانه لا يتراجع فيما
وهب. بل يقول جل وعلا:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }[الحديد: 11]
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نحن البشر قد نضطر إلى هذا الموقف؛ فالواحد
منا عندما يعطي أبناءه مصروف اليد، فكل ابن يدخر ما يبقى منه، وبعد ذلك يأتي ظرف
لبعض الأبناء يتطلب مالاً ليس في مُكنْة الوالد ساعة يأتي الحدث. فيقول الوالد
لأبنائه: أقرضوني ما في " حصّالاتكم " ، وسأردها لكم مضاعفة، هو أخذها
لأخيهم، لكن لأنه الذي وهب أولاً فلم يرجع في الهبة، لكنه طلبها قرضاً. وعندما
يأتي أول الشهر فهو يرد القرض مضاعفاً، فإن كان ذلك ما يحدث في مجال البشر فما
بالنا بما يحدث من الخالق الوهاب لعباده؟.
هو سبحانه يقول: } مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً {.
لكن اليهود لم يأخذ المسألة بهذا الفهم، لكنه أخذها بغباء المادة فقال: إن الله
فقير ونحن أغنياء. لذلك قال الحق سبحانه: } لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا
قَالُواْ {.
ولماذا يكتب الله ذلك وهو العالم بكل شيء؟. جاء هذا القول ليدل على التوثيق أيضاً،
فعندما يأتي هذا الرجل ليقرأ كتابه يوم القيامة يجدها مكتوبة؛ فالكتابة لتوثيق ما
يمكن أن يُنكر - بالبناء للمجهول - فإذا كان العلم من الله فقط فالعبد قد يقول:
إنك يارب الذي تعاقب. فلك أن تقول ما تقول. فإذا ما كان مكتوباً عليهم ليقرأوه.
فهذا توثيق لا يمكن إنكاره.
ولم يفهم ذلك اليهودي أن القرض لله هو تلطف من الحق سبحانه وتعالى واستدرار لحنان
الإنسان على الإنسان. فقد شاء الحق أن يحترم أثر مجهودك وعرقك أيها الإنسان، فإن
وصلت إلى شيء من المال فهو مالك. ولم يقل الله لك: أعط أخاك، فسبحانه وتعالى
تلطفاً مع خلقه يقول: أقرضني؛ ليضمن الإنسان أن ما أعطاه إنما هو عند ملئ. لكن أدب
بني إسرائيل مع الله مفقود، فقد قالوا من قبل:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ
مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ }[المائدة: 64]
وسبب ذلك إنه أصابتهم سنة وجدب, وذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: " إن الله وسع على اليهود في الدنيا حتى كانوا أكثر الناس
مالا، فلما عصوا الله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيّق الله عليهم في
زمنه صلى الله عليه وسلم، فقال فنحاص بن عازوراء ومن معه من يهود: يد الله مغلولة
فأنزل الله هذه الآية. إنهم قالوا: السماء بخلت علينا ويد الله مغلولة، فلم تعطنا
رزقاً. وهكذا كان اجترأوا عليه بكلمة أو على أصحابه باستهزاء، فسبحانه يوضح لرسوله:
أنهم لم يصنعوا ذلك معك ولا مع أتباعك، إن هذا هو موقفهم مني أنا, فإذا كان موقفهم
وسوء أدبهم وصل بهم إلى أن يجترئوا على الذات المقدسية العليّة، ويقولون: } إِنَّ
اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ { ويقولون: } يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ {.
أفتحزن وتأسى على أن يقولوا لك أو لأتباعك أي شيء يسيء إليكم؟
إنها نعمت المواساة من الله لرسوله ونعمت التسلية. ويضيف الحق: } سَنَكْتُبُ مَا
قَالُواْ {. لماذا يكتب الله ما قالوا مع أن علمه أزلي لا يُنسى؟{ لاَّ يَضِلُّ
رَبِّي وَلاَ يَنسَى }[طه: 52]
لقد جاءت كلمة " سنكتب " حتى لا يؤاخذهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بما
يقول هو إنهم فعلوه، ولكن بما كتب عليهم وليقرأوه بأنفسهم، وليكون حجة عليهم، كأن
الكتابة ليست كما نظن فقط، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد
كل إنسان ما فعله مسطوراً:
{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىا بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }[الإسراء:
14]
وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه، وإذا
كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل
الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها
أو ينكرها؟ } سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ { وهم قالوا: } إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ { وهذا معصية في القمة، وتبجح على الذات العلية، ولم يكتفوا
بذلك بل قتلوا الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم؛ لذلك يقول الحق: } سَنَكْتُبُ
مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ {.
وعندما يأتي هذا النبأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له من الحق
سبحانه. لقد قالوا في ربك يا محمد ما قالوا، وقتلوا الأنبياء إخوانك، فإذا صنعوا
معك ما صنعوا فلا تحزن فسوف يُجازَوْن على ما كتبناه عليهم بشهادة أنفسهم، ونقول:
ذوقوا عذاب الحريق. والحريق يصنع إيلاماً إحساسياً في النفس.
والإحساس يختلف من حاسة إلى أخرى، فمرة يكون الإحساس بالبصر، ومرة بالأذن، ومرة
بالشم أو باللمس أو بالذوق.
والذوق هو سيد الأحاسيس، فهو لا يضيع من أحد أبداً، فقد نجد إنساناً أعمى، وآخر
أصم، أو شخصاً ثالثاً أصيب بالشلل فلا تستطيع يده أن تلمس، وقد يصاب واحد بزكام
مستمر فلا يصبح قادراً على الشم، أما الذوق فهو حاسة لا تختفي من أي إنسان، لذلك
أن الذوق أمر من داخل الذات؛ لذلك فهو أبلغ في الإيلام. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول:{
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112]
انظر إلى التعبير القرآني } فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ {.
جاء التعبير بالإذاقة، وجاء بشيء لا يذاق وهو اللباس. وهل اللباس يذاق؟ لا، لكنه
سبحانه يريد ان ينبه الإنسان إلى أن كل الحواس التي فيه تحس، حتى تلك الحاسة
المختفية داخل النفس، إنّ ذلك يَشمل كل جزء في الإنسان.
فالإذاقة تحيط بالإنسان في هذا التصوير البياني القرآني الكريم: } فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ {. إذن فهي شدة وقع الإيلام؛ واستيعاب
العذاب المؤلم لكل أجزاء الجسم حتى صار الذوق في كل مكان. } ذُوقُواْ عَذَابَ
الْحَرِيقِ { ، والحريق هو النار القوية التي تحرق ومن بعذ ذلك يقول الحق: }
ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ... {
(/572)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
{ ذالِكَ } إشارة إلى عذاب الحريق. والحق سبحانه لم يظلمهم، لكنهم هم الذين ظلموا
أنفسهم. { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } فهل معنى ذلك أن كل المعاصي من تقديم
اليد؟ إن هناك معصية للعين، ومعصية للسان، ومعصية للرجل، ومعصية للقلب، ولا حصر
للمعاصي. فلماذا إذن قال الحق: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ }؟
قال الحق ذلك لأن الأعمال الظاهرة تٌمارس عادة باليد؛ فاليد هي الجارحة التي نفعل
بها أكثر أمورنا، وعلى ذلك يكون قول الحق: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } مقصود
به: بما قدمتم بأي جارحة من الجوارح.
وبعد ذلك يخبرنا سبحانه: { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } لقد
أذاقهم عذاب الحريق نتيجة ما كتبه عليهم؛ من قول وفعل. والقول هو الافتراء باللسان
حين قالوا: { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ }. والفعل هو قتلهم
الأنبياء. فهم يستحقون ذلك العذاب.
والقضية العامة في الإله وعدالة الإله أنه ليس بظلام للعبيد.
وهنا وقفة لخصوم الإسلام من المستشرقين، هم يقولون: الله يقول في قرآنهم { وَأَنَّ
اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ، وكلمة " ظلام " هي مبالغة
في كلمة " ظالم " ، ففيه " ظالم " وفيه " ظلاّم " ،
و " الظَّلاّم " هو الذي يظلم ظلماً قوياً ومتكرراً؛ فـ " ظلاّم
" هي صيغة مبالغة في " ظالم ".
وحين نرد عليهم لا بد لنا أن نعرف أن صيغ المبالغة كثيرة، فاللغويون يعرفون أنها:
فعّال، فعيل، مفعال، فعول، فَعِل، فظلاَّم مثلها مثل قولنا: " أكَّال "
، ومثل قولنا: " قتَّال " بدلاً من أن نقول: " قاتل " فالقاتل
يكون قد ارتكب جريمة القتل مرة واحدة، لكن الـ " قتَّال " هو من فعل
الجريمة مرات كثيرة وصار القتل حرفته. ومثل ذلك " ناهب " ، ويقال لمن
صار النهب حرفته: " نَهَّاب " أي أنه إن نهب ينهب كثيراً، ويعدد النهب
في الناس.
وهذه تسمى صيغة المبالغة. وصيغة المبالغة إن وردت في الإثبات أي في الأمر الموجب
فهي تثبت الأقل، فعندما يقال: " فلان ظلاّم " فالثابت أنه ظالم أيضاً،
لأننا ما دمنا قد أثبتنا المبالغة فإننا نثبت الأقل. ومثل ذلك نقول: " فلان
علاّم " أو " فلان علاّمة " فمعنى ذلك أن فلاناً هذا عالم. ولكن
إذا قلنا: " فلان عالم " فلا يثبت ذلك أنه " علاّمة ". فصيغة
المبالغة ليس معناها " اسم فاعل " فحسب، إنها أيضاً اسم فاعل مبالغ فيه،
لأن الحدث يأتي منه قوياً، أو لأن الحدث متكرر منه ومتعدد. فإذا ما أثبتنا صفة
المبالغة فمن باب أولى تثبت صفة غير المبالغة, فإذا ما قال واحد: " فلان
أكّال " فإنه يثبت لنا أنه آكل، هذا في الإثبات.
والأمر يختلف في النفي. إننا إذا نفينا صفة المبالغة تثبت الصفة التي ليس فيها
مبالغة من باب أولى. أما إذا نفيت صفة المبالغة فلا يستلزم ذلك نفي الصفة الأقل.
والتذليل للآية التي نحن بصددها الآن هو } وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ
لِّلْعَبِيدِ {.
يفهم المستشرقون من هذا القول أنه مجرد نفي للمبالغة في الظلم, لكنها لم تنف عنه
أنه ظالم ولم يفهم المستشرقون لماذا تكون المبالغة هنا: إن الحق قد قال: إنه ليس
بظلاَّم للعبيد، ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد. ومعنى ذلك أنه ليس بظلام للعبيد من
أول آدم إلى أن تقوم الساعة، فلو ظلم كل هؤلاء - والعياذ بالله - لقال إنه ظلام،
حتى ولو ظلم كل واحد أيسر ظلم. لأن الظلم تكرر وذلك بتكرر من ظُلِم وهم العبيد،
فإن أريد تكثير الحديث فليفطن الغبي منهم إلى أن الله قال: } وَأَنَّ اللَّهَ
لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ { ولم يقل إنه ليس بظلام للعبد.
وإذا كان الظالم لا بد أن يكون أقوى من المظلوم، أذن فكل ظلم يتم تكييفه بقوة
الظالم. فلو كان الله قد أباح لنفسه أن يظلم فلن يكون ظالماً؛ لأن عظم قوته لن
يجعله ظالماً بل ظَلاَّما.
فإن أراد الحدث فيكون ظلاماً، وإن أردنا تكراراً للحدث فيكون ظلاماً. وحين يحاول
بعض المستشرقين أن يستدركوا على قول الحق: } وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ
لِّلْعَبِيدِ { فهذا الاستدراك يدل على عجز في فهم مرامي الألفاظ في اللغة أو أنّ
هؤلاء يعلمون مرامي الألفاظ ويحاولون غش الناس الذين لا يملكون رصيداً لغوياً يفهمون
به مرامي الألفاظ. ولكن الله سبحانه وتعالى يُسخر لكتابه من ينبه إلى إظهار إعجازه
في آياته.
وبعد أن انتهى الحق من غزوة أُحُد، فهو سبحانه يريد أن يقرر مبادئ يبين فيها
معسكرات العداء للإسلام: معسكر أهل الكتاب، ومعسكر مشركي قريش في مكة، ومعسكر
المشركين الذين حول المدينة وكانوا يغيرون على المدينة.
فبعد غزوة أُحٌد التي صفّت، وربّت، وامتحنت وابتلت، وعرّفت الناس قضايا الدين،
أراد الحق بعدها أن يضع المبادئ.
فأوضح القرآن: أن هؤلاء أعداؤكم؛ تذكروهم جيداً، قالوا في ربكم كذا، ويقولون في
رسولكم كذا، وقتلوا أنبياءكم.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: } الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ
إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىا يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ
النَّارُ... {
(/573)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
هم يدّعون ذلك ويقولون: ربنا قال لنا هذا في التوراة؛ إياكم أن تؤمنوا برسول يأتيكم،
حتى يأتيكم بمعجزة مُحسة، هذه المعجزة المُحسّة هي أن يقدم الرسول قرباناً فتنزل
نار من السماء تأكله.
هذا كان صحيحاً، وكلنا نسمع قصة قابيل وهابيل:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ
ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ
أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ }[المائدة: 27-28]
ونريد أن نقبل على القرآن ونتدبر: لماذا جاء هذا اللفظ: { فَتُقُبِّلَ مِن
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ }؟ إن القبول من الله، وهو مسألة
سرية عنده، فكيف نعرف نحن أن الله تقبل أو لم يتقبل؟ لا بد أنه الله قد جعل للقبول
علامة حسية. ونحن نعرف أن الإنسان قد يعمل عملاً فيقبله الله، ونجد إنساناً آخر قد
يعمل عملاً ولا يقبله الله والعياذ بالله، فمن الذي أعلمنا أن الله قد قبل عمل
إنسان وقربانه، ولم يقبل عمل الآخر وقربانه؟.
وبما أن القبول سر من أسرار الله إذن فلن نعرف علامة القبول إلا إذا كانت شيئاً مُحساً،
بدليل قوله: { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ }.
وقال الذي لم يتقبل الله قربانه: { لأَقْتُلَنَّكَ } كأن الذي قبل الله قربانه قد
عرف، والذي لم يتقبل الله قربانه قد عرف أيضاً، إذن فلا بد أن هناك أمراً حسياً قد
حدث.
وقلنا: إن الله كان يخاطب خلقه على قدر رشد عقولهم حساً ومعنى؛ ولذلك كانت معجزاته
سبحانه وتعالى للأنبياء السابقين لرسول الله هي من الأمور المُحسة. فالمعجزة التي
آتاها الله لإبراهيم كانت نارا لا تحرق، وعصا سيدنا موسى تنقلب حية، وسيدنا عيسى
عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله. والمعجزة الحسية لها
ميزة أنها تقنع الحواس، ولكنها تنتهي بعد أن تقع لمرة واحدة. لكن المعجزة العقلية
التي تناسب رشد الإنسانية، هي المعجزة الباقية، وحتى تظل معجزة باقية فلا يمكن أن
تكون حسية.
إذن فعندما تأتي معجزة خالدة لرسول هو خاتم الرسل، والذي سوف تقوم القيامة على
المنهج الذي جاء به, هذه المعجزة لا بد أن تكون ذات أمد ممتدّ، والامتداد يناقض
الحسيّة؛ لأن الحسّية تظل محصورة فيمن رآها، والذي لم يرها لا يقولها ولا يؤمن بها
إلا إذا كان على ثقة عظيمة بمن أخبره بها. وابنا آدم، قابيل وهابيل قرّب كل منهما
قربانا.
و " قُربان " مثلها في اللغة مثل " غفران " و " عُدوان
" والقُربان هو شيء أو عمل يتقرب به العبد من الله.
وقبول هذا العمل من البر هو سرّ من أسرار الله. فما الذي أدرى هؤلاء أن قربان
هابيل قد تقبّله الله ولم يتقبل الله قربان قابيل؟ لا بد أن تكون المسألة حسيّة.
ولا بد أن قابيل وهابيل قد اختلفا، ولكن القرآن لم يقل لنا على ماذا اختلفا، إنها
دعوى أن واحداً منهما مُقرّب إلى الله أكثر، ولكن بأي شكل؟ لم يظهر القرآن لنا
ذلك، ولو كانت المسألة مهمة لأظهرها الله لنا في القرآن الكريم، فلا تقل كان الخلاف
على زواج أو غير ذلك. فالذي ظهر لنا من القرآن أن خلافاً قد وقع بينهما أو أنهما
قد حكما السماء. ومبدأ تحكيم السماء لا يستطيع أحد أن ينقضه. وكان لكل واحد منهم
شُبهة. وعندما قامت الشبهة التي لقابيل ضد الشبهة التي لهابيل، فلا إقناع من صاحب
شبهة، ولذلك ذهبا إلى التحكيم.
ونحن في عصرنا الحديث عندما نختلف على شيء فإننا نقول: نجري قرعة. وذلك حتى لا
يرضخ إنسان لهوى إنسان آخر، بل يرضخ الاثنان للقدر، فيكتب كل منهما ورقة ثم يتركان
ثالثا يجذب إحدى الورقتين. أما هابيل وقابيل فيذكر القرآن الكريم: } وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً
فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ {.
إذن فكل واحد منهما كانت له شبهة، ولا أحد منهما بقادر على إقناع الثاني؛ لذلك قال
قابيل بعد أن قبل الله قربان هابيل: } لأَقْتُلَنَّكَ { فماذا قال هابيل؟. قال: }
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {.
إذن فالذي يتقبل الله منه القربان هو الذي سيُقْتل. والذي يملأه الغيظ هو من لم
يتقبل الله قربانه، وهو الذي سوف يَقْتُل. فماذا قال صاحب القربان المقبول:{ لَئِن
بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ
لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }[المائدة: 28]
إذن فهذا أهل لأن يتقبل الله قربانه، لأنه متيقظ الضمير بمنهج السماء، وهذه حيثية
لتقبل القربان.
وحتى لا نظن أن الآخر " قابيل " كله شر لمجرد أن الشهوة سيطرت عليه، لكن
الحق يظهر لنا أن فيه بعض الخير، ودليل ذلك قول الحق:{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ
قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[المائدة: 30]
وهذا القول يدل على أنه تردد، فلا يقال: " طوّعت الماء " ، ولكن يقال
" طوّعت الحديد " ، فكأن الإيمان كان يعارض النفس، إلا أن النفس قد غلبت
وطوّعت له قتل أخيه. وعندما قتل قابيل أخاه وهدأت شرّة الغضب وسُعار الانتقام، رأى
أخاه مُلقى في العراء:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ }[المائدة: 31]
وعلى هذا النسق قال اليهود: إن الله أوصانا ألا نؤمن برسول إلا بعد أن يأتي بمعجزة
من المُحسّات.
لماذا قالوا ذلك؟. قالوا ذلك لأن معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبرى وهي
القرآن الكريم لم تكن من ناحية المحسّات وانتهى عهد الإعجاز بالمحسّات فقط،
فرسولنا له معجزات حسية كثيرة، ونظرا لأن هذه ينتهي إعجازها بانقضائها فكان القرآن
الكريم هو المعجزة الخالدة وهو الذي يناسب الرسالة الخاتمة، فهم طلبوا أن تكون
المعجزة بالمحسّات حتى يصنعوا لأنفسهم شبه عذر في أنهم لم يؤمنوا، فقالوا ما أورده
القرآن:
} الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ
حَتَّىا يَأْتِيَنَا {.. إلخ.
وعلمنا الحق في هذه الآية أن القربان تأكله النار، ومن هذا نستنبط كيف تقبل الله
قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل، لكي نفهم أن القرآن لا يوجد به أمر مكرر.
والحق سبحانه يرينا ردوده الإلهية المقنعة الممتعة:
} قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ
{.. إلخ الآية.
لقد جائكم رسل قبل رسول الله بالقربان وأكلته النار ومع ذلك كفرتم. فلو كان كلامكم
أيها اليهود صحيحاً، لكنتم آمنتم بالرسل الذين جاءوكم بالقربان الذي أكلته النار.
وهكذا يكشف لنا الحق أنهم يكذبون على أنفسهم ويكذبون على رسول الله، وأنها مجرد
" مماحكات " ولجاج وتمادٍ في المنازعة والخصومة.
والحق سبحانه يأمر رسوله أن يسأل: } فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ {؟
هو سبحانه يريد أن يضع لنا قضية توضح أن عهد المعجزات الحسيّة وحدها قد انتهى،
ورُشد الإنسانية وبلوغ العقل مرتبة الكمال قد بدأ؛ لذلك أتى سبحانه يآية عقلية
لتظلّ مع المنهج إلى أن تقوم الساعة. ولو كانت الآية حسيّة لاقتصرت على المعاصر
الذي شهدها وتركت من يأتي بعده بغير معجزة ولا برهان. أما مجيء المعجزة عقلية
فيستطيع أي واحد مؤمن في عصرنا أن يقول: سيدنا محمد رسول الله وتلك معجزته. ولكن
لو كانت المعجزة حسيّة وكانت قربانا ً تأكله النار، فما الذي يصير إليه المؤمن
ويستند إليه من بعد ذلك العصر؟
إن الحق يريد أن يعلمنا أن الذي يأتي بالآيات هو سبحانه، وسبحانه لا يأتي بالآيات
على وفق أمزجة البشر، ولكنه يأتي بالآيات التي تثبت الدليل؛ لذلك فليس للبشر أن يقترحوا
الآية. هو سبحانه الذي يأتي بالآية، وفيها الدليل. لماذا؟ لأن البعض قد قال
للرسول:{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ
يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ
الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ
عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 90-93]
لقد كانت كل هذه آيات حسيّة طلبوها، والله سبحانه وتعالى يرد على ذلك حين قال
لرسوله: إن الذي منعه من إرسال مثل هذه الآيات هو تكذيب الأولين بها:
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا
الأَوَّلُونَ }[الإسراء: 59]
فحتى هؤلاء الذين قالوا: لن نؤمن حتى تأتي بقربان تأكله النار قد جاءهم من قبل من
يحمل معجزة القربان الذي تأكله النار، ومع ذلك كذبوا، إذن فالمسألة مماحكة ولجاج
في الخصومة. ويُسلّي الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وتسلية الله لرسوله هنا تسلية
بالنظير والمثل في الرسل. كأن الحق يوضح: إن كانوا قد كذبوك فلا تحزن؛ فقد كذبوا
من قبلك رسلاً كثيرين، وأنت لست بِدعاً من الرسل.
(/574)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
ويتسامى الحق سبحانه وتعالى بروح سيدنا رسول الله إلى مرتبة العلو الذي لا يرقى
إليه بشر سواه، فيقول:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ }[الأنعام: 33]
فالمسألة ليست مسألتك أنت إنهم يعرفون أنك يا محمد صادق لا تكذب أبداً {
وَلَـاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }. أي هذا الأمر ليس خاصا
بك بل هو راجع إليّ فلا أحد يقول عنك إنك كذّاب هم يكذبونني، الظالمون يجحدون
وينكرون آياتي فالحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هنا للتسلية ويعطيه
الأسوة التي تجعله غير حزين مما يفعله اليهود والمكذبون به فيقول: { فَإِن
كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ
وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } [آل عمران:184 ]
ونعرف أن الشرط سبب في وجود جوابه. فإذا كان الجواب قد حصل قبل الشرط فما الحال؟.
الحق يوضح: إن كذبوك يا محمد فقد كذبوا رسلاً من قبلك. أي أن " جواب الشرط
" قد حصل هنا قبل الشرط وهذه عندما يتلقفها واحد من السطحيين أدعياء الإسلام،
أو من المستشرقين الذين لا يفهمون مرامي اللغة فمن الممكن أن يقول:
إن الجواب في هذه الآية قد حصل قبل الشرط. وهنا نرد عليه قائلين: أقوله تعالى: {
فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ.. } هو جواب الشرط.. أم هو دليل الجواب؟ لقد
جاء الحق بهذه الآية ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
فإن كذبوك فلا تحزن، فقد سبقك أن كَذّب قوم رسلَهم، إنها علة لجواب الشرط، كأنه
يقول:
فإن كذبوك فلا تحزن. إذن فمعنى ذلك أن المذكور ليس هو الجواب، إنما هو الحيثية
للجواب { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَات }.. إلخ.
وعندما نقول: " جاءني فلان بكذا " فقد يكون هو الذي أحضره، وقد يكون هو
مجرد مصاحب لمن جاء به.
ولنضرب هذا المثل للإيضاح - ولله المثل الأعلى - فلنفترض أن موظفاً أرسله رئيسه
بمظروف إلى إنسان آخر، فالموظف هو المصاحب للمظروف.
إذن فالبينات جاءت من الله، لكن هؤلاء الرسل جاءوا مصاحبين ومؤيِّدين بالبينات كي
تكون حُجة لهم على صدق بلاغهم عن الله، { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ
مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ }. أي جاءوا بالآيات الواضحة الدلالة على
المراد. والآيات قد تكون لفتاً للآيات الكونية، وقد تكون المعجزات.
ونعلم أن كل رسول من رسل الذين سبقوا سيدنا رسول الله كانت معجزتهم منفصلة عن
منهجهم، فالمعجزة شيء وكتاب المنهج شيء آخر. " صحف إبراهيم " فيها
المنهج لكنها ليست هي المعجزة؛ فالمعجزة هي الإحراق بالنار والنجاة، وموسى عليه
السلام معجزته العصا وتنقلب حية، وانفلاق البحر، لكن كتاب منهجه هو " التوراة
" ، وعيسى عليه السلام كتاب منهجه " الإنجيل " ومعجزته العلاج
وإحياء الموتى بإذن الله، إذن فقد كانت المعجزة منفصلة عن المنهج، إلا رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ فإن معجزته القرآن، ومنهجه في القرآن، لماذا؟
لأنه جاء رسولاً يحمل المنهج المكتمل وهو القرآن الكريم، ومع ذلك فهو صلى الله
عليه وسلم الرسول الخاتم، فلا بد أن تظل المعجزة مع المنهج؛ كي تكون حُجة، إذن
فقول الحق سبحانه وتعالى: { جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ }: أي المعجزات الدالات على
صدقهم.
} وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ { أي الكتب التي جاءت بالمنهج، فهم يحتاجون
إلى أمرين اثنين: منهج ومعجزة.
و " البينات " هي المعجزة أي الأمور البينة من عند الله وليست من عند أي
واحد منهم، ثم جاء " المنهج " في } الزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ
{. ومعنى " الزِبْر ": الكتاب، وما دام الشيء قد كُتب فقد " زبره
" أي كَتَبَهُ، وهذا دليل على التوثيق أي مكتوب فلا ينطمس ولا يمحى فالزَّبْر
الكتابة، و " الزَّبْر " تعني أيضا الوعظ؛ لأنه يمنع الموعوظ أن يصنع ما
عظم أي يمتنع عن الخطأ وإتيان الانحراف، و " الزَّبْر " أيضا تعني
العقل؛ لأنه يمنع الإنسان من أنْ يرد موارد التهلكة.
والذين يريدون أن يأخذوا العقل فرصة للانطلاق والانفلات، نقول لهم: افهموا معنى
كلمة " العقل " ، معنى العقل هو التقييد، فالعقل يقيدك أن تفعل أي أمر
دون دراسة عواقبه. والعقل من " عَقَلَ " أي ربط، كي يقال هذا، ولا يقال
هذا، ويمنع الإنسان أن يفعل الأشياء التي تؤخذ عليه. و " الزبر " أيضاً:
تحجير البئر؛ فعندما نحفر البئر ليخرج الماء، لا نتركه. بل نصنع له حافة من الحجر
ونبنيه من الداخل بالحجارة. كي لا يُردم بالتراب وكل معاني الزبر ملتقية، فهو
يعني: المكتوبات، والمكتوبات لها وصف، إنّها منيرة، وهذه الإنارة معناها أنها تبين
للسالك عقبات الطريق وعراقيله، كي لا يتعثر.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يسلّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويوضح له: لا تحزن إن
كذبوك؛ فقد كذب رسل من قبلك، والرسل جاءوا بالمنهج وبالمعجزة، وبعد أن يعطي الله
للمؤمنين ولرسول الله مناعة ضد ما يذيعه المرجفون من اليهود وضد ما يقولون، وتربية
المناعة الإيمانية في النفس تقتضي أن يخبرنا الله على لسان رسوله بما يمكن أن
تواجهه الدعوة؛ حتى لا تفجأنا المواجهات ويكشف لنا سبحانه بما سيقولون. وبما
سيفعلونه.
ونحن نفعل ذلك في العالم المادي: إذا خفنا من مرض ما كالكوليرا - مثلاً - ماذا
نفعل؟ نأخذ الميكروب نفسه ونُضْعِفُه بصورة معينة ثم نحقن به السليم؛ كي نربّي فيه
مناعة حتى يستطيع الجسم مقاومة المرض.
ثم بعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بقضية إيمانية يجب أن تظل على بال المؤمن
دائماً. هذه القضية: إن هم كذبوك فتكذيبهم لا إلى خلود؛ لأنهم سينتهون بالموت، فالقضية
معركتها موقوتة، والحساب أخيراً عند الحق سبحانه، ولذلك يقول: } كُلُّ نَفْسٍ
ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... {
(/575)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
ونلاحظ أن كلمة { ذَآئِقَةُ } جاءت أيضاً هنا، ونعرف أن هناك " قتلا "
وهناك " موتا " ، فالموت معناه أعم وهو: انتهاء الحياة سواء أكان بنقض
البنية مثل القتل، أم بغير نقض البنية مثل خروج الروح وزهوقها حتف الأنف، ولذلك
فالعلماء الذين يدققون في الألفاظ يقولون: هذا المقتول لو لم يُقتل، أكان يموت؟
نقول: نعم؛ لأن المقتول ميت بأجله، لكن الذي قتله هل كان يعرف ميعاد الأجل؟ لا.
إذن فهو يُعاقب على ارتكابه جريمة إزهاق الروح، أمّا المقتول فقد كتب الله عليه أن
يفارق الحياة بهذا العمل.
إذن فكل نفس ذائقة الموت إما حتف الأنف وإمّا بالقتل. ولأن الغالب في المقتولين
أنهم شهداء، والشهداء أحياء، لكن الكل سيموت. يقول تعالى:{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ
}[الزمر: 68]
انظروا إلى دقة العبارة: { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } أي إياكم أن تنتظروا نتيجة إيمانكم في هذه الدنيا، لأنكم إن كنتم
ستأخذون على إيمانكم ثوابا في الدنيا فهذا زمن زائل ينتهي، فثوابكم على الإيمان لا
بد أن يكون في الآخرة لكي يكون ثوابا لاينتهي.
ونعرف ما حدث في بيعة العقبة الثانية؛ حينما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الأنصار عهوداً، قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ لم يقل لهم صلى
الله عليه وسلم ستنتصرون أو ستملكون الدنيا، بل قال: " الجنة " قالوا:
ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، فلو وعدهم بأي شيء في الدنيا لقال له أي واحد فطن
منهم: ما أهونها، لذلك عندما قال واحد لصاحبه: أنا أُحبك قدر الدنيا؛ فقال له: وهل
أنا تافه عندك لهذه الدرجة؟ فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إياكم أن تفهموا أن
جزاء الإيمان يكون في الدنيا، لأنه لو كان في الدنيا لكان زائلاً ولكان قليلا
كجزاء على الإيمان، لأن الإيمان وصل بغير منتهٍ وهو الله، فلا بد أن يكون الجزاء
غير منتهٍ وهو الجنة، فقال: { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ }.. وأخذ أهل
اللمح من كلمة " توفون " أن هناك مقدمات؛ لأن معنى " وفيته أجره
" أي أعطيته وبقي له حاجة وأكمل له، نعم هو سبحانه يعطيهم حاجات إيمان، ويكفي
إشراقة الإيمان في نفس المؤمن، فالجواب لا بد أن يكون متمشياً مع منطق من يسمع هذه
الآية؛ فقد يموت من يسمعها بعد قليل في معركة، وما دام قد مات في المعركة فهو لم
ير انتصاراً، ولم ير غنائم ولا أي شي، فماذا يكون نصيبه؟ إنه يأخذ نصيبه يوم
القيامة " توفون " فمن نال منها شيئاً في الدنيا بالنصر، بالغنائم،
بالزهو الإيماني على أنه انتصر على الكفر فهذا بعض الأجر، إنما الوفاء بكامل الأجر
سيكون في الآخرة، لأن كلمة التوفية تفيد أن توفية الأجور وتكميلها يكون في يوم
القيامة، وأن ما يكون قبل ذلك فهو بعض الأجور التي يستحقها العاملون.
ويقول الحق: } فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ {
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " موضع
سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا إن شئتم: } فَمَن زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز "
وعندما تقول: زحزحت فلاناً، معناها أنه كان متوقفا برعب، فكيف يحدث ذلك عند
النار؟. ونعرف أن النار سببها المعصية، والمعصية كانت لها جاذبية للعصاة، ويأتي
الإيمان ليشدهم فتأخذهم جاذبية المعصية، فكذلك يكون الجزاء بالنار. إذن فالنار لها
جاذبية لأنها ستكون في حالة غيظ.. ولذلك يقول ربنا:{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ
الغَيْظِ }[الملك: 8]
النار تتميز من الغيظ على الكافرين. وما معنى تميز من الغيظ؟ أما رأيت قِدْراً
يفور؟ ساعة يفور القدر فإن بعض الفقاقيع تخرج منه وتنفصل عما في القدر، وهذا
" تميز " أي تفترق، والإنسان منا عندما يكون في حالة غيظ تخرج منه أشياء
كفقاقيع غليان القدر إنه يرغي ويزبد أي اشتد غضبه، وهذه الفقاقيع تحرق من يقف
أمامها أو يلمسها، وهي من شدة الفوران تميز بعضها وانفصل عن القدر، كذلك النار،
ولماذا تميز من الغيظ؟ إنها تميز من الغيظ من الكافرين؛ لأنها أصلها مٌسبحة حامدة
شاكرة، وبعد ذلك يقول لها الحق:{ هَلِ امْتَلأَتِ }[ق: 30] وتقول{ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
}[ق: 30]
وذلك مما يدل على أن كلمة: } تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ { حقيقة؛ ولذلك يبين لنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النار لها جاذبية، فالنار إنما كانت نتيجة
المعصية في الدنيا، والمعصية في الدنيا هي التي تجذب العصاة، يقول الرسول صلى الله
عليه وسلم في ذلك: " مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الفراش والجنادب
يَقعْن فيها وهو يذبّهُنّ عنها، وأنا آخذ بِحُجُزكم عن النار وأنتم تَفَلّتُون من
يدي " انظر إلى التشبيه الجميل - حين توقد ناراً في خلاء فأول مظهر هو أن ترى
الفراش والهوامّ والبعوض تأتي على النار، ولذلك يقولون: رُبّ نفس عشقت مصرعها.
لقد جاءت تلك الحشرات على أساس أنها جاءت للنور، إننا نرى ذلك عندما نٌشعِل موقداً
في الخلاء فأنت تجد حوله الكثير من هذه الحشرات صرعى، تلك الحشرات عشقت مصرعها،
إنها قد جاءت إلى النور ولكن النار أحرقتها، كذلك الإنسان العاصي يعشق مصرعه؛ لأنه
لا يعرف أن هذه الشهوة ستدخله النار.
} فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ { أي أن النار لها جاذبية مثل جاذبية المعصية
عندما تأخذ الإنسان، ومجرد الزحزحة عن النار، حتى وإن وقف بينهما لا في النار ولا
في الجنة فهذا حسن، فما بالك إنْ زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ لقد زال منه عطب
وأعطى صالحاً.
وهذه حاجة حسنة، وهذا هو السبب في أن النار مضروب على متنها الصراط الذي سنمر
عليه، لماذا؟ حتى يرى المؤمن النار.. وهو ماشٍ على الصراط التي لو لم يكن مؤمناً
لنزل فيها، فيقول: الحمد لله الذي نجاني من تلك النار.
} فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ { والفوز هو
النجاة مما تكره، ولقاء ما تحب، مجرد النجاة مما تكره نعمة، وأن تذهب بعد النجاة
مما تكره إلى نعمة، فهذا فوز. ونلحظ في } زُحْزِحَ { أن أحداً غيره قد زحزحه. نعم
لأنّ الله تكرّم عليه أولاً في حياته بفيض الإيمان وهو الذي زحزحه عن النار أيضا.
ويذيل الحق الآية بقوله تعالى: } وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ
الْغُرُورِ {.
وعندما يصف الحق سبحانه الحياة التي نعرفها بأنها " دنيا " ففي ذلك ما
يشير إلى أن هناك حياة توصف بأنها " غير دنيا " وغير الدنيا هي "
العليا " ، ولذلك يقول الحق في آية أخرى:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 64]
أي هي الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة؛ لأن الدنيا لا يقاس زمانها ببدايتها إلى
قيام الساعة، لأن تلك الحياة بالنسبة للكون كله، ولكن لكل فرد في الحياة دنيا ليس
عمرها كذلك، وإنما دنيا كل فرد هي مقدار حياته فيها. ومقدار حياته فيها لا يُعلم
أهو لحظة أم يومٍ أم شهر أم قرن. وقصارى الأمر أنها محدودة حداً خاصا لكل عمر،
وحداً عاماً لكل الأعمار.
والمتعة في الدنيا على قدر حظ الإنسان في المتع، فهي على قدر إمكاناته. فإذا نظرنا
إلى الدنيا بهذا المعيار فإن متاعها يعتبر قليلاً، ولهذا لا يصح ولا يستقيم أن
يغتر الإنسان بهذه المتعة متذكراً قول الله:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا
* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7]
فالغرور إذن أن تلهيك متعة قصيرة الأجل عن متعة عالية لا أمد لانتهائها، فحتى لا
يغتر عائش في الدنيا فيلهو بقليلها عن كثير عند الله في الآخرة يجب أن يقارن متعة
أجلها محدود وإن طال زمانها بمتعة لا أمد لانتهائها، متعة على قدر إمكاناتك ومتعة
على قدر سعة فضل الله؛ لذلك كانت الحياة الدنيا متاع غرور ممن غُرّ بالتافه القليل
عن العظيم الجليل.
والله لم يظلم الدنيا فوصفها أنها متاع، ولكن نبهنا إلى أنها ليست المتاع الذي
يُغتَرّ به فيلهي عن متاع أبقى، إنه الخلود. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى
لرسوله ولأتباع رسوله قضية تُنشئ فيهم وتؤكد لهم أن الإيمان وحده خير جزاء للمؤمن،
وإن لم يتأت له في الدنيا شيء من النعيم، ولذلك أراد أن يوطنهم على أن الذين
يدخلون الإيمان، لا يوطِّنون أنفسهم على أن الايمان دائماً منتصر، فلو كان دائماً
منتصراً لوطّن كل واحد نفسه عليه ورضيه لأنه يضمن له حياة مطمئنة؛ لذلك كان لا بد
أن يوضح لهم: أن هناك ابتلاءات. فالقضية الإيمانية أن تبتلوا، وموقع البلاء في
نفوسكم أو في أموالكم، فقال: } لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ
وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً... {
(/576)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
والبلاء في المال بماذا؟ بأن تأتي آفة تأكله، وإن وجد يكون فيه بلاء من لون آخر،
وهي اختبارك هل تنفق هذا المال في مصارف الخير أو لا تعطيه لمحتاج، فمرة يكون
الابتلاء في المال بالإفناء، ومرة في وجود المال ومراقبة كيفية تصرفك فيه، والحق
في هذه الآية قدم المال على النفس؛ لأن البلاء في النفس يكون بالقتل، أو بالجرح,
أو بالمرض. فإن كان القتل فليس كل واحد سيقتل، إنما كل واحد سيأتيه بلاء في ماله.
{ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } هما إذن معسكران للكفر: معسكر اهل الكتاب،
ومعسكر المشركين. هذان المعسكران هما اللذان كانا يعاندان الإسلام، والأذى الكثير
تمثل في محاولة إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأذى الاستهزاء بالمؤمنين، وأهل
الكفر والشرك يقولون للمؤمنين ما يكرهون، فوطّنوا العزم أيها المسلمون أن تستقبلوا
ذلك منهم ومن ابتلاءات السماء بالقبول والرضا.
ويخطئ الناس ويظنون أن الابتلاء في ذاته شرّ، لا. إن الإبتلاء مجرد اختبار،
والاختبار عرضة أن تنجح فيه وأن ترسب، فإذا قال الله: " لتبلون " ، أي
سأختبركم - ولله المثل الأعلى - كما يقول المدرس للتلميذ: سأمتحنك " فنبتليك
" يعني نختبرك في الامتحان، فهل معنى ذلك أن الابتلاء شرّ أو خير؟. إنه شرّ
على من لم يتقن التصرف. فالذي ينجح في البلاء في المال يقول: كله فائت، وقلل الله
مسئوليتي، لأنه قد يكون عندي مال ولا أُحسن أداءه في مواقعه الشرعية، فيكون المال
عليّ فتنة. فالله قد أخذ مني المال كي لا يدخلني النار، ولذلك قال في سورة "
الفجر ":{ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ
وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15-16]
فهنا قضيتان اثنتان: الإنسان يأتيه المال فيقول: ربي أكرمني، وهذا أفضل ممن جاء
فيه قول الحق:{ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً }[القصص: 78]
إذن فالذي نظر إلى المال وظن أنّ الغني إكرام، ونظر إلى الفقر والتضييق وظن انه
إهانه، هذا الإنسان لا يفطن إلى الحقيقة، والحقيقة يقولها الحق: " كلا "
أي أن هذا الظن غير صادق؛ فلا المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة، ولكن
متى يكون المال دليل الكرامة؟ يكون المال دليل كرامة إن جاءك وكنت موفقاً في أن
تؤدي مطلوب المال عندك للمحتاج إليه، وإن لم تؤد حق الله فالمال مذلة لك وإهانة،
فقد اكون غنياً لا أعطى الحق، فالفقر في هذه الحالة أفضل، ولذلك قال الله للاثنين:
" كلا " ، وذلك يعني: لا إعطاء المال دليل الكرامة ولا الفقر دليل
الإهانة.
وأراد سبحانه أن يدلل على ذلك فقال:{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ *
وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىا طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ
أَكْلاً لَّمّاً }[الفجر: 17-19]
} كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ { وما دمتم لا تكرمون اليتيم فكيف يكون
المال دليل الكرامة؟ إن المال هنا وزر، وكيف إن سلبه منك يا من لا تكرم اليتيم
يكون إهانة؟.. إنه سبحانه قد نزهك أن تكون مهانا، فلا تتحمل مسؤلية المال. إذن فلا
المال دليل الكرامة، ولا الفقر دليل الإهانة.
} كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىا طَعَامِ
الْمِسْكِينِ { وحتى إن كنت لا تمتلك ولا تعطي أفلا تحث من عنده أن يُعطي؟ أنت
ضنين حتى بالكلمة، فمعنى تحض على طعام المسكين أي تحث غيرك.. فإذا كنت تضن حتى
بالنصح فكيف تقول إن المال كرامة والفقر إهانة؟.. } كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ
الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىا طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ
التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً { أي تأكلون الميراث وتجمعون في أكلكم بين نصيبكم من
الميراث ونصيب غيركم دون ان يتحرّى الواحد منكم هل هذا المال حلال أو حرام.. فإذا
كانت المسألة هكذا فكيف يكون إيتاء المال تكريماً وكيف يكون الفقر إهانة؟.. لا هذا
ولا ذاك.
} لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً
{ والذي يقول هذا الكلام: هو الله، إذن لا بد أن يتحقق - فيارب أنت قلت لنا: إن
هذا سيحصل وقولك سيتحقق، فماذا اعطيتنا لنواجه ذلك؟ - اسمعوا العلاج: } وَإِن
تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {.. تصبر على
الإبتلاء في المال، وتصبر على الابتلاء في النفس، وتصبر على أذى المعسكر المخالف
من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا، إن صبرت فإن ذلك من عزم الأمور،
والعزم هو: القوة المجتمعة على الفعل. فأنت تنوي أن تفعل، وبعد ذلك تعزم يعني تجمع
القوة، فقوله: } فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { أي من معزوماتها التي
تقتضي الثبات منك، وقوة التجميع والحشد لكل مواهبك لتفعل.
إذن فالمسألة امتحان فيه ابتلاء في المال، وابتلاء في النفس وأذى كثير من الذين
أشركوا ومن الذين أوتوا الكتاب، وذلك كله يحتاج إلى صبر، و " الصبر " -
كما قلنا - نوعان: " صبر على " و " صبر عن " ، ويختلف الصبر
باختلاف حرف الجر، صبر عن شهوات نفسه التي تزين للإنسان أن يفعل هذه وهذه، فيصبر
عنها, والطاعة تكون شاقة على العبد فيصبر عليها، إذن ففي الطاعة يصبر المؤمن على
المتاعب، وفي المعصية يصبر عن المغريات.
و } لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ { توضح أنه لا يوجد لك غريم
واضح في الأمر، فالآفة تأتي للمال, أو الآفة تأتي للجسد فيمرض، فليس هنا غريم لك
قد تحدد، ولكن قوله: } وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ
وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً { فهذا تحديد لغريم لك. فساعة ترى
هذا الغريم فهو يهيج فيك كوامن الانتقام. فأوضح الحق: إياك أن تمكنهم من أن يجعلوك
تنفعل، وأَجِّلْ عملية الغضب، ولا تجعل كل أمر يَسْتَخِفّك. بل كن هادئا، وإياك أن
تُسْتَخَفَّ إلا وقت أن تتيقن أنك ستنتصر، ولذلك قال: } وَإِن تَصْبِرُواْ
وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ {.
واتقوا مثل " اتقوا الله " أي اتقوا صفات الجلال وذلك بأن تضع بينك وبين
ما يغضب الله وقاية. " عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب
على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني
الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك
قبل أن يسلم ابن أُبَيّ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان
وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس
عجاجة الدابة خمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن
فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تُؤْذنا في
مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله
عنه: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون
والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم
حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا سعد " ألم تسمع إلى ما قاله أبو
حباب "؟ يريد عبد الله بن أبي، قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعفُ
عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك، ولقد اصطلح
أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي
أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ".
ويقول الحق من بعد ذلك: } وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ... {
(/577)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
ونعرف - من قبل - أن الله قد أخذ عهداً وميثاقاً على كل الأنبياء أن يؤمنوا برسالة
محمد عليه الصلاة والسلام في قوله:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّيْنَ لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ
مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىا ذالِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ
فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ }[آل عمران: 81]
ونأتي هنا إلى عهد وميثاق آخذه الله على أهل الكتاب الذي آمنوا بأنبيائهم، هذا
العهد هو: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ }.
فما الذي يبينونه؟ وما الذي يكتمونه؟
وهل هم يكتمون الكتاب؟ نعم لأنهم ينسون بعضا من الكتاب، وما داموا ينسون بعضاً من
الكتاب فمعنى ذلك أنهم مشغولون عنه:{ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ
}[المائدة: 14]
والذي لم ينسوه من المنهج، ماذا فعلوا به؟:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ
أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىا مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ
فِي الْكِتَابِ أُولَـائِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ
}[البقرة: 159]
لقد كتموا البينات التي أنزلها الله في الكتاب، فالكتم عملية اختيارية، أما
النسيان فقد يكون لهم العذر أنهم نسوه، لكنهم يتحملون ذنباً من جهة أخرى، إذ لو
كان المنهج على بالهم وكانوا يعيشون بالمنهج لما نسوه. والذي لم ينسوه كتموا بعضه،
والذي لم يكتموه لووا به ألسنتهم وحرّفوه.
وهل اقتصروا على ذلك؟ لا. بل جاءوا بشيء من عندهم وقالوا: هو من عند الله:{
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ
هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ
لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
}[البقرة: 79]
وقولهم: { هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } ما يصح أن يقال إلا لبلاغ صادق عن الله،
وكلمة { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } لا بد أن توسع مدلولها قليلاً،
ولها معنى عام، ونحن نعرف أن الثمن نشتري به، فكيف تشتري أنت الثمن؟ أنت إذا جعلت
الثمن سلعة، وما دام الثمن يُجعل سلعة فيكون ذلك أول مخالفة لمنطق المبادلة؛ لأن الأصل
في الأثمان أن يُشتري بها، أصل المسألة أنّ نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان موجوداً عندهم في الكتب ثم أنكروه.{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ
}[البقرة: 89]
إذن فقوله: { لَتُبَيِّنُنَّهُ } يعني لتبينن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما
هو موجود عندكم دون تغيير أو تحريف، وعندما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فهم
يبينون ما جاء حقاً في الكتاب الذي جاءهم من عند الله. وهكذا نجد أن المعاني
تلتقي، فإن بينوا الكتاب الذي جاء من عند الله، فالكتاب الذي جاء من عند الله فيه
نعت محمد، وهكذا نجد أن معنى تبيين الكتاب، وتبيين نعت رسول الله بالكتاب أمران
ملتقيان.
} لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ
ظُهُورِهِمْ { يقال: نبذت الشيء أي طرحته بقوة، وذلك دليل على الكراهية؛ لأن الذي
يكره شيئاً يحب أن يقصر أمد وجوده، ومثال ذلك: لنفترض أن واحداً أعطى لآخر حاجة ثم
وجدها جمرة تلسعه، ماذا يفعل؟ هو بلا شعور يلقيها بعيداً. والنبذ له جهات، ينبذه
يمينه، ينبذه أمامه، ينبذه شماله، أما إذا نبذه خلفه، فهو دليل على أنه ينبذه نبذة
لا التفات إليها أبداً، انظر التعبير القرآني } فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ
{.
إن النبذ وحده دليل الكراهية لوجود الشيء الذي يبغضه، إمعان في الكراهية والبغض،
فلو رمى إنسان شيئاً أمامه فقد يحن له عندما يراه أو يتذكره، لكن إن رماه وراء
ظهره فهذا دليل النبذ والكراهية تماما، ولذلك يقولون: لا تجعلن حاجتي بظهر منك،
يعني لا تجعل أمرا أريده منك وراء ظهرك، والحق يقول: } فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ
ظُهُورِهِمْ { أي أنهم جماعة و " ظهور " جمع " ظهر " كأن كل
واحد منهم نبذه وراء ظهره. وكأن هناك إجماعاً على هذه الحكاية، وكأنهم اتفقوا على
الضلال، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون. والمشتري هنا هو الثمن، والثمن
يُشترى به، ولندقق النظر في التعبير القرآني، فهناك واحد يشتري هذا الأمر بأكلة،
وآخر يشتري هذه الحكاية بحُلَّة أو لباس، وهناك من يشتريها بحاجة وينتهي، إنما هم
يقولون: نريد نقوداً ونشتري بها ما نحب، هذا معنى } وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً {.
ويعلق الحق على ما يشترونه قائلاً: } فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ { لماذا؟ لأنك قد
تظن أن بالمال - وهو الثمن - تستطيع أن تشتري به كل شيء، ولكن النقود لا تنفع
الإنسان كما تنفعه الحاجة المباشرة؛ لأننا قلنا سابقاً: هب أن إنساناً في مكان
صحراوي ومعه جبل من ذهب وليس معه كوب ماء، صحيح أن المال يأتي بالأشياء، إنما قد
يوجد شيء تافه من الأشياء يغني ما لا يغنيه المال ولا الذهب، فيكون كوب الماء
مثلاً بالدنيا كلها، ولا يساويه أي مال } فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ {.
وبعد ذلك يقول الحق: } لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ
وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواَ.... {
(/578)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
والحسبان للأمر أن يظنه السامع دون حقيقته، والأمور التي يظنها السامع تسير أولاً
على ضوء الشيء الواضح دون التدبر لما وراء واجهات الأشياء، فالذين يفرحون بنا أتوا
نوعان: نوع يفرح بما أتاه مناهضاً لدعوة الحق كالمنافقين الذين فرحوا بأنهم غشوا
المؤمنين، وتظاهروا بالإيمان فعاملهم المؤمنون بحق الأخوة الإيمانية، حدث هذا قبل
أن يكشف الحق هؤلاء المنافقين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بعد ذلك.
ونوع آخر يفرح لما آتاه وجاء به مناصراً لدعوة الحق فالفرح الأول - وهو فرح
المنافقين - والفرح الثاني مشروع. ولذلك يقول الحق:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ }[يونس: 58]
إذن فلم ينه الله عن مطلق الفرح ولكن ليفرحوا بفضل الله. إنه سبحانه قد نهى عن نوع
من الفرح في مسألة قارون:{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }[القصص: 76]
وهكذا نجد آيات تنهى عن الفرح وآيات تثبت للمؤمنين الفرح، وتأمرهم به. إذن فالفرح
في ذاته ليس ممقوتاً، ولكن الممقوت بعض دواعي ذلك الفرح، فدواعيه عند المؤمن أن
يفرح بنصر الله، وأن يفرح بإعلاء كلمة الحق، وهذه دواع مشروعة. ودواعيه الممنوعة
أن يفرح بأن يقف أمام مبدأ من مبادئ الله ليدحض ذلك المبدأ, وهذا ما يفرح به
الكافر, ولكن الفرح الحقيقي هو الفرح الذي لا يعقبه ندم، ففرح المؤمن موصول إلى أن
تقوم الساعة، وموصول بعد ان تقوم الساعة. ولكن فرح الكافر والمنافق وأهل الكتاب
الذين يصورون الله على غير حقيقته فرح موقوت وممقوت، إذن فذلك لا يعتبر فرحاً؛ لأن
الندم بعد الفرح يعطى عاقبة شر؛ لأن النادم يتحسر دائما على فعله فهو في غم وحزن.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطي للمؤمن مناعة، إنكم أيها المؤمنون تواجهون
معسكرات تعاديكم. هذه المعسكرات ستفرح بما أتته ضدكم فيجب ألا يفتّ ذلك في عضدكم،
ولا تحسبنهم إن فعلوا ذلك بمنجاة من العذاب، وما دام فرحهم سيؤدي بهم إلى العذاب
فهو فرح أحمق.
وماذا صنع الذين جاء فيهم القول: { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ
أَتَوْاْ } يحتمل أن يكون المراد هم أهل الكتاب الذين كتموا نعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لأن الآية السابقة تقول: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ
وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } ماذا فعل هؤلاء إذن؟ لقد كتموا أوصاف رسول الله ونعته
الموجود في كتبهم وفرحوا بما كتموا، وبعد ذلك أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا من الذين
على طريقتهم في الكفر والضلال.
إن الإنسان قد يأتي الذنب ولكنّه يندم بعد أن يفعله، ولكنه حين يسترسل فيفرح بما
فعل فذلك ذنب آخر، وهكذا صار إتيان العمل ذنباً، والفرح به ذنباً آخر؛ لأنه لو ندم
على ما فعله لكان الندم دليلا على التوبة، أما أن يأتي العمل وبعد ذلك يفرح به ثم
بعد ذلك الأشد؛ فيحب أن يُحمد بما لم يفعل، فذلك من تمام الحمق، إنه جرم وذنب مركب
من فعل آثم، ففرح به، فحب لحمد على شيء لم يفعله.
أكان يجب أن يُحمد بما فعل أو بما لم يفعل؟ بما لم يفعل, لأنه خلع على أمره غير
الحق، وإذا قال قائل: إنها نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله فالقول
محتمل؛ لأن هؤلاء تخلفوا عن الحرب مع رسول الله وفرحوا بأن متاعب السفر ومتاعب
الجهاد لم تنلهم، وبعد ذلك اعتذروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذارات كاذبة
ولو ندموا لكان خيراً لهم، ولم يتضح للمسلمين كذبهم فحمدوا لهم ذلك الاعتذار، إنهم
قد أتوا الذنب، وفرحوا بأنهم أتوه، ونجوا من مغارم الحرب، وبعد ذلك فرحوا أيضاً
بأنهم أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلو، لأن اعتذارهم كان نفاقاً، سواء كان هذا أو
ذاك فالآية على إطلاقها: للذين يفرحون بما أتوا من مناهضة الحق وذلك فعل، والفرح
به ذنب آخر، والرغبة في الحمد عليه شيء ثالث، إذن فالذنب مركب، فهم يسترون الأمر
ويبينون نقيضه كي نحمدهم ونشكرهم، والحق سبحانه وتعالى يعطي لهذا دستوراً إيمانياً
لمطلق الحياة.
} وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ { وهل المنعي عليهم أنهم
يحبون أن يحمدوا؟ أو المنعي عليهم والمأخوذون به أنهم يحبون أن يحمدوا بما لم
يفعلوا؟ إن المنعي عليهم انهم يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ لأن الإنسان إن أحب
أن يُمدح بما فعل فلا مانع، والقرآن حين يعالج نفساً بشرية خلقها الله بملكات، فهو
يعلم مطلوبات الملكات، بعض الملكات قد تحتاج إلى شيء فلا يتجاوز الله هذا الشيء،
إن الإنسان مطبوع على حب الثناء من الغير، لأن حب الثناء يثبت له وجوداً ثانيا،
ووجودك الثاني هو أن تعبر عن نفسك بعملك الذي يكون مبعث الثناء عليك، والناس لا
تثني على وجودك، لكنها تثني على فعلك.
وما دام الإنسان يحب الثناء فسيغريه ذلك بأن يعمل ما يُثني به عليه، وما دام يٌغرى
بما يُثني عليه فسيعمل بإتقان أكثر، وساعة يعمل فإن المحيط به ينتفع من عمله،
والله يريد إشاعة النفع فلا يمنع سبحانه حب الثناء كي يزيد في الطاقة الفاعلة
للأشياء؛ لأنه لو حرّم ذلك الثناء فلن يعمل إلا من كانت ملكاته سوية، وسيفقد
المجتمع طاقات من كانت ملكاته قليلة، فصاحب الملكات القليلة يريد أن يمدح، فلا
مانع من مدحه ليزيد من العمل، ويُمدح مرة ثانية، وتستفيد الناس، والذي ينتظر
الثناء من الناس تنزل منزلته ومرتبته عن مرتبة من انتظر التقدير من الله، فهو الذي
جنى على نفسه في ذلك.
لكن لا بد أن نمدحه كي يعمل بما فيه من غريزة حب الثناء فنكون قد زدنا من عدد
طاقات العاملين.
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما عرض لهذه القضية، وهي قضية تزكية الصالح
وتجريم الطالح الفاسد في قصة " ذي القرنين " يقول تعالى:{
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ
ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ
سَبَباً }[الكهف: 83-84]
كي تعلم أن الممَكّنَ لا يُمَكّنُ بذاته وإنما هو ممكن بمن مَكّنَهُ، فلو كان عنده
تفكير إيماني، لما أغرته الأسباب أن يتمرد؛ لأن الإيمان يعلمه أن الأسباب ليست
ذاتية. ومن أجل أن يثبت الله أن الأسباب غير ذاتية فهو ينزع الملك ممن يشاء، ويهب
الملك من يشاء، نقول له: لو كان الأسباب ذاتية فتمسك بها، لكن الأسباب هبة من الله
} وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً { وحين يأتيه الله الأسباب فالأسباب
أنواع: سبب مباشر للفعل، وسبب متقدم على السبب المباشر، فإنت إذا ارتديت ثوباً
جميلاً، فوراء ذلك أنك أتيت بالقماش الذي نسجه النساج، والنساج استطاع إتقان عمله
بعد أن قام الغزّال بغزل القطن، والقطن نتج لأن فلاحاً بذر البذور ورعي الأرض
بالحرث والرى. فأنت إن نظرت إلى الأسباب المباشرة المتلاحقة فانظر إلى نهاية الأسباب،
وستصل إلى شيء لا سبب له إلا المسبب الأعلى وهو الله - جلت قدرته -.
وسلسل أي شيء في الوجود ستجد أنك أخيراً أمام سبب خلقه الله, مثال ذلك النور
الكهربائي الذي تتمتع أنت به. ستجد أن المعمل قام بصنع الزجاج الخاص بالمصابيح
الكهربائية، ونوع من المصانع يصنع الأسلاك الموجودة بالمصباح، وستنتهي إلى شيء
موجود لا يوجد فيه بشر، فتصل إلى الحق سبحانه وتعالى.
أنت مثلاً جالس على الكرسي. وقد تقول: لقد صنعه النجار والنجار جاء بالخشب من
البائع، والبائع جاء بالخشب من الغابة، فمن أين جاء الخشب إلى الغابة؟ تقول: لا
أعرف، أما إذا كان عندك الحس الإيماني فأنت تقول: أوجده الله. وحين تنتهي الأسباب
وسلسلتها نجد الله الخالق } إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن
كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً { فعندما أعطاه الله الأسباب جاء هو
بالوسائط فقط، إذن فالأصل كله من الله.
ويتابع الحق: } حَتَّىا إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي
عَيْنٍ حَمِئَةٍ { هذا في عين الناظر فقط، فأنت حين تركب البحر ثم ترى الشمس عند
الغروب تغطس في البحر، وعندما تذهب للمنطقة التي غطست الشمس فيها تجد الشمس
موجودة؛ لأنها لا تغيب أبدا، إنما } تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ { أي فوجد الشمس
في نظره عند غروبها عنه كأنها تغرب في مكان به عين ذات ماء حار وطين أسود.
ويتابع الحق: } وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن
تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً {.
والناس تفهم أن هذا تخيير، يعني إما أن تعذبهم، وإما تُحسن إلى من كنت تعذبهم، لكن
الدقة والتمعن يوضحان لنا أن الحق قد أعطى تفويضاً لذي القرنين، بقوله: } إِمَّآ
أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً { فَفَهمَ ذو القرنين عن
الله التفويض، ولم يأخذ التفويض وافترى، بل قال: } أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ
نُعَذِّبُهُ { وليس هذا هو العذاب الذي يستحقه، لا، نحن سنعذبه في دنيانا كي لا
يستشرى فيها الشرّ. وفوق ذلك سيعذبه الله عذاباً آخر } أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ
نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً { إنه
أولاً لم يصف عذابه بنكر، إنما وصف عذاب الله فقال: } فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً
نُّكْراً { ، لأن عذاب البشر للبشر على قدر البشر، لكن عذاب الله يتناسب مع قدرة
الله، فهل لنا طاقة بهذا العذاب والعياذ بالله؟ ليس لنا طاقة به، وماذا عن موقف ذي
القرنين من الذي آمن؟ إنه موقف مختلف.
يقول الحق: } وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا
وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً { هو يجازيه بالحسنى ويعطيه المكافآت
ويكرمه، وعندما يتساءل من يحب الثناء قائلاً: لماذا كرّم هذا؟ ويرى أسباب التكريم
فيقول لنفسه لأصنعنَّ مثله كي أكرّم. ولذلك تجد الشباب يتهافت حتى يلعب بكرة القدم
لماذا؟ لأنهم يجدون من يضع هدفاً في كرة القدم يكرّم، فيقول: أنا أريد أن أضع
هدفاً.
هذا وإن ديننا الحنيف يدعونا إلى أن نشكر من قدم خيرا أو أسدى معروفا حفزاً للهمم
وتشجيعا لبذل الطاقات وفي الأثر: " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " إذن
فحب الثناء من طبيعة الإنسان، ولكي تُغزى الناس بأن يعملوا لا بد أن تأتي لهم
بأعمال تستوعب طاقاتهم المتعددة، أما إذا اقتصر إتقان العمل على من لا يحبون
الثناء، فسنقلل الأيدي التي تفعل، ولذلك تجد العمل حيث توجد المكافأة التشجيعية
التي يأخذها من يستحقها ويقابلها من التجريم والعقوبة لمن يهمل في عمله، فلا يمنح
رئيس عمل مكافأة لمن عملوا على هواهم، بل عليه أن يمنحها لمن أدى عمله بإتقان.
وحين يعلم الناس أنه لا يجازي بالخير ولا يكّرم بالقول إلا من فعل فعلاً حقيقياً
فالكل يفعل فعلاً حقيقياً، لكن عندما تجد الناس أن المكافآت لا يأخذها أحد إلا
بالتزلف وبالنفاق وبالأشياء غير المشروعة فسيفعلون ذلك، وهكذا تأتي الخيبة.
وهكذا تجد أن قوله الحق: } لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ
{.
إن هذا القول يضع أساساً ودستوراً إيمانياً لمطلق الحياة، وعلاقة الحاكم
بالمحكومين, وعلاقة الفرد بنفسه وبمن حوله. وعلاقة الإنسان بالعمل الصالح أو
بالذنوب؛ فإن الإنسان إذا ما أتى ذنباً، فربما يكون قد نفَّس عن نفسه بارتكاب
الذنب، لكن بعد ما تهدأ شِرّة المعصية يجب عليه أن ينتبه فيندم ولا يفرح.
هذه أول مرحلة. ولا يتمادى في ارتكاب الذنب، أما إذا تمادى وخلع على فعله النقيض
وادّعى أنه قد أتى فعلاً حسناً حتى يناله مدح بدلاً من أن يناله ذم فذلك ذنب مركب،
ويحشره الله ضمن من قال فيهم: } فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ
الْعَذَابِ {.
والمفازة هي المكان الذي يظن الإنسان أن فيه نجاته، أي أن في هذا المكان فوزاً له،
ويطلقون كلمة " مفازة " على الصحراء إطلاقا تفاؤلياً، ولا يسمونها
" مهلكة " لأن الذي كان يجوبها يهلك فسموها " مفازة " تفاؤلاً
بأن الذي يسلكها يفوز، أو أن الصحراء أرض مكشوفة، وما دام الإنسان قد وصل إلى أرض
مكشوفة فلن يصادف ما يخافه من حيوانات شرسة أو من وافدات ضارة كالحيّات، أو من عدو
راصد، وفي ذلك فوز له، لأنه تجنب هذه المخاطر، إنه إن سار في الجبال والوديان فمن
الممكن أن تستر عنه الوحوش المفترسة أو الهوام أو تستر عنه الذين يتتبعونه فلا
يتوقاهم وقد يصيبونه بالأذى، فإذا ما ذهب إلى الأرض المكشوفة نجا من كل هذا لأنه
ينأى ويبتعد عنهم، وتكون التسمية على حقيقتها، ومن يرى أن الصحراء مهلكة فليعرف
أنها سميت " مفازة " تفاؤلاً، كما يسمون اللديغ الذي يلدغه الثعبان بـ
" السليم ".
ونحن في أعرافنا العادية نتفاءل فنضع للشيء اسما ضد مسماه تفاؤلاً بالاسم، مثال
ذلك: إذا كنت في ضيافة إنسان وقدم شراباً. قهوة مثلاً، وبعد أن نشرب القهوة يأتي
الخادم فيقول من قدم لك القهوة لخادمه: تعال " خذ المملوء " ولا يقول:
" خذ الفارغ " وهذا لون من التفاؤل.
} فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {
هم يظنون أنهم بمفازة من العذاب برغم أنهم لا يؤمنون بالحق، ولا يؤمنون بسيطرة
الحق على كل أحوالهم وكل أمورهم فهم يظنون أن انتصارهم في معركة الدنيا لا هزيمة
بعده، ولكن الحق بعد هذه الآية قال: } وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ.... {
(/579)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك
السماوات والأرض، فحين يقول: { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ
الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحداً لا يفلت
منه، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض: اجعل طاعتك لمن لا
تستغنىعنه، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه
وسلطانه.
إذن ف { وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } تدل على أن الله حين يوعد فهو
- سبحانه - قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدا. وهذه تؤكد المعنى.
فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا
ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
* مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ *
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ }[المسد:
1-5].
وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه السورة
دليلاً من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافراً،
وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد
منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفاراً
وآمنوا، فمن الذي كان يدري محمداً صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن يقول: { تَبَّتْ
يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *
سَيَصْلَىا نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي
جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } من كان يدري محمداً بعد أن يقول هذا ويكون قرآناً
يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي
ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول:
إنني سأصلى ناراً ذات لهب فهأنذا قد آمنت، مَن كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل
ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمداً يعلم أن أبا لهب لن
يختار الإيمان أبداً، فيسجلها القرآن على نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرا.
وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك: إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا
" أحد صمد " ، ولا أحد يعارضنى في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة
الإخلاص:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ }[الإخلاص: 1-2].
فما دام " هو الله أحد " فيكون ما قاله أولاً لن ينقضه إله آخر، وستظل
قولته دائمة أبداً.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله: } فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ
الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { ، } وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ { يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة: }
وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظِل،
والأرض تُقِل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصوراً بين مملوكين
لله، فأين تذهبون؟ } وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { وقد يكون هناك
المَلِك الذي لا قدرة له أن يحكم، فيوضح سبحانه؛ لا، إن لله المُلْكَ وله القدرة.
} وَاللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر
ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة:
(/580)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
سبحانه يريد أن يبني التصور الإيماني على جذور ثابتة في النفس البشرية، لأن
الإنسان الذي يفاجأ بهذا الكون، وفيه سماء بهذا الشكل: بلا عمد، وتحتها الكواكب،
وأرض مستقرة، بالله ألا يفكر فيمن صنع هذا؟ والله لو أن واحدا استيقظ من نومه ووجد
سرادقا قد نصب في الميدان ليلا لوقف ليسأل: ما الحكاية؟ فما بالنا بواحد فتح عينيه
فوجد هذا الكون المنتظم الذي يعطيه أسباب الحياة؟
ولذلك يجيء في سورة أخرى ليشرح هذه القضية شرحا يجلى لنا قضية الإيمان بالفكر
الإنساني، فلا ننتظر الواعظ فقط الذي يأتينا بالرسالة والنبوة ليدل على المنهج
المراد لمن خلق، بل تحتم علينا أن نتنبه بالفطرة إلى من خلق، لأننا قلنا من قبل:
لو أن إنساناً وقعت به طائرة في صحراء، ولم يجد فيها ماء ولا شجراً ولا أناسا
ولأنه مجهد غلبه النوم، فاستيقظ فوجد مائدة عليها أطايب الطعام، بالله قبل أن يمد
يده لينتفع بها، ألا يجول فكره فيمن صنع هذه؟ إن دهشته من الحدث تجعله يفكر فيمن
جاء بها قبلما يذوق الطعام، رغم أنه جوعان، فكذلك الناس الذين فتحوا عيونهم فوجدوا
هذا الكون العجيب، وبعد ذلك لم يدَّع أحد منهم أنه خلقه، ولو كان أحد قد ادعى أنه
خلقه..لكانت المسألة تسهل، لكن أحداً لم يدع صنعه. هذا الكون الذي نراه جميعا
بانتظامه الرائعِ، وقوانينه الثابتة. هل قال أحد: إنني صنعته؟ لا إذن فالذي قال:
إنني صنعته تَسْلم له الدعوة، حتى يأتي واحداً آخر يقول: أنا الذي صنعته. لم يحدث
هذا قط برغم وجود الملاحدة والمفترين على الله، ولذلك جاء قوله تعالى:{ أَمَّنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }[النمل: 60].
كأن الحق يقول: إن لم أكن أنا الذي خلقت فمن الذي خلق إذن؟ ولم يجرؤ أحد على أن
ينسب الكون لنفسه؛ لأن الكفار والملاحدة لا يستطيعون خلق شيء تافه من عدم. ومثال
ذلك كوب الماء الذي تركه الله ولم يخلقه على الصورة التي هو عليها، كي يصنعوه
ليفهموا أن كل شيء تم بخلقه - سبحانه - كوب الماء هذا شيء تافه أترف الحياة، وقبل
أن تتم صناعة الكوب كنا نشرب ولم يكن هناك شجر يطرح ويثمر أكواباً بل صنعه إنسان
أراد أن يترف الحياة، فإذا كان هذا الشيء الصغير له صانع جال في نواحي علوم شتَّى
وفي المادة، ثم نظر إلى الأرض حتى وجد المادة التي عندما تُصهر تعطي هذه الشفافية
واللمعان، فجرب في عناصر الأرض فلم يجد إلا الرمل.
واكتشف هذه المادة ومزجها بمواد أخرى لصهرها وإذابتها واحتاجت صناعة الكوب إلى
معامل وعلماء، كل هذا من أجل الكوب الصغير الذي قد تستغني عنه، انظر ما يحتاجه
لصنعه؟ احتاج طاقات جالت في جميع مواد الأرض، وإمكانات صناعية وأناساً يضعون
معادلات كيماوية، فما بالنا بالأشياء الأصلية وكم تحتاج؟
إن كل صنعة تحتاج على قدرها، ولم يقل أحد: إنني صنعتها، فيقول الحق: من الذي صنع
كل هذا؟ وساعة يطرح سؤالاً فهو لا يريد أن يجعل القضية إخبارية منه، وهو القادر أن
يقول: أنا الذي خلق السماء والأرض؟ فماذا يفعل المسئول؟ إنه يتخبط في إجابته ثم في
النهاية لا يجد إلا الله.
وكأن السائل لا يطرح هذا السؤال إلا إذا وثق أن الإجابة لا تكون إلا على وفق ما
يريد } أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ
السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ { وجاء هنا بالحاجة المباشرة.. } فَأَنبَتْنَا
بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ { أي أنها تسرّ النظر بما فيها من خضرة ونضارة،
وطراوة، وظل، وأزهار، وثمار، ولم يختصر الأمر فيقول: " لتأكلوا منها "
لأن الذي يأكل هو الذي يملك فقط، لكن جمال المنظر لا يحجزه أحد عن كل من يرى،
ويستمتع بما يراه. وكل منا عندما يرى بستاناً جميلاً يسره منظره، صحيح أنك لا تمد
يدك لتأكل منه لأنه ليس ملكك، لكن هل يمنعك أحد أن تمتع به نظرك. وأن تمتع أنفك
برائحته الجميلة؟ لا.
وهكذا جاء الحق بالنعمة الشائعة لمن يملك ولمن لا يملك فقال: " ذات بهجة
" ونعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يمتن بالأشياء يوضح لك: إياك أن تفهم أن
الغرض من هذه المسألة أن تأكلها لتملأ بها بطنك فقط؛ لأن هناك أشياء جميلة لا
ننتفع بها أكلاً، فهناك ألوان من الشجر ليس له ثمرة لكن لابد أن له عملاً؛ فورقه
الجميل قد يفيد في الظل وما يشيعه من رائحة تعطر الجو، وبه خشب نحتاج إليه، وبجانب
هذا نجد أشجاراً لها ثمار جميلة ننتفع بها.
ولذلك يقول الحق:{ وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا
بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً
مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ
مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
انْظُرُواْ إِلِىا ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذالِكُمْ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[الأنعام: 99 ].
وسبحانه يستفهم من الإنسان " ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم
قوم يعدلون ".
بسطحية راح أحد المستشرقين يردد: أيَنْعَى الله على الخلق ويعيب عليهم أن يعدلوا؟
ذلك أنه لم يفهم المعنى الصحيح، فالعدل هنا بمعنى العدول عن الحق أو الميل عنه.
ويقول:{ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ
لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـاهٌ مَّعَ الله
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[النمل: 61].
إنه سبحانه الذي خلق الأرض ومن خلالها الأنهار وجعل فيها الجبال الرواسي، ويوضح
الحق سبب وجود الجبال الرواسي في موقع آخر من القرآن الكريم:
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }[فصلت: 10].
فلماذا باركت يا الله؟ بارك الله في الجبال وقدر فيها أقواتها، فالقوت هو ما
يُنتفع به في استبقاء الحياة. ونعرف أن القوت يؤخذ من الزرع، والزرع ينمو دائماً
في الأرض الخصبة، وخصوبة الأرض تكون في الوديان، والوادي هو المكان الذي يكون بين
جبلين. ولماذا يكون الوادي خصباً بين جبلين؟ لأن المطر حين ينزل من السماء، إنما
ينزل على الجبال، والجبال كما تعرف معرضة لعوامل التعرية، فالحرارة تأتي بعد
البرودة، والحرارة تجعل الأرض تمتد والبرودة، تقبض المادة، وما بين القبض والبسط
يحدث للجبال التشقق السطحي. وعندما ينزل المطر فهو يجرف هذه التشققات، فتنزل من
قمة الجبل بقوة الدفع لتصير جسيمات ناعمة، ونسميها نحن الغِرْين أو الطمى، كالذي
كان يأتي لنا من الحبشة، والذي أحدث خصوبة وادي النيل.
إذن فالجبال هي مخازن الأقوات. ومن فضل الله أن جعل الجبال صلبة، فلو أنها كانت
هشة من أول الأمر، لكان سيلٌ واحد من المطر كفيلاً بإزالتها كلها، ولجعل الأرض
سطحاً واحداً، ولا انتفع البشر بنصف متر من الخصوبة. وبعد ذلك يأتي الجدب. ونعلم
أن الحق جعل مع التكاثر الإنساني تكاثراً لأسباب القوت، فكيف يكثر الحق سبحانه من
القوت؟
نحن نرى أن للجبال قمة ولها قاعدة، وبين كل جبل وجبل يوجد الوادي، ونعرف أن ضيق
الوادي يكون في أدناه، واتساع الوادي في أعلاه، والجبل عكس الوادي. فضيق الجبل
يكون في القمة واتساعه في القاعدة أي أن قمة الجبل أقل اتساعا من قاعدته. وعندما
ينزل الغرين بوساطة المطر من الجبل فهو ينزل إلى الوادي، فيرفع من مستوى سطح
الوادي، وتتسع مساحة الوادي. وكلما نزل المطر على الجبال اتسعت مساحة الوديان التي
بين الجبال؛ لأن المطر يحمل معه أجزاء من الجبال وهو ما يسمى بالغرين. وعندما يشاء
الحق سبحانه إيذان النهاية، تتفتت كل الجبال ويقول للساعة: قومي الآن ".
وهو يقول: } وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً
أَإِلَـاهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ {.
وفي موقع آخر يقول الحق:{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا
بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ }[الرحمن: 19-20].
الماء له استطراق فسلكه الله ينابيع في الأرض، فالإنسان يحفر في مكان من الأرض
فيجد الماء عذباً، وفي موقع آخر يدق الإنسان الأرض ويحفرها ليجد الماء ولكنه مالح.
لماذا إذن لم يتسرب الماء المالح إلى الماء العذب وكلاهما تحت الأرض؟ إذن لا بد أن
للماء المالح مسارب تختلف عن مسارب الماء العذب ولا يطغي أحد على الآخر.
لماذا؟ لأننا نجد أن الماء العذب يأتي من أعلى. ونجد دائماً منابع الأنهار عالية
وتصب في البحر. والحق لم يجعل منسوب الماء المالح أعلى من منسوب الماء العذب، حتى
لا يطغى الماء المالح على الماء العذب، لأنه سبحانه يريد أن يرتوي الناس من الظمأ
بالماء، ويريد للزرع أن ينمو، وأن يتجه الفائض من الماء العذب إلى مخزن الماء سواء
في بطن الأرض أو في البحار، وتأتي من بعد ذلك عملية التبخير فيتصاعد الماء بخاراً
ليصير سحاباً، ثم يمطر من بعد ذلك ماء عذباً. والقدر الذي خلقه الله من الماء أزلاً،
هو. هو، لا يزيد ولا ينقص.
فالإنسان إذا كان قد شرب أطناناً من الماء طَوال حياته، فهل ظلت تلك الأطنان في
جسد الإنسان أو أن تلك الأطنان قد خرجت في فضلات الإنسان؟ إن الإنسان لا يختزن إلا
الموجود فيه الآن من الماء. والجسم الإنساني به حوالي تسعين بالمائة من مكوناته من
الماء، وبعد ذلك يموت الإنسان فيتبخر منه الماء وتنزل بقية العناصر للأرض. إذن
فكمية المياه. واحدة، ولكنها تخضع لدورة أرادها الله.
وبعد ذلك يقول الحق:{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً
مَّا تَذَكَّرُونَ }[النمل: 62].
ومعنى المضطر هو الإنسان الذي استنفد أسباب بشريته ولم يدرك ما يحفظ به حياته
ولذلك يقول الحق:
{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ
قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا
ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
}[يونس: 12].
وكذلك يقول الحق في موضع آخر بالقرآن الكريم:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى
الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً }[الإسراء: 67].
ذلك أنه عندما يصاب الإنسان بحادث جسيم، فهو لا يكذب على نفسه، حتى الكافر بالله
عندما يجد أن كل الأسباب المادية التي أمامه لا تنفعه فهو يلجأ ويعترف بأنّ هناك
إلهاً واحداً خالقاً. فيقول: يا رب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يقول:{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ
قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأَرْضِ
أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
}[النمل: 62-64].
كل هذه الآيات تؤكد قول الحق سبحانه وتعالى:
} إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ
لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ { [آل عمران: 190]
إنها ظواهر كونية. واختلاف الليل والنهار يعني أن هناك شيئاً آخر أو يأتي بعد شيء
آخر. إذن فاختلاف الليل والنهار له معنيان: فمجيء الليل بعد النهار يعني اختلافهما
أي كل منهما خليفة للآخر.
والزمن يمثل ذلك.
واختلاف آخر يتمثل في أن النهار منير، والليل مظلم، والنهار محل حركة، والليل محل
سكون. فاختلاف الليل والنهار ليس آية فقط ولكنه آيات لكثيرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: أنّ الفرد أعجز من أن يستنبط كل ما في الآيات،
ولكن على كل واحد منكم أنتم البشر أن يستنبط آية، وكل إنسان يستنبط آية ينتفع بها
هو وغيره من الناس وهكذا.
إنها آيات يتوزع استنباطها على الخلق الذين يملكون البصيرة والأخذ بأسباب الله
ليشيع الحق الاستنباط من أسرار الله لكل خلق الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة،
وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل الله المؤمنين إلى أن تقوم
الساعة، وليبين لنا أصحاب العقول الحقيقية التي لا تنشغل بالنعمة عن المنعم
بالنعمة؛ لأن لله إمداداً حين خلق من عَدَم، وإمداداً حين أمدّ من عُدم، وإمداداً
آخر حينما يلقى على نعمته شيئاً من البركة، فالذي أخذ نعمة الله التي سبقت وجوده،
وبعد ذلك غفل عن الحق سبحانه وتعالى فإن النعمة تعطيه، لكنها لا تكون مصحوبة
بالبركة.
ومعنى البركة أن يكون الشيء الحاصل والمستنبط من حركتك لا يأتي منه لك ولا للناس
إلى الخير. فقد يعطيك الله بالأسباب والمسببات. لكن الله لا يعطيك البركة إذا أخذت
النعمة وتركت المنعم. فلو أنك عند كل شيء ذكرت الله لأخذت النعمة والبركة. فحين
ترى لك شيئاً تحبه عليك أن تقول: " ما شاء الله لا قوة إلا بالله ".
إنَّه ليس من شغلك ولا من عملك. ولكنها مشيئة الله وقوته سبحانه.
ولذلك يقولون: إنك إذا رأيت أي نعمة لك في مال أو ولد أو خُلق أو هندام تقول حين
تراها: " ما شاء الله لا قوة إلا بالله " فأنت لا ترى فيها سوءاً أبداً؛
لأنك رددتها إلى مَن خلقها، فضمنت صيانة الله لها بذلك الرد، والذي يحرسها هو
الكلمة الواضحة " ما شاء الله لا قوة إلا بالله ".
ولذلك نرى في قوله تبارك وتعالى:{ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا
لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم
مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ
لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً *
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ
هَـاذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا
رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }[الكهف: 32-36].
فماذا قال له صاحبه؟{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً *
لَّاكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن
تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً * فعسَىا رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ
خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ
فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً }
[الكهف: 37-40].
فكان يجب ألا يغتر الإنسان بوجود النعمة وأن يعزوها وينسبها ويردها إلى المنعم
وهذا يوضح لنا معنى قول الحق:
{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }[إبراهيم: 7].
فقد تعطيكم الأسباب مسبباتها، ولكن لا زيادة عن المسببات بالتفضل منه سبحانه
بالبركة، بل ربما كانت فجيعة لصاحبها، فتعطيه الأسباب ثم ينزع العطاء فتكون حسرة
عليك.
إذن فمَنْ هم أولو الألباب؟
تكون إجابة الحق: } الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً... {.
(/581)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
إنهم يقولون:
{ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } لأنك حق، وخلقت السماوات والأرض بالحق،
ووضعت لها نواميسها وقوانينها بالحق، فيجب أن نستقبل النعمة التي خلقتها لنا بالحق.
فإن استقبلها بعض الناس بغير الحق، فإنها تكون وبالاً عليهم. ويقال: إن المؤمن
الصادق في بني إسرائيل قبل رسالة عيسى عليه السلام كان إذا عبد الله بإخلاص ثلاثين
سنة فإن غمامة تظله حيث سار. فكانوا عندما يرون واحداً من هؤلاء يسير تظلله غمامة،
فهم يعرفون أنه عبد الله بإخلاص ثلاثين عاماً.
وعَبَدَ واحد منهم الله ثلاثين سنة ولم ير السحابة تظلله، فشكا ذلك لأمه فقالت له:
لعل شيئا فَرطَ منك. فقال لها: يا أماه لا أذكر. فقالت له: لعلك نظرت مرة إلى
السماء ولم تفكر. فقال لها: لعل ذلك حدث. فقالت: الذي يأتيك من ذاك. وهذه القصة
تذكرنا بضرورة التفكير في الله دائماً.
ويروى عن سيدنا الإمام عليّ - رضي الله عنه وكرم الله وجهه - أنه قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم، إذا استيقظ في الليل، استاك، ثم نظر إلى السماء.
إذن فالنظر إلى السماء هو النظر إلى العلو. والنظر إلى الأرض أيضاً هو تأمل في
حكمة الخالق، لكن النظرة إلى السماء تجعل الإنسان يفطن إلى علو الخالق. ولذلك
فالعربي الذي استلقى على ظهره نائماً، واستيقظ ففطن إلى لون السماء الأزرق البديع،
والنجوم تتلألأ فيها فقال: أشهد أن لَكِ رباً وخالقاً، اللهم اغفر لي. ولقد عرف
الرجل متى يدعو الله وكيف يدعو، لذلك غفر الله له.
وفيما روت كتب السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جاء ليلة ونام، وكانت
ليلة عائشة رضوان الله عليها. قالت عائشة لعبدالله بن عمر رضوان الله عليه. فنام
بجوارى حتى مس جلدي جلده، ثم قال: " يا عائشة هل تأذنين لي الليلة في عبادة
ربي "
لقد استأذن منها رسول الله في حقها لأن الليلة ليلتها. وأضافت عائشة: يا رسول الله
أنا أحب قربك وأحب هواك، وقد أذِنتُ لَكَ.
لقد احتاطت الاحتياط الجميل، فهى تحب الرسول، وتقول: " وأنا أحب قربك "
وهذا القول له معنى جميل، وحدث أن قال بعض المتنطعين على دين الله: إن رسول الله
كان كبير السن بفارق كبير بينه وبين عائشة، وقولها ذلك إنما عن زهد فيه.
لكنها عائشة - رضي الله عنها- ردت على ذلك من قبل أن يقال. فقالت: يا رسول الله
أنا أحب قربك وأحب هواك وقد أذنت لك. وهذا درس يعطيه لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى نتعلم كيف نعامل أهلنا، حتى ولو كان الأمر الذي يشغلنا عنهم هو العبادة،
وهو لا يريد أن ينشغل المؤمن عن رعاية أهله بعد أداء ما عليه من فروض، حتى ولو كان
عبادة إلا بعد استئذان الأهل.
لماذا؟ لأن الله طلب من الزوجة في العبادة غير المفروضة ألا تتطوع حتى تستأذن
زوجها. فالزوجة إن صلت تطوعاً، أو صامت تطوعاً لا بد أن تستأذن زوجها، فإن أذن
لها، فبها، وإن لم يأذن فليس لها أن تقوم بهذه العبادة غير المفروضة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيركم.. خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي
"
لأن الزوج حين يقرب زوجته فهو يريد أن يعفها عن التطلعات البشرية؛ لذلك فعندما
تريد الزوجة أن تأخذ وقتها وخصوصا إن كان لها ضرائر، فهذا الوقت حق لها. فإن أراده
الزوج للعبادة غير المفروضة فعليه أن يستأذنها. وقد تكون الحالة النفسية للمرأة في
عدم وجود ضرائر أكثر قدرة على قبول استئذان الزوج لها ليتفرغ للعبادة. ولذلك فأنت
ترى من أهل الفتوى الإيضاح الناجح لمثل هذا الأمر.
لقد ذهبت امرأة تشكو زوجها لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان مضمون الشكوى أن
زوجها لا يقربها، وكان مع عمر صحابي جليل. فقال له عمر ابن الخطاب: افتها. فقال
الصحابي للزوج: يا هذا سنفرض أنك تزوجت أربعاً، فلزوجتك إذن ليلة بعد كل ثلاث
ليال. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استأذن عائشة في عبادة ربه، فهذا
معناه درس للأزواج أن يحسنوا معاملة الأهل إحساناً لا يجعل للمرأة تطلعا.
لكننا نجد أناساًَ لا يستأذنون أهلهم لا في العبادة، ولا حتى في سهرات المعصية.
وهذا ما يفسد البيوت والأسر. إن ما يفسد البيوت أن يكون الزوج مشغولا عن الزوجة،
ويذهب إلى أصحابه في المقهى أو في مكان آخر. ولا يهتم بأفراد أسرته.
لماذا لا يذهب إلى منزلة ليؤانس أهله؟ وليشبع رغبتهم ويجلس مع زوجته وأهله وأولاده
وبذلك تطمئن الزوجة أن رجلها معها وليس في مكان آ خر، وذلك حتى تستقر الأمور. إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن عائشة رضي الله عنها فتأذن له. قالت عائشة
رضوان الله عليها:
" فقام إلى قربة فتوضأ ثم قام فبكى ثم قرأ فبكى، ثم أثنى على الله وحمده
فبكى، حتى ابتلت الأرض، ثم جاء بلال، فقال: يا رسول الله صلاة الغداة. فرآه يبكي.
فقال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال رسول
الله: أفلا أكون عبدا شكورا.. يا بلال لقد نزل علي الليلة:{ إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىا
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا
خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ
مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *
رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ
بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا
عَلَىا رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ
الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ
مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ
هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ
وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ
حُسْنُ الثَّوَابِ * لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي
الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ
خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ * وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ
يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ }
[آل عمران: 190-200].
وأضاف رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وويل
لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها ".
هذا ما جاء عن سيدنا رسول الله في أواخر سورة آل عمران، تلك الأواخر التي تبدأ
بقوله تعالى: } إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ
الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ {.
إن في تلك الآيات المنهج والاستدلال، واصطحاب الحق سبحانه وتعالى وذكره على كل حال
من القيام والقعود وعلى الجنب. إن الحق يقول: } الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىا جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
ها نحن أولاء نرى أن مطلوب أولى الألباب هو أن يذكروا الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم. وقال بعض العلماء في تفسير قول الحق: } الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىا جُنُوبِهِمْ { إن المقصود بذلك هو الصلاة، فمن لا
يستطيع الصلاة قائماً يصلي قاعدا.. ومن لا يستطيع الصلاة قاعدا فليصل مضطجعا.
ونقول لهؤلاء العلماء: لقد خصصتهم هذا المعنى حيث المقام للتعميم، لماذا لأن
القرآن لا يتعارض مع بعضه، بل يفسر بعضه بعضا، والحق يقول عند صلاة الخوف:{
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ
مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ
فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىا لَمْ يُصَلُّواْ
فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ
بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ
وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً }
[النساء: 102].
وحتى لا يظن المؤمن أن الفروض الخمسة هي التي يذكر فيها الله فقط قال سبحانه:{
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىا
جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ
كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }[النساء: 103].
أي إنه حصلت الصلاة أولا، وحصلت الصلاة ثانيا، كأن ذكر الله أمر متصل واجب في
الصلاة، وفي غيرها، وبعدها يتفكر المؤمنون في خلق السماوات والأرض ويعترفون أنه
سبحانه لم يخلق هذا باطلاً. ويكون المطلوب أن يقولوا:
} سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { [آل عمران: 191].
لماذا؟ لأن كل هذا الذكر لا يوفي حق ربنا علينا.. لذلك قالوا: } رَبَّنَآ إِنَّكَ
مَن تُدْخِلِ... {.
(/582)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
إنها العظمة، فهم لا يذكرون عذاب من يدخل النار، ولكنهم يذكرون خزي الله لمن دخل
النار. وكأن الخزي مرتبة أشر من عذاب النار، فمن الذي أعطانا كل هذا الفضل، إنه -
سبحانه - أعطانا توفيقا لذكره، وتوفيقاً لنتفكر في خلق السماوات والأرض، فهل يصح
أن نقابله بكفران النعمة؟ وما الذي يحدث بهؤلاء الذين يدخلون النار؟
إنه الخزي والعياذ بالله. { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي وليس لهم
أنصار يمنعون عنهم عذاب النار.
ومن بعد ذلك يقول الحق: { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي... }
(/583)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
فكأن الإنسان بقلبه وفكره قبل أن يجيء له الرسول يجب أن يتنبه إلى ما في الكون من
آيات، وعليه أن يستشرف أن وراء الكون قوة، ولكن هذه القوة مبهمة في ذهنه. ما هي؟
إنه يرى الكون العجيب فيقول لنفسه: من المستحيل أن يكون هذا الكون بلا خالق. إن
وراءه قوة لها حكمة ولها قدرة. هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولكن أيستطيع العقل أن
يدرك أن القوة اسمها الله؟ أيستطيع العقل أن يدرك ماذا تطلب القوة منه؟
لا. إذن لابد من رسول يبلغ عن تلك القوة. ولذلك قلنا: إن تلك هي الزلة التي وقع
فيها الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة هم الذين بحثوا وراء المادة. ونحن نعلم أن العلم
ينقسم إلى قمسين، قسم مادي قائم على التجربة، وقسم ميتا فيزيقى يبحث فيما وراء
المادة. وهذا العلم متاهة الفلاسفة، وهو المضلة التي لم تلتق فيها مدرسة بمدرسة،
ولا تمليذ في مدرسة مع تلميذ آخر في مدرسة.
لماذا لم يلتقوا؟ لأنهم يبحثون وراء المادة. وما وراء المادة غيب. والغيب لا يدخل
المعمل. لكن المادة تدخل المعمل. والمعمل عندما يعطي نتائج تحليلات لا يجامل في
هذه النتائج. فالذي يدخل التجربة العلمية في المعمل بنزاهة فالمعمل يعطيه. والذي
يدخل بغير نزاهة لا تعطيه المعامل شيئا.
ولذلك نقول دائما: إننا لا نجد في العلوم المادية فارقا بين علم شيوعي روسي، وعلم
أمريكي رأسمالي، فلا توجد كيمياء رأسمالية أو كيمياء شيوعية ولا توجد كهرباء روسية
وأخرى أمريكية. إنها كيمياء واحدة، وكهرباء واحدة لأنها ابنة المعمل وبنت التجربة
المادية.
ومن العجيب الذي لا يفطن له الخلق المغرورون من هؤلاء أننا نجد العلم المادي ابن
التجربة والمعمل والمادة الصماء التي لا تجامل يحاول كل معسكر أن يسرقه من غيره،
ونجد الجواسيس يسافرون من معسكر إلى معسكر ليسرقوا تصميمات الطائرات والصواريخ.
وأن بعضهم يتلصص على بعض حتى يعرفوا العلم المادي.
لكن ماذا عن علم الأهواء والنظريات؟ إننا نجد أن كل طرف يقيم جدارا حتى لا يخترق
علم الأهواء المجتمع.
هم يقيمون الحواجز في الأهواء، ولكن في العلم المادي يتحولون إلى لصوص. فلماذا لا
يأخذون الأهواء مع العلم المادي؟ إن كل معسكر حريص على العداء مع مذاهب الغير في
الحكم والاجتماع والاقتصاد. لكنهم في العلم المادي يسرق بعضهم بعضا؛ لأن المذاهب
النظرية تتبع الأهواء، لكن العلم المادي - كما قلنا - يتبع الحقيقة المعملية التي
لا تجامل.
إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد
عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل
كل ذلك على اللطيف الخبير؟!!
إنه دليل فطري، يدلك على وجود القوة، لكن ما اسم هذه القوة؟ لا نعرف.
إذن فالأذن تستشرف إلى من يدلها على اسم هذه القوة. فإذا جاء واحد وقال: أنا
مُرْسَلٌ من ناحية هذه القوة، وأنَّ اسمها الله، كان من المفروض أن تتهافت الناس
عليه؛ لأنه سيحل لها اللغز الذي يشغلهم، لذلك فالمؤمنون يقولون: } رَّبَّنَآ
إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ
فَآمَنَّا { [آل عمران: 193].
كأن ذهن كل واحد فيهم كان مشغولا بضرورة التعرف على الخالق. وبعد ذلك.{ رَبَّنَآ
إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
أَنْصَارٍ }[آل عمران: 192].
فأول حاجة فكروا فيها هي درء المفسدة؛ لأن أفاضل الناس يتهمون أنفسهم بالتقصير
دائما؛ لذلك قالوا: } رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا {.
وعندما ننظر إلى معطيات القرآن نجد أن " الذنب " شيء، و " السيئة
" شيء آخر. فالذنب يحتاج إلى غفران، والسيئة تحتاج إلى تكفير، على سبيل
المثال " كفارة اليمين " تكون واجبة إذا ما أقسم المؤمن يمينا وحنث فيه،
وهذا التكفير هو المقابل للحنث في اليمين، أما الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين
العبد وربه فهي الذنب، والسيئة هي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله. فحين
تفعل المعصية في أمر بينك وبين الله. فأنت لم تسيء إلى الله، فمن أنت أيها الإنسان
من منزلة الله؟ لكنك بالمعصية تذنب، والذنب تأتي بعده العقوبة. أما مخالفة منهج
الله مع عباد الله فهي. سيئة؛ لأنك بها تكون قد أسأت.
لذلك فالمؤمنون قالوا: } رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا {.
ومن الذي هداهم إلى معرفة أن هناك فرقا بين الذنب والسيئة؟ وأن الذنب يحتاج إلى
غفران، وأن السيئة تحتاج إلى تكفير؟ إنه الرسول صلى الله عليه وسلم حامل الرسالة
من الله. وهو الذي علمنا الفرق بين الذنب والسيئة. فقد كان جالساً بين أصحابه
فأخذته سِنَةٌ من النوم، ثم استيقظ فضحك.
فعن أنس رضي الله عنه قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ
رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال:
رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال
الله: أعط أخاك مظلمته. قال يا رب: لم يبق من حسناتي شيء، قال: يا رب يحمل عني من
أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم
عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يُتَحَمَّل عنهم من أوزارهم. فقال الله للطالب: ارفع
بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب
مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ لأي صِدّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى
الثمن. قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال:
يا رب قد عفوت عنه، قال: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة
".
هذا هو معنى التكفير أي أن نتحمل؛ لذلك نقول في الدعاء كما عُلِّمْنَا: "
اللهم ما كان لك منها فاغفره لي، وما كان لعبادك فتحمله عني ". أي أن العبد
يطلب أن يراضي الحق عباده من عنده، وما عنده لا ينفد أبدا.
والعباد المؤمنون يقولون: } رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا
سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ { أي اختم لنا سبحانك هذا الختام مع
الأبرار. ومن بعد ذلك يأتي قوله تعالى حكاية عنهم: } رَبَّنَا وَآتِنَا مَا
وَعَدتَّنَا.... {.
(/584)
رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
أي ربنا أعطنا ما وعدتنا على لسان رسلك، ولتسمع قول الحق استجابة لهم: {
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي.... }.
(/585)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
ولْنر اللفتة الجميلة في الاستجابة: " فاستجاب لهم ربهم أنّي لا أضيع عمل
عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض " لقد كانوا يذكرون الله قياماً
وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض. ويخشون الدخول إلى النار.
ودعوا الله بغفران الذنوب وتكفير السيئات. ودعوا الله أن يأتيهم ويعطيهم ما وعدهم
به على ألسنة الرسل.
لم يقل الحق سبحانه: استجبت لكم، لكنه جعل الاستجابة هي قبول العمل فقال: { أَنِّي
لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا } فليست الحكاية
كلاما يقال، إنما يريد الله أن تدخل هذه المسائل في حيز التطبيق والنزوع العملي؛
فالمسألة ليست بالتمني فقط، فقد وضع سبحانه الشرط الواضح وهو العمل، فمن يريد
استجابة الحق فلابد له من العمل. إن التفكر في بديع صنع الله لا يغني عن العمل؛
لأن الحق سبحانه يريد التفكر فيه وأنت تعمل في أسبابه. فأسباب الحق لا تشغلك عنه {
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىا بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ
مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [آل عمران:
195].
فالذين هاجروا من بلادهم ومن أهلهم ومن أوطانهم ومن أحبابهم، دون إكراه فهجرتهم
هذه هي نزع وجودي، وانتقال من مكان إلى مكان جديد وكان ذلك في سبيل الله أي،
فالذين هاجروا وخرجوا بجزء من إرادتهم، وكذلك الذين أخرجوا من ديارهم، وقاتلوا في
سبيل الله وتحملوا الإيذاء وقُتلوا - هؤلاء - ينالون التكفير عن السيئات ويدخلون
الجنة.
لقد جاء الحق هنا بالعملية التي تتضح فيها الأسوة الإيمانية؛ لأن الإنسان ينشغل
بماله وأهله ووطنه وباستبقاء الحياة، فإذا ما ضحى الإنسان بهذا كله في سبيل الثبات
على كلمة الله أولا، وإعلاء كلمة الله ونشرها ثانيا. فالمؤمن من هؤلاء لم يكتف
بنفسه بل جاهد في سبيل الله لتنتقل الحياة بحلاوتها إلى غيره، وبذلك يكون قد أحب
لغيره ما أحبه لنفسه.
نخرج من كل هذا برؤية واضحة هي أن الفكر وحده لا يكفي وإذا قال واحد: إن إيماني
حسن فلا تأخذني بالمسائل الشكلية، نرد عليه قائلين: إن الله ليس في حاجة إلى ذلك،
ولكنه يطلب منك أن تعمر الكون بحركتك، وأبرك الحركات وأفضلها أن ترسخ منهج الله في
الأرض؛ لأنك إن رسخت منهج الله في الأرض، أدمت للوجود جماله.
ومن بعد ذلك يقول الحق: { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ... }.
(/586)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
وإذا ما سمعنا كلمة { تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ } فاعلم أن
التقلب يحتاج إلى قدرة على الحركة. والقدرة على الحركة تكون في مكان الإنسان
وبلاده، فإذا اتسعت قدرتك على الحركة وانتقلت إلى بلد آخر، فعندئذ يقال عن هذا
الإنسان: " فلان نشاطه واسع " أي أن البيئة التي تحيا فيها ليست على
قدرة قدرته، بل إن قدرته أكبر من بيئته، لذلك فإنه يخرج من بلده. وكان ذلك يحدث،
فكفار قريش كانوا يرحلون من بلدهم في رحلات خارجها. لذلك قال الحق:
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ } [آل عمران:
196].
والتقلب كما عرفنا ينشأ عن: قدرة وحركة واتساع طموح. وسبحانه يريد أن يبين لنا أن
زخارف الحياة قد تأتي لغير المؤمنين. إن كل زخرف هو متاع الحياة الدنيا وهو مرتبط
بعمر الإنسان في الوجود. ومهما أخذوا فقد أخذوا زينة الحياة وغرورها؛ فسبحانه هو
القائل:{ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }[آل عمران: 185].
إنها حياة لها نهاية. أما الذي يريد أن يُصَعِّدَ النعمة ويصعد النفع فهو يفعل
العمل من أجل حياة لا تنتهي. والكافرون قد يأخذون العاجلة المنتهية، ولكن المؤمنين
يأخذون الآجلة التي لا تنتهي.
وحين نقارن بين طالب الدنيا وطالب الآخرة، نرى أن الصفقة تستحق أن نناقشها من
نواحيها وهي كما يلي: لا تقس عمر الدنيا بالنسبة لذاتها، ولكن قس عمرها بالنسبة
لعمر الفرد في الحياة؛ لأن عمر الدنيا عند كل فرد هو مدة بقائه فيها، فهب أن
الدنيا دامت لغيري، فمالي ولها، إن عمر الدنيا قصير بالنسبة لبقاء الإنسان فيها،
وإياك أن تقارنها بقولك: إن الدنيا سوف تبقي لملايين السنين؛ لأنها ستظل ملايين
السنين لملايين الخلق غيرك، وعمر الدنيا بالنسبة لك هو عمرك فيها، وعمرك فيها
محدود، وهذا على فرض أن الإنسان سيعيش متوسط الأعمار. فما بالك وعمرك فيها مظنون؛
لأن الموت يأتي بلا سن ولا يرتبط بسبب أو بزمان. ولذلك فالإنسان لا يضمن متوسط
الأعمار. وعمر الآخرة متيقن وهو إلى خلود.
إذن فعمر الإنسان في الدنيا مظنون وعمره في الآخرة متيقن، والدنيا محدودة، وفي
الآخرة خلود، ونعيمك في الدنيا منوط بقدرتك على تصور النعمة وإمكاناتها. ولكن
نعيمك في الآخرة على قدر عظمة رَبّك وعطائه العميم؛ لذلك قال الحق عنها: إنها متاع
الغرور. ولم يأت الله لها باسم أقل من اسم الدنيا، فهل هناك اسم أقل وأحقر من هذا؟
إن الذين يغترون بما يناله الخارجون عن منهج الله من تقلبهم في البلاد عليهم أن
يتذكروا أن كل ذلك إلى زوال وضياع. وعلينا أن نقارن التقلب في البلاد بما أعده
الله لنا في الآخرة. وساعة تقارن هذه المقارنة تكون المقارنة سليمة..
ولذلك يتابع الحق قوله عن تقلب الذين كفروا في البلاد: { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ
مَأْوَاهُمْ... }
(/587)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
والمهد هو المكان الذي ينام فيه الطفل. ومعنى ذلك أن الحق يقلب فيهم في جهنم كما
يريد، لأنه لا قدرة لهم على أي شيء، شأنهم في ذلك شأن الطفل، يزال ملازما لفراشه
ومهده حتى يقلبه ويحركه غيره. ويأتي المقابل لهؤلاء وهم المؤمنون فيقول:
{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ... }.
(/588)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
والنزل هو المكان الذي يعد لنزول الضيف، والنزل حينما تقيمه قدرات بشرية تتراوح
حسب إمكانات البشر وفي إحدى السفريات نزلنا في فندق فاخر فقال لي زملائي وإخواني:
هذا لون من العظمة البشرية.
قلت لهم: هذا ما أعده البشر للبشر، فكيف بما أعده الله للمؤمنين؟
وعندما ترى تقلب الكفار في البلاد فاعلم أنهم لن يأمنوا أن يأخذهم الله في تقلبهم،
وفي ذلك يقول:{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ
جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ }[الأنعام: 47].
ويقول - سبحانه -:{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ
}[الأنعام: 46].
والكافر من هؤلاء يتملكه الغرور، وهو يتقلب فيأتيه عذاب الله بغتة. والعذاب يأتي
مرة بغتة، ومرة أخرى جهرة. إنه يأتي بغتة حتى يكون الإنسان متوقعا له في أي لحظة
ويأتي جهرة حتى يرعب الإنسان ويخيفه قبل أن يقع. ولذلك يقول الحق:{ لَن نُّؤْمِنَ
لَكَ حَتَّىا نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ
تَنظُرُونَ }[البقرة: 55].
فالموت إن جاءهم بغتة فقد لا يشعرون بهوله إلا لحظة وقوعه، ولكن حينما يأتيهم
الموت وهم ينظرون، فهم يرونه وهم في فزع ورعب.
والحق يقول من بعد ذلك: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن... }.
(/589)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
والحق سبحانه وتعالى يؤرخ للإيمان تأريخا صادقا أمينا، فالقرآن لم يتحامل على أهل
الكتاب لأنهم عاندوا رسول الله وواجهوا دعوته وصنعوا معه كل ما يمكن أن يحبط
الدعوة ويقضي عليها.
إن القرآن يقول: في شأن بعض منهم منصفا لهم: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } وهذا اسمه - كما قلنا - صيانة الاحتمال. فساعة يقول
الحق: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } ، ساعة ينزل
هذا الكلام، فيسمعه بعض من أهل الكتاب الذين انشغلوا في أعماقهم بتصديق الرسول،
ويعرضون قضية الإيمان على نفوسهم، فإذا ما كانوا كذلك ماذا يكون موقفهم وهم الذين
يفكرون في أمر الإيمان بما جاء به محمد؟ إنهم عندئذ يقولون لأنفسهم: هذه مسألة في
أعماقنا، فمن الذي أطلع محمداً عليها؟ إن ذلك دليل على أن محمداً لا ينطق عن
الهوى، وأن الله يعلمه بما في نفوسنا مما لم يبرز إلى حيز الوجود، وما دام الحق
يخبره بما لم يخرج إلى حيز الوجود فلابد أنه صادق. فإن كانت الآية قد قيلت بعد أن
آمنوا فلن يكون لها هذا الوقع.
إذن فلابد أن هذا القول تبشير بأن كثيراً من أهل الكتاب يفكرون في تصديق الرسول
الله في البلاغ من الله، وهم بصدد أن يؤمنوا. فقول الله ذلك يجعل العملية
الإيمانية في نفوسهم مصدقة، لأنهم يقولون: إنّ الرسول الذي يقول ذلك هو مبلغ عن
إله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ويقول الحق من بعد ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... }.
(/590)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
هذه الآية هي ختام سورة آل عمران. وسورة آل عمران جاءت بعد سورة البقرة. والسورتان
تشتركان معاً في قضية عقدية أولى، وهي الإيمان بالله والتصديق بمحمد صلى الله عليه
وسلم وبما جاء به من عند الله خاتما للرسالات ومهيمناً عليها. ولذلك تكلم الحق عن
قضية الإيمان وقضية الهدى وقضية الكتاب، ثم تعرض الحق لرواسب ديانات سابقة تحولت
عن منهج الله إلى أهواء البشر، فجادل في سورة البقرة اليهود، وجادل في سورة آل
عمران النصارى.
وبعد ذلك عرض قضية إيمانية تتعلق بموقف المسلمين المؤمنين بالله وبتصديق رسوله في
معترك الحياة، وعرض معركة من المعارك ابتلى فيها المؤمنون ابتلاءً شديداً، ثم عرض
للقضية الإيمانية حين يثوب المؤمن المتخاذل إلى منهج ربه. وبعد أن ينتهي من هذه،
يقول الحق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } أي ما من آمنتم بما تقدم إيماناً
بالله، وتصديقاً بكتابه، وتصديقاً برسالته صلى الله عليه وسلم، وتمحيصاً للحق مع
اليهود، وتمحيصاً للحق مع أهل الكتاب جميعاً، تمحيصاً لا جدلياً نظرياً، ولكن
واقعيا في معركة من أهم معارك الإسلام وهي معركة أحد، فيا من آمنتم بالله إيمانا صادقا
صافيا، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي " اصْبِرُواْ " وهذا أمر، و "
وَصَابِرُواْ " أمر ثان، و " رَابِطُواْ " أمر ثالث، و "
وَاتَّقُواْ اللَّهَ " أمر رابع.
إنها رابعة أوامر، والغاية من هذه الأوامر هي { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إذن فمن
عشق الفلاح فعليه أن ينفذ هذه الأربعة: اصبر، صابر، رابط، اتق الله، لعلك تفلح.
والحق سبحانه وتعالى حين يعبر عن الفلاح إنما يعبر بأمر مشهود مُحس للناس جميعاً،
لم يقل لك: افعل ذلك لتنجح أو لتفوز. إنما جاء بكلمة " الفلاح ". و
" الفلاح " كما قلنا: مأخوذ من فلح الأرض. وفلح الأرض هو شقها لتتعرض
للهواء، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة، فإذا فلحت الأرض
بهذه المشقة حرثاً وبذراً وتعهداً بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيراً
مادياً مشهوداً ملحوظا.
إذن فقد ضرب الله المثل في المعنويات بالأمر المحُس الذي يباشره الناس جميعا، وأي
فَلاَح هذا الذي يقصده الحق سبحانه وتعالى؟ إنه فلاح الدنيا وفلاح الآخرة؛ فلاح
الدنيا بأن تنتصروا على خصومكم، وأن تعيشوا معيشة آمنة مستقرة رغدة، وفلاح الآخرة
أن تأخذوا حظكم من الخلود في النعيم المقيم، ومادام سبحانه يقول: اصبروا فلابد أن
يكون هذا إيذانا بأن فيه مشقة، فالإيمان يؤدي إلى الجنة، والجنة محفوفة بالمكاره؛
لذلك لابد أن تكون فيه مشقات.
وإذا نظرت إلى تلك المشقات تجدها في ذات النفس منفصلة عن المجتمع تارة، وتجدها في
ذات النفس مع المجتمع تارة أخرى، أما في ذات النفس مفصولة عن المجتمع، فإن الصبر
يقتضي أن تصبر على تنفيذ أمر الله في فعل الطاعات وعلى تحمل الألم منه في ترك
المعاصي وإن كان ذلك يمنعك عن لذة شهوة تحبها فإنك تصبر عن تلك الشهوة التي تلح
عليك، فمجاهدة المؤمن أن يصبر عن الشهوات التي نهى الله عنها، والأشياء التي تصيب
الإنسان يصبر عليها، فالمصيبة في النفس يصبر عليها، والأشياء التي يصبر عنها من
النواهي هي الشهوات والمتع التي يحرمها الله.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إنني خلقتك وأعلم منازعة نفسك إلى الشهوة، لأنك
تحبها فاصبر عنها، والأمور التي في الطاعة إن فعلتها ستورثك مشقة في ذاتك، اصبر
عليها، إذن ففي الأوامر صبر على تنفيذها، وفي المناهي صبر عن إيقاعها، هذه كلها في
الذات، وبعد ذلك إذا تعدت المسألة من الذاتية إلى المحيط الخارجي فالحق يقول:{
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـائِكَ
الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }[البقرة: 177].
يقول: " صابرين في " ، فعندنا " صابر على " ، و " صابر
عن " و " صابر في " ، " والصابرين في البأساء " التي تقع
عليهم من المجتمع الخارج عنهم، وكيف تصيبهم البأساء من المجتمع الخارج عنهم؟ نعم،
لأن منهج الحق إنما يجيء ليصوب الخطأ في حركة المجتمع. والخطأ في حركة المجتمع
إنما يستفيد منه أناس وهم يحرصون جاهدين أن يصدوا من يريدون تثبيت منهج الله، إذن
فهم لا يقصرون في إيذائهم، وفي السخرية منهم، وفي إتعابهم وفي حربهم، وهذا صبر في
البأساء والضراء وحين البأس، وإذا كان عدوك الذي جئت لتدحض منهجه الباطل بمنهجك
الحق صابرك وصابر أيضاً على إيذائك، فعليك أن تصابره.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن " اصبر " غير " صابر " فاصبر هو أمر
في نفسك ستصبر عليه، ولكن هب أن خصمك صبر أيضاً على إيذائك، وصار عنده جلد ليقف
أمامك هنا،
الحق يأمرك هنا بأن تصابره، أي إذا كان عدوك يصبر قليلا فعليك أنت أن تقوى على
الصبر عليه، أي أن تجيء بصبر فوق الصبر الذي يعارضك، وكل مادة " فاعل "
هكذا.
مثال ذلك: عندما تقول: فلان نافس فلانا. والمنافسة تكون بين اثنين يحتاجان ويقصدان
غاية، وكل واحد يريد أن يصل إليها، والذي يريد أن يصل إليها يريد أن يصل بحرص، فإن
كان معاندك يحرص عليها بخطوة فاحرص عليها أنت بخطوتين، هذه هي المنافسة؛ فالمنافسة
مغالبة على الفوز، والحق يقول:{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ
}[المطففين: 26] والأصل فيها هو: إطالة النفس حين يغطس الإنسان في الماء، وسيدنا
عمر - رضي الله عنه - قال للعباس - رضي الله عنه -: أتنافسني؟ أي عرض عليه أن
ينزلا معا تحت الماء، ويرى مَن منهما أطول نفسا.
إذن فالفطن الكيّس هو من يتمرس على هذا العمل ولا ينزل إلى الماء في نفس متردد، بل
يأخذ كمية من الهواء بشهيق يتسع له تجويف صدره كله ليكون عنده حصيلة يستطيع بها أن
يمكث في الماء أطول مدة من الثاني، أما الذي يغطس وليس عنده هذه الحصيلة، فسيأخذ
مقدار شهيق وزفير فقط " فنافسني " تعني أن نغطس في الماء معا لنرى من
منا أطول نفسا. أي أنه قادر على أن يحتفظ بكمية من الهواء تستطيع أن تؤدي وظيفة
حياته مدة طويلة، ولا يمكن أن يتأتى هذا إلا إذا أخذت شهيقاً يملأ الصدر حتى إنك
لا تقدر أن تزيد، ولذلك فالطبيب عندما يريد أن يفحص حالة الرئة يقول للمريض: خذ
نفساً طويلاً، لأنه يريد أن يرى المريض وقدرته.
إذن فالمصابرة تعني إن كان خصمك يصابرك فأنت تصبر وهو يصبر، فتصبر أنت أكثر، ولهذا
تحتاج المسألة إلى أن يتكاتف المجتمع كله على المصابرة، ولذلك جاء قول الحق سبحانه
وتعالى:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ
بِالصَّبْرِ }[العصر: 1-3].
أي أنك إذا رأيت أخا من إخوانك المؤمنين يخور ويضعف في مصابرته فتحثه على المصابرة
وقل له: إياك أن تخور، لماذا؟ لأن النفس البشرية من الأغيار، وقد يأتي لها حدث
يقوى عليها، فالمؤمن الذي ليس عنده هذه الأغيار ينفخ بالعزيمة فيمن يخور فقال
الحق: " تواصوا " ، ولم يقل: جماعة يوصون جماعة، لا. " فالتواصي
" أن تكون أنت مرة موصِياً، ومرة مُوصىً، فساعة لا يكون عندك ضعف الأغيار
فَوصِّ، وساعة يكون عندك ضعف الأغيار تُوَصىَّ، فكل واحد موصٍ في وقت، ومُوصىً في
وقت آخر، ولا نتواصى هذه التوصية على الصبر إلا إذا كنا تواصينا أولا على الحق
الذي من أجله نشأت المعركة بين صابر وصابر.
} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ
وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { وعرفنا الصبر، وعرفنا المصابرة،
فما هو الرباط؟ هو أن تشعر عدوك بأنك مستعد دائما للقائه، هذا هو معنى الرباط.
والحق يقول:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }[الأنفال: 60].
إنها خيل مربوطة للجهاد في سبيل الله مستعدة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" خيركم ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها ".
أي أن نكون مستعدين قبل وقوع الهجوم، وساعة تأتي الأمور الداهمة ننطلق لمواجهتها.
ولكن يكون استعدادنا من قبل الأمر الداهم، ولذلك حين يكون عدوك عالما بأنك مرابط
له ومستعد للحركة في أي وقت يرهبك ويخافك، أما إذا كنت في استرخاء وغفلة؛ فإنه
يدهمك، فإلى أن تستعد يكون قد أخذ منك الجولة الأولى، إذن فما فائدة الرباط؟
فائدة الرباط أن يُعلم أنك لم تغفل عن عدوك وأنك لن تترك العدة والاستعداد له إلى
أن يأتي بالمداهمة، ولكن تكون أنت مستعدّاً لها في كل وقت، والرباط لا يكون فقط أن
ترابط بالخيل للعدو المهاجم هجوما ماديا، بل المرابطة تعني: الإعداد لكل ما يمكن
أن يَرُدَّ عن الحق صيحة الباطل، فمن المرابطة أن تعد الناشئة الإسلامية لوافدات
الإلحاد قبل أن تفد، لماذا؟
لأن المسألة ليست كلها غزواً بخيل وسلاح وعُدَد، فقد يكون الغزو بالفكر الذي يتسرب
إلى النفوس من حيث لا تشعر، فإذن لابد أن تكون أيضاً في الرباط الذي يمد المؤمن
بقدرة وطاقة المواجهة بحيث إذا جاءت قضية من قضايا الإلحاد التي قد تفد على
المؤمنين، يكون عند كل واحد منهم الحصانة ضدها والقدرة على مواجهتها.
لقد قلنا: إن آفة المناهج العلمية أنهم أخذوا مناهجهم عن الغرب، فدرسوا التاريخ
كما يدرسه الغرب، ودرسوا الطبيعة كما يدرسها الغرب ونسوا أن لنا دينا يحمينا من كل
هذه الأشياء، فعندما يأتيني رجل التاريخ بمنهجه من الغرب، ويقول: إن الثورة
الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، هنا يجب أن تكون عندنا مناعة وترابط، ونقول
له: في أي سنة نشأت الثورة الفرنسية؟
لقد نشأت منذ سنوات قليلة، قد تزيد أو تنقص علىالمائتي سنة، وأنتم تجهلون أن الدين
الإسلامي جاء منذ أربعة عشر قرنا بحقوق الإنسان، واقرأوا القرآن. فلو أن كل تلميذ
حين يسمع أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، يقول لهم: لا، أنت تعلم
أن ذلك حدث في القرن السابع عشر لكن لماذا لا تلتفت إلى أنه منذ أربعة عشر قرنا
جاء الإسلام بهذا المبدأ والتفت إلى الإساءة في استعمال الحق، فإذا كنت تجهل تشريع
الله فلا يصح أن يؤدي بك هذا الجهل إلى طمس معالم الحق في منهج الله.
وإذا قال دارس للطبيعة: إن الطبيعة أمدت الحيوان الفلاني باللون الذي يناسب البيئة
التي يعيش فيها حتى لا يفتك به عدوه وهو بذلك يضلله، نقول له: إن الطبيعة لا تمد،
الطبيعة ممدة من الله، لا تقل: إن الطبيعة أمدت. إذن فالرباط لا يكون بقوة عسكرية
فحسب بل بالقوة العلمية أيضا، فخصوم الإسلام قد يئسوا من أن ينتصروا على الإسلام
بقوة عسكرية بعد أن كتلوا كل قواهم في الحروب الصليبية، ولم يبق لهم إلا أن
يَدخلوا علينا من خلال مناهجهم ومن خلال المستشرقين هناك، والمستغربين منا فينقلوا
لنا ثقافات أجنبية بعيدة عن منهجنا، وهم معذورون لأنهم لا يعلمون منهج الله في دين
الله، إذن فالرباط لابد أن يكون أيضاً في رباط الأفكار، ورباط العلم المادي.
إن خصوم الإسلام يدخلون على الناس من مداخل متعددة فيجب أن ننبه النشء إليها،
يقولون: أوروبا ارتقت حضاريا وأنتم يا مسلمون تخلفتم.
نقول لهم: هل كان التخلف مقارنا للإسلام؟ لقد كانت الدولة الإسلامية هي الدولة
الحضارية الأولى في العالم لمدة ألف سنة، وأوروبا التي تتشدقون بحضارتها كانت تعيش
في العصور المظلمة. إن هؤلاء لم يعرفوا تاريخنا أو هم يتكلمون لأناس لا يعرفون
تاريخهم.
إذن فالمرابطة أن توضح أمور دينك توضيحا يقف أمام أي وافدة قبل أن تفد بالعدوان
المسلح، ويجب أن تقف لغزو الأفكار ولهدم المبادئ، ولذلك قال الحق: " اصبروا
". و " صابروا ". و " رابطوا " ، وجماع كل ذلك "
الصبر على " و " الصبر عن " و " الصبر في " ، والمصابرة
للعدو والتواصي بالصبر، والرباط بمعنييه المادي والمعنوي، أي بالأمور المادية
والأمور المعنوية القيمية، ويختم الحق الآية بقوله: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {.
ونعرف أنه حين قال لك: " اتق الله " تساوي أن يقول لك: " اتق النار
" فمعنى " اتقو الله ": أي اجعلوا بينكم وبين غضب ربكم وقاية. ما
هي الوقاية؟ أن تطيع، وما هي الطاعة؟ أن تنفذ ما أمر، وأن تنتهي عما نهى. فالذي
يفسر التقوى بأنها الطاعة نقول له: نعم لأنها الوسيلة إلى وقايتك من غضب الله
وعذابه، فالذي يفسرها بهذا يفسرها بالوسيلة، والذي يفسرها بالأخرى يفسرها بالغاية،
فعندما يقال لك: اتق الله، أي اجعل بينك وبين النار التي هي من جنود الله وقاية،
أي اجعل بينك وبين غضب الله وقاية، وإذا قال لك: اتَّقِ الله يعني أطعه في أمره
وفي نهيه، فما هي الوسيلة لاتقاء النار واتقاء غضب الله؟ إنها الطاعة، فمرة تفسر
التقوى بالوسيلة ومرة تفسر بالغاية.
وقلنا في قوله: } لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { إن الفلاح إما أن يكون في الدنيا وإما
أن يكون في الآخرة في الدنيا: بأن ترتفع كلمة الحق وكلمة الإيمان وتنتصروا ولا أحد
يذلكم ولا يجعلكم أحد تابعين له. هذا لون من الفلاح، ولكن على فرض أنهم فلحوا
وضعفتم أنتم، في فترة من الزمن فثقوا أنكم تعملون لفلاح آخر هو فلاح الآخرة، وإلا
فالذين يخاطبون بهذه الآية قبل أن يدركوا نصرا للإسلام على أعدائه، يفسرون الفلاح
بماذا؟ الذين جاهدوا وتعبوا وعاشوا مضطهدين لا استقرار في حياتهم، وبعد ذلك ماتوا
قبل أن يمكن للإسلام، كيف يكون فلاحهم؟ إن فلاحهم في الآخرة، ولذلك تجد الاحتياط
في قصة أهل الكهف:{ وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ
قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ
بِوَرِقِكُمْ هَـاذِهِ إِلَىا الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىا
طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ
بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ
فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً أَبَداً }[الكهف: 19-20].
ونلحظ في هذه القصة قوله الحق: } يَرْجُمُوكُمْ { هذه واحدة، } أَوْ يُعِيدُوكُمْ
فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً أَبَداً {.
إن كانوا يرجمونكم فسينتصرون عليكم في الدنيا، إنما ستأخذون الآخرة، وإن ردوكم إلى
دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان،
إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله
في قوله: } اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ {.
(/591)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
وساعة يدعو الله سبحانه الناس إلى تقواه يقول: { ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ومعنى { اتَّقُواْ
رَبَّكُم } أي اجعلوا بينكم وبينه وقاية، وماذا أفعل لأتقى ربنا؟
أول التقوى أن تؤمن به إلها، وتؤمن أنه إله بعقلك، إنه - سبحانه - يعرض لك القضية
العقلية للناس فيقول: { ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ } ولم يقل: اتقوا
الله، لأن الله مفهومه العبادة، فالإله معبود له أوامر وله نواه، لم يصل الحق
بالناس لهذه بعد، إنما هم لا يزالون في مرتبة الربوبية، والرب هو: المتولى تربية
الشىء، خلقاً من عدم وإمدادا من عدم، لكن أليس من حق المتولى خلق الشيء، وتربيته
أن يجعل له قانون صيانة؟
إن من حقه ومسئوليته أن يضع للمخلوق قانون صيانة. ونحن نرى الآن أن كل مخترع أو
صانع يضع لاختراعه أو للشىء الذي صنعه قانون صيانة، بالله أيخلق سبحانه البشر من
عدم وبعد ذلك يتركهم ليتصرفوا كما يشاؤون؟ أم يقول لهم: اعملوا كذا وكذا ولا
تعملوا كذا وكذا، لكى تؤدوا مهمتكم فى الحياة؟ إنه يضع دستور الدعوة للإيمان فقال:
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } إذن فالمطلوب
منهم ان يتقوا، ومعنى يتقوا ان يقيموا الوقاية لأنفسهم بأن ينفذوا أوامر هذا الرب
الإله الذي خلقهم، وبالله أيجعل خلقهم علة إلا إذا كان مشهودا بها له؟ هو سبحانه
يقول: { اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } كأن خلقه ربنا لنا مشهود بها،
وإلا لو كان مشكوكا فيها لقلنا له: إنك لم تخلقنا- ولله المثل الأعلى؟
أنت تسمع من يقول لك: أحسن مع فلان الذي صنع لك كذا وكذا، فأنت مقر بأنه صنع أم
لا؟ فإذا أقررت بأنه صنع فأنت تستجيب لمن يقول لك مثل ذلك الكلام. إذن فقول الله:
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ } فكأن خلق الله
للناس ليس محل جدال ولا شك من أحد، فأراد - سبحانه - أن يجذبنا إليه ويأخذنا إلى
جنابه بالشىء الذي نؤمن به جميعا وهو أنه - سبحانه - خلقنا إلى الشيء الذي يريده
وهو أن نتلقى من الله ما يقينا من صفات جلاله، وجاء سبحانه بكلمة " رب "
ولم يقل: " اتقوا الله " لأن مفهوم الرب هو الذي خلق من عدم وأمد من
عُدم، وتعهد وهو المربي ويبلغ بالإنسان مرتبة الكمال الذي يراد منه وهو الذي خلق
كل الكون فأحسن الخلق والصنع، ولذلك يقول الحق:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ فَأَنَّىا يُؤْفَكُونَ }[العنكبوت: 61] إذن فقضية الخلق قضية مستقرة.
ومادامت قضية مستقرة فمعناها: مادمتم آمنتم بأنى خالقكم فلى قدرة إذن، هذه واحدة،
وربيتكم إذن فلى حكمة، وإله له قدرة وله حكمة، إما أن نخاف من قدرته فنرهبه وإما
أن نشكر حكمته فنقر به، { ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }.
لو لم يقل الحق: } وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا { لما كملت، لماذا؟ لأنه سيقول فى
آيات آخرى عن الإيجاد:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُون }[الذاريات: 49] إذن فخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها هنا، والناس
تريد أن تدخل فى متاهة. هل خلق منها المقصود به خلق حواء من ضلع آدم أى من نفس
آدم؟ أناس قالوا ذلك، وأناس قالوا: لا، } مِنْهَا { تعني من جنسها، ودللوا على ذلك
قائلين: حين يقول الله:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ }[التوبة:
128] أأخذالله محمدا صلى الله عليه وسلم من نفوسنا وكونه؟ لا، إنما هو رسول من
جنسنا البشرى، وكأنه سبحانه قد أشار إلى دليل؛ لأن خلق حواء قد انطمست المعالم عنه،
ولأنه أعطانا بيان خلق آدم وتسويته من طين ومراحل خلقه إلى أن صار إنسانا، ولذلك
يجوز أن يكون قد جعل خلق آدم هو الصورة لخلق الجنس الأول، وبعد ذلك تكون حواء
مثله، فيكون قوله سبحانه: } خَلَقَ مِنْهَا { أي من جنسها، خلقها من طين ثم صورها
إلخ؛ ولكن لم يعد علينا التجربة في حواء كما قالها فى آدم، أو المراد من قوله: }
مِنْهَا { أى من الضلع، وهذا شيء لم نشهد أوله، والشيء الذي لم يشهده الإنسان
فالحجة فيه تكون ممن شهده، وسبحانه أراد أن يرحمنا من متاهات الظنون في هذه
المسألة، مسألة كيف خُلقنا، وكيف جئنا؟
إن كيفية خلقك ليس لك شأن بها، فالذي خلقك هو الذي يقول لك فاسمع كلامه لأن هذه
مسألة لا تتعلق بعلم تجريبي؛ ولذلك عندما جاء " دارون " وأراد أن يتكبر
ويتكلم، جاءت النظرية الحديثة لتهدم كلامه، قالت النظرية الحديثة لدارون: إن
الأمور التي أثرت في القرد الأول ليكون إنسانا، لماذا لم تؤثر في بقية القرود
ليكونوا أناسا وينعدم جنس القرود؟! وهذا سؤال لا يجيب عليه دارون؛ لذلك نقول: هذا
أمر لم نشهده فيجب أن نستمع ممن فعل، والحق سبحانه يقول:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ
خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51] وما دام لم يشهدهم، فهل يستطيع أحد منهم أن
يأتي بعلم فيها؟ إن أحدا لا يأتي بعلم فيها، وبعد ذلك يرد على من يجىء بادعاء علم
فيقول: } وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدا { معنى مضلين أنهم سيضلونكم
في الخلق. كأن الله أعطانا مناعة في الأقوال الزائفة التي يمكن أن تنشأ من هذا
عندما قال: } وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدا { فقد أوضح لنا طبيعة من
يضللون في أصل الخلق وفي كيفية الخلق، فهم لم يكونوا مع الله ليعاونوه ساعة الخلق
حتى يخبروا البشر بكيفية الخلق.
فإن أردتم أن تعرفوا فاعلموا أنه سبحانه الذي يقول كيف خلقتم وعلى أي صورة كنتم،
ولكن من يقول كذا وكذا، هم المضللون، و " المضللون " هم الذين يلفتونكم
عن الحق إلى الباطل. } ْياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ { ولماذا لم يقل خلقكم من زوجين وانتهى؟ لأنه
عندما يُردّ الشىء إلى اثنين قد يكون لواحد من الاثنين هوى، وإنما هذه ردت إلى
واحدة فقط، فيجب ألا تكون لكم أهواء متنازعة، لأنكم مردودون إلى نفس واحدة، أما عن
نظرية " دارون " وما قاله من كلام فقد قيض الله لقضية الدين وخاصة قضية
الإسلام علماء من غير المسلمين اهتدوا إلى دليل يوافق القرآن، فقام العالم الفرنسي
" مونيه " عندما أراد أن يرد على الخرافات التي يقولونها من أن أصل
الإنسان كذا وكذا، وقال: أنا أعجب ممن يفكرون هذا التفكير، هل توجد المصادفة ما
نسميه " ذكرا " ثم توجد المصادفة شخصا نسميه " أنثى " ويكون
من جنسه لكنه مختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا جاءا بذكر كالأول أو بأنثى
كالثاني؟
كيف تفعل المصادفة هذه العملية؟
سنسلم أن المصادفة خلقت آدم، فهل المصادفة أيضا خلقت له واحدة من جنسه. ولكنها
تختلف معه في النوع بحيث إذا التقيا معا ينشأ بينهما سيال عاطفي جارف وهو أعنف
الغرائز، ثم ينشأ منهما تلقيح يُنشىء ذكرا كالأول أو ينشىء أنثى كالثاني؟ أى
مصادفة هذه؟ هذه المصادفة تكون عاقلة وحكيمة، سموها مصادفة ونحن نسميها الله.
لقد ظن " مونيه " -هداه الله إلى الإسلام وغفر له - أنه جاء بالدليل الذي
يرد به على دارون، نقول له: إن القرآن قد مس هذه المسألة حين قال: } اتَّقُواْ
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
{ ، وهذه هى العظمة إنه خلق الرجل وخلق الأنثى؛ وهى من جنسه، ولكنها تختلف معه في
النوع بحيث إذا التقيا معا أنشأ الله منهما لاجالا ونساء. إذن فهو عملية مقصودة،
وعناية وغاية وحكمة، إذن فقول الله سبحانه وتعالى: } الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن
نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا { هذه جاءت بالدليل الذي هُدى إليه
العالم الفرنسى " مونيه " أخيرا. } وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
وَنِسَآءً { وانظروا عظمة الأسلوب في قوله } وَبَثَّ { أى " نشر " وسنقف
عند كلمة " نشر " لأن الخلق يجب أن ينتشروا في الأرض، كى يأخذوا جميعا
من خيرات الله في الأرض جميعا.
و " النشر " معناه تفريق المنشور في الحيز، فهناك شىء مطوى وشىء آخر
منشور، والشىء المطوى فيه تجمع، والشىء المنشور فيه تفريق وتوزيع، إذن فحيز الشىء
المتجمع ضيق، وحيز الشىء المبثوث واسع، معنى هذا أن الله سبحانه وتعالى حينما يقول
} وَبَثَّ مِنْهُمَا { أى من آدم وحواء } رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً { واكتفى
بأن يقول } َنِسَآءً { ولم يقل: كثيرات لماذا؟ لأن المفروض في كل ذكورة أن تكون
أقل في العدد من الأنوثة.
وأنت إذا نظرت مثلا في حقل فيه نخل، تجد كم ذكرا من النخيل، وكم أنثى؟ ستجد ذكراً
أو اثنين.
إذن القلة في الذكورة مقصودة لأن الذكر مخصب ويستطيع الذكر أن يخصب آلافا، فإذا قال
الله: } وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً { فالذكورة هى العنصر الذي يفترض أن
يكون أقل كثيرا، فماذا عن العنصر الثاني وهو الأنوثة؟ لابد أن يكون أكثر، والقرآن
يأتى لينبهك إلى المعطيات فى الألفاظ لأن المتكلم هو الله، ولكن إذا نظرت لقوله: }
وَبَثَّ مِنْهُمَا { أى من آدم وحواء وهما اثنان } رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً {
فتكون جمعا وهذا ليدلك على أن المتكاثر يبدأ بقلة ثم ينتهي بكثرة.
ونريد أن نفهم هذه كى نأخذ منها الدليل الإحصائي على وجود الخالق، فهو } بَثَّ
مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً { والجمع البشرى الذي ظهر من الاثنين سيبث
منه أكثر.. وبعد ذلك يبث من المبثوث الثاني مبثوثا ثالثا، وكلما امتددنا في البث
تنشأ كثرة، وعندما تنظر لأي بلد من البلاد تجد تعداده منذ قرن مضى أقل بكثير جدا
من تعداده الآن، مثال ذلك كان تعداد مصر منذ قرن لا يتعدى خمسة ملايين، ومن قرنين
كان أقل عددا، ومن عشرة قرون كان أقل، ومن عشرين قرنا كان أقل، إذن فكلما امتد بك
المستقبل بالتعداد يزيد، لأنه سبحانه يبث من الذكورة والأنوثة رجالاً كثيراً ونساء
وسيبث منهم أيضا عددا أكبر.
إذن فكلما تقدم الزمن تحدث زيادة في السكان، ونحن نرى ذلك في الأسرة الواحدة، إن
الأسرة الواحدة مكونة عادة من أب وأم، وبعد ذلك يمكن أن نرى منهما أبناء وأحفاد
وعندما يطيل الله في عمر أحد الوالدين يرى الأحفاد وقد يرى احفاد الأحفاد. إذن
كلما تقدم الزمن بالمتكاثر من اثنين يزداد وكلما رجعت إلى الماضي يقل؛ فالذين
كانوا مليوناً من قرن كانوا نصف مليون من قرنين، وسلسلها حتى يكونوا عشرة فقط،
والعشرة كانوا أربعة، والأربعة كانوا اثنين والاثنان هما آدم وحواء.
فعندما يقول الحق: إنه خلق آدم وحواء، وتحاول أنت تسلسل العالم كله سترجعه لهما،
ومادام التكاثر ينشأ من الاثنين، فمن أين جاءا؟ الحق سبحانه يوضح لنا ذلك بقوله: }
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى { وهو بذلك يريحنا من علم الإحصاء. وكان من الضروري أن
تأتي هذه الآية كى تحل لنا اللغز في الإحصاء، وكلما أتى الزمن المستقبل كثر العالم
وكلما ذهبنا إلى الماضي قل التعداد إلى أن يصير وينتهي إلى اثنين، وإياك أن تقول
إلى واحد، لأن واحداً لا يأتي منه تكاثر، فالتكاثر يأتي من اثنين ومن أين جاء
الاثنان؟ لابد أن أحداً خلقهما، وهو قادر على هذا، ويعلمنا الله ذلك فيقول: }
خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً { ونأخذ من } َبَثَّ { " الانتشار " ولو لم
يقل الله هذا لكانت العقول الحديثة تتوه وتقع في حيرة وتقول: نسلسل الخلق حتى
يصيروا اثنين، والاثنان هذان كيف جاءا؟ -إذن لابد أ، نؤمن بأن أحدا قد أوجدهما من
غير شىء.
} وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً { لأن النشر في الأرض يجب أن يكون خاصا
بالرجل، فالحق يقول:{ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ
}[الجمعة: 10] والحق يقول:{ فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِه
}[الملك: 15] والأنثى تجلس في بيتها تديره لتكون سكنا يسكن إليها، والرجل هو
المتحرك في هذا الكون، وهي بذلك تؤدي مهمتها.
وبعدما قال: } اتَّقُواْ رَبَّكُمُ { يقول: } اتَّقُواْ اللَّهَ { لقد قدم الدليل
أولا على أنه إله قادر، وخلقكم من عدم وأمدكم وسخر العالم لخدمتكم، وقدم دليل البث
فى الكون المنشور الذى يوضح أنه إله، فلا بد أن تتلقوا تعليماته، ويكون معبودا
منكم، أى مطاعا، والطاعة تتطلب منهجا: افعل ولا تفعل، وأنزل الحق القرآن كمنهج
خاتم، ويقول: } وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ {.
انظر إلى " القفشة " ، للخلق الجاحد، إنه - سبحانه- بعد أن أخذهم بما
يتعاملون ويتراحمون ويتعاطفون به أوضح لهم:- أنتم مع أنكم كنتم على فترة من الرسل
إلا أن فطرتكم التي تتغافلون عنها تعترف بالله كخالق لكم.
وأنت إذا أردت إنقاذ أمر من الأمور، وتريد أن تؤثر على من تطلب منه أمراً، تقول:
سألتك بالله أن تفعل ذلك، لقد أخذ منهم الدليل، فكونك تقول: سألتك بالله أن تفعل
ذلك فلا بد أنك سألته بمعظّم، إذن فتعظيم الله أمر فطري في البشر، والمطموس هو
المنهج الذي يقول: افعل ولا تفعل. والإنسان من هؤلاء الجاحدين عندما يسهو، ويطلب
حاجة تهمه من آخر، فهو يقول له: سألتك بالله أن تفعل كذا. ومادام قد قال: سألتك بالله
فكأن هناك قضية فطرية مشتركة هي أن الله هو الحق، وأنه هو الذي يُسأل به، ومادام
قد سئل بالله فلن يخيّب رجاء من سأله.
إنه في الأمور التي تريدون بها تحقيق مسائلكم تسألون بالله وتسألون أيضا بالأرحام
وتقولون: بحق الرحم الذي بيني وبينك، أنا من أهلك، وأنا قريبك وأمُّنا واحدة،
أرجوك أن تحقق لي هذا الأمر. ولماذا جاءت } الأَرْحَامَ { هنا؟ لأن الناس حين
يتساءلون بالأرحام فهم يجعلون المسئولية من الفرد على الفرد طافية في الفكر،
فمادمت أنا وأنت من رحم واحد، فيجب أن تقضى لي هذا الشىء. إذن فمرة تسألون بالله
الذي خلق، ومرة تسألون بالأرحام لأن الرحم هو السبب المباشر في الوجود المادي،
ومثال ذلك قول الحق:
{ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً }[النساء: 36] لقد جاء لنا بالوالدين اللذين هما السبب في ايجادنا،
والله يريد من كل منا أن يبر والديه، ولكن قبل ذلك لابد أن ينظر إلى الذي أوجدهما،
وأن يُصعد الأمر قليلا ليعرف أن الذي أوجدهما هو الله سبحانه.
ويختم الحق الآية بقوله: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً { لأن كلمة }
اتَّقُواْ { تعني اجعل بينك وبين غضب ربك وقاية بإنفاذ أوامر الطاعة، واجتناب ما
نهى الله عنه } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً { ، والرقيب من "
رقب " إذا انظر ويقال: " مرقب " ، ونجد مثل هذا المرقب في المنطقة
الت تحتاج إلى حراسة، حيث يوجد " كشك " مبنى فوق السور ليجلس فيه الحارس
كى يراقب. ومكان الحراسة يكون أعلى دائما من المنطقة المحروسة، وكلمة " رقيب
" تعني ناظرا عن قصد أن ينظر، ويقولون: فلان يراقب فلانا أى ينظره، صحيح أن
هناك من يراه ذاهبا وآتيا من غير قصد منهم أن يروه، لكن إن كان مراقبا، فمعنى ذلك
أن هناك من يرصده وسبحانه يقول: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً { فليس
الله بصيرا فقط ولكنه رقيب أيضا - ولله - المثل الأعلى.
نحن نجد الإنسان قد يبصر مالا غاية فى إبصاره، فهو يمر على كثر من الأشياء
قيبصرها، لكنه لا يرقب إلا من كان فى باله. والحق سبحانه رقيب علينا جميعا كما في
قوله:{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر: 14] وبعد أن تكلم سبحانه عن خلقنا
أبا وأما وأنه بث منهما رجالا كثيرا ونساء، أراد أن يحمى هذه المسألة وأن يحمى
المبثوث. والمبثوث قسمان: قسم اكتملت له القوة وأصبحت له صلاحية فى أن يحقق أموره
النفعية بذاته، وقسم ضعيف ليست له صلاحية فى أن يقوم بأمر ذاته، ولأنه سبحانه يريد
تنظيم المجتمع؛ لذلك لابد أن ينظر القادرون في المجتمع إلى القسم الضعيف فى
المجتمع، ومن القسم الضعيف الذى يتكلم الله عنه هنا؟ إنهم اليتامى، لماذا؟
لأن الحق سبحانه حينما خلقنا من ذكر وأنثى، آدم وحواء، جعل لنا أطوارا طفولية،
فالأب يكدح والأم تحضن، ويربيان الإنسان التربية التي تنبع من الحنان الذاتى ونعرف
أن الحنان الذاتى والعاطفة يوجدان فى قلب الأبوين على مقدار حاجة الابن اليهما،
الصغير عادة يأخذ من حنان الأب والأم أكثر من الكبير، وهذه عدالة فى التوزيع، لأنك
إذا نظرت إلى الولد الصغير والولد الكبير والولد الأكبر، تجد الأكبر أحظهم زمنا مع
أبيه وأمه والصغير أقلهم زمنا، فيريد الحق أن يعوض الصغير فيعطى الأب والأم شحنة
زائدة من العاطفة تجاهه، وأيضا فإن الكبير قد يستغنى والصغير مازال في حاجة، ولذلك
قال سبحانه فى أخوة يوسف:{ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ }
[يوسف: 8] أى أنهم أقوياء وظنوا أنه يجب على أبيهم أن يحب الأقوياء. وهذا الظن
دليل على أن الأب كان يعلم أنهم عصبة لذلك كان قلبه مغ غير العصبة، وهذا هو الأمر
الطبيعي، فهم جاءوا بالدليل الذى هو ضدهم.
إذن فحين يوجد الناشىء الذى يحتاج إلى أن يربى التربية التي يعين عليها الحنان
والعطف، فلا بد من أن نأتى لليتيم الذى فقد الحنان الأساسى ونقنن له، ويأتى الحق
سبحانه وتعالى ليوزع المجتمع الإنسانى قطاعات، ويحمل كل واحد القطاع المباشر له،
فإذا حمل كل واحد منا القطاع المباشر له تتداخل العنايات في القطاعات، هذا سيذهب
لأبيه وأمه ولأولاد أخيه، وهذا كذلك، فتتجمع الدوائر. وبعد ذلك يعيش المجتمع كله
في تكافل، وهو سبحانه يريد أن يجعل وسائل الحنان ذاتية فى كل نفس، ومادام اليتيم
يقيم معنا كفرد فلا بد من العناية له.
إن اليتيم فرد فقد العائل له ولذلك يقولون: " درة يتيمة " أى وحيدة
فريدة، وهكذا اليتيم وحيد فريد، إلا أنهم جاءوا فى الإنسان وفى الأنعام وفى الطير
وقالوا: اليتيم فى الإنسان من فقد أباه، واليتيم فى الأنعام من فقد أمه، لماذا؟
لأن الأنعام طلوقة تلقح الذكور فيها الإناث وتنتهى. والأم هى التى تربى وترضع؛
فإذا جاء أحد آخر يمسها تنفر منه.
أمـا اليتيم فى الطير فمن فقدهما معا. فالطير عادة الزوج منها يألف الآخر؛ ولذلك
يتخذان عشا ويتناوبان العناية بالبيض ويعملان معا ففيه حياة أسرية، والحق سبحانه
وتعالى جاء فى اليتيم الذى هو مظهر الضعف فى الأسوة الإنسانية وأراد أن يقنن له
فقال: } وَآتُواْ الْيَتَامَىا أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ... {
(/592)
وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
وكيف نؤتى اليتيم ماله وهو لم يبلغ مبلغ الرجال بعد، ونخشى أ، نعطيه المال
فيضيعـه؟
انظر الى دقة العبارة في قوله من بعد ذلك:{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا حَتَّىا
إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ
إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }[النساء: 6] وقبل ذلك ماذا نفعل؟ هل ندفع لهم الأموال؟
الحق يوضح أنك ساعة تكون وليا على مال اليتيم فاحرص جيدا أن تعطى هذا اليتيم ماله
كاملا بعد أن يستكمل نضجه كاملا، فأنت حفيظ على هذا المال، وإياك أن تخلط مالك
بماله أو تتبدل منه، أى تأخذ الجميل والثمين من عنده وتعطيه من مالك الأقل جمالا
أو فائدة.
إذن فقوله: { وَآتُواْ الْيَتَامَىا أَمْوَالَهُمْ } أى أن الله جعل المال لليتيم
ولم يجعل للقيم عليه أن يتصرف في هذا المال إلا تصرف صيانة، وأيضا هنا ملحظ آخر هو
ما شرحه لنا { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا } فهناك أناس يريدون أن يطيلوا أمد
الوصاية على اليتيم، لكى ينتفع الواحد منهم بهذا المال فيوضح سبحانه: لا تنتظر إلى
أن يبلغ الرشد ثم تقول ننظره، لا. أنت تدربه بالتجربة فى بعض التصرفات وتنظر
أسيحسن التصرف أم لا؟
إن قول الحق { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا } أى اختبروهم، هل يستطيعون أن يقوموا
بمصالحهم وحدهم؟ فإن استطاعوا فاطمئنوا إلى أنهم ساعة يصلون إلى حد الحلم سيحسنون
التصرف، أعطوهم أموالهم بعد التجربة؛ لأن اليتيم يعيش في قصور عمرى، وهو سبحانه
يفرق بين اليتيم والسفيه، فالسفيه لا يعانى من قصور عمرى بل من قصور عقلى، وعندما
تكلم سبحانه عن هذه المسألة قال:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ
}[النساء: 5] فهل هى أموالكم؟ لا. فحين يكون المرء سفيها فاعلم أنه لا إدارة له
على ملكه، وتنتقل إدارة الملكية إلى من يتصرف فى المال تصرفا حكيما، فاحرص على أن
تدير مال السفيه كأنه مالك؛ لأنه ليس له قدرة على حسن التصرف. لكن لما يبلغ اليتيم
إلى مرحلة الباءة والنكاح والرشد يقول الحق:{ فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ }[النساء: 6] إنه سبحانه يقول مرة فى الوصاية: { أَمْوَالَكُمُ }
وفى العطاء يقول: { أَمْوَالَهُمْ } إذن فهو يريد ألا تبدد المال، ثم يوضح. احرص
على ثروة اليتيم أو السفيه وكأنها مالك، لأنه مادام سفيها فمسئولية الولاية مطلوبة
منك، والمال ليس ملكا لك. خذ منه ما يقابل إدارة المال وقت السفه أو اليتم، وبعد
ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعلم القائمين على أمر اليتامى أو على أمر السفهاء
الذين لا يحسنون إدارة أموالهم فيقول:{ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا }[ النساء: 5]
اجعلوا الزرق مما يخرج منها، وإياكم أن تبقوها عندكم، وإلا فما قيمة ولايتك
ووصايتك وقيامك على أمر السفيه أو اليتيم؟ إنك تثمر له المال لا أن تأكله أو لا
تحسن التصرف فيه بحيث ينقص كل يوم، لا.
} وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا { ، و } فى { هنا للسببية، أي ارزقوهم بسببها، ارزقوهم
رزقا خارجا منها.
} وَآتُواْ الْيَتَامَىا أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ { والخبيث هو الحرام والطيب هو الحلال، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب،
فقد يكون ضمن مال اليتيم شىء جميل، فيأخذه الوصى لنفسه ويستبدله بمثل له قبيح،
مثال ذلك، أن يكون ضمن مال اليتيم فرس جميل، وعند الوصى فرس قبيح فيأخذه ويقول:
فرس بفرس، أو جاموسة مكان جاموسة،؟ أو نخلة طيبة بنخلة لا تثمر، هنا يقول الحق: }
وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ {.
وقوله سبحانه وتعالى: } وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىا أَمْوَالِكُمْ {
يعنى إياكم ألا تجعلوا فرقا بين أموالهم وأموالكم فتأكلوا هذه مع تلك، بل فرقوا
بين أكل أموالكم والحفاظ على أموالهم لماذا؟ تأتى الاجابة: } إِنَّهُ كَانَ حُوباً
كَبِيراً { أى إثما فظيعا.
ثم يتنقل الحق إلى قضية آخرى يجتمع فيها ضعف اليتم، وضعف النوع: ضعف اليتم سواء
أكان ذكرا أم أنثى، وإن كانت أنثى فالبلوى أشد؛ فهى قد اجتمع عليها ضعف اليتم وضعف
النوع، طبعا فاليتيمة عندما تكون تحت وصاية وليها، يجوز أن يقول: إنها تملك مالا
فلماذا لا أتزوجها لكي آخذ المال؟ وهذا يحدث كثيرا.
ولذلك يقول الحق سبحانه: } وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ... {.
(/593)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
هنا يؤكد الحق الأمر بأن ابتعدوا عن اليتامى. فاليتيم مظنة أن يظلم لضعفه، وبخاصة
إذا كان أنثى. إن الظلم بعامة محرم فى غير اليتامى، ولكن الظلم مع الضعيفة كبير،
فهي لا تقدر أن تدفع عن نفسها، فالبالغة الرشيدة من النساء قد تستطيع أن تدفع
الظلم عن نفسها. وقوله الحق: { وإن خفتم ألا تقسطوا } من " أقسط " أي
عدل، والقسط من الألفاظ التى تختلط الأذهان فيها، و " القسط " مرة يطلق
ويراد به " العدل " إذا كان مكسور القاف، ولذلك يأتى الحق سبحانه فيقول:
{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ
الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم }
وهكذا نعرف أن كلمة " قسط " تأتى مرة للعدل ومرة للجور.
فـ " قسط " " يقسط " " قسطا " و " قسوطا
" أي ظلم بفتح القاف فى " قسط " وضمها فى " قُسوط ".
والقسط بكسر القاف هو العدل. والقسط بفتح القاف- كما قلنا -هو الظلم وهناك مصدر
ثان هو " قسوط " لكن الفعل الواحد، وعندما يقول الحق: { وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُواْ } من أقسط. أي خفتم من عدم العدل وهو الظلم. وهناك فى اللغة ما
نسميه همزة الإزالة، وهي همزة تدخل على الفعل فتزيله، مثال ذلك: فلان عتب على
فلان، أي لامه على تصرف ما، ويقال لمن تلقى العتاب عندما يرد على صاحب العتاب:
أعتبه، أي طمأن خاطره وأزال مصدر العتاب.
ويقال: محمد عتب على علىّ. فماذا كان موقف علىّ؟ يقال: أعتب محمدا أي طيبب خاطره
وأزال العتاب. ويقال أعجم الكتاب. فلا تفهم من ذلك أنه جعل الكتاب معجما، لا،
فأعجمه أي أزال إبهامه وغموضه. كذلك " أقسط " أي أزال القسط والظلم. إذن
" القسط " هو العدل من أول الأمر، لكن " أقسط. إقساطا " تعنى
أنه كان هناك جور أو ظلم وتم رفعه. والأمر ينتهي جميعه إلى العدل. فالعدل إن جاء
ابتداء هو: قسط بكسر القاف. وإن جاء بعد جور تمت إزالته فهو إقساط. فحين يقال
" أقسط " و " تقسطوا " بالضم فمعناها أنه كان هناك جور وظلم
تم رفعه، ولذلك فعندما نقرأ القرآن نجده يقول:{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ
لِجَهَنَّمَ حَطَباً }[الجن: 15]
والقاسطون هنا من القسط - بالفتح - ومن القسوط بالضم، أي من الجور والظلم، ونجد
القرآن الكريم يقول أيضاً:{ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[المائدة: 42] أى أن الله يجب الذين إن
رأوا ظلما أزالوه وأحلوا محله العدل.
الحق هنا فى سورة النساء يقول: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي
الْيَتَامَى } أى إن خفتم ألا ترفعوا الظلم عن اليتامى، ومعنى أن تخاف من ألا تقسط
لأنك بار تعرف كيف تنقذ نفسك من مواطن الزلل.
أى فإن خفتم أيها المؤمنون ألا ترفعوا الجور عن اليتامى فابتعدوا عنهم وليسد كل
مؤمن هذه الذريعة أمام نفسه حتى لا تحدثه نفسه بأن يجور على اليتيمة فيظلمها. وإن
أراد الرجل أن يتزوج فأمامه من غير اليتامى الكثير من النساء.
ومادامت النساء كثيرات فالتعدد يصبح واردا، فهو لم يقل: اترك واحدة وخذ واحدة،
لكنه أوضح: اترك اليتيمة وأمامك النساء الكثيرات. إذن فقد ناسب الحال أن تجىء
مسألة التعدد هنا، لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يرد الرجل الولى عن نكاح اليتيمات
مخافة أن يظلمهن، فأمره بأن يترك الزواج من اليتيمة الضعيفة؛ لأن النساء غيرها
كثيرات. } وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىا فَانكِحُواْ مَا
طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَىا وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ {.
وقوله الحق: } مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآء { أى غير المحرمات فى قوله
تعالى:{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ
سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً }[النساء: 22] وفي
قوله سبحانه:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ
وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن
نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ
إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }[النساء: 23] إذن
فما طاب لكم من النساء غير المحرمات هن اللاتي يحللن للرجل } فَانكِحُواْ مَا
طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَىا وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَىا
أَلاَّ تَعُولُواْ { وهنا يجب أن نفهم لماذا جاء هذا النص؛ ولماذا جاء بالمثنى
والثلاث والرباع هنا؟
إنه سبحانه يريد أن يزهد الناس في نكاح اليتيمات مخافة أن تأتى إلى الرجل لحظة ضعف
فيتزوج اليتيمة ظالما لها، فأوضح سبحانه: اترك اليتيمة، والنساء غيرها كثير،
فأمامك مثنى وثلاث ورباع، وابتعد عن اليتيمة حتى لا تكون طامعا في مالها أن ناظرا
في ضعفها أو لأنها لم يعد لها وليّ يقوم على شأنها غيرك.
ونريد أن نقف هنا وقفة أمام قوله تعالى: } فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ
النِّسَآءِ مَثْنَىا وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ { ما معنى مثنى؟ يقال " مثنى "
أي اثنين مكررة، كأن يقال: جاء القوم مثنى، أي ساروا في طابور وصف مكون من اثنين
اثنين. هذا يدل على الوحدة الجائية.
ويقال: جاء القوم ثلاث، أي ساروا في طابور مكون من ثلاثة؛ ثلاثة. ويقال: جاء القوم
رباع.
أي جاء القوم في طابور يسير فيه كل أربعة خلف أربعة أخرى.
ولو قال واحد: إن المقصود بالمثنى والثلاث والرباع أن يكون المسموح به تسعة من
النساء. نقول له: لو حسبنا بمثل ما تحسب، لكان الأمر شاملا لغير ما قصد الله،
فالمثنى تعني أربعة، والثلاث تعني ستة، والرباع تعني ثمانية، وبذلك يكون العدد
ثمانية عشر، ولكنك لم تفهم، لأن الله لا يخاطب واحدا، لكن الله يخاطب جماعة،
فيقول: } وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىا فَانكِحُواْ مَا
طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَىا وَثُلاَثَ وَرُبَاع {.
فإذا قال مدرس لتلاميذه: افتحوا كتبكم، أيعني هذا الأمر أن يأتي واحد ليفتح كل
الكتب؟ إنه أمر لكل تلميذ بأن يفتح كتابه، لهذا فإن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي
القسمة آحادا.
وعندما يقول المدرس: أخرجوا أقلامكم. أي على كل تلميذ أن يخرج قلمه.
وعندما يقال: اركبوا سياراتكم، أي أن يركب كل واحد سيارته. إذن فمقابله الجمع
بالجمع تقتضي القسمة آحادا، وقوله الحق: } فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ
النِّسَآءِ مَثْنَىا وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَىا أَلاَّ تَعُولُوا {
هو قول يخاطب جماعة، فواحد ينكح اثنتين وآخر ينكح ثلاث نساء، وثالث ينكح أربع
نساء.
والحق سبحانه وتعالى حينما يشرع الحكم يشرعه مرة إيجابا ومرة يشرعه إباحة، فلم
يوجب ذلك الأمر على الرجل، ولكنه أباح للرجل ذلك، وفيه فرق واضح بين الإيجاب وبين
الإباحة. والزواج نفسه حتى من واحدة مباح. إذن ففيه فرق بين أن يلزمك الله أن تفعل
وأن يبيح لك أن تفعل. وحين يبيح الله لك أن تفعل ما المرجح في فعلك؟ إنه مجرد
رغبتك.
ولكن إذا أخذت الحكم، فخذ الحكم من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم، بإباحة التعدد ثم
تكف عن الحكم بالعدالة، وإلا سينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد أن يتشكك
الناس في حكم الله. لماذا؟ لأنك إن أخذت التعدد، وامتنعت عن العدالة فأنت تكون قد
أخذت شقا من الحكم، ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل، فالناس تجنح أمام التعدد
وتبتعد وتميل عنه لماذا؟ لأن الناس شقوا كثيرا بالتعدد أخذا لحكم الله في التعدد
وتركا لحكم الله في العدالة.
والمنهج الإلهي يجب أن يؤخذ كله، فلماذا تكره الزوجة التعدد؟ لأنها وجدت أن الزوج
إذا ما تزوج واحدة عليها التفت بكليته وبخيره وببسمته وحنانه إلى الزوجة الجديدة،
لذلك فلا بد للمرأة أن تكره زواج الرجل عليها بإمرأة أخرى.
إن الذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يلزموا أنفسهم بحكم الله أيضا في
العدالة، فإن لم تفعلوا فهم يشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا
التمرد، وسيقال: انظر، إن فلانا تزوج بأخرى وأهمل الأولى، أو ترك أولاده دون رعاية
واتجه إلى الزوجة الجديدة.
فكيف نأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه في شيء آخر، إن من يفعل ذلك يشكك
الناس في حكم الله، ويجعل الناس تتمرد على حكم الله - والسطحيون في الفهم يقولون:
إنهم معذورون، وهذا منطق لا يتأتى.
إن آفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئي دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكماً عن
الله لابد أن يأخذ كل منهج الله.
هات إنسانا عدل في العشرة وفي النفقة وفي البيتوتة وفي المكان وفي الزمان ولم يرجح
واحدة على اخرى، فالزوجة الأولى إن فعلت شيئا فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس.
أما عندما يكون الأمر غير ذلك فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض، والصراخ الذي نسمعه
هذه الأيام إنما نشأ من أن بعضا قد أخذ حكم الله في إباحة التعدد ولم يأخذ حكم
الله في عدالة المعدد. والعدالة تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار. أما الأمور
التي لا خيار للرجل فيها فلم يطالبه الله بها.
ومن السطحيين من يقول: إن الله قال: اعدلوا، ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل. نقول
لهم: بالله أهذا تشريع؟ ، أيعطي الله باليمين ويسحب بالشمال؟ ألم يشرع الحق على
عدم الاستطاعة فقال:{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا
كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً
رَّحِيماً }[النساء: 129] وما دام قد شرع على عدم الاستطاعة في العدل المطلق فهو
قد أبقى الحكم ولم يلغه، وعلى المؤمن ألا يجعل منهج الله له في حركة حياته عضين
بمعنى أنه يأخذ حكما في صالحه ويترك حكما إن كان عليه. فالمنهج من الله يؤخذ جملة
واحدة من كل الناس؛ لأن أي انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع
بضرر. فكل حق لك هو واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذك حقك فأدّ واجبك. والذين
يأخذون حكم الله في إباحة التعدد يجب أن يأخذوا حكم الله أيضا في العدل، وإلا
أعطوا خصوم دين الله حججا قوية في إبطال ما شرع الله، وتغيير ما شرع الله بحجة ما
يرونه من آثار أخذ حكم وإهمال حكم آخر.
والعدل المراد في التعدد هو القسمة بالسوية في المكان، أي أن لكل واحدة من
المتعددات مكانا يساوي مكان الأخرى، وفي الزمان، وفي متاع المكان، وفيما يخص الرجل
من متاع نفسه، فليس له أن يجعل شيئا له قيمة عند واحدة، وشيئا لا قيمة له عند
واحدة أخرى، يأتي مثلا ببجامة " منامة " صوف ويضعها عند واحدة، ويأتي
بأخرى عند قماش أقل جودة ويضعها عن واحدة، لا. لا بد من المساواة، لا في متاعها
فقط، بل متاعك أنت الذي تتمتع به عندها، حتى أن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي
بينهن في النعال التي يلبسها في بيته، فيأتي بها من لون واحد وشكل واحد وصنف واحد،
وذلك حتى لا تدل واحدة منهن على الأخرة قائلة: إن زوجي يكون عندي أحسن هنداما منه
عندك.
والعدالة المطلوبة - أيضا - هي العدالة فيما يدخل في اختيارك؛ لأن العدالة التي لا
تدخل في اختيارك لا يكلف الله بها، فأنت عدلت في المكان، وفي الزمان، وفي المتاع
لكل واحدة، وفي المتاع لك عند كل واحدة، ولكن لا يطلب الله منك أن تعدل بميل قلبك
وحب نفسك؛ لأن ذلك ليس في مكنتك.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا هذا فيقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ويقول: " اللهم هذا قسمي
فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني القلب ".
إذن فهذا معنى قول الحق:{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ }[النساء: 129] لأن هناك أشياء لا تدخل في قدرتك، ولا تدخل في
اختيارك، كأن ترتاح نفسيا عند واحدة ولا ترتاح نفسيا عند أخرى، أو ترتاح جنسيا عند
واحدة ولا ترتاح عند أخرى، لكن الأمر الظاهر للكل يجب أن تكون فيه القسمة بالسوية
حتى لا تدل واحدة على واحدة. وإذا كان هذا في النساء المتعددات - وهن عوارض - حيث
من الممكن أن يخرج الرجل من أي إمرأة - بطلاق أو فراق فما بالك بأولادها منه؟ لا
بد أيضا من العدالة.
والذي يفسد جو الحكم المنهجي لله أن أناسا يجدون رجلا عّدد، فأخذ إباحة الله في
التعدد، ثم لم يعدل، فوجدوا أبناءه من واحدة مهملين مشردين، فيأخذون من ذلك حجة
على الإسلام. والذين حاولوا أن يفعلوا ما فعلوا في قوانين الأحوال الشخصية إنما
نظروا إلى ذلك، التباين الشديد الذي يحدثه بعض الآباء الحمقى نتيجة تفضيل أبناء
واحدة على أخرى في المأكل والملبس والتعليم! إذن فالمسلم هو الذي يهجر دينه ويعرضه
للنقد والنيل من أعدائه له. فكل إنسان مسلم على ثغرة من ثغرات دين الله تعالى
فعليه أن يصون أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته من أي انحراف أو شطط؛ لأن كل مسلم
بحركته وبتصرفه يقف على ثغرة من منهج الله، ولا تظنوا أن الثغرات فقط هي الشيء
الذي يدخل منه أعداء الله على الأرض كالثغور، لا، الثغرة هي الفجوة حتى في القيم
يدخل منها خصم الإسلام لينال من الإسلام.
إنك إذا ما تصرفت تصرفا لا يليق فأنت فتحت ثغرة لخصوم الله. فسدّ كل ثغرة من هذه
الثغرات، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد توسع في العدل بين الزوجات توسعا
لم يقف به عند قدرته، وإن وقف به عند اختياره، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين مرض
كان من الممكن أن يعذره المرض فيستقر في بيت واحدة من نسائه، ولكنه كان يأمر بأن
يحمله بعض الصحابة ليطوف على بقية نسائه في أيامهن فأخذ قدرة الغير.
وكان إذا سافر يقرع بينهن، هذه هي العدالة.
وحين توجد مثل هذه العدالة يشيع في الناس أن الله لا يشرع إلا حقا، ولا يشرع إلا
صدقا، ولا يشرع إلا خيرا. ويسد الباب على كل خصم من خصوم دين الله، حتى لا يجد
ثغرة ينفذ منها إلى ما حرم دين الله، وإن لم يستطع المسلم هذه الاستطاعة فليلزم
نفسه بواحدة. ومع ذلك حين يلزم المسلم نفسه بزوجة واحدة، هل انتفت العدالة مع
النفس الواحدة؟ لا، فلا يصح ولا يستقيم ولا يحل أن يهمل الرجل زوجه. ولذلك حينما
شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أن زوجها لا يأتي إليها وهي واحدة وليس
لها ضرائر، فكان عنده أحد الصحابة، فقال له: أفتها " أي أعطها الفتوى ".
قال الصحابي: لك عنده أن يبيت عندك الليلة الرابعة بعد كل ثلاث ليال.
ذلك أن الصحابي فرض أن لها شريكات ثلاثا، فهي تستحق الليلة الرابعة. وسُر عمر -
رضي الله عنه - من الصحابي؛ لأنه عرف كيف يفتي حتى في أمر المرأة الواحدة.
إذن قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ
النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ }[ النساء: 129]
أي لا تظنوا أن المطلوب منكم تكليفيا هو العدالة حتى في ميل القلب وحبه، لا. إنما
العدالة في الأمر الاختياري، ومادام الأمر قد خرج عن طاقة النفس وقدرتها فقد قال -
سبحانه -: } فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْل { ويأخذ السطحيون الذين يريدون أن
يبرروا الخروج عن منهج الله فيقولوا: إن المطلوب هو العدل وقد حكم الله أننا لا
نستطيع العدل.
ولهؤلاء نقول: هل يعطي ربنا باليمين ويأخذ بالشمال؟ فكأنه يقول: اعدلوا وأنا أعلم
أنكم لن تعدلوا؟ فكيف يتأتى لكم مثل هذا الفهم؟ إن الحق حين قال: } وَلَن
تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ { أي لا
يتعدى العدل ما لا تملكون من الهوى والميل؛ لأن ذلك ليس في إمكانكم، ولذلك قال: }
فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْل {.
نقول ذلك للذين يريدون أن يطلقوا الحكم غير واعين ولا فاهمين عن الله، ونقوله كذلك
للفاهمين الذين يريدون أن يدلسوا على منهج الله، وهذه المسألة من المسائل التي
تتعرض للأسرة، وربها الرجل. فهب أن رجلا ليس له ميل إلى زوجته، فماذا يكون الموقف؟
أمن الأحسن أن يطلقها ويسرحها، أم تظل عنده ويأتي بامرأة تستطيع نفسه أن ترتاح
معها؟ أو يطلق غرائزه في أعراض الناس؟
إن الحق حينما شرع، إنما شرع دينا متكاملا، لا تأخذ حكما منه لتترك حكما آخر.
والأحداث التي أرهقت المجتمعات غير المسلمة ألجأتهم إلى كثير من قضايا الإسلام.
وأنا لا أحب أن أطيل، هناك بعض الدول تكلمت عن إباحة التعدد لا لأن الإسلام قال
به، ولكن لأن ظروفهم الاجتماعية حكمت عليهم أنه لا يحل مشاكلهم إلا هذا، حتى ينهو
مسألة الخليلات. والخليلات هنّ اللائي يذهب إليهن الرجال ليهتكوا اعراضهن ويأتوا
منهن بلقطاء ليس لهم أب.
إن من الخير أن تكون المرأة الثانية، امرأة واضحة في المجتمع. ومسألة زواج الرجل
منها معروفة للجميع، ويتحمل هو عبء الأسرة كلها. ويمكن لمن يريد أن يستوضح كثيرا
من أمر هؤلاء الناس أن يرجع إلى كتاب تفسير في هذا الموضوع للدكتور محمد خفاجة حيث
أورد قائمة بالدول وقراراتها في إباحة التعدد عند هذه الآية.
وهنا يجب أن ننتبه إلى حقيقة وهي: أن التعدد لم يأمر به الله، وإنما أباحه، فالذي
ترهقه هذه الحكاية لا يعدد، فالله لم يأمر بالتعدد ولكنه أباح للمؤمن أن يعدد.
والمباح أمر يكون المؤمن حرا فيه يستخدم رخصة الإباحة أو لا يستعملها، ثم لنبحث
بحثا آخر. إذا كان هناك تعدد في طرف من طرفين فإن كان الطرفان متساويين في العدد،
فإن التعدد في واحد لا يتأتى، والمثل هو كالآتي:
إذا دخل عشرة أشخاص حجرة وكان بالحجرة عشرة كراسي فكل واحد يجلس على كرسي، ولا
يمكن بطبيعة الحال أن يأخذ واحد كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليمد عليه ساقيه، لكن إذا
كان هناك أحد عشر كرسيا، فواحد من الناس يأخذ كرسيا للجلوس وكرسيا آخر ليستند عليه،
إذن فتعدد طرف في طرف لا ينشأ إلا من فائض. فإذا لم يكن هناك فائض، فالتعدد -
واقعا - يمتنع، لأن كل رجل سيتزوج امرأة واحدة وتنتهي المسألة، ولو أراد أن يعدد
الزواج فلن يجد.
إذن فإباحة التعدد تعطينا أن الله قد أباحه وهو يعلم أنه ممكن لأن هناك فائضا.
والفائض كما قلنا معلوم، لأن عدد ذكور كل نوع من الأنواع أقل من عدد الإناث.
وضربنا المثل من قبل في النخل وكذلك البيض عندما يتم تفريخه؛ فإننا نجد عددا قليلا
من الديوك والبقية إناث. إذن فالإناث في البنات وفي الحيوان وفي كل شيء أكثر من
الذكور.
وإذا كانت الإناث أكثر من الذكور، ثم أخذ كل ذكر مقابله فما مصير الأعداد التي
تفيض وتزيد من الإناث؟ إما أن تعف الزائدة فتكبت غرائزها وتحبط، وتنفس في كثير من
تصرفاتها بالنسبة للرجل وللمحيط بالرجل، وإما أن تنطلق، تنطلق مع من؟ إنها تنطلق
مع متزوج. وإن حدث ذلك فالعلاقات الاجتماعية تفسد.
ولكن الله حين أباح التعدد أراد أن يجعل منه مندوحة لامتصاص الفائض من النساء؛
ولكن بشرط العدالة.
وحين يقول الحق: } فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة { أي إن لم
نستطع العدل الاختياري فليلزم الإنسان الواحدة.
وبعد ذلك يقول الحق: } أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ {.
وهناك من يقف عند } مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ { ويتجادل، ونطمئن هؤلاء الذين
يقفون عند هذا القول ونقول: لم يعد هناك مصدر الآن لملك اليمين؛ لأن المسلمين الآن
في خنوع، وقد اجترأ عليهم الكفار، وصاروا يقتطعون دولا من دولهم. وما هبّ المسلمون
ليقفوا لحماية أرض إسلامية. ولم تعد هناك حرب بين مسلمين وكفار، بحيث يكون فيه
أسرى، و " ملك اليمين ".
ولكنا ندافع عنه أيام كان هناك ملك يمين. ولنر المعنى الناضج حين يبيح الله متعة
السيد بما ملكت يمينه، انظر إلى المعنى، فالإسلام قد جاء ومن بين أهدافه أن يصفي
الرقّ، ولم يأت ليجىء بالرق.
وبعد أن كان لتصفية الرق سبب واحد هو إرادة السيد. عدد الإسلام مصاريف تصفية الرق؛
فارتكاب ذنب ما يقال للمذنب: اعتق رقبة كفارة اليمين. وكفارة ظهار فيؤمر رجل ظاهر
من زوجته بأن يعتق رقبة وكفارة فطر في صيام، وكفارة قتل..الخ.. إذن فالإسلام يوسع
مصارف العتق.
ومن يوسع مصارف العتق أيريد أن يبقى على الرق، أم يريد أن يصفيه ويمحوه؟
ولنفترض أن مؤمنا لم يذنب، ولم يفعل ما يستحق أن يعتق من أجله رقبة، وعنده جوار،
هنا يضع الإسلام القواعد لمعاملة الجواري:
-إن لم يكن عندك ما يستحق التكفير، فعليك أن تطعم الجارية مما تأكل وتلبسها ما
يلبس أهل بيتك، لا تكلفها ما لا تطيق، فإن كلفتها فأعنها، أي فضل هذا، يدها بيد
سيدها وسيدتها، فما الذي ينقصها؟ إن الذي ينقصها إرواء إلحاح الغريزة، وخاصة أنها
تكون في بيت للرجل فيه امرأة، وتراها حين تتزين لزوجها، وتراها تخرج في الصباح
لتستحم، والنساء عندهن حساسية لهذا الأمر، فتصوروا أن واحدة مما ملكت يمين السيد
بهذه المواقف؟ ألا تهاج فيها الغرائز؟
حين يبيح الله للسيد أن يستمتع بها وأن تستمتع به، فإنه يرحمها من هذه الناحية
ويعلمها أنها لا تقل عن سيدتها امرأة الرجل فتتمتع مثلها. ويريد الحق أيضا أن يعمق
تصفية الرق، لأنه إن زوجها من رجل رقيق فإنها تظل جارية أمة، والذي تلده يكون
رقيقا، لكن عندما تتمتع مع سيدها وتأتي منه بولد، فإنها تكون قد حررت نفسها وحررت
ولدها، وفي ذلك زيادة في تصفية الرق، وفي ذلك إكرام لغريزتها. لكن الحمقى يريدون
أن يؤاخذوا الإسلام على هذا!!
يقول الحق: } فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَىا أَلاَّ تَعُولُوا { فالعدل او الاكتفاء بواحدة او
ما ملكت اليمين، ذلك أقرب ألا تجوروا. وبعض الناس يقول: } أَدْنَىا أَلاَّ
تَعُولُوا { أي ألا تكثر ذريتهم وعيالهم. ونقول لهم: إن كان كذلك فالحق أباح ما
ملكت اليمين، وبذلك يكون السبب في وجود العيال قد اتسع أكثر، وقوله: } ذالِكَ أَدْنَىا
أَلاَّ تَعُولُوا { أي أقرب ألا تظلموا وتجوروا، لأن العول فيه معنى الميل، والعول
في الميراث أن تزيد أسهم الأنصباء على الأصل، وهذا معنى عالت المسألة، وإذا ما زاد
العدد فإن النصيب في التوزيع ينقص.
وبعد ذلك يقول الحق: } وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ... {.
(/594)
وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
والمقصود بـ { صَدُقَاتِهِنَّ } هو المهور، و { نِحْلَةً } هي العطية، وهل الصداق
عطية؟ لا. إنه حق وأجر بضع. ولكن الله يريد أن يوضح لنا: أي فليكن إيتاء المهور
للنساء نحلة، أي وازع دين لا حكم قضاء، والنحلة هي العطية.
وانظر إلى اللمسات الإلهية والأداء الإليهي للمعاني، لأنك إن نظرت إلى الواقع
فستجد الآتي:
الرجل يتزوج المرأة، وللرجل في المرأة متعة، وللمرأة أيضا متعة أي أن كلا منهما له
متعة وشركة في ذلك، وفي رغبة الانجاب، وكان من المفترض ألا تأخذ شيئا، لأنها
ستستمتع وأيضا قد تجد ولدا لها، وهي ستعمل في المنزل والرجل سيكدح خارج البيت،
ولكن هذه عطية قررها الله كرامة للنساء { وَآتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ
نِحْلَة } والأمر في { َآتُواْ } لمن؟ إمـا أن يكون للزوج فقوله: { وَآتُواْ
النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ } يدل صارت زوجة الرجل، وصار الرجل ملزما بالصداق ومن
الممكن أن يكون أن يكون دينا على أن المرأة إذا تزوجها بمهر في ذمته يؤديه لها عند
يساره، وإمّا أن يكون الأمر لولي أمرها فالذي كان يزوجه أخته مثلا، كان يأخذ المهر
له ويتركها دون أن يعطيها مهرها، والأمر في هذه الآية - إذن - إما أن يكون للأزواج
وإما أن يكون للأولياء. وحين يُشرع الحق لحماية الحقوق فإنه يفتح المجال لأريحيات
الفضل.
لذلك يقول: { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَّرِيئاً }.
لقد عرّف الحق الحقوق أولا بمخاطبة الزوج أو ولي الأمر في أن مهر الزوجة لها لأنه
أجر البضع. ولكنه سبحانه فتح باب أريحية الفضل فإن تنازلت الزوجة فهذا أمر آخر،
وهذا أدعى أن يؤصل العلاقة الزوجية وأن يؤدم بينهما. والمراد هنا هو طيب النفس،
وإياك أن تأخذ شيئا من مهر الزوجة التي تحت ولايتك بسبب الحياء، فالمهم أن يكون
الأمر عن طيب نفس. { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ
هَنِيئاً مَّرِيئاً } والهنيء هو الشيء المأكول وتستسيغه حين يدخل فمك. لكنك قد
تأكل شيئا هنيئا في اللذة وفي المضغ وفي الأكل ولكنه يورث متعبة صحية. إنه هنيء
لكنه غير مريء. والمقصود هو أن يكون طيب الطعم وليس له عواقب صحية رديئة. وهو
يختلف عن الطعام الهنيء غير المريء الذي يأكله الإنسان فيطلب من بعده العلاج.
إذن فكل أكل يكون هنيئا ليس من الضروري أن يكون مريئا. وعلينا أن نلاحظ في الأكل
أن يكون هنيئا مريئا.
والإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - جاء له رجل يشتكي وجعا، والإمام عليّ
- كما نعرف - مدينة العلم والفتيا، وهبه الله مقدرة على إبداء الرأي والفتوى.
لم يكن الإمام عليّ طبيبا. لكن الرجل كان يطلب علاجا من فهم الإمام عليّ
وإشراقاته.
قال الإمام عليّ للرجل: خذ من صداق امرأتك درهمين واشتر بهما عسلا، وأذب العسل في
ماء مطر نازل لساعته - أي قريب عهد بالله - واشربه فإني سمعت الله يقول في الماء
ينزل من السماء:{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً }[ق: 9].
وسمعته سبحانه وتعالى يقول في العسل:{ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ }[النحل: 69]
وسمعته يقول في مهر الزوجة: } فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً { [النساء: 4] فإذا
اجتمع في دواء البركة والشفاء الهنيء والمريء عافاك الله إن شاء الله. لقد أخذ
الإمام عليّ - رضوان الله عليه وكرم وجهه - عناصر أربعة ليمزجها ويصنع منها دواء
ناجعا، كما يصنع الطبيب العلاج من عناصر مختلفة وقد صنع الإمام عليّ علاجا من آيات
القرآن.
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضايا اليتامى والسفهاء والمال والوصاية والقوامة، فيقول
سبحانه: } وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ... {.
(/595)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
ومن هو السفيه؟ إنه الذي لا صلاح له في عقل ولا يستطيع أن يصرّف ماله بالحكمة.
ومَن الذي يعطي ماله إلى سفيه؟ إن الحق يقول ذلك ليعلمنا كيفية التصرف في المال -
ومثال على ذلك يقول الحق:{ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ }[الحجرات: 11].
هل أحد منا يلمز نفسه؟ لا، ولكن الإنسان يلمز خصمه، ولمز الخصم يؤدي إلى لمز النفس
لأن خصمه سيلمزه ويعيبه أو لأنكما سواء. إذن فقول الحق: { وَلاَ تُؤْتُواْ
السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } يعني أن الله يريد أن يقول: إن السفيه يملك المال،
إلا أن سفهه يمنعه من أن يحسن التصرف. وعدم التصرف الحكيم يذهب بالمال، ويفسده،
وحين يكون سفيهاً فالمال ليس له - تصرفا وإدارة - ولكن المال لمن يصلحه بالقوامة.
أو أن الحق سبحانه وتعالى يعالج قضية كان لها وجود في المجتمع وهي أنّ الرجل إذا
ما كان له أبناء، وكبروا قليلا، فهو يحب أن يتملص من حركة الحياة، ويعطي لهم حق
التصرف في المال. وإن كان تصرفهم لا يتفق مع الحكمة، فكأنه قال سبحانه: " لا
" إياك أن تعطي أموالك للسفهاء بدعوى أنهم أولادك. وإياك أن تملك أولادك ما
وهبه الله لك من رزقك؛ لأن الله جعل من مالك قياما لك، وإياك أن تجعل قيامك أنت في
يد غيرك.
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا } وهل السفيه لا يعيش؟ وهل يأكل السفيه دون أكل
الرشيد؟ أيلبس السفيه لبس الرشيد؟ أيسكن السفيه دون مسكن الرشيد؟ أيبتسم الإنسان
في وجه الرشيد ولا يبتسم في وجه السفيه؟ لا؛ لذلك يأمر الحق ويقول: {
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا } ذلك
أمر بحسن معاملة السفيه، وإياكم أن تعيروهم بسفههم، ويكفيهم ما هم فيه من سفه.
ويرجع الحق من بعد ذلك إلى اليتامى: { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا حَتَّىا إِذَا...
}.
(/596)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
إن الله سبحانه وتعالى يأمر في التعامل مع اليتامى بأن يبدأ الولي في اختبار
اليتيم وتدريبه على إدارة أمواله من قبل الرشد، أي لا تنتظر وقت أن يصل اليتيم إلى
حد البلوغ ثم تبتليه بعد ذلك، فقبل أن يبلغ الرشد، لا بد أن تجربه في مسائل جزئية
فإذا تبين واتضح لك اهتداء منه وحسن تصرف في ماله؛ لحظتها تجد الحكم جاهزا، فلا
تضطر إلى تأخير إيتاء الأموال إلى أن تبتليه في رشده. بل عليك أن تختبره وتدربه
وتمتحنه وهو تحت ولايتك حتى يأتي أوان بلوغ الرشد فيستطيع أن يتسلم منك ماله
ويديره بنفسه. وحتى لا تمر على المال لحظة من رشد صاحبه وهو عندك.
فسبحانه يقول: { وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا حَتَّىا إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ
تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافا } فعندما يبلغ اليتيم الرشد وقد تم تدريبه على حسن إدارة
المال. وعرف الوصي أن اليتيم قد استطاع أن يدبر ماله، ومن فور بلوغه الرشد يجب على
الوصي أن يدفع إليه ماله، ولا يصح أن يأكل الوصي مال اليتيم إسرافا. والإسراف هو
الزيادة في الحد؛ لأنه ليس ماله، إنه مال اليتيم. وعندما قيل لرجل شره: ماذا تريد
أيها الشره؟ قال الشره: " أريد قصعة من ثريد أضرب فيها بيدي كما يضرب الولي
السوء في مال اليتيم ". أنجانا الله وإياكم من هذا الموقف، ونجد الحق يقول: {
وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ }.
إن الحق سبحانه يحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في أثناء مرحلة ما قبل الرشد،
وذلك من الخوف أن يكبر اليتيم وله عند الولي شيء من المال أي أن يسرف الولي فينفق
كل مال اليتيم قبل أن يكبر اليتيم ويرشد، والله سبحانه وتعالى حين يشرع فهو بجلال
كماله يشرع تشريعا لا يمنع قوامة الفقير العادل غير الواجد. كان الحق قادرا أن
يقول: لا تعطوا الوصية إلا لإنسان عنده مال لأنه في غنى عن مال اليتيم.
لكن الحق لا يمنع الفقير النزيه صاحب الخبرة والإيمان من الولاية.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى عن الولي: { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ
وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فلا يقولن أحد عن أحد آخر:
إنه فقير، ولو وضعنا يده على مال اليتيم فإنه يأكله. لا، فهذا قول بمقاييس البشر،
لا يجوز أن يمنع أحد فقيرا مؤمنا أن يكون وليا لليتيم؛ لأننا نريد من يملك رصيدا
إيمانيا يعلو به فوق الطمع في المال؛ لذلك يقول الحق عن الوصي على مال اليتيم: إن
عليه مسئولية واضحة.
فإن كان غنيا فليستعفف، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. وحددوا المعروف بأن يأخذ
أجر مثله في العمل الذي يقوم به.
وكلمة المعروف تعني الأمر المتداول عند الناس، أو أن يأخذ على قدر حاجته. ويقول
الحق: } فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ
وَكَفَىا بِاللَّهِ حَسِيبا { وانظروا الحماية، هو سبحانه يصنع الحماية للولي أو
الوصي، فالحق بعلم خلقه، - وخلقه من الأغيار - والولي على اليتيم لا بد أن يلي
الأمر بحكمة وحرص، حتى لا يكرهه اليتيم. وربما قد يراضيه في كل شيء. نقول له: لا،
أعطه بقدر حتى لا تفسده. فإذا ما أعطى الولي لليتيم بقدر ربما كرهه اليتيم؛ لأن
اليتيم قد يرغب في أشياء كمالية لا تصلح له ولا تناسب إمكاناته، وعندما يصل اليتيم
إلى سن الرشد قد يتركز كرهه ضد الوصي، فيقول له: لقد أكلت مالي؛ لذلك يوضح الحق
للولي أو الوصي: كما حميت اليتيم بحسن ولايتك أحميك أنا من رشد اليتيم.
لذلك يجب عليك - أيها الولي - حين تدفع المال إليه أن تشهد عليه، لأنك لا تملك
الأغيار النفسية، فربما وجد عليك وكرهك؛ لأنك كنت حازما معه على ماله، وكنت تضرب
على يده إذا انحرف. وإذا ما كرهك ربما التمس فترة من الفترات وقام ضدك واتهمك بما
ليس فيك؛ لذلك لابد من أن تحضر شهودا وعدولا لحظة تسليمه المال. وهذه الشهادة
لتستبرىء بها من المال فحسب، أما استبراء الّدين فموكل إلى الله } وَكَفَىا
بِاللَّهِ حَسِيبا {.
هذا وإن سورة النساء تعالج الضعف في المرأة والضعف في اليتيم، لأن الحال في
المجتمع الذي جاء عليه الإسلام أنهم كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار
الذين لم تشتد أجنحتهم، وكانت القاعدة الغريبة عندهم هي: من لم يطعن برمح ولم يذد
عن حريم أو عن مال ولم يشهد معارك فهو لا يأخذ من التركة. وكانت هذه قمة استضعاف
أقوياء لضعفاء. وجاء الإسلام ليصفي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ النساء
حقوقهن وكذلك الأطفال، ولهذا قال الحق سبحانه: } لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا
تَرَكَ... {.
(/597)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
ومن الذي يفرض هذا النصيب؟ إنه الله الذي ملك وهو الذي فرض.
هنا نلاحظ أن المرحوم الشهيد صاحب الظلال الوارفة الشيخ سيد قطب لحظ ملحظا جميلا
هو: كيف يكون للمتوفي أولاد أو نساء محسوبون عليه ولا يأخذون؟ إن الصغار كانوا
أولى أن يأخذوا لأن الكبار قد اشتدت أعوادهم وسواعدهم، فالصغار أولى بالرعاية،
وأيضا إذا كانت قوانين " مندل " في الوراثة توضح أن الأولاد يرثون من
أمهاتهم وآبائهم وأجدادهم الخصال الحسنة أو السيئة، أو المرض أو العفة أو الخلقة،
فلماذا لا تورثونهم أيضا في الأموال؟
وحين نسمع قول الحق: { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } فلا بد من أن يوجد فارض، ويوجد
مفروض عليه، والفارض هنا هو الله الذي ملك، وفيه فرق دقيق بين " فرض " و
" واجب " فالفرض يكون قادما من أعلى، لكن الواجب قد يكون من الإنسان
نفسه، فالإنسان قد يوجب على نفسه شيئا.
وحين يتكلم الحق عن النصيب المفروض، فقد بين أن له قدرا معلوما، ومادام للنصيب قدر
معلوم، فلا بد أن يتم إيضاحه.. ولم يبين الحق ذلك إلا بعد أن يدخل في العملية أناسا
قد لا يورثهم، وهم ممن حول الميت ممن ليسوا بوارثين، ويوضح سبحانه الدعوة إلى
إعطاء من لا نصيب له، إياكم أن يلهيكم هذا النصيب المفروض عمن لا نصيب له في
التركة.
لذلك يقول سبحانه وتعالى: { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ... }.
(/598)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
وحين يحضر أولو القربى واليتامى والمساكين مشهد توزيع المال، وكل واحد من الورثة
الذين يتم توزيع مال المورث عليهم انتهت مسائله، قد يقول هؤلاء غير الوارثين: إن
الورثة إنما يأخذون غنيمة باردة هبطت عليهم مثل هذا الموقف يترك شيئا في نفوس أولي
القربى واليتامى والمساكين.
صحيح أن أولي القربى واليتامى والمساكين ليسوا وارثين، ولن يأخذوا شيئا من التركة
فرضا لهم، ولكنهم حضروا القسمة؛ لذلك يأتي الأمر الحق: { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ
وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفا } فلو أنهم لم يحضروا القسمة لاختلف الموقف.
فيأمر سبحانه بأن نرزق اليتامى وأولي القربى والمساكين حتى نستل منهم الحقد أو
الحسد للوارث، أو الضغن على المورث، ولا يكتفي الحق بالأمر برزق هؤلاء الأقارب
واليتامى والمساكين، ولكن يأمر أن نقول لهم: قولا معروفا، مثل أن ندعو الله لهم أن
يزيد من رزقهم، وأن يكون لهم أموال وأن يتركوا أولادا ويورثوهم، ومن الذي يجب عليه
أن يقوم بمثل هذا العمل؟ إنهم الوارثون إن كانوا قد بلغوا الرشد، ولكن ماذا يكون
الموقف لو كان الوارث يتيما؟ فالحضور هم الذين يقولون لأولي القربى واليتامى
والمساكين: إنه مال يتيم، وليس لنا ولاية عليه، ولو كان لنا ولاية لأعطيناكم أكثر،
وفي مثل هذا القول تطبيب للخاطر.
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَىا وَالْيَتَامَىا وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } يجب أن تكونوا في
ذلك الموقف ذاكرين أنه إذا كنتم أنتم الضعفاء واليتامى وغير الوارثين فمن المؤكد
أن السرور كان سيدخل إلى قلوبكم لو شرعنا لكم نصيبا من الميراث. إذن فليذكر كل
منكم أنه حين يطلب الله منه، أنك قد تكون مرة في موقف من يطلب الله له ولأولاده.
إذن فالحكم التشريعي لا يؤخذ من جانب واحد، وهو أنه يُلزم المؤمن بأشياء، ولكن
لنأخذ بجانب ذلك أنه يلزم غيره من المؤمنين للمؤمن بأشياء.
إن الحكم التشريعي يعطيك، ولذلك يأخذ منك. ولهذا قلنا في الزكاة: إياك أن تلحظ يا
من تؤدي الزكاة أننا نأخذ منك حيفا ثمرة كدحك وعرقك لنعطيها للناس، نحن نأخذ منك
وأنت قادر لنؤمنك إن صرت عاجزا. وسوف نأخذ لك من القادرين. إنه تأمين رباني حكيم.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ....
}.
(/289)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان. فإن كان
عندك أيها المؤمن ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف
عليها، وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها. واعلم أن ربنا رقيب
وقيوم ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك. وقلنا ذات مرة: إن معاوية
وعمرو بن العاص اجتمعا في أواخر حياتهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير
المؤمنين ماذا بقي لك من حظ الدنيا؟ وكان معاوية قد صار أميرا للمؤمنين ورئيس دولة
قوية غنية، فقال معاوية: أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه،
وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف.
وصمت معاوية قليلا وسأل عمرا: وأنت يا عمرو ماذا بقي لك من متع الدنيا؟.
وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال: أنا حظي عين خرارة في أرض
خوارة تدر عليّ حياتي ولولدي بعد مماتي.
إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير.
وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن
يداعبه ليشركه معهما في الحديث.
فقال للخادم: وأنت يا " وردان " ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟ أجاب
الخادم: بقي لي من متع الدنيا يا أمير المؤمنين صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم
كرام لا يؤدونها إليّ طول حياتي حتى تكون لعقبي في عقبهم. لقد فهم الخادم عن الله
قوله: { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً
خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }
[النساء: 9] فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي
الله في ذريتهم الضعيفة.
وقد تكلمنا مرة عن العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام:{ قَالَ لَهُ
مُوسَىا هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىا أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً *
قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىا مَا
لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ
أَعْصِي لَكَ أمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ
حَتَّىا أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّىا إِذَا رَكِبَا فِي
السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً }[الكهف: 66-71] لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة - كما
توضح الآيات - فقال العبد الصالح:{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ
أَمْرِي عُسْراً }[الكهف: 72-73] ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح
وقول موسى له:
{ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً }[الكهف: 74].
ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن السبيل طعاما فاعلم
أنها الحاجة الملحة؛ لأنه لو طلب منك مالا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب
لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك.
فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعاما لهما؟
يقول الحق:{ فَانطَلَقَا حَتَّىا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ
أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن
يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً }[الكهف:
77] إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارا يريد أن يسقط وينقض
فأقامه، واعترض موسى؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية فقد طلبا منهم طعاما فلم
يطعموهما، وقال سيدنا موسى: إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرا، لأن أهل القرية لئام،
وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرا.
لقد غاب عن موسى ما لم يغّيب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله لو أن الجدار
وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلا
بد أنهم سيغتصبون الكنز. إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن
هؤلاء اللئام. ويقول الحق سبحانه:{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا
صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }[الكهف: 82] إذن فالعلة في هذه
العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالا ولنهتم بملاحظ النص، لا بد أن العبد
الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدد عمرا افتراضيا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان
الرشد وقع الجدار أمامهما؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال
القنبلة الموقوتة بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذ الكنز. إنه توقيت إلهي
أراده الله؛ لأن والد اليتيمين كان صالحا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له
جنودا لا يعلمهم ولم يرتبهم ليحموا الكنز لولديه اليتيمين، لذلك فلنفهم جيدا في
معاملتنا، قول الحق: } وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ
قَوْلاً سَدِيداً { [النساء: 9] لماذا؟ لأن الانسان عندما يكون شابا فذاتيته تكون
هي الموجودة. لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه
ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله مازالوا ضعافا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن
على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان: إنك تستطيع وأنت موجود
أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله وخاصة رعاية ما تحت يدك من
يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم.
والقول السديد من الأوصياء: ألاّ يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم
بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم بقولهم يا بني ويا ولدي.
وحين يتقى المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتفي الله في أولاده.
وما زال الحق يضع المنهج في أمر اليتامى: } إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ... {.
(/290)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
لماذا يركز القرآن على هذه الجزئية؟ لأن الله يريد من خلقه أن يستقبلوا قدر الله
فيمن يحبون وفيمن يحتاجون إليهم برضا، فإذا كان الطفل صغيرا ويرى أباه يسعى في
شأنه ويقدم له كل جميل في الحياة وبعد ذلك يموت، فإن كان هذا الصغير قد رأى واحدا
مات أبوه وكفله المجتمع الإيماني الذي يعيش في كفالة عوضته عن أب واحد بآباء
إيمانيين متعددين، فإذا مات والد هذا الطفل فإنه يستقبل قدر الله وخطبه بدون فزع.
فالذي يجعل الناس تستقبل الخطوب بالفزع والجزع والهلع أنهم يرون أن الطفل إذا ما
مات أبوه وصار يتيما فإنه يضيع، ويقول الطفل لنفسه: إن إبي عندما يموت سأصير
مضيعا. لكن لو أن المجتمع حمى حق اليتيم وصار كل مؤمن أبا لليتيم وكل مؤمنة أما
لليتيم لاختلف الأمر، فإذا ما نزل قضاء الله في أبيه فإنه يستقبل القضاء برضا
وتسليم.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىا ظُلْماً إِنَّمَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } [النساء: 10] إن كل
العملية السلبية والنهبية أهم ما فيها هو الأكل؛ لأن الأكل هو المتكرر عند الناس،
وهو يختلف عن اللباس، فكل فصل يحتاج الإنسان إلى ملابس تناسبه، لكن الأكل عملية
يومية؛ لذلك فأي نهب يكون من أجل الأكل. ولذلك نقول في أمثالنا العامية عن النهاب:
" فلان بطنه واسعة " إنها مسألة الأكل.
وقد أوضح الحق هذا الأمر لأكل مال اليتيم: أنت تحشو في بطنك نارا. ويعني ذلك أنه
يأكل في بطنه ما يؤدي إلى النار في الآخرة. وهذا قد يحدث عقابا في الدنيا فيصاب
آكل مال اليتيم في بطنه بأمراض تحرق أحشاءه، ويوم القيامة يرى المؤمنون هؤلاء
القوم الذين أكلوا مال اليتيم، وعليهم سمات أكل مال اليتيم: فالدخان يخرج من
أفواههم. وإياك أن تفهم أن البطون هي التي ستكون ممتلئة بالنار فقط، وإلا يكون
هناك نار أمام العيون. بل سيكون في البطون نار وسيصلون سعيرا.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ... }.
(/291)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
ونعم الرب خالقنا؛ إنه يوصينا في أولادنا، سبحانه رب العرش العظيم، كأننا عند ربنا
أحب منا عند أبائنا. وقوله الكريم: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } توضح
أنه رحيم بنا ويحب لنا. ومادة الوصية إذا ما استقرأناها في القرآن نجد -
بالاستقراء - أن مادة الوصية مصحوبة بالباء، فقال سبحانه:{ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[الأنعام: 153] وقال سبحانه:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ
الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً }[الشورى: 13] وقال الحق أيضا:{ وَوَصَّيْنَا
الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىا وَهْنٍ }[لقمان: 14]
كل هذه الآيات جاءت الوصية فيها مصحوبة بالباء التي تأتي للإلصاق.
لكن عندما وصّى الآباء على الأبناء قال: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ }
فكأن الوصية مغروسة ومثبتة في الأولاد، فكلما رأيت الظرف وهو الولد ذكرت الوصية.
وما هي الوصية؟ إنها { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن } وقلنا من قبل: إن
الحق قال:{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ
وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ }[النساء: 7]
ولم يحدد النصيب بعد هذه الآية مباشرة إلا بعد ما جاء بحكاية اليتامى وتحذير الناس
من أكل مال اليتيم، لماذا؟ لأن ذلك يربي في النفس الاشتياق للحكم، وحين تستشرف
النفس إلى تفصيل الحكم، ويأتي بعد طلب النفس له، فإنه يتمكن منها. والشيء حين
تطلبه النفس تكون مهيأة لاستقباله، لكن حينما يعرض الأمر بدون طلب، فالنفس تقبله
مرة وتعرض عنه مرة أخرى. ونلحظ ذلك في مناسبة تحديد أنصبة الميراث.
فقد قال الحق سبحانه أولا:{ لرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ }[النساء: 7] وعرض بعد ذلك أمر القسمة ورعاية اليتامى والمساكين
وأولي القُربى، ثم يأتي الأمر والحكم برعاية مال اليتيم والتحذير من نهبه، وبعد
ذلك يقول: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُم } ويأتي البند الأول في الوصية {
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } ولماذا لم يقل " للأنثيين مثل حظ
الذكر ". أو " للأنثى نصف حظ الذكر " ، هذه معان يمكن أن تعبر عن
المطلوب.
لقد أراد الله أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الرجل هنا
منسوبا إلى الأنثى، لأنه لو قال: " للأنثى نصف حظ الرجل " لكان المقياس
هو الرجل، لكنه سبحانه جعل المقياس للأنثى فقال: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْنِ }.
والذين يقولون: هذا أول ظلم يصيب المرأة، نريد المساواة. نقول لهم: انظروا إلى
العدالة هنا. فالذكر مطلوب له زوجة ينفق عليها، والأنثى مطلوب لها ذكر ينفق عليها،
إذن فنصف حظ الذكر يكفيها إن عاشت دون زواج، وإن تزوجت فإن النصف الذي يخصها سيبقى
لها، وسيكون لها زوج يعولها.
إذن فأيهما أكثر حظا في القسمة؟ إنها الأنثى. ولذلك جعلها الله الأصل والمقياس
حينما قال: { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } فهل في هذا القول جور أو
فيه محاباة للمرأة؟ إن في هذا القول محاباة للمرأة؛ لأنه أولا جعل نصيبها المكيال
الذي يُرد إليه الأمر؛ لأن الرجل المطلوب منه أن ينفق على الأنثى، وهي مطلوب لها
زوج ينفق عليها.
إذن فما تأخذه من نصف الذكر يكون خالصا لها، وكان يجب أن تقولوا: لماذا حابى الله
المرأة؟ لقد حابى الله المرأة لأنها عرض، فصانها، فإن لم تتزوج تجد ما تنفقه، وإن
تزوجت فهذا فضل من الله، ثم يقول الحق: } فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك {.
وأنا أريد أن نستجمع الذهن هنا جيدا لنتعرف تماما على مراد الحق ومسالك القرآن في
تنبيه الأذهان لاستقبال كلام الله. فقد كرم الله الإنسان بالعقل، والعقل لا بد له
من رياضة. ومعنى الرياضة هو التدريب على حل المسائل، وإن طرأت مشكلات هيأ نفسه لها
بالحل، وأن يملك القدرة على الاستنباط والتقييم، كل هذه من مهام العقل. فيأتي الحق
في أهم شيء يتعلق بالإنسان وهو الدين، والدليل إلى الدين وحافظ منهجه هو القرآن،
فيجعل للعقل مهمة إبداعية.
إنه - سبحانه - لا يأتي بالنصوص كمواد القانون في الجنايات أو الجنح، ولكنه يعطي
في مكان ما جزءا من الحكم، ويترك بقية القانون لتتضح معالمه في موقع آخر من القرآن
بجزئية أخرى، لأنه يريد أن يوضح لنا أن المنهج الإلهي كمنهج واحد متكامل، وأنه
ينقلك من شيء إلى شيء، ويستكمل حكما في أكثر من موقع بالقرآن. وذلك حتى تتعرف على
المنهج ككل. وأنك إذا كنت بصدد شيء فلا تظن أن هذا الشيء بمفرده هو المنهج، ولكن
هناك أشياء ستأتي استطرادا تتداخل مع الشيء الذي تبحث عن حكم الله فيه، مثال ذلك:
مسألة اليتيم التي تتداخل مع أحكام الميراث. وهذه الآية تعطينا مثل هذه المسألة
لماذا؟ لأن الله يريد لك يا صلحب العقل الدربة في الإطار الذي يضم الحياة كلها.
وما يهمك أولا هو دينك، فلتعمل عقلك فيه، فإذا أعملت عقلك في الدين أعطيت عقلك
النشاط ليعمل في المجال الآخر.
لكن إذا غرق ذهنك في أي أمر جزئي فهذا قد يبعد بك عن الإطار العام لتنشغل
بالتفاصيل عن الهدف العام.
وأولادنا من الممكن أن يعلمونا من تجربة من ألعابهم، فالطفل يلعب مع أقرانه "
الاستغماية " ، ويختبىء كل قرين في مكان، ويبحث الطفل عن أقرانه.
ونحن نلعب أيضا مع أولادنا لعبة إخفاء شيء ما في يد ونطبق أيدينا ونترك الإبن يخمن
بالحدس في أي يد يكون الشيء، إنها دربة للعقل على الاستنباط، فإن كان الولد سريع
البديهة قوي الملاحظة ويمتلىء بالذكاء، فهو يرى يدي والده ليقارن أي يد ترتعش
قليلا، أو أي يد ليست طبيعية في طريقة إطباق الأب لها فيختارها، وينتصر بذلك ذكاء
الولد، وهذه عملية ترويض للطفل على الاستنباط والفهم، وبذلك تعلم الطفل ألا يأخذ
المسائل ضربة لازب بدون فكر ولا دُربة.
والحق سبحانه أراد أن تكون أحكامه موزعة في المواقع المختلفة، ولننظر إلى قوله: }
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن
كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ { أي أنه إن لم
ينجب المورث ذكرا وكان له أكثر من اثنتين فلهن ثلثا ما ترك.
أما لو كان معهن ذكر، فالواحدة منهن ستأخذ نصف نصيب الذكر، وإن كانت الوارثة بنتا
واحدة، فالآية تعطيها النصف من الميراث } وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ { وبقي شيء لم يأت الله له بحكم، وهو أن يكون المورث قد ترك ابنتين.
وهنا نجد أن الحق قد ضمن للاثنتين في إطار الثلاث بنات أو أكثر أخذ الثلثين من
التركة، هكذا قال العلماء، ولماذا لم ينص على ذلك بوضوح؟ لقد ترك هذه المهمة
للعقل، فالبنت حينما ترث مع الذكر تأخذ ثلث التركة، وعندما تكون مع ابنة أخرى دون
ذكر، تأخذ الثلث.
فإذا كانت مع الذكر وهو القائم بمسئولية الكدح تأخذ الثلث، ولذلك فمن المنطقي أن
تأخذ كل أنثى الثلث إن كان المورث قد ترك ابنتين. وهناك شيء آخر، لتعرف أن القرآن
يأتي كله كمنهج متماسك، فهناك آية أخرى في سورة النساء تناقش جزئية من هذا الأمر
ليترك للعقل فرصة العمل والبحث، يقول سبحانه:{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ
وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن
كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
}[النساء: 176] لقد جاء الحق هنا بأختي المورث وأوضح أن لهما الثلثين من التركة إن
لم يكن للمورث ولد - ابن أو بنت - فإذا كان للأختين الثلثان، فأيهما ألصق بالمورث،
البنتان أم الأختان؟ إن ابنتي المورث ألصق به من أختيه، ولذلك فللبنتين الثلثان، فالإبنة
إن كانت مع أخيها فستأخذ الثلث، وإن كانت قد ورثت بمفردها فستأخذ النصف. وإن كانت
الوارثات من البنات أكثر من اثنتين فسيأخذن الثلثين، وإن كانتا اثنتين فستأخذ كل
منهما الثلث، لماذا؟ لأن الله أعطى الأختين ثلثي ما ترك المورث إن لم يكن له
أولاد.
ومن العجيب أنه جاء بالجمع في الآية الأولى الخاصة بتوريث البنات، وجاء بالمثنى في
الآية التي تورث الأخوات، لنأخذ المثنى هناك- في آية توريث البنات- لينسحب على
المثنى هناك.
لقد أراد الحق أن يجعل للعقل مهمة البحث والاستقصاء والاستنباط وذلك حتى نأخذ
الأحكام بعشق وحسن فهم، وعندما يقول سبحانه: } يَسْتَفْتُونَكَ { فمعنى يستفتونك
أي يطلبون منك الفتوى، وهذا دليل على أن المؤمن الذي سأل وطلب الفتيا قد عشق
التكليف، فهو يحب أن يعرف حكم الله، حتى فيما لم يبدأ الله به الحكم.
وقد سأل المؤمنون الأوائل وطلبوا الفتيا عشقا في التكليف } يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ { والكلالة مأخوذة من الإكليل وهو ما يحيط
بالرأس، والكلالة هي القرابة التي تحيط بالإنسان وليست من أصله ولا من فصله.{ إِن
امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ
يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا
الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[النساء: 176] وهذه الآية تكمل الآية الأولى.
ونعود إلى تفصيل الآية الأولى التي نحن بصدد خواطرنا الإيمانية عنها: }
وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ
وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ
الثُّلُثُ {.
ومعنى ذلك أن المورث إن لم يكن له الأولاد فللأم الثلث، والأب له الثلثان، فإن كان
للمورث إخوة أشقاء أولأب أولأم السدس حسب النص القرآني } فَإِن كَانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ { ،
وذلك بعد أن تنفذ وصية المورث، ويؤدي الدّين الذي عليه. والوصية هنا مقدمة على
الدين؛ لأن الدين له مُطالب، فهو يستطيع المطالبة بدينه، أما الوصية فليس لها
مطالب، وقد قدمها الحق للعناية بها حتى لا نهملها. ويذيل الحق هذه الآية: }
آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً
فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً { [النساء: 11]
فإياك أن تحدد الأنصباء على قدر ما تظن من النفعية في الآباء أو من النفعية في
الأبناء، فالنفعية في الآباء تتضح عندما يقول الإنسان: " لقد رباني أبي وهو
الذي صنع لي فرص المستقبل ". والنفعية في الأبناء تتضح عندما يقول الإنسان:
إن أبي راحل وأبنائي هم الذين سيحملون ذكرى واسمى والحياة مقبلة عليهم. فيوضح
الحق: إياك أن تحكم بمثل هذا الحكم؛ فليس لك شأن بهذا الأمر: } لاَ تَدْرُونَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً {.
وما دمت لا تدري أيهم أقرب لك نفعا فالتزم حكم الله الذي يعلم المصلحة وتوجيهها في
الأنصبة كما يجب أن تكون.
ونحن حين نسمع: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً { أو نسمع: } إِنَّ
اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيما { فنحن نسمعها في إطار أن الله لا يتغير، ومادام
كان في الأزل عليما حكيما وغفورا رحيما فهو لا يزال كذلك إلى الأبد.
فالأغيار لا تأتي إلى الله، وثبت له العلم والحكمة والخبرة والمغفرة والرحمة أزلا
وهو غير متغير، وهذه صفات ثابتة لا تتغير. لذلك فعندما تقرأ: } إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلِيماً حَكِيماً { أو } إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً { ،
فالمسلم منا يقول بينه وبين نفسه: ولا يزال كذلك.
والحق يقول من بعد ذلك: } وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ... {.
(/292)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهذه عدالة؛ لأن الرجل حين تموت
امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه
وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة - كما قلنا - أنه ليس
للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك
فهم شركاء بالثلث، وذلك أيضا من بعد الوصية التي يوصى بها أو دين. ولماذا يتم
تقرير هذا الأمر؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.
إن الحق يقول فيها:{ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا
تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ }[النساء: 176] في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة
سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة
من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن
معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن
ويوضح بدقة مطلقة.
وماذا يعني قوله الحق: { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَلِيم }؟
إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله؛ لأن
الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث
العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يُدخل أولاد الإخوة الذكور
أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب
الهوى نقول: إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهنّ عمّ، أليس
مطلوبا من العم أن يربي البنات؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن
توفي الأخ ولم يترك شيئا؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم
في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.
وقلنا: إن القرآن الكريم يجب أن يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في سورة
النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها:{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ
لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ
وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ }
[النساء: 176] فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين
الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد
الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى؟
لابد أن نفرق بين كلالة وكلالة..
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفيي. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.
ونقول: إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما أخوة
لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصلية، وهما
المعنيان في الآية 176 من السورة نفسها.
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن
فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لأم فقط، وإما أن يكون أخا لأب، أو أخا لأب وأم.
فالحكمان لذلك مختلفان؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ
هذه الآية وقرأ الآية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا
المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال - والعياذ بالله -
القرآن متضارب، فهو مرة يقول: للكلالة السدس، ومرة يقول: الثلث، ومرة أخرى النصف،
ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين! ونرد على من يقول ذلك: أنت لم
تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.
والحق قال: } مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىا بِهَآ أَوْ دَيْنٍ { ولنا أن نلاحظ أن
في كل توريث هذه " البعدية " أي أن التوريث لا يأتي إلا من بعد الوصية
الواجبة النفاذ والدّين.
ولنا أن نسأل: أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين؟
والإجابة: لاشك أنه الدين؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم
الوصية - وهي التطوع - على الدين، وهو للإلزام في الذمة.
وعندما يقول: } غَيْرَ مُضَآرٍّ { لابد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما
المقصود بذلك؟ المقصود به الموصي، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض
المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي
لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه
المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان
مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذلك يترك الورثة بلا ميراث.
وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطيهم الله
ولدا ذكرا يعصّبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه: إن الأعمام ستدخل، وأبناء
الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على
نفسه للبنات.
ونقول لهذا الإنسان: لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب أن تنظر
إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن
المسئول عنهن؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام
أمام القضاء ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون أن يترك له ثروة. فكيف تمنع
عن إخوتك ما قرره الله لهم؟
وهنا بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطي عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب،
فماذا يفعل؟ إنه يضع الوصية؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث
مضارة للورثة.
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدّعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق
للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات
أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.
لذلك قال الحق سبحانه:{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً
حَكِيماً }[النساء: 11] والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف؛ لأنها توصية من الله
لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وآداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست
من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله؛ ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل:{ شَرَعَ
لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً }[الشورى: 13] والوصية هنا افتراض،
ومثل ذلك يقول الحق:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }[الأنعام: 151] وما
دامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك أنها افتراض، ويذيل الحق سبحانه
الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية: } وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم { أي
إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله؛ لأنه
قد قام على باطل.
مثال ذلك: هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل
دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله
عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عّميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن
تعموا على قضاء السماء.
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين
البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين
عبيده، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف: " إنما أنا
بشر وأنكم تختصمون إليّ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو
ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها
".
إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع
المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان،
ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة
القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا
حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له؛ لأنه حتى
لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم، فليعلم أنه يأخذ قطعة من
الجحيم.
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان
القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدّين لا يجوز للمؤمن المساس
بها، إياكم أن تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بيّن،
والحرام بيّن، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة.
ومثال على ذلك: هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء
المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه: " عندما تذهب إلى منزلك
أرجو أن ترسل لي الصك " ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت: " إن الصك
عندنا " واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدّين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد
الدين مرة أخرى، لكن حكم الدّين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا
أن يأخذ الورثة الدّين مرة أخرى إذا علموا أن مورثهم حصل على دينه.
وذلك يقول لنا الحق: } وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيم { حتى نفرق بين الديانة وبين
القضاء. والحق يقول لنا: إنه } حَلِيم { فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم
ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف
حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكنّ هناك عقابا في الآخرة.
وبعد بيان هذه الأمور يقول الحق سبحانه وتعالى: } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ... {.
(/293)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله، وحين يحدّ الله حدودا.. أي يمنع
أن يلتبس حق بحق، أو أن يلتبس حق بباطل؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا
عن حقوق.
ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة،
ومعنى " حد " أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له من آخر.
والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، هي نوعان: نوع لا
يتعدى بالبناء، فعندما يريد واحد أن يبني، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له،
ويكون الجداران ملتصقين بعضهما ببعض. وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح
يزرع في أرضه وبين القطعتين حد، وهذا يحدث في النفع.
لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا، وجاره لن يزرع أرزا، فالذي لن يزرع الأرز
قد تأخذ أرضه مياها زائدة، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره، ولذلك يكون الحكم
هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه " حد الجيرة " ليمنع الضرر، وهو ليس
" حد الملكية " فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين، ويصنع بهما
حد الجيرة، حتى لا تتعدى المياه التي يُروي بها الأرز إلى أرض الجار. إنه حد يمنع
الضرر، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك.
إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى
المقولة الواضحة: " لا تجعل حقك عند آخر حدك، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا
عن حدك " ، وهذا في الملكية. وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك.
وكذلك يعاملنا الله، ويقول في الأوامر:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ
تَعْتَدُوهَا }[البقرة: 229] وفي النواهي يقول سبحانه:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
فَلاَ تَقْرَبُوهَا }[البقرة: 187] أي أنك إذا ما تلقيت أمرا، فلا تتعد هذا الأمر،
وهذه هي الملكية، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه. مثال ذلك النهي
عن الخمر، فالحق لا يقول: " لا تشرب الخمر " ، وإنما يقول: {
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ
وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ }. أي لا تذهب إلى
المكان الذي توجد فيه من الأصل، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر.
ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة: أقال الحق: " لا تأكلا من الشجرة
"؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة؟ سبحانه قال:{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ
الشَّجَرَةَ }[الأعراف: 19] وهذا حد اسمه " حد عدم المضارة " إنه أمر
بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة.
وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك. ففي الأوامر يقول سبحانه " } تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا { وهذا ما يتعلق بالملكية.
وفي النواهي يقول سبحانه: } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا { ورسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث: " الحلال بيّن والحرام بيّن
وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه
ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه،
ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألاوإن في الجسد
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
لذلك تجنب حدود الله. مثال ذلك قول الحق:{ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذالِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }[البقرة: 187] إن
الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجة لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن
أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد. ولا يجعل المسائل قريبة من
المباشرة، لأن ذلك من حدود الله. وسبحانه يقول: } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ
تَقْرَبُوهَا {.
وهنا في مسائل الميراث يقول الحق: } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { [النساء: 13] وكان يكفي أن يقول الحق -
" ومن يطع الله " ولكنه قال: " ومن يطع الله ورسوله " من بعد
بيان الحدود - وذلك لبيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع حدودا من عنده
لما حل، وأن يضع حدودا لما حرم. وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يُشرّع؛ لذلك
فلا تقل في كل شيء: " أريد الحكم من القرآن ".
ونرى من يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا
فيه حرام حرمناه. هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفوض في
التشريع وهو القائل:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُواْ }[الحشر: 7] إنه صلى الله عليه وسلم مفوض من الله، وهؤلاء الذين
ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله، إنهم
يحتكمون إلى كتاب الله، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله
لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرع.
هم يقولون: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه
من حرام حرمناه. وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم فيما يقول، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا:
يا رسول الله لقد قلت: روي المقدام بن معدي كرب قال: حرم النبي صلى الله عليه وسلم
" أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب
الله فما وجدا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول
الله كما حرم الله ".
فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك، ولم يقل أحد هذا الكلام؟
إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر. ويسخرهم الحق، فينطقون بمثل هذا
القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي..
والحق يقول: } وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ { والذي يطيع
الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في
الآخرة. لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين، أو هو الجزاء على الدين؟
إنه الجزاء على الدين، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا، ومن يسير على منهج الله
في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة، فالآخرة ليست موضوع الدين، لكن موضوع الدين هو
الدنيا، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك: لم تجعل للدين موضوعا، إياك
أن تقول: موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء، وفي حياتنا نأخذ هذا
المثل: هل الامتحان موضوع المناهج، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة، وهي
موضوع الامتحان؟
إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان، وكذلك فالدنيا هي موضوع
الدِّين، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع؛ لذلك فإياكم أن تقولوا:
دنيا ودين، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين. فالدنيا
ُتقابلها الآخرة والدين لهما. الدنيا مزرعة والآخرة محصدة. بهذا نرد على من يقول:
إن الدنيا منفصلة عن الدين.
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أواثنتين أو جنات، وهل دلالة " من
" للواحد؟ لا، إن " من " تدل على الواحد، وتدل على المثنى وتدل على
الجمع، مثال ذلك نقول: جاء من لقيته أمس ونقول أيضا: جاء من لقيتهما أمس، وتقول
ثالثا: جاء من لقيتهم أمس.. إذن فـ " من " صالحة للمفرد والمثنى والجمع.
والحق هنا لا يتكلم عن فرد هنا أو جمع. كما قلنا في أول الفاتحة:{ إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5] على الرغم من أن القياس أن تقول:
" إياك أعبد وإياك أستعين ". لكن قال سبحانه: } إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ { ليوضح لنا أن المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة.
وهناك من يقول إذا دلت: (مَن) على المفرد فقد لحظنا لفظها، وإذا دلت على المثنى أو
الجمع فقد لحظنا معناها.
ولمن يقول ذلك نقول: إن هذا الكلام غير محقق علميا؛ لأن لفظ " من " لم
يقل أحد إنه للمفرد.
بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع. فلا تقل: استعمل لفظ " من "
مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى، لأن لفظ " من " موضوع لمعان ثلاثة هي
المفرد والمثنى والجمع.
وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات: لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن:{
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }[الرحمن: 46] فقلت له: إن سورة الرحمن
استهلها الحق سبحانه وتعالى:{ الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ
الإِنسَانَ }[الرحمن: 1-3] وبعد ذلك قال الحق:{ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
* وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ }[الرحمن: 14-15] وقال سبحانه:{
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ }[الرحمن: 31] وقال تعالى:{ يامَعْشَرَ
الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ
}[الرحمن: 33] إذن فمن خاف مقام ربه، هو من الجن أو من الإنس، إن كان من الجن فله
جنة، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى. إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان.
وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن،
فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة ، وعامل
الكل على أنه مؤمن مطيع، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة، وعامل سبحانه الكل على
أنه عاص، وأنشأ له مقعدا في النار، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة
أماكن.
فإذا دخل صاحب الجنة جنته، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن؛
لذلك يقول الحق:{ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ }[الزخرف:72] فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا.
إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن.
وهنا يقول الحق: } يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { ويجب
أن نفهم أن النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء، الحق يقول: }
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { فأين تجري الأنهار؟
أتجري الأنهار تحت زروعها، أم تحت بنيانها؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى
مياه، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على
الله؛ لأنها تصميمات ربانية.
فالخلق قد تشق نهرا، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني، لكن تصميمات الحق
بطلاقة القدرة؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار، ولا يحدث منها نشع،
سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن
يفيض عليه ويلهمه، فهو - سبحانه - يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول: } جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { ومرة أخرى يقول: } جَنَّاتٍ تَجْرِي
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { فهذا ممكن وذاك ممكن.
فقوله - سبحانه - } جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأَنْهَارُ { قد يشير إلى أن
الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات.
لا. هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى: } جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ { حتى لا يظن أحد أن هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى. إنها
أنهار ذاتية. وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من
قصور فقد يقول قائل: ألا أستطيع أن آخذ من هذه وأنا مهندس أضع تصميمات مباني
الدنيا وآخذ من قول الحق إنه من الممكن أن تقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟
وبالفعل أخذ البشر هذا الأمر اللافت.
نحن نقيم القناطر وهي مبان وتجري من تحتها الأنهار، وعندما تكون المواصفات صحيحة
في الطوب والاسمنت إلى آخر المواصفات فلا نشع يحدث ولا خلخلة في المبنى. فالخلل
الذي يحدث في المباني عندنا، إنما يأتي من آثر الخيانة في التناول. ومن الممكن أن
تجري الأنهار تحت قصور الجنة. التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على
قلب بشر.
ألا يوحي ذلك للمهندس المسلم أن يحيا في هذه اللفتة الإلهية ويأخذ منها علما
ويستطيع أن يقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ لو تنبهت إلى ذلك إيمانية مهندس
وأخذ يتعلم عن ربه كيفية أداء العمل. لفعل ذلك بتوفيق الله.
ولنتكلم على مصر التي تعاني من أزمة إسكان، ونجد أن المساحة المائية تأخذ قدرا
كبيرا من الأرض، سواء أكانت النيل، أم الفروع التي تأخذ من النيل، وكذلك الترع
الصغيرة وكذلك الطرق فلو أن هناك هندسة إيمانية لاستغلت المساحات والمسطحات
المعطلة، نقيم عليها مباني تسع مرافق الدولة كلها، ويتم إنجاز المباني فوق الطرق
وفوق المياه وفوق المصارف. وليس معنى ذلك أن نبني كل الأماكن حتى تصير مسدودة
بالمباني، ولكن نبني الثلث، ونترك فراغا مقدار الثلثين حتى لا نفسد المنظر، ولا
نتعدى على أرض خضراء مزروعة، إنها إيحاءات إيمانية على المهندس المسلم أن يفكر
فيها.
إن بلدا كالقاهرة تحتاج إلى مرافق مختلفة متنوعة، ونستطيع أن نبني على الفراغات
سواء أكانت فراغات في مساحات النيل شرط مراعاة الفراغات والزروع اللازمة لجمال
البيئة وتنقيتها من التلوث. أم نبني المرافق تحت الأرض، ولن تكون هناك أزمات
للإسكان أو المرافق، هذا بالإضافة إلى الانتفاع بالصحراء في هذا المجال.
والحق يقول: } جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا {
صحيح أن الجنة ستكون نعيما ليس على قدر تصورك ولكن على قدر كمال وجمال قدرة الحق،
فالنعيم الذي يتنعم فيه الإنسان يكون على قدر التصور في معطيات النعيم، وقلنا
قديما: إن عمدة إحدى القرى قال: أريد أن أبني مضيفة وحجرة للتيلفون، ومصطبة
نفرشها. هذا هو النعيم في تصور العمدة. ونحن في الحياة نخاف أن نترك النعيم بالموت
أو يتركنا النعيم.
لكن كيف يكون النعيم عند صانع كل التصورات وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لذلك تكون جنات
النعيم دائمة، فلا أنت تموت ولا هي تذهب.
والخلود هنا له معنى واضح إنه بقاء لا فناء بعده } وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم {
وما هو " الفوز "؟
إنه النصر، إنه الغلبة، إنه النجاح، إنه الظفر بالمطلوب.
فإذا كان فوزنا في الدنيا يعطينا جائزة نفرح بها، فالفرح قد يستمر مدة الدنيا التي
يملكها الواحد منا، فما بالنا بالفوز الذي يأتي في الآخرة وهو فوز الخلود في جنة
من صنع ربنا، أليس ذلك فوزا عظيما؟
إننا إذا كنا نفرح في الدنيا بالفوز في أمور جزئية فما بالنا بالفوز الذي يمنحه
الحق ويليق بعظمته سبحانه وتعالى، ولو قسنا فوز الدنيا بفوز الآخرة لوجدنا فوز
الآخرة له مطلق العظمة، ومهما ضحى المؤمن في سبيل الآخرة، فهناك فوز يعوض كل التضحيات،
ويسمو على كل هذا.
وإذا قال قائل: ألم يكن من الأفضل أن يقول: ذلك الفوز الأعظم نقول له: إنك سطحي
الفهم لأنه لو قال ذلك لكان فوز الدنيا عظيما، لأن الأعظم يقابله العظيم، والعظيم
يقابله الحقير فحين يقول الحق عن فوز الآخرة: إنه عظيم، فمعنى ذلك أن فوز الدنيا
حقير، والتعبير عن فوز الآخرة هو تعبير من الحق سبحانه.
وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: فيقول: } وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... {.
(/294)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
وسبحانه قال من قبل: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } والحدود إما أن تبين الأوامر
وحدها وإما أن تبين النواهي وحدها. فهي شاملة أن يطيعها الطائع أو يعصيها العاصي.
فإن كنت تطيع فلك جزاء الطاعة وتأخذ الجنات والخلود والفوز العظيم. لكن ماذا عمن
يعصي؟ إن له المقابل، وهذا هو موقفه وجزاؤه أن له العذاب. { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ
عَذَابٌ مُّهِينٌ } هنا نجد { نَاراً } واحدة، وهناك نجد { جَنَّاتٍ }. هذا ملحظ
أول، وإذا كنا منتبهين ونقبل على كتاب الله، ونعرف أن المتكلم هو الله، فإننا نجد
الملحظ الثاني وهو خلود للمؤمنين في الجنات، أما الكافر فسيدخل النار. ولم يقل
الحق نيرانا، ولم يقل الحق أيضا: " خالدين " لماذا؟ لأن المؤمنين
سيكونون في الجنة على سرر متقابلين، ويتزاورون، وكل واحد يستمتع بكل الجنان، وأيضا
إن المرء إذا كان له من عمله الصالح الكثير وقصر أولاده الذين اشتركوا معه في
الإيمان، فإن الحق - سبحانه - يلحق به ذريته ويكون هو وذريته في النعيم والجنان
كرامة له. فتكون الجنات مع بعضها وهذا أدعى للإنس.
ولكن الموقف يختلف مع الكافر، فلن يلحق الله به أحدا وكل واحد سيأخذ ناره، وحتى لا
يأنسوا مع بعضهم وهم في النار، فالأنس لن يطولوه أيضا، فكل واحد في ناره تماما مثل
الحبس المنفرد في زنزانة. ولن يأنس واحد منهم بمعذب الآخر. إذن فهناك { جَنَّاتٍ }
و { نَار } و { خَالِدِينَ } و { خَالِداً } ، وكل استخدام للكلمة له معنى.
والطائع له جنات يأتنس فيها بذريته وإخوته أهل الإيمان ويكونون خالدين جميعا في
الجنات، أما العاصي فهو في النار وحده خالدا { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }.
إن العذاب يكون مرة أليما، ومثال ذلك أن يؤلم واحد عدوه فيتجلد عدوه حتى لا يرى
شماتة الذي يعذبه. ويقول الشاعر:وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا
أتضعضعفيكتم الألم عن خصمه، لكن هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهناك إهانة في
النفس، فعذاب الله يجمع الألم والإهانة، إياك أن تفهم أن هناك من يقدر على أن
يتجلد كما يتجلد البشر عند وقوع العذاب في الدنيا - إن عذاب الآخرة مهين ومذل
للنفس في آن واحد.
وهكذا نجد أن المرحلة الأولى من سورة النساء عالجت وحدة الإنسان أبا، ووحدته أما،
وعالجت كيف بث الله منهما رجالا كثيرا ونساء. وعالجت السورة أيضا ما يطرأ مما يجري
به قدر الله في بعض خلقه بأن يتركوا أيتاما ضعافا، وأنه سبحانه أراد استبقاء
الحياة الكريمة للنفس الإنسانية؛ لذلك طلب أن نصنع الخير والمودة مع اليتامى، ووضع
أسلوب التعامل الإيماني معهم، وأن نكون أوصياء قائمين بالعدالة والإرادة الحسنة
العفيفة لأموالهم، إلى أن يبلغوا سن الرشد فيتسلموها.
وأيضا عالجت السورة أمراً آخر وهو استبقاء الحياة الكريمة للنساء والأطفال ضمن
النسيج الاجتماعي. ذلك أن العرب كانوا يمنعون النساء من الميراث، ويمنعون - كذلك -
من الميراث من لم يطعن برمح ولم يضرب بخنجر أو سيف ولم يشترك في رد عدوان. فأراد
الله سبحانه لهذه الفئة الذليلة المضطهدة أن تأخذ حقها ليعيشٍ العنصران في كرامة
ويستبقيا الحياة في عزة وهمة وفي قوة، فشرع الحقُ نصيباً محدداً للنساء يختلف عن
نصيب الرجال مما قل أو كثر، وبعد ذلك استطرد ليتكلم عن الحقوق في المواريث. وأوضح
سبحانه الحدود التي شرعها لهذا الأمر، فمن كان يريد جنات الله فليطع الله ورسوله فيما
حدّ من حدود. ومن استغنى عن هذه الجنات فليعص الله ليكون خالدا في النار.
إذن فالحياة الإنسانية هبة من الله لعباده، ومن كرمه سبحانه أن أوجد لها - قبل أن
يوجدها - ما يقيم أود الحياة الكريمة لذلك الإنسان المكرم، فوفد الإنسان على
الخير، ولم يفد الخير على الإنسان، أي أنّ الحق سبحانه لم يخلق الإنسان أولاً ثم
صنع له من بعد ذلك الشمس والقمر والأرض والعناصر. لا، لقد خلق الله هذه العناصر
التي تخدم الإنسان أولاً وأعدها لاستقبال الطارق الجديد - الإنسان - الذي اختاره
سبحانه ليكون خليفة في الأرض. فالخير في الأرض الذي نستبقي به الحياة سبق وجود
الإنسان، وهذه عناية من الحق الرحمن بمخلوقه المكرم وهو الإنسان. وجعل الله
للإنسان وسيلة للتكاثر وربطها بعملية الإمتاع، وهذه الوسيلة في التكاثر تختلف عن
وسائل التكاثر في الزروع والحيوانات، فوسيلة التكاثر في كل الكائنات هي لحفظ النوع
فقط.
وأراد - سبحانه وتعالى - أن يكون الإمتاع مصاحباً لوسيلة التكاثر الإنساني، ذلك أن
المشقَّات التي يتطلبها النسل كثيرة، فلا بد أن يجعل الله في عملية التكاثر متعة
تغري الإنسان.
وأراد الحق سبحانه بذلك أن يأتي بالضعاف ليجعل منهم حياة قوية.
ويوصينا الحق باليتيم من البشر، وقد يقول قائل:
ما دام الحق سبحانه وتعالى يوصينا حتى ننشئ من اليتيم إنساناً قوياً وأن نحسن إلى
اليتيم، فلماذا أراد الله أن يموت والد اليتيم؟. نقول: جعل الحق هذا الأمر حتى لا
تكون حياة الإنسان ضربة لازب على الله، إنه يخلق الإنسان بعمر محدد معروف له
سبحانه ومجهول للإنسان، فالإنسان قد يموت جنيناً أو طفلاً أو صبياً أو رجلاً أو
هرماً، بل نحن نجد في الحياة إنساناً هرماً مازال يحيا بيننا ويموت حفيد حفيده،
لماذا؟.
لأن الله أراد أن يستر قضية الموت عن الناس، فلا معرفة للإنسان بالعمر الذي سوف
يحياه ولا بزمان الموت، ولا مكان الموت، حتى يكون الإنسان منا دائماً على استعداد
أن يموت في أي لحظة.
وما دام الإنسان يعيش مستعدا لأن يموت في أي لحظة، فعليه أن يستحي أن يلقي الله
على معصية. وأيضا لنعلم أن المنهج الإيماني؛ منهج يجعل المؤمنين جميعاً كالبنيان
المرصوص يشد بعضه بعضاً، فإذا مات رجل وترك طفلاً يتيماً، ووجد هذا اليتيم آباء من
المجتمع الإيماني، فإن المنهج الإيماني يستقر في قلب اليتيم اطمئناناً ويقيناً.
ومن حكمة الموت ألا يفتن أحد في أبيه أو في الأسباب الممنوحة من الله للآباء، بل
نكون جميعا موصولين بالله.
وما دام الحق سبحانه قد وضع لنا الأسباب لاستبقاء الحياة، ووضع لنا أسلوب السعي في
الأرض لتستبقي الحياة بالحركة فيها، فقد وضع أيضا الوسيلة الكريمة لاستبقاء النوع
وجعل من حركة الأصل ما يعود على الفرع، فلم يُغر الله الإنسان وحده بالحركة لنفسه،
ولكن أغراه أن يتحرك في الحياة حركة تسعه وتسع من يعول، ويوضح الحق للإنسان: أن
حركتك في الأرض ستنفع أولادك أيضاً.
ولذلك أوجد الله سبحانه في نفس كل واحد غريزة الحنان والحب. ونحن نرى هذه الغريزة
كآية من آيات الله متمكنة في نفوس الآباء. ولهذا يسعى الأب في الحياة ليستفيد هو
وأولاده. والذي يتحرك حركة واسعة في الحياة قد يأتي عليه زمان يكفيه عائد حركته
بقية عمره؛ لأنه تحرك بهمة وإخلاص؛ وأفاء الله عليه الرزق الوفير، وقد يتحرك رجل
لمدة عشرين عاماً أو يزيد ويضمن لنفسه ولأولاده من بعده الثروة الوفيرة، وهناك من
يكد ويتعب في الحياة ويكسب رزقاً يكفيه ويكفي الأبناء والأحفاد.
وهكذا نجد الذين يتحركون لا يستفيدون وحدهم، فقط ولكن المجتمع يستفيد أيضاً. وتشاء
حكمة الله العالية بأن يفتت الثورة بقوانين الميراث لتنتشر الثروة وتتوزع بين
الأبناء فتشيع في المجتمع، وهذا اسمه التفتيت الإنسيابي. كأن نجد واحداً يملك مائة
فدان وله عدد من الأبناء والبنات. وبعد وفاة الرجل يرث الأبناء والبنات كل تركته،
وهكذا تتفتت الثروة بين الأبناء تفتيتاً انسيابياً وليس بالتوزيع القهري الذي
يُنشئ الحقد والعداوة، ويريد الحق أن نحترم حركة المتحرك، وأن تعود له حركة حياته
ولمن يعول فقال سبحانه:{ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن
تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ
أَمْوَالَكُمْ }[محمد: 36].
هو سبحانه لا يقول لأي واحد: هات المال الذي وهبته لك. وقلت سابقا: إنه سبحانه
وتعالى يحنن عبداً على عبد فيقول:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً
حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }[الحديد: 11].
إن الله سبحانه يحترم حركة العبد، ويحترم ما ملك العبد بعرقه، ويوصي الحق العبد
الغني: إن أخاك العبد الفقير في حاجة، فأقرضني - أنا الله - بإعطائك الصدقة أو
الزكاة لأخيك الفقير. ولم يقل للعبد الغني: أقرض أخاك، ولكنه قال أقرضني. لماذا
لأنه سبحانه هو الذي استدعي الخلق إلى الوجود، وهو المتكفل برزقهم جميعاً.
. المؤمن منهم والكافر. ولذلك ضمن الرزق للجميع وأمر الأسباب بأن تستجيب حتى
للكافر، لأنه سبحانه هو الذي استدعاه للوجود.
وسبحانه وضع هذا التوريث، ليصنع التفتيت الإنسيابي للملكية حتى لا يأتي التفتيت
القسري الذي يجعل بعضاً من الأبناء وقد نشأوا في نعمة وأخذوا من مسائل الحياة ما
يريدون، وعندما يأتي عليهم هذا التفتيت القسري، يصبحون من المساكين الذين فاجأتهم
الأحداث القسرية بالحرمان، فهم لم يستعدوا لهذا الفقر المفاجئ. لكن عندما يأتي
التفتيت الانسيابي فكل واحد يعد نفسه لما يستقبله، وبذاتية راضية وبقدرة على
الحركة، ولذلك قال الحق:{ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن
تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ
أَمْوَالَكُمْ }[محمد: 36].
إنه سبحانه لا يقول: أنا الذي ملكتك هذا المال، ولا أنا الذي رزقتك هذا الرزق، مع
أنه - سبحانه - هو الذي ملكك ورزقك هذا المال حقا ولكنه يوضح لك حقك في الحركة،
فيقول بعد ذلك:{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ
أَضْغَانَكُمْ }[محمد:37].
ولو ألح عليك فأنت تبخل بها لأنك جنيتها بتعب وعرق. ولكن ما الفرق بين إنسان لم
يسرف على نفسه، بل عاش معتدلا، ثم أبقى شيئاً لأولاده؛ والذي جاء بدخله كله وبدده
فيما حرمه الله وأسرف على نفسه في المخدرات وغيرها، ما الفرق بين هذا وذاك؟
الفرق هو احترام الحق سبحانه لأثر حركة الإنسان في الحياة، لذلك يوضح: أنا لا
أسألكم أموالكم، لأني إن سألتكم أموالكم فقد تبخلون، لأن مالكم عائد من أعمالكم.
ويقول الحق: } وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ { وإذا ظهر وخرج الضغن في المجتمع فالويل
للمجتمع كله؛ ولذلك نجد أن كل حركة من هذه الحركات القسرية ينشأ منها بروز الضغن
في المجتمع كله، وساعة يبرز الضغن في المجتمع، انتهى كل شيء جميل. ولذلك وضع الحق
أسس ووسائل استبقاء الحياة الكريمة.
وضع أساس للضعيف بما يحميه، وكذلك للنساء اللاتي كن محرومات من الميراث قبل
الإسلام، وجعل الحق - سبحانه وتعالى - لتوريث الأطفال والأبناء والنساء حدوداً }
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ { وإياكم أن تتعدوا هذه الحدود؛ لأن الإنسان إذا ما تعدى
هذه الحدود، فلا بد أن يكون من أهل النار - والعياذ بالله - فقد وضع الله تلك القواعد
لاستبقاء حياتك ويحاة من تعول.
وهناك لون آخر من الاستبقاء، هو استبقاء النوع، لأن الإنسان عمراً محدوداً في
الحياة وسينتهي؛ لذلك يجب أن يستبقي الإنسان النوع في غيره، كيف؟ نحن نتزوج كي
يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر حلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنساني.
والحق يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريماً؛ لذلك يأمرنا الحق - سبحانه - أن
نستبقي النوع بأن نختار له الوعاء الطاهر، فإياك أن تستبقي نوعا من وعاءٍ خبيثٍ
نجس، اختلطت فيه مياه أناس متعددين، فلا يدري أحد لمن ينسب الولد فيصير مضيعاً في
الكون، مجهول النسب فأوضح الله للإنسان أن يختار لنفسه الوعاء النظيف ليستبقي
النوع بكرامة.
والحصول على الأوعية النظيفة يكون بالزواج، فيختار الرجل أنثى عفيفة ذات دين وترضي
به زوجاً أمام أعين الناس جميعاً، ويصير معروفا للجميع أن هذه امرأة هذا، وهذا
زوجها، دخوله وخروجه غير ممقوت أو موقوت. وما ينشأ من الذرية بعد ذلك يكون قطعا
منسوبا إليه. ويخجل الإنسان أن يكون ابنه مهينا أو عاريا أو جائعا أو غير معترف
به؛ لذلك يحاول الأب أن يجعل من ابنه إنساناً مستوفيا لكل حقوقه مرفوع الرأس غير
مهين، لا يقدحه واحد فَيَسُّبُهُ وينال منه قائلا: جئت من أين؟ أو من أبوك؟ فلا
يعيش الطفل كسير الجناح ذليلا طوال عمره. فأراد سبحانه استبقاء النوع برابطة تكون
على عين الجميع، وأن تكون هذه الرابطة على الطريق الشرعي.
ومن العجيب أننا نجد هذه المسألة ذات آثار واضحة في الكون، فالتي تحاول أن تزيل
أثر جريمتها يجبرها الحنان الطبيعي كأم ألا تلقي ابنها الوليد في البحر بل أمام
مسجد؛ فالطفل مربوط بحنان أمه ولكن الحنان غير شرعي ولذلك ترمي الأم الزانية
بطفلها أمام المسجد حتى يلتقطه واحد من الناس الطيبين، فالزانية نفسها تعرف أنه لا
يدخل المسجد إلا إنسان طيب قد يحن على الوليد ويأخذ هذا الطفل ويصير مأمونا عليه.
وهي لا تلقي بوليدها عند خمارة أو دار سينما، ولكن دائما تضعه عند أبواب المساجد،
فالحنان يدفعها إلى وضع الطفل غير الشرعي في مثل هذا المكان؛ لأنها تخاف عليه،
لذلك تلفه وتضعه في أحلى الملابس، وإن كانت غنية فإنها تضع معه بعضا من المال؛ لأن
الحنان يدفعها إلى ذلك، والحياء من الذنب هو الذي يجعلها تتخلص من هذا الطفل.
إنها - كما قلنا - تحتاط بأن تضعه في مكان يدخله أناس طيبون فيعثر عليه رجل طيب،
يأخذه ويكون مأمونا عليه. إذن فحتى الفاسق المنحرف عن دين الله يحتمي في دين الله؛
وهذا شيء عجيب.
والله يريد أن يبني بقاء النوع على النظافة والطهر والعفاف ولا يريد لجراثيم
المفاسد أن توجد في البيوت؛ لذلك يشرع العلاقة بين الرجل والمرأة لتكون زواجا أمام
أعين الناس. ويأخذ الرجل المرأة بكلمة الله.
وأضرب هذا المثل: نحن نجد الرجل الذي يحيا في بيت مطل على الشارع وله ابنة وسيمة
والشباب يدورون حولها - ولو عرف الرجل أن شابا يجيء ويتعمد لينظر إلى ابنته فماذا
يكون موقف الرجل من الشاب؟ إن الرجل قد يسلط عليه من يضربه أو يبلغ ضده الشرطة
ويغلى الرجل بالغيظ والغَيْرة.
وما موقف الرجل نفسه عندما تدق الباب أسرة شاب طيب يطلبون الزواج من ابنته؟ يفرح
الرجل ويسأل الابنة عن رأيها، ويبارك للأم ويأتي بالمشروبات ويوجه الدعوات لحفل
عقد القرآن، فما الفرق بين الموقفين؟
لماذا يغضب الأب من الشاب الذي يتلصص؟ لأن هذا الشاب يريد أن يأخذ البنت بغير حق
الله، أما الشاب الذي جاء ليأخذ الابنة زوجة بحق الله وبكلمة الله فالأب يفرح به
وينزل الأمر عليه بردا وسلاما.
وبعد ذلك يتسامى الأمر، ويتم الزفاف ويزور الأب ابنته صباح الزفاف ويرغب أن يرى
السعادة على وجهها.
إن الفارق بين الموقفين هو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: " الصلاة
الصلاة، وما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن
عَوانٍ في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".
وما دام الله هو الذي خلق الرجل والمرأة وشرع أن يجتمعا وتكون كلمة الشاب: "
أريد أن أتزوج ابنتك " بردا وسلاما على قلب الأب، ويكون الفرح والاحتفال
الكبير؛ لأن هذه مسألة عفاف وطهر. والله يريد أن يجعل استبقاء النوع الإنساني
استبقاءً نظيفا لا يُخجل أن تجيء منه ولادة، ولا يخجل منه المولود نفسه، ولا يُذَم
في المجتمع أبدا، إذا استبقينا النوع بهذا الشكل؛ فهذا هو الاستبقاء الجميل للنوع.
واستبقاء النوع هو الذي تأتي من أجله العملية الجنسية وأراد الله أن يشرعها حلالا
على علم الناس ويعرفها الجميع.
وقد سألني سائل وأنا في الجزائر: لماذا تقوم العلاقة بين الرجل والمرأة على كلمات
نحو: " زوجتك موكلتي، أو تقول هي: زوجتك نفسي " ويقبل الرجل، وتنكسر العلاقة
بكلمة " أنت طالق "؟ وأجبته: لماذا يستبيح الرجل لنفسه أن يمتلك بضع
الزوجة بكلمتين؟ ويستكثر أن تخرج من عصمته بكلمتين؟ فكما جاءت بكلمة تذهب بكلمة.
إن الحق سبحانه وتعالى كما استبقى الحياة بالعناصر التي تقدمت، يريد أن يستبقي
النوع بالعناصر التي تأتي، وأوضح لنا أن كل كائن يتكاثر لا بد له من إخصاب،
والإخصاب يعني أن يأتي الحيوان المنوي من الذكر لبويضة الأنثى كي ينشأ التكاثر،
والتكاثر في غير الإنسان يتم بعملية قسرية.
ففي الحيوانات نرى الأنثى وهي تجأر بالصوت العالي عندما تنزل البويضة في رحمها
كالبقرة مثلا، حتى يقول الناس جميعا: إن البقرة تطلب الإخصاب، وعندما يذهب بها
صاحبها إلى الفحل ليخصبها تهدأ، ولا تمكن فحلا آخر منها من بعد ذلك، وهكذا يتم حفظ
النوع في الحيوانات.
أما في النباتات؛ فالأنثى يتم تلقيحها ولو على بعد أميال. ونحن نعرف بعضا من ذكور
النبات وإناثها مثل ذكر النخل والجميز، لكننا لا نعرف التفريق بين ذكورة وأنوثة
بعض النباتات، وقد يعرفها المتخصصون فقط، وبعض النباتات تكون الذكورة والأنوثة في
عود واحد كالذرة مثلا؛ فالأنوثة توجد في " الشراشيب " التي توجد في
" كوز " الذرة، وعناصر الذكورة توجد في السنبلة التي يحركها الهواء كي
تنزل لتخصب الأنوثة، وكذلك القمح.
وهناك أنواع من النباتات لا نعرف ذكورتها! بالله أيوجد أحدٌ عنده ذكر مانجو أو ذكر
برتقال؟
إذن هناك أشياء كثيرة لا نعرفها، لكن لا بد من أن تتلاقح إخصابا لينشأ التكاثر،
فيوضح ربنا: اطمئنوا أنا جعلت الرياح حاملة لوسائل اللقاح، يأخذ الريح اللواقح إلى
النباتات، والنبات الذي يكون تحت مستوى الريح يسخر الله له أنواعا من الحشرات
غذاؤها في مكانٍ مخصوصٍ من النبات وله لون يجذبها، حشرة يجذبها اللون الأحمر،
وحشرة يجذبها اللون الأبيض؛ لأن الحشرة تذهب للذكورة فيعلق بها حيوان الذكورة،
فتذهب إلى الأنثى المتبرجة بالزينة، وهذه العملية تحدث ولا ندري عنها شيئا.
من الذي يلقح؟ من الذي يعلمها؟ إنه الله القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم،
فاستبقى لنا الأنواع غريزيا وقسريا، بدون أن نعرف عن الكثير منها شيئا، حتى المطر
لا يمكن أن ينزل إلا إذا حدثت عملية تلقيح. ولذلك يقول الحق:{ وَأَرْسَلْنَا
الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ
وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }[الحجر: 22].
إذن الحق قد استبقى لك أيها الإنسان أنواع مقومات حياتك بما لا تدريه، وجعل هذه
المسائل قسرية بحيث يؤدي كل كائن وظيفته وتنتهي المسألة، لكن حين كان لك اختيار،
وتوجد مشقات كثيرة في الإنجاب وحفظ النوع، فقد قرن - سبحانه - حفظ النوع بالمتعة،
وإياك أن تعزل حفظ النوع عن المتعة، فإن أخذت المتعة وحدها فقد أخذت الفرع وتركت
الأصل، فلا بد أن تفعلها لحفظ النوع المحسوب عليك.
إذن فإياك أن تلقي حيوانك المنوي إلا في وعاء نظيف، محسوب لك وحدك كي لا تنشأ
أمراض خبيثة تفتك بك وبغيرك، ولكيلا ينشأ جيل مطموس النسب، ولكيلا يكون مهينا ولا
مدنسا في حياته؛ فإياكم أن تأخذوا قضية حفظ النوع منفصلة عن المتعة فيها.
ولذلك - فسبحانه - سيتكلم عن المرأة عندما تتصل بامرأة بالسحاق، أو الرجل يكتفي
بالرجل باللواط للمتعة، أو رجل ينتفع بامرأة على غير ما شرع الله. فعندما تنتفع
امرأة مع امرأة، وينتفع الرجل بالرجل للاستمتاع، نقول لها: أنت أيتها المرأة أخذتِ
المتعة وتركتِ حفظ النوع، وأنت يا رجل أخذت المتعة وتركت حفظ النوع، والحق يريد لك
أن تأخذ المتعة وحفظ النوع معا. فيوضح سبحانه أنه لا بد أن تكون المتعة في ضوء
منهج الله.
واسمعوا قول الله: } وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ... {.
(/295)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
و { وَاللاَّتِي } اسم موصول لجماعة الإناث، وأنا أرى أن ذلك خاص باكتفاء المرأة بالمرأة.
وماذا يقصد بقوله: { فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً }؟ إنه سبحانه يقصد
به حماية الأعراض، فلا يبلغ كل واحد في عرض الآخر، بل لا بد أن يضع لها الحق
احتياطا قويا، لأن الأعراض ستجرح، ولماذا " أربعة " في الشهادة؟ لأنهما
اثنتان تستمتعان ببعضهما، ومطلوب أن يشهد على كل واحدة اثنان فيكونوا أربعة، وإذا
حدث هذا ورأينا وعرفنا وتأكدنا، ماذا نفعل؟
قال سبحانه: { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } أي احجزوهن واحبسوهن عن الحركة،
ولا تجعلوا لهن وسيلة التقاء إلى أن يتوفاهن الموت { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً } وقد جعل الله.
والذين يقولون: إن هذه المسألة خاصة بعملية بين رجل وامرأة، نقول له: إن كلمة {
وَاللاَّتِي } هذه اسم موصول لجماعة الإناث، أما إذا كان هذا بين ذكر وذكر. ففي
هذه الحالة يقول الحق:{ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
}[النساء: 16].
الآية هنا تختص بلقاء رجل مع رجل، ولذلك تكون المسألة الأولى تخص المرأة مع
المرأة، ولماذا يكون العقاب في مسألة لقاء المرأة بالمرأة طلبا للمتعة هو الإمساك
في البيوت حتى يتوفاهن الموت؟ لأن هذا شر ووباء يجب أن يحاصر، فهذا الشر معناه
الإفساد التام، لأن المرأة ليست محجوبة عن المرأة؛ فلأن تحبس المرأة حتى تموت خير
من أن تتعود على الفاحشة. ونحن لا نعرف ما الذي سوف يحدث من أضرار، والعلم مازال
قاصرا، فالذي خلق هو الذي شرع أن يلتقي الرجل بالمرأة في إطار الزواج وما يجب فيه
من المهر والشهود، وسبحانه أعد المرأة للاستقبال، وأعد الرجل للإرسال، وهذا أمر
طبيعي، فإذا دخل إرسال على استقبال ليس له، فالتشويش يحدث.
وإن لم يكن اللقاء على الطريقة الشرعية التي قررها من خلقنا فلا بد أن يحدث أمر
خاطئ ومضر، ونحن عندما نصل سلكا كهربائيا بسلك آخر من النوع نفسه. أي سالب مع سالب
أو موجب مع موجب تشب الحرائق، ونقول: " حدث ماس كهربائي " ، أي أن
التوصيلة الكهربائية كانت خاطئة. فإذا كانت التوصيلة الكهربائية الخاطئة في قليل
من الأسلاك قد حدث ما حدث منها من الأضرار، أفلا تكون التوصيلة الخاطئة في
العلاقات الجنسية مضرة في البشر؟
إنني أقول هذا الكلام ليُسَجَّل، لأن العلم سيكشف - إن متأخرا أو متقدما - أن لله
سرا، وحين يتخصص رجل بامرأة بمنهج الله " زوجني.. وتقول له زوجتك " فإن
الحق يجعل اللقاء طبيعيا. أما إن حدث اختلاف في الإرسال والاستقبال فلسوف يحدث ماس
صاعق ضار، وهذه هي الحرائق في المجتمع.
أكرر هذا الكلام ليسجل وليقال في الأجيال القادمة: إن الذين من قبلنا قد اهتدوا
إلى نفحة من نفحات الله، ولم يركنوا إلى الكسل، بل هداهم الإيمان إلى أن يكونوا
موصولين بالله، ففطنوا إلى نفحات الله. والحق هو القائل:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا
فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
}[فصلت: 53].
فإذا كنا قد اهتدينا إلى معرفة أن اتصال سلك صحيح بسلك صحيح فالكهرباء تعطي نورا
جميلا. أما إذا حدث خطأ في الاتصال، فالماس يحدث وتنتج منه حرائق، كذلك في العلاقة
البشرية، لأن المسألة ذكورة وأنوثة.
والحق سبحانه القائل:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }[الذاريات: 49].
فإذا كان النور الجميل يحدث من الاتصال الصحيح بين الموجب والسالب في غير الإنسان،
وتحدث الحرائق إن كان الاتصال خاطئا، فما بالنا بالإنسان؟
وفي بعض رحلاتنا في الخارج، سألنا بعض الناس:
- لماذا عَدَّدتم للرجل نساءً، ولم تعددوا رجالاً للمرأة؟
هم يريدون أن يثيروا حفيظة المرأة وسخطها على دين الله؛ حتى تقول المرأة الساذجة -
متمردة على دينها -: " ليس في هذا الدين عدالة "؛ لذلك سألت من سألوني:
أعندكم أماكن يستريح فيها الشباب المتحلل جنسيا؟
فكان الجواب: نعم في بعض الولايات هناك مثل هذه الأماكن.
قلت: بماذا احتطتم لصحة الناس؟
قالوا: بالكشف الطبي الدوري المفاجئ.
قلت: لماذا؟
قالوا: حتى نعزل المصابة بأي مرض.
قلت: أيحدث ذلك مع كل رجل وامرأة متزوجين؟
قالوا: لا.
قلت: لماذا؟؟ فسكتوا ولم يجيبوا، فقلت: لأن الواقع أن الحياة الزوجية للمرأة مع
رجل واحد تكون المرأة وعاء للرجل وحده لا ينشأ منها أمراض، ولكن المرض ينشأ حين
يتعدد ماء الرجال في المكان الواحد.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يستبقي النوع بقاء نظيفا؛ لذلك قال:
} وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
حَتَّىا يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً {
[النساء: 15].
والمقصود بـ } نسائكم { هنا المسلمات، لأننا لا نشرع لغيرنا، لأنهم غير مؤمنين
بالله، وطلب الشهادة يكون من أربعة من المسلمين، لأن المسلم يعرف قيمة العرض
والعدالة. وإن شهدوا فليحدث حكم الله بالحبس في البيوت.
وقد عرفنا ذلك فيما يسمى في العصر الحديث بالحجر الصحي الذي نضع فيه أصحاب المرض
المعدي. وهناك فرق بين من أُصِبْن بـ " مرض معدٍ " ومن أصبن بـ "
العطب والفضيحة ".
فإذا كنا نعزل أصحاب المرض المعدي فكيف لا نعزل اللاتي أصبن بالعطب والفضيحة؛ لذلك
يقول الحق: } فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىا يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ
أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً { أي أن تظل كل منهما في العزل إلى أن
يأتي لكل منهن ملك الموت. وحدثتنا كتب التشريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حمل الآية على أنها تختص بزنا يقع بين رجل وامرأة وليس بين امرأتين.
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني خذوا
عني: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ".
ثم جاء التشريع بعد ذلك فصفى قضية الحدود إلى أن البكر بالبكر جلد.. والثيب بالثيب
رجم. وبعض من الناس يقول: إن الرجم لم يرد بالقرآن.
نرد فنقول: ومن قال: إن التشريع جاء فقط بالقرآن؟ لقد جاء القرآن معجزة ومنهجا
للأصول، وكما قلنا من قبل: إن الحق قال:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
}[الحشر: 7].
وبعد ذلك نتناول المسألة: حين يوجد نص ملزم بحكم، قد نفهم الحكم من النص وقد لا
نفهمه، فإذا فهمنا فله تطبيق عملي في السيرة النبوية.
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأت بالنص فقط ولكن جاء بالعمل نفسه،
فالأسوة تكون بالفعل في إقامة الحد؛ لأن الفعل أقوى من النص، فالنص قد يوجد ولا
يطبق لسبب كالنَّسْخ للحكم مثلا، أما الفعل فإنه تطبيق، وقد رجم الرسول ماعزا
والغامدية ورجم اليهودي واليهودية عندما جاءوا يطلبون تعديل حكم الرجل الوارد
بالتوارة. إذن فالفعل من الرسول أقوى من النص وخصوصا أن الرسول مشرع أيضاً.
وقال واحد مرة: إن الرجم لمن تزوج، فماذا نفعل برجل متزوج قد زنا بفتاة بكر؟
والحكم هنا: يُرجم الرجل وتجلد الفتاة، فإن اتفقا في الحالة، فهما يأخذان حكما
واحدا. وإن اختلفا فكل واحد منهما يأخذ الحكم الذي يناسبه.
وحينما تكلم الحق عن الحد في الإماء - المملوكات - قال:{ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا
عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ }[النساء: 25].
ويفهم من ذلك الجلد فقط، لأن الرجم لا يمكن أن نقوم بتقسيمه إلى نصفين، فالأمة
تأخذ في الحد نصف الحرة، لأن الحرة البكر في الزنا تجلد مائة جلدة، والأمة تجلد
خمسين جلدة.
وما دام للأمة نصف حد المحصنة، فلا يأتي - إذن - حد إلا فيما ينصَّف، والرجم لا
ينصَّف، والدليل أصبح نهائيا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرع وليس
مستنبطا، وقد رجم رسول الله. ولماذا تأخذ الأمَةُ نصف عقاب الحرة؟ لأن الإماء
مهدورات الكرامة، أما الحرائر فلا. ولذلك فهند امرأة أبي سفيان قالت: أو تزني
الحرة؟ قالت ذلك وهي في عنف جاهليتها. أي أن الزنا ليس من شيمة الحرائر، أما الأمة
فمهدورة الكرامة نظرا لأنه مجترأ عليها وليست عرض أحد.
لذلك فعليها نصف عقاب المحصنات، وقد تساءل بعضهم عن وضع الأمة المتزوجة التي زنت،
والرجم ليس له نصف.
نقول: الرجم فقد للحياة فلا نصف معه، إذن فنصف ما على المحصنات من العذاب، والعذاب
هو الذي يؤلم. ونستشهد على ذلك بآية لنبين الرأي القاطع بأن العذاب شيء، والقتل
وإزهاق الحياة شيء آخر، ونجد هذه الآية هي قول الحق على لسان سليمان عليه السلام
حينما تفقد الطير ولم يجد الهدهد:
{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ }[النمل: 21].
إذن، فالعذاب غير الذبح، وكذلك يكون العذاب غير الرجم. فالذي يحتج به البعض ممن
يريدون إحداث ضجة بأنه لا يوجد رجم؛ لأن الأمة عليها نصف ما على المحصنات، والرجم
ليس فيه تنصيف نقول له: إن ما تستشهد به باطل؛ لأن الله فرق بين العذاب وبين الذبح،
فقال على لسان سليمان: } لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ {
فإذا كان العذاب غير إزهاق الروح بالذبح، والعذاب أيضاً غير إزهاق الروح بالرجم.
إذن فلا يصح أن يحاول أحد الإفلات من النص وفهمه على غير حقيقته ولنناقش الأمر
بالعقل:
حين يعتدي إنسان على بكر، فما دائرة الهجوم على العرض في البكر؟ إنها أضيق من
دائرة الهجوم على الثيب؛ لأن الثيب تكون متزوجة غالبا، فقصارى ما في البكر أن
الاعتداء يكون على عرضها وعرض الأب والأخ. أما الثيب فالاعتداء يكون على عرض الزوج
أيضاً، وهكذا تكون دائرة الاعتداء أكبر، إنه اعتداء على عرض الأب والأم. والإخوة
والأعمام مثل البكر، وزاد على ذلك الزوج والأبناء المتسلسلون. فإذا كان الآباء
والأمهات طبقة وتنتهي، فالأبناء طبقة تستديم؛ لذلك يستديم العار. واستدامة العار
لا يصح أن تكون مساوية لرقعة ليس فيها هذا الاتساع، فإن سوينا بين الاثنين بالجلد
فهذا يعني أن القائم بالحكم لم يلحظ اتساع جرح العرض.
إن جرح العرض في البكر محصور وقد ينتهي لأنه يكون في معاصرين كالأب والأم والإخوة،
لكن ما رأيك أيها القائم بالحكم في الثيب المتزوجة ولها أولاد يتناسلون؟ إنها رقعة
متسعة، فهل يساوي الله - وهو العادل- بين ثيب وبكر بجلد فقط؟ إن هذا لا يتأتى
أبدا.
إذن فالمسألة يجب أن تؤخذ مما صفّاه رسول الله وهو المشرِّع الثاني الذي امتاز لا
بالفهم في النص فقط، ولكن لأن له حق التشريع فيما لم يرد فيه نص! فسنأخذ بما عمله
وقد رجم رسول الله فعلا، وانتهى إلى أن هذا الحكم قد أصبح نهائيا، الثيب بالثيب هو
الرجم، والبكر بالبكر هو الجلد، وبكر وثيب كل منهما يأخذ حكمه، ويكون الحكم منطبقا
تماما، وبذلك نضمن طهارة حفظ النوع؛ لأن حفظ النوع هو أمر أساسي في الحياة
باستبقاء حياة الفرد واستبقاء نوعه، فاستبقاء حياة الفرد بأن نحافظ عليه، ونحسن
تربيته ونطعمه حلالا، ونحفظ النوع بالمحافظة على طهارة المخالطة.
والحق سبحانه وتعالى يمد خلقه حين يغفلون عن منهج الله بما يلفتهم إلى المنهج من
غير المؤمنين بمنهج الله، ويأتينا بالدليل من غير المؤمنين بمنهج الله، فيثبت لك
بأن المنهج سليم. ولقد تعرضنا لذلك من قبل مراراً ونكررها حتى تثبت في أذهان الناس
قال الحق:
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىا وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[التوبة: 33].
فلا يقولن قائل: إن القرآن أخبر بشيء لم يحدث لأن الإسلام لم يطبق ولم يظهر على
الأديان كلها. ونرد عليه: لو فهمت أن الله قال: } لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ { وأضاف سبحانه: } وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { ، } وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ { كما جاء في موقع آخر من القرآن الكريم، لقد أوضح الحق أن الإسلام
يظهر ويتجلى مع وجود كاره له وهو الكافر والمشرك. ولم يقل سبحانه: إن الإسلام
سيمنع وجود أي كافر أو مشرك.
وكيف يكره الكفار والمشركون إظهار الله للإسلام؟ إنهم لا يدينون بدين الإسلام؛
لذلك يحزنهم أن يظهر الإسلام على بقية الأديان. وهل يظهر الإسلام على الأديان بأن
يسيطر عليها ويبطل تلك الأديان؟ لا. إنه هو سبحانه يوضح بالقرآن والسنة كما يوضح
لأهل الأديان الأخرى:
بأنكم ستضطرون وتضغط عليكم أحداث الدنيا وتجارب الحياة فلا تجدون مخلصا لكم مما
أنتم فيه إلا أن تطبقوا حكما من حكم الإسلام الذي تكرهونه.
وحين تضغط الحياة على الخصم أن ينفذ رأى خصمة فهذا دليل على قوة الحجة، وهذا هو
الإظهار على الدين كله ولو كره الكافرون والمشركون، وهذا قد حدث في زماننا، فقد
روعت أمة الحضارة الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1981
بما يثبت صدق الإسلام في أنه حين ضمن ووضع للمخالطات التي تبقي النوع نظاما، وهو
التعاقد العلني والزواج المشروع، فالحق قد ضمن صحة الخلق. لكن الحضارة الأمريكية
لم تنتبه إلى عظمة قانون الحق سبحانه فَرُوِّعت بظهور مرض جديد يسمى " الإيدز
" و " إيدز " مأخوذة من بدايات حروف ثلاث كلمات: حرف " A " ، وحرف " I " و، " D ".
ومعنى اسم المرض بالترجمة العربية الصحيحة " نقص مناعي مكتسب " والوسيلة
الأولى للإصابة به هي المخالطة الشاذة، ونشأت من هذه المخالطات الشاذة فيروسات،
هذه الفيروسات مازال العلماء يدرسون تكوينها، وهي تفرز سموما وتسبب آلاما لا حصر
لها، وإلى الآن يعيش أهل الحضارة الغربية هول الفزع والهلع من هذا المرض.
ومن العجيب أن هذه الفيروسات تأتي من كل المخالطات الشاذة سواء أكانت بين رجل
ورجل، أو بين رجل وامرأة على غير ما شرع الله.
لقد جعل الحق سبحانه وتعالى عناصر الزواج " إيجابا " و " قبولا
" و " علانية " إنه جعل من الزواج علاقة واضحة محسوبة أمام الناس،
هذا هو النظام الرباني للزوج الذي جعل في التركيب الكيميائي للنفس البشرية "
استقبالا " و " إرسالا ".
والبشر حين يستخدمون الكهرباء.. فالسلك الموجب والسلك السالب - كما قلنا - يعطيان
نورا في حالة استخدامهما بأسلوب طبيعي، لكن لو حدث خلل في استخدام هذه الأسلاك
فالذي يحدث هو ماس كهربائي تنتج منه حرائق.
وكذلك الذكورة والأنوثة حين يجمعها الله بمنطق الإيجاب والقبول العلني على مبدأ
الإسلام، فإن التكوين الكيميائي الطبيعي للنفس البشرية التي ترسل، والنفس البشرية
التي تستقبل تعطي نورا وهو أمر طبيعي.
وأوضحنا من قبل أن الإنسان حين يجد شابا ينظر إلى إحدى محارمه، فهو يتغير وينفعل
ويتمنى الفتك به، لكن إن جاء هذا الشاب بطريق الله المشروع وقال والد الشاب لوالد
الفتاة: " أنا أريد خطبة ابنتك لابني " فالموقف يتغير وتنفرج الأسارير
ويقام الفرح.
إنها كلمة الله التي أثرت في التكوين الكيميائي للنفس وتصنع كل هذا الإشراق
والبِشر، وإعلان مثل هذه الأحداث بالطبول والأنوار والزينات هو دليل واضح على أن
هناك حاجة قد عملت وأحدثت في النفس البشرية مفعولها الذي أراده الله من الاتصال
بالطريق النظيف الشريف العفيف.
فكل اتصال عن غير هذا الطريق الشريف والعفيف لا بد أن ينشأ عنه خلل في التكوين
الإنساني يؤدي إلى أوبئة نفسية وصحية قد لا يستطيع الإنسان دفعها مثل ما هو كائن
الآن.
وعلى هذا قول الحق سبحانه: } وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىا يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ
اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً { [النساء: 15].
وكانت هذه مرحلة أولية إلى أن طبق الرسول إقامة الحد. ويقول الحق: } وَاللَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ... {.
(/296)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
والحق سبحانه وتعالى تواب ورحيم، ونعرف أن صفة المبالغة بالنسبة لله لا تعني أن هناك
صفة لله تكون مرة ضعيفة ومرة قوية، وكل صفات الله واحدة في الكمال المطلق. وقلت من
قبل: إنني عندما أقول: " فلان أكاَّل " قد يختلف المعنى عن قولي: "
فلان آكل " ، فبمثل هذا القول أبالغ في وصف إنسان يأكل بكثرة، فهل هو يأكل
كثيرا في الوجبة الواحدة، أو أن الوجبة ميزانها محدود لكن هذا الموصوف يعدد
الوجبات، فبدلا من أن يأكل ثلاث مرات فهو يأكل خمس مرات، عندئذ يقال له: "
أكَّال " ، أي أّنّه أكثر عدد الوجبات، وإن كانت كل وجبة في ذاتها لم يزد
حجمها.
أو هو يأتي في الوجبة الواحدة فيأكل أضعاف ما يأكله الإنسان العادي في الوجبة
العادية، فيأكل بدلا من الرغيف أربعة، فنقول: إنه " أكول " ، إذن فصيغة
المبالغة في الخلق إما أن تنشأ في قوة الحدث الواحد، وإما أن تنشأ من تكرار الحدث
الواحد.
إن قولك: " الله توَّاب " معناه أنه عندما يتوب على هذا وذاك وعلى
ملايين الملايين من البشر، فالتوبة تتكرر. وإذا تاب الحق في الكبائر أليست هذه
توبة عظيمة؟هو تواب ورحيم لأنه سبحانه وتعالى يتصف بعظمة الحكمة والقدرة على الخلق
والإبداع، وهو الذي خلق النفس البشرية ثم قنن لها قوانين وبعد ذلك جرم من يخالف
هذه القوانين، وبعد أن جرم الخروج عن القوانين وضع عقوبة على الجريمة.
والتقنين في ذاته يقطع العذر، فساعة أن قنن الحق لا يستطيع واحد أن يقول: "
لم أكن أعلم "؛ لأن ذلك هو القانون، وحين يجرم فهذا إيذان منه بأن النفس
البشرية قد تضعف، وتأتي بأشياء مخالفة للمنهج، فنحن لسنا ملائكة، وسبحانه حين يقنن
يقطع العذر، وحين يجرم فهو إيذان بأن ذلك من الممكن أن يحدث. وبعد ذلك يعاقب،
وهناك أفعال مجرمة، ولكن المشرِّع الأول لم يجرمها ولم يضع لها قانونا، لا عن
تقصير منه، ولكن التجريم يأتي كفرع.
إن الله سبحانه قد قدر أن النفس البشرية قد تفعل ذلك، كالسرقة - مثلا - إنه سبحانه
وضع حدا للسرقة، وقد تضعف النفس البشرية فتسرق، أو تزني؛ لذلك فالحد موجود، لكن
هناك أشياء لا يأتي لها بالتجريم والعقوبة، وكأنه سبحانه يريد آن يدلنا من طرف خفي
على أنها مسائل ما كان يتصور العقل أن تكون. مثال ذلك اللواط، لم يذكر له حداً،
لماذا؟ لأن الفطرة السليمة لا تفعله، بدليل أن اللواط موجود في البشر وغير موجود
في الحيوان.
لكن ليس معنى ألا يجرم الحق عملا أنه لا يدخل في الحساب، لا، إنه داخل في الحساب
بصورة أقوى؛ لأن التجريم والعقوبة على التجريم تدل على أن الفعل من الممكن أن
يحدث، وحين يترك هذه المسألة بدون تجريم، فمعنى ذلك أن الفطرة السليمة لا يصح أن
تفعلها، ولذلك لم يضع لها حدا أو تجريما، وترك الأمر لرسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو المكلف بالتشريع أن يضع حدا لهذه المسألة.
إذن فعدم وجود نص على جريمة أو عقوبة على جريمة ليس معناه ألا يوجد حساب عليها،
لا. هناك حساب، فقد تكون العقوبة أفظع، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء
الفاعل للواط والمفعول به من أعلى جبل. إن عقوبتهما أن يموتا بالإلقاء من شاهق
جبل، إذن فالعقوبة أكثر من الرجم. وهكذا نعرف أن عدم التجريم وعدم التقنين
بالعقوبة لأي أمر غير مناسب للعقل وللفطرة السليمة دليل على أَنَّ هذا الأمر غير
مباح، والحق لم يترك تلك الأمور سكوتا عنها، ولكن هو إيحاء من طرف خفي أن ذلك لا
يصح أن يحدث، بدليل أنه لا تحدث في الحيوانات التي هي أدنى من الإنسان.
وبعد ذلك قد يتعلل الإنسان الفاعل لمثل هذا القبح الفاحش بأنها شهوة بهيمية. نقول:
يا ليت شهوتك المخطئة في التعبير عن نفسها بهيمية؛ لأن البهائم لا يحدث منها مثل
ذلك الفعل أبدا، فلا أنثى الحيوانات تقترب من أخرى، وكذلك لا يوجد ذكر حيوان يقترب
من ذكر آخر، وإذا ما حملت أنثى الحيوان فإنها لا تسمح لأي ذكر من الحيوانات
بالاقتراب منها، إذن فالقبح الفاحش من المخالطة على غير ما شرع الله يمكن أن
نسميها شهوة إنسانية، فالبهائم لا ترتكب مثل تلك الأفعال الشاذة. ومن يقول عن
الشهوة إنها بهيمية فهو يظلم الحيوانات. والحق سبحانه وتعالى على الرغم من هذه
الخطايا يوضح لنا: أنه التواب الرحيم، لماذا؟
انظر الحكمة في التوبة وفي قبولها، فلو لم تحدث معصية من الإنسان الذي آمن، لفقد
التكليف ضرورته. معنى التكليف أنه عملية يزاحم الإنسان فيها نفسه ويجاهدها لمقاومة
تنفيذ المعاصي أو لحملها على مشقة الطاعة.
فمقاومة الإنسان للمعاصي خضوعاً للتكليف الإيماني دليل على أن التكليف أمر صحيح،
اسمه " تكليف " وإلا لخلقنا الله كالملائكة وانتهت المسألة. وحين يشرع
الله التوبة، فذلك يدل على أن الإنسان ضعيف، قد يضعف في يوم من الأيام أمام معصية
من المعاصي، وليس معنى ذلك أن يطرده الله من عبوديته له سبحانه، بل هو يقنن
العقوبة، وتقنين العقوبة للعاصي دليل على أنه سبحانه لم يُخِرج الذي اختار الإسلام
وعصى من حظيرة الإسلام أو التكليف، ولو فرضنا أن الحق سبحانه لم يقنن التوبة لصارت
اللعنة مصير كل من يضعف أمامٍ شهوة، ولصار العاصي متمرداً لا يأبه ولا يلتفت من
بعد ذلك إلى التكليف، يَلِغُ في أعراض الناس ويرتكب كل الشرور.
إذن فساعة شرع الله التوبة سدَ على الناس باب " الفاقدين " الذين يفعلون
ذنباً ثم يستمرون فيه، ومع ذلك فسبحانه حين تاب على العاصي رحم من لم يعص إنه
القائل: } إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً { ولو قال الحق إنه تواب فقط
لأذنب كل واحد منا لكي يكون الوصف معه وقائم به لا محالة، ولكنه أيضاً قال: }
تَوَّاباً رَّحِيماً { أي أنه يرحم بعضاً من خلقه فلا يرتكبون أي معصية من
البداية. فالرحمة ألا تقع في المعصية.
وبعد ذلك يشرع الحق سبحانه وتعالى للتوبة: } إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
لِلَّذِينَ... {
(/297)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
ولنلتفت إلى دقة الأداء القرآني، هو سبحانه يقول: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى
اللَّهِ } وقد يقول واحد: ما دام الحق شرع التوبة، فلأفعل ما أريد من المعاصي وبعد
ذلك أتوب. نقول له: إنك لم تلتفت إلى الحكمة في إبهام ساعة الموت، فما الذي أوحى
لك أنك ستحيا إلى أن تتوب؟ فقد يأخذك الموت فجأة وأنت على المعصية، وعليك أن تلتفت
إلى دقة النص القرآني:
{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء: 17].
وفعل السوء بجهالة، أي بعدم استحضار العقوبة المناسبة للذنب، فلو استحضر الإنسان
العقوبة لما فعل المعصية. بل هو يتجاهل العقوبة؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا
يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
فلو كان إيمانه صحيحاً ويتذكر تماما أن الإيمان يفرض عليه عدم الزنا، وأن عقوبة
الزنا هي الجلد أو الرجم، لما قام بذلك الفعل.
والحق قد قال: { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } فهناك من يفعل المعصية ويخطط
لها ويفرح بها ويُزْهَى بما ارتكب ويفخر بزمن المعصية، وهناك من تقع عليه المعصية
وبمجرد أن تنتهي يظل نادماً ويضرب نفسه ويعذبها ويتساءل لماذا فعلت ذلك؟
وأضرب مثلاً للتمييز بين الاثنين، نجد اثنين يستعد كل منهما للسفر إلى باريس، واحد
منهما يسأل قبل سفره عن خبرة من عاشوا في عاصمة فرنسا، ويحاول أن يحصل على عناوين
أماكن اللهو والخلاعة، وما إن يذهب إلى باريس حتى ينغمس في اللهو، وعندما يعود يظل
يفاخر بما فعل من المعاصي.
وأما الآخر فقد سافر إلى باريس للدراسة، وبيْنما هو هناك ارتكب معصية تحت إغراء
وتزيين، إذن هو إنسان وقعت عليه المعصية ودون تخطيط، وبعد أن هدأت شِرَّة الشهوة
غرق في الندم، وبعد أن عاد استتر من زمن المعصية. هكذا نرى الفارق بين المخطط
للمعصية وبين من وقعت عليه المعصية.
والله سبحانه حين قدَّر أمر التوبة على خلقه رحم الخلق جميعاً بتقنين هذه التوبة،
وإلا لغرق العالم في شرور لا نهاية لها، بداية من أول واحد انحرف مرة واحدة فيأخذ
الانحراف عملاً له، والمهم في التائب أن يكون قد عمل السوء بجهالة، ثم تاب من
قريب. والرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد معنى " من قريب " قال: (إن
الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).
والحوار الذي دار بين الحق وبين إبليس:{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي
لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }
[الحجر: 39-40].
إن إبليس قال ذلك وظن أنه سيهلك البشر جميعا ويوقعهم في المعصية إلا عباد الله
الذين اصطفاهم وأخلصهم له، لكن الله - سبحانه - خيَّب ظنه وشرع قبول توبة العبد ما
لم يغرغر، لم يصل إلى مرحلة خروج الروح من الجسد. فإذا ما قدم العبد التوبة لحظة
الغرغرة فماذا يستفيد المجتمع؟ لن يستفيد المجتمع شيئاً من مثل هذه التوبة؛ لأنه
تاب وقت ألاّ شر له؛ لذلك فعلى العبد أن يتوب قبل ذلك حتى يرحم المجتمع من شرور
المعاصي. } إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ { هل يتوب أولا، ثم يتوب الله عليه؟
أنه سبحانه يقول:{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[التوبة: 118].
هنا وقف العلماء وحق لهم أن يتساءلوا: هل يتوب العبد أولاً وبعد ذلك يقبل الله
التوبة؟ أم أن الله يتوب على العبد أولاً ثم يتوب العبد؟ صريح الآية هو: } ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ { ونقول: وهل يتوب واحد ارتجالاً منه، أو أن الله
شرع التوبة للعباد؟ لقد شرع الله التوبة فتاب العبد، فقبل الله التوبة.
نحن إذن أمام ثلاثة أمور: هي أن الله شرع التوبة للعباد ولم يرتجل أحد توبته
ويفرضها على الله، أي أن أحداً لم يبتكر التوبة، ولكن الذي خلقنا جميعاً قدَّر أن
الواحد قد يضعف أمام بعض الشهوات فوضع تشريع التوبة. وهو المقصود بقوله } ثُمَّ
تَابَ عَلَيْهِمْ { أي شرع لهم التوبة وبعد ذلك يتوب العبد إلى الله "
ليتوبوا " وبعد ذلك يكون القبول من الله وهو القائل:{ غَافِرِ الذَّنبِ
وَقَابِلِ التَّوْبِ }[غافر: 3].
تأمل كلمة } إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ { تجدها في منتهي العطاء، فإذا
كان الواحد فقيراً ومديناً وأحال دائنه إلى غني من العباد فإنّ الدائن يفرح؛ لأن
الغنيّ سيقوم بسداد الدين وأدائه إلى الدائن، فما بالنا بالتوبة التي أحالها الله
على ذاته بكل كماله وجماله، إنه قد أحال التوبة على نفسه لا على خلقه، وهو سبحانه
أوجب التوبة على نفسه ولا يملك واحد أن يرجع فيها، ثم قال: } ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ { أي أن العبد يرجو التوبة من الله، وحين قال: } فَأُوْلَـائِكَ يَتُوبُ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ { أي أن سبحانه قابل للتوب وغافر للذنب وحين يقول سبحانه: }
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً { فنحن نعلم أن كل تقنين لأي شيء يتطلب علماً
واسعاً بما يمكن أن يكون وينشأ. والذين يتخبطون في تقنينات البشر، لماذا يقنون
اليوم ثم يعدلون عن التقنين غداً؟ لأنهم ساعة قننوا غاب عنهم شيء من الممكن أن
يحدث، فلما حدث ما لم يكن في بالهم استدركوا على تقنينهم.
إذن فالاضطراب ينشأ من عدم علم المقنن بكل أحوال من يقنن لهم ماضياً وحاضراً
ومستقبلاً، والمقنن من البشر قد لا يستوعب الأحداث الماضية، وذلك لأنه لا يستوعبها
إلا في بيئته أو في البيئة التي وصله خبرها، فحتى في الماضي لا يقدر، ولا في
المستقبل يقدر، وكذلك في الحاضر أيضاً، فالحاضر عند بيئة ما يختلف عن الحاضر في
بيئة أخرى.
ونحن نعرف أن حواجز الغيب ثلاثة: أي أن ما يجعل الشيء غيباً عن الإنسان هو ثلاثة
أمور:
الأمر الأول: هو الزمن الماضي وما حدث فيه من أشياء لم يرها المعاصرون ولم
يعرفوها؛ لذلك فالماضي قد حُجز عن البشر بحجاب وقوع الأحداث في ذلك الماضي؛ ولذلك
يلفتنا الله سبحانه وتعالى في تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه:{
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ }[القصص:
44].
ورسول الله لم يكن مع موسى ساعة أن قضى الله لموسى الأمر، ومع ذلك كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم أميّاً لا يمكنه أن يقرأ التاريخ أو يتعلمه. ويقول أيضاً
سبحانه:{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[آل عمران: 44].
أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد تلك الأزمان التي يأتيه خبرها عن
الله، والرسول أمي بشهادة الجميع ولم يجلس إلى معلم. إذن فالذي اخترق حجاب الزمن
وأخبر الرسول بتلك الأحداث هو الله.
والأمر الثاني: هو حجاب الحاضر، حيث يكون الحجاب غير قادم من الزمن لأن الزمن
واحد، ولكن الحجاب قادم من اختلاف المكان، فأنا أعرف ما يحدث في مكاني، ولكني لا
أعرف ما الذي يحدث في غير المكان الذي أوجد به، ولا يقتصر الحجاب في الحاضر على
المكان فقط ولكن في الذات الإنسانية بأن يُضمر الشخصُ الشيء في نفسه. فالحق يقول:{
وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ
}[المجادلة: 8].
هنا يخبر الله سبحانه الرسول عن شيء حاضر ومكتوم في نفوس أعدائه. وبالله لو لم
يكونوا قد قالوه في أنفسهم، لما صدقوا قول الرسول الذي جاءه إخباراً عن الله. وقد
خرق الله أمام رسوله حجاب الذات وحجاب المكان.
والأمر الثالث: هو حجاب المستقبل، فيقول القرآن:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].
ونلحظ أن كلمة " سيهزم " فيها حرف " السين " التي تُنبئ عن
المستقبل، وقد نزلت هذه الآية في مكة وقت أن كان المسلمون قلة وهم مضطهدون ولا
يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وعندما يسمعها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينفعل
ويقول لرسول الله: أي جمع هذا؟
وجاء الجمع في بدر وولَّى الدبر. حدث ذلك الإخبار في مكة، ووقعت الأحداث بعد
الهجرة. وكانت الهجرة في الترتيب الزمني مستقبلاً بالنسبة لوجود المسلمين في مكة.
أكان من الممكن أن يقول سبحانه: } سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ {
لولا أن ذلك سيحدث بالفعل؟
لو حدث غير ذلك لكذبه المؤمنون به.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك إبلاغاً عن الله وهو واثق، ويطلقها الله على
لسان رسوله حُجة فيمسكها الخصم، ثم يثبت صدقها لأن الذي قالها هو من يخلق الأحداث
ويعلمها.
ويأتي في الوليد بن المغيرة وهو ضخم وفحل وله مهابة وصيت وسيد من سادة قريش، فيقول
الحق:{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }[القلم: 16].
أي سنضربه بالسيف ضربة تجعل على أنفه علامة في أعلى منطقة فيه. ويأتي يوم بدر،
فيجدون الضربة على أنف الوليد. لقد قالها الحق على لسان رسوله في زمن ماضٍ ويأتي
بها الزمن المستقبل، وعندما تحدث هذه المسألة فالذين آمنوا بمحمد وبالقرآن الذي
نزل على محمد يتأكدون من صدق رسول الله في كل شيء. ويأخذون الجزئية البسيطة
ويرقُّونها فيصدقون ما يخبرهم به من أمر الدنيا والآخرة. ويقولون:
- إذا أخبرنا رسول الله بغيب يحدث في الآخرة فهو الصادق الأمين، ويأخذون من أحداث
الدنيا الواقعة ما يكون دليلاً على صدق الأحداث في الآخرة.
ويذيل الحق الآية: } وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً { أي عليما بالتقنينات
فشَرَّع التوبة لعلمه - جل شأنه - بأنه لو لم يشرِّع التوبة، لكان المذنب لمرة
واحدة سبباً في شقاء العالم؛ لأنه - حينئذ - يكون يائساً من رحمة الله.
إذن فرحمة منه - سبحانه - بالعالم شرّع الله التوبة. وهو حكيم فإياك أن يتبادر إلى
ذهنك أن الحق قد حمى المجرم فحسب حين شرع له التوبة، إنه سبحانه قد حمى غير المجرم
أيضا. وساعة نسمع الزمن في حق الحق سبحانه وتعالى كقوله: " كان " فلا
نقول ذلك قياساً على زماننا نحن، أو على قدراتنا نحن، فكل ما هو متعلق بالحق علينا
أن نأخذه في نطاق } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {.
فقد يقول الكافر: " إن علم الله كان " ويحاول أن يفهمها على أنه علم قد
حدث ولا يمكن تكراره الآن، لا، فعلم الله كان ولا يزال؛ لأن الله لا يتغير، وما
دام الله لا يتغير، فالثابت له من قبل أزلاً يثبت له أبداً, والحكمة هي وضع الشيء
في موضعه. وما دام قد قدر سبحانه وضع الشيء، فالشيء إنما جاء عن علم، وحين يطابق
الشيء موضعه فهذه هي مطلق الحكمة.
والحق يقول:
} إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ
بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً { [النساء: 17].
لقد شرع الله سبحانه التوبة ليتوب عباده، فإذا تابوا قَبِلَ توبتَهم، وهذا مبني
على العلم الشامل والحكمة الدقيقة الراسخة. وانظروا إلى دقة العبارة في قوله: }
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ { ، فساعة يوجد فعل إيجابي يقال: على مَن، لكن
عندما لا يأتي بفعل إيجابي لا يقال: عل مَن، بل يقال: ليس بالنفي. إنّ الحق عندما
قرر التوبة عليه - سبحانه - وأوجبها على نفسه، للذين يعملون السوء بجهالة ويتوبون
فوراً، إنه يدلنا أيضاً على مقابل هؤلاء، فيقول: } وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ... {.
(/298)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
هنا يوضح الحق أن توبة هؤلاء الذين يعملون السيئات لم توجد من قريب. وهم يختلفون
عن الذين كتب الله قبول توبتهم، هؤلاء الذين يعيشون وتستحضر نفوسهم قِيَم المنهج،
إلا أن النفوس تضعف مرة. أما الذين لا يقبل منهم التوبة فهم أصحاب النفوس التي
شردت عن المنهج في جهات متعددة، وهم لم يرتكبوا " سوءاً " واحداً بل
ارتكبوا السيئات. فالذي ارتكب سوءاً واحداً فذلك يعني أنه ضعيف في ناحية واحدة
ويبالغ ويجتهد في الزوايا والجوانب الأخرى من الطاعات التي لا ضعف له فيها ليحاول
ستر ضعفه.
إنك ترى أمثال هذا الإنسان في هؤلاء الذين يبالغون في إقامة مشروعات الخير، فهذه
المشروعات تأتي من أناس أسرفوا على أنفسهم في ناحية لم يقدروا على أنفسهم فيها
فيأتوا في نواحي خير كثيرة، ويزيدوا في فعل الخير رجاء أن يمحو الله سيئاتهم التي
تركوها وأقلعوا وتابوا عنها.
ومن ذلك نعلم أن أحداً لا يستطيع أن يمكر مع الله؛ فالذي أخذ راحته في ناحية، يوضح
له الله: أنا سآتي بتعبك من نواحٍ أخرى لصالح منهجي، ويسلط الله عليه الوهم،
ويتخيل ماذا ستفعل السيئة به، فيندفع إلى صنع الخير. وكأن الحق يثبت للمسيء: أنت
استمتعت بناحية واحدة، ومنهجي وديني استفادا منك كثيراً، فأنت تبني المساجد
والمدارس وتتصدق على الفقراء، كل هذا لأن عندك سيئة واحدة.
إذن فلا يمكن لأحد أن يمكر على الله، وعبر القرآن عن صاحب السيئة بوصف هذه الزلة
بكلمة " السوء " ، ولكنه وصف الشارد الموغل في الشرود عن منهج الله بأنه
يفعل " السيئات " ، فهل ليس صاحب نقطة ضعف واحدة، لكنه يقترف سيئات
متعددة، ويمعن في الضلال، ولا يقتصر الأمر على هذا بل يؤجل التوبة إلى لحظة بلوغ
الأجل، بل إنهم قد لا ينسبون الخير الصادر منهم إلى الدين مثلما يفعل الملاحدة، أو
الجهلة الذين لا يعلمون بأن كل خير إنما يأمر به الدين.
مثال ذلك مذهب " الماسونية " ، يقال: إن هذا المذهب وضعه اليهود،
والظاهر في سلوك الماسونيين أنهم يجتمعون لفعل خير ما يستفيد منه المجتمع، وما خفي
من أفعال قمة أعضاء الماسونية أنهم يخدمون أغراض الصهيونية، وقد ينضم إليهم بعض
ممن لا يعرفون أهداف الماسونية الفعلية ليشاركوا في عمل الخير الظاهر. ونقول لكل
واحد من هؤلاء: انظر إلى دينك، تجده يحضك على فعل مثل هذا الخير، فلماذا تنسبه إلى
الماسونية ولا تفعله على أنه أمر إسلامي. ولماذا لا تنسب هذا الخير إلى الإسلام
وتنسبه لغير الإسلام؟
وفي هذا العصر هناك ما يسمّى بأندية " الروتاري " ويأخذ الإنسان غرور
الفخر بالانتماء إلى تلك الأندية، ويقول: " أنا عضو في الروتاري "
وعندما تسأله: لماذا؟ يجيب: إنها أندية تحض على التعاون والتواصل والمودة والرحمة،
ونقول له: وهل الإسلام حرم ذلك؟ لماذا تفعل مثل هذا الخير وتنسبه إلى "
الروتاري " ، ولا تفعل الخير وتنسبه إلى دينك الإسلام؟ إذن فهذا عداء للمنهج.
ونجد الشاردين عن المنهج، مثلهم كمثل الرجل الذي قالوا له: ما تريد نفسك الآن؟
وأراد الرجل أن يحاد الله فقال: تريد نفسي أن أفطر في يوم رمضان، وعلى كأس خمر،
وأشترى كأس الخمر هذه بثمن خنزير مسروق.
إنه يريد فطر رمضان وهو محرّم، ويفطر على خمر وهي محرمة، وبثمن خنزير والخنزير
حرام على المسلم، والخنزير مسروق أيضا. وسألوه: ولماذا كل هذا التعقيد؟ فقال: حتى
تكون هذه الفعلة حراماً أربع مرات.
إذن فهذه مضارة لله، وهذا رجل شارد عن المنهج. فهل هذا يتوب الله عليه؟ لا، }
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىا إِذَا
حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ { وعند لحظة الموت يبدأ الجبن وتتمثل أخلاق الأرانب،
ولماذا لم يصر على موقفه للنهاية؟ لأنه جاء إلى اللحظة التي لا يمكن أن يكذب فيها
الإنسان على نفسه } إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ
{ لكن التوبة لا تقبل، ولن ينتفع بها المجتمع، وشر مثل هذا الإنسان انتهى، وتوبته
تأتي وهو لا يقدر على أي عمل، إذن فهو يستهزئ بالله؛ فلا تنفعه التوبة.
ولكن انظروا إلى رحمة الله واحترامه للشهادة الإيمانية التي يقر فيها المؤمن بأنه
" لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ".
هذا المؤمن جعله الله في مقابل الكافر، فيأخذ عذاباً على قدر ما فعل من ذنوب،
ويأتي احترام الحق سبحانه لإيمان القمة لقوله: " أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله " فيوضح سبحانه: لن نجعلك كالكافر؛ بدليل أنه عطف عليه }
وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ { ، وإنما يقدر للمؤمن العاصي من
العذاب على قدر ما ارتكب من معاصٍ، ويحترم الحق إيمان القمة، فيدخلون الجنة؛ لذلك
لم يقل الحق: إنهم خالدون في النار. وإنما قال: } أُوْلَـائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَاباً أَلِيماً { و " أولئك " تعني الصنفين - المؤمن والكافر -
فالعذاب لكل واحد حسب ذنبه.
ويقول الحق من بعد ذلك: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... {.
(/299)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
وقلنا: ساعة ينادي الحق عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ } ، فمعناها: يا من آمنتم بي بمحض اختياركم، وآمنتم بي إلهاً
له كل صفات العلم والقدرة والحكمة والقيومية، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمعوا
من الإله الأحكامَ التي يطلبها منكم. إذن فهو لم يناد غير مؤمن وإنما نادى من آمن
باختياره وبترجيح عقله فالحق يقول:{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }[البقرة: 256].
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء وباستضعافهم. لقد جاء
الإسلام والنساء في الجاهلية في غَبْن وظلم وحيف عليهن. - وسبحانه - قال: { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً
} وكلمة " ورث " تدل على أن واحداً قد توفي وله وارث، وهناك شيء قد تركه
الميت ولا يصح أن يرثه أحدٌ بعده؛ لأنه عندما يقول: { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ
} ، فقد مات موّرث؛ ويخاطب وارثاً. إذن فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون
حِلاً، ولذلك شرع الله تقسيمه، وتناولناه من قبل، لكن الكلام هنا في متروك لا يصح
أن يكون موروثاً، ما هو؟
قال سبحانه: { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً } ، وهل
المقصود ألا يرث الوارث من مورثه إماء تركهن؟ لا. إن الوارث يرث من مورثه الإماء
اللاتي تركهن، ولكن عندما تنصرف كلمة " النساء " تكون لأشرف مواقعها أي
للحرائر، لأن الأخريات تعتبر الواحدة منهن ملك يمين، { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن
تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً } ، وهل فيه ميراث للنساء برضى؟ وكيف تورث المرأة؟
ننتبه هنا إلى قوله سبحانه " كرها " ، وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل
إذا مات وعنده امرأة جاء وليه، ويلقي ثوبه على امرأته فتصير ملكا له، وإن لم تقبل
فإنه يرثها كرها، أو إن لم يكن له هوى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويرثها، أو
يأتي واحد ويزوجها له ويأخذ مهرها لنفسه؛ كأنه يتصرف فيها تصرف المالك؛ لذلك جاء
القول الفصل:
{ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } ،
و " العضل " في الأصل هو المنع، ويقال: " عضلت المرأة بولدها
" ، ذلك أصل الاشتقاق بالضبط. فالمرأة ساعة تلد فمن فضل الله عليها أن لها
عضلات تنقبض وتنبسط، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد، وقد تعضل المرأة أثناء الولادة،
فبدلا من أن تنبسط العضلات لتفسح للولد أن يخرج تنقبض، فتأتي هنا العمليات التي
يقومون بها مثل القيصرية.
إذن فالعضل معناه مأخوذ من عضلت المرأة بولدها أي انقبضت عضلاتها ولم تنبسط حتى لا
يخرج الوليد، وعضلت الدجاجة ببيضها أي أن البيضة عندما تكون في طريقها لتنزل
فتنقبض العضلة فلا تنزل البيضة لأن اختلالا وظيفيا قد حدث نتيجة للحركة الناقصة،
ولماذا تأتي الحركة ناقصة للبسط؟ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الأسباب
في الكون تعمل آليا وميكانيكيا بحيث إذا وجدت الأسباب يوجد المسبب، لا.
ففوق الأسباب مسبب إن شاء قال للأسباب: قفي فتقف.
إذن فكل المخالفات التي نراها تتم على خلاف ما تؤديه الأسباب إنما هي دليل طلاقة
القدرة، فلو كانت الأشياء تسير هكذا ميكانيكيا، فسوف يقول الناس: إن الميكانيكا
دقيقة لا تتخلف. لكن الحق يلفتنا إلى أنه يزاول سلطانه في ملكه، فهو لم يزاول
السلطان مرة واحدة، ثم خلق الميكانيكا في الكون والأسباب ثم تركها تتصرف، لا، هو
يوضح لنا: أنا قيوم لا تأخذني سِنَةٌ ولا نوم، أقول للأسباب اعملي أو لا تعملي،
وبذلك نلتفت إلى أنه المسيطر.
وتجد هذه المخالفات في الشواذ في الكون، حتى لا تَفْتِنَّاً رتابة الأسباب، ولنذكر
الله باستمرار، ويكون الإنسان على ذكر من واهب الأسباب ومن خالقها، فلا تتولد
عندنا بلادة من أن الأسباب مستمرة دائماً، ويلفتنا الحق إلى وجوده، فتختلف الأسباب
لتلفتك إلى أنها ليست فاعلة بذاتها، بل هي فاعلة لأن الله خلقها وتركها تفعل، ولو
شاء لعطلها.
قلنا هذا في معجزة إبراهيم عليه السلام، حيث ألقاه أهله في النار ولم يُحرق، كان
من الممكن أن ينجي الله إبراهيم بأي طريقة أخرى، ولكن هل المسألة نجاة إبراهيم؟ إن
كانت المسألة كذلك فما كان ليمكنهم منه، لكنه سبحانه مكنهم منه وأمسكوه ولم يفلت
منهم، وكان من الممكن أن يأمر السماء فتمطر عندما ألقوه في النار، وكان المطر
كفيلا بإطفاء النار، لكن لم تمطر السماء بل وتتأجج النار. وبعد ذلك يقول لها
الحق:{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ
}[الأنبياء: 69].
بالله أهذا غيظ لهم أم لا؟ هذا غيظ لهم؛ فقد قدرتم عليه وألقيتموه في النار، وبعد
ذلك لم يَنْزِل مطر ليطفئ النار، والنار موجودة وإبراهيم في النار، لكن النار لا تحرقه.
هذه هي عظمة القدرة.
إذن فما معنى " تعضلوهن "؟ العضل: أخذنا منه كلمة " المنع "؛
فعضلت المرأة أي قبضت عضلاتها فلم ينزل الوليد، وأنت ستعضلها كيف؟ بأن تمنعها من
حقها الطبيعي حين مات زوجها، وأن من حقها بعد أن تقضي العدة أَنْ تتزوج من تريد أو
من يتقدم لها، وينهى الحق: " ولا تعضلوهن " أي لا تحبسوهن عندكم
وتمنعوهن، لماذا تفعلون ذلك؟ } لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ { كأن
هذا حكم آخر، لا ترثوا النساء كرها هذا حكم، وأيضا لا تعضلوهن حكم ثانٍ.
والمثال عندما يكون الرجل كارها لامرأته فيقول لها: والله لن أطلقك، أنا سأجعلك
موقوفة ومعلقة لا أكون أنا لك زوجا ولا أمكنك أيضا من أن تتزوجي وذلك حتى تفتدي
نفسها فتُبرئ الرجل من النفقة ومؤخر الصداق؛ فيحمي الإسلام المرأة ويحرم مثل تلك
الأفعال.
ولكن متى تعضلوهن؟ هنا يقول الحق: } إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ
{ لأنهم سيحبسونهن، وهذا قبل التشريع بالحد. وقال بعض الفقهاء: للزوج أن يأخذ من
زوجته ما تفتدي به نفسها منه وذلك يكون بمال أو غيره إذا أتت بفاحشة من زنا أو سوء
عشرة، وهذا ما يسمى بالخلع وهو الطلاق بمقابل يطلبه الزوج.
ويتابع الحق: } وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ { وكلمة " المعروف "
أوسع دائرة من كلمة المودة؛ فالمودة هي أنك تحسن لمن عندك ودادة له وترتاح نفسك
لمواددته، أنك فرح به وبوجوده، لكن المعروف قد تبذله ولو لم تكره، وهذه حلت لنا
إشكالات كثيرة، عندما أراد المستشرقون أن يبحثوا في القرآن ليجدوا شيئا يدعون به
أن في القرآن تعارضا فيقولون: قرآنكم يقول:{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ
عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـائِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـائِكَ حِزْبُ
اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[المجادلة: 22].
كيف لا يواد المؤمن ابنه أو أباه أو أحداً من عشيرته لمجرد كفره. والقرآن في موقع
آخر منه يقول؟{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }[لقمان: 15].
ونقول: إن هؤلاء لم يفهموا الفرق بين المودة والمعروف. فـ " الود " شيء
و " المعروف " شيء آخر. الود يكون عن حُب، لكن المعروف ليس ضروريا أن
يكون عن حُب، ساعة يكون جوعان سأعطيه ليأكل وألبي احتياجاته المادية. هذا هو
المعروف، إنما الوُد هو أن أعمل لإرضاء نفسي. وساعة يعطف الرجل المؤمن على أبيه
الكافر لا يعطف عليه نتيجة للوُد، إنما هو يعطف عليه نتيجة للمعروف؛ لأنه حتى لو
كان كافراً سيعطيه بالمعروف.
ألم يعاتب الحق - سبحانه - إبراهيم في ضيف جاء له فلم يكرمه لأنه سأله وعرف منه:
أنه غير مؤمن لذلك لم يضيّفه؟ فقال له ربنا: أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد أن
تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر؟ فماذا فعل سيدنا إبراهيم؟ جرى
فلحق بالرجل. وناداه فقال له الرجل: ما الذي جعلك تتغير هذا التغيير المفاجئ فقال
له إبراهيم: " والله إن ربي عاتبني لأني صنعت معك هذا. فقال له الرجل: أربك
عاتبك وأنت رسول فيّ وأنا كفر به، فنعم الرب ربٌ يعاتب أحبابه في أعدائه، فأسلم.
هذا هو المعروف، الحق يأمرنا أننا يجب أن ننتبه إلى هذه المسائل في أثناء الحياة
الزوجية، وهذه قضية يجب أن يتنبه لها المسلمون جميعا كي لا يُخربوا البيوت.
إنهم يريدون أن يبنوا البيوت على المودة والحب فلو لم تكن المودة والحب في البيت
لخُربَ البيت، نقول لهم: لا. بل } وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ { حتى لو لم
تحبوهن، وقد يكون السبب الوحيد أنك تكره المرأة لأن شكلها لا يثير غرائزك، يا هذا
أنت لم تفهم عن الله؛ ليس المفروض في المرأة أن تثير غريزتك، ولكن المفروض في
المرأة أن تكون مصرفا، إن هاجت غريزتك كيماويا بطبيعتها وجدت لها مصرفا. فأنت لا
تحتاج لواحدة تغريك لتحرك فيك الغريزة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إذا
رأى أحدكم امرأة حسناء فأعجبته فليأت أهله فإن البضع واحد ومعها مثل الذي معها
".
أي أن قطعة اللحم واحدة إن هاجت غريزتك بطبيعتها فأي مصرف يكفيك، ولذلك عندما جاء
رجل لسيدنا عمر - رضي الله عنه - وقال: يا أمير المؤمنين أنا كاره لامرأتي وأريد
أن أطلقها، قال له: أَوَ لَمْ تُبن البيوت إلا على الحب، فأين القيم؟ لقد ظن الرجل
أن امرأته ستظل طول عمرها خاطفة لقلبه، ويدخل كل يوم ليقبلها، فيلفته سيدنا عمر
إلى أن هذه مسألة وجدت أولا وبعد ذلك تنبت في الأسرة أشياء تربط الرجل بالمرأة
وتربط المرأة بالرجل.
لذلك يقول الحق: } وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً { ،
أنت كرهتها في زاوية وقد تكون الزاوية التي كرهتها فيها هي التي ستجعلها تحسن في
عدة زوايا؛ لكي تعوض بإحسانها في الزوايا الأخرى هذه الزاوية الناقصة، فلا تبن
المسألة على أنك تريد امرأة عارضة أزياء لتثير غرائزك عندما تكون هادئا، لا.
فالمرأة مصرف طبيعي إن هاجت غرائزك بطبيعتها وجدت لها مصرفا، أما أن ترى في المرأة
أنها ملهبة للغرائز فمعنى ذلك أنك تريد من المرأة أن تكون غانية فقط. وأن تعيش معك
من أجل العلاقة الجنسية فقط، لكن هناك مسائل أخرى كثيرة، فلا تأخذ من المرأة زاوية
واحدة هي زاوية الانفعال الجنسي، وخذ زوايا متعددة.
واعلم أن الله وزع أسباب فضله على خلقه، هذه أعطاها جمالاً، وهذه أعطاها عقلاً،
وهذه أعطاها حكمة، وهذه أعطاها أمانة، وهذه أعطاها وفاء، وهذه أعطاها فلاحاً، هناك
أسباب كثيرة جدا، فإن كنت تريد أن تكون منصفاً حكيماً فخُذ كل الزوايا، أما أن
تنظر للمرأة من زاوية واحدة فقط هي زاوية إهاجة الغريزة، هنا نقول لك: ليست هذه هي
الزاوية التي تصلح لتقدير المرأة فقط. } فَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً {.
وانظر إلى الدقة في العبارة } فَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ { فأنت تكره؛ وقد تكون
محقا في الكراهية أو غير محق، إنما إن كرهت شيئا يقول لك الله عنه: } وَيَجْعَلَ
اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً { فاطمئن إنك إن كرهت في المرأة شيئا لا يتعلق
بدينها، فاعلم أنك إن صبرت عليه يجعل الله لك في بقية الزوايا خيراً كثيراً.
وما دام ربنا هو من يجعل هذا الخير الكثير فاطمئن إلى أنك لو تنبهت لزاوية أنت
تكرهها ومع ذلك تصبر عليها، فأنت تضمن أن ربنا سيجعل لك خيراً في نواحٍ متعددة، إن
أي زاوية تغلبت على كرهك سيجعل الله فيها خيرا كثيرا.
إن الحق يطلق القضية هنا في بناء الأسرة ثم يُعمم، وكان بإمكانه أن يقول: فعسى أن
تكرهوهن ويجعل الله فيهن خيرا، لا. فقد شاء أن يجعلها سبحانه قضية عامة في كل شيء
قد تكرهه، وتأتي الأحداث لتبين صدق الله في ذلك، فكم من أشياء كرهها الإنسان ثم
تبين له وجه الخير فيها. وكم من أشياء أحبها الإنسان ثم تبين له وجه الشر فيها،
ليدلك على أن حكم الإنسان على الأشياء دائما غير دقيق، فقد يحكم بكره شيء وهو لا
يستحق الكره، وقد يحكم بحب شيء وهو لا يستحق الحب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يأتي بالأشياء مخالفة لأحكامك } فَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً { فقدر دائما في المقارنة أن
الكره منك وجَعْل الخير في المرأة من الله، فلا تجعل جانب الكره منك يتغلب على
جانب جعل الخير من الله ويقول الحق من بعد ذلك: } وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَّكَانَ... {.
(/300)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
فإذا ضاقت بك المسائل، بعد أن عاشرت بالمعروف ولم يعد ممكنا أن تستمر الحياة
الزوجية في إطار يرضى عنه الله، وتخاف أن تنفلت من نفسك إلى ما حرم الله، ماذا
تفعل؟ يقول سبحانه: { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ }
أي لك أن تستبدل ما دامت المسألة ستصل إلى جرح منهج الله، وعليك في هذا الاستبدال
أن ترعى المنهج الإيماني مثلما أشار به سيدنا الحسن رضي الله عنه على الرجل الذي
كان يستشيره في واحد جاء ليخطب ابنته. قال سيدنا الحسن - رضي الله عنه -: إن جاءك
الرجل الصالح فزوجه، فإنه إن أحب ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها.
والحق يقول: { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } فهذا
يعني أن الرغبة قد انصرفت عن الأولى نهائيا، ولا يمكن التغلب عليها بغير الانحراف
عن المنهج. وقد يحدث أن يضيق الرجل بزوجته وهو لا يعاني من إلحاح في الناحية
الغريزية، فيطلقها ولا يتزوج، فما شروط المنهج في هذا الأمر؟
يقول الحق: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ
شَيْئاً }. كلمة " قنطار " وكلمة " قنطرة " مأخوذة من الشيء
العظيم. وقنطار تعني " المال ". وقدروه قديما بأنه ملئ مَسْك البقرة، و
" المسك " هو الجلد، فعندما يتم سلخ البقرة يصبح جلدها مثل القربة، وملء
مَسْكها يسمى قنطارا، والقنطار المعروف عندنا الآن له سمة وَزْنِيّة، والحق حين
يعظم المهر بقنطار يقول: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } فهو يأتي لنا
بمثل كبير وينهانا بقوله: { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً }. لماذا؟ لأنك يجب
أن تفهم أن المهر الذي تدفعه ليس منساحا على زمن علاقتك بالمرأة إلى أن تنتهي
حياتكما، بل المهر مجعول ثمنا للبضع الذي أباحه الله لك ولو للحظة واحدة، فلا
تحسبها بمقدار ما مكثت معك، لا، إنما هو ثمن البضع، فقد كشفت نفسها لك وتمكنت منها
ولو مرة واحدة.
إذن فهذا القنطار عمره ينتهي في اللحظة الأولى، لحظة تَمكّنِك منها. { وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } وهذه هي المسألة التي قال فيها سيدنا عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه -:أخطأ عمر وأصابت امرأة، لأنه كان يتكلم في غلاء المهور؛ فقالت له
المرأة: كيف تقول ذلك والله يقول: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } ،
فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
عن عمر رضي الله عنه أنه نهى وهو على المنبر عن زيادة صداق المرأة على أربعمائة
درهم ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت الله يقول: { وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً }؟ فقال: اللهم عفوا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب
المنبر فقال: " إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدُقاتهن على أربعمائة درهم
فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب "
وعن عبد الله بن مصعب أن عمر - رضي الله عنه - قال: " لا تزيدوا في مهور
النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلتُ الزيادة في بيت المال، فقالت
امرأة: ما ذاك لك، قال ولَم؟ فقالت: لأن الله تعالى يقول: { وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } فقال عمر: " امرأة أصابت ورجل أخطأ ".
ثم ينكر القرآن مجرد فكرة الأخذ فيقول: } أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً
مُّبِيناً { لماذا؟ لأنه ليس ثمن استمتاعك بها طويلا، بل هو ثمن تمكنك منها، وهذا
يحدث أَوَّل ما دخلت عليها. وإن أخذت منها شيئا من المهر بعد ذلك فأنت آثم، إلاَّ
إذا رضيت بذلك، والإثم المبين هو الإثم المحيط.
ويأتي الحق من بعد ذلك بمزيد من الاستنكار فيقول: } وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ {. إنه
استنكار لعملية أخذ شيء من المهر بحيثية الحكم فيقول: } وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ
وَقَدْ... {.
(/301)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
فلو أدركتم كل الكيفيات فلن تجدوا كيفية تبرر لكم الأخذ، لماذا؟ لأن الحق قال: {
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } وانظر للتعليل: { وَقَدْ أَفْضَىا بَعْضُكُمْ إِلَىا
بَعْضٍ }. إذن فثمن البُضْع هو الإفضاء، وكلمة { أَفْضَىا بَعْضُكُمْ إِلَىا
بَعْضٍ } كلمة من إله؛ لذلك تأخذ كل المعاني التي بين الرجل والمرأة و " أفضى
" مأخوذة من " الفضاء " والفضاء هو المكان الواسع، { أَفْضَىا
بَعْضُكُمْ } يعني دخلتم مع بعض دخولا غير مضيق.
إذن فالإفضاء معناه: أنكم دخلتم معا أوسع مدَاخَلة، وحسبك من قمة المداخلة أن
عورتها التي تسترها عن أبيها وعن أخيها وحتى عن أمها وأختها تبينها لك، ولا يوجد
إفضاء أكثر من هذا، ودخلت معها في الاتصال الواسع، أنفاسك، ملامستك، مباشرتك،
معاشرتك، مدخلك، مخرجك، في حمامك، في المطبخ، في كل شيء حدثت إفضاءات، وأنت ما دمت
قد أفضيت لها وهي قد أفضت لك كما قال الحق أيضا في المداخلة الشاملة:{ هُنَّ
لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }[البقرة: 187].
أي شيء تريد أكثر من هذا!؟ ولذلك عندما تشتد امرأة على زوجها، قد يغضب، ونقول له:
يكفيك أن الله أحل لك منها ما حرمه على غيرك، وأعطتك عرضها، فحين تشتد عليك لا
تغضب، وتذكَّر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم
لأهلي ".
{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىا بَعْضُكُمْ إِلَىا بَعْضٍ وَأَخَذْنَ
مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } والميثاق هو: العهد يؤخذ بين اثنين، ساعة سألت
وليها: " زوجني " فقال لك: زوجتك، ومفهوم أن كلمة الزواج هذه ستعطي أسرة
جديدة، وكل ميثاق بين خلق وخلق في غير العرض هو ميثاق عادي، إلا الميثاق بين الرجل
والمرأة التي يتزوجها؛ فهذا هو الميثاق الغليظ، أي غير اللين، والله لم يصف به
إلاَّ ميثاق النبيين فوصفه بأنه غليظ، ووصف هذا الميثاق بأنه غليظ، ففي هذه الآية
{ أَفْضَىا بَعْضُكُمْ إِلَىا بَعْضٍ } فهنا إفضاء وفي آية أخرى يكون كل من
الزوجين لباسا وسترا للآخر { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }
لهذا كان الميثاق غليظا، وهذا الميثاق الغليظ يحتم عليك إن تعثرت العشرة أن
تتحملها وتعاملها بالمعروف، وإن تعذرت وليس هناك فائدة من استدامتها فيصح أن
تستبدلها، فإن كنت قد أعطيتها قنطارا إياك أن تأخذ منه شيئا، لماذا؟ لأن ذلك هو
ثمن الإفضاء، وما دام هذا القنطار هو ثمن الإفضاء وقد تم، فلا تأخذ منه شيئا،
فالإفضاء ليس شائعا في الزمن كي توزعه، لا.
والحق يقول: { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىا بَعْضُكُمْ إِلَىا بَعْضٍ
وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } هنا يجب أن نفهم أن الحق حين يشرع فهو
يشرع الحقوق، ولكنه لا يمنع الفضل، بدليل أنه قال:
{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
}[النساء: 4].
إذن ففيه فرق بين الحق وما طاب لكم، والأثر يحكي عن القاضي الذي قال لقومه: أنتم
اخترتموني لأحكم في النزاع القائم بينكم فماذا تريدون مني؟! أأحكم بالعدل أم بما
هو خير من العدل؟ فقالوا له: وهل يوجد خير من العدل؟ قال: نعم، الفضل. فالعدل: أن
كل واحد يأخذ حقه، والفضل: أن تتنازل عن حقك وهو يتنازل عن حقه، وتنتهي المسألة،
إذن فالفضل أحسن من العدل، والحق سبحانه وتعالى حين يشرع الحقوق يضع الضمانات،
ولكنه لا يمنع الفضل بين الناس:
فيقول - جل شأنه -:{ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }[البقرة: 237].
ويقول الحق في آية الدَّين:{ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو
كَبِيراً إِلَىا أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ
لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىا أَلاَّ تَرْتَابُواْ }[البقرة: 282].
ويأمركم الحق أن توثقوا الدَّيْن.. لأنكم لا تحمون مال الدائن فحسب بل تحمون
المدين نفسه، لأنه حين يعلم أن الدّيْن موثق عليه ومكتوب عليه فلن ينكره، لكن لو
لم يكن مكتوبا فقد تُحدثه نفسه أن ينكره، إذن فالحق يحمي الدائن والمدين من نفسه
قال: } وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ { ، وقال بعدها:{ فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }[البقرة: 283].
فقد تقول لمن يستدين منك: لا داعي لكتابة إيصال وصكٍّ بيني وبينك، وهذه أريحية لا
يمنعها الله فما دام قد أمن بعضكم بعضا فليستح كل منكم وليؤد الذي أؤتمن أمانته
وليتق الله ربه.
وما دام قد جعل للفضل مجالا مع تسجيل الحقوق فلا تنسوا ذلك. فما بالنا بالميثاق
الغليظ بين الرجل والمرأة.. وغلظ الميثاق إنما يتأتى بما يتطلبه الميثاق، ولا يوجد
ميثاق أغلظ مما أخذه الله من النبيين ومما بين الرجل والمرأة؛ لأنه تعرض لمسألة لا
تباح من الزوجة لغير زوجها، ولا من الزوج لغير زوجته. إن على الرجل أن يوفى حق
المرأة ولا يصح أن ينقصها شيئا إلا إذا تنازلت هي. فقد سبق أن قال الحق:{ فَإِن
طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }[النساء:
4].
وما دامت النفس قد طابت، إذن فالرضا بين الطرفين موجود، وذلك استطراق أُنسى بين
الرجل والمرأة. فالمهر حقها، ولكن لا يجب أن يقبض بالفعل، فهو في ذمة الزوج، إن
شاء أعطاه كله أو أخّره كله أو أعطى بعضه وأخر بعضه. ولكن حين تنفصل الزوجة بعد
الدخول يكون لها الحق كاملا في مهرها، إن كان قد أخره كله فالواجب أن تأخذه، أو
تأخذ الباقي لها إن كان قد دفع جزءا منه كمقدم صداق. ولكن حين تنتقل ملكية المهر
إلى الزوجة يفتح الله باب الرضا والتراضي بين الرجل والمرأة فقال: } فَإِن طِبْنَ
لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً { فهو هبة تخرج
عن تراضٍ.
وذلك مما يؤكد دوام العشرة والألفة والمودة والرحمة بين الزوجين. وبعد ذلك يبقى
حكم آخر. هَبْ أن الخلاف استعر بين الرجل والمرأة.
حالة تكره هي وتحب أن تخرج منه لا جناح أن تفتدي منه نفسها ببعض المال لأنها
كارهة، وما دامت هي كارهة، فسيضطر هو إلى أن يبني بزوجة جديدة، إذن فلا مانع أن
تختلع المرأة منه بشيء تعطيه للزوج:{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ }[البقرة: 229].
والحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا الدليل على أن حق المرأة يجب أن يحفظ لها،
ولذلك جاء بأسلوب تناول مسألة أخذ الزوج لبعض مهر الزوجة في أسلوب التعجب:
} وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىا بَعْضُكُمْ إِلَىا بَعْضٍ وَأَخَذْنَ
مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً { [النساء: 21].
فكأن " وكيف تأخذونه " هذه دليل على أنه لا يوجد وجه من وجوه الحق يبيح
لك أن تأخذ منها مهرها، فساعة يستفهم فيقول: " كيف " فهذا تعجيب من أن
تحدث هذه، وقلنا: إن كل المواثيق بين اثنين لا تعطي إلا حقوقاً دون العرض، ولكن
ميثاق الزواج يعطي حقوقاً في العرض، ومن هنا جاء غلظ الميثاق، وكل عهد وميثاق بين
اثنين قد ينصب إلى المال، وقد ينصب إلى الخدمة، وقد ينصب إلى أن تعقل عنه
الدَيَّة، وقد ينصب إلى أنك تعطية مثلاً المعونة، هذه ألوان من المواثيق إلا مسألة
العرض، فمسألة العرض عهد خاص بين الزوجين، ومن هنا جاء الميثاق الغليظ.
وبعد ذلك يتناول الحق سبحانه وتعالى قضية يستديم بها طهر الأسرة وعفافها وكرامتها
وعزتها، ويبقى لأطراف الأسرة المحبة، والمودة فلا يدخل شيء يفضي على هذه المحبة
والمودة، ويُدخل نزغ الشيطان فيها. قال الحق سبحانه: } وَلاَ تَنكِحُواْ مَا
نَكَحَ... {
(/302)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
فكأن هذه المسألة كانت موجودة، كان ينكح الولد زوج أبيه التي هي غير أمه. و "
صفوان بن أمية " وهو من سادة قريش قد خلف أباه أمية بن خلف على " فاختة
بنت الأسود بن المطلب " كانت تحت أبيه، فلما مات أبوه تزوجها هو، ويريد الحق
سبحانه وتعالى أن يبعد هذه القضية من محيط الأسرة، لماذا؟ لأن الأب والابن لهما من
العلاقات كالمودَّة والرحمة والحنان والعطف من الأب، والبر والأدب، والاستكانة،
وجناح الذل من الابن، فحين يتزوج الرجل امرأة وله ابن، فذلك دليل على أن الأب كان
متزوجاً أمه قبلها، وكأن الزيجة الجديدة طرأت على الأسرة.
وسبحانه يريد ألا يجعل العين من الولد تتطلع إلى المرأة التي تحت أبيه، ربما
راقته، ربما أعجبته، فإذا ما راقته وأعجبته فأقل أنواع التفكير أن يقول بينه وبين
نفسه: بعدما يموت أبي أتزوجها، فحين يوجد له الأمل في أنه بعدما يموت والده
يتزوجها، ربما يفرح بموت أبيه، هذا إن لم يكن يسعى في التخلص من أبيه، وأنتم
تعلمون سعار الغرائز حين تأتي، فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على الولد أمل
الالتقاء ولو بالرجاء والتمني، وأنه يجب عليه أن ينظر إلى الجارية أو الزوجة التي
تحت أبيه نظرته إلى أمه، حين ينظر إليها هذه النظرة تمتنع نزعات الشيطان.
فيقول الحق: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } والنكاح هنا يُطلق فينصرف
إلى الوطء والدخول، وقد ينصرف إلى العقد، إلا أن انصرافه إلى الوطء والدخول - أي
العملية الجنسية - هو الشائع والأوْلى، لأن الله حينما يقول: " الزاني لا ينكح
إلا زانية " معناها أنَّه ينكح دون عقد وأن تتم العملية الجنسية دون زواج.
والحق هنا يقول: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ
إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } فما هو السلف هذا؟ إن ما سلف كان موجوداً، أي جاء
الإسلام فوجد ذلك الأمر متبعاً، وجاء الإسلام بتحريم مثل هذا الأمر. فالزمن الجديد
بعد الإسلام لا يحل أن يحدث فيه ذلك وإن كان عقد النكاح قد حدث قبل الإسلام، ولذلك
قال - سبحانه -: { إلا ما قد سلف } فجاء بـ (ما) وهي راجعة للزمن. كأن الزمن
الجديد لا يوجد فيه هذا.
هب أن واحداً قد تزوج بامرأة أبيه ثم جاء الحكم.. أيقول سلف أن تزوّجتها قبل
الحكم! نقول: لا الزمن انتهى، إذن فقوله: { مَا قَدْ سَلَفَ } يعني الزمن، وما دام
الزمن انتهى يكون الزمن الجديد ليس فيه شيء من مثل تلك الأمور. لذا جاءت (ما) ولو
جاءت (مَن) بدل (ما) لكان الحكم أن ما نكحت قبل الإسلام تبقى معه، لكنه قال (إلا
ما قد سلف) فلا يصح في المستقبل أن يوجد منه شيء ألبتة ويجب التفريق بين الزوجين
فيما كان قائما من هذا الزواج.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يبين لنا أنه حين يشرِّع فهو يشرع ما تقتضيه الفطرة
السليمة. فلم يقل: إنكم إن فعلتم ذلك يكون فاحشة، بل إنه برغم وجوده من قديم كان
فاحشة وكان فعلاً قبيحاً } إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً {
وما كان يصح بالفطرة أن تكون هذه المسألة على تلك الصورة، إلا أنّ الناس عندما
فسدت فطرتهم لجأوا إلى أن يتزوج الرجل امرأة أبيه، ولذلك إذا استقرأت التاريخ
القديم وجدت أن كل رجل تزوج من امرأة أبيه كان يُسمَّى عندهم نكاح " المقت
" والولد الذي ينشأ يسمُّونه " المقتي " أي المكروه.
إذن فقوله: } إنه كان { أي قبل أن أحكم أنا هذا الحكم } كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً
وَسَآءَ سَبِيلاً {. فالله يوضح: إنني أشرع لكم ما تقتضيه الفطرة. والفطرة قد
تنطمس في بعض الأمور، وقد لا تنطمس في البعض الآخر لأن بعض الأمور فاقعة وظاهرة
والتحريم فيها يتم بالفطرة.
مثال ذلك: أن واحداً ما تزوج أمه قبل ذلك، أو تزوج ابنته، أو تزوج أخته. إذن ففيه
أشياء حتى في الجاهلية ما اجترأ أحدٌ عليها. إذن جاء بالحكم الذي يحرم ما اجترأت
عليه الجاهلية وتجاوزت وتخطت فيه الفطرة، فقال سبحانه: } وَلاَ تَنكِحُواْ مَا
نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ { أي مضى.
لقد وصف سبحانه نجاح الأبناء لزوجات آبائهم بأنه } كان فاحشة { أي قبحاً، و }
مقتاً { أي مكروهاً، } ساء سبيلا { أي في بناء الأسرة.
ثم شرع الحق سبحانه وتعالى يبين لنا المحرمات وإن كانت الجاهلية قد اتفقت فيها،
إلا أن الله حين يشرع حكماً كانت الجاهلية سائرة فيه لا يشرعه لأن الجاهلية فعلته،
لا. هو يشرعه لأن الفطرة تقتضيه، وكون الجاهلية لم تفعله، فهذا دليل على أنها فطرة
لم تستطع الجاهلية أن تغيرها، فقال الحق سبحانه وتعالى:
} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ... {.
(/303)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
من الذي يحلل ويحرم؟ إنه الله، فهم رغم جاهليتهم وغفلتهم عن الدين حرموا زواج
المحارم؛ فحتى الذي لم يتدين بدين الإسلام توجد عنده محرمات لا يقربها. أي أنهم قد
حرموا الأم والبنت والأخت.. إلخ، من أين جاءتهم هذه؟ الحق يوضح:{ وَإِن مِّنْ
أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر: 24].
ومنهج السماء أنزله الله من قديم بدليل قوله:{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا }[طه: 123].
فبمجرد أن خلق الله آدم وخلق زوجته، أنزل لهما المنهج، مستوفي الأركان، إذن فبقاء
الأشياء التي جاء الإسلام فوجدها على الحكم الذي يريده الإسلام إنما نشأ من رواسب
الديانات القديمة، وإن أخذ محل العادة ومحل الفطرة.. أي أن الناس اعتادوه وفطروا
عليه ولم يخطر ببالهم أن الله شرعه في ديانات س