18.
تفسير الشعراوي 18. |
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
وهنا يكشف لنا الحق سبحانه محاولاتهم لطمأنة أبيهم؛ كي يأذن في خروج يوسف معهم؛
ولهذا استنكروا أن يأكله الذئب وهم مُحِيطون به كعُصْبة، وأعلنوا أنه إنْ حدث ذلك
فهم سيخسرون كرامتهم أمام أنفسهم وأمام قومهم، وهم لا يقبلون على أنفسهم هذا
الهوان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ... }.
(/1597)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
وقوله الحق:
{ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ... } [يوسف: 15] يدلنا
على أن تلك المسألة أخذتْ منهم مناقشة، فيها أَخْذٌ ورَدٌّ، إلى أن استقروا عليها.
وألهم الحق سبحانه يوسف عليه السلام بما سوف يفعلونه، والوحي كما نعلم هو إعلام
بخفاء.
وسوف يأتي في القصة أن يوسف عليه السلام بعد أن تولى الوزارة في مصر ودخلوا عليه
أمسك بقدح ونقر عليه بأصابعه، وقال لهم: اسمعوا ما يقوله القدح؛ إنه يقول: إن لكم
أخاً وقد فعلتم به كذا وكذا.
وبعض المفسرين قال: إن الحق سبحانه أوحى له، ولم يَلْحَظ إخوته هذا الوحي.
ونقول: إن الوَحْي إعلام بخفاء، ولا يمكن أن يشعر به غير المُوحَى إليه، وعلى ذلك
نرى أنهم لم يعلموا هذا الأمر إلا بعد أن تولى يوسف مقاليد الوزارة في مصر؛ بل
إنهم لم يعرفوا أن يوسف أخوهم؛ لأنهم قالوا له لحظتها:{ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ
سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ }[يوسف: 77].
والمقصود بالوحي في هذه الآية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ هو إيناس الوَحْشة؛
وهو وارد إلهي لا يرده وارد الشيطان؛ والإلهام وارد بالنسبة لمَنْ هم غير أنبياء؛
مثلما أوضحنا الأمر الذي حدث مع أم موسى حين أوحى لها الله أن تلقيه في اليم.
والوارد الإلهي لا يجد له معارضة في النفس البشرية، وقد أوحى الله ليوسف ما
يُؤنِسُ وحشته حين ألقاه إخوته في الجُبِّ الذي ابتعد فيه عن حنان أبيه وأنسه
بأخيه، ومفارقته لبلده التي درج فيها وأُنْسه بالبيئة التي اعتاد عليها.
فكان لا بُدَّ أن تعطيه السماء دليلاً على أن ما حدث له ليس جَفْوة لك يا يوسف؛
ولكنه إعداد لك لتقابل أمراً أهمَّ من الذي كنت فيه؛ وأن غُرمَاءك ـ وهم إخوتك ـ
سوف يُضطَّرون لدقِّ بابك ذات يوم يطلبون عَوْنك، ويطلبون منك أقواتهم، وستعرفهم
أنت دون أن يعرفوك.
هذا من جهة يوسف؛ وجهة الجُبِّ الذي ألقوْه فيه، وبقي أن تعالج القصة أمر الإخوة
مع الأب، فيقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَجَآءُو أَبَاهُمْ... }.
(/1598)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
وهنا تتجلى لنا قدرة أداء القرآن أداء دقيقاً معبراً عن الانفعالات التي توجد في
النفس الإنسانية، فها هم إخوة خدعوا أباهم ومكروا بأخيهم، وأخذوه وألقوْه في
الجُبِّ مع أنهم يعلمون أن أباه يحبه، وكان ضنيناً أن يأتمنهم عليه، فكيف يواجهون
هذا الأب؟
هذا هو الانفعال النفسي الذي لا تستطيع فطرة أن تثبته؛ فقالوا: نؤخر اللقاء لأبينا
إلى العشاء: والعشاء مَحَلُّ الظلمة، وهو ستر للانفعالات التي توجد على الوجوه من
الاضطراب؛ ومن مناقضة كذب ألسنتهم؛ لأنهم لن يخبروا الأب بالواقع الذي حدث؛ بل
بحديث مُخْتلق.
وقد تخدعهم حركاتهم، ويفضحهم تلجلجهم، وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم؛ فقالوا:
الليل أخْفَى للوجه من النهار، وأستَر للفضائح؛ وحين ندخل على أبينا عِشَاءً؛ فلن
تكشفنا انفعالاتنا.
وبذلك اختاروا الظرف الزمني الذي يتوارون فيه من أحداثهم:
{ وَجَآءُو أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } [يوسف: 16].
والبكاء انفعال طبيعي غريزي فطريّ؛ ليس للإنسان فيه مجال اختيار؛ ومَنْ يريد أن
يفتعله فهو يتباكى، بأن يَفْرُك عينيه، أو يأتي ببعض ريقه ويُقرِّبه من عينيه، ولا
يستر ذلك إلا أن يكون الضوء خافتاً؛ لذلك جاءوا أباهم عشاء يُمثِّلون البكاء.
والحق سبحانه حينما تكلم عن الخصائص التي أعطاها لذاته، ولم يُعْطِها لأحد من
خلقه؛ أعلمنا أنه سبحانه هو الذي يميت ويحي، وهو الذي يُضحك ويُبْكي.
والحق سبحانه هو القائل:{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىا * وَأَنَّهُ هُوَ
أَمَاتَ وَأَحْيَا }[النجم: 43-44].
ولا يوجد فَرْق بين ضحك أو بكاء إنسان إنجليزي وآخر عربي؛ ولا يوجد فرق بين موت أو
ميلاد إنسان صيني وآخر عربي أو فرنسي؛ فهذه خصائص مشتركة بين كل البشر.
وإذا ما افتعل الإنسان الضحك؛ فهو يتضاحك؛ وإذا ما افتعل الإنسان البكاء فهو
يتباكى؛ أي: يفتعل الضحك أو البكاء. والذي يفضح كل ذلك هو النهار.
والتاريخ يحمل لنا الكثير من الحكايات عن اتخاذ الليل كستار للمواقف؛ والمثل في
سيدنا الحسين رضي الله عنه وأرضاه؛ حين جاءت موقعة كربلاء، ورأى العدو وقد أحاط
به؛ ورأى الناس وقد انفضوا عنه بعد أن دَعَوْهُ ليبايعوه، ولم يَبْقَ معه إلا قلة؛
وعَزَّتْ عليه نفسه؛ وعَزَّ عليه أن يقتل هؤلاء في معركة غير متكافئة صمم هو على
دخولها.
فلما أقبل الليل دعا أصحابه وقال لهم:
" إن كنتم قد استحييتم أن تفروا عني نهاراً، فالليل جاء وقد ستركم، فمَنْ شاء
فليذهب واتركوني ".
يقص الحق سبحانه ما بدر منهم فَوْرَ أنْ دخلوا على أبيهم: { قَالُواْ
يَاأَبَانَآ... }.
(/1599)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
كلمة: { نَسْتَبِقُ } [يوسف: 17] تعبر عن بيان تفوُّق ذات على ذات في حركة ما؛
لنرى من سيسبق الآخر؛ فحين يتسابق اثنان في الجري نرى مَنْ فيهما سبق الآخر؛ وهذا
هو الاستباق.
وقد يكون الاستباق في حركة بآلة؛ كان يمسك إنسان ببندقية ويُصوِّبها إلى الهدف؛
ويأتي آخر ويمسك ببندقية أخرى ويحاول أن يصيب الهدف؛ ومَنْ يسبق منهما في إصابة
الهدف يكون هو المتفوق في هذا المجال.
وقد يكون الاستباق في الرمي بالسهام؛ ونحن نعرف شكل السهم؛ فهو عبارة عن غُصْن
مَرنٍ، يلتوي دون أن ينكسر؛ ومُثبَّت عليه وتر، ويوضع السهم في منتصف الوتر، ليشده
الرامي فينطلق السهم إلى الهدف.
وتُقَاسُ دقة إصابة الهدف حسب شدة السهم وقوة الرمي، ويسمى ذلك " تحديد الهدف
".
أما إذا كان التسابق من ناحية طول المسافة التي يقطعها السهم؛ فهذا لقياس قوة
الرامي.
وهكذا نجد الاستباق له مجالات متعددة؛ وكل ذلك حلال؛ فهم أسباط وأولاد يعقوب، ولا
مانع أن يلعب الإنسان لُعْبة لا تُلهِيه عن واجبه؛ وقد تنفعه فيما يَجِدُّ من
أمور؛ فإذا التقى بعدو نفعه التدريب على استخدام السهم أو الرمح أو أداة قتال؛
واللعب الذي لا يَنْهي عن طاعة، وينفع وقت الجد هو لَعِب حلال.
وهناك ألعاب قد لا يدرك الناس لها غاية مثل كرة القدم.
وأقول: قد يوجد عَدوَّانِ؛ وبينهما قنبلة موقوتة؛ ويحاول كل طرف أن يبعدها عن
موقعه، والقوة والحكمة تظهر في محاولة كل فريق في إبعاد الكرة عن مرماه.
ولكن لا بد ألا يُلْهِي لعب الكرة عن واجب؛ فمثلاً حين يؤذن المؤذن للصلاة،
والوَاجب علينا ألا نهمل الصلاة ونواصل اللعب، وعلى اللاعبين أن يُراعُوا عدم
ارتداء ملابس تكشف عن عوراتهم.
وأبناء يعقوب قالوا:
{ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا... } [يوسف: 17].
وفي هذا إخلال بشروط التعاقد مع الأب الذي أذِنَ بخروج يوسف بعد أن قالوا:{
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ }[يوسف: 12].
وقالوا:{ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }[يوسف: 11].
وقالوا:{ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[يوسف: 12].
فهل أخذتموه معكم ليرتع ويلعب، ويأكل من ثمار الأشجار والفاكهة؛ وتحفظونه، أم
ليحفظ لكم متاعكم وأنتم تستبقون. وهذا أول الكذب الذي كذبوه؛ وهذه أول مخالفة لشرط
إذن والده له بالخروج معكم؛ ولأن " المريب يكاد يقول خذوني " نجدهم قد
قالوا:
{ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }
[يوسف: 17].
أو: أنهم قالوا ذلك لأنهم يعلمون أن والدهم لن يُصدِّقهم مهما قالوا. ونعلم أن
" آمن " إما أن تتعدى إلى المفعول بنفسها مثل " آمنه الله من الجوع
" ، أو قوله الحق:{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 4].
أو: تجئ بالباء، ويُقال " آمن به " أي: صدَّق واعتقد.
أو: يُقَال " آمن له " أي: صدَّقه فيما يقول.
وهم هنا يتهمون أباهم أنه مُتحَدٍّ لهم، حتى ولو كانوا صادقين، وهم يعلمون أنهم
غير صادقين؛ ولكن جاءوا بكلمة الصدق ليداروا كذبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَجَآءُو عَلَىا قَمِيصِهِ.... }.
(/1600)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
كأن قميص يوسف كان معهم. ويُقال: إن يعقوب علِّق على مجيء القميص وعليه الدم الكذب
بأن الذئب كان رحيماً، فأكل لحم يوسف ولم يُمزِّق قميصه؛ وكأنه قد عرف أن هناك
مؤامرة سيكشفها الله له.
ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص:
فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب.
وفي أواسط السورة تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد شُقَّ من دُبُرٍ لحظة أنْ جذبتْه
امرأة العزيز لتراوده عن نفسه.
وفي آخر السورة يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره.
ولهذا أخذ العلماء والأدباء كلمة القميص كرمز لبعض الأشياء؛ والمثل هو قول الناس
عن الحرب بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه أن معاوية أمسك بقميص عثمان
بن عفان طلباً للثأر من علي، فقيل " قميص عثمان " رمزاً لإخفاء الهدف عن
العيون، وكان هدف معاوية أن يحكم بدلاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَجَآءُو عَلَىا قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [يوسف: 18]، وكأن القميص كان معهم،
ووضعوا عليه دماً مكذوباً، لأن الدم لا يكذب، إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على
القميص.
وشاء الحق سبحانه هنا أن يُعطي الوصف المصدري للمبالغة؛ وكأن الدم نفسه هو الذي
كذب؛ مثلما تقول " فلان عادل " ويمكنك أن تصف إنساناً بقولك " فلان
عَدْل " أي: كأن العدل تجسَّد فيه، أو قد تقول " فلان ذو شر " ،
فيرد عليك آخر " بل هو الشر بعينه " ، وهذه مبالغة في الحديث.
وهل كان يمكن أن يُوصف الدم بأنه صادق؟
نقول: نعم، لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل؛ وتلوَّث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق.
ولكن ذلك لم يحدث، بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول " أنا كذب
".
فلو كان قد أكله الذئب فعلاً؛ كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه؛ ولكنهم
جاءوا بدم الشاة ولطخوا به القميص من الخارج.
وبالله، لو أن الذئب قد أكله فعلاً، ألم تكُنْ أنيابه قد مزَّقَتْ القميص؟
وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم؛ أشار أحدهم خفية للباقين وقال لهم همساً: قولوا
لأبيكم: إن اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه؛ فسمع يعقوب الهمس فقال: اللصوص أحوَجُ
لقميصه من دمه؛ وهذا ما تقوله كتب السير.
وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب، هذه الفراسة التي يتحلى بها أيُّ محقق في قضية قتل؛ حين
يُقلِّب أسئلته للمتهم وللشهود؛ لأن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من
واقع؛ بل يستوحي أقواله من خيال مضطرب.
ولذلك يقال: " إن كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً ".
ويأتي هنا الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب:
} بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَىا مَا تَصِفُونَ { [يوسف: 18].
" والسَّوَل ": هو الاسترخاء؛ لأن الإنسان حين تكون أعصابه مشدودة؛ ثم
يحب أن يسترخي، فيستريح قليلاً، وبعد ذلك يجد في نفسه شيئا من اليُسْر في بدنه
ونبضه.
ونأخذ } سَوَّلَتْ... { [يوسف: 18] هنا بمعنى يَسَّرت وسهَّلتْ، وما دامت قد
سوَّلتْ لكم أنفسكم هذا الأمر فسوف أستقبله بما يليق بهذا الوضع، وهو الصبر.
} فَصَبْرٌ جَمِيلٌ... { [يوسف: 18].
والذين يحاولون اصطياد خطأ في القرآن يقولون " وهل يمكن أن يكون الصبر
جميلاً؟ ".
نقول: هم لا يعرفون أن الصبر يُقال فيه " اصبر عن كذا " إذا كان الأمر
عن شهوة قد تُورِث إيلاماً؛ كأن يُقال " اصبر عن الخمر " أو " اصبر
عن الميسر " أو " اصبر عن الربا ".
ويُقال " اصبر عن كذا " إذا كان الصبر فيه إيلام لك. والصبر يكون جميلاً
حينما لا تكون فيه شكوى أو جزع.
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً
}[المزمل: 10].
وهؤلاء الذين يبحثون عن تناقض أو تضارب في القرآن إنما هم قوم لا يعرفون كيفية
استقباله وفهمه؛ وقد بيَّن لنا يعقوب عليه السلام أن الصبر الجميل هو الصبر الذي
لا شكوى فيه، وهو القائل:{ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ...
}[يوسف: 86].
وهكذا نعلم أن هناك فارقاً بين الشكوى للربِّ؛ وشكوى من قدر الربِّ.
ولذلك يقول يعقوب عليه السلام هنا:
} فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.. { [يوسف: 18]، ويتبعها: } وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىا
مَا تَصِفُونَ { [يوسف: 18]، كأن الصبر الجميل أمر شاقٌّ على النفس البشرية، ولم
يكُنْ يعقوب قادراً على أن يُصدِّق ما قاله أبناؤه له؛ فكيف يُصدِّق الكذب؟ وكيف
يمكن أن يواجه أبناءه بما حدث منهم؟ وهم أيضاً أبناؤه؛ لكنه كان غير قادر على أن
يكشف لهم كذبهم.
والمثل لذلك ما جاء في التراث العربي حين قِيلَ لرجل: إن ابنك قد قتل أخاك،
فقال:أقـولُ لنفـسِي تأسـاء وتعـزيةً إحـدى يـديَّ أصَـابتْنِي ولم تُردِكِلاهُمَا
خـلف عَـْن فَقْدِ صـاحبِه هـذا أخي حـين أدعُـوه وذَا ولدِيومثل هذه المواقف تكون
صعبة وتتطلب الشفقة؛ لأن مَنْ يمر بها يحتار بين أمر يتطلب القسوة وموقف يتطلب
الرحمة؛ وكيف يجمع إنسان بين الأمرين؟
إنها مسألة تعزُّ على خَلْق الله؛ ولابد أن يفزع فيها الإنسان إلى الله؛ ولذلك
علَّمنا صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة؛ وحزبه أمر ما يعني:
أن مواجهة هذا الأمر تفوق أسباب الإنسان؛ فيلجأ إلى المُسبِّبِ الأعلى؛ ولذلك قال
يعقوب عليه السلام:
} وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىا مَا تَصِفُونَ { [يوسف: 18].
وقوله: " تصفون " يعني: أنكم لا تقولون الحقيقة، بل تصفون شيئاً لا
يصادف الواقع، مثل قوله تعالى:
{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـاذَا حَلاَلٌ
وَهَـاذَا حَرَامٌ... }[النحل: 116].
أي: أن ألسنتكم نفسها تَصِفُ الكلام أنه كذب.
والحق سبحانه يقول:{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
}[الصافات: 180].
وتعني أن هؤلاء الذين قالوا ما قيل عنه أنه وصف قد كذبوا فيما قالوا؛ وكان مصير
كذبهم مفضوحاً.
} فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىا مَا تَصِفُونَ { [يوسف: 18].
وهكذا عبّر يعقوب عليه السلام عن نفسه؛ فالجوارح قد تكون ساكنة؛ لكن القلب قد
يزدحم بالهموم ويفتقد السكون؛ لذلك لا بد من الاستعانة بالله.
وقد علَّمنا الحق سبحانه أن نقول في فاتحة الكتاب:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5].
فأنت تقف لعبادة الله وبين يديه؛ لكن الدنيا قد تشغلك عن العبادة أثناء أداء
العبادة نفسها: لذلك تستعين بخالقك لتُخلِص في عبادتك.
وبعد أن عرض الحق سبحانه لموقف الأب مع أولاده، نأتي لموقف يوسف عليه السلام في
الجُبِّ.
يقول سبحانه: } وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ.. {.
(/1601)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
ولم يَقُلِ الحق سبحانه من أين جاء السيارة؟ أو إلى أين كانوا ذاهبين؟
والمقصود بالسيارة هم القوم المحترفون للسير، مثل مَنْ كانوا يرحلون في رحلة
الشتاء والصيف؛ بهدف التجارة وجَلْب البضائع.
وكانت السيارة لا تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر، بل يذهب واحد منهم إلى البئر؛
ليأتي لهم بالمياه ويُسمَّى الوارد، وذهب هذا الوارد إلى البئر ليُحضِر لبقية
السيارة الماء وألقى دَلْوه في البئر؛ ويسمى حبل الدلو الرشاء.
وحين نزل الدلو إلى مستوى يوسف عليه السلام تعلق يوسف في الحبل؛ فأحسَّ الوارد
بثقل ما حمله الرشاء؛ ونظر إلى أسفل؛ فوجد غلاماً يتعلق بالدلو فنادى:
{ يابُشْرَىا هَـاذَا غُلاَمٌ } [يوسف: 19].
أي: أنه يقول يا بشرى هذا أوانك؛ وكأنه يبشر قومه بشيء طيب؛ فلم يحمل الدلو ماء
فقط، بل حمل غلاماً أيضاً.
ويقول الحق سبحانه: { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } [يوسف: 19].
أي: أنهم أخفوْه وعاملوه كأنه بضاعة، ولم يتركوه يمشي بجانبهم؛ خشية أن يكون عبداً
آبقاً ويبحث عنه سيده؛ وهم يريدون بيعه.
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله:
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [يوسف: 19].
وهذا قول يعود على مَنْ أسرُّوه بضاعة؛ وهم الذين عرضوه للبيع. ثم يقول الحق
سبحانه: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ... }.
(/1602)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
ونعلم أنهم لم يشتروه بل عثروا عليه؛ ونعلم أن كلمة شراء تدل على البيع أيضاً، أي:
أنهم باعوه بثمن بخس؛ أي: بثمن زهيد، وكانت العبيد أيامها مُقوَّمة بالنقود.
والبخس أي: النقص، وهو إما في الكم أو في الكَيْف؛ فهو يساوي مثلاً مائة درهم وهم
باعوه بعشرين درهماً فقط؛ وكان العبد في عُمر يوسف يُقوَّم بالنقد؛ وهم باعوه
بالبخْس، وبثمن أقل قيمة إما كَمّاً وإما كَيْفاً.
ثم أراد الحق سبحانه أن يوضح الأمر أكثر فقال:
{ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف: 20]،
والزهد هنا هو حيثية الثمن البَخْس؛ فهُم قد خافوا أن يبحث عنه أبوه أو صاحبه؛
وكأنهم قالوا لأنفسهم: أي شيء يأتي من ورائه فهو فائدة لنا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ... }.
(/1603)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
وكان للشراء عِلَّة؛ فهو قد اشتراه لامرأته ليقوم بخدمتها، وكانت لا تنجب وتكثر في
الإلحاح عليه في طلب العلاج، وتقول أغلب السير: إن من اشتراه كان ضعيفاً من ناحية
رغبته في النساء.
وهذه اللقطة تبين لنا الفساد الذي ينشأ في البيوت التي تتبنى طفلاً، لكنهم لا
يحسبون حساب المسألة حين يبلغ هذا الطفل مبلغ الرجال، وقد تعوَّد أن تحمله ربة
البيت وتُقبِّله، وتغدق عليه من التدليل ما يصعب عليها أن تمتنع عنه؛ ولأن الطفل
يكبر انسيابياً؛ فقد يقع المحظور وندخل في متاهة الخطيئة.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ
عَسَىا أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [يوسف: 21].
وهذا يعني أن تعتني بالمكان الذي سيقيم فيه، وبطبيعة الحال فهذا القول يقتضي أن
تعتني بالولد نفسه؛ على رجاء أن ينتفع به الرجل وزوجته.
ولسائل أن يقول: كيف ينتفع به الرجل؛ وهو عزيز مصر، والكُلُّ في خدمته؟
ونقول: إن النفع المقصود هنا هو النفْع الموصول بعاطفة مَنْ ينفع؛ وهو غير نفع
الموظفين العاملين تحت قيادة وإمرة عزيز مصر، فعندما ينشأ يوسف كابن للرجل
وزَوْجه؛ وكإنسان تربَّى في بيت الرجل؛ هنا ستختلف المسألة، ويكون النفع
مُحَمَّلاً بالعاطفة التي قال عنها الرجل:
{ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } [يوسف: 21].
وقد عَلِمنا من السِّيَر أنهما لم يُرزَقا بأولاد.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىا أَمْرِهِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لاَ يَعْلَمُونَ } [يوسف: 21].
وقد بدأ التمكين في الأرض من لحظة دخوله إلى بيت عزيز مصر ليحيا حياة طيبة؛
وليعلمه الله تأويل الحديث؛ بأن يهبه القدرة على تفسير الرُّؤى والأحلام؛ وليغلب
الله على أمره.
ولو نظر إخوته إلى ما آل إليه يوسف عليه السلام فسيعرفون أن مرادهم قد خاب؛ وأن
مراد الله قد غلب؛ بإكرام يوسف؛ وهم لو علموا ذلك لَضَنَّوا عليه بالإلقاء في
الجُبِّ، وهذا شأن الظالمين جميعاً.
ولذلك نقول: إن الظالم لو عَلِم ما أعدَّه الله للمظلوم لَضَنَّ عليه بالظلم.
وساعة يقول الحق سبحانه:
{ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىا أَمْرِهِ... } [يوسف: 21].
فهذا قول نافذ؛ لأنه وحده القادر على أن يقول للشيء كُنْ فيكون؛ ولا يوجد إله غيره
ليرد على مراده.
ولذلك قلنا قديماً: إن الله سبحانه وتعالى قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو؛ وهو
يملك الرصيد المطلق المؤكد بأنه لا إله غيره؛ فهو وحده الذي له المُلْك، وهو وحده
القادر على كل شيء.
ولكن خيبة بعض من الخلق الذين يتوهمون أنهم قادرون على أن يُخطِّطوا ويمكروا؛
متناسين أو ناسين أن فوقهم قَيُّوم؛ لا تأخذه سنة ولا نوم، ولو انتبه هؤلاء
لَعلِمُوا أن الله يُملِّك بحق مَنْ يُظلم فوق إلى ظَلمه.
ورأينا في حياتنا وتاريخنا ظالمين اجتمعوا على ظُلْم الناس؛ وكان مصيرهم أسوأ من
الخيال؛ وأشد هَوْلاً من مصيرهم لو تحكم فيهم مَنْ ظلموهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ... }.
(/1604)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
والبلوغ هو الوصول إلى الغاية، وقوله تعالى:
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } [يوسف: 22] أي: وصل إلى غايته في النُّضْج
والاستواء؛ ومن كلمة " بلغ " أخذ مصطلح البلوغ؛ فتكليف الإنسان يبدأ
فَوْرَ أن يبلغ أشده؛ ويصير في قدرة أن ينجب إنساناً مثله.
وحين يبلغ إنسانٌ مثل يوسف أشده، وهو قد عاش في بيت ممتليء بالخيرات؛ فهذا البلوغ
إنْ لم يكُنْ محروساً بالحكمة والعلم؛ ستتولد فيه رعونة؛ ولهذا فقد حرسه الحق
بالحكمة والعلم.
والحُكْم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين؛ حق وباطل؛ وما دام قد أعطاه
الله الحُكْم، فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ.
وقد أعطاه الله العلم الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير، والذي سيكون منه تأويل
الرؤى، وغير ذلك من العلم الذي سوف يظهر حين يولى على خزانة مصر.
إذن: فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم. ويُذيِّل الحق سبحانه هذه
الآية بقوله:
{ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 22].
وكل إنسان يُحسِن الإقامة لِمَا هو فيه؛ يعطيه الله ثمرة هذا الحُسْن، والمثل: حين
لا يتأبى فقير على قَدَرِ الله أن جعله فقيراً، ويحاول أن يُحسن ويُتقِن ما يعمل،
فيوضح الله بحُسْن الجزاء: أنت قبلت قدري، وأحسنت عملك؛ فخُذْ الجزاء الطيب. وهذا
حال عظماء الدنيا كلهم.
وهكذا نجد قول الحق سبحانه:
{ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 22].
لا ينطبق على يوسف وحده؛ بل على كل مَنْ يحسن استقبال قَدَرِ الله؛ لأنه سبحانه
ساعة يأتي بحُكْم من الأحكام؛ وبعد ذلك يعمِّم الحكم؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس
خاصاً بل هو عام.
وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها، فإنه يقرر بعدها أن كل مُحْسِن
يعطيه الله الحُكْم والعلم.
وقول الحق سبحانه:
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ.. } [يوسف: 22].
يوحي لنا أن يوسف عليه السلام كان قد بلغ مرحلة الفتوة، وهنا بدأت متاعبه في
القَصْر، ففي طفولته نظرتْ إليه امرأة العزيز كطفل جميل؛ فلم يكُنْ يملك ملامح
الرجولة التي تهيج أنوثتها.
أما بعد البلوغ فنجد حالها قد تغيَّر، فقد بدأت تدرك مفاتنه؛ وأخذ خيالها يسرح
فيما هو أكثر من الإدراك، وهو التهاب الوجدان بالعاطفة المشبوبة، وما بعد الإدراك
والوجدان يأتي النزوع.
ولو كانت محجوبة عنه؛ لما حدثت الغواية بالإدراك والوجدان.
وهذا يعطينا عِلَّة غَضِّ البصر عن المثيرات الجنسية؛ لأنك إنْ لم تغضّ البصر
أدرَكتَ، وإن أدركتَ وجدتَ، وإن وجدتَ نزعتَ إلى الزواج أو التعفف بالكبْت في
النفس، وتعيش اضطراب القلق والتوتر، وإن لم تتعفف عربدتَ في أعراض الناس.
وكذلك أمرنا الحق سبحانه ألا تُبدِي النساء زينتهن إلا لأناس حددهم الحق سبحانه في
قوله تعالى:{ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ
بِخُمُرِهِنَّ عَلَىا جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ..
}[النور: 31].
أي: الذي بلغ من العمر والشيخوخة حداً لا يجعله يفكر في الرغبة في النساء.
وكانت نظرة امرأة العزيز إلى يوسف عليه السلام وهو في فتوته، بعد أن بلغ أَشُدَّه
نظرةً مختلفة، يوضحها الله تعالى في قوله: { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ... }.
(/1605)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وساعة تسمع " راود " فافهم أن الأمر فيه منازعة مثل: " فَاعَل
" أو " تَفاعل " ومثل: " شارك محمد علياً " أي: أن علياً
شارك محمداً؛ ومحمد شارك علياً؛ فكل منهم مفعول مرة، وفاعل مرة أخرى.
والمُرَاودة مطالبةٌ برفق ولين بستر ما تريده مِمَّنْ تريده؛ فإنْ كان الأمر
مُسهَّلاً، فالمُراودة تنتهي إلى شيء ما، وإنْ تأبَّى الطرف الثاني بعد أن عرفَ
المراد؛ فلن تنتهي المراودة إلى الشيء الذي كنت تصبو إليه.
وهكذا راودتْ امرأة العزيز يوسف عليه السلام، أي: طالبته برفق ولين في أسلوب يخدعه
لِيُخرِجه عمَّا هو فيه إلى ما تطلبه.
ومن قبْل كان يوسف يخدمها، وكانت تنظر إليه كطفل، أما بعد أن بلغ أَشُده فقد اختلف
الأمر، ولنفرض أنها طالبته أن يُحضر لها شيئاً؛ وحين يقدمه لها تقول له "
لماذا تقف بعيداً؟ " وتَدعوه ليجلس إلى جوارها، وهو لن يستطيع الفكاك؛ لأنه
في بيتها؛ وهي مُتمكِّنة منه؛ فهي سيدة القصر.
وهكذا نجد أن المسألة مجموعة عليه من عدة جهات؛ فهو قد تربَّى في بيتها؛ وهي التي
تتلطف وترقُّ معه، وفَهِم هو مرادها.
وهكذا شرح الحق سبحانه المسألة من أولها إلى آخرها بأدب رَاقٍٍ غير مكشوف، فقال
تعالى:
{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ
الأَبْوَابَ... } [يوسف: 23].
وكلمة: { وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ... } [يوسف: 23].
توضح المبالغة في الحدث؛ أو لتكرار الحَدث، فهي قد أغلقت أكثرَ من باب. ونحن حين
نحرك المزلاج لنؤكد غَلْق الباب، ونحرك المفتاح، ونديره لتأكيد غَلْق الباب.
فهذه عملية أكبر من غَلْق الباب؛ وإذا أضفنا مِزْلاجاً جديداً نكون قد أكثرنا
الإغلاق لباب واحد؛ وهكذا يمكن أن نَصِفَ ما فعلنا أننا غلّقنا الباب.
وامرأة العزيز قامت بأكثر من إغلاق لأكثر من باب، فَقُصور العظماء بها أكثر من
باب، وأنت لا تدخل على العظيم من هؤلاء في بيته لتجده في استقبالك بعد أول باب، بل
يجتاز الإنسان أكثر من باب لِيَلقى العظيم الذي جاء ليقابله.
يحمل لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الذي رفض أن يبايع معاوية في المدينة، فأمر معاوية
باستدعائه إلى قصر الحكم في دمشق.
هذا القصر الذي سبق أن زاره عمر بن الخطاب؛ ووجد فيه أبهة زائدة بررها له معاوية
بحيلة الأريب أنها أُبهة ضرورية لإبراز مكانة العرب أمام الدولة الرومانية
المجاورة، فسكتَ عنها عمر.
وحين استدعى معاوية الرجل، دخل بصحبة الحرس من باب، وظن أنه سوف يلقى معاوية فَوْر
الدخول؛ لكن الحرس اصطحبه عبر أكثر من باب؛ فلم ينخلع قلب الرجل، بل دخل بثبات على
معاوية وضَنَّ عليه بمناداته كأمير المؤمنين، وقال بصوت عال:
" السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ففطن معاوية إلى أن الرجل يرفض مبايعته.
ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ فنجد أن امرأة العزيز قد غلَّقتْ
الأبواب؛ لأن مَنْ يفعل الأمر القبيح يعلم قُبْح ما يفعل، ويحاول أن يستر فِعْله،
وهي قد حاولتْ ذلك بعيداً عن مَنْ يعملون أو يعيشون في القصر، وحدثتْ المراودة
وأخذتْ وقتاً، لكنه فيما يبدو لم يَستجِبْ لها.
} وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ... { [يوسف: 23] أي: أنها انتقلتْ من مرحلة المُراودة إلى
مرحلة الوضوح في طلب الفعل؛ بأن قالت: تهيأتُ لك؛ وكان ردُّه:
} قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ... { [يوسف: 23].
والمَعَاذ هو مَنْ تستعيذ به، وأنت لا تستعيذ إلا إذا خارتْ أسبابك أمام الحدث
الذي تمرُّ به عَلَّك تجد مَنْ ينجدك؛ فكأن المسألة قد عَزَّتْ عليه؛ فلم يجد
مَعَاذاً إلا الله.
ولا أحد قادر على أن يتصرف هكذا إلا مَنْ حرسه الله بما أعطاه له من الحكمة
والعلم؛ وجعله قادراً على التمييز بين الحلال والحرام.
ولبيان خطورة وقوة الاستعاذة نذكر ما ترويه كتب السيرة من " أن النبي صلى
الله عليه وسلم عقد على ابنة ملكٍ؛ كانت شديدة الجاذبية، وشعرت بعض من نساء النبي
بالغيرةَ منها، وقالت واحدة منهن لعلها عائشة رضي الله عنها: إن تزوجها ودخل بها
قد يفضلها عنَّا. وقالت للعروس: إن النبي يحب كلمة ما، ويحب مَنْ يقولها. فسألت
الفتاة عن الكلمة، فقالت لها عائشة: إن اقترب منك قولي " أعوذ بالله منكِ
".
فغادرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " قد عُذْتِ بمعاذ "
وسرَّحها السراح الجميل ".
وهناك في قضية السيدة مريم عليها السلام، نجدها قد قالت لحظة أن تمثَّل لها الملاك
بشراً سوياً:{ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَـانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً }[مريم:
18].
فهي استعاذت بمَنْ يقدر على إنقاذها.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ { [يوسف: 23]، وأعطانا هذا القول معنيين اثنين:
الأول: أنه لم يوافق على طلبها بعد أن أوضحتْ ما تريد.
والمعنى الثاني: أنه طلب المعونة من الله، وهو سبحانه مَنْ أنجاه من كيد إخوته؛
ونجَّاه من الجُبِّ؛ وهيَّأ له أفضل مكان في مصر، ليحيا فيه ومنحه العلم والحكمة
مع بلوغه لأشُدَّه. وبعد كل هذا أيستقبل كل هذا الكرم بالمعصية؟ طبعاً لا.
أو: أنه قال: } أَحْسَنَ مَثْوَايَ { [يوسف: 23].
ليُذكِّر امرأة العزيز بأن لها زوجاً، وأن هذا الزوج قد أحسن ليوسف حين قال لها:{
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىا أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً }[يوسف: 21].
فالصعوبة لا تأتي فقط من أنها تدعوه لنفسها؛ بل الصعوبة تزداد سوء لأن لها زوجاً
فليست خالية، وهذا الزوج قد طلب منها أن تُكرِم يوسف، وتختار له مكانَ إقامةٍ يليق
بابن، ولا يمكن أن يُستَقبل ذلك بالجحود والخيانة.
وهكذا يصبح قول يوسف: } إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ { [يوسف: 23].
قد يعود على الله سبحانه؛ وقد يعود على عزيز مصر.
وتلك مَيْزة أسلوب القرآن؛ فهو يأتي بعبارة تتسع لكل مناطات الفهم، فما دام الله
هو الذي يُجازي على الإحسان، وهو مَنْ قال في نفس الموقف:{ وَكَذالِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ }[يوسف: 22] فمعنى ذلك أن مَنْ يسيء يأتي الله بالضد؛ فلا يُفلح؛
لأن القضيتين متقابلتان:{ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }[يوسف: 22].
و } لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ { [يوسف: 23].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ... {.
(/1606)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
والهَمُّ هو حديث النفس بالشيء؛ إما أن يأتيه الإنسان أو لا يأتيه. ومن رحمة ربنا
بخلْقه أن مَنْ هَمَّ بسيئة وحدَّثتْه نفسه أن يفعلها؛ ولم يفعلها كُتِبتْ له
حسنة.
وقد جاءت العبارة هنا في أمر المراودة التي كانت منها، والامتناع الذي كان منه،
واقتضى ذلك الأمر مفاعلة بين اثنين يصطرعان في شيء.
فأحد الاثنين امرأة العزيز يقول الله في حقها:
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } [يوسف: 24].
وسبق أن أعلن لنا الحق سبحانه في الآية السابقة موقفها حين قالت: " هيت لك
" وكذلك بيَّن موقف يوسف عليه السلام حين قال يوسف " معاذ الله ".
وهنا يبين لنا أن نفسه قد حدثته أيضاً؛ وتساوى في حديث النفس؛ لكن يوسف حدث له أن
رأى برهان ربه.
ويكون فَهْمُنا للعبارة: ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها؛ لأننا نعلم أن
" لولا " حرف امتناع لوجود؛ مثلما نقول: لولا زيد عندك لأتيتك.
ولقائل أن يقول: كيف غابت قضية الشرط في الإيجاد والامتناع عن الذين يقولون؛ إن
الهم قد وُجِد منه؟
ولماذا لم يَقُل الحق: لقد همَّتْ به ولم يهم بها؛ حتى نخرج من تلك القضية الصعبة؟
ونقول: لو قال الحق ذلك لما أعطانا هذا القولُ اللقطةَ المطلوبة؛ لأن امرأة العزيز
هَمَّتْ به لأن عندها نوازع العمل؛ وإنْ لم يَقُلْ لنا أنه قد هَمَّ بها لظننا أنه
عِنِّين أو خَصَاه موقف أنها سيدته فخارتْ قواه.
إذن: لو قال الحق سبحانه: إنه لم يَهِمّ بها؛ لكان المانع من الهَمِّ إما أمر
طبيعي فيه، أو أمر طاريء لأنها سيدته فقد يمنعه الحياء عن الهَمِّ بها.
ولكن الحق سبحانه يريد أن يوضح لنا أن يوسف كان طبيعياً وهو قد بلغ أشُدَّه
ونُضْجه؛ ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها.
وهكذا لم يَقُمْ يوسف عليه السلام بما يتطلبه ذلك لنقص فيه؛ ولا لأن الموقف كان
مفاجأة ضَيَّعَتْ رجولته بغتة؛ مثل ما يحدث لبعض الشباب في ليلة الزفاف، حين لا
يستطيع أن يَقربَ عروسه؛ وتمر أيام إلى أن يستعيد توازنه. ويقرب عروسه.
إذن: لو أن القرآن يريد عدم الهَمِّ على الإطلاق؛ ومن غير شيء، لَقَال: ولقد
هَمَّتْ به ولم يَهِم بها.
ولكن مثل هذا القول هو نَفْيٌ للحدث بما لا يستلزم العفة والعصمة، لجواز أن يكون
عدم الهَمِّ راجعاً إلى نقص ما؛ وحتى لا يتطرق إلينا تشبيهه ببعض الخدم؛ حيث يستحي
الخادم أن ينظر إلى البنات الجميلات للأسرة التي يعمل عندها؛ ويتجه نظره إلى
الخادمة التي تعمل في المنزل المجاور، لأن للعواطف التقاءات.
ومن لُطْفِ الله بالخلق أنه يُوجِد الالتقاءات التفاعلية في المتساويات، فلا تأتي
عاطفة الخادم في بعض الأحيان ناحية بنات البيت الذي يعمل عنده؛ وقد يطلب من أهل
البيت أن يخرج لشراء أي شيء من خارج المنزل، لعله يحظى بلقاء عابر من خادمة
الجيران.
ويجوز أن الخادم قد فكر في أنه لو هَمَّ بواحدة من بنات الأسرة التي يعمل لديها؛
فقد تطرده الأسرة من العمل؛ بينما هو يحيا سعيداً مع تلك الأسرة.
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يوزع تلك المسائل بنظام وتكافؤات في كثير من الأحيان.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه:
} وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ {
[يوسف: 24].
إذن: فبرهان ربه سابق على الهَمِّ، فواحد هَمّ ولم يرتكب ما يتطلبه الهمّ؛ لأن
برهان ربه في قلبه، وقد عرف يوسف برهان ربه من البداية.
وبذلك تنتهي المسألة، ولذلك فلا داعي أن يدخل الناس في متاهات أنه هَمّ وجلس بين
شعبتيها، ولم يرتعد إلا عندما تمثِّل له وجه والده يعقوب ونهاه عن هذا الفعل؛
فأفسقُ الفُسّاق ولو تمثَّل له أبوه وهو في مثل هذا الموقف لأصيب بالإغماء.
وحين تناقش مَنْ رأى هذا الرأي؛ يردّ بأن هدفه أن يثبت فحولة يوسف؛ لأن الهمّ وجد
وأنه قد نازع الهمّ.
ونقول لصاحب هذا الرأي: أتتكلم عن الله، أم عن الشيطان؟.
أنت لو نظرتَ إلى أبطال القصة تجدهم: امرأة العزيز؛ ويوسف والعزيز نفسه؛ والشاهد
على أن يوسف قد حاول الفِكَاك من ذلك الموقف، ثم النسوة اللاتي دَعتْهُنَّ امرأة
العزيز ليشاهدوا جماله؛ والله قد كتب له العصمة.
فكُلُّ هؤلاء تضافروا على أن يوسف لم يحدث منه شيء.
وقال يوسف نفسه:{ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي }[يوسف: 26] وامرأة العزيز نفسها
قالت مُصدِّقة لِمَا قال:{ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ
}[يوسف: 32].
وقالت:{ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ * ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ }[يوسف:
51-52].
وعن النسوة قال يوسف:{ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }[يوسف: 50].
وقال يوسف لحظتها:{ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ
وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }[يوسف: 33].
والصَّبْوة هي حديث النفس بالشيء؛ وهو ما يثبت قدرة يوسف عليه السلام على الفعل،
وحماه الله من الصبوة؛ لأن الحق سبحانه قد قال:{ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ
}[يوسف: 34].
وانظر إلى لقطة النسوة اللاتي تهامسْنَ بالنميمة عن امرأة العزيز وحكايتها مع
يوسف، ألم يَقُلْنَ:{ مَا هَـاذَا بَشَراً إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
}[يوسف: 31]، فحين دخل عليهن اتجهت العيون له، وللعيون لغات؛ وللانفعال لغات؛ وإلا
لماذا قال يوسف:{ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ }[يوسف: 33].
وهكذا نعلم أنه قد حدثت مُقدِّمات تدل على أن النسوة نَويْنَ له مثل ما نَوَتْه
امرأة العزيز؛ وظَننَّ أن امرأة العزيز سوف تطرده؛ فيتلقفنه هُنَّ؛ وهذا دَأب
البيوت الفاسدة.
وهل هناك أفسد من بيت العزيز نفسه، بعد أن حكم الشاهد أنها هي التي راودتْ يوسف عن
نفسه؛ فيدمدم العزيز على الحكاية، ويقول:{ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَا
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }[يوسف: 29].
وكان هدف العزيز أن يحفظ مكانته من القيل والقال.
وحين سأل الشاهد النسوة، بماذا أَجبْنَ؟
يقول الحق سبحانه أن النسوة قُلْنَ:{ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ }[يوسف:
51].
وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائماً بالغُواية، وهو لا يدخل أبداً في
معركة مع الله؛ ولكنه يدخل مع خَلْق الله؛ لأن الحق سبحانه يورد على لسانه:{ قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83].
فالشيطان نفسه يُقِرُّ أن مَنْ يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز ـ هو
كشيطان ـ عَن غوايته، ولا يجرؤ على الاقتراب منه.
والشاهد الذي من أهل امرأة العزيز، واستدعاه العزيز ليتعرف على الحقيقة قال:{
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
}[يوسف: 27].
وبعد كل هذه الأدلة فليس من حَقِّ أحد أن يتساءل: هل هَمَّ يوسف بامرأة العزيز، أم
لم يَهِمّ؟
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه:
} لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ { [يوسف: 24].
والبرهان هو الحجة على الحكم. والحق سبحانه هو القائل:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:{ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }[النساء: 165].
أي: لا بُدَّ أن يبعث الحقُّ رسولاً للناس مُؤيداً بمعجزة تجعلهم يُصدِّقون المنهج
الذي يسيرون عليه؛ كي يعيشوا حياتهم بانسجام إيماني، ولا يعذبهم الله في الآخرة.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله:
} كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ { [يوسف: 24].
والفحشاء هي الزنا والإتيان؛ والسوء هي فكرة الهَمِّ، وبعض المعتدلين قالوا: إنها
بعد أن راودتْه عن نفسه؛ وخرجت بالفعل إلى مرحلة السُّعَار لحظة أن سبقها إلى
الباب؛ فكَّرتْ في أن تقتله؛ وحاول هو أن يدافع عن نفسه وأن يقتلها، ولو قتلها
فلسوف يُجازى كقاتل.
فصرف الحق عنه فكرة القتل؛ وعنى بها هنا قوله الحق " السوء "؛ ولكني
اطمئن إلى أن السوء هو فكرة الهَمِّ، وهي مُقدِّمات الفعل.
ويقرر الحق سبحانه أن يوسف عليه السلام من عباده المُخْلصين، وفي هذا رد على
الشيطان؛ لأن الشيطان قال:{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 83].
وقوله الحق هنا:
} إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ { [يوسف: 24] يؤكد إقرار الشيطان أنه لن
يَقْرب عباد الله المخلصين. وهناك " مُخْلِصِين ". و " مُخْلَصِين
" والمخلِص هو مَنْ جاهد فكسب طاعة الله، وَالمُخْلَص هو مَنْ كسَب فجاهد
وأَخلصه الله لنفسه.
وهناك أُناس يَصِلُون بطاعة الله إلى كرامة الله، وهناك أُناس يكرمهم الله فيطيعون
الله ـ ولله المثل الأعلى ـ مُنزَّه عن كل تشبيه، أنت قد يطرق بابك واحد يسألك من
فضل الله عليك؛ فتستضيفه وتُكرمه، ومرة أخرى قد تمشي في الشارع وتدعو واحداً
لتعطيه من فضل الله عليك، أي: أن هناك مَنْ يطلب فتأذن له، وهناك مَنْ تطلبه أنت
لتعطيه.
وبعد الحديث عن المراودة بما فيها من لين وأَخْذٍ ورَد؛ ينتقل بنا الحق سبحانه إلى
ما حدث من حركة، فيقول تعالى: } وَاسْتَبَقَا الْبَابَ... {.
(/1607)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
وعرفنا أن كلاهما حاول الوصول إلى الباب قبل الآخر؛ وتسابقا في هذا الاستباق،
ونلحظ أن الحق سبحانه يذكر هنا باباً واحداً؛ وكانت امرأة العزيز قد غلَّقَتْ من
قبل أكثر من باب.
لكن قول الحق سبحانه:
{ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ } [يوسف: 25].
يدلنا على أنها لحقتْ بيوسف عند الباب الأخير؛ وهي قد استبقتْ مع يوسف إلى الأبواب
كلها حتى الباب الأخير؛ لأنها تريد أن تغلق الباب لتسد أمامه المنفذ الأخير، وهذا
الاستباق يختلف باختلاف الفاعل فهي تريده عن نفسه، وهو يريد الفرار من الموقف، ثم
قدَّتْ قميصه من دُبر.
هذا دليل على أنه قد سبقها إلى الباب؛ فشدَّته من قميصه من الخلف، وتمزَّق القميص
في يدها، وقد محَّص الشاهد ـ الذي هو من أهلها ـ تلك المسألة ليستنبط من الأحداث
حقيقة ما حدث.
وقوله تعالى:
{ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ } [يوسف: 25].
أي: حدثت لهما المفاجأة، وهي ظهور عزيز مصر أمامهما؛ وصار المشهد ثلاثياً: امرأة
العزيز؛ ويوسف؛ وزوجها.
وهنا ألقت المرأة الاتهام على يوسف عليه السلام في شكل سؤال تبريري للهروب من
تبعية الطلب، وإلقاء التهم على يوسف:
{ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } [يوسف: 25].
ثم حددت العقاب:
{ إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف: 25].
ويأتي الحق سبحانه بقول يوسف عليه السلام:{ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ }[يوسف: 26].
وهنا وجد عزيز مصر نفسه بين قوليْنِ مختلفين؛ قولها هي باتهام يوسف؛ وقوله هو
باتهامها، ولا بُدَّ أن يأتي بمَن يفصِل بين القولين، وأن يكون له دِقَّة استقبال
وفَهْم الأحداث.
ويتابع الحق سبحانه: { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي... }.
(/1608)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
وتأتي كلمة " شاهد " في القرآن بمعانٍ متعددة.
فهي مرَّة تكون بمعنى " حضر " ، مثل قول الحق سبحانه:{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }[النور: 2].
وتأتي مرَّة بمعنى " علم " ، مثل قوله سبحانه:{ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ
بِمَا عَلِمْنَا }[يوسف: 81].
وتأتي " شهد " بمعنى " حكم وقضى " أي: رجَّح كلاماً على كلام
لاستنباط حق في أحد الاتجاهين. والشاهد في هذه الحالة وَثّق القرآنُ أن قرابته من
ناحية المحكوم عليه، وهو امرأة العزيز، فلو كان من طرف المحكوم له لَرُدَّتْ
شهادته.
وهكذا صار الموقف رباعياً: امرأة العزيز، ويوسف، وعزيز مصر، والشاهد، وحملت الآية
نصف قول الشاهد:
{ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ }
[يوسف: 26].
لأن معنى هذا ـ والواقع لم يكن كذلك ـ أن يوسف عليه السلام وهو مَنْ أقبل عليها؛
تدلَّى منه ثوبه على الأرض، فتعثر فيه، فتمزَّق القميص. ويتابع الله قول الشاهد: {
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ.. }.
(/1609)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
أي: أن قميص يوسف عليه السلام إن كان قُدَّ من الخلف؛ فيوسف صادق، وامرأة العزيز
كاذبة.
ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص؛ بل وضع في كلماته الأساس
الذي سينظر به إلى الأمر، وهو إطار دليل الإثبات.
وهذا ما تشرحه الآية التالية، فيقول سبحانه: { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ... }.
(/1610)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
وقول الحق سبحانه عن الشاهد القاضى: { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ... } [يوسف: 28]،
يدلُّ على أنه رتّب الحكم قبل أن يرى القميص، وقرر المبدأ أولاً في غيبة رؤية
القميص، ثم رآه بعدها، وهكذا جعل الحيثية الغائبة هي الحكم في القضية الشاغلة.
لذلك تابع قوله بما يدين امرأة العزيز:
{ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف: 28].
والكيد كما نعلم هو الاحتيال على إيقاع السوء بخفاء، ويقوم به مَنْ لا يملك القدرة
على المواجهة، وكَيْد المرأة عظيم؛ لأن ضعفها أعظم.
وتعود آيات السورة بعد ذلك إلى موقف عزيز مصر، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان
الزوج: { يُوسُفُ أَعْرِضْ... }.
(/1611)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
وبهذا القول من الزوج أنهى الحقُّ سبحانه هذا الموقف الرُّباعي عند هذا الحد، الذي
جعل عزيز مصر يُقِرُّ أن امرأته قد أخطأت، ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر
لِيَكتمه.
وهذا يبين لنا سياسة بعض أهل الجاه مع بيوتهم، وهو أمر نشاهده في عصرنا أيضاً؛
فنجد الرجل ذا الجاه وهو يتأبَّى أن يرى أهله في خطيئة، ويتأبى أكثر من ذلك فيرفض
أن يرى الغيرُ أهله في مثل هذه القضية، ويحاول كتمان الأمر في نفسه؛ فيكفيه ما حدث
له من مهانة الموقف، ولا يريد أن يشمتَ به خصومه أو أعداؤه.
وهنا مَلْحظ يجب أن نتوقف عنده، وهو قضية الإيمان، وهي لا تزال متغلغلة حتى في
المنحرفين والمتسترين على المنحرفين، فعزيز مصر يقول ليوسف:
{ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَا... } [يوسف: 29].
ويقول لزوجته:
{ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } [يوسف: 29].
وهو في قوله هذا يُقِرُّ بأن ذنباً قد وقع؛ وهو لن يُقِرَّ بذلك إلا إذا كان قد
عرف عن الله منهجاً سماوياً، وهو في موقف لاَ يسعه فيه إلا أن يطلب منها أن تستغفر
الله.
وبعد أن كان المشهد رباعياً: فيه يوسف، وامرأة العزيز، والعزيز نفسه، ثم الشاهد
الذي فحص القضية وحكم فيها، ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع؛ وهو دائرة
المجتمع الذي وقعتْ فيه القضية.
وهذا يدل على أن القصور لا أسرار لها؛ لأن لأسرار القصور عيوناً تتعسس عليها،
وألسنة تتكلم بها؛ حتى لا يظن ظان أنه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة؛ لأن هناك
مَنْ سوف يكشفها مهما بلغتْ قدرة صاحبها على التستُّر والكتمان.
وقد تلصص البعض من خدم القصر؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النسوة.
ويحكي القرآن الموقف قائلاً: { وَقَالَ نِسْوَةٌ.. }.
(/1612)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
وكلمة " النسوة " ، وكلمة " نساء " تدلُّ على الجماعة، لكن
مفردَ كلٍّ منهما ساقط في اللغة، فمفرد " نسوة " امرأة؛ ومفرد "
نساء " أيضاً هو " امرأة ".
ومن العجيب أن المفرد، وهو كلمة " امرأة " له مثنى هو " امرأتان
" ، لكن في صيغة الجمع لا توجد " امراءات " ، وتوجد كلمة نسوة اسم
لجماعة الإناث، واحدتها امرأة، وجمعها نساء.
وقد قالت النسوة: { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ }
[يوسف: 30].
وما قُلْنَه هو الحق؛ لكنهن لم يَقُلْنَ ذلك تعصباً للحق، أو تعصباً للفضيلة.
وشاء سبحانه أن يدفع هذه المقالة عنهن، ففضح الهدف المختفي وراء هذا القول في
الآية التالية حين قال:{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً
وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـاذَا بَشَراً إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ
مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ... }[يوسف:
31-32].
والمكر هو سَتْر شيء خلف شيء، وكأن الحق يُنبِّهنا إلى أن قول النسوة لم يكن غضبةً
للحق؛ ولا تعصباً للفضيلة، ولكنه الرغبة للنِّكاية بامرأة العزيز، وفَضْحاً للضلال
الذي أقامت فيه امرأة العزيز.
وأردْن ـ أيضاً ـ شيئاً آخر؛ أن يُنزِلْنَ امرأة العزيز عن كبريائها، وينشرن
فضيحتها، فَأتيْنَ بنقيضين؛ لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
فهي امرأة العزيز، أي: أرفع شخصية نسائية في المجتمع، قد نزلت عن كبريائها كزوجة
لرجل يُوصَفُ بأنه الغالب الذي لا يُغلب؛ لأن كلمة " العزيز " مأخوذة من
المعاني الحسية.
فيُقال: " الأرض العَزَاز " أي: الأرض الصخرية التي يصعب المشي عليها،
ولا يقدر أحد أنْ يطأها؛ ومن هذا المعنى جاءت كلمة " العزيز ".
فكيف بامرأة العزيز حين تصير مُضْغة في الأفواه؛ لأنها راودتْ فتاها وخادمها عن
نفسه؛ وهو بالنسبة لها في أدنى منزلة، وتلك فضيحة مزرية مشينة.
وقالت النسوة أيضاً:
{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } [يوسف: 30]
والحب منازل؛ وأول هذه المنازل " الهوى " مثل: شقشقة النبات، ويُقال:
" رأى شيئاً فهواه ".
وقد ينتهي هذا الهَوَى بلحظة الرؤية، فإذا تعلَّق الإنسان بما رأى؛ انتقل من الهوى
إلى العَلاقة.
وبعد ذلك يأتي الكلف؛ أي: تكلَّف أن يصل إلى ما يطلبه من هذه العَلاقة. ثم ينتقل
بعد ذلك إلى مرتبة فيها التقاء وهي العشق، ويحدث فيها تبادل للمشاعر، ويعلن كل طرف
كَلَفه؛ ولذلك يسمونه " عاشق ومعشوق ".
ثم ينتقل إلى مرحلة اسمها " التدليه "؛ أي: يكاد أن يفقد عقله. ثم يصير
الجسم إلى هُزَال ويقال " تبلت الفؤاد " أي: تاه الإنسان في الأمر.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الهُيَام، أي: يهيم الإنسان على وجهه؛ فلا يعرف له هدفاً،
فإن تبع ذلك جرم صار اسمه " جوى ".
تلك هي مراحل الحب التي تمر بالقلب، والقلب ـ كما نعلم ـ هو الجهاز الصنوبري،
ويسمونه مَقَرّ العقائد المنتهية، والتي بحثها الإنسان واعتقدها بالفعل.
فالإنسان منا يدرك الأشياء بحواسه الظاهرة، يرى ويشُمُّ ويسمع ويذوق ويلمس، فإذا
أدرك بعضاً من الأمور؛ فهو يعرضها على العقل ليوازن بينها؛ ويختار الأكثر قبولاً
منه، وبعد ذلك تذهب تلك الأمور المقبولة إلى القلب؛ لتستقر عقيدة فيه لا يحيد
عنها.
أما المسائل العقلية؛ فقد تأتي مسائل أخرى تزحزحها؛ ولذلك يُقال للأمور التي
استقرت في القلب " عقائد " ، أي: شيء معقود لا ينحل أبداً.
وما يصل إلى هذه المرتبة يظهر أثره في إخضاع سلوك حركة الحياة عليه، وإذا ما استقر
المبدأ في نفس الإنسان؛ فهو يجعل كل حركته في ظل هذا المبدأ الذي اعتقده.
وهكذا نعرف: كيف تمرُّ العقيدة بعدَّة مراحل قبل أن تستقر في النفس، فالإدراك يحدث
أولاً؛ ثم التعقُّل ثانياً؛ وبعد ذلك يعتقد الإنسان الأمر، ويصبح كل سلوك من بعد
ذلك وِفْقاً لما اعتقده الإنسان.
وكلمة: } شَغَفَهَا حُبّاً.. { [يوسف: 30].
تعني أن المشاعر انتقلتْ من إدراكها إلى عقلها إلى قلبها، والشغاف هو الغِشَاء
الرقيق الذي يستر القلب؛ أي: أن الحب تمكَّن تماماً من قلبها.
وقولهن:
} إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [يوسف: 30].
هو قول حَقٍّ أُريد به باطل.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما يفضح مَقْصِدهن: } فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ... {.
(/1613)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
ولسائل أن يقول: وكيف انتقل لَهُنَّ الكلام عن الذي حدث بينها وبين يوسف؟
لا بُدَّ أن هناك مرحلة بين ما حدث في القصر؛ وكان أبطاله أربعة هم: العزيز،
وامرأته، ويوسف، والشاهد، ولا بد أن يكون مَنْ نقل الكلام إلى خارج القصر؛ إنسان
له علاقتان؛ علاقة بالقصر فسمع ورأى وأدرك؛ ونقل ما علم إلى مَنْ له به علاقة خارج
القصر.
وبحث العلماء عن علاقة النسوة اللاتي ثرثرن بالأمر، وقال العلماء: هُنَّ خمسة
نساء: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة الحاجب، وامرأة صاحب الدواب (أي: سائس
الخيل)، وامرأة السجان.
وهؤلاء النسوة يَعِشْنَ داخل بيوتهن؛ فمَنِ الذي نقل لَهُنَّ أسرار القصر؟
لا بُدَّ أن أحداً من أزواجهن قد أراد أن يُسلِّي أهله، فنقل خبر امرأة العزيز مع
يوسف عليه السلام؛ ثم نقلتْ زوجته الخبر إلى غيرها من النسوة.
وحين وصل إلى امرأة العزيز الخبر؛ وكيف يمكرن بها؛ أرسلت إليهن:
{ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ
سِكِّيناً.. } [يوسف: 31].
والمتكأ هو الشيء الذي يستند إليه الإنسان حتى لا يطول به مَلَلٌ من كيفية
جِلْسته، والمقصود بالقول هو أن الجلسة سيطول وقتها، وقد خططتْ لتكشف وَقْعَ رؤية
يوسف عليهن، فقدَّمتْ لكل منهن سكيناً؛ وهو ما يوحي بأن هناك طعاماً سوف يؤكل.
ويتابع الحق سبحانه:
{ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ... } [يوسف:
31].
ويُقال: أكبرْتَ الشيء، كأنك قد تخيَّلته قبل أن تراه على حقيقته؛ وقد يكون خيالك
قد رسم له صورة جميلة، إلا أنك حين ترى الشيء واقعاً؛ تكبر المرائي عن التخيُّل.
والمثل أن إنساناً قد يُحدِّثك بخير عن آخر؛ ولكنك حين ترى هذا الآخر تُفاجأ بأنه
أفضل مما سمعتَ عنه.
والشاعر يقول:كَادَتْ مُسَاءلةُ الرُّكْبانِ تُخبِرني عن جَعْفرِ بنِ حبيبٍ أصدقَ
القيمحتَّى التقيْنَا فَلا واللهِ مَا سَمِعتْ أُذني بأطيبَ مِمَّا قَدْ رأى
بَصَرِيويقولون في المقابل: سماعك بالمعيدي خير من أن تراه. أي: يا ليتك قد ظللتَ
تسمع عنه دون أن تراه؛ لأن رؤيتك له ستُنقِص من قدر ما سمعت.
وهُنَّ حين آذيْنَ امرأة العزيز بتداول خبر مُراودتها له عن نفسه، تخيَّلْنَ له
صورةً ما من الحُسْن، لكنهُنَّ حين رأَيْنَهُ فاقتْ حقيقته المرئية كل صورة
تخيَّلْنَها عنه؛ فحدث لهُنَّ انبهار.
وأول مراحل الانبهار هي الذهول الذي يجعل الشيء الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون
بصدده؛ فإن كان في يدك شيء قد يقع منك.
وقد قطعتْ كلٌ منهن يدها بالسكين التي أعطتها لها امرأة العزيز لتقطيع الفاكهة، أو
الطعام المُقدَّم لَهُنَّ.
وقال الحق سبحانه في ذلك:
{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف: 31].
وهل هناك تصوير يوضح ما حدث لَهُنَّ من ذهول أدقّ من هذا القول؟
ويتابع سبحانه:
{ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـاذَا بَشَراً إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
} [يوسف: 31].
وكلمة: } حَاشَ... { [يوسف: 31].
هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خَلْق هذا الجمال المثالي، أو: أنهُنَّ قد
نَزَّهْنَ صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز، أو: أن
يوسف عليه السلام لا بد أن يكون قد خرج عن صورة أرقى من صورة الإنس التي يعرفنها؛
فقُلْنَ: لا بدّ أنه مَلَكٌ كريم.
وصورة الملك كما نعلم هي صورة مُتخيَّلة؛ والإنسان يحكم على الأشياء المُتَخيَّلة
بما يناسب صورتها في خياله، مثلما نتخيل الشيطان كأبشع ما تكون الصورة.
والبشاعة نفسها تختلف من واحد إلى آخر؛ فما تراه بَشِعاً قد لا يراه غيرك كذلك؛
لأن مقاييس القبح أو الجمال تختلف من أمة إلى أخرى.
فالمرأة الجميلة في أواسط أفريقيا في نظر الرجل هي ذات الشفاه الغليظة جداً؛ أو
صاحبة الشعر المُجعَّد والمُتموج.
وأكدت الحضارة الحديثة أن هذا لونٌ من الجمال ينجذب إليه الرجل في بعض الحالات؛
بدليل أن بعضاً من السيدات ذوات الشعر الناعم للغاية يذهبْن إلى مُصفِّفة الشعر،
ويطلبْنَ منها تجعيد شعورهن.
إذن: فالجمال يُقاس بالأذواق؛ هذا يرى جمالاً قد يراه غيره غير هذا؛ وذاك يرى
جمالاً لا يراه غيره كذلك.
والحق سبحانه يقذف معايير الجمال في النفس الإنسانية على قَدْر مُقوِّمات الالتقاء
في الانسجام.
ولذلك يُقال في الريف المصري هذا المثل " كل فُولة ولها كَيَّال ".
ونجد شاباً يتقدم لفتاة يرغب في الزواج منها؛ وما أنْ يراها حتى ينفر منها، ويتقدم
لها شاب آخر فيقع في هَواها، ويتعجَّل الزواج منها، وهذا يعني أن مقاييس الأول
تختلف عن مقاييس الثاني.
وحين يشاء الحق سبحانه أن يجمع بين اثنين فلا أحدَ بقادر على أن يمنع القبول من كل
طرف للطرف الآخر؛ وهذه مسألة لها من الأسرار ما لا نعرفه نحن؛ لأنه سبحانه الذي
يكتب القبول؛ ويُظهِر في المرأة جمالاً قد يجذب رجلاً ولا يجذب رجلاً آخر، ونفسَ
المسألة تحدث في نفسية المرأة.
إذن: فحين رأت النسوة يوسف عليه السلام؛ قُلْنَ:
} مَا هَـاذَا بَشَراً إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ { [يوسف: 31].
وهذا يعني أن يوسف هو الصورة العليا في الجمال التي لا يوجد لها مثيل في البشر.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز رداً عليهن: } قَالَتْ
فَذالِكُنَّ.... {.
(/1614)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
وكأنها وجدت الفرصة لتثبت لنفسها العذر في مراودتها له، فيوسف باعترافهن قد بلغ من
الجمال ما لا يوجد مثله في البشر.
وقولها: { فَذالِكُنَّ } [يوسف: 32]، مُكوَّن من " ذا " إشارة ليوسف، و
" ذلِكُنَّ " خطاب للنسوة، والإشارة تختلف عن الخطاب.
وهنا موقف أسلوبي؛ لأن الكلام حين يُنطق به، أو حين يُكتب لِيُقْرأ؛ له ألوان
متعددة، فمرة يكون نثراً لا يجمعه وزن أو قافية؛ وقد يكون نثراً مسجوعاً أو
مُرْسَلاً، ومرة يكون الكلام شعراً محكوماً بوزن وقافية.
والمثل على النثر المسجوع هو قول الحق سبحانه:{ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ
* فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ }[الطور: 1-4].
وهذا نثر مسجوع بلا تكلُّف، وأنت إذا سمعت أو قرأت كلاماً؛ فأذنك تأخذ منه على قدر
سُمُوِّ أسلوبه، لكنك إن انتقلت من أسلوب إلى أسلوب، فأذنك تلتقط الفارق بين
الأسلوبين.
والمثل نجده في الرسالة التي كتبها ابن زيدون مُسْتعطفاً ابن جهور: " هذا
العَتْب محمودٌ عواقبه، وهذه الغَمْرة نَبْوة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي إنْ
أبطأ سببه أو تأخر، غير ضنين ضناه، فأبطأ الدِّلاء قَبْضاً أملؤها، وأثقلُ السحابِ
مشياً أعقلها، ومع اليوم غد. ولكل أجل كتاب، له الحمد على اهتباله، ولا عَتْب عليه
في اغتفاله.فإنْ يَكُن الفعلُ الذي سَاء واحداً فَأفْعالُه اللاتي سَرَرْنَ
أُلوفُوهكذا تشعر انتقال ابن زيدون من النثر إلى الشعر، ولكنك وأنت تقرأ القرآن،
تنتقل من النثر المُرْسل إلى النثر المسجوع إلى النظم الشعري على وزن بحور الشعر،
فلا تكاد تفرق في الأسلوب بين شعر أو نثر.
والمثل نجده في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي } [يوسف: 32].
فهي موزونه من بحر البسيط، ولكنك لا تشعر أنك انتقلت من نثر إلى شعر.
وكذلك قوله الحق:{ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
}[النور: 46].
وأيضاً قوله الحق:{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
}[الحجر: 49].
وتأتي تلك الآيات في مواقع قد يكون ما قبلها نثراً، مما يدلُّ على أن النغم الذي
قاله الله نَظْماً أو شعراً أو نثراً لا نشاز فيه، ويكاد أن يكون سَيْلاً واحداً.
وهذا لا يتأتَّى إلا من كلام الحق تبارك وتعالى، وأنت لن تشعر بهذا الأمر لو لم
يُنبِّهْك أحد لِمَا في بعض الآيات من وزن شعري.
أما كلام البشر؛ فأنت إنْ قرأتَ الموزون؛ ثم انتقلت إلى المنثور؛ أحسَّتْ أُذنك
بهذا الانتقال؛ ونفس المسألة تشعر بها حين تقرأ المنثور، ثم تنتقل إلى الموزون؛
وستشعر أذنك بهذا الانتقال.
{ قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ
فَاسَتَعْصَمَ } [يوسف: 32].
قالت ذلك بجراءة مَنْ رأت تأثير رؤيتهن ليوسف، وأعلنت أنه " استعصم " ،
وهذا يعني أنه قد تكلَّف المشقة في حجز نفسه عن الفعل، وهو قول يثبت أن رجولة يوسف
غير ناقصة، فقد جاهد نفسه لِيكبتَها عن الفعل.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز:
} وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن
الصَّاغِرِينَ { [يوسف: 32].
قالت ذلك وكأنها هي التي تُصدِر الأحكام، والسامعات لها هُنَّ من أكبرْنَ يوسف
لحظة رؤيته؛ تعلن لهُنَّ أنه إن لم يُطِعْها فيما تريد؛ فلسوف تسجنه وتُصغِّر من
شأنه لإذلاله وإهانته.
أما النِّسْوة اللاتي سَمِعْنَها؛ فقد طمعتْ كل منهن أن تطرد امرأة العزيز يوسف من
القصر؛ حتى تنفرد أي منهن به.
ولذلك يُورِد لنا الحق سبحانه قول يوسف عليه السلام: } قَالَ رَبِّ... {.
(/1615)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
ولسائل أن يقول: ولماذا جاء قول يوسف بالجمع، وقال:
{ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف: 33].
على الرغم من أن امرأة العزيز هي التي قالت:{ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ
لَيُسْجَنَنَّ }[يوسف: 32].
ونقول: لا بُدَّ أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشاراتٍ أو غمزات تُوحي له بألاّ
يُعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدي به إلى السجن؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في
قوله المفرد ـ امرأة العزيز ـ في جمع النسوة اللاتي جمعتُهنَّ امرأة العزيز،
وهُنَّ اللاتي طلبْنَ منه غَمْزاً أو إشارة أن يُخرج نفسه من هذا الموقف.
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته، وللعيون والانفعالات
وقَسَمات الوجه تعبير أبلغ من تعبير العبارات، وقد تكون إشارات عُيونهن قد دَلَّتْ
يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن، وفي مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة
العيون دوراً هاماً.
وها هو ذا أبو دلامة الشاعر وقد جلس في مجلس الخليفة، وكان أبو دلامة مشهوراً
بقدرة كبيرة على الهجاء. وأراد الخليفة أن يداعبه فقال له: عزمتُ عليك إلا هجوتَ
واحداً منا.
ودارت عيون في المجلس، وأشار له كل مَنْ حضر المجلس خُفيةً بأنه سيُجزل له العطاء
إن ابتعد أبو دلامة عن هجائه؛ ولأن أبا دلامة معروفٌ بالطمع، وخشي أن يضيع منه
أيُّ شيء من العطايا؛ لذلك قام بهجاء نفسه؛ وقال:ألا أبـلغْ لدَيْك أباَ دلامة
فليسَ منَ الكِرامِ ولاَ كرامهإذَا لَبِسَ العِمَامةَ كان قِرداً وخِنْزِيراً إذا
خـلَع العِمَامهوهكذا خرج من قسم الأمير؛ وكسب العطايا التي وعده بها من حضروا
المجلس.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة
العزيز مع النسوة؛ فقال:
{ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف: 33].
أي: أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء، أو يوافق
النسوة على دعوتهن له أن يُحرِّر نفسه من السجن بأن يستجيب لها، ثم يخرج إليهن من
القصر من بعد ذلك.
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه، فقال:
{ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ
الْجَاهِلِينَ } [يوسف: 33].
ولسائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلْ يوسف " يا إلهي " وهو يعلم أن مناط
التكليف في الألوهية بـ " افعل " و " لا تفعل "؟
نقول: أراد يوسف أن يدعو ربه باسم الربوبية اعترافاً بفضله سبحانه؛ لأنه هو جَلَّ
وعلا مَنْ ربَّاه وتعهّده؛ وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألاَّ يتخلى عنه في هذا
الموقف.
فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإنْ لم يصرف الله عنه كيدهُنَّ؛ لاستجاب
لغوايتهن، ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفون إلى عواقب الأمور.
وعلى الرغم من أن السجن أمر كريه؛ إلا أنه قد فضَّله على معصية خالقه، ولأنه لجأ
إلى المُربِّي الأول. لتأتي الاستجابة منه سبحانه.
يقول الحق: { فَاسْتَجَابَ لَهُ... }.
(/1616)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
وهكذا تفضَّل عليه الله الذي خلقه وتولّى تربيته وحمايته، فصرف عنه كيدهُنَّ؛ الذي
تمثل في دَعْوتِهنَّ له أن يستسلم لِمَا دَعتْه إليه امرأة العزيز، ثم غُوايتهن له
بالتلميح دون التصريح.
تلك الغواية التي تمثلت في قول الملك من بعد ذلك:{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ
رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ
مِن سُوءٍ... }[يوسف: 51].
وهكذا أنجاه الله من مَكْر النسوة؛ وهو جَلَّ وعَلا له مُطْلق السمع ومُطْلق
العلم، ولا يخفى عليه شيء، ويستجيب لأهل الصدق في الدعاء. ويقول الحق سبحانه بعد
ذلك: { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ... }.
(/1617)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
وبعد أن ظهرتْ العلامات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلام أمام العزيز وأهل
مشورته، وانكشف لهم انحرافُ امرأة العزيز وإصرارها على أن تُوقِع بيوسف في الفعل
الفاضح معها، دون خجل أو خوف من الفضيحة.
لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يُوضَع يوسف عليه السلام في السجن؛ ليكون في ذلك
فَصْلٌ بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا
السوء الذي ظهر في بيت العزيز.
كما أن كلمة: { لَيَسْجُنُنَّهُ } [يوسف: 35].
فيها نوع من استبقاء الحب الذي يُكِنُّه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه
بعيداً؛ بل احتفظ به بعيداً عن الزوجة المُصِرَّة على الخيانة، وعن المجتمع الذي
يَلُوكُ تلك الوقائع.
والسجن ـ كما نعلم ـ هو حَبْس المسجون لتقييد حركته في الوجود؛ وهو إجراء يتخذه
القاضي أو الحاكم كعقوبة يُراد بها إذلال المسجون، أو وقاية المجتمع من شرِّه.
ونعلم أن الإنسان لا يجتريء على الأحكام إلا حين يظن أو يعلم أن له قدرة؛ وله
غلبة؛ فيعلن له القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة، ويأمر بدخوله إلى
السجن ويحرس تقييد حريته سَجَّان؛ وقد يتعرض للضرب أو الإهانة.
هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة، حين تعزل المسجون عن
المجتمع، وقد يعطف عليه بعض من أبناء المجتمع، ويزوره بعضٌ من أقاربه؛ ومعهم
المأكولات؛ والمطلوبات.
ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين عزل المجتمع الإيماني
عن السجين، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يُكلِّم أحد الثلاثة الذين
تخلفوا عن الخروج معه للقتال بحجج واهية؛ بل وتسامى هذا العزل إلى أن صار عَزْلاً
عن الأهل، إلى أن أمر صلى الله عليه وسلم بإنهاء هذا العزل بعد أن تحقق الغرض منه.
وماذا عن حال يوسف في السجن؟
يقول الحق سبحانه: { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ.... }.
(/1618)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
المعية التي دخل فيها اثنان من الفتية معه السجن هي معية ذات، وقِيلَ: إنهما
الخبَّاز والساقي، وقيل: إن سبب دخولهما هو رغبة بِطَانة عزيز مصر في التشويش على
ما حدث من فضيحة كبرى؛ هي فَضيحة مراودة امرأة العزيز ليوسف؛ ورفض يوسف لذلك.
وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز؛ وأن الساقي والخباز قد تم ضبطهما
بمحاولة وضع السُّمِّ للعزيز.
وبعد فترة من حياة الاثنين مع يوسف داخل السجن، وبعد معايشة يومية له تكشَّف لهما
سلوك يوسف كواحد من المحسنين.
وحدث أن رأى كل منهما حُلْماً، فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحُلْمين، والسجين
غالباً ما يكون كثير الوساوس، وغير آمن على غَدِه؛ ولذلك اتجها إليه في الأمر الذي
يُهِمهم:
{ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي
أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا
بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36].
ومن سياق الكلام نعرف أننا أمام حُلْمين؛ فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر
خمراً، ورأى الثاني أنه يحمل خُبْزاً فوق رأسه تأكل منه الطير، واتجه كلاهما ـ أو
كُلٌّ منهما على حِدَة ـ يطلبان ـ تأويل الرؤيتين المناميتيْنِ، أو أنهما قد طلبا
نبأ تَأويل هذا الأمر الذي رأياه.
وحيثية لجوئهما إليه هو قولهما:
{ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 36].
وهذا يدل على أن الإحسان أمر معلوم لكل البشر، حتى أصحاب النفوس المنحرفة، فلا أحد
يمكن أن يحكم على آخر أنه محسن إلا إذا وافق عملُه مقاييسَ الإحسان في ذهن مَنْ
يصدر هذا الحكم.
فكل نفس تعرف السوء، وكل نفس تعرف الإحسان، ولكن الناس ينظرون إلى الإحسان وإلى
السوء بذاتية أنفسهم، ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون، ونظروا
إلى أيِّ أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم؛ لَعرفوا أن الإحسان قَدْر مشترك بين
الجميع.
ونجد اللص ـ على سبيل المثال ـ لا يسيئه أن يسرق أحداً، لكن يسيئه لو أن أحداً قام
بسرقته، وهكذا نرى الإحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه، ويعرف حينئذ
مقام الإحسان، ولكنه حين يمارس السرقة؛ ويكون السوء متوجهاً منه إلى الغير؛ فهو
يغفل عن مقام الإحسان.
إذن: إنْ أَردتَ أن تعرف مقام الإحسان في مقاييس الفضائل والأخلاق؛ فافهم الأمر
بالنسبة لك إيجاباً وسَلْباً.
والمثال الذي أضربه دائماً هو: قبل أن تَمُدَّ عينيك إلى محارم غيرك، وتعتبر أن
هذا ليس سوءً، هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحُسْن إن نقلتَ الأمر إلى الصورة
العكسية؛ حين تتجه عيون الغير إلى محارمك.
هنا ستجد الميزان ـ ميزانك للأمور ـ وقد اعتدل.
وإذا أردتَ اعتدال الميزان في كل فعل؛ فانظر إلى الفعل يقع منك على غيرك؛ وانظر
إلى الفعل يقع من الغير عليك؛ وانظر إلى الراجح في نفسك من الأمرين ستجد قب الميزان
منضبطاً.
وأقول دائماً: إن الحق سبحانه حين حرَّم عليك أن تسرق غيرك، لم يُضيِّق حريتك؛ بل
ضيِّق حرية الملايين كي لا يسرقوك، وهذا مكسب لك.
إذن: فالذي يعرف مقام الإحسان؛ لا ينسب الفعل الصادر منه على الغير؛ والفعل الصادر
من الغير عليه؛ بل ينظر إليهما معاً؛ فما استقبحه من الغير عليه؛ فليستقبحه منه
على الغير.
وقد حكم السجينان على يوسف أنه من المحسنين، وعَلِم يوسف عليه السلام من حكمهما
عليه أن مقاييس الإحسان موجودة عندهما؛ ولذلك نظر إلى الأمر الذي جاءاه من أجله،
واستغل هذه المسألة؛ لا لقضاء حاجتهما منه؛ ولكن لقضاء حاجته منهما.
فقد رأى فيهما شبهة الإيمان بالإحسان؛ والإيمان بالمحسنين، فلماذا لا ينتهز الفرصة
فيأخذ حاجته منهما؛ قبل أن يعطيهما حاجتهما منه؟
وكأنه قال لهما: ماذا رأيتُما من إحساني؟ هل رأيتم حُسْن معاملتي لكم؟ أم أن كلاً
منكما قد رأى دقة اختياري للحَسَن من القول؟ وأنتما قد لا تعرفان أن عندي ـ بفضل
الله ـ ما هو أكثر، وهو ما يقوله الحق سبحانه بعد ذلك في الآية التالية: } قَالَ
لاَ يَأْتِيكُمَا... {.
(/1619)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
وبذلك أوضح لهما أنهما لا يريان منه إلا الظاهر من السلوك، ولكن هناك أمور مخفية،
وكأنه يُنمي فيهما شعورهما بمنزلته وبإحسانه وبقدرته على أن يخبرهما بأوصاف ونوع
أيِّ طعام يُرزَقانِه قبل أن يأتي هذا الطعام.
وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عِنْدياته، ولكنها من علم تلقَّاه عن الله، وهو
أمر يُعلِّمه الله لعباده المحسنين؛ فيكشف الله لهم بعضاً من الأسرار.
وهما ـ السجينان ـ يستطيعان أن يكونا مثله إنْ أحسناً الإيمان بالله. ولذلك يتابع
الحق سبحانه:
{ ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [يوسف: 37].
وكأنه بذلك يهديهما إلى الطريق الذي يجعلهما من المحسنين الذين يعطيهم الله بعضاً
من هِبَات الخير، فيعلمون أشياء تَخْفى على غيرهم.
وهذا يدلُّنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مَخِيلَة خير فَلْينمي هذه
المخيلة فيه ليصل إلى خير أكبر؛ وبذلك لا يحتجز الخصوصية لنفسه حتى لا يقطع الأسوة
الحسنة؛ ولكي يُطمِع العباد في تجليات الله عليهم وإشراقاته.
ولذلك أوضح يوسف عليه السلام للسجينين أنه ترك مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله بما
يليق الإيمان به سبحانه، ولا يؤمنون بالبعث والحساب ثواباً بالجنة، أو عقاباً في
النار.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ...
}.
(/1620)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
وبذلك أوضح يوسف عليه السلام أنه ترك مِلَّة القوم الذين لا يعبدون الله حَقَّ
عبادته، ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب، وهم مَنْ
أرسلهم الله لهداية الخلق إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالآخرة ثواباً بالجنة
وعذاباً بالنار.
وذلك من فضل الله بإنزاله المنهج الهادي، وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف
التبليغ عنه سبحانه؛ ولذلك ما كان لِمَنْ يعرف ذلك أنْ يشرك بالله، فالشرك بالله
يعني اللجوء إلى آلهة متعددة.
يقول الحق سبحانه:{ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ
بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا
يَصِفُونَ }[المؤمنون: 91].
فلو أن هناك آلهة غير الله سبحانه لصنع كلُّ إله شيئاً لا يقدر على صُنْعه الإله
الآخر؛ ولأصبح الأمر صراعاً بين آلهة متنافرة.
ومن فضل الله ـ هكذا أوضح يوسف عليه السلام ـ أن أنزل منهجه على الأنبياء؛ ومنهم
آباؤه إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لِيُبلغوا منهجه إلى خَلْقه، وهم لم يحبسوا هذا الفضل
القادم من الله، بل أبلغوه للناس.
{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } [يوسف: 38].
وساعة تقرأ أو تسمع كلمة: { لاَ يَشْكُرُونَ } [يوسف: 38] اعلم أن الأمر الذي أنت
بصدده هو في مقاييس العقل والفطرة السليمة يستحق الشكر، ولا شُكْر إلا على النعمة.
ولو فَطِنَ الناس لَشكروا الأنبياء والرسل على المنهج الذي بلَّغوه عن الله؛ لأنه
يهديهم إلى حُسْن إدارة الدنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما واصله يوسف من حديثه للسجينين: { ياصَاحِبَيِ
السِّجْنِ.... }.
(/1621)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
وكلمة " صاحب " معناها ملازم؛ والجامع بين يوسف والسجينين هو السجن،
ونحن نقول " فلان صاحب الدراسة " أو " صاحب حج " ، الشيء الذي
يربط بين اثنين أو أكثر، إما أن تنسبه للمكان، أو تنسبه إلى الظرف الذي جمع بين
تلك المجموعة من الصحبة.
وطرح يوسف السؤال:
{ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
[يوسف: 39] وحين تطرح سؤالاً عبر مقابل لك، فأنت تعلم مُقدَّماً أنه يفهم أن
أرباباً متفرقون ليسوا خيراً من إله واحد، وكأن يوسف قد وَثِق من أن إجابتهما لن
تكون إلا بقولهم " بل عبادة إله واحد خير ".
وهو لم يكُنْ ليسأل إلاَّ إذا عرف أنهما سيُديرانِ كل الأجوبة؛ فلا يجدان جواباً
إلا الجواب الذي أراده.
فهما قد عبدا آلهة متعددة؛ وكان المفروض في مقاييس الأشياء أن تُغنِيكم تلك الآلهة
عن اللجوء لمن يعبد الإله الواحد.
إذن: في قُوَى البشر نجد التعدد يُثْرِي ويُضخِّم العمل، لكن في الألوهية نجد
الشرك يُضعِف العمل.
ولذلك نجد الصوفي يقول: اعمل لوجه واحد يكفيك كل الأوجه. ولذلك قال يوسف عليه
السلام لصاحبي السجن:
{ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ... } [يوسف: 39].
ولو كان تفرُّقهم تفرُّقَ ذواتٍ لكانوا بلا كمال يستحقون من أجله العبادة، ولو كان
تفرُّقهم تفرُّقَ تَكرار لما كان لهذا التكرار لزوم، ولو كان تفرُّقهم تفرُّق
اختصاصات، فهذا يعني أن لكل منهم نقطةَ قوة ونقاطَ ضعف؛ وتفرُّقهم هذا دليل نقص.
ولذلك رحمنا الحق نحن المؤمنين به لنعبد إلهاً واحداً، فقال:{ ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ
هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
}[الزمر: 29].
وقد حاول يوسف عليه السلام أن يهديهم إلى عباد الإله الواحد، وقال لهم من بعد ذلك
ما جاء به الحق سبحانه: { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ... }.
(/1622)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
ونلحظ أن يوسف ـ عليه السلام ـ لم يتكلم حتى الآن مع السجينين عن مطلوبهما منه،
وهو تأويل الرُّؤيَتَيْنِ، وهو لو تكلم في المطلوب منه أولاً؛ لانصرف ذِهْن
وانتباه كُلٍّ من السجينين إلى قضاء حاجتهما منه؛ ولن يلتفتا بعد ذلك إلى ما يدعو
إليه؛ ولأن الذي يدعو إليه هو الأمر الأبْقى، وهو الأمر العام الذي يتعلق بكل حركة
من حركات الحياة.
وبذلك كان يوسف عليه السلام يؤثر السجينين؛ فقد أراد أن يلفتهما إلى الأمر الجوهري
قبل أن يتحدث عن الجزئية الصغيرة التي يسألانِ فيها؛ وأراد أن يُصحِّح نصرة
الاثنين إلى المنهج العام الذي يدير به الإنسان كل تفاصيل الحياة وجزئياتها؛ وفي
هذا إيثار لا أثرة.
وهنا قال الحق سبحانه على لسان يوسف عليه السلام:
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ
وَآبَآؤُكُمْ... } [يوسف: 40].
أي: أن ما تعبدونه من آلهة مُتعدِّدة هو مُجرَّد عبادة لأسماء بلا معنى ولا وجود؛
أسماء ورثتموها عن آبائكم أو أنشأتموها أنتم، فكفرتُمْ بإنشاء أسماء لآلهة غير
موجودة، كما كفر آباؤكم كُفْر نسيان التكليف أو إنكار التكليف.
وتُوضع الأسماء عادةً للدلالة على المُسمَّى؛ فإذا نطقنا الاسم تجيء صورة المسمى
إلى الذِّهْن؛ ولذلك نسمي المولود بعد ولادته باسم يُميِّزه عن بقية إخوته؛ بحيث
إذا أُطلِق الاسم انصرف إلى الذات المشخصة.
وإذا أُطلق اسم واحد على متعددين؛ فلا بد أن يوضح واضع الاسم ما يميز كل ذات عن
الأخرى.
والمَثل من الريف المصري؛ حين يتفاءل أب باسم " محمد "؛ فيسمِّي كل
أولاده بهذا الاسم، ولكنه يُميِّز بينهم بأن يقول: " محمد الكبير " و
" محمد الأوسط " و " محمد الصغير ".
أما إذا وُضِع اسم لمُسمَّى غير موجود؛ فهذا أمر غير مقبول أو معقول، وهم قد وضعوا
أسماء لآلهة غير موجودة؛ فصارت هناك أسماء على غير مُسمَّى.
ويأتي هؤلاء يوم القيامة؛ لِيُسألوا لحظة الحساب:{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا
كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ قَـالُواْ ضَـلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ
نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ
}[غافر: 73-74].
وهكذا يعترف هؤلاء بأنه لم تَكُنْ هناك آلهة؛ بل كان هنا أسماء بلا مُسمَّيات.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ
وَآبَآؤُكُمْ } [يوسف: 40]. وكأن يوسف يتساءل: ءَإذا كانت لكم حاجة تطلبونها من
السماء، هل ستسألون الاسم الذي لا مُسمَّى له؟
وهل يسعفكم الاسم بدون مُسمَّى؟
ويوسف عليه السلام يعلم أن المعبود لا يمكن أن يكون اسماً بلا مُسمَّى، وهو يعلم
أن المعبود الحق له اسم يبلغه لرسله، ويُنزِل معهم المنهج الذي يوجز في "
افعل " و " لا تفعل ".
وهم قد سموا أسماء لا مُسمَّى لها، ولا يستطيع غير الموجود أن يُنزِل منهجاً، أو
يُجيب مضطراً.
ولذلك يتابع القرآن ما جاء على لسان يوسف عليه السلام في وَصْف تلك الأسماء التي
بلا مُسمَّيات، فيقول:
} مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ
وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ { [يوسف: 40].
أي: ما أنزل الله بها من حجة.
وتتابع الآية الكريمة ما جاء على لسان يوسف:
} إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ... {
[يوسف: 40].
أي: إنني ـ والكلام ليوسف ـ إن قلتُ شيئاً فلأنِّي ناقلٌ للحكم عن الله، لا عن
ذاتي؛ ولا من عندي؛ ولا عن هواي؛ لأنه هو سبحانه الذي أمر ألا تعبدوا إلا إياه،
أي: لا تطيعوا أمراً أو نهياً إلا ما أنزله الله في منهجه الهادي للحق والخير.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة:
} ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ {
[يوسف: 40].
أي: أن هذا هو الدين المستقيم دون سواه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بمعنى: أن
الرسل قد بلَّغتهم بالمنهج، ولكنهم لم يُوظِّفوا هذا العلم في أعمالهم.
ثم بدأ يوسف عليه السلام في تأويل المطلوب لهما.
يقول الحق سبحانه: } ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ... {.
(/1623)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
وهكذا رجع يوسف عليه السلام إلى مطلب السجينين، وفسَّر رؤيا مَنْ يسقي الخمر بأنه
سيخرج من السجن ويعود ليسقي سيده، وأما الآخر فلسوف يُصلَبُ وتأكل الطير من رأسه،
لأن رمزية الرؤيا تقول: إن الطير سيأكل من رأسه؛ وهذا يعني أن رأسه ستكون طعاماً
للطير.
وتأويل الرؤيا علم يقذفه الله في قلوب مَنْ علَّمهم تأويل الأحاديث، وهي قدرة على
فَكِّ شَفْرة الحُلْم، ويعطيها الله لمَنْ يشاء من عباده.
وقد قال يوسف لمَنْ قال:{ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً }[يوسف: 36].
أنه سوف ينال العفو ما أظهرته الرؤيا التي قالها، وأما الآخر فسيأكل من رأسه
الطير. أي: سيُصلب كما أوحتْ بذلك رموز الرُّؤيا.
ونلحظ أن يوسف عليه السلام قد انشغل بالحكم الذي أوضحته الرؤييان عن الاثنين صاحبي
الرؤييين.
وهذا دليل على أن القاضي يجب أن يكون ذهنه مُنصبًّا على الحكم؛ لا على المحكوم
عليه، فقد سمع يوسف منهما؛ وهو لا يعرف مَنْ سينال البراءة، ومَنْ الذي سوف
يُعاقب.
فنزع يوسف ذاته من الأمر، ولم يسمح لنفسه بدخول الهوى إلى قلبه؛ لأن الهوى يُلوِّن
الحكم، ولا أحد بقادر على أن يسيطر على عاطفته، ولا بد للقاضي لحظة أن يصدر حكماً
أن يتجرد تماماً من الهوى والذاتيات.
ويُعلِّمنا الحق سبحانه ذلك حين أنزل لنا في قرآنه قصة سيدنا داود عليه السلام:{
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ
عَلَىا دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىا
بَعْضُنَا عَلَىا بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ
وَاهْدِنَآ إِلَىا سَوَآءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي
فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىا نِعَاجِهِ
وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ إِلاَّ
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ
دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
}[ص: 21-24].
وكان من ذكر عدد نِعَاج أخيه أنه إنما أراد أن يستميل داود عليه السلام لِصفِّه؛
وكان يريد أن يُصوِّر الظلم الذي وقع عليه، وحكم داود بأن مَنْ أخذ النعجة ليضمها
لنعاجه هو الذي ظلم؛ وشعر داود أنه لم يُوفَّق في الحكم؛ لأنه ذكر في حيثية الحكم
نعاج الذي أراد أن يأخذ نعجة أخيه.
فالأخذ وحده كان هو المبرر عند داود لإدانة الذي أراد الاستيلاء على ما ليس من
حقه؛ ولذلك اعتبر أن هذا الأمر كله فتنة لم يُوفَّق فيها، واستغفر الله بالركوع
والتوبة.
وقد كان يوسف عليه السلام حكيماً حين قال تأويل الرُّؤيا متجرداً من الذاتية، وأنهى
التأويل بالقول:
{ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [يوسف: 41].
أي: أنه لا مجال للرجوع أو العدول عن حدوث ذلك الذي وصل إليه من تأويل؛ فقد جاء
التأويل وفقاً لما علَّمه الله له.
وهناك الكثير من الروايات عما تحمَّله يوسف من صعاب قبل الجُبِّ وقبل السجن، وقيل:
إن عمته ابنة إسحق، وهي أكبر أولاده؛ قد استقبلته بعد أن ماتت أمه لترعاه فتعلقت
به؛ ولم تحب أحداً قَدْر محبتها له.
وتاقت نفس يعقوب إلى ولده؛ فذهب إليها وقال لها: سلِّمي إليَّ يوسف. لكنها قالت:
والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، ولن أتركه.
فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها، عمدتْ إلى شيء من ميراث إبراهيم عليه السلام
يتوارثه اكبر الأبناء، ووضعته تحت ملابس يوسف.
وكان العُرفُ الجاري أنه إذا سرق أحد شيئاً وتَمَّ ضبطه؛ تحول من حرٍّ إلى عبد،
وحين كاد يعقوب أن يخرج مع ابنه يوسف عائداً إلى بيته؛ أعلنت العمة فقدان الشيء
الذي أعطاه لها والدها إسحق؛ وفتشوا يوسف فوجدوا الشيء المفقود.
فقالت عمته: والله إنه لَسَلْم ـ أي عبد ـ وكان العرف أن مَنْ يسرق شيئاً يتحول
إلى عبد عند صاحب الشيء.
وهكذا بقي يوسف مع عمته محروماً من أبيه لفترة، ولم يستطع الأب استرداده إلا بعد
أن ماتت العمَّة.
ثم جاءت حادثة الجُبِّ، ومن بعدها محاولة امرأة العزيز لِغُوايته، ورغم تيقُّن
العزيز من براءته إلا أنه أُودِع السجن؛ ويقول الرواة:
" إن يوسف عليه السلام قد عُرف في السجن بالجود، والأمانة، وصدق الحديث،
وحُسْن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير ـ أي تأويل الرؤيا ـ والإحسان إلى
أهل السجن.
ولما دخل هذان الفَتيانِ معه السجن؛ تآلفا به وأحبَّاه حُبّاً شديداً وقالا له:
والله لقد أحببناك حباً زائداً. قال: بارك الله فيكما؛ إنه ما من أحد أحبَّني إلا
دخل عليَّ من محبته ضررٌ، أحبتني عمَّتي فدخل الضرر بسببها، وأحبَّني أبي فأوذيتُ
بسببه، وأحبَّتني امرأة العزيز فكذلك.
أي: أنه دخل السجن وصار معهما دون ذنب جَنَاه.
قال السجينان: إنا لا نستطيع غير ذلك ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قاله يوسف لمن ظَنَّ أنه سينجو من السجن: } وَقَالَ
لِلَّذِي ظَنَّ... {.
(/1624)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
والمقصود هنا هو السجين الذي رأى حُلْماً يعصر فيه العنب، فهو الذي فسر له يوسف
رؤياه بأنه سينجو؛ ويواصل مهمته في صناعة الخمر لسيده.
وقوله سبحانه:
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ.. } [يوسف: 42].
يعني أن الأمر بالنجاة لم يتيقن بعد، ولم يصبح علماً.
وقد أوصاه يوسف عليه السلام:
{ اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ... } [يوسف: 42].
والذكر هو حضور شيء بالبال؛ وكان له بالبال صِلَة استقبال، مثل أي قضية عرفتَها من
قبل ثم تركتَها، ونسيتَهَا لفترة، ثم تذكرتَها من جديد.
وهكذا نعلم أن للإنسان استقبالات للإدراكات، وهي لا تظل في بُؤْرة الشعور كل
الوقت؛ لأن الذهن لا يستطيع أن يكون مشغولاً إلا بشيء واحد، فإن جاء شيء آخر فهو
يزحزح الأمر الأول إلى حافة الشعور، ليستقر الأمر الجديد في بؤرة الشعور.
والمثل الذي أضربه دائماً هو إلقاء حجر في الماء، فيصنع الحجر دوائر تكبر ويتتابع
اتساع أقطارها، وهكذا بؤرة الشعور، حين تستقبل أمراً أو خاطراً جديداً.
فالخاطر الجديد يُبعد كل الخواطر الأخرى من المركز إلى الحاشية، ثم يأتي ما
يُذكِّرك بما في حاشية الشعور؛ ليعود لك الخاطر أو الأمر الذي كنت قد نسيتَه
وتتذكره بكل تفاصيله؛ لأن ذاكرة الإنسان تعمل على مُسْتويين؛ فهي تحفظ المعلومات؛
وتسترجع المعلومات أيضاً.
وقد قال يوسف لمن ظن أنه نَاجٍ:
{ اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ.. } [يوسف: 42].
أي: اذكر ما وجدته عندي من خير أمام سيدك.
وقال بعض المفسرين: إن يوسف عليه السلام حين نطق هذا القول؛ شاء له الله أن يمكث
في السجن بضع سنين؛ فما كان ينبغي له كرسول أن يُوسِّط الغير في مسألة ذِكْره
بالخير عند سيد ذلك السجين.
فيوسف كرسول إنما يتلقى عن الله بواسطة الوحي؛ وهو قد قال لذلك السجين وزميله:{
لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ
قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي }[يوسف: 37].
وهذا يعني أنه يستقبل عن الله مباشرة، وكان عليه أن يظل موصولاً بالمصدر الذي يفيض
عليه.
ويتابع الحق سبحانه:
{ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
} [يوسف: 42].
ونسيان ذكر الله فيه نوع من العقوبة، أو يحمل شيئاً من التأديب ليوسف، وهكذا نرى
أن الشيطان نفسه إنما يُعِين الحق على مُرَاداته من خَلْقه.
وهذا ما يشرح لنا بقاء يوسف في السجن بضع سنين؛ ونعرف أن البِضْع من السنين يعني
من ثلاث سنوات إلى عَشْر سنوات، وبعض العلماء حَدَّده بسبع سنين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَقَالَ الْمَلِكُ... }.
(/1625)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
والأرض التي وقعتْ عليها، وجَرَتْ فوقها تلك القصة هي مصر، وسبق أن عرفنا ذلك حين
قال الحق سبحانه:{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ }[يوسف: 21].
وهكذا نعرف أن هناك " ملك " ، وهناك " عزيز ".
ونحن نعلم أن حكام مصر القديمة كانوا يُسمَّوْنَ الفراعنة، وبعد أن اكتُشِفَ
" حجر رشيد " ، وتم فَكُّ ألغاز اللغة الهيروغليفية؛ عرفنا أن حكم
الفراعنة قد اختفى لفترة؛ حين استعمر مصرَ ملوكُ الرُّعاة، وهم الذين يُسمَّوْنَ
الهكسوس.
وكانت هذه هي الفترة التي ظهر فيها يوسف، وعمل يوسف وأخوه معهم، فلما استرجع
الفراعنة حكم مصر طردوا الهكسوس، وقتلوا مَنْ كانوا يُوالونهم.
وحديث القرآن عن وجود مَلِك في مصر أثناء قصة يوسف عليه السلام هو من إعجاز التنبؤ
في القرآن.
وساعة تقرأ:
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىا سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ
عِجَافٌ } [يوسف: 43].
ثم يطلب تأويل رؤياه؛ فهذا يعني أنها رُؤيا منامية.
وكلمة: { سِمَانٍ } [يوسف: 43].
أي: مُمْتلئة اللحم والعافية. وكلمة { عجاف } أي: الهزيلة؛ كما يُقال عند العامة
" جلدها على عظمها "؛ فكيف تأكل العجاف السمان؛ مع أن العكس قد يكون
مقبولاً؟
وأضاف الملك:
{ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ... } [يوسف: 43].
ولم يَصِف الملك أيَّ فعل يصدر عن السنابل، ثم سأل مَنْ حوله من أعيان القوم الذين
يتصدرون صُدور المجالس، ويملأون العيون:
{ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43].
وكلمة (تعبرون) مأخوذة من " عبر النهر " أي: انتقل من شاطئ إلى شاطئ،
وكأنه يطلب منهم المراد المَطْوي في الرُّؤيا.
ومن هذا المعنى أخذنا كلمة " العبْرة " ، وهي التجربة التي نستفيد منها،
ومنه أيضاً " العبارَة " وهو أن يكون هناك شيء مكتوم في النفس،
ونُؤدِّيه، ونُظهِره بالعبارة.
ومنه " العَبْرة " ، وهو الدَّمعْة التي تسقط من العين تعبيراً عن مشاعر
ما؛ سواء كانت مشاعر حُزْن أو فرح، والمادة كلها تدور حول تعريف مجهول بمعلوم.
وهكذا يفعل مُفسِّر الرُّؤْيا حين يَعبُر ـ من خلال رموزها ـ من الخيال إلى
الحقيقة.
ولم يعرف الملأ الذين حول المَلِك تفسيراً للرُّؤيا التي رآها في منامه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: { قَالُواْ أَضْغَاثُ... }.
(/1626)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
وهكذا أعلن الملأ أن رؤيا الملك ليست سوى أخلاط أحلام بلا معنى. و " الضِّغْث
" هو حِزْمة من الحشائش مختلفة الأجناس؛ فكأن رُؤْيا الملك لا تأويلَ لها
عندهم؛ لأنهم ليسوا من أهل التمييز في التأويل.
وهذا صِدْق من البطانة في ألاَّ يخبر أحدهم بشيء، إلا إذا كان على علم به؛ ولا
يضير أحدهم أن يعلن جهله بأمر ما لا يعلمه.
والذي يعلن جهله بأمر لسائله ـ ويكون قد علمه ـ يجعله يسأل غيره، أما إن أجاب
بجواب؛ فربما جعله يَثْبُتُ على هذا الجواب.
ولذلك قال العلماء ليفسحوا مجال الصِّدْق في الفُتْيا: " مَنْ قال لا أدري
فقد أفتى "؛ لأنه حين يقول " لا أدري "؛ سيضطرك إلى أن تسأل غيره.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَقَالَ الَّذِي... }.
(/1627)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
وكان الذي نجا من السجينين يسمع مقالة الملك وردّ الملأ؛ فاسترجع بذاكرته ما مَرَّ
عليه في السجن، وكيف رأى الرُّؤيا، وكيف قام يوسف بتأويلها.
وقوله: { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ.. } [يوسف: 45].
يعني: أنه أجهد عقله وذهْنه؛ وافتعل التذكُّر لأن فترة لا بأس بها من الزمن قد
مَرَّتْ، وكلمة " أمة " تعني فترة من الزمن؛ كما في قول الحق تبارك
وتعالى:{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىا أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ
لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً
عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ }[هود: 8].
و " الأمة " قد يُراد بها الجماعة من الناس، ويُراد بها أيضاً الرجل
الجامع لكل صفات الخير، كما قال الحق سبحانه في وصف إبراهيم عليه السلام:{ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ }[النحل: 120].
أي: أن كل خصال الخير مجموعة في إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام، وبعد أن افتعل
ساقي الملك واجتهد ليتذكر ما حدث له منذ فترة هي بضع سنين؛ أيام أنْ كان سجيناً
ورأى رُؤيا منامية أوَّلَها له يوسف، قال الساقي للملأ وللملك عن تلك الرؤيا:
{ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [يوسف: 45].
وبذلك استأذن ليذهب إلى مَنْ يُؤوِّل له رُؤيا الملك.
وقوله: { فَأَرْسِلُونِ } [يوسف: 45].
يعني أن التأويل ليس من عنده؛ بل هو يعرف مَنْ يستطيع تأويل الرُّؤى.
ونلحظ أن القرآن لم يحمل على لسان هذا الرجل: إلى من سوف يذهب؛ لأن ذلك معلوم
بالنسبة له ولنا، نحن الذين نقرأ السورة.
وانتقل القرآن من طلب الإرسال إلى لقاء يوسف عليه السلام؛ فيقول الحق سبحانه ما
جاء على لسان ساقي الملك: { يُوسُفُ أَيُّهَا... }.
(/1628)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
وقوله: { أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [يوسف: 46].
يدل على أنه قد جرَّبه في مسائل متعددة، وثبت صدقه.
و " صِدِّيق " لا يقتصر معناها على أنه صادق في كل أقواله؛ وصادق في كل
أفعاله، وصادق في كل أحواله، ولكن معناها يتسع لِيدُلَّنا على أن الصدق ملازم له
دائماً في القول وفي الفعل.
أما في الأقوال فصدقه واضح؛ لأنه يقول القضية الكلامية ولها واقع من الخارج يدلُّ
عليها.
وأما صدق الأفعال فهو ألاَّ تُجرِّب عليه كلاماً، ثم يأتي فعله مخالفاً لهذا
الكلام؛ وهذا هو مَنْ نطلق عليه " صِدِّيق ".
ونحن نعلم أن حركات الإنسان في الحياة تنقسم قسمين؛ إما قول وإما فعل؛ والقول
أداته اللسان، والفعل أداته كل الجوارح.
إذن: فهناك قول، وهناك فعل؛ وكلاهما عمل؛ فالقول عمل؛ والرؤية بالعين عمل؛ والسمع
بالأذن عمل، والمسُّ باليد عمل.
لكن القول اختصَّ باللسان، وأخذتْ بقية الجوارح الفعل؛ لأن الفعل هو الوسيلة
الإعلامية بين متكلم وبين مخاطب، وأخذ شق الفعل.
وهكذا نعلم أن الفعل قسمان: إما قول؛ وإما فعل.
والصَّدِّيق هو الذي يصدُق في قوله، بأن تطابق النسبة الكلامية الواقع، وصادق في
فعله بألاَّ يقول ما لا يفعل.
ولذلك قال الحق سبحانه:{ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ
تَفْعَلُونَ }[الصف: 3].
ونعلم أن ساقي الملك كانت له مع يوسف تجربتان:
التجربة الأولى: تجربة مُعَايشته في السجن هو وزميله الخباز، وقولهما له:{ إِنَّا
نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }[يوسف: 36].
وكان قولهما هذا هو حيثية سؤالهم له أن يُؤوِّل لهما الرؤييين:{ وَدَخَلَ مَعَهُ
السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ
الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ
مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }[يوسف: 36].
والتجربة الثانية: هي مجيء واقع حركة الحياة بعد ذلك مطابقاً لتأويله للرؤييين.
ولذلك يقول له هنا:
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ
يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ
لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } [يوسف: 46].
أي: أفتِنَا في رُؤيا سبع بقرات سِمَان؛ يأكلهن سبعُ بقرات شديد الهُزَال، وسبع
سُنْبلات خُضْر، وسبع أُخر يابسات، لَعلِّي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.
وقوله: { أَفْتِنَا } [يوسف: 46].
يوضح أنه لا يسأل عن رؤيا تخصُّه؛ بل هي تخص رائياً لم يُحدده، وإنْ كنا قد عرفنا
أنها رُؤيا الملك.
وقوله: { لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ } [يوسف: 46].
هو تحرُّز واحتياط في قضية لا يجزم بها؛ وهو احتياط في واقع قدر الله مع الإنسان،
والسائل قد أخذ أسلوب الاحتياط؛ ليخرجه من أن يكون كاذباً، فهو يعلم أن أمر عودته
ليس في يده؛ ولذلك يُعلمنا الله:
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ
اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىا أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي
لأَقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَداً }[الكهف: 23ـ24].
وساعة تقول: " إن شاء الله " تكون قد أخرجتَ نفسك من دائرة الكذب؛ وما
دُمْتَ قد ذكرتَ الله فهو سبحانه قادر على أن يَهديك إلى الاختيار المناسب في كل
أمر تواجه فيه الاختيار.
فكأن الله يُعلِّم عباده أن يحافظوا على أنفسهم، بأن يكونوا صادقين في أقوالهم
وأفعالهم؛ لأنك مهما خططتَ فأنت تخطط بعقل موهوب لك من الله؛ وحين تُقدِم على أيِّ
فعل؛ فأيُّ فعل مهما صَغُر يحتاج إلى عوامل متعددة وكثيرَة، لا تملك منها شيئاً؛
لذلك فعليك أنْ تردَّ كلَّ شيء إلى مَنْ يملكه.
وهنا قال الساقي:
} لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ { [يوسف: 46].
وبذلك يُعلِّمنا الحق سبحانه الاحتياط.
وأضاف الحق سبحانه على لسان الرجل:
} لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ { [يوسف: 46].
وكأن الرجل قد عرف أنه حين يأخذ التأويل من يوسف عليه السلام؛ ويعود به إلى الناس؛
فهو لا يعلم كيف يستقبلون هذا التأويل؟
أيستقبلونه بالقبول، أم بالمُحاجَّة فيه؟ أو يستقبلون التأويل بتصديق، ويعلمون
قَدْرك ومنزلتك يا يوسف؛ فيُخلِّصوك مما أنت فيه من بلاء السجن.
وقوله تعالى: } لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ.... { [يوسف: 46].
قد يدفع سائلاً أن يقول: مَنِ الذي كلَّف الساقي بالذَّهاب إلى يوسف؛ أهو الملك أم
الحاشية؟
ونقول: لقد نسبها الساقي إلى الكل؛ للاحتياط الأدائي.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } قَالَ تَزْرَعُونَ... {.
(/1629)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
وهذه بداية تأويل رُؤْيا الملك.
والدَّأْب معناه: المُواظبة؛ فكأن يوسف عليه السلام قد طلب أن يزرع أهل مصر بدأبٍ
وبدون كسل.
ويتابع: { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا
تَأْكُلُونَ } [يوسف: 47].
أي: ما تحصدونه نتيجة الزرع بجِدٍّ واجتهاد؛ فلكم أنْ تأكلوا القليل منه، وتتركوا
بقيته محفوظاً في سنَابله.
والحفظ في السنابل يُعلِّمنا قَدْر القرآن، وقدرة مَنْ أنزل القرآن سبحانه، وما
آتاه الله جل علاه ليوسف عليه السلام من علم في كل نواحي الحياة، من اقتصاد
ومقومات التخزين، وغير ذلك من عطاءات الله، فقد أثبت العلم الحديث أن القمح إذا
خُزِّن في سنابله؛ فتلك حماية ووقاية له من السوس.
وبعض العلماء قال في تفسير هذه الآية؛ إن المقصود هو تخزين القمح في سنابله
وعيدانه.
وأقول: إن المقصود هو تَرْك القمح في سنابله فقط؛ لأن العيدان هي طعام الحيوانات.
ونحن نعلم أن حبة القمح لها وعاءان؛ وعاء يحميها؛ وهو ينفصل عن القمحة أثناء عملية
" الدَّرْس "؛ ثم يطير أثناء عملية " التذرية " مُنفصِلاً عن
حبوب القمح.
ولحبة القمح وعاء ملازم لها، وهو القشرة التي تنفصل عن الحبة حين نطحن القمح،
ونسميها " الردة " وهي نوعان: " ردة خشنة " و " ردة
ناعمة ".
ومن عادة البعض أن يَفصِلوا الدقيق النقي عن " الردة " ، وهؤلاء
يتجاهلون ـ أو لا يعرفون ـ الحقيقة العلمية التي أكدت أن تناول الخبز المصنوع من
الدقيق الأبيض الخالي من " الردة " يصيب المعدة بالتلبُّك.
فهذه القشرة الملازمة لحبة القمح ليست لحماية الحبة فقط؛ بل تحتوي على قيمة غذائية
كبيرة.
وكان أغنياء الريف في مصر يقومون بتنقية الدقيق المطحون من " الردة "
ويسمُّونه " الدقيقة العلامة "؛ الذي إنْ وضعت ملعقة منه في فمك؛ تشعر
بالتلَبُّك؛ أما إذا وضعت ملعقة من الدقيق الطبيعي الممتزج بما تحتويه الحبة من
" ردة "؛ فلن تشعر بهذا التلبُّك.
ويمتنُّ الله على عباده بذلك في قوله الحق:{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ
وَالرَّيْحَانُ }[الرحمن: 12].
وقد اهتدى علماء هذا العصر إلى القيمة الفاعلة في طَحْن القمح، مع الحفاظ على ما
فيه من قشر القمح، وثبت لهم أن مَنْ يتناول الخبز المصنوع من الدقيق النقي للغاية؛
يعاني من ارتباك غذائي يُلجِئه إلى تناول خبز مصنوع من قِشْر القمح فقط، وهو ما
يسمى " الخبز السِّن "؛ ليعوض في غذائه ما فقده من قيمة غذائية.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ
} [يوسف: 47].
وهكذا أخبر يوسف الساقي الذي جاء يطلب منه تأويل رُؤْيا الملك؛ بما يجب أن يفعلوه
تحسُّباً للسنوات السبع العجاف التي تلي السبع سنوات المزدهرة بالخُضْرة والعطاء،
فلا يأكلوا مِلْء البطون؛ بل يتناولوا من القمح على قَدْر الكفاف:
{ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } [يوسف: 47].
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام من بقية التأويل لحُلْم
الملك: { ثُمَّ يَأْتِي مِن... }.
(/1630)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
وهكذا أوضح يوسف عليه السلام ما سوف يحدث في مصر من جَدْب يستمر سبع سنوات عجاف
بعد سبع سنوات من الزرع الذي يتطلب هِمَّة لا تفتر.
وقوله سبحانه في وصف السبع " سنوات " بأنها:
{ شِدَادٌ.. } [يوسف: 48].
يعني: أن الجَدْب فيها سوف يُجهِد الناس؛ فإنْ لم تكُنْ هناك حصيلة تَمَّ تخزينها
من محصول السبع السنوات السابقة، فقد تحدُث المجاعة، وليعصم الناسُ بطونهم في
السنوات السبع الأولى، وليأكلوا على قَدْر الضرورة؛ ليضمنوا مواجهة سنوات الجَدْب.
ونحن نعلم أن الإنسان يستبقي حياته بالتنفس والطعام والشراب؛ والطعام إنما يَمْري
على الإنسان، ويعطيه قوة يواجه بها الحياة.
ولكن أغلب طعامنا لا نهدف منه القوة فقط؛ بل نبغي منه المتعة أيضاً، ولو كان
الإنسان يبغي سَدَّ غائلة الجوع فقط، لاكتفى بالطعام المسلوق، أو بالخبز والإدام
فقط، لكننا نأكل للاستمتاع.
ويتكلم الحق سبحانه عن ذلك فيقول:{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }[النساء: 4].
أي: بدون أن يضرك، ودون أن يُلجِئك هذا الطعام إلى المُهْضِمات من العقاقير.
وهذا هو المقصود من قول الحق سبحانه:{ هَنِيئاً... }[النساء: 4]، أما المقصود
بقوله:{ مَّرِيئاً }[النساء: 4].
فهو الطعام الذي يفيد ويمدُّ الجسم بالطاقة فقط؛ وقد لا يُستساغ طعمه.
وهنا قال الحق سبحانه:
{ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } [يوسف: 48].
وبطبيعة الحال نفهم أن السنوات ليست هي التي تأكل؛ بل البشر الذين يعيشون في تلك
السنوات هم الذين يأكلون.
ونحن نفهم ذلك؛ لأننا نعلم أن أي حدث يحتاج لزمان ولمكان؛ ومرة يُنسب الحَدث
للزمان؛ ومرة يُنسب الحَدث للمكان.
والمثال على نسبة الحَدث للمكان هو قول الحق سبحانه:{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ... }[يوسف: 82].
وطبعاً نفهم أن المقصود هو سؤال أهل القرية التي كانوا فيها، وأصحاب القوافل التي
كانت معهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد الحدث منسوباً للزمان؛ وهم سيأكلون
مما أحصنوا إلا قليلاً؛ لأنهم بعد أن يأكلوا لا بد لهم من الاحتفاظ بكمية من
الحبوب والبُذُور لاستخدامها كتقاوي في العام التالي لسبع سنوات موصوفة بالجدب.
وقوله تعالى:
{ مِّمَّا تُحْصِنُونَ } [يوسف: 48].
نجده من مادة " حصن " وتفيد الامتناع؛ ويقال: " أقاموا في داخل
الحصن " أي: أنهم إنْ هاجمهم الأعداء؛ يمتنعون عليهم؛ ولا يستطيعون الوصول
إليهم.
ويقول الحق سبحانه:{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ... }[النساء: 24].
أي: المُمْتنعات عن عملية الفجور؛ وهُنَّ الحرائر.
وأيضاً يقول الحق سبحانه:{ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا }[الأنبياء: 91].
أي: التي أحكمتْ صيانة عِفَّتها، وهي السيدة مريم البتول عليها السلام، وهكذا نجد
مادة " حصَن " تفيد الامتناع.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ... }.
(/1631)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
ونلحظ أن هذا الأمر الذي تحدث عنه يوسف عليه السلام خارج عن تأويل الرُّؤيا؛ لأن
ما احتوته رُؤيا الملك هو سبع بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات سِمَانٍ؛ وسبع سُنبلات
خُضْر وأُخَر يابسات.
وأنهى يوسف عليه السلام تأويل الرُّؤيا، وبعد ذلك جاء بحكم العقل على الأمور؛ حيث
يعود الخِصْب العادي ليعطيهم مثلما كان يعطيهم من قبل ذلك.
وهذا يمكن أن يطلق عليه " غَوْث "؛ لأننا نقول " أغِثْ فلاناً
" أي: أَعِنْ فلاناً: لأنه في حاجة للعون، والغيث ينزل من السماء لِيُنهِي
الجَدْب.
وقوله: { يُغَاثُ النَّاسُ... } [يوسف: 49].
أي: يُعانون بما يأتيهم من فضل الله بالضروري من قوت يمسك عليهم الحياة.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله: { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [يوسف: 49].
أي: ما يمكن عَصْره من حبوب أو ثمار؛ مثل: السمسم، والزيتون، والعنب، والقصب، أو
البلح، وأنت لن تعصر تلك الحبوب أو الثمار إلا إذا كان عندك ما يفيض عن قوت ذاتك
وقوت من تعول.
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه أنهم سوف يُرزَقُونَ بخير يفيض عن الإغاثة؛ ولهم أن
يدخروه، وما سبق في آيات الرؤيا وتأويلها هو حوار بين يوسف الصديق ـ عليه السلام ـ
وبين ساقي الملك.
ولاحظنا كيف انتقل القرآن من لقطة عجز الحاشية عن الإفتاء في أمر الرؤيا، وتقديم
الساقي طلباً لأن يرسلوه كي يُحضِر لهم تأويل الرؤيا، ثم جاء مباشرة بالحوار بين
يوسف والساقي.
هنا ينتقل القرآن إلى ما حدث، بعد أن عَلِم الملك بتأويل الرُّؤيا، فيقول سبحانه:
{ وَقَالَ الْمَلِكُ... }.
(/1632)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
ومعنى ذلك أن الساقي ذهب إلى مجلس الملك مباشرة، ونقل له تأويل الرُّؤيا، وأصرَّ
الملك أنْ يأتوا له بهذا الرجل؛ فقد اقتنع بأنه يجب الاستفادة منه؛ وعاد الساقي
ليُخرِج يوسف من السجن الذي هو فيه.
لكنه فُوجِيء برفض يوسف للخروج من السجن، وقوله لمن جاء يصحبه إلى مجلس الملك:
{ ارْجِعْ إِلَىا رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ
أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [يوسف: 50].
وهكذا حرص يوسف على ألاَّ يستجيب لمَنْ جاء يُخلِّصه من عذاب السجن الذي هو فيه؛
إلا إذا برئتْ ساحته براءةً يعرفها الملك؛ فقد يكون من المحتمل أنهم ستروها عن أذن
الملك.
وأراد يوسف عليه السلام بذلك أن يُحقق المَلِك في ذلك الأمر مع هؤلاء النسوة
اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن؛ ودَعَوْنَهُ إلى الفحشاء.
واكتفى يوسف بالإشارة إلى ذلك بقوله:
{ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [يوسف: 50].
ويُخفي هذا القول في طيَّاته ما قالته النسوة من قبل ليوسف بضرورة طاعة امرأة
العزيز في طلبها للفحشاء.
وهكذا نجد القصص القرآني وهو يعطينا العِبْرة التي تخدمنا في واقع الحياة؛ فليست
تلك القصص للتسلية، بل هي للعبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة.
وبراءة ساحة أي إنسان هو أمر مُهِمٌ؛ كي تزول أيُّ ريبة من الإنسان قبل أن يُسند
إليه أي عمل.
وهكذا طلب يوسف عليه السلام إبراء ساحته، حتى لا يَقُولَنَّ قائل في وشاية أو
إشاعة " همزاً أو لَمْزاً ": أليس هذا يوسف صاحب الحكاية مع امرأة
العزيز، وهو مَنْ راودته عن نفسه؟
وها هو رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: " عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه ـ والله
يغفر له ـ حيث أُرْسِل إليه ليُستفتى في الرؤيا، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج،
وعجبت من صبره وكرمه ـ والله يغفر له ـ أُتِي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره،
ولو كنت أنا لبادرت الباب، ولكنه أحب أن يكون له العذر ".
وشاء نبينا صلى الله عليه وسلم أن يُوضِّح لنا مكانة يوسف من الصبر وعزة النفس
والنزاهة والكرامة فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الكريم، ابن الكريم، ابن
الكريم، ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم. قال ـ لو لبثتُ في السجن ما
لبثَ، ثم جاءني الرسول أجبتُ ثم قرأ صلى الله عليه وسلم-: { فَلَمَّا جَآءَهُ
الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىا رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ
اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. } [يوسف: 50] ".
وهكذا بيَّنَ لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة يوسف من الصبر والنزاهة، وخشيته
أن يخرج من السجن فَيُشَار إليه: هذا مَنْ راود امرأة سيده.
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة إلى مبالغة يوسف في ذلك الأمر، وكان من
الأحوط أن يخرج من السجن، ثم يعمل على كشف براءته.
ومعنى ذلك أن الكريم لا يستغل المواقف استغلالاً أحمق، بل يأخذ كل موقف بقدْره
ويُرتِّب له؛ وكان يوسف واثقاً من براءته، ولكنه أراد ألاَّ يكون الملك آخر مَنْ
يعلم.
وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: " دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا
يَرِيبك، فإن الصدقَ طُمأنينة، وإن الكذبَ ريبة ".
وكان صلى الله عليه وسلم يرى أن الإيمان بالله يقتضي ألاَّ يقف المؤمن موقفَ
الرِّيبة؛ لأن بعض الناس حين يَرَوْنَ نَابِهاً، قد تثير الغيرةُ من نباهته
البعضَ؛ فيتقوَّلون عليه.
لذلك فعليك أن تحتاطَ لنفسك؛ بألاَّ تقف موقف الرِّيبة، والأمر الذي تأتيك منه
الرِّيبة؛ عليك أن تبتعد عنه.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، " فقد جاءته زَوْجه صفية بن
حُيي تزوره وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم
قامتْ تنقلب ـ أي: تعود إلى حجرتها ـ فقام معها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى
إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله صلى الله عليه
وسلم، مرّ بهما رجلان من الأنصار فسلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
نفذا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رِسْلكما، إنما هي صفية
بنت حُيي. قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ما قال. قال: إن الشيطان
يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما ".
وهنا في الموقف الذي نتناوله بالخواطر، نجد الملك وهو يستدعي النسوة اللاتي قطَّعن
أيديهن، ورَاودْنَ يوسف عن نفسه، وهو ما يذكره الحق سبحانه: } قَالَ مَا
خَطْبُكُنَّ... {.
(/1633)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
ونعلم أن المُرَاودة الأولى ليوسف كانت من امرأة العزيز؛ واستعصم يوسف، ثم دَعَتْ
هي النسوة إلى مجلسها؛ وقطَّعْنَ أيديهن حين فُوجئْنَ بجمال يوسف عليه السلام،
وصدرت منهن إشارات، ودعوات إثارة وانفعال.
قال عنها يوسف ما أورد الحق سبحانه:{ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ }[يوسف: 33].
واستدعاهن الملك، وسألهن: { مَا خَطْبُكُنَّ } [يوسف: 51].
والخَطْب: هو الحَدَثْ الجَلَل، فهو حدث غير عادي يتكلم به الناس؛ فهو ليس حديثاً
بينهم وبين أنفسهم؛ بل يتكلمون عنه بحديث يصل إلى درجة تهتز لها المدينة؛ لأن مثل
هذا الحادث قد وقع.
ولذلك نجد إبراهيم عليه السلام، وقد قال لجماعة من الملائكة:{ قَالَ فَمَا
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىا قَوْمٍ
مُّجْرِمِينَ }[الذاريات: 31-32].
أي: أن الملائكة طمأنتْ إبراهيم عليه السلام؛ فهي في مهمة لعقاب قوم مجرمين.
وموسى عليه السلام حين عاد إلى قومه، ووجد السامري قد صنع لهم عِجْلاً من الذهب
الذي أخذوه من قوم فرعون نجده يقول للسامري:{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ
}[طه: 95].
وقَوْل الملك هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } [يوسف: 51].
يدلُّ على أنه قد سمع الحكاية بتفاصيلها فاهتزَّ لها؛ واعتبرها خَطْباً؛ مما يوضح
لنا أن القيم هي القيم في كل زمان أو مكان.
وبدأ النسوة الكلام، فقُلْنَ:
{ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } [يوسف: 51].
ولم يذكُرْنَ مسألة مُرَاودتهِنَّ له، وكان الأمر المهم هو إبراء ساحة يوسف عند
المَلِك.
وقولهن: { حَاشَ للَّهِ... } [يوسف: 51] أي: نُنزِّه يوسف عن هذا، وتنزيهُنَا
ليوسف أمْرٌ من الله.
وهنا تدخلتْ امرأة العزيز:
{ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ... } [يوسف: 51].
أي: أنها أقرَّتْ بأنه لم يَعُدْ هناك مجال للستر، ووضح الحقُّ بعد خفاء، وظهرتْ
حِصَّة الحق من حِصَّة الباطل، ولا بُدَّ من الاعتراف بما حدث:
{ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } [يوسف:
51].
وواصلت امرأة العزيز الاعتراف في الآية التالية: { ذالِكَ لِيَعْلَمَ.. }.
(/1634)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
قالت ذلك حتى تُعلِنَ براءة يوسف عليه السلام، وأنها لم تنتهز فرصة غيابه في السجن
وتنتقم منه؛ لأنه لم يستجِبْ لمُراودتها له، ولم تنسج له أثناء غيابه المؤامرات،
والدسائس، والمكائد.
وهذا يدلُّنا على أن شِرَّةَ الإنسان قد تتوهج لغرض خاص، وحين يهدأ الغرض ويذهب،
يعود الإنسان إلى توازنه الكمالي في نفسه، وقد يجعل من الزَّلة الأولى في خاطره
وسيلة إلى الإحسان فيما ليس له فيه ضعف، كي تستر الحسنةُ السيئة، مصداقاً لقول
الحق سبحانه:{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَىا
لِلذَّاكِرِينَ }[هود: 114].
ولو أن إنساناً عمل سيئة وفضحه آخر عليها؛ فالفاضح لتلك السيئة إنما يحرم المجتمع
من حسنات صاحب السيئة.
ولذلك أقول: استروا سيئات المسيء؛ لأنها قد تلهمه أن يقدم من الخير ما يمحو به
سيئاته.
ولذلك قالوا: إذا استقرأتَ تاريخ الناس، أصحاب الأنفس القوية في الأخلاق والقيم؛
قد تجد لهم من الضعف هنات وسَقَطات؛ ويحاولون أن يعملوا الحسنات كي تُذهِب عنهم
السيئات؛ لأن بالَ الواحد منهم مشغولٌ بضعفه الذي يُلهِبه؛ فيندفع لفعل الخيرات.
وبعد أن اعترفتْ امرأة العزيز بما فعلت؛ قالت:
{ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [يوسف: 52].
أي: أنها أقرَّتْ بأنه سبحانه وتعالى لا يُنفِذ كيد الخائنين، ولا يُوصِّله إلى
غايته.
وتواصل امرأة العزيز فتقول: { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي... }.
(/1635)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
هذا القول من تمام كلام امرأة العزيز؛ وكأنها توضح سبب حضورها لهذا المجلس؛ فهي لم
تحضر لتبرىء نفسها:
{ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ... } [يوسف: 53].
ومجيء قول الحق سبحانه المؤكِّد أن النفس على إطلاقها أمَّارة بالسوء؛ يجعلنا
نقول: إن يوسف أيضاً نفس بشرية.
وقد قال بعض العلماء: إن هذا القول من كلام يوسف، كردٍّ عليها حين قالت:{ أَنَاْ
رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذالِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ
}[يوسف: 51-52].
وكان من المناسب أن يرد يوسف عليه السلام بالقول:
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا
رَحِمَ رَبِّي } [يوسف: 53].
ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى يوسف كَلَوْنٍ من الحرص على ألاَّ يلمسه غرور
الإيمان، فهو كرسول من الله يعلم أن الله سبحانه هو الذي صرف كيدهُنَّ عنه.
وهذا لَوْن من رحمة الله به؛ فهو كبشر مُجرّد عن العصمة والمنهج من الممكن أن تحدث
له الغواية؛ لكن الحق سبحانه عصمه من الزَّلَل.
ومن لُطْف الله أن قال عن النفس: إنها أمَّارة بالسوء؛ وفي هذا توضيح كافٍ لطبيعة
عمل النفس؛ فهي ليستْ آمرةً بالسوء، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة
واحدة وينتهي الأمر.
لا، بل انتبه أيها الإنسان إلى حقيقة عمل النفس، فهي دائماً أمَّارة بالسوء، وأنت
تعلم أن التكليفات الإلهية كلها إمَّا أوامر أو نَوَاهٍ، وقد تستقبِل الأوامر
كتكليف يشقُّ على نفسك، وأنت تعلم أن النواهي تمنعك من أفعال قد تكون مرغوبة لك،
لأنها في ظاهرها ممتعة، وتلبي نداء غرائز الإنسان.
ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ
النار بالشهوات ".
أي: أن المعاصي قد تُغريك، ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه، ويُقدِّر العواقب
البعيدة، ولا ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية؛ إلا إذا نظر معها إلى الغاية التي
توصله إليها تلك اللذة؛ لأن شيئاً قد تستلِذُّ به لحظة قد تَشْقى به زمناً طويلاً.
ولذلك قلنا: إن الذي يُسرف على نفسه غافل عن ثواب الطاعة وعن عذاب العقوبة، ولو
استحضر الثواب على الطاعة، والعذاب على المعصية؛ لامتنع عن الإسراف على نفسه.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن،
ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
إذن: فلحظة ارتكاب المعصية نجد الإنسان وهو يستر إيمانه؛ ولا يضع في باله أنه قد
يموت قبل أن يتوبَ عن معصيته، أو قبل أن يُكفِّر عنها.
ويخطيء الإنسان في حساب عمره؛ لأن أحداً لا يعلم ميعاد أجله؛ أو الوقت الذي يفصل
بينه وبين حساب الموْلَى ـ عَزَّ وجَلَّ ـ له على المعاصي.
وكل مِنَّا مُطَالب بأن يضع في حُسْبانه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "
الموت القيامة، فمَنْ مات فقد قامت قيامته ".
ولنا أسوة طيبة في عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وهو الخليفة الثالث لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، الذي كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتلَّ لحيته، فسُئِل عن
ذلك؛ وقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفتَ على قبر؟ فقال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن القبر أول منازل الآخرة، فإنْ نجا
منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم يَنْجُ منه، فما بعده أشد ".
لذلك فلا يستبعد أحد ميعاد لقائه بالموت.
وتستمر الآية: } إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ { [يوسف:
53].
ونعلم أن هناك ما يشفي من الداء، وهناك ما يُحصِّن الإنسان، ويعطيه مناعة أن يصيبه
الداء، والحق سبحانه غفور، بمعنى أنه يغفر الذنوب، ويمحوها، والحق سبحانه رحيم،
بمعنى أنه يمنح الإنسان مناعة، فلا يصيبه الداء، فلا يقع في زلة أخرى.
والحق سبحانه هو القائل:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }[الإسراء: 82].
فساعةَ تسمع القرآن فهو يشفيك من الداء الذي تعاني منه نفسياً ويُقويَّ قدرتك على
مقاومة الداء؛ ويُفجِّر طاقات الشفاء الكامنة في أعماقك. وهو رحمة لك حين تتخذه
منهجاً، وتُطبِّقه في حياتك؛ فيمنحك مناعة تحميك من المرض، فهو طِبّ علاجيّ وطبّ
وقائيّ في آنٍ واحد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَقَالَ الْمَلِكُ... {.
(/1636)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
ونلحظ أن الملك قد قال: { ائْتُونِي بِهِ } [يوسف: 54].
مرتين، مرة: بعد أن سمع تأويل الرؤيا؛ لكن يوسف رفض الخروج من السجن إلا بعد أن
تثبت براءته؛ أو: أنه خرج وحضر المواجهة مع النسوة بما فيهنّ امرأة العزيز.
ورأى الملك في يوسف أخلاقاً رفيعة؛ وسِعَة عِلْم.
وانتهى اللقاء الأول ليتدبر الملك، ويُفكر في صفات هذا الرجل؛ والراحة النفسية
التي ملأتْ نفس الملك؛ وكيف دخل هذا الرجل قلبه.
والمرة الثانية عندما أراد الملك أن يستخلصه لنفسه ويجعله مستشاراً له.
ويورد الحق سبحانه هذا المعنى في قوله:
{ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ
الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف: 54].
وهذا الاستخلاص قد جاء بعد أن تكلم الملك مع يوسف، وبعد أن استشفَّ خفَّة يوسف على
نفسه؛ وتيقَّن الملك من بعد الحوار مع يوسف أنه رجل قد حفظ نفسه من أعنف الغرائز؛
غريزة الجنس.
وتيقن من أن يوسف تقبّل السجن، وعاش فيه لفترة طالتْ؛ وهو صاحب عِلْم، وقد ثبت ذلك
بتأويل الرُّؤيا؛ وقد فعل ذلك وهو سجين، ولم يقبل الخروج من السجن إلا لإثبات
براءته، أو بعد إثبات البراءة.
ولكلِّ ذلك صار من أهل الثقة عند الملك، الذي أعلن الأمر بقوله:
{ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف: 54].
وذلك ليسُدَّ باب الوِشَاية به، أو التآمر عليه. ومكانة " المكين " هي
المكانة التي لا ينال منها أيُّ أحد.
ولذلك نجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما تكلَّم عن الوحي من جبريل عليه السلام
قال:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ
مَكِينٍ }[التكوير: 19-20].
فالمعنى: أن يوسف عليه السلام أَهْل ٌللثقة عند الحاكم؛ وهو الذي سيُنفذ الأمور،
وله صِلَة بالمحكومين، وإذا كان هو المُمَكَّن من عند الحاكم؛ فهو أيضاً أمين مع
المحكومين.
والمشكلة في مجتمعاتنا المعاصرة إنما تحدث عندما يُرجِّح الحاكمُ من يراهم أهلَ
الثقة على أهل الخبرة والأمانة، فتختل موازين العدل.
وعلى الحاكم الذكيّ أن يختار الذين يتمتعون بالأمرين معاً: أمانة على المحكوم؛
وثقة عند الحاكم. وبهذا تعتدل الحياة على منهج الله.
وحين سمع يوسف عليه السلام هذا الكلام من الحاكم:
{ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف: 54].
قرر أن يطلب منه شيئاً يتعلق بتعبيره لرُؤْياه، التي سبق أن أوَّلها يوسف:{ قَالَ
تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ
إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ
شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ
* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ
يَعْصِرُونَ }[يوسف: 47-49].
وهذه عملية اقتصادية تحتاج إلى تخطيط وتطبيق ومتابعة وحُسْن تدبير وحزم وعِلْم.
لذلك كان مطلب يوسف عليه السلام فيه تأكيد على أن الواقع القادم سيأتي وفقاً
لتأويله للرؤيا، فتقول الآيات: { قَالَ اجْعَلْنِي... }.
(/1637)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أن القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة، لا تبعثر
ما سوف يأتي في سنين الخصب؛ لتضمن الاطمئنان في سنين الشدة، وتلك مهمة تتطلب الحفظ
والعلم.
وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلَّى بهما يوسف عليه السلام.
وقد يقول قائل: أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية؟ والقاعدة تقول: إن طالب
الولاية لا يولَّى.
فيوسف عليه السلام لم يطلب ولاية، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً
لدعوته وتحقيقاً لرسالته، حيث أنه كان آمراً فيستجاب، ولم يكن مأموراً للإيجاب حيث
أنه كان واثقاً بالإيمان ومؤمناً بوثوق.
وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام
بالمهمة فله أن يعرض نفسه.
ومثال ذلك: لنفترض أن قوماً قد ركبوا سفينة؛ ثم هاجتْ الرياح وهبَّتْ العاصفة؛
وتعقَّدت الأمور؛ وارتبك القبطان، وجاءه مَنْ يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا
الأمر، ويُحسن إدارة قيادة المركب، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك.
هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة؛ وبعد أن ينتهي الموقف؛
على القبطان أن يُوجِّه الشكر لهذا الخبير؛ ويعود لقيادة السفينة.
إذن: فمن حقِّ الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعيَّن عليه ذلك، بأن يرى أمراً يتعرض
له غير ذي خبرة يُفسد هذا الأمر، وهو يعلم وَجْه الصلاح فيه. وهنا يكون التدخل فرض
عين من أجل إنقاذ المجتمع.
وفي مثل هذه الحالة نجد مَنْ طلب الولاية وهو يملك شجاعتين:
الشجاعة الأولى: أنه طلب الولاية لنفسه؛ لثقته في إنجاح المهمة.
والشجاعة الثانية: إنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصباً لا يعلم إدارته، وبهذا
يصير الباطل متصرفاً.
وبذلك يُظهر وَجْه الحق؛ ويُزيل سيطرة الباطل.
ولذلك نجد يوسف عليه السلام يقول للملك:
{ اجْعَلْنِي عَلَىا خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف: 55].
والخزائن يوجد فيها ما يُمكّن المسيطر عليها من قيادة الاقتصاد.
وقالوا: إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لوضع سياسة اقتصادية
يواجهون بها سبع سنين من الجَدْب، وتلك مسألة تتطلب حكمة وحِفْظاً وعِلْماً.
وكان يوسف عليه السلام يأخذ من كل راغبٍ في المَيْرة الأثمان من ذهب وفضة، ومَنْ
لا يملك ذهباً وفضة كان يُحضر الجواهر من الأحجار الكريمة؛ أو يأتي بالدواب ليأخذ
مقابلها طعاماً.
ومَنْ لا يملك كان يُحضر بعضاً من أبنائه للاسترقاق، أي: يقول رَبُّ الأسرة
الفقيرة: خُذْ هذا الولد ليكون عبداً لقاء أن آخذ طعاماً لبقية أفراد الأسرة.
وكان يوسف عليه السلام يُحسِن إدارة الأمر في سنوات الجَدْب ليشُد كل إنسان الحزام
على البطن، فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في مِعىً واحد، كما يقول رسولنا
صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:
" المؤمن يأكلَ في مِعيٍّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء ".
وكان التموين في سنوات الجَدْب يقتضي دِقَّة التخطيط، ولا يحتمل أيَّ إسراف.
وما دام لكل شيء ثمن يجب أن يُدفع، فكل إنسان سيأخذ على قَدْر ما معه، وبعد أن
انتهت سنوات الجَدْب، وجاءت سنوات الرخاء؛ أعاد يوسف لكل إنسان ما أخذه منه.
وحين سُئِل: ولماذا أخذتَ منهم ما دُمْتَ قد قررت أن تردَّ لهم ما أخذته؟
أجاب: كي يأخذ كل إنسان في أقلَّ الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب.
ومثل هذا يحدث عندنا حين نجد البعض، وهو يشتري الخبز المُدعَّم ليُطعِم به
الماشية، وحين يرتفع ثمن الخبز نجد كل إنسان يشتري في حدود ما معه من نقود، ويحرص
على ألاَّ يُلقِي مما اشترى شيئاً.
وكانت قدرة الدولة أيام الجفاف محدودة؛ لذلك وجب على كل فرد أن يعمل لنفسه.
ونحن نرى ذلك الأمر، وهو يتكرر في حياتنا؛ فحين لا يجد أحد ثمن اللحم فقد لا تهفو
نفسه إلى اللحم، وقد يعلن في كبرياء: " إن معدتي لم تَعُدْ تتحمل اللحم
".
وقد يعلن الفقير حُبَّه للسمك الصغير؛ لأن لحمه طيِّب، عكس السمك الكبير الذي يكون
لحمه " مِتفِّلاً " ، أو يعلن إعجابه بالفجل الطازج، لأنه لذيذ الطعم.
وقديماً في بدايات العمر كنا حين ندخل إلى المنزل، ونحن نعيش بعيداً عن بيوت الأهل
في سنوات الدراسة، ولا نجد إلا قرصاً واحداً من " الطعمية " ، كنا نقسم
هذا القرص ليكفي آخر لقمة في الرغيف، أما إذا دخلنا ووجدنا خمسة أقراص من الطعمية،
فكان الواحد منا يأكل نصف قرص من الطعمية مع لقمة واحدة.
وهكذا يتحمل كل واحد على قَدْر حركته وقدرته.
والشاعر يقول:والنفسُ راغبةٌ إذَا رغَّبتَها وإذَا تُرَدُّ إلى قَليلٍ
تَقْنَعُويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَكَذالِكَ مَكَّنَّا... {.
(/1638)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وهكذا كان تمكين الله ليوسف عليه السلام في الأرض، بحيث أدار شئون مصر بصورة
حازمة؛ عادلة؛ فلما جاء الجدب؛ لم يَأتِهَا وحدها؛ بل عَمَّ البلاد التي حولها.
بدليل أن هناك أُنَاساً من بلاد أخرى لجئوا يطلبون رزقهم منها؛ والمثل: إخوة يوسف
الذين جاءوا من الشام يطلبون طعاماً لهم ولمن ينتظرهم في بلادهم، فهذا دليل على أن
رُقْعة الشدة كانت شاسعة.
وقول الحق سبحانه:
{ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ
يَشَآءُ } [يوسف: 56].
نفهم منه أنه جعل لنفسه بيتاً في أكثر من مكان؛ ولا يَظُنَّن ظَانٌّ أن هذا لَوْنٌ
من اتساع أماكن التَّرَف.
لكن: لماذا لا ننظر إليها بعيون تكشف حقيقة رجال الإدارة في بعض البلاد؛ فما أنْ
يعلموا بوجود بيت للحاكم في منطقة ما؛ وقد يزوره؛ فهم يعتنون بكل المنطقة التي يقع
فيها هذا البيت.
وهذا ما نراه في حياتنا المعاصرة، فحين يزور الحاكم منطقة ما فَهُمْ يُعيدون رَصْف
الشوارع؛ ويصلحون المرافق؛ وقد يُحضِرون أُصَص الزرع ليُجمِّلوا المكان.
فما بَالُك إنْ عَلِموا بوجود بيت للحاكم في مكان ما؟ لا بُدَّ أنهم سَيُوالون
العناية بكل التفاصيل المتعلقة بالمرافق في هذا الموقع.
إذن: فقول الحق سبحانه هنا عن يوسف عليه السلام:
{ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ.. } [يوسف: 56].
يعني: شُيوع العناية بالخدمات لكل الذين يسكنون في هذا البلد؛ فلا تأخذ الأمر على
أنه تَرَف وشَرَف، بل خُذْ هذا القول على أنه تكليف سينتفع به المُحيطون، سواء
كانوا مقصودين به أو غير مقصودين.
وتلك لقطة توضح أن التبُّوء حيث يشاء ليس رحمةً به فقط؛ ولكنه رحمةٌ بالناس أيضاً.
ولذلك يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ } [يوسف: 56].
فَمَنْ كان يحيا بلا مياه صالحة للشرب ستصله المياه النقية؛ ومَنْ كان يشقى من أجل
أن يعيش في مكان مُريح ستتحول المنطقة التي يسكن فيها إلى مكان مُريح به كل
مُستلزمات العصر الذي يحيا فيه.
فيوسف المُمكّن في الأرض له مسكن مجاور له؛ وسيجد العناية من قِبَل الجهاز الإداري
حيثما ذهب، وتغمر العناية الجميع، رحمة من الله له، وللناس من حوله.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 56].
والمُحْسِن هو الذي يصنع شيئاً فوق ما طُلب منه.
وهنا سنجد الإحسان يُنسب ليوسف؛ لأنه حين أقام لنفسه بيتاً في أكثر من مكان؛ فقد
أحسن إلى أهل الأمكنة التي له فيها بيوت؛ بارتفاع مستوى الخدمة في المرافق وغيرها.
وسبحانه يجازي المحسنين بكمال وتمام الأجر، وقد كافأ يوسف عليه السلام بالتمكين مع
محبة من تولَّى أمرهم.
ويتابع الحق سبحانه: { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ.. }.
(/1639)
وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
ويوضح ـ هنا ـ سبحانه أنه لا يجزي المحسنين في الدنيا فقط؛ ولكن يجازيهم بخير أبقى
في الآخرة. وكلمة " خير " تستعمل استعمالين:
الأول: هو أن شيئاً خير من شيء آخر؛ أي: أنهما شركاء في الخير، وهو المعنى المقصود
هنا، والمثال: هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القويُّ خير
وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلِّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعِنْ
بالله ولا تعجز، وإنْ أصابك شيء فلا تَقُلْ: لو أنِّي فعلتُ كذا وكذا، ولكن قُلْ:
قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ".
والاستعمال الثاني لكلمة " خير ": هو خير مقابله شرّ، والمثال: هو قول
الحق تبارك وتعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن
يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8]، والحق سبحانه يريد أن
يعتدل ميزان حركة الحياة، لن يعتدل ميزان حركة الحياة بأن نقول للإنسان على
إطلاقه: سوف تأخذ أجر عملك الطيب في الآخرة؛ لأن المؤمن وحده هو الذي سيصدق ذلك.
أما الكافر فقد يظلم ويسفك الدماء، ويسرق ويستشري الفساد في الأرض.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الجزاءَ نوعين: جزاء في الدنيا لمَنْ يُحسِن، سواء
أكان مؤمناً أو كافراً؛ وجزاءً في الآخر يختصُّ به الحقُّ سبحانه المؤمنين به.
والحق سبحانه يقول هنا:
{ وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ }
[يوسف: 57].
أي: أنه أكثر خيراً من جزاء الدنيا؛ لأن جزاء الآخرة يدوم أبداً، على عكس خير
الدنيا الذي قد تفوتُه أو يفوتُك، بحُكْم أن الدنيا موقوتة بالنسبة لك بعمرك فيها؛
ولكن الآخرة لها الدَّيْمومة التي شاءها الله سبحانه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك عن إخوة يوسف: { وَجَآءَ إِخْوَةُ... }.
(/1640)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
وقد عرفهم يوسف؛ لكنهم لم يعرفوه، فقد ألقَوْهُ في الجُبِّ صغيراً؛ ومرَّتْ رحلته
في الحياة بعد أن عثر عليه بعض السيَّارة؛ وباعوه لعزيز مصر، لتمر به الأحداث
المتتابعة بما فيها من نُضْج جسدي وحُسْن فائق، ومُراودة من امرأة العزيز، ثم
سنوات السجن السبع.
ولكل حدث من تلك الأحداث أثر على ملامح الإنسان؛ فضلاً عن أنهم جاءوه وهو في منصبه
العالي، بما يفرضه عليه من وجاهة في الهيئة والملبس.
أما هو فقد عرفهم؛ لأنه قد تركهم وهم كبار، وقد تحددت ملامحهم، ونعلم أن الإنسان
حين يمر عليه عِقْد من الزمان؛ فهذا الزمن قد يزيد من تحديد ملامحه، إذا ما كانَ
كبيراً ناضجاً، لكنه لا يغيرها مثلما يُغيِّر الزمنُ ملامح الطفل حين يكبر ويصل
إلى النضج.
والذي دفعهم إلى المجيء هو القحط الذي لم يُؤثِّر على مصر وحدها؛ بل أثَّر أيضاً
على المناطق المجاورة لها.
وذاع أمر يوسف عليه السلام الذي اختزن الأقوات تحسُّباً لذلك القحط؛ وقد أرسلهم
أبوهم ليطلبوا منه الَميْرة والطعام، ولم يتخيَّلوا بأي حال أن يكون مَنْ أمامهم
هو أخوهم الذي ألقوْه في الجُبِّ.
ويقول الحق سبحانه: { وَلَمَّا جَهَّزَهُم.... }.
(/1641)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
ولا بُدَّ أنه قد تكلم معهم عن أحوالهم، وتركهم يَحْكُونَ له عن أبيهم وأخيهم،
وأنهم قد طلبوا المَيْرة؛ وأمر بتجهيزها لهم.
وكلمة " الجهاز " تُطلق هنا على ما تسبَّب في انتقالهم من موطنهم إلى
لقاء يوسف طلباً للميرة.
وطلب منهم ـ من بعد ذلك ـ أن يأتوا بأخيهم " بنيامين " معهم، وقال لهم:
{ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ }
[يوسف: 59].
وفي هذا تذكير لهم بأنه يُوفِي الكيل تماماً، وفيما يبدو أنهم طلبوا منه زيادة في
المَيْرة؛ بدَعوى أن لهم أخاً تركوه مع أبيهم الشيخ العجوز، فطلب منهم يوسف أن
يُحضِروا أخاهم كي يزيد لهم كيلاً إضافياً؛ لأنه لا يحب أن يعطي أحداً دون دليل
واضح؛ التزاماً منه بالعدل.
وكان كل منهم قد أتى على بعير، عليه بضائع يدفعونها كأثمان لِمَا يأخذونه، وحين
يحضرون ومعهم أخوهم سيأخذون كَيْل بعير فَوق ما أخذوه هذه المرَّة.
وهم قد قالوا لأبيهم هذا القول، حينما سألوه عن إرسال أخيهم معهم لمصاحبتهم في
الرحلة حسب طلب يوسف عليه السلام؛ لذلك تقول الآية:{ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ
}[يوسف: 65].
وقوله:
{ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } [يوسف: 59].
يعني: أنه يرحب بالضيوف؛ وقد لمسوا ذلك بحُسْن المكان الذي نزلوا فيه. بما فيه من
راحة وطيب الاستقبال، ووجود كل ما يحتاجه الضيف في إقامته.
وكلمة " مُنْزِل " في ظاهر الأمر أنها ضدّ مُعْلِي، وحقيقة المعنى هو:
مُنزِل مِنَ الذي ينزل بالمكان الموجود به كل مطلوبات حياته.
والحق سبحانه يقول عن الجنة:{ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ }[فصلت: 32].
أي: أنه سبحانه قد أعدَّ الجنة بما يفوق خيال البشر؛ وبمُطْلق صفات المغفرة
والرحمة، وإذا كان المَوْلى عَزَّ وجَلَّ هو الذي يعدّ؛ فلا بُدَّ أن يكون ما
أعدَّه فوق خيال البشر.
وقلت لإخواني الذين بُهروا بفندق رَاقٍ في سان فرانسيسكو: إن الإنسان حين يرى
أمراً طيباً، أو شيئاً رَاقِياً، أو جميلاً عند إنسان آخر سيستقبلها بواحد من
استقبالين: تظهر نَفسه فيه؛ فإن كان حَقُوداً فسينظر للأشياء بكراهية وبحقد، وإنْ
كان مؤمنا يفرح ويقول:
هذه النعمة التي أراها تزيد من عِشْقي في الجنة؛ لأن تلك النعمة التي أراها قد
صنعها بشر لبشر؛ فماذا عن صُنْع الله للجنة؟ وهو مَنْ خلق الكون كله بما فيه من
بشر؟
ودائماً أقول: ما رأيتُ نعيماً عند أحد إلا ازداد إيماني، بأن الذي أراه من نعمة
قد أعدَّه البشر للبشر؛ فما بالنا بما أعدَّه خالق البشر للمؤمنين من البشر؟
أما مَنْ ينظر نظرةَ حِقْد إلى النعمة عند الغير؛ فهو يحرم نفسه من صَبابة النعمة
عند الغير؛ لأن النعمة لها صَبابة عند صاحبها، وتتعلق به، وإن فرحتَ بالنعمة عند
إنسان؛ فثِقْ أن النعمة ستطرق بابك، وإن كرهتها عند غيرك؛ كرهتْ النعمة أن تأتي
إليك.
فإنْ أردتَ الخير الذي عند غيرك؛ عليك أن تحب النعمة التي عند هذا الغير؛ لتسعى
النعمة إليك؛ دون أن تتكلف عبء إدارة هذه النعمة أو صيانتها؛ لأنها ستأتي إليك
بقدرة الحق سبحانه.
وقَوْل يوسف عليه السلام في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ { [يوسف: 59].
هو إخبار منه يؤكد ما استقبلهم به من عدل، وتوفية للكيل، وحُسْن الضيافة، ولا شك
أنهم حين يُحضِرون أخاهم سيجدون نفس الاستقبال.
ويواصل الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف: } فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي... {.
(/1642)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
ويوسف يعلم مُقدَّماً صعوبة أن يأمنهم أبوهم على أخيهم؛ لذلك وجَّه إليهم هذا
الإنذار:
{ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي.. } [يوسف: 60].
قال لهم ذلك، وهو يعلم أن المَعَاد مَعَادُ قَحْط وجَدْب ومجاعة.
وأضاف يوسف:
{ وَلاَ تَقْرَبُونِ } [يوسف: 60].
أي: لا تأتوا ناحية هذا البلد الذي أحكمه؛ ولذلك سنجدهم يقولون لأبيهم من بعد
ذلك:{ اأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[يوسف: 63].
وتلقَّوْا الإنذار من يوسف، وقالوا ما أورده القرآن هنا: { قَالُواْ
سَنُرَاوِدُ.... }.
(/1643)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
وقولهم:
{ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ... } [يوسف: 61].
يعني: أن الأمر ليس سهلاً؛ وهم يعرفون ماذا فعلوا من قبل مع يوسف، والمُرَاودة
تعني أخْذ وردّ، وتحتاج إلى احتيال؛ وسبق المعنى في قوله الحق سبحانه:{
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ... }[يوسف: 23].
وأكدوا قولهم:
{ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } [يوسف: 61].
أي: أنهم سيبذلون كُلَّ جهودهم؛ كي يقبل والدهم إرسالَ أخيهم معهم، وهم يعلمون أن
هذا مطلبٌ صَعْب المَنال، عسير التحقيق.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ... }.
(/1644)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
أي: أن يوسف عليه السلام أمر مساعديه أنْ يُعيدوا البضائع التي أحضرها هؤلاء معهم
ليقايضوا بها ما أخذوه من قمح وطعام، وكان على مساعدي يوسف عليه السلام أن
يُنفِّذوا أمره بوضع هذه البضائع بشكل مُسْتتر في الرِّحال التي أَتَوْا عليها،
وفي هذا تشجيع لهم كي يعودوا مرة أخرى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { فَلَمَّا رَجَعُوا... }.
(/1645)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
وكان قولهم هذا هو أول خبر قالوه لأبيهم، فور عودتهم ومعهم المَيْرة، وكأنهم
أرادوا أن يُوضِّحوا للأب أنهم مُنِعوا مستقبلاً من أنْ يذهبوا إلى مصر، ما لم يكن
معهم أخوهم.
وحَكَوْا لأبيهم قصتهم مع عزيز مصر، وإن وافق الأب على إرسال أخيهم " بنيامين
" معهم؛ فلسوف يكتالون، ولسوف يحفظون أخاهم الصغير.
وهم في قولهم هذا يحاولون أن يُبعِدوا رِيبةَ الأب عَمَّا حدث ليوسف من قبل.
وهنا يأتي الحق سبحانه بما قاله أبوهم يعقوب عليه السلام: { قَالَ هَلْ
آمَنُكُمْ.... }.
(/1646)
قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
وهنا يُذكِّرهم أبوهم بأنهم لم يُقدِّموا من قبل ما يُطمئِنه على ذلك؛ فقد أضاعوا
أخاهم يوسف وقالوا: إن الذئب قد أكله.
وأضاف: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 64].
وهو قَوْل نتنسَّم فيه أنه قد وافق على ذهاب بنيامين معهم، وأنه يدعو الحق ليحفظ
ابنه.
وبدأ أبناء يعقوب في فتح متاعهم بعد الرحلة، وبعد الحوار مع أبيهم.
ويقول الحق سبحانه: { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ.... }.
(/1647)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وهكذا اكتشفوا أن بضائعهم التي حملوها معم في رحلتهم إلى مصر ليقايضوا بها
ويدفعوها ثمناً لِمَا أرادوا الحصول عليه من طعام ومَيْرة قد رُدَّتْ إليهم؛
وأعلنوا لأبيهم أنهم لا يرغبون أكثر من ذلك؛ فهم قد حصلوا على المَيْرة التي
يتغذَّوْنَ بها هم وأهاليهم.
ولا بُدَّ أن يصحبوا أخاهم في المرة القادمة، ولسوف يحفظونه، ولسوف يعودون ومعهم
كيْل زائد فوق بعير، وهذا أمر هَيِّن على عزيز مصر.
ولكن والدهم يعقوب عليه السلام قال ما أورده الحق سبحانه هنا: { قَالَ لَنْ
أُرْسِلَهُ... }.
(/1648)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
ونلحظ هنا رِقَّة قلب يعقوب وقُرْب موافقته على إرسال ابنه " بنيامين "
معهم إلى مصر، هذه الرِّقَّة التي بَدَتْ من قبل في قوله:{ فَاللَّهُ خَيْرٌ
حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }[يوسف: 64].
وطلب منهم أن يحلفوا بيمين مُوثقة أن يعودوا من رحلتهم إلى مصر، ومعهم أخوهم
" بنيامين " إذا ما ذهب معهم؛ ما لم يُحِطْ بهم أمر خارج عن الإرادة
البشرية، كأن يحاصرهم أعداء يُضيِّعونهم ويُضيِّعون بنيامين معهم؛ وهذا من احتياط
النبوة؛ لذلك قال:
{ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ... } [يوسف: 66].
وأقسم أبناء يعقوب على ذلك، وأعطَوْا أباهم اليمين والعهد على رَدِّ بنيامين،
وليكون الله شهيداً عليهم.
قال يعقوب:
{ اللَّهُ عَلَىا مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [يوسف: 66].
أي: أنه سبحانه مُطلع ورقيب، فإن خُنْتم فسبحانه المنتقم.
ويُوصِي يعقوب أولاده الأسباط: { وَقَالَ يابَنِيَّ.... }.
(/1649)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وقد قال يعقوب عليه السلام ذلك الكلام في المرة الثانية لذهابهم إلى مصر، بعد أن
عَلِم بحُسْن استقبال يوسف لهم، وأن بضاعتهم رُدَّتْ إليهم، وعلم بذلك أنهم صاروا
أصحاب حَظْوة عند عزيز مصر.
وساعةَ ترى إنساناً له شأن؛ فترقب أن يُعادى، لذلك توجَّس يعقوب خِيفة أن يُدبِّر
لهم أحد مكيدة؛ لأنهم أغراب.
ومن هنا أمرهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، وكانت المدن قديماً لها أبواب؛
تُفتح وتقفل في مواعيد محددة، وحين يدخلون فُرادى فلن ينتبه أحد أنهم جماعة.
وقد خاف يعقوب على أبنائه من الحسد، ونعلم أن الحسد موجود.
وقد علَّمنا سبحانه أن نستعيد به سبحانه من الحسد؛ لأنه سبحانه قد عَلِم أزلاً أن
الحسد أمر فوق طاقة دَفْع البشر له، وهو القائل:{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
* مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ
النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }[الفلق: 1-5].
وفي أمر الحسد أنت لا تستطيع أن تستعيذ بواحد مُسَاوٍ لك؛ لأن الحسد يأتي من مجهول
غير مُدْرَك، فالشعاع الخارج من العين قد يتأجج بالحقد على كل ذي نعمة، وإذا كان
عصرنا، وهو عصر الارتقاءات المادية قد توصَّل إلى استخدام الإشعاع في تفتيت الأشياء.
إذن: فمن الممكن أن يكون الحسدُ مثل تلك الإشعاعات؛ والتي قد يجعلها الله في عيون
بعض خلقه، وتكون النظرة مثل السهم النافذ، أو الرصاصة الفتاكة.
والحق سبحانه هو القائل:{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ }[المدثر:
31].
وإنْ قال قائل: ولماذا يُعطي الحق سبحانه بعضاً من خلقه تلك الخواص؟
أقول: إنه سبحانه يعطي من الإمكانات لبعض من خلقه، فيستخدمونها في غير موضعها،
وكلُّ إنسان بشكل ما عنده إمكانية النظرة، ولكن الحقد هو الذي يولد الشرارة
المُؤْذية، ويمكنك أن تنظر دون حسد إنْ قُلْتَ: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا
بالله، اللهم بارك.
بذلك لا تتحقق الإثارة اللازمة لتأجُّج الشرارة المؤذية، ويمكنك أن تستعيذ بالله
خالق البشر وخالق الأسرار، وتقرأ قول الحق سبحانه:{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن
شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }[الفلق:
1-5].
وأن تقول كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يُعوِّذ الحسن والحسين رضي
الله عنهما، ويقول: " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل
عين لامَّة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " كان أبوكما ـ إبراهيم ـ يُعوِّذ بها إسماعيل
وإسحاق عليهم السلام ".
كما " أنه صلى الله عليه وسلم: " كان إذا حَزَبَهُ أمر قام وصلى "
، لأن معنى حَزْب أمر للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لواحد من اتباع الرسول صلى
الله عليه وسلم أن هذا الأمر يخرج عن قدرة البشر.
وهنا على الإنسان أن يأوي إلى المُسبِّب، فهو الركن الشديد، بعد أن أخذتَ أنت
بالأسباب الممدودة لك من يد الله، وبذلك يكون ذهابك إلى الحق هو ذهاب المُضطر؛ لا
ذهاب الكسول عن الأخذ بالأسباب.
والحق سبحانه يقول:{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ }[النمل: 62].
والمضطر هو من استنفد كل أسبابه، ولم يَدْعُ ربه إلا بعد أن أخذ بكل الأسباب
الممدودة، فلا تطلب من ذات الله قبل أن تأخذ ما قدمه لك بيده سبحانه من أسباب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد يعقوب عليه السلام وقد أوصى أبناءه
ألاَّ يدخلوا مصر من باب واحد؛ بل من أبواب متفرقة خشية الحسد، وتنبهت قضية
الإيمان بما يقتضيه من تسلم لمشيئة الله، فقال:
} وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ.. { [يوسف: 67].
أي: لست أُغْني عنكم بحذري هذا من قدر الله، فهو مجرد حرص، أما النفع من ذلك الحرص
والتدبير فهو من أمر الله، ولذلك قال:
} إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ { [يوسف: 67].
فكل الخَلْق أمرهم راجع إلى الله، وعليه يعتمد يعقوب، وعليه يعتمد كل مؤمن.
ونفَّذَ أبناءُ يعقوب ما أمرهم به أبوهم، يقول سبحانه: } وَلَمَّا دَخَلُواْ... {.
(/1650)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
أي: ما كان دخولهم من حيث أمرهم أبوهم يردُّ عنهم أمراً أراده سبحانه، فلا شيء
يردُّ قضاء الله، ولعل أباهم قد أراد أنْ يردَّ عنهم حسد الحاسدين، أو: أن يُدسَّ
لهم أو يتشككوا فيهم، ولكن أي شيء لن يمنع قضاء الله.
ولذلك قال سبحانه:
{ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا... } [يوسف: 68] ويعقوب يعلم أن
أيَّ شيء لن يردَّ قدر الله، وسبحانه لم يُعْطِ الاحتياطات الولائية ليمنع الناس
بها قدرَ الله.
ويقول سبحانه هنا عن يعقوب:
{ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ... } [يوسف: 68].
أي: أنه يعرف موقع المُسبِّب وموقع الأسباب، ويعلم أن الأخذ بالأسباب لا ينافي
التوكل على الله؛ لأنه سبحانه قد خلق الأسباب رحمةً بعباده:
{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [يوسف: 68].
أي: يعزلون الأسباب عن المُسبِّب، وهذا ما يُتعِب الدنيا.
ويقول سبحانه بعد ذلك: { وَلَمَّا دَخَلُواْ... }.
(/1651)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
أي: أنهم حين دخلوا على يوسف أحسن استقبالهم؛ وأكرم وفادتهم؛ بعد أن وَفَّوْا
بوعدهم معه، وأحضروا أخاهم وشقيقه بنيامين معهم، وكان يوسف عليه السلام مُشْتاقاً
لشقيقه بنيامين.
وقد عرفنا من قبل أنه الشقيق الوحيد ليوسف؛ فهما من أم واحدة؛ أما بقية الإخوة فهم
من أمهات أخريات.
وقول الحق سبحانه عن يوسف:
{ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } [يوسف: 69].
يدلُّ على أن يوسف كان مُتشوِّقاً لرؤية شقيقه.
وقوله:
{ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
[يوسف: 69].
يوضح لنا أن إخوة يوسف قد استفردوا لفترة ببنيامين، ولم يُحْسِنوا معاملته، وحاول
يوسف أن يُسرِّي عن أخيه، وأن يُزيل عنه الكَدَر بسبب ما كان إخوته يفعلونه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ... }.
(/1652)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
أي: أن يوسف عليه السلام قد قام بصرف المَيْرة لهم، كما سبق أن وعدهم، وكما سبق أن
جَهَّزهم في المرَّة السابقة؛ وأراد أن يُبِقي أخاه معه في مصر؛ ولكن كيف يأخذه من
إخوته لِيُبقِيه معه؛ وقد أخذ أبوهم ميثاقاً عليهم ألاَّ يضيعوه، وألا يُفرِّطوا
فيه، كما فعلوا مع أخيه من قبل؟
إذن: لا بُدَّ من حيلة يستطيع بها أن يستبقي بها أخاه معه، وقد جَنَّد الله له
فيها إخوته الذين كانوا يُعَادونه، وكانوا يحقدون عليه وعلى أخيه.
وجاءت هنا حكاية صُوَاع الملك، التي يشرب فيها الملك، وتُستخدم كمكيال، وجعلها في
رَحْل أخيه.
وكلمة " السقاية " تُطلق إطلاقات متعددة من مادة " سقى " أي:
" السين " و " القاف " و " الياء " ، فتُطلق على
إسقاء الناس والحجيج الماء.
والقرآن الكريم يقول:{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }[التوبة: 19].
فكان معنى السقاية أيضاً هو المكان الذي يُوضَع فيه الماء ليشرب منه الناس.
أو: تُطلق " السقاية " على الآلة التي يُخرج بها الماء للشاربين.
وهنا تُطلق كلمة " السقاية " على الإناء الذي كان يشرب به الملك، ويُستخدم
كمكيال، وهذا دليلٌ على نَفَاسة المَكِيل.
وتُطلق أيضاً كلمة " صواع " على مثل هذه الأداة التي يُشرب منها، أو
يُرفع بها الماء من المكان إلى فَمِ الشارب؛ وأيضاً يُكَال بها؛ ومفردها "
صاع ".
ويقول الحق سبحانه هنا عن حيلة يوسف لاستبقاء أخيه معه:
{ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } [يوسف: 70].
أي: أمر بعضاً من أعوانه أن يَضَعوا " السقاية " في رَحْل أخيه، و
" الرَّحْل ": هو ما يوضع على البعير، وفيه متاع المسافر كله. وبعد أن
ركب إخوة يوسف جِمالهم استعداداً للعودة إلى الشام؛ وقعت المفاجأة لهم؛ والتي يقول
عنها الحق سبحانه:
{ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [يوسف:
70].
أي: يا أصحاب تلك العير أنتم سارقون. والسرقة فعل قبيح حينما يترتَّبُ عليها جزاء
يُوقَّع على السارق، والمسروق هو شيء ثمين.
وفيما يبدو أن هذه الحيلة تمَّتْ بموافقة من " بنيامين " ليمكث مع أخيه
يوسف حتى يحضر أبواه إلى مصر.
ولسائل أن يقول: وكيف رَضِى بنيامين بذلك، وهو أمر يُزِيد من حُزْن يعقوب؟ وكيف
يتهم يوسف إخوته بسرقة لم يرتكبوها؟
أقول: انظروا إلى دِقَّة القرآن، ولنُحْسِنَ الفهم عنه؛ لنرى أن حزن يعقوب على فَقْد
يوسف قد غلبه؛ فلَن يُؤثِّر فيه كثيراً فَقْد بنيامين.
ودليل ذلك أن يعقوب عليه السلام حين عاد أبناؤه وأخبروه بحكاية السرقة؛ واستبقاء
بنيامين في مصر قال:{ يَاأَسَفَىا عَلَى يُوسُفَ }[يوسف: 84].
ولم يذكر يعقوب بنيامين.
وأما عن اتهامهم بالسرقة؛ فالآية هنا لا تُحدِّد ماذا سرقوا بالضبط، وهم في نظر
يوسف قد سَرَقوه من أبيه، وألقوْه في الجُبِّ.
وهنا يأتي الحق سبحانه بموقف إخوة يوسف عليه السلام: { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ
عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ.. }.
(/1653)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
أي: أن إخوة يوسف أقبلوا على مَنْ يتهمونهم بالسرقة مُتسائِلين: ماذا فقدتم؟
ولماذا تتهموننا؟
وهنا يقول الحق سبحانه ما قاله من اتهموهم: { قَالُواْ نَفْقِدُ... }.
(/1654)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
أي: أن الذين أعلنوهم بالسرقة قالوا لهم: لقد ضاعت سقاية الملك؛ ويُقَال لها
" صواع " ، ومَنْ سيُخرجها من المكان المختفية به سوف ينال مكافأة قدرها
وَزْن حِمْل بعير؛ فلعل صُواع الملك قد خُبئت في حِمْل أحدكم دون قصد.
وأكد رئيس المنادين أنه الضامن لمن يُخرج صواع الملك، ويحضرها دون تفتيش أن ينال
جائزته، وهي حِمْل بعير من المَيْرة والغذاء.
وهنا قال إخوة يوسف عليه السلام: { قَالُواْ تَاللَّهِ... }.
(/1655)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
وقولهم { تَاللَّهِ } هو قسم، وعادةً تدخل " التاء " على لفظ الجلالة
عند القَسَم المقصود به التعجُّب، أي: أن إخوة يوسف أقسموا مُندهشين لاتهامهم
بأنهم لم يسرقوا؛ وأن الكُلَّ قد علم عنهم أنهم لم يأتوا بغرض الإفساد بسرقة أو
غير ذلك، لم يسبق أن اتهمهم أحد بمثل هذا الاتهام.
وهنا يأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنة مَنْ أعلنوا عن وجود سرقة، وأن المسروق
هو صُوَاع الملك.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ.... }.
(/1656)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
وهذا سؤال من مُسَاعدي يوسف لإخوة يوسف عن العقوبة المقررة في شريعتهم لمن يسرق؟
وماذا نفعل بمن نجد في رَحْله صُواع الملك؛ وثبت كذبكم بأنكم لم تسرقوه؟
وكان المعروف أن مَنْ يُضبط بسرقة في شريعة آل يعقوب أن يُسترقَّ أو يظل في خدمة
مَنْ سرقهم، كما فعلت عمة يوسف التي أحبته وعاش معها بعد وفاة أمه؛ وحين أراد
والده أن يسترده أخفَتْ في ثياب يوسف شيئاً عزيزاً ورثته عن أبيها إسحاق، وبذلك
استبقتْ يوسف معها، ولم يأخذه أبوه إلا بعد أن ماتت عمَّته.
وكان هدف يوسف عليه السلام إذن أن يستبقي أخاه معه؛ وهو قد علم من قبل هذا الحكم،
وهكذا تركهم يوسف عليه السلام يحكمون بأنفسهم الحكم الذي يَصْبُو إليه، وهو بقاء
أخيه معه.
ويُورِد الحق سبحانه قولهم: { قَالُواْ جَزَآؤُهُ... }.
(/1657)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
وهكذا نطقوا بالحُكْم هم أنفسهم، وأكَّدُوه بقولهم:
{ كَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [يوسف: 75].
وهكذا أعانوا هم يوسف لتحقيق مَأْربه ببقاء شقيقه معه، وأمر يوسفُ بتفتيش العير.
ويقول الحق سبحانه: { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ... }.
(/1658)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
وكان الهدف من البَدْء بتفتيش أوعيتهم؛ وهم عشرة؛ قبل وعاء شقيقه، كي ينفي احتمال
ظنِّهم بأنه طلب منهم أن يأتوا بأخيهم معهم ليدبر هو هذا الأمر، وفتش وعاء شقيقه
من بعد ذلك؛ ليستخرج منه صُوَاع الملك؛ وليُطبِّق عليه قانون شريعة آل يعقوب؛
فيستبقي شقيقه معه. وهذا دليل على الذكاء الحكيم.
وهكذا جعل الحق سبحانه الكيد مُحْكماً لصالح يوسف، وهو الحق القائل:
{ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف: 76].
أي: كان الكيد لصالحه.
ويتابع سبحانه:
{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ }
[يوسف: 76].
أي: ما كان يوسف ليأخذ أخاه في دين الملك الذي يحكم مصر؛ لولا فتوى الإخوة بأن
شريعتهم تحكم بذلك.
ويتابع سبحانه:
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:
76].
وهكذا رفع الله من شأن يوسف، وكَادَ له، وحقَّق له أمله، وهو يستحق كل ذلك؛ ورفعه
سبحانه درجاتٍ عالية من العلم والحكمة.
ولم يكُنْ الكيد بسبب أن يُنزِل بشقيقه عذاباً أو ضياعاً، بل نريد ليوسف ولأخيه
الرِّفْعة، فكأن كثيراً من المصائب تحدث للناس، وهم لا يَدْرون ما في المحنة من
المِنَح.
وعلى المؤمن أن يعلم أن أيَّ أمر صعب يقع عليه من غير رأي منه؛ لا بُدَّ وأن يشعر
أن فيه من الله نفعاً للإنسان.
وإخوة يوسف سبق أنْ كَادوا له، فماذا كانت نتيجة كَيْدهم؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يجعل الكيد كله لصالح يوسف، وجعله سبحانه ذَا علم، فقال:
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف: 76].
و(ذي علم) أي: صاحب علم. وكلاهما مُنْفِصل، أي: هناك " صاحب " ، وهناك
" علم " ، والصاحب يوجد أولاً؛ وبعد ذلك يطرأ عليه العلم؛ فيصير صاحبَ
عِلْم، ولكن فوقه:
{ عَلِيمٌ } [يوسف: 76].
أي: أن العلم ذاتيّ فيه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
فماذا كان موقف أخوة يوسف؟
بطبيعة الحال لابد أنهم قد بُهِتوا، أول تصرف منهم كان لا بُدَّ أن ينصرف إلى الأخ
الذي وُجدت السقاية في رَحْله؛ وأخذوا يُوبِّخونه؛ لأنه أحرجهم وفضحهم، وبحثوا عن
أسباب عندهم للحفيظة عليه؛ لا للرفق به.
وموقفهم المُسْبق منه معروف في قولهم:{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ }[يوسف: 8].
وهم يعلمون أن يوسف وأخاه من امرأة أخرى هي " راحيل " ، ولو كان شقيقاً
لهم لَتلَّطفوا به. وأوضح لهم: إن مَنْ جعل البضاعة في رِحَالي هو مَنْ جعل
البضاعة في رِحَالكم.
وهنا قال أحد الأخوة: تالله، يا أبناء راحيل، ما أكثر ما نزل علينا من البلاء
منكم، فَرَدَّ بنيامين: بنو راحيل نزل عليهم من البلاء منكم فوق ما نزل عليكم من
البلاء منهم.
ويورد الحق سبحانه هنا قولهم: { قَالُواْ إِن يَسْرِقْ... }.
(/1659)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
وهكذا ادَّعَوْا أن داء السرقة في بنيامين قد سبقه إليه شقيق له من قبل، وقالوا
ذلك في مجال تبرئة أنفسهم، وهكذا وَضُحَتْ ملامح العداوة منهم تجاه يوسف وأخيه.
وقولهم:
{ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ.. } [يوسف: 77].
يُسمَّى في اللغة قضية شرطية. ومعنى القضية الشرطية؛ أن حدثاً يقع بسبب حَدَث وقع
قبله، فهناك حَدَث يحدث وحده، وهناك حَدَث يحدث بشرط أن يحدث قبله حدث آخر.
مثال هذا هو قولك لتلميذ: إنْ تذاكر دروسك تنجحْ، وهنا حَدَثان، المذاكرة والنجاح،
فكأن حدوثَ النجاح الشرط فيه حدوث المذاكرة، ولا بُدَّ أن يحدث الشرط أولاً؛ ثم
يحدث الحدث الثاني، وهو هنا قولهم:
{ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [يوسف: 77]. كتعليل لسرقة بنيامين.
والمثل من القرآن أيضاً:{ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ
}[آل عمران: 184].
فكأن الله يوضح للرسول صلى الله عليه وسلم: إنْ كذَّبوك الآن فيما تنقل لهم من
أخبار السماء؛ فلا تحزن ولا تبتئس؛ فهذا التكذيب ظاهرة عَانَى منها كل الرسل السابقين
لك؛ لأنهم يجيئون بما يُنكره المرسل إليهم أولاً، فلا بد أن يكذبوا، وهكذا يستقيم
الشرط، لأن الحق سبحانه هنا قد عدل بالشيء عن سببه، فكان جواب الشرط بعد الزمان
الذي حدث فيه الشرط.
وهنا قال الحق سبحانه:
{ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ.. } [يوسف: 77].
أي: لا تعجب يا عزيز مصر؛ لأن هذه خصلة في أولاد راحيل، قالوا ذلك وهم يجهلون أنهم
يتحدثون إلى يوسف ابن راحيل!!
وكل حدث يحدث للمَلَكات المستقيمة؛ لا بُدَّ أن يُخرج تلك المَلَكات عن وضعها،
ونرى ذلك لحظة أن يتفوَّه واحد بكلمة تُخرج إنساناً مستقيماً عن حاله وتُنغِّصه،
ويدرك بها الإنسان المستقيم ما يؤلمه؛ وينفعل انفعالاً يجعله ينزع للردِّ.
ولذلك يوصينا صلى الله عليه وسلم: " إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب
عنه الغضب؛ وإلا فليضطجع ".
كي يساعد نفسه على كَظْم ضيقه وغضبه، ولِيُسرِّب جزءاً من الطاقة التي تشحنه
بالانفعال.
ولكن يوسف عليه السلام لم ينزع إلى الرد، لذلك قال الحق سبحانه:
{ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ... } [يوسف: 77].
وكان يستطيع أن يقول لهم ما حدث له من عمَّته التي اتهمته بالباطل أنه سرق؛ لتحتفظ
به في حضانتها من فَرْط حُبِّها له، لكن يوسف عليه السلام أراد أن يظل مجهولاً
بالنسبة لهم، لتأخذ الأمور مجراها:
{ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ.. } [يوسف: 77].
حدث ذلك رغم أن قولهم قد أثَّر فيه، ولكن قال رأيه فيهم لنفسه:
{ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } [يوسف: 77].
لأنكم أنتم مَنْ أخذتموني طفلاً لألعب؛ ثم ألقيتموني في الجب؛ وتركتم أبي بلا
موانسة.
. وأنا لم أسرق بل سُرِقت، وهكذا سرقتم ابناً من أبيه.
وهو إنْ قال هذا في نفسه فلا بُدَّ أن انفعاله بهذا القول قد ظهر على ملامحه، وقد
يظهر المعنى على الملامح، ليصِلَ إليهم المعنى، والقول ليس إلا ألفاظاً يصل به
مدلول الكلام إلى مُسْتمع.
وقد وصل المعنى من خلال انفعال يوسف.
وقوله: } وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ { [يوسف: 77].
أي: أنه سبحانه أعلم بما تنعتون، وتظهرون العلامات والسِّمات، وغلبت كلمة "
تصفون " على الكلام.
ومثال هذا هو قول الحق سبحانه:{ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ
الْكَذِبَ هَـاذَا حَلاَلٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ }[النحل: 116].
أي: أن ما تقولونه يُوحي من تلقاء نفسه أنه كَذِب، وهكذا نعرف أن كلمة "
تَصِف " وكلمة " تصفون " غلب في استعمالهما للكلام الذي يحمل معه
دليلَ كَذِبه.
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنتهم بعد ذلك: } قَالُواْ ياأَيُّهَا... {.
(/1660)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
وهكذا دخلوا مع يوسف في نقاش، وبدأوا في الاستعطاف؛ بقولهم:
{ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً... } [يوسف: 78].
ونلحظ أن كلمة " كبير " تُطلق إطلاقات متعددة، إنْ أردتَ الكِبَر في
السنِّ تكون من " كَبرَ يَكْبَر " ، وإنْ أردتَ الكِبَرَ في المقام
تقول: " كَبُرَ يَكبُر ".
والحق سبحانه يقول:{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن
يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }[الكهف: 5].
والكِبَر واحد من معاني العظمة، أما الكِبَرُ في السِّنِّ فهو مختلف؛ وهنا قالوا:
{ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً... } [يوسف: 78].
قد تكون ترقيقاً بالعزة، أو ترقيقاً بالضعف.
أي: إن له أباً شيخاً كبيراً عظيماً في قومه؛ وحين يُبلغه أن ابنه قد احتُجز من
أجل سرقة، فهذا أمر مؤلم؛ ولك أن تُقدِّر ذلك وأنت عزيز مصر؛ ونرجو أن تحفظ للأب
شرفه ومَجْده وعظمته، واسْتُرْ ذلك الأمر من أجل خاطر ومكانة والده.
أو: أن يكون قولهم مقصوداً به، أن الأب شيخ مُهدَّم، لا يحتمل الصدمة، وخصوصاً أن
له ابناً قد فُقِد.
ثم يعرضون عَرْضاً آخر، فيقولون:
{ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف:78].
أي: أنهم سألوه أن يُتمِّمَ إحسانه عليهم، فقد أحسن استقبالهم؛ وسبق أن أنزلهم
منزلاً كريماً، وأعطاهم المَيْرة، ولم يأخذ بضائعهم ثمناً لها.
ومَنْ يفعل ذلك؛ لا يضِنُّ عليهم بأن يستجيب لرجائهم، بأن يأخذ واحداً منهم بدلاً
من أخيهم الصغير.
كل هذه ترقيقات منهم لقلبه، ولكن القاعدة هي ألاَّ يُؤاخذ بالذنب إلا صاحبه؛ ولذلك
لم يَفُتْ هذا الأمر على يوسف، فجاء الحق سبحانه بما يوضح ذلك: { قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ... }.
(/1661)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
ويستعيذ يوسف عليه السلام بالله أن يأخذ أحداً بدلاً ممَّنْ وُجِد في متاعه صُوَاع
الملك، فما ذنبه في هذا الأمر؟ ولا أحد يمكن أن ينال عقاباً على ذنب ارتكبه غيره.
وساعةَ تقرأ " إذا " مُنوَّنة؛ فاعرف أن هناك جملةً محذوفةً، أي: أن
يوسف قال: إنْ أخذنا غير مَنْ وجدنا متاعنا عنده نكون من الظالمين.
وجاء " التنوين " بدلاً من الجملة المحذوفة التي ذكرناها.
ومثال آخر من القرآن هو قول الحق سبحانه:{ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
}[الواقعة: 84].
ويحدث ذلك حين تبلغ الرُّوح الحلقوم، وجاء " التنوين " عِوَضاً عن
الجملة كلها.
وهكذا أراد يوسف أن يُذكِّرهم أنه لا يحِقُّ له أن يأخذ أخاً منهم بدلاً من
بنيامين؛ لأنه هو مَنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك؛ ولا يصح له أن يظلم أحداً، أو
يأخذ أحداً بجريرة أحد آخر.
وهنا علم أبناء يعقوب أن المسألة لا يُبَتُّ فيها بسهولة؛ لأنها تتعلق بأمر خطير.
ويصور الحق سبحانه حالتهم هذه فيقول: { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ.. }.
(/1662)
فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
ويقال: " يئس " أي: قطع الأمل من الشيء، وهم لم يقطعوا الأمل فقط، بل
استيأسوا، وهو أمر فوق اليأس.
فهم قد أخذوا يُرقِّقون كل ألوان المُرقِّقات؛ ولا فائدة؛ وكلما أوردوا مُرقِّقاً؛
يجدون الباب أمامهم مُوصَداً.
وكأنهم بذلك يُلِحُّون على اليأس أن يأتيهم؛ لأن الظروف المحيطة والجو المحيط لا
يحمل أي بارقة أملٍ، وكلما تبدو بارقةُ أملٍ ويطلبونها يجدون الطريق مُوصَداً؛
فكأنهم يطلبون اليأس من أن يأذن يوسف بسفر أخيهم بنيامين معهم في رحلة العودة إلى
أبيهم.
وهنا: { خَلَصُواْ نَجِيّاً.. } [يوسف: 80].
أي: أنهم انفردوا عنه، وعن أعين الحاضرين؛ العزيز يوسف، ومَنْ حوله من
المُعَاونِين له، وأخيهم موضع الخلاف، وانفردوا بأنفسهم.
والانفراد هو المناجاة؛ والمناجاة مَسرَّة؛ والمَسرَّة لا تكون إلا في أمر لا تحب
لغيرك أن يطلع عليه.
ونلحظ أن: { خَلَصُواْ... } [يوسف: 80] هي جمع، و: { نَجِيّاً } [يوسف: 80] مفرد،
وهذا من ضمن المواقع التي يتساءل فيها مَنْ لا يملكون مَلَكةً عربية: كيف يأتي
القرآن بمفرد بعد الجمع؟
ونقول دائماً: لو أنهم امتلكوا اللغة كملَكَة لَعرفوا أن ذلك جائز جداً. ومثال هذا
هو قول الحق سبحانه:{ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }[التحريم: 4].
وهم لا يفهمون أن اللغة فيها ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، كأن الملائكة يجمعون
قوة كل واحد منهم لتكون قوة واحدة.
ومثال آخر: هو قول إبراهيم خليل الرحمن:{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي
إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء: 75-77].
أي: أن إبراهيم عليه السلام جمع الآلهة المتعددة التي يعبدونها وجعلها عدواً
واحداً له.
وكذلك يمكن أن نفعل مع كلمة " صديق " ، وكذلك كلمة " عَدْل "
فحين ينظر القضاء في أمر قضية ما؛ فالقاضي لا يُصدِر الحكم وحده؛ بل يُصِدره بعد
التشاور مع المُستَشارين؛ ويصدر الحكم من الثلاثة: رئيس المحكمة، وعضو اليمين،
وعضو اليسار وكلاهما بدرجة مستشار.
ويُقَال: " حكم القضاة عَدْلاً ". ولا يقال: إن كل مستشار أو قاض له
عدل.
وكذلك: { نَجِيّاً } [يوسف: 80] في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فهم حين
استيأسوا من يوسف انفردوا بأنفسهم ليتناجوا.
وعادة يكون الرأي الأول للأخ الأكبر، الذي عادة ما يكون له من الخبرة والحكمة ما
يتيح له أن يُبدِي الرأي الصواب.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ
أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىا يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [يوسف: 80].
وقد يكون كبيرهم هو أكبرهم عمراً؛ أو هو رئيس الرحلة، وحين رآهم قد قَبِلوا فكرة
العودة دون أخيهم الذي احتجزه عزيز مصر؛ قال لهم رأيه الذي حذرهم فيه أنْ يغفلوا
عن أن أباهم قد أخذ منهم موثقاً من الله إلا أنْ يُحَاط بهم؛ كما يجب ألا ينسوا أن
لهم سابقة حين أخذوا يوسف وضيَّعوه.
وبناءً على ذلك استقر قراره ألاّ يبرحَ المكان، ولن يعود إلى أبيه إلا إنْ أذِنَ
له بذلك؛ أو أن يحكمَ الله له بأن يُسلِّمه عزيزُ مصر أخاه، أو أن يموت هنا في نفس
البلد.
وهذا القول في ظاهره دفاع عن النفس؛ وخجل من أن يعود إلى أبيه بدون بنيامين؛ ولذلك
ترك أخوته يتحملَّون تلك المواجهة مع الأب.
وتبدو هذه المسألة أكثر قسوة على الأب؛ لأنه فقد في الرحلة الأولى يوسف، وفي
الرحلة الثانية يفقد ابنه بنيامين، وكذلك الابن الكبير الذي يرأس الرحلة.
وفي هذا تصعيد للقسوة على الأب، وكان المفروض أن تدور مُدَاولَة بين الأخوة في تلك
المُنَاجاة، ولكن الأخ الكبير أو رئيس الرحلة حسم الأمر.
وحين سألوه: ماذا نفعل يا كبيرنا؟ جاء قوله الذي أوردته الآية التالية: }
ارْجِعُواْ إِلَىا أَبِيكُمْ... {.
(/1663)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
وهكذا أمر الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة إخوته أن يرجعوا إلى أبيهم، ويقولوا له ما
حدث بالضبط، فقد اتُّهم ابنه بالسرقة، ونحن لا نقول هذا الكلام إلا بعد أن وجد
فِتيان العزيز صُوَاع الملك في رَحْلِه، ولا نعلم هل دَسَّها أحد له؟ وهل هي حِيلة
ومكيدة؟
ونحن لا نقول لك يا أبانا إلا ما وصل إلينا من معلومات، وقد أخذه العزيز طبقاً
لشريعتنا، ونحن بخبرتنا بأخينا لا نشهد عليه بالسرقة، إلا أن ثبوتَ وجود صُواع
الملك في رَحْله هو السبب في كل ذلك.
ويعلم الأخ الأكبر أن يعقوب عليه السلام قد يُكذِّب أولاده؛ لأن هناك سوابقَ لهم؛
لذلك أوصاهم الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة أن يقولوا لأبيهم ـ إنْ كَذَّبهم ـ ما جاء
به الحق على ألسنتهم: { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ... }.
(/1664)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
أي: أنك يا أبانا إنْ كنتَ تشك في أقوالنا؛ يمكنك أن تطلب أدلة أخرى من المكان
الذي كنا فيه؛ لأن هذا الموضوع قد أحدث ضجَّة وحدث أمام جمع كبير من الناس،
والقوافل التي كانت معنا شهدتْ الواقعة؛ فقد أذَّن مُؤذِّن بالحادث، وتَمَّ تفتيش
العِير علناً.
فإذا أردتَ أن تتأكد من صدق أقوالنا، فاسأل العِير التي كانت تسير معنا في الطريق،
وهم يعرفون هذه القضية كما نعرفها، أو اسأل أهل القرية التي جئنا منها.
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه أورد كلام أخوة يوسف لأبيهم يعقوب:
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا.. } [يوسف: 82].
ونحن نعلم أن كل حَدَثٍ من الأحداث لا بُدَّ له من فاعل، ومن مفعول يقع عليه، ومن
مكان يقع فيه، ومن زمان يقع فيه؛ ومن سبب يُوجِبه، ومن قوة تنهض به.
وفي بعض الحالات نجد أن المكان هو الأمر الظاهر والقوي في الحدث، فننسبه إليه،
فيُقال:
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: 82].
والمراد بطبيعة الحال أن يَسأل أهل القرية، أو: أن المسألة كانت واضحة تماماً
لدرجة أن الجماد يعرف تفاصيلها، أو: أنك نبيٌّ ويوحي لك الله فَسَلْهُ أن يجعل
الأرض تخبرك بما وقع عليها.
وكذلك قولهم:
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ } [يوسف: 82].
ونعلم أن العير هي المَطايا؛ سواء أكانت نِياقاً أو كانت من الجمال أو الحمير أو
البِغَال التي تحمل البضائع.
وحين يُقَال:
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ... } [يوسف: 82].
أي: أن العير كان لها في الأمر شيء فوق المُلاَبسات كلها.
ومثال هذا ما كان في موقعة بدر؛ فقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلقَى
العير القادمة من الشام وهي مُحمَّلة بالبضائع؛ ليصادرها إيفاء ما استولى عليه
الكافرون من أموال المهاجرين التي كانت بمكة، ولم يكن مع هذه العير إلا قليل من
الحرس والرعاة.
ولكن حين تكلم عن المقاتلين الذين قَدِموا من مكة؛ وصفهم بالنفير، أي: الجماعة
الذين نفروا لمواجهة معسكر الإيمان.
إذن: فكل حَدَث يأخذ الأمر البارز فيه.
وهنا يورد الحق سبحانه ما جاء على ألسنة إخوة يوسف حينما عادوا ليلقَوْا أباهم،
وليس معهم أخوهم بنيامين؛ وكذلك تَخَلُّف أخيهم الكبير أو رئيس الرحلة.
يقول الحق سبحانه: { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا... } [يوسف: 82].
ويجوز أن تفتيشهم قد تَمَّ في مكان بعيد قليلاً عن العُمْران؛ وفحص جنود أو مساعدو
يوسف أمتعتهم التي عثروا فيها على صواع الملك.
وسُمى المكان " قرية " ، مثلما نفعل نحن حالياً حين نخصص مكاناً
للجمارك؛ نفحص فيه البضائع الخارجة أو الداخلة إلى البلد، فقولهم:
{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا... } [يوسف: 82].
أي: اسأل أهل الموقع الذي حدث فيه التفتيش.
وكذلك قولهم: } وَالّعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {
[يوسف: 82].
أي: اسأل مَنْ كانوا معنا، وجِئْنا بصحبتهم من أصحاب القوافل الأخرى.
وكرر قولهم:
} وَإِنَّا لَصَادِقُونَ { [يوسف: 82].
لأنهم علموا سابق كذبهم من قبل ذلك؛ لذلك أرادوا هنا أن يُثبتوا صدقهم؛ وحين يسأل
أبوهم يعقوب؛ سيجد أنهم صادقون فعلاً، وهم لم يطلبوا شهادة الغير إلا لأنهم واثقون
من صدقهم هذه المرة.
وجاء الحق سبحانه بهذه الجملة الاسمية:
} وَإِنَّا لَصَادِقُونَ { [يوسف: 82].
لأنهم قد فهموا أن والدهم قد شَكَّ فيهم من قبل، حين جاءوا بدم كذبٍ، وادَّعوا أنه
قميص يوسف، وأن الذئب قد أكله.
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب: } قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ... {.
(/1665)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
الأمور التي تخالف الضمير؛ ويُستحى منها؛ ويُخشى مَغبَّتها؛ هي أمور تستعصي على
النفس؛ وتحتاج النفس إلى علاج حتى تبرزها، وتحتاج إلى مَنْ يُيسّر لها، ما أن
تُقدِم على فعل الأمر المستهجن، وهذا ما يُقال له: " سَوَّل ".
وقول الحق سبحانه على لسان يعقوب:
{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً... } [يوسف: 83].
أي: يسَّرتْ لكم أنفسكم أمراً يصعب أن تقبله النفوس المستقيمة، وسبق أن قال يعقوب
لحظةَ أنْ جاءوا له بقميص يوسف وعليه الدم الكاذب:{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىا مَا
تَصِفُونَ }[يوسف: 18].
وهنا طلب يعقوب عليه السلام العون مما يدل على أن ما قالوه، وكذلك أحداث القصة لن
تقف عند هذا الحّدِّ، بل ستأتي من بعد ما قالوه أحداث تتطلب تجنيد قوى الصبر في
النفس، وتتطلب معونة الله.
ويختلف الأمر هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ما جاء بعد الحديث عن تسويل
النفس، واستلهام الصبر من الله، فَهِبَات الفرج قد اقتربتْ، فقال:
{ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً... } [يوسف: 83].
في هذه الآية طلب الأمل الذي يوحي بالفرج، وقد كان.
وبعض من الذين تأخذهم الغفلة يتساءلون:
لماذا قال يعقوب:
{ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.. } [يوسف: 83].
والغائب عنه هما يوسف وأخوه؟
ونقول: ولماذا تنسوْنَ كبير الأخوة الذي رفض أن يبرحَ مصر، إلا بعد أن يأذن له
يعقوب، أو يفرج عنه الله؟
لقد غاب عن يعقوب ثلاثة من أولاده: يوسف وبنيامين وشمعون؛ لذلك قال:
{ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً.. } [يوسف: 83].
ولم يَقُلْ: يأتيني بهما.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف: 83].
فالله سبحانه يعلم أين هم؛ لأنه العليم بكل شيء، وهو سبحانه حكيم فيما يُجريه
علينا من تصرّفات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَتَوَلَّىا عَنْهُمْ... }.
(/1666)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
وأعرض يعقوب عليه السلام عنهم؛ فما جاءوا به هو خبر أحزنه، وخَلاَ بنفسه؛ لأنه
ببشريته تحسَّر على يوسف، فقد كانت قاعدة المصائب هي افتقاده يوسفَ.
وساعةَ تسمع نداءً لشيء محزن، مثل: " وا حُزْناه " أو " وا أسفاه
" أو " وا مُصيبتاه "؛ فهذا يعني أن النفس تضيق بالأحداث وتقول
" يا همّ، هذا أوانك، فاحضر ". أو أنه قال:
{ يَاأَسَفَىا عَلَى يُوسُفَ... } [يوسف: 84].
لأن أخاه بنيامين كان أشبهَ الناس به؛ فكان حُزْنه على يوسف طاقة من الهَمِّ نزلتْ
به، وتبعتها طاقة هَمٍّ أخرى، وهي افتقاد بنيامين.
وقول الحق سبحانه:
{ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ } [يوسف: 84].
أي: أن دموع يعقوب كثُرتْ حتى بَدا الجزء الأسود في العين وكأنه أبيض. أو: ابيضتْ
عيناه من فَرْط حُزنه، الذي لا يبثُّه لأحد ويكظمه.
وهو قد يكظم غيظه من كل ما حدث، أما الانفعالات فلا أحد بقادر على أن يتحكم فيها.
" ونجد رسولنا صلى الله عليه وسلم يبكي؛ وتذرف عيناه حُزْناً على موت ابنه
إبراهيم، فقال له عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ: أتبكي؟ أو لم تكن نهيْتَ عن
البكاء؟ قال: " لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحْمقيْنِ فاجرين: صوت عند مصيبة،
خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان ".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا
نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ".
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه لا يريد من الإنسان أن يكون جلموداً أو يكون صخراً لا
ينفعل للأحداث، بل يريده مُنفعلاً للأحداث؛ لأن هذا لَوْنٌ يجب أن يكون في
إنسانيته، وهذه عاطفة يريد الله أن يُبقيها، وعلى المؤمن أن يُعلِيها.
فسبحانه هو الذي خلق العاطفة، والغريزة في الإنسان، ولو أراد الله الإنسانَ بلا
عاطفة أو غريزة لَفعلَ ما شاء، لكنه أراد العاطفة والغريزة في الإنسان لمهمة.
ولحظة أن تخرج العاطفة أو الغريزة عن مُهمتها، يقول لك المنهج: لا. لأن مهمة
المنهج أن يُهذِّب لك الانفعال.
والمثل الذي أضربه هنا هو حُبُّ الإنسان للاستمتاع بالطعام، يقول له المنهج: كُلْ
ما يفيدك ولا تَكُنْ شَرِهاً.
والمثل الآخر: غريزة حب الاستطلاع، يقول لك المنهج: اعرف ما يفيدك؛ ولا تستخدم هذه
الغريزة في التجسُّس على الناس.
وغريزة الجنس أرادها الله لإبقاء النوع، ولتأتي بالأولاد والذرية، لكن لا تستعملها
كانطلاقات وحشية. وهكذا يحرس المنهجُ الغرائزَ والعواطفَ لتبقى في إطار مهمتها.
والعاطفة ـ على سبيل المثال ـ هي التي تجعل الأب يَحنُو على ابنه الصغير ويرعاه،
وعلى ذلك فالمؤمن عليه أن يُعْلِي غرائزه وعواطفه.
وقول الحق سبحانه عن يعقوب:
{ فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف: 84].
أي: أنه أخذ النزوع على قَدْره. وكلمة " كظيم " مأخوذة من " كظمت
القربة " أي: أحكمنا غَلْق فوهة القِرْبة، بما يمنع تسرُّب الماء منها.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { قَالُواْ تَالله... }.
(/1667)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
ولقائل أن يسأل: ومَنِ الذين قالوا ليعقوب ذلك، وقد ذكرت الآية السابقة أنه تولَّى
عنهم؟
نقول: لقد عاش يعقوب مع أبنائه وأحفاده، ويُقَال في الأثر: إن يعقوب دخل عليه بعض
الناس، فقالوا له " تالله انهشمت يا يعقوب، ولم تبلغ سِنَّ أبيك إسحاق
".
والمعنى: أنك صِرْت عجوزاً عاجزاً، مهشماً. قال: إنما هشَّمني يوسف. فعتب عليه
الله في هذه القَوْلة، وأوضح له: أتشكو ربك لخلقه؟ فرفع يده وقال: خطيئة أخطأتها
يا رب فاغفرها لي. قال: غفرتُها لك.
وقد نبَّهه بعض أبنائه أو أحفاده فقالوا:
{ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىا تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ
الْهَالِكِينَ } [يوسف: 85].
أي: لا تزال تذكر يوسف وما حدث له، حتى تُشرف على الهلاك. و " الحَرَض "
كما نعلم هو المُشْرِف على الهلاك، أو يهلك بالفعل.
وجاء الرد من يعقوب عليه السلام، وأورده الحق سبحانه: { قَالَ إِنَّمَآ
أَشْكُواْ... }.
(/1668)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
وشكاية الأمر إلى الله لَوْن من العبادة لله، والبَثُّ: هي المصيبة التي لا قُدرة
لأحد على كتمانها؛ فينشرها، وإذا أصاب الأعلى الأدنى بما يراه الأدنى سوءً، يتفرع
الأدنى إلى نوعين: نوع يتودد إلى الأقوى، ويتعطفه ويلين له، ويستغفره ويستميحه،
ونوع آخر يتأبى على المُبْتَلى. ويتمرد، ولسان حاله يقول: " فليفعل ما يريد
".
والحق تبارك وتعالى يقول في كتابه:{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا
تَضَرَّعُواْ }[الأنعام: 43].
فساعة يأتي البأْسُ ونتضرع إلى الله؛ يكون البأس قد غسلنا من الذنوب ونسيان
الذِّكْر؛ وأعادنا إلى الله الذي لن يزيل البأس إلا هو.
أما الذي يتمرد ويستعلي على الأحداث، فويل له من ذلك التمرد. والحق سبحانه حين
يصيب إنساناً بمصيبة، فهو يلطف بِمَنْ يدعوه.
وتساءَل بعضهم: ولماذا لم يَقُلْ يعقوب ما علَّمنا إياه رسولنا صلى الله عليه
وسلم:{ الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }[البقرة: 156].
ونقول: إن هذا من النعم التي اختصَّ بها الحق سبحانه أمةَ محمد صلى الله عليه
وسلم؛ وحين دخل بعضهم على عليّ بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه وأرضاه ـ وكان يعاني
من وَعْكة، وكان يتأوه، فقالوا له: يا أبا الحسن أتتوجَّع؟ قال: أنا لا أشجع على
الله.
وهنا في الآية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ يعلن يعقوب عليه السلام أنه لا يشكو
حُزْنه وهَمَّه إلا إلى الله، فهو القادر على كشف الضُّرِّ؛ لأن يعقوب عليه السلام
يعلم من الله ما لا يعلم أبناؤه أو أحفاده.
فقد كان يشعر بوجدانه، وبما كان لديه من شكوك لحظة إبلاغهم له بحكاية الذئب
المكذوبة أن يوسف ما زال حياً، وأن الرُّؤيا التي حكى يوسف عنها لأبيه، سوف يأذن
الحق بتحقيقها.
ويذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان يعقوب فيقول: { يابَنِىَّ اذْهَبُواْ... }.
(/1669)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
ونلحظ أن الذين غابوا هم ثلاثة: يوسف، وبنيامين، والأخ الأكبر الذي أصرَّ على
ألاَّ يبرح مصر إلا بعد أن يأذنَ أبوه، أو يأتي فرج من الله.
وهنا في هذه الآية جاء ذِكْر يوسف وأخيه، ولم يَأْتِ ذِكْر الأخ الكبير أو رئيس
الرحلة. ونقول: إن يوسف وأخاه هما المعسكر الضعيف الذي عانى من مناهضة بقية
الأخوة، وهما قد فارقا الأب صغاراً، أما الأخ الأكبر فيستطيع أن يحتال، وأن يعود
في الوقت الذي يريد.
وقول يعقوب:
{ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ.. } [يوسف: 87].
نجد فيه كلمة (تحسسوا)، وهي من الحسِّ، والحسُّ يُجمع على " حواس " ،
والحواس هي منافذ إدراك المعلومات للنفس البشرية، فالمعلومات تنشأ عندنا من الأمور
المُحسَّة، وتدركها حواسنا لتصير قضايا عقلية.
وهكذا نعلم أن الحواس هي قنواتُ المعرفة، وهي غير مقصورة على الحواس الخمس
الظاهرة؛ بل اكتشف العلماء أن هناك حواسَّ أخرى غير ظاهرة، وسبق أن تعرضنا لهذا
الأمر في مراتٍ كثيرة سابقة.
وقوله:
{ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ.. } [يوسف: 87].
يعني أعملوا حواسكم، بكل ما فيها من طاقة، كي تصلوا إلى الحقيقة.
ونعلم أن كلمة " الجاسوس " قد أُطلِقَتْ على مَنْ يتنصَّتْ ويرى ويشُمُّ
رائحة الأخبار والتحرُّكات عند معسكر الأعداء؛ ويقال له " عين " أيضاً.
وفي عُرْفنا العام نقول لمن يحترف التقاط الأخبار " شَمْ شِمْ لنا على حكاية
الأمر الفلاني ".
وتابع يعقوب القول:
{ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ
اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [يوسف: 87].
أي: إياكم أن تقولوا أننا ذهبنا وتعبنا وتحايلنا؛ ولم نجد حلاً، لأن الله موجود،
ولا يزال لله رحمة.
والأثر يقول: " لا كَرْبَ وأنت رَبُّ ".
وما يَعِزُّ عليك بقانونك الجأ فيه إلى الله.
وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه كلما حَزَبه أمر قام وصلى
".
وبهذا لجأ إلى ربِّ الأسباب، وسبحانه فوق كل الأسباب، وجَرِّبوا ذلك في أيِّ أمر
يُعضِلكم، ولن ينتهي الواحد منكم إلى نهاية الصلاة إلا ويجد حَلاّ لِمَا أعضلَه.
وكلمة " رَوْح " نجدها تُنطَق على طريقتين " رَوْح " و "
رُوح " ، و " الرَّوْح " هي الرائحة التي تهبُّ على الإنسان
فيستروح بها، مثلما يجلس إنسان في يوم قَيْظ؛ ثم تهبُّ نسمة رقيقة ينتعش بها.
والحق سبحانه يقول:{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ }[الواقعة: 89].
ونأخذ لهذه الروح مثلاً من المُحسَّات حين يشتد القيظ، ونجلس في بستان، وتهبُّ
نسمة هواء؛ فيتعطر الجو بما في البستان من زهور.
والرُّوح هي التي ينفخها الحقُّ سبحانه في الجماد فيتحرك.
ويأتي هنا يعقوب عليه السلام بالقضية والمبدأ الذي يسير عليه كل مؤمن، فيقول:
} إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {
[يوسف: 87].
لأن الذي ليس له رَبٌّ هو مَنْ ييأس، ولذلك نجد نسبة المنتحرين بين الملاحدة
كبيرة، لكن المؤمن لا يفعل ذلك؛ لأنه يعلم أن له رباً يساعد عباده.
وما دام المؤمن قد أخذ بالأسباب؛ فسبحانه يَهبُه ممَّا فوق الأسباب.
وسبحانه يقول:{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ
إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
}[الطلاق: 2-3].
وهذه مسألة تحدث لمن يتقي الله. أتحدى أن يوجد مؤمن ليس في حياته مثل هذه الأمور،
ما دام يأخذ بالأسباب ويتقي الله، وسوف يجد في لحظة من لحظات الكرب أن الفرج قد
جاء من حيث لا يحتسب؛ لأن الله هو الرصيد النهائي للمؤمن.
وهَبْ أنك سائر في الطريق، وفي جيبك جنيه واحد، وليس عندك غيره وضاع منك؛ هل تحزن؟
نعم سوف تحزن، ولكن إن كان في بيتك عشرة جنيهات فحزنك يكون خفيفاً لضياع الجنيه،
ولو كان رصيدك في البنك ألف من الجنيهات، فلن تحزن على الجنيه الذي ضاع.
ومَنْ له رَبٌّ، يبذل الجَهْد في الأخذ بالأسباب؛ سيجد الحل والفرج من أيِّ كرب
مِمَّا هو فوق الأسباب.
ولماذا ييأس الإنسان؟
إن المُلحِد هو الذي ييأس؛ لأنه لا يؤمن بإله، ولو كان يؤمن بإله، وهذا الإله لا
يعلم بما فيه هذا الكافر من كَرْب، أو هو إله يعلم ولا يساعد مَنْ يعبده؛ إما
عجزاً أو بُخْلاً، فهو في كل هذه الحالات ليس إلهاً، ولا يستحق أن يُؤمَن به.
أما المؤمن الحق فهو يعلم أنه يعبد إلهاً قادراً، يعطي بالأسباب، وبما فوق
الأسباب؛ وهو حين يمنع؛ فهذا المَنْع هو عَيْنُ العطاء؛ لأنه قد يأخذ ما يضره ولا
ينفعه.
وينقلنا الحق سبحانه إلى نَقْلة أخرى؛ وهي لحظة أنْ دخلوا على يوسف عليه السلام في
مقرِّه بمصر؛ ونقرأ قوله الحق: } فَلَمَّا دَخَلُواْ... {.
(/1670)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
ولم يذكر الحق سبحانه اسم مَنْ دخلوا عليه، لأنه بطل القصة، والضمير في "
عليه " لا بُدَّ أن يعود إلى معلوم، ونادوه بالتفخيم قائلين:
{ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } [يوسف: 88].
أي: أن الجوع صَيَّرنا إلى هُزَال، وبدأوا بترقيق قلب مَنْ يسمعهم؛ بعد تفخيمهم
له؛ فهو الأعلى وهُم الأدنى.
ويستمر قولهم:
{ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ
عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } [يوسف: 88].
ونعلم أنهم قد جاءوا ليتحسسوا أمر يوسف وأخيه، وقد اختاروا مَدْخل الترقيق
والتفخيم كَلَوْن من المَكْر، فالتفخيم بندائه بلقب العزيز؛ أي: المالك
المُتمكِّن؛ ويعني هذا النداء أن ما سوف يطلبونه منه هو أمر في متناول سلطته.
والترقيق بشكوى الحال من جوع صار بهم إلى هُزال، وأعلنوا قدومهم ومعهم بضاعة
مزجاة، أي: بضاعة تُستخدم كأثمان لِمَا سوف يأخذونه من سِلَع.
وكلمة: { مُّزْجَاةٍ } [يوسف: 88].
أي: مدفوعة من الذي يشتري أو يبيع.
والحق سبحانه يقول:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ
بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً }[النور: 43].
وكلمة " يزجي " بمعنى: يدفع.
إذن: فما معنى قول الحق سبحانه:
{ بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } [يوسف: 88].
ولكي تعرف المعنى بإحساسك؛ جَرِّب هذا الأمر في نفسك، وراقب كيف تدفع ثمن أيَّ شيء
تشتريه؛ فإنْ كان معك نقود قديمة ونقود جديدة؛ ستجد أنك تدفع قيمة ما تشتريه من
النقود القديمة؛ وسوف تجد نفسك مرتاحاً لاحتفاظك بالنقود الجديدة لنفسك.
وقد يقول لك مَنْ تشتري منه: " خذ هذه الورقة النقدية القديمة التي تدفعها
لي، واستبدلها لي بورقة جديدة ".
فما دامت النقود سوف تُدفع؛ فأنت تريد أن تتخلص من النقود القديمة؛ وتفعل ذلك وأنت
مُرتاح، وبذلك يمكننا أن نفهم معنى:
{ بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } [يوسف: 88].
على أنها بِضَاعة رديئة.
فكأن الضُّرَّ الذي أصابهم جعلهم عاجزين عن دفع الأثمان للمَيْرة التي سوف
يأخذونها، مثل الأثمان السابقة التي تميزت بالجودة.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم:
{ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي
الْمُتَصَدِّقِينَ } [يوسف: 88].
أي: أنهم يرجونه أن يُوفِّي لهم الكيل ولا ينقصه؛ إنْ كان ما جاءوا به من أثمان لا
يُوفى ما تساويه المَيْرة، وطالبوه أن يعتبر تلك التَّوْفِية في الكَيْل صدقة.
وبذلك رَدُّوه إلى ثمن أعلى مما حملوه من أثمان، وفوق قدرة البشر على الدَّفْع؛
لأن الصدقة إنما يُثيب عليها الحق سبحانه وتعالى.
ولقائل أن يسأل: أليسوا أبناء نبوة، ولا تجوز عليهم الصدقة؟
نقول: إن عدم جواز الصدقة هو أمر اختصَّ به الحق سبحانه آل محمد صلى الله عليه
وسلم، وهو أمر خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:
" إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس ".
وانظر إلى ما فعلته الترقيقات التي قالوها؛ نظر إليهم يوسف عليه السلام وتبسم،
ولما تبسَّم ظهرت ثناياه، وهي ثنايا مميزة عن ثنايا جميع مَنْ رأوه.
وجاء الحق سبحانه بما قاله: { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ... }.
(/1671)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
ومجيء هذا القول في صيغة السؤال؛ يدفعهم إلى التأمل والتدقيق؛ لمعرفة شخصية
المُتحدِّث.
ثم يأتي التلطُّف الجميل منه حين يضيف:
{ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [يوسف: 89].
وفي هذا القول ما يلتمس لهم به العُذْر بالجهل، ولم يتحدث إليهم بعِزَّة الكبرياء،
وغرور المكانة التي وصل إليها، وهدفه أن يخفف عَنهم صَدْمة المفاجأة، فذكر لهم
أنهم فعلوا ذلك أيام جهلهم.
وهذا مثلما يكون أحدهم قد أخطأ في حقِّك قديماً بسلوك غير مقبول، ولكن الأيام
أزالتْ مرارتك من سلوكه، فتُذكِّره بما فعله قديماً وأنت تقول له: إن فعلك هذا قد
صدر منك أيام طَيْشك، لكنك الآن قد وصلت إلى درجة التعقُّل وفَهْم الأمور.
وقول يوسف عليه السلام لهم هذا الأمر بهذه الصيغة من التلطُّف، إنما يعبر أيضاً عن
تأثُّره بشكواهم، ثم تبسُّمه لهم، وظهور ثناياه دفعهم إلى تذكُّره، ودار بينهم
وبينه الحوار الذي جاء في الآية التالية: { قَالُواْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ...
}.
(/1672)
قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
وهكذا انتبهوا إلى شخصية يوسف وتعرَّفوا عليه، وقالوا:
{ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ... } [يوسف: 90].
وجاء قولهم بأسلوب الاستفهام التقريريّ الذي أكّدوه بـ " إنْ " و "
اللام " ، وقد قالوا ذلك بلهجة مُمتلئة بالفرح والتعجُّب بنجاحهم في التحسُّس
الذي أوصاهم به أبوهم.
فرد عليهم:
{ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـاذَا أَخِي } [يوسف: 90].
وبطبيعة الحال هم يعرفون أخَ يوسف " بنيامين " ، وجاء ذكْر يوسف له هنا
دليلاً على أن بنيامين قد دخل معه في النعمة، وأن الحق سبحانه قد أعزَّ الاثنين.
ويجيء شُكْر يوسف لله على نعمته في قوله:
{ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ
لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف: 90].
وجاء يوسف بهذا القول الذي يعرض القضية العامة التي تنفعهم كإخوة له، وتنفع أيَّ
سامع لها وكل مَنْ يتلوها، وقد قالها يوسف عليه السلام بعد بيِّنة من واقع أحداث
مرَّتْ به بَدْءً من الرُّؤيا إلى هذا الموقف.
فهو كلام عليه دليل من واقع مُعَاش، فقد مَنَّ الله على يوسف وأخيه مما ابْتُلِيا
به واجتمعا من بعد الفُرْقة، وعَلَّل يوسف ذلك بالقول:
{ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [يوسف: 90].
أي: مَنْ يجعل بينه وبين معصية الله وقاية، ويخشى صفات الجلال، ويتبع منهجه
سبحانه، ويصبر على ما أصابه، ولا تفتُر هِمَّته عن عبادة الله طاعة، ويتجنب كل
المعاصي مهما زُيِّنَتْ له.
فسبحانه وتعالى لا يُضيع أجر المحسنين الذين يتقونه، وصاروا بتقواهم مُستحقِّين
لرحمته، وإحسانه في الدنيا والآخرة.
ويأتي قول الحق سبحانه بعد ذلك ليحمل لنا ما قاله أخوة يوسف في هذا الموقف: {
قَالُواْ تَاللَّهِ... }.
(/1673)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
و " تالله " قَسَم بالله.
و { آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا.. } [يوسف: 91].
أي: خصَّك بشيء فوق ما خَصَّ به الآخرين، وهو لم يُؤثِرْك بظلم لغيرك، ولكنك كنت
تستحق ما آثرك به من المُلْك وعلو الشَأن والمكانة.
وهكذا صدَّق إخوة يوسف على ما قاله يوسف، واعترفوا بخطيئتهم، حين حاولوا أن يكونوا
مُقرَّبين مثله عند أبيهم، ولكنك يا يوسف وصلت إلى أن تصير مُقرباً مُقدَّماً عند
ربِّ أبينا وربِّ العالمين.
والشأن والحال التي كنا فيها تؤكد أننا كنا خاطئين، ولا بُدَّ أن ننتبه إلى
الفَرْق بين " خاطئين " و " مخطئين ".
والعزيز قد قال لزوجته:{ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ }[يوسف: 29].
ولم يَقُلْ لها " كنت من المخطئين " فالمادة واحدة هي: " الخاء
" و " الطاء " و " الهمزة " ، ولكن المعنى يختلف،
فالخاطئ هو مَنْ يعلم منطقة الصواب ويتعدَّاها، أما المُّخْطئ فهو مَنْ لم يذهب
إلى الصواب؛ لأنه لا يعرف مكانه أو طريقه إليه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام لأخوته بعد أن أقرُّوا
بالخطأ: { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ... }.
(/1674)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
والتثريب هو اللوم العنيف، وهو مأخوذ من الثَّرْب؛ فحين يذبحون ذبيحة، ويُخرِجون
أمعاءها يجدون حول الأمعاء دُهْناً كثيفاً؛ هذا الدُّهْن يُسمَّى ثَرْب.
أما إن كانت هزيلة، ولم تتغذَّ جيداً، فأمعاؤها تخرج وقد ذاب من عليه هذا
الثَّرْب.
والتثريب يعني: أن اللوم العنيف قد أذابَ الشحم من لحمه، وجعل دمه ينزّ، ويكاد أن
يصل بالإنسان إلى أن ينزل به ويسلّه.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا زنت أَمَةُ أحدكم
فتبيَّن زناها فليجلدها الحدّ، ولا يُثرِّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا
يُثرِّب عليها، ثم إنْ زنت الثالثة فتبيّن زِنَاها فَليبِعْها، ولو بحبل من شعر
".
أي: لا يقولن لها: يا مَنْ فعلت كذا وكذا، بل فليعاقبها بالعقاب الذي أنزله الله
لمثل هذه الجريمة؛ فإن لم ترتدع عن الفعل فَلْيبِعْها، وهكذا نفهم أن التثريب أو
اللوم العنيف قد يُولِّد العِناد.
وقال يوسف عليه السلام:
{ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92].
ولقائل أن يتساءل: ولماذا قال يوسف ذلك؛ وقد يكونون قد استغفروا الله من قبل؟
ونقول: إن دعوة يوسف بالمغفرة لهم جاءت في حدود معرفته ولتصفية النفوس مما شابها
بهذا اللقاء.
وقوله:
{ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [يوسف: 92].
هو فَهْمٌ لحقيقة أن أيَّ رحمة في العالم، أو من أي أحد إنما هي مُستمدَّة من
رحمته سبحانه.
وقد قال يوسف ذلك وهو واثق من إجابة دعوته، لأنه قد غفر لهم خطأهم القديم وعَفَا
عنهم؛ والله أَوْلَى منه بالعفو عنهم.
ثم يعود الحديث بينه وبينهم إلى والدهم، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف
لإخوته، وهو الذي عَلِم ما حدث لأبيه بعد فراقه له: { اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي... }.
(/1675)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
وكان يوسف عليه السلام، قد عَلِم أن أباه يربط عينيه من الحزن، وكاد أن يفقد بصره،
فأمر أخوته أن يذهبوا بقميصه الذي كان يلبسه إلى أبيه.
وتقول كتب السِّير أن أخاه الأكبر الذي رفض أن يبرح مصر، وقال:{ فَلَنْ أَبْرَحَ
الأَرْضَ حَتَّىا يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ }[يوسف: 80].
قد قال ليوسف:
" يا أيها العزيز إنني أنا الذي حملتُ القميص بدم كذب إلى أبي، فدعْني احمل
هذا القميص لأبي، كي تمحو هذه تلك ".
وقال يوسف عن فعل القميص مع الأب:
{ فَأَلْقُوهُ عَلَىا وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } [يوسف: 93].
ونلحظ أنه لم يَقُلْ: " وجه أبيكم ".
وفي قوله:
{ وَجْهِ أَبِي } [يوسف: 93].
إشارة إلى الحنان الأبوي الذي فقدوه منذ أن غاب يوسف، فغرق والده في الحزن.
و { يَأْتِ بَصِيراً } [يوسف: 93] أي: يرتدّ إليه بصره، أو يراه أمامه سليماً.
ويضيف يوسف:
{ وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [يوسف: 93].
هذا تعبير قُرآني دقيق، أن يُحضروا معهم كل مَنْ يَمُتُّ بصلة قرابة لهم أو يعمل
معهم، ولم يَقُلْ يوسف " بآلكم " حتى لا يأتوا بالأعيان فقط.
ونلحظ أنه لم يذكر والده في أمر يوسف لأخوته أن يأتوه بكل مَنْ يمُتُّ لهم بصلة
قُرْبى؛ لأن في مثل هذا الأمر ـ من موقع عزيز مصر ـ إجباراً للأب على المجيء، وهو
يُجِلُّ أباه عن ذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَلَمَّا فَصَلَتِ... }.
(/1676)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
و " فصلت " تدل على شيء كان مُلْتصقاً بشيء آخر وانفصل عنه، وفَصِلت
العِيرُ. أي: خرجتْ من المدينة وتجاوزتْها؛ لتسير في رحلتها، والمقصود خروج
القافلة من حدود مصر قاصدةً مكان يعقوب عليه السلام.
وهنا قال يعقوب لمن كانوا حاضرين معه من الأحفاد وأبناء الأبناء:
{ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف: 94].
والمعروف أن القميص الذي أرسله مع أخيه الأكبر يحمل رائحة يوسف، لكن الذين حول
يعقوب من أقربائه لم يُصدِّقوا قوله، فأضاف:
{ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } [يوسف: 94].
أي: لولا اتهامكم لي بالخَرف، لأن التفنيد هو الخرف.
ومن العجيب أننا في أيامنا هذه نجد العلم وقد أثبت أن صُورَ المرائي والأصوات،
توجد لها آثار في الجو، رغم ما يُخيَّل للإنسان أنها تلاشتْ.
ويحاول العلم بوسائل من الأشعة أن يكشف صورة أيِّ جماعة كانت تجلس في مكان ما، ثم
رحلتْ عنه منذ ساعة أو ساعتين، ممَّا يدلُّ على أن الصور لها نضح من شعاع وظلال
يظل بالمكان لفترة قبل أن يضيع.
وكذلك الأصوات؛ فالعلماء يحاولون استرداد أصوات مَنْ رحلوا؛ ويقولون: لا شيءَ يضيع
في الكون، بل كل ما وُجِد فيه محفوظ بشكل أو بآخر.
والرائحة أيضاً لا تضيع، بدليل أن الكلب يشُمُّ الريح من على مسافات بعيدة، ويميز
الآن المخدرات من رائحتها؛ ولذلك تنتشر الكلاب المدرَّبة في المطارات وعلى الحدود؛
لتكشف أيَّ محاولة لتهريب المخدرات.
وإذا كان الحيوان المخلوق بقدرة الله قادراً على التقاط الرائحة من بين آلاف
الروائح، وإذا كان العلم الموهوب من الله للبشر؛ يبحث الآن في كيفية استحضار
الصورة واسترداد الصوت من الفضاء المحيط بالإنسان؛ فعلينا أن ندرك أن العِيرَ
عندما خرجتْ من أسوار المدينة؛ وأخذتْ طريقها إلى الموقع الذي يعيش فيه يعقوب عليه
السلام؛ استطاع يعقوبُ بقدرة الله أن يَشُمَّ رائحة يوسف؛ تلك التي يحملها قميصه
القادم مع القافلة.
ولسائل أن يقول: ولماذا ارتبط تنسُّم يعقوب لرائحة يوسف بخروج العِير من مصر،
وتواجدها على الطريق إلى موطن يعقوب؟
نقول: لأن العِيرَ لحظة تواجدها في المدينة تكون رائحة قميص يوسف مُخْتلطة بغيرها
من الروائح؛ فهناك الكثير من الروائح الأخرى داخل أي مدينة، ويصعب نفاذ رائحة
بعينها لتغلب على كل الروائح؛ ويختلف الأمر في الخلاء؛ حيث يمكن أن تمشي هَبَّة
الرائحة دون أن يعترضها شيء.
وبذلك نؤمن أن كل شيء في الكون محفوظ ولا يضيع؛ مصداقاً لقوله تعالى:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ }[الانفطار: 10-11].
وكل ما يصدر منك مُسجَّل عليك؛ ولذلك يأتيك كتابك يوم القيامة لتقرأه، وتكون على
نفسك حسيباً.
ويردُّ مَنْ بقِي من أهل يعقوب معه على قوله بأنه يجد رِيحَ يوسف: { قَالُواْ
تَاللَّهِ... }.
(/1677)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
وكأنهم قد مَلُّوا حديثه عن يوسف؛ وأعرضوا عن كلامه قائلين له: إلى متى ستظل على
ضلالك، وهم لا يعنُون الضلال بمعنى الخروج عن المنهج، ولكنهم يعنُونَ الضلال بمعنى
الجزئيات التي لا علاقة لها بالتديُّن من محبة شديدة ليوسف، وتعلُّق به، والتمنِّي
لعودته، وكثرة الحديث عنه، وتوقُّع لقائه، وهم الذين ظَنُّوا أن يوسف قد مات.
ويأتي البشير ليعقوب، يقول الحق سبحانه: { فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ.. }.
(/1678)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
وحين حضر البشير، وهو كما تقول الروايات كبير الأخوة؛ ويُقال أيضاً: إنه يهوذا؛
وهو مَنْ رفض أن يغادر مصر إلا بعد أن يأذن له والده، أو يأتي حَلٌّ من السماء
لمشكلة بقاء بنيامين في مصر، بعد اتهام أعوان العزيز له بالسرقة، طبقاً لما أراده
يوسف ليستبقي شقيقه معه.
ولما جاء هذا البشير ومعه قميص يوسف؛ فألقاه على وجه الأب تنفيذاً لأمر يوسف عليه
السلام.
وبذلك زال سبب بكاء يعقوب، وفَرِح يعقوب فرحاً شديداً؛ لأنه في أيام حزنه على
يوسف، وابيضاض عينيه من كثرة البكاء حدَّثه قلبه بالإلهام من الله أن يوسف ما زال
حياً؛ وكان البكاء عليه من بعد ذلك هو بكاء من فَرْط الشوق لرؤية ابنه.
وكذلك قد يكون يوسف قد علم بالوحي من الله أن إلقاء القميص على وجه أبيه يردُّ
إليه بصره، بإذن من الحق سبحانه وتعالى، فضلاً عن أن الفرح له آثار نفسية تنعكس
على الحالة الصحية، وهكذا تجلَّتْ انتصارات الحقِّ والنبوة.
وقال يعقوب عليه السلام:
{ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
[يوسف: 96].
ولم يَقُلْ ذلك إذلالاً لهم، بل ليعطي الثقة والتوثيق لأخبار كل نبي، وأن الواقع
قد أيَّد الكلام الذي قاله لهم:{ يابَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ
وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن
رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }[يوسف: 87].
فإذا جاءكم خبر من معصوم؛ إياكم أن تقفوا بعقولكم فيه؛ لأن العقول تأخذ مُدْركات
الأشياء على قَدْرها، وهناك أشياء فوق مُدْركات العقول.
وحين يُحدِّثكم معصوم عن ما فوق مُدْركات عقولكم إياكم أن تُكذِّبوه؛ سواء فهمتم
ما حدَّثكم عنه، أو لم تستوعبوا حديثه عَمَّا فوق مُدْركات العقول.
وهنا يقرّ أخوة يوسف بذنوبهم فيقول الحق سبحانه: { قَالُواْ ياأَبَانَا
اسْتَغْفِرْ... }.
(/1679)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
وهم هنا يُقِرُّون بالذنب، ويُحدِّثون والدهم بنداء الأبوة كي يستغفر لهم ما
ارتكبوه من ذنوب كثيرة، فقد آذَوْا أباهم وجعلوه حزيناً، ولا يسقط مثل هذا الذنب
إلا بأن يُقِرَّ به مَنْ فعله، ونلحظ أنهم قالوا: { إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ }
[يوسف: 97]
أي: أنهم كانوا يعلمون الصواب، ولم يفعلوه.
ويأتي الحق سبحانه بما قاله يعقوب: { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي...
}
(/1680)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
ونلحظ أن يوسف قد قال لهم من قبل:{ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }[يوسف: 92]
لكن والدهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول: { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ
لَكُمْ رَبِّي... } [يوسف: 98]
ولم يقل: " سأستغفر لكم ربي " ، وهذا يدل على أن الكبار يحتاجون لوقت
أكبر من وقت الشباب؛ لذلك أجَّل يعقوب الاستغفار لما بعد.
والشيخ الألوسي في تفسيره يقول: " إنما كان ذلك لأن مطلوبات البر من الأخ
لأخوته غير مطلوبات البر من ابن لأبيه؛ لأن الأخ ليس له نفس حق الأب؛ لذلك يكون
غضب الأب أشدَّ من غضب الأخ ".
ثم إن ذنوبهم هنا هي من الذنوب الكبيرة التي مرّ عليها وعلى تأثيرها على الأب زمن
طويل. ويقال: إن يعقوب عليه السلام قد أخَّر الاستغفار لهم إلى السَّحَر، لأن
الدعاء فيه مُستجَاب.
وينقلنا الحق سبحانه من بعد ذلك إلى لحظة اللقاء بين يوسف عليه السلام وأهله كلهم،
بعد أن انتقلوا إلى حيث يعيش يوسف، فيقول سبحانه:
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىا يُوسُفَ... }
(/1681)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99)
ونعلم أن الجَدَّ إسحق لم يكُنْ موجوداً، وكانوا يُغلِّبون جهة الأبوة على جهة
الأمومة، ودخلت معهم الخالة؛ لأن الأم كانت غير موجودة.
ويبدو أن يوسف قد استقبلهم عند دخولهم إلى مصر استقبال العظماء، فاستقبلهم خارج
البلد مرة ليريحهم من عناء السفر ويستقبلهم وجهاء البلد وأعيانهم؛ وهذا هو الدخول
الأول الذي آوى فيه أبويْه.
ثم دخل بهم الدخول الثاني إلى البلد بدليل أنه قال: {...ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن
شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [يوسف: 99]
ففي الآية دخولان.
وقول الحق سبحانه: { آوَىا إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ... } [يوسف: 99]
يدل على حرارة اللقاء لمغتربين يجمعهم حنان، فالأب كان يشتاق لرؤية ابنه، ولابُدَّ
أنه قد سمع من أخوته عن مكانته ومنزلته، والابن كان مُتشوِّقاً للقاء أبيه.
وانفعالات اللقاء عادة تُترك لعواطف البشر، ولا تقنينَ لها، فهي انفعالات خاصة
تكون مزيجاً من الود، ومن المحبة، ومن الاحترام، ومن غير ذلك.
فهناك مَنْ تلقاه وتكتفي بأن تسلم عليه مُصَافحة، وآخر تلتقي به ويغلبُك شوقك
فتحتضنه، وتقول ما شِئتَ من ألفاظ الترحيب.
كل تلك الانفعالات بلا تقنين عباديّ، بدليل أن يوسف عليه السلام آوى إليه أبويه،
وأخذهما في حضنه.
" والمثل من حياة رسولنا صلى الله عليه وسلم في سياق غزوة بدر حيث كان يستعرض
المقاتلين، وكان في يده صلى الله عليه وسلم قدح يعدل به الصفوف، فمَرَّ بسواد بن
غزية من بني عدي بن النجار، وهو مستنصل عن الصف ـ أي خارج عنه، مما جعل الصف على
غير استواء ـ فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال له: "
اسْتَوِ يا سواد ".
فقال سواد: أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني.
فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال صلى الله عليه وسلم: " استقد
". فاعتنقه سَواد وقَبَّل بطنه.
فقال صلى الله عليه وسلم: " ما حملك على هذا يا سواد؟ ".
قال: يا رسولَ الله، قد حضر ما ترى ـ يقصد الحرب ـ فأردت أن يكون آخر العهد بك أن
يمسَّ جِلْدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ... }
(/1682)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وقد رفع يوسف أبويه على العرش لأنه لم يحب التميُّز عنهم؛ وهذا سلوك يدل على
المحبة والتقدير والإكرام.
والعرش هو سرير الملك الذي يدير منه الحاكم أمور الحكم. وهم قد خَرُّوا سُجَّداً
لله من أجل جمع شمل العائلة، ولم يخروا سُجَّداً ليوسف، بل خَرُّوا سُجَّداً لمن
يُخَرّ سجوداً إليه، وهو الله.
وللذين حاولوا نقاش أمر سجود آل يعقوب ليوسف أقول: هل أنتم أكثر غَيْرةً على الله
منه سبحانه؟
إنه هو سبحانه الذي قال ذلك، وهو سبحانه الذي أمر الملائكة من قَبْل بالسجود لآدم
فلماذا تأخذوا هذا القول على أنه سجود لآدم؟
والمؤمن الحق يأخذ مسألة سجود الملائكة لآدم؛ على أنه تنفيذ لأمر الحق سبحانه لهم
بالسجود لآدم، فآدم خلقه الله من طين، ونفخ فيه من روحه؛ وأمر الملائكة أن تسجد
لآدم شكراً لله الذي خلق هذا الخَلْق.
وكذلك سجود آل يعقوب ليوسف هو شكر لله الذي جمع شملهم، وهو سبحانه الذي قال هذا
القول، ولم يُجرِّم سبحانه هذا الفعل منهم، بدليل أنهم قَدَّموا تحية ليوسف هو
قادر أن يردَّها بمثلها.
ولم يكن سجودهم له بغرض العبادة؛ لأن العبادة هي الأمور التي تُفعل من الأدنى
تقرباً للأعلى، ولا يقابلها المعبود بمثلها؛ فإنْ كانت عبادة لغير الله فالله
سبحانه يُعاقب عليها؛ وتلك هي الأمور المُحرَّمة.
أما العبادة لله فهي اتباع أوامره وتجنب نواهيه؛ إذن: فالسجود هنا استجابة لنداء
الشكر من الكل أمام الإفراج عن الهم والحزن وسبحانه يُثيب عليها. أما التحية
يقدمها العبد، ويستطيع العبد الآخر أن يردَّ بمثلها أو خَيْرٍ منها، فهذا أمر لا
يحرمه الله، ولا دَخْل للعبادة به.
لذلك يجب أن نفطن إلى أن هذه المسألة يجب أن تُحرَّر تحريراً منطقيّاً يتفق مع
معطيات اللغة ومقتضى الحال، ولو نظرنا إلى وضع يعقوب عليه السلام، وما كان فيه من
أحزان وموقف إخوته بين عذاب الضمير على ما فعلوا وما لاقوه من متاعب لأيقنا أن
السجود المراد به شكر من بيده مقاليد الأمور بدلاً من خلق فجوات بلا مبرر وَهُمْ
حين سجدوا ليوسف؛ هل فعلوا ذلك بدون علم الله؟ طبعاً لا.
ومن بعد ذلك نجد قول يوسف لأبيه: { وَقَالَ ياأَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ
مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... } [يوسف: 100]
وقد كانت الرُّؤيا هي أول لَقْطة في قصة يوسف عليه السلام حيث قال الحق ما جاء على
لسان يوسف لأبيه:{ ...إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }[يوسف: 4] وقوله في الآية التي نحن بصدد
خواطرنا عنها: { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً... } [يوسف: 100] أي: أمراً واقعاً،
وقد رآه والد يوسف وأخوته لحظة أنْ سجدوا ليوسف سجودَ الشكر والتحية لا سجود
عبادة، وقد سجد الأخوة الأحد عشر والأب والخالة التي تقوم مقام الأم، ورؤيا
الأنبياء كما نعلم لابُدَّ أن تصير واقعاً.
ولقائل أن يقول: وماذا عن رُؤْيا إبراهيم عليه السلام التي أمره فيها الحق سبحانه
أن يذبح ابنه؛ فقام إلى تنفيذها؛ واستسلم إسماعيل لأمر الرُّؤْيا.
نقول: إن الأنبياء وحدهم هم الملتزمون شرعاً بتنفيذ رؤاهم؛ لأن الشيطان لا
يُخايلهم؛ فهم معصومون من مخايلة الشيطان.
أما إنْ جاء إنسان وقال: لقد جاءتني رؤيا تقول لي نَفِّذ كذا. نقول له: أنت غير
مُلْزم بتنفيذ ما تراه في منامك من رُؤَى؛ فليس عليك حكم شرعي يلزمك بذلك؛ فضلاً
عن أن الشيطان يستطيع أن يُخايلك.
أما تنفيذ إبراهيم عليه السلام لما رآه في المنام بأن عليه أن يذبح ابنه، وقيام
إبراهيم بمحاولة تنفيذ ذلك؛ فسببه أنه يعلم بالتزامه الشرعي بتنفيذ الرُّؤيا.
وقد جاء لنا الحق سبحانه بهذا الذي حدث ليبين لنا عِظَم الابتلاءات التي مرَّتْ
على إبراهيم، وكيف حاول أن يتم كل ما توجهه له السماء من أوامر، وأن ينفذ ذلك
بدقّة.
وقال الحق سبحانه مُصوِّراً ذلك:{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً...
}[البقرة: 124]
وكانت قمة الابتلاءات هي أن يُنفِّذ بيديه عملية ذبح الابن؛ ولذلك أؤكد دائماً على
أن الأنبياء وحدهم هم المُلْزمون بتنفيذ رُؤاهم، أما أي إنسان آخر إنْ جاءته
رُؤْيا تخالف المنهج؛ فعليه أن يعتبرها من نزغ الشيطان.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف: } وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ... { [يوسف: 100]
ولقائل أن يسأل: ولماذا لم يذكر يوسف الأحداثَ الجِسَام التي مرَّتْ به في
تَسَلسُلها؛ مثل إلقاء أخوته له في الجُبِّ؟
نقول: لم يُرِدْ يوسف أن يذكر ما يُكدِّر صَفْو اللقاء بين العائلة من بعد طول
فراق. ولكنه جاء بما مرّ به من بعد ذلك، من أنه صار عبداً، وكيف دخل السجن؛ لأنه
لم يستسلم لِغُواية امرأة العزيز، وكيف مَنَّ الله عليه بإخراجه من السجن، وما أن
خرج من السجن حتى ظهرت النعمة، ويكفي أنه صار حاكماً.
وقد يقول قائل: إن القصة هنا غير مُنْسجمة مع بعضها، لأن بعضاً من المواقف تُذكر؛
وبعضها لا يُذْكر.
نقول: إن القصة مُنْسجمة تماماً، وهناك فارق بين قصص التاريخ كتاريخ؛ وبين قَصص
يوضح المواقف الهامة في التاريخ.
والمناسبة في هذه الآية هي اجتماع الإخوة والأب والخالة، ولا داعي لذكر ما يُنغِّص
هذا اللقاء؛ خصوصاً؛ وأن يوسف قد قال من قبل:{ قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }[يوسف: 92]
وسبق أن قال لهم بلطف من يلتمس لهم العذر بالجهل:{ ...هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا
فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ }[يوسف: 89]
وهو هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يذكر إحسان الحق سبحانه له فيقول: }
هَـاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً.
.. { [يوسف: 100]
ويُثني على الله شاكراً إحسانه فيقول: } وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ... { [يوسف: 100]
وهو إحسان له في ذاته، ثم يذكر إحسان الله إلى بقية أهله: } وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ
الْبَدْوِ... { [يوسف: 100]
وكلمة " أحسن " ـ كما نعلم ـ مرة تتعدى بـ إلى، فتقول: " أحسن إليه
" ، ومرة تتعدى بالباء، فنقول: " أحسن به " ، وهو هنا في مجال
" أحسن بي ".
أي: أن الإحسان بسببه قد تعلَّق بكل ما اتصل به؛ فجعله حاكماً، وجاء بأهله من البدو؛
أما الإحسان إليه فيكون محصوراً في ذاته لا يتعداه.
وجعل الحق سبحانه الإحسان هنا قسمين: قسم لذاته؛ وقسم للغير، واعتبر مجيء الأهل من
البدو إحساناً إليه، لأن البَدْو قوم يعيشون على الفطرة والانعزالات الأسرية، ولا
تَوطُّن لهم في مكان، ولا يضمُّهم مجتمع، وليس لهم بيوتٌ مبنية يستقِرُّون فيها،
ولكنهم يتبعون أرزاقهم من منابت الكلأ ومساقط المياه، ويحملون رِحَالهم إلى ظهر
الجمال متنقلين من مكان لآخر.
وتخلو حياتهم من نِعَم الحضارة. ففي الحضارة يحضر إليك كل ما تطلب، ولكن الحياة في
البدو تُحتِّم أن يذهب الإنسان إلى حيث يجد الخير؛ ولذلك تستقر الحياة في الحضر
عنها في البادية.
ويعطينا الشاعر أحمد شوقي ـ رحمة الله عليه ـ صورة تبين الفارق بين البدو والحضر،
حين صنع مناظرة بين واحدة تتعصب للبدو، وأخرى تتعصب للحضر. فقال:فأنا مِنَ البِيدِ
يا ابن جُرَيج ومن هذه العِيشَة الجَافِيهومن حَالبِ الشاة في موضعٍ ومن مُوقِد
النارِ في نَاحِيهمُغَنِّيكُمو معبدٌ والغَريق وقَيْنتنا الضبع العَاوِيههُمْ
يأكلونَ فُنونَ الطهاةِ ونحن نأكل ما طَهَتِ المَاشِيهفابن جريج يشكو السَّأَم من
حياة البادية، حيث لا يرى إلا المناظر المُعَادة من حَلْبٍ لشاة، أو إشعال نار،
ولا يسمع كأهل الحضر صوت المُغنِّين المشهورين في ذلك الزمن؛ بل يسمع صوت
الضِّبَاع العاوية، ولا يأكل مثل أهل الحضر ما قام بِطَهْيهِ الطُّهاة؛ بل يأكل
اللبن وهو ما تقدمه لهم الماشية.
وتردُّ ليلى المتعصِّبة للبادية:قد اعتسفتْ هِنْدُ يا ابنَ جرَيج وكانت على
مَهْدِها قَاسيهفَمَا البِيِد إلاّ دِيَارُ الكِرَام ومنزِلةُ الذِّمَمِ
الوَاقِيهلها قِبْلةُ الشمسِ عند البُزُوغِ وللحضر القبلة الثانيهونحنُ
الرَّياحِين مِلْء الفضاءِ وهُنَّ الرَّياحِينُ في آنِيهويَقْتُلنا العِشْقُ
والحَاضِراتُ يَقُمْنَ مـن العِـشق في غَامِيهوقولها " اعتسفت " يعني
" ظلمت " ، أي: أن هنداً ظلمت البيد يا ابن جريج، ثم جاءت بميزات البدو؛
فأوضحت أن بنات البادية كالرياحين المزروعة في الفضاء الواسع، عكس بنات الحَضَر
التي تشبه الواحدة منهن الريحانة المزروعة في أُصص الزرع، أو أي آنية أخرى.
ثم تأتي إلى القيم؛ فتفخر أن بنت البادية يقتلها العِشْق، ولا تنال ممَّنْ تعشق
شيئاً؛ فتنسلّ وتموت، أما بنت الحضر؛ فصحتها تأتي على الحب.
وهنا في الآية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ يشكر يوسف ما مَنَّ به الله عليه،
وعلى أهله الذين جاء بهم سبحانه من البادية، ليعيشوا في مصر ذات الحضارة الواسعة؛
وبذلك يكون قد ضخَّم الفرق بين ما كانوا يعيشون فيه من شَظَف العيش إلى حياة اللين
والدَّعة.
ثم يلمس ما كان من إخوته تجاهه فيقول: } مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي... { [يوسف: 100]
وهذا مَسٌّ لطيف لما حدث، وقد نسبه يوسف للشيطان؛ وصَوَّره على أنه " نَزْغ
".
أي: أنه لم يكن أمراً مستقراً على درجة واحدة من السوء. أي: أن ما فعله الشيطان هو
مجرد وَخْزة تُنبِّه إلى الشيء الضار فيندفع له الإنسان، وهي مأخوذة من المِهْماز
الذي يُروِّض به مدرب الخيل أيَّ حصان، فهو ينغزه بالمِهْماز نزغة خفيفة، فيستمع
وينفذ ما أمره به، فالنَّغْز تنبيه لمهمة، ويختلف عن الطَّعْن.
والحق سبحانه ينبهنا إلى ما يفعله الشيطان؛ فيقول لنا:{ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ... }[الأعراف: 200]
وكُلٌّ منا يعلم أن الشيطان عدوٌّ له عداوة مُسبقة، وحين تستعيذ بالله من الشيطان،
فأنت تكتسب حَصَانه من الشيطان.
وسبحانه القائل:{ ...إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ
فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ }[الأعراف: 201]
أي: أن الإنسان حين يتذكر العداوة بينه وبين الشيطان؛ فعليه أن يشحن نفسه بالمناعة
الإيمانية ضد هذا النَّزْغ.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقول يوسف: }...إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا
يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ { [يوسف: 100]
فسبحانه هو المدير الذي لا تَخْفى عليه خافية أبداً، وكلمة " لُطْف " ضد
كلمة " كثافة " فاللطيف هو الذي له جِرْم دقيق، والشيء كلما لَطُف
عَنُفَ؛ لأنه لا توجد عوائق تمنعه.
ولا شيء يعوق الله أبداً، وهو العليم بموقع وموضع كل شيء، فهو يجمع بين اللطف
والخبرة، فلُطْفه لا يقف أمامه أي شيء، ولا يوجد ما هو مستور عنه، ولا يقوم أمام
مراده شيء، وسبحانه خبير بمواضع الأشياء، وعلْمه سبحانه مُطْلق، وهو حكيم يُجرِي
كل حَدَث بمراد دقيق، ولا يضيف إليه أحد أيَّ شيء، فهو صاحب الكمال المطلق.
ويذكر الحق سبحانه بعد ذلك مناجاة يوسف لله سبحانه:
} رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ... {
(/1683)
رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
ونعلم أن الربوبية تعني الخَلْق من عدم، والإمداد من عدم؛ والإقاتة لاستبقاء
الحياة، والتزاوج لاستباق النسل، وتسير كل هذه العمليات في تناسق كبير.
فالحق سبحانه أوجد من عدم، واستبقى الحياة الذاتية بالقوت، واستبقى الحياة النوعية
بما أباح من تزاوج وتكاثر.
وكل مخلوق له حَظٌّ في عطاء الربوبية، مؤمناً كان أم كافراً، وكل مخلوقات الكون
مُسخَّرة لكل الخلق، فسبحانه هو الذي استدعى الخَلْق إلى الوجود؛ ولذلك تكفل بما
يحقق لهم الحياة.
ويختص الحق سبحانه عباده المؤمنين بعطاء آخر بالإضافة لعطاء الربوبية؛ وهو عطاء
الألوهية المتمثل في المنهج.
يقول يوسف عليه السلام مناجياً ربه: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ... }
[يوسف: 101]
أي: أنه سبحانه هو الذي أعطاه تلك السيادة، وهذا النفوذ والسلطان؛ فلا أحد يملك
قَهْراً عن الله، وحتى الظالم لا يملك قهراً عن الله؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في
آية أخرى من القرآن:{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن
تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن
تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[آل عمران: 26]
وإتيان المُلْك لا توجد فيه مقاومة ممَّنْ يملك؛ ولكن نَزْع المُلْك هو الذي
يقاومه المنزوع منه.
والحق سبحانه هو أيضاً الذي يُعِز مَنْ يشاء، وهو الذي يُذل مَنْ يشاء.
وحين تتغلغل هذه الآية في نفس المؤمن؛ فهو يُوقِن أنه لا مفرَّ من القدر، وأن
إيتاء المُلْك خير، وأن نزع الملك خير، وأن الإعزاز خير والإذلال خير؛ كي لا يطغى
الإنسان، ولا يتكبر، ولا يُعدِّل في إيمان غيره.
وكان بعض الناس يقولون: لابد أن تُقدر محذوفاً في الآية.
وهم قد قالوا ذلك بدعوى الظن أن هناك خيرين في الآية وشَرَّيْن محذوفين.
وأقول: لا، إن ما تظنه أيها الإنسان أنه شر إنما هو خير يريده الله؛ فكل ما يُجريه
الله خير.
وقول يوسف عليه السلام: { آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ... } [يوسف: 101]
يقتضي أن نفهم معنى " المُلْك "؛ ومعنى " المِلْك " ، ولنا أن
نعرف أن كل إنسان له شيء يملكه؛ مثل ملابسه أو قلمه أو أثاث بيته، ومثل ذلك من
أشياء، وهذا ما يُسمَّى: " المِلْك ". أما " المُلْك " فهو أن
تملك مَنْ يملك.
وقد ملَّك الله بعضاً من خَلْقه لخلقه، ملَّكهم أولاً ما في حوزتهم، وملَّكهم
غيرهم، وسبحانه ينزع المُلْك من واحد ويهبه لآخر، كي لا تصبح المسألة رَتَابة ذات.
ومثال هذا: هو ما حدث لشاه إيران، وكان له المُلْك، وعنده كل أسباب الحضارة، وفي
طَوْعه جيش قوي، ثم شاء الحق سبحانه أن ينزع منه المُلْك، فقام غيره بتفكيك
المسامير غير المرئية التي كان الشاه يُثبِّت بها عرشه؛ فزال عنه المُلْك.
وأنت في هذه الدنيا تملك السيطرة على جوارحك؛ تقول لليد " إضربي فلان "
فتضرب يدُك فلاناً، إلى أن يأتي اليوم الآخر فلا يملك الإنسان السيطرة على جوارحه؛
لأن المُلْك يومها يكون لله وحده، فسبحانه القائل:{ ...لِّمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16]
ففي اليوم الآخر تنتفي كل الولايات، وتكون الولاية لله وحده.
وبجانب " المُلْك " و " المِلْك "؛ هناك الملكوت، وهو ما لا
تراه بأجهزة الحواس.
وسبحانه يقول:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ... }[الأنعام: 75]
أي: أن الحق سبحانه قد كشف لإبراهيم أسرار العالم الخفية من المخلوقات، وأنت ترى
العلماء وهم يتتبعون أسرار ممالك النباتات والحيوانات؛ فتتعجب من دِقَّة خَلْق
الله.
ومَنْ وهبه الله دِقَّة العلم وبصيرة العلماء، يرى بإشعاعات البصر والعلم عالم
الملكوت، ويستخرج الأسرار، ويستنبط الحقائق.
ويضيف يوسف عليه السلام في مناجاته لربه: } وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ... { [يوسف: 101]
وهو يعترف بفضل الله عليه حين اختصّه بالقدرة على تأويل الأحاديث؛ تلك التي أوَّل
بها رُؤْيا الفتييْنِ اللذين كانا معه في السجن؛ وأوَّل رؤيا المِلَك؛ هذا التأويل
الذي قاده إلى الحكم، وليس هذا غريباً أو عجيباً بالنسبة لقدرة الله سبحانه.
ويقول يوسف شاكراً لله: } فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... { [يوسف: 101]
ومادام سبحانه هو خالق كل شيء؛ فليس غريباً أن يُعلِّمه سبحانه ما شاء، وكأن إيمان
يوسف قد وصل به إلى أن يعلم ما قاله الحق سبحانه:{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14]
ونحن في حياتنا نجد الذي صنع جهازاً يستفيد منه غيره؛ يوضح مواصفات استعمال الجهاز
أو الأداة، حتى ولو كانت نورجاً أو مِحْراثاً؛ وذلك ليضمن للجهاز الحركة
السَّوِيَّة التي يؤدي بها الجهاز عمله.
والواحد منا إن تعطلت منه السيارة يستدعي الميكانيكي الذي ينظر ما فيها؛ فإن كان
أميناً، فهو يُشخِّص بدِقَّة ما تحتاجه السيارة، ويُصلِحها، وإن كان غير أمين
ستجده يُفسد الصالح، ويزيد من الأعمال التي لا تحتاجها السيارة.
وهكذا نرى أن كل صانع في مجاله يعلم أسرار صنعته، فما بالنا بالخالق الأعظم سبحانه
وتعالى؟
إنه خبير عليم بكل شيء.
ولماذا قال يوسف عن الحق سبحانه: } فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... { [يوسف:
101]
لأنه يعلم أن الحق سبحانه قد خلق الإنسان؛ والإنسان له بداية ونهاية، لا يعلمها
أحد غير الله سبحانه، فقد يموت الإنسان وعمره يوم، أو يموت في بطن أمه، أو بعد
مائة سنة، وتمر على الإنسان الأغيار.
أما السماوات والأرض فهي مخلوقات ثابتة، فالشمس لا تحتاج إلى قطعة غيار، ولم تقع،
وتعطي الدفء للأرض، وهي مرفوعة عن الأرض؛ لا تقع عليها بمشيئة الله.
والحق سبحانه هو القائل:{ ...وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ
إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
[الحج: 65]
واسمع قوله الحق:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْـثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[غافر: 57]
فالإنسان يتغير ويموت؛ أما السماوات والأرض فثابتة إلى ما شاء الله.
ويقول يوسف عليه السلام مواصلاً المناجاة لله: } أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا
وَالآخِرَةِ... { [يوسف: 101]
وصحيح أن الحق سبحانه وليّ ليوسف في الدنيا، وقد نصره وقرَّبه وأعانه؛ بدليل كل ما
مَرَّ به من عقبات، ويرجو يوسف ويدعو ألاّ يقتصر عطاء الله له في الدنيا الفانية،
وأن يثيبه أيضاً في الباقية، والآخرة.
ومادام سبحانه وليَّه في الدنيا والآخرة؛ فيوسف يدعوه: }...تَوَفَّنِي مُسْلِماً
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ { [يوسف: 101]
وقوله: } تَوَفَّنِي مُسْلِماً... { [يوسف: 101]
إنما بسبب أن يكون أهلاً لعطاء الله له في الآخرة؛ فقد أخذ يوسف عطاء الدنيا
واستمتع به، ومَتّع به، ومشى فيه بما يُرضِى الله.
وعند تمنِّي يوسف للوفاة وقف العلماء، وقالوا: ما تمناها أحد إلا يوسف.
فالإنسان إن كان مُوفّقاً في الدنيا، تجده دائم الطموح، وتوَّاقاً إلى المزيد من
الخير.
وتحمل لنا ذاكرة التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه قَبِل الإمارة،
حينما كانوا يجيئون له بثوب ناعم؛ كان يطلب الأكثر منه نعومة، وإذا جِيءَ له بطعام
ليِّن؛ كان يطلب الأكثر لُيونة.
وحين صار خليفة؛ كانوا يأتونه بالثوب؛ فيطلب الأكثر خشونة وظن مَنْ حوله أنه لم
يَعُدْ منطقياً مع نفسه، ولم يفهموا أن له نفساً توَّاقة إلى الأفضل؛ تستشرف
الأعلى دائماً، فحينما تَاقَ إلى الإمارة جاءتْه؛ وحين تاق إلى الخلافة جاءتْه،
ولم يَبْقَ بعدها إلا الجنة.
ونجد ميمون بن مهران وكان ملازماً له؛ رضي الله عنهما؛ دخل عليه مرة فوجده يسأل
ربَّه الموت. فقال: يا أمير المؤمنين، أتسأل ربك الموت وقد صنع الله على يديك
خيراً كثيراً؛ فأحيَيْتَ سُنناً وأَمَتَّ بِدعاً؛ وبقاؤك خير للمسلمين؟
فقال عمر بن عبد العزيز: ألا أكون كالعبد الصالح حينما أتمَّ الله عليه نعمته قال:
}...تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ { [يوسف: 101]
وقوله: } تَوَفَّنِي مُسْلِماً... { [يوسف: 101]
مكونة من شِقَّين:
الشق الأول: طلب الموت.
والشق الثاني: أن يموت مسلماً.
وكُلُّنا يُتوفَّى دون أن يطلب، وعلى ذلك يكون الشق الأول غير مطلوب في ذاته؛ لأنه
واقع لا محالة، ويصبح المطلوب ـ إذن ـ هو الشق الثاني، وهو أن يتوفاه الله مسلماً؛
ولذلك حين نأتي إلى القبور نقول: السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، أنتم السابقون،
وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون.
وإنْ قال سائل: ولماذا نقول إن شاء الله بكم لاحقون، رغم أننا سنموت حَتْماً؟
نقول: إن قولنا " إن شاء الله " سببه هو رغبتنا أن نلحق بهم كمؤمنين.
وأيضاً قد يسأل سائل: لماذا يقول نبي لربه: }...وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {
[يوسف: 101]
وهل هناك صالح يأتي إلى هذا العالم دون أن يهتدي بمنهج نبي مرسل؟
نقول: إن كلمة " الصالحين " تضم الأنبياء وغيرهم من الذين آمنوا برسالة
السماء.
وهكذا انتهت قصة يوسف عليه السلام؛ ولذلك يتجه الحق سبحانه من بعد تلك النهاية إلى
المُرَاد من القصة التي جاءتْ مكتملة في سورة كاملة، غير بقية قَصَص القرآن التي
تتناثر أيٌّ منها في لقطات متفرقة بمواقع مختلفة من القرآن الكريم.
وذلك باستثناء قصة نوح التي جاءت مكتملة أيضاً، لدرجة أن بعض السطحيين قالوا
" إن هذا تكرار للقصة في لقطات مختلفة " ودائماً أقول رداً على ذلك: إنه
تأسيس للقطات؛ إن اجتمعت جاءت القصة كاملة.
وشاء الحق سبحانه أن تأتي اللقطات متفرقة؛ لأن كل لَقْطة إنما جاءت لمناسبة ما،
وكل القَصَص القرآني قد جاء لتثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خلال
عمره الرِّسالي الذي استمر ثلاثة وعشرين عاماً تعرَّض لأحداث جِسَام. وكل لحظة
كانت تحتاج لتثبيت، فيُنزِل الحق سبحانه ما يُثبِّت به فؤاد رسوله صلى الله عليه
وسلم فيوضح له في موقع ما: لا تحزن؛ لأن مَنْ سبقك من الرسل حدث معهم كذا.
بل قد تجد في الواقعة الواحدة لقطتيْن، مثلما جاء في العداوة بين موسى وفرعون.
قال الحق سبحانه:{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً
وَحَزَناً... }[القصص: 8]
وهنا تكون العداوة من طرف موسى.
ويقول في نفس المسألة أيضاً:{ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ... }[طه:
39]
وهنا تكون العداوة من جهتين؛ لأن العداوة تتفاعل حين تكون من جهتين، فلا يمكن أن
يستمر عداءٌ من طرف واحد، وتقوم من أجل هذا العداء معركة، لكن حين تكون العداوة من
جهتين فهذا يُطيل أَمَد المعركة.
والمثل الثاني هو قول الحق سبحانه في نفس قصة موسى؛ وهي لقطة متقدمة حدثتْ في
الأيام الأولى من حياة موسى، وقبل أن تُلقيه أمه في اليَمِّ؛ فقد مهَّد الله لها
الأمر.
يقول الحق سبحانه عن ذلك:{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ
تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي... }[القصص: 7]
وهذا شَحْذٌ لِهمَّتها قبل الحادث، وتنبيه لها من قبل أن يقع، ولحظةَ أن جاء
الحادث نفسه أوحى لها الحق سبحانه:{ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ
فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي
وَعَدُوٌّ لَّهُ... }[طه: 39]
والذين قالوا: إن قَصص القرآن جاء مُبعثراً، قد نسوا أن قصة نوح جاءت في موقع
واحد، وجاءت سورة يوسف مَحْبوكة من أول الرؤيا إلى تولي المُلْك، وجمع شَمْل
العائلة.
ونزلت القصة في سورة واحدة بعد أن سألوا عنها؛ وهم يعلمون أن محمداً صلى الله عليه
وسلم لم يجلس إلى مُعلِّم، ولم يقرأ في كتاب، وتاريخه معروف بالنسبة لهم، وحين
يأتي لهم مُوضِّحاً أن الحق سبحانه قد أنزل عليه، فكذَّبوه؛ وادَّعَوْا أنه يسمع
لقطة من هنا؛ ولقطة من هناك. حين سألوه أن يأتي بقصة يوسف جاء بها كاملة؛ من أولها
إلى آخرها.
ويقول الحق سبحانه في نهاية القصة:
} ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ... {
(/1684)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
و " ذلك " إشارة إلى هذه القصة، والخطاب مُوجَّه إلى محمد صلى الله عليه
وسلم أي: أنك يا محمد لم تَكُنْ معهم حين قالوا:{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ
إِلَىا أَبِينَا مِنَّا... }[يوسف: 8]
فالحق سبحانه أخبرك بأنباء لم تكن حاضراً لأحداثها، والغيب ـ كما عَلِمنا من قبل ـ
هو ما غاب عنك، ولم يَغِبْ عن غيرك، وهو غيب نسبيّ؛ وهناك الغيب المُطْلق، وهو
الذي يغيب عنك وعن أمثالك من البشر.
والغيب كما نعلم له ثلاثة حواجز:
الأول: هو حاجز الزمن الماضي الذي لم تشهده؛ أو حاجز الزمن المستقبل الذي لم
يَأْتِ بَعْد.
والثاني: هو حاجز المكان.
والثالث: هو حاجز الحاضر، بمعنى أن هناك أشياء تحدثُ في مكان أنت لا توجد فيه، فلا
تعرف من أحداثه شيئاً. و { نُوحِيهِ إِلَيْكَ... } [يوسف: 102]
أي نُعلِمك به بطَرْفٍ خَفيّ، حين اجتمعوا ليتفقوا، إما أن يقتلوا يوسف، أو
يُلْقوه في غيابة الجب.
وكشف لك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمر لم يُعلمه لرسول الله؛ ولم يشهد صلى الله
عليه وسلم ما دار بين الإخوة مباشرة، أو سماعاً من مُعلِّم، ولم يقرأ عنه؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم أُمِيّ لم يتعلم القراءة أو الكتابة.
وسبحانه يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ
مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ
}[العنكبوت: 48]
وهم بشهادتهم يعلمون كل حركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث؛ إقامة
وتِرْحالاً والتقاءً بأيِّ أحد.
فلو عَلموا أنه قرأ كتاباً لكانت لهم حُجَّة، وحتى الأمر الذي غابتْ عنهم فِطْنتهم
فيه؛ وقالوا:{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... }[النحل: 103]
فرد عليهم الحق سبحانه:{ ...لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ
وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103]
وأبطل الحق سبحانه هذه الحجة، وقد قَصَّ الحق سبحانه على رسوله الكثير من أنباء
الغيب، وسبق أن قلنا الكثير عن: " ما كُنَّات القرآن " ، مثل قوله
تعالى:{ ...وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[آل عمران: 44]
وقوله الحق:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى
الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ }[القصص: 44]
فكأن مصدر علم الرسول بكل ذلك هو من إخبار الله له.
وقد استقبل أهل الكهف ما طلبوا أن يعرفوه من قصة يوسف باللدد والجحود ـ وهم قد
طلبوا مطلبهم هذا بتأسيس من اليهود ـ وهو صلى الله عليه وسلم جاء لهم بقصة يوسف في
مكان واحد، ودفعة واحدة، وفي سورة واحدة، لا في لقطات متعددة منثورة كأغلب قصص
القرآن.
وقد جاء لهم بها كاملة؛ لأنهم لم يطلبوا جزئية منها؛ وإنما سألوه عن القصة
بتمامها، وتوقعوا أن يعزف عن ذلك، لكنه لم يعزف، بل جاء لهم بما طلبوه.
وكان يجب أن يلتفتوا إلى أن الله هو الذي أرسله، وهو الذي علَّمه؛ وهو الذي أنبأه،
لكنهم لم يؤمنوا، وعَزَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوضح له سبحانه:
لا تبتئس ولا تيأس:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
}[الشعراء: 3]
ويقول له سبحانه:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لَّمْ
يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف: 6]
فأنت يا رسول الله عليك البلاغ فقط، ويذكر الحق ذلك لِيُسلِّي رسوله صلى الله عليه
وسلم حين رأى لدد الكافرين؛ بعد أن جاء لهم بما طلبوه، ثم جحدوه:{ وَجَحَدُواْ
بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً... }[النمل: 14]
وهم قد جحدوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حرصوا على السلطة
الزمنية فقط، وكان من الواجب أن يؤمنوا بما جاءهم به، لكن العناد هو الذي وقف
بينهم وبين حقيقة اليقين وحقيقة الإيمان.
وأنت لا تستطيع أن تواجه المُعَاند بحجة أو بمنطق، فهم يريدون أن يظل الضعفاء
عبيداً، وأن يكونوا مسيطرين على الخَلْق بجبروتهم، والدين سيُسوِّي بين الناس
جميعاً، وهم يكرهون تلك المسألة.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقضية كونية، فيقول:
} وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ... {
(/1685)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
فأنت يا محمد لن تجعل كل الناس مؤمنين؛ ولو حرصت على ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم
شديد الحرص على أن يؤمن قومه، فهو منهم.
ويقول فيه الحق سبحانه:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
}[التوبة: 128]
لكنهم جحدوا ما جاءهم به؛ وقد أحزنه ذلك الأمر. وفي الحرص نجد آية خاصة باليهود؛
هؤلاء الذين دفعوا أهل مكة أن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف؛ يقول
الحق سبحانه:{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىا حَيَاةٍ... }[البقرة:
96]
وكان على أهل مكة أن يؤمنوا مادام قد ثبت لهم بالبينات أنه رسول من الله.
وجاء قول الحق: { وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف:
103]
جاء ذلك القولُ تسليةً من الحق سبحانه لرسوله، وليؤكد له أن ذلك ليس حال أهل مكة
فقط، ولكن هذه هي طبيعة معظم الناس. لماذا؟
لأن أغلبهم لا يُحسن قياس ما يعطيه له منهج الله في الدنيا والآخرة، والإنسان حين
يُقبل على منهج الله، يقيس الإقبال على هذا المنهج بما يُعطِيه له في الآخرة؛
فلسوف يعلم أنه مهما أعطى لنفسه من مُتَع الدنيا فعُمْره فيها مَوْقُوت بالقَدْر
الذي قدَّره له الله، والحياة يمكن أن تنتهي عند أية لحظة.
والحق سبحانه حين خبأ عن الناس أعمارهم في الدنيا، لم يَكُنْ هذا الإخفاء إبهاماً
كما يظن البعض، وهذا الإبهام هو في حقيقته عَيْن البيان، فإشاعة حدوث الموت في أي
زمن يجعل الإنسان في حالة ترقُّب.
ولذلك فميتات الفُجَاءة لها حكمة أن يعرف كل إنسان أن الموت لا سببِ له، بل هو سبب
في حَدِّ ذاته؛ سواء كان الموت في حادثة أو بسبب مرض أو فجأة، فالإنسان يتمتع في
الدنيا على حسب عمره المحدد الموقوت عند الله، أما في الآخرة فإنه يتمتع على قدر
إمدادات الخالق سبحانه.
والإنسان المؤمن يقيس استمتاعه في الآخرة بقدرة الله على العطاء، وبإمكانات الحق
لا إمكانات الخَلْق.
وهَبْ أن إنساناً معزولاً عن أمر الآخرة، أي: أنه كافر بالآخرة وأخذها على أساس
الدنيا فقط، نقول له: انظر إلى ما يُطلب منك نهياً؛ وما يُطلب منك أمراً، ولا
تجعله لذاتك فقط، بل اجعله للمقابل لك من الملايين غيرك.
سوف تجد أن نواهي المنهج إن منعتْك عن شر تفعله بغيرك؛ فقد منعتْ الغير أن يفعل بك
الشر، في هذا مصلحة لك بالمقاييس المادية التي لا دَخْل للدين بها.
ويجب أن نأخذ هذه المسألة في إطار قضية هي " دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب
المصلحة ".
وهَبْ أن إنساناً مُحباً لك أمسك بتفاحة وأراد أن يقذفها لك، بينما يوجد آخر كاره
لك، ويحاول أن يقذفك في نفس اللحظة بحجر، وأطلق الاثنان ما في أيديهما تجاهك، هنا
يجب أن تردَّ الحجر قبل أن تلتقط التفاحة، وهكذا يكون دَرْء المفسدة مُقدّماً على
جَلْب المصلحة.
وعلى الإنسان أن يقيس ذلك في كل أمر من الأمور؛ لأن كثيراً من أدوات الحضارات أو
ابتكارات المدنية أو المخترعات العلمية قد تعطينا بعضاً من النفع، ولكن يثبت أن
لها ـ من بعد ذلك ـ الكثير من الضرر.
مثال هذا: هو اختراع مادة " د. د. ت " التي قتلت بعض الحشرات، وقتلت
معها الكثير من الطيور المفيدة.
ولذلك يقول الحق سبحانه:{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... }[الإسراء:
36]
وعليك أن تدرس أيَّ مُخْتَرع قبل استعماله؛ لترى نفعه وضرره قبل أن تستعمله.
وقد رأينا مَنْ يُدخِلون الكهرباء إلى بيوتهم، يحاولون أن يرفعوا موقع "
فِيَش " الكهرباء عن مستوى تناول الأطفال؛ كي لا يضيع طفل أصابعه في تلك
الفتحات فتصعقهم الكهرباء، ووجدنا بعضاً من المهندسين قد صَمَّموا أجهزة تفصل
الكهرباء آلياً إنْ لمستْها يَدُ بشر.
وهذا هو دَرْء المفسدة المُقدَّم على جَلْب المنفعة، وعلينا أن نحتاط لمثل هذه
الأمور.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه يقول: } وَمَآ أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ { [يوسف: 103]
وهل قوله: } أَكْثَرُ النَّاسِ... { [يوسف: 103]
نسبة للذين لا يؤمنون، يعني أن المؤمنين قلة؟
نقول: لا؛ لأن " أكثر " قد يقابله " أقل " ، وقد يقابله
" الكثير ".
ويقول الحق سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ... }[الحج: 18]
وهكذا نجد أن كلمة " كثير " قد يقابلها أيضاً كلمة " كثير ".
وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لو حرص ما استطاع أن يجعل
أكثر الناس مؤمنين، والحِرْص هو تعلُّق النفس وتعبئة مجهود للاحتفاظ بشيء نرى أنه
يجلب لنا نفعاً أو يذهب بضُرٍّ، وهو استمساك يتطلب جهداً.
ولذلك يوضح له الحق سبحانه: أنت لن تهدي مَنْ تحرص على هدايته.
ويقول سبحانه:{ إِن تَحْرِصْ عَلَىا هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن
يُضِلُّ... }[النحل: 37]
ومن هذه الآية نستفيد أن كل رسول عليه أن يوطن نفسه على أن الناس سيعقدون مقارناتٍ
بين البدائل النفعية؛ وسيقعون في أخطاء اختيار غير الملائم لفائدتهم على المدى
الطويل؛ فوطِّنْ نفسك يا محمد على ذلك.
وإذا كنتَ يا رسول الله قد حملتَ الرسالة وتسألهم الإيمان لفائدتهم، فأنت تفعل ذلك
دون أجر؛ رغم أنهم لو فَطِنوا إلى الأمر لكان يجب أن يقدروا أجراً لمن يهديهم سواء
السبيل، لأن الأجر يُعْطَى لمن يقدم لك منفعة.
والإنسان حريص على أن يدفع الأجر لمن يُعينه على منفعة؛ والمنفعة إما أن تكون
موقوتة بزمن دنيوي ينتهي، وإما أن تكون منفعة ممتدة إلى ما لا نهاية؛ راحة في
الدنيا وسعادة في الآخرة.
ويأتي القرآن بقول الرسل:{ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً... }[الأنعام: 90]
ولم يَقُلْ ذلك اثنان هما: إبراهيم عليه السلام، وموسى عليه السلام.
وكان العقل يقول: كان يجب على الناس لو أنها تُقدِّر التقدير السليم؛ أن تدفع
أجراً للرسول الذي يُفسِّر لهم أحوال الكون، ويُطمئنهم على مصيرهم بعد الموت، ويشرح
لهم منهج الحق، ويكون لهم أُسْوة حسنة.
ونحن نجد في عالمنا المعاصر أن الأسرة تدفع الكثير للمدرس الخصوصي الذي يُلقِّن
الابن مبادئ القراءة والكتابة، فما بالنا بمَنْ يضيء البصر والبصيرة بالهداية؟
ومقتضى الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم نفعاً أبدياً لمن يتبعه، لكنه لم
يطلب أجراً.
ويقول الحق سبحانه:
} وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ... {
(/1686)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
وفي هذا القول الكريم ما يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل قومه أجراً على
هدايته لهم؛ لأن أجره على الله وحده.
والحق سبحانه هو القائل:{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ
مُّثْقَلُونَ }[الطور: 40]
والحق سبحانه يقول على لسان رسوله في موقع آخر:{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ... }[سبأ: 47]
وهو هنا يُعلِي الأجر، فبدلاً من أن يأخذ الأجر من محدود القدرة على الدَّفْع، فهو
يطلبها من الذي لا تُحَدّ قدرته في إعطاء الأجر؛ فكأن العمل الذي يقوم به لا يمكن
أن يُجَازى عليه إلا من الله؛ لأن العمل الذي يؤديه بمنهج الله ومن الله، فلا يمكن
إلا أن يكون الأجر عليه من أحد غير الله.
ولذلك يقول سبحانه: {...إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [يوسف: 104]
والذكر يُطْلَق إطلاقات متعددة، ومادة " ذال " و " كاف " و
" راء " مأخوذة من الذاكرة. وعرفنا من قبل أن الإنسان له آلات استقبال
هي الحواس الإنسانية، وتنتقل المعلومات أو الخبرات منها إلى العمليات العقلية،
وتمرُّ تلك المعلومات ببؤرة الشعور، لِتُحفظ لفترة في هذه البؤرة، ثم تنتقل إلى
حاشية الشعور، إلى أن تستدعيها الأحداث، فتعود مرة أخرى إلى بُؤْرة الشعور.
ولذلك أنت تقول حين تتذكر معلومة قديمة " لقد تذكرتها "؛ كأن المعلومة
كانت موجودة في مكان ما في نفسك؛ لكنها لم تَكُنْ في بؤرة الشعور. وحين جاءت عملية
الاستدعاء، فهي تنتقل من حاشية الشعور إلى بُؤْرة الشعور.
والتذكُّر هو: استدعاء المعلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.
والحق سبحانه يقول:{ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ... }[إبراهيم: 5]
أي: ذكِّرهم بما مَرَّ عليهم من أحداث أجراها الله؛ وهي غير موجودة الآن في بُؤْرة
شعورهم. وسُمِّي القرآن ذكراً؛ لأنه يُذكِّر كل مؤمن به بالله الذي تفضَّل علينا
بالمنهج الذي تسير به حياتنا إلى خير الدنيا والآخرة.
فالذكر ـ إذن ـ يكون للعاقل معونة له، وهو من ضمن رحمة الله بالخَلْق، فلم يترك
الخلقَ منشغلين بالنعمة عن مَنْ أنعمها عليهم، فهذا الكون منظم بِدقَّة بديعة، وفي
كل مُقوِّمات حياة البشر.
ومن فضل الله عليهم أنه أرسل الرسل مُذكِّرين لهم بهذا العطاء الرباني.
وكلمة " ذكر " تدل على أن الفطرة في الإنسان كان يجب أن تظل واعية ذاكرة
لله، وقد قَدَّر الله غفلة الأحداث، فجعل لهم الذكر كله في القرآن الكريم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ... }
(/1687)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
وإذا سمعتَ " كأين " افهم أن معناها كثير كثير كثير؛ بما يفوق الحَصْر،
ومثل " كأين " كلمة " كم " ، والعَدُّ هو مظنة الحصر، والشيء
الذي فوق الحصر؛ تنصرف عن عَدِّه، ولا أحد يحصر رمال الصحراء مثلاً، لكن كلاً منا
يعُدُّ النقود التي يردُّها لنا البائع، بعد أن يأخذ ثمن ما اشتريناه.
إذن: فالانصراف عن العَدِّ معناه أن الأمر الذي نريد أن نتوجه لِعَّده فوق الحصر،
ولا أحد يعُدُّ النجوم أو يحصيها.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُنبِّهنا إلى هذه القضية، لإسباغ نعمه على خلقه، ويقول:{
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا... }[إبراهيم: 34]
و " إنْ " هي للأمر المشوك فيه، وأنتم لن تعدُّوا نعمة الله؛ لأنها فوق
الحصر، والمعدود دائماً يكون مُكَرراً، وذَكَر الحق هنا نعمة واحدة، ولم يحددها؛ لأن
أيَّ نعمة تستقبلها من الله لو استقصيتها لوجدتَ فيها نِعَماً لا تُحصَر ولا
تُعَدُّ.
إذن: فكلمة " كأين " تعني " كم " ، وأنت تقول للولد الذي لم
يستذكر دروسه: كم نصحتك؟ وأنت لا تقولها إلا بعد أن يفيض بك الكيل.
وتأتي " كم " ويُراد بها تضخيم العدد، لا منك أنت المتكلم، ولكن ممَّنْ
تُوجِّه إليه الكلام، وكأنك تستأمنه على أنه لن ينطق إلا صِدْقاً، أو كأنك
استحضرتَ النصائح، فوجدتها كثيرة جداً.
والسؤال عن الكمية إما أنْ يُلْقَى من المتكلم، وإما أن يُطلب من المخاطب؛ وطلبُه
من المخاطب دليل على أنه سَيِقُرّ على نفسه، والإقرار سيد الأدلة.
وحين يقول سبحانه: { وَكَأَيِّن... } [يوسف: 105]
فمعناها أن ما يأتي بعدها كثير.
وسبحان القائل:{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ
فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا
اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }[آل عمران: 146]
وهكذا نفهم أن (كأين) تعني الكثير جداً؛ الذي بلغ من الكثرة مبلغاً يُبرر لنا
العذر أمام الغير إنْ لم نُحْصِه.
والآيات هي جمع " آية "؛ وهي الشيء العجيب، المُلْفِت للنظر ويُقال:
فلان آية في الذكاء. أي: أن ذكاءه مضرب المثل، كأمر عجيب يفوق ذكاء الآخرين.
ويُقال: فلان آية في الشجاعة؛ وهكذا.
ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف، ولا يُنسَى.
وقد نثر الحق سبحانه في الكون آياتٍ عجيبة، ولكل منثور في الكون حكمة. وتنقسم معنى
الآيات إلى ثلاث:
الأول: هو الآيات الكونية التي تحدثنا عنها، وهي عجائب؛ وهي حُجَّة للمتأمل أن
يؤمن بالله الذي أوجدها؛ وهي تلفِتُك إلى أن مَنْ خلقها لابُدَّ أن تكون له منتهى
الحكمة ومنتهى الدِّقة، وهذه الآيات تلفتنا إلى صدق توحيد الله والعقيدة فيه.
وقد نثر الحق سبحانه هذه الآيات في الكون.
وحينما أعلن الله بواسطة رسله أنه سبحانه الذي خلقها، ولم يَقُلْ أحد غيره: "
أنا الذي خلقت " فهذه المسألة ـ مسألة الخلق ـ تثبُت له سبحانه، فهو الخالق
وما سواه مخلوق، وهذه الآيات قد خُلِقت من أجل هدف وغاية.
وفي سورة الروم نجد آيات تجمع أغلب آيات الكون؛ فيقول الحق سبحانه:{ فَسُبْحَانَ
اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْي الأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ
ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم
مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ
وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ
مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ
آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ
دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ }[الروم: 17-25]
كل هذه آيات تنبه الإنسان الموجود في الكون أنه يتمتع فيه طبقاً لنواميس عليا؛
فيها سِرُّ بقاء حياته؛ فيجب أن ينتبه إلى مَنْ أوجدها.
وبعد أن ينتبه إلى وجود واحد أعلى؛ كان عليه أن يسأل: ماذا يريد منه هذا الخالق
الأعلى؟
هذه الآيات تفرض علينا عقلياً أن يوجد مَنْ يبلغنا مطلوبَ الواجد الأعلى، وحينما
يأتي رسول يقول لنا: إن مَنْ تبحثون عنه اسمه الله؛ وهو قد بعثني لأبلغكم بمطلوبه
منكم أن تعبدوه؛ فتتبعوا أوامره وتتجنبوا نواهيه.
والنوع الثاني من الآيات هي آيات إعجازية، والمراد منها تثبيت دعوة الرسل، فكان
ولابُدَّ أن يأتي كل رسول ومعه آية؛ لتثبت صِدْق بلاغه عن الله؛ لأن كل رسول هو من
البشر، ولابد له من آية تخرق النواميس، وهي المعجزات التي جاءت مع الرسل.
وهناك آيات حُكْمية، وهي النوع الثالث، وهي الفواصل التي تحمل جُملاً، فيها أحكام
القرآن الكريم؛ وهو المنهج الخاتم.
وهي آياتٌ عجيبة أيضاً؛ لأنك لا تجد حُكْماً من أحكام الدين إلا ويمسُّ منطقياً
حاجة من حاجات النفس الإنسانية، والبشر وإنْ كفروا سيُضطرون إلى كثير من القضايا
التي كانوا ينكرونها، ولكن لا حَلَّ للمشكلات التي يواجهونها، ولا تُحَلّ إلا بها.
والمثل الواضح هو الطلاق، وهم قد عَابُوا مجيء الإسلام به؛ وقالوا: إن مثل هذا
الحل للعلاقة بين الرجل والمرأة قد يحمل الكثير من القسوة على الأسرة، لكنهم لجأوا
إليه بعد أن عضَّتهم أحداث الحياة، وهكذا اهتدى العقل البشري إلى حكم كان يناقضه.
وكذلك أمر الربا الذي يحاولون الآن وَضْع نظام ليتحللوا من الربا كله، ويقولون: لا
شيء يمنع العقل البشري من التوصُّل إلى ما يفيد.
وهكذا نجد الآيات الكونية هي عجائب بكل المقاييس، والآيات المصاحبة للرسل هي
معجزات خَرَقتْ النواميس، وآياتُ القرآن بما فيها من أحكام تَقِي الإنسان من الداء
قبل أن يقع، وتُجبرهم معضلات الحياة أن يعودوا إلى أحكام القرآن ليأخذوا بها.
وهم يُعرضون عن كل الآيات، يُعرضون عن آيات الكون التي إنْ دَقَّقوا فيها لَثبتَ
لهم وجود إله خالق؛ ولأخذوا عطاءً من عطاءات الله ليسري تربية وتنمية، وكل
الاكتشافات الحديثة إنما جاءت نتيجةً لملاحظاتِ ظاهرةٍ ما في الكون.
وسبق أن ضربتُ المثل بالرجل الذي جلس ليطهو في قِدرْ؛ ثم رأى غطاء القِدْر يعلو؛
ففكَّر وتساءل: لماذا يعلو غطاء القدر؟ ولم يُعرِض الرجل عن تأمُّل ذلك، واستنباط
حقيقة تحوُّل الماء إلى بخار؛ واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر
يتمدد؛ ويحتاج إلى حَيِّزٍ اكبر من الحَيِّز الذي كان فيه قبل التمدد.
وكان هذا التأمُّل وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملتْ بها البواخر والقطارات،
وبدأ عصر سُمِّى " عصر البخار ". وهذا الذي رأى طَفْوَ طبقٍ على سطح
الماء وتأمّل تلك الظاهرة، ووضع قاعدة باسمه، وهي " قاعدة أرشميدس ".
وهكذا نجد أن أي إنسان يتأمل الكون بِدِقَّة سيجد في ظواهره ما يفيد في الدنيا؛
كما استفاد العالم من تأملات أرشميدس وغيره؛ ممَّنْ قدَّموا تأملاتهم كملاحظات،
تتبعها العلماء ليصلوا إلى اختراعات تفيد البشرية.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يضِنُّ على الكافر بما يفيد العالم مادام يتأمل ظواهر
الكون، ويستنبط منها ما يفيد البشرية.
إذن فقوله تعالى: } وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
يَمُرُّونَ عَلَيْهَا... { [يوسف: 105]
إنْ أردتها وسيلة للإيمان بإله؛ فهي تقودك إلى الإيمان؛ وإنْ أردتها لفائدة الدنيا
فالحقُّ لم يبخل على كافر بأن يُعطَيه نتيجة ما يبذل من جهد.
فكل المطلوب ألاّ تمُرَّ على آيات الله وأنت مُعرِض عنها؛ بل على الإنسان أن يُقبِل
إقبال الدارس، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تُثرِي حياتك؛ وتعطيك حياة لا نهايةَ
لها، وهي حياة الآخرة، أو تُسعِد حياتك وحياة غيرك، بأن تبتكر أشياء تفيدك، وتفيد
البشرية.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ... {
(/1688)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
وهكذا نرى المصافي التي يمر بها البشر ليصلوا إلى الإيمان.
المصفى الأول: قوله تعالى:{ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ }[يوسف: 103]
أي: أن الكثير من الناس لن يَصِلوا إلى الإيمان، حتى ولو حرص الرسول صلى الله عليه
وسلم أن يكونوا مؤمنين.
وقلنا: إن مقابل " كثير " قد يكون " قليل " ، وقد يكون "
كثير " ، وبعض المؤمنين قد يشوب إيمانهم شبهةٌ من الشرك، صحيح أنهم مؤمنون
بالإله الواحد، ولكن إيمانهم ليس يقينياً، بل إيمان متذبذب، ويُشرِكون به غيره.
والمصفى الثاني: قوله تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ
وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [يوسف: 106]
ومثال هذا: كفار قريش الذين قال فيهم الحق سبحانه:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ
خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[الزخرف: 87]
ويقول فيهم أيضاً:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[لقمان: 25]
ورغم قولهم هذا إلا أنهم جعلوا شفعاء لهم عند الله، وقالوا: إن الملائكة بنات
الله، وهكذا جعلوا لله شركاء. ومعهم كل مَنْ ادعى أن لله ابناً من أهل الكتاب.
وأيضاً مع هؤلاء يوجد بعض من المسلمين الذي يخصُّون قوماً أقوياء بالخضوع لهم
خضوعاً لا يمكن أن يُسمَّى في العرف مودة؛ لأنه تَقرُّب ممتلئ بالذلة؛ لأنهم
يعتقدون أن لهم تأثيراً في النفع والضر؛ وفي هذا لون من الشرك.
ويأتي الواحد من هؤلاء ليقول لِمَنْ يتقرب منه: أرجو أن تقضي لي الأمر الفلاني.
ويرد صاحب النفوذ: اعتمد على الله، وإن شاء الله سيقضي الله لك حاجتك.
لكن صاحب الطلب يتمادى في الذِّلة، ليقول: وأنا اعتمد عليك أيضاً، لتقضي لي هذه
الحاجة.
أو يرد صاحب النفوذ ويقول: أنا سوف افعل لك الشيء الفلاني؛ والباقي على الله.
وحين أسمع ذلك فأنا أتساءل: وماذا عن الذي ليس باقياً، أليس على الله أيضاً؟
وينثر الله حِكَماً في أشياء تمنَّاها أصحابها؛ فَقُضِيتْ؛ ثم تبين أن فيها شراً،
وهناك أشياء تمناها أصحابها؛ فلم تُقْضَ؛ ثم تبين أن عدم قضائها كان فيه الخير كل
الخير.
نجد الأثر يقول:وَاطلبُوا الأشياءَ بِعزَّةِ الأنفُسِ فَإِنَّ الأُمورَ تَجْرِي
بِمقَادِيروربما منعك هذا فكرهته، وكان المنع لك خيراً من قضائه لك، فإن المنع
عَيْن العطاء، ولذلك فعلى الإنسان أن يعرف دائماً أن الله هو الفاعل، وهو المسبب،
وأن السبب شيء آخر.
ودائماً أذكِّر بأننا حين نحجُّ أو نعتمر نسعى بين الصفا والمروة لنتذكر ما فعلتْه
سيدتنا هاجر التي سَعَتْ بين الصفا والمروة؛ لتطلب الماء لوليدها بعد استنفدت
أسبابها؛ ثم وجدت الماء تحت رِجْل وليدها إسماعيل.
فقد أخذتْ هي بالأسباب، فجاء لها رب الأسباب بما سألت عنه. ولم يأت لها الحق
سبحانه بالماء في جهة الصفا أو المروة؛ ليثبت لها القضية الأولى التي سألت عنها
إبراهيم عليه السلام حين أنزلها في هذا المكان.
فقد قالت له: ءأنزلتنا هنا برأيك؟ أم أن الله أمرك بهذا؟ قال: نعم أمرني رَبِّي.
قالت: إذن لا يضيعنا.
وقد سَعَتْ هي بحثاً عن الماء أخذاً بالأسباب، وعثرتْ على الماء بقدرة المسبِّب
الأعلى.
وقول الحق سبحانه: } وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ
مُّشْرِكُونَ { [يوسف: 106]
يتطلب منا أن نعرف كيف يتسرَّب الشرك إلى الإيمان، ولنا أن نتساءل: مادام يوجد
الإيمان؛ فمن أين تأتي لحظة الشرك؟
ويشرح الحق سبحانه لنا ذلك حين يقول:{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ
يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ
يَعلَمُونَ }[العنكبوت: 65-66]
هم إذن قد آمنوا وهم في الفُلْك، وأخذوا يدعُون الله حين واجهتهم أزمة في البحر؛
لكنهم ما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى ظهر بينهم الشرك.
حين يسألهم السائل: ماذا حدث؟
فيجيبون: أنهم كانوا قد أخذوا حذرهم، واستعدوا بقوارب النجاة. ونَسَوْا أن الله هو
الذي أنقذهم فانطبق عليهم قول الحق سبحانه:{ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً
لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى
النَّارِ }[إبراهيم: 30]
وفي حياتنا اليومية قد تذهب لتقضي حاجة لإنسان؛ وبعد أن يُسَهِّل لك الله قضاء تلك
الحاجة؛ تلتفت فلا تجده، ولا يفكر في أن يُوجِّه لك كلمة الشكر.
وحين تلقاه يقول لك: كل ما طلبته منك وجدته مقضياً، لقد كلَّمْتُ فلاناً فقضاها.
وهو يقول لك ذلك ليُبعد عنك ما أسبغه الله عليك من فضل قضائك لحاجته؛ وذلك لأنه
لحظة أن طلب منك مساعدته في قضاء تلك الحاجة تذلَّل وخضع، وبعد أن تنقضي يتصرف
كفرعون ويتناسى.
ولا ينزعه من فرعنته إلا رؤياك؛ لأنه يعلم أنك صاحب جميل عليه، بل قد يريد بك
الشر؛ رغم أنك أنت مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأن هذه هي طبيعة الإنسان.
يقول تعالى:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا
}[العلق: 6-7]
ولذلك يقول في المثل: " اتَّقِ شَرَّ من أحسنت إليه ".
وأنت تتقي شره، بأن تحذر أن تمُنَّ عليه بالإحسان؛ كي لا تنمي فيه غريزة الكره لك.
والناصح يحتسب أيَّ مساعدة منه لغيره عند الله؛ فيأخذ جزاءه من خالقه لحظة أداء
فعل الخير، ولا ينتظر شيئاً ممَّنْ فعل الخير له؛ لأنك لا تعلم ماذا فكَّر لحظة أن
أدَّيْتَ له الخدمة، فحين يجد ترحيبَ الناس بك في الجهة التي تُؤدِّي له الخدمة
فيها؛ قد يتساءل: لماذا يحترمونك أكثر منه؟
وهو يسأل هذا السؤال لنفسه على الرغم من أنك مُتواجِد معه في هذا المكان لتخدمه.
ولذلك يقول العامة هذا المثل: " اعمل الخير وارْمه في البحر "؛ لأن الله
هو الذي يجازيك وليس البشر؛ فاجعل كل عملك مُوجَّهاً لله، وانْسَ أنك فعلْتَ
معروفاً لأحد.
والمعروف المنكُور هو أجْدى أنواع المعروف عليك؛ لأن الذي يُجازِي عليه هو الله؛
وهو سبحانه مَنْ سيناولك أجره وثوابه بيده؛ ولذلك عليك أن تنسى مَنْ أحسنتَ إليه؛
كي يُعوِّضك الله بالخير على ما فعلت.
ويُقال في الأثر: إن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، إني أسألك ألاّ يُقال فيّ ما
ليس فيّ. فأوضح له الله: يا موسى لم أصنعها لنفسي؛ فكيف أصنعها لك.
ويعرض الحق سبحانه هذه المسألة في القرآن بشكل آخر فيقول سبحانه:{ وَإِذَا مَسَّ
الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً
مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً
لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ }[الزمر: 8]
والإنسان لحظةَ أن يمسَّه الضُّر؛ فهو يدعو الربوبية المتكفِّلة بمصالحه: يا ربّ
أنت الذي خلقتني، وأنت المتكفِّل بتربيتي؛ وأنا أتوكل عليك في مصالحي، فأنقذني
ممَّا أنا فيه.
ومثل هذا الإنسان كمثل الرُّبان الذي ينقذه الله بأعجوبة من العاصفة؛ لكنه بعد
النجاة يحاول أن ينسب نجاة السفينة من الغرق لنفسه.
ولذلك أقول دائماً: احذروا أيها المؤمنون أن تنسَوْا المُنعِم المُسبِّب في كل
شيء، وإياكم أن تُفْتنوا بالأسباب؛ فتغفلوا عن المُسبِّب؛ وهو سبحانه مُعْطي الأسباب.
وأقول ذلك حتى لا تقعوا في ظلم أنفسكم بالشرك بالله؛ فسبحانه القائل:{ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـائِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }[الأنعام: 82]
والظلم ـ كما نعلم ـ هو أن تُعطِي الحق لغيره صاحبه؛ فكيف يَجْرؤ أحد على أن
يتجاهل فَضْل الله عليه؟ فيقع في الشرك الخفي، والظلم الأكبر هو الشرك.
وسبحانه القائل:{ ...إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13]
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ... {
(/1689)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
ألم يحسب هؤلاء حساب انتقام الله منهم بعذاب الدنيا الذي يَعُمُّ؛ لأن الغاشية هي
العقاب الذي يَعُمُّ ويُغطِّي الجميع؛ أم أنهم استبطئوا الموت، واستبطئوا القيامة
وعذابها؛ رغم أن الموت مُعلَّق على رقاب الجميع، ولا أحد يعلم ميعاد موته.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات قامت قيامته ".
فما الذي يُبطئهم عن الإيمان بالله والإخلاص التوحيدي لله، بدون أنْ يمسَّهم شرك؛
قبل أن تقوم قيامتهم بغتةً؛ أي: بدون جرس تمهيدي.
ونعلم أن مَنْ سبقونا إلى الموت لا يطول عليهم الإحساس بالزمن إلى أن تقومَ قيامة
كُلِّ الخَلْق؛ لأن الزمن لا يطول إلا على مُتتبع أحداثه.
والنائم مثلاً لا يعرف كَمْ ساعةً قد نام؛ لأن وَعْيَه مفقود فلا يعرف الزمن،
والذي يوضح لنا أن الذين سبقونا لا يشعرون بمرور الزمن هو قوله الحق:{ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }[النازعات:
46]
ويأتي قول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو... }
(/1690)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
أي: قل يا محمد هذا هو منهجي. والسبيل كما نعلم هو الطريق، وقوله الحق: { هَـاذِهِ
سَبِيلِي... } [يوسف: 108]
يدل على أن كلمة السبيل تأتي مرة مُؤنَّثة، كما في هذه الآية، وتأتي مرة مُذكَّرة؛
كما في قوله الحق:{ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً
وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً... }[الأعراف: 146]
وأعْلِنْ يا محمد أن هذه الدعوة التي جِئْتَ بها هي للإيمان بالله الواحد؛ وسبحانه
لا ينتفع بالمنهج الذي نزل عليك لِيُطبِّقه العباد، بل فيه صلاح حياتهم، وسبحانه
هو الله؛ فهو الأول قبل كل شيء بلا بداية، والباقي بعد كل موجود بلا نهاية؛ ومع
خَلْق الخَلْق الذين آمنوا هو الله؛ وإن كفروا جميعاً هو الله، والمسألة التكليفية
بالمنهج عائدة إليكم أنتم، فمَنْ شاء فَلْيؤمن، ومَنْ شاء فَلْيكفر.
ولنقرأ قول الحق:{ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
}[الانشقاق: 1-2]
فهي تنشقُّ فَوْرَ سماعها لأمر الله، وتأتي لحظة الحساب.
وقوله الحق: { قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللَّهِ عَلَىا بَصِيرَةٍ...
} [يوسف: 108]
أي: أدعو بالطريق المُوصِّل إلى الله إيماناً به وتَقبُّلاً لمنهجه، وطلباً لما
عنده من جزاء الآخرة؛ وأنا على بصيرة مما أدعو إليه.
والبصر ـ كما نعلم ـ للمُحسَّات، والبصيرة للمعنويات.
والبصر الحسيُّ لا يُؤدِّي نفس عمل البصيرة؛ لأن البصيرة هي يقينٌ مصحوب بنور
يُقنِع النفس البشرية، وإنْ لم تَكُنْ الأمور الظاهرة مُلجئة إلى الإقناع.
ومثال هذا: أم موسى حين أوحى الله لها أن تقذف ابنها في اليَمِّ، ولو قاسَتْ هي
هذا الأمر بعقلها لما قَبِلَتْه، لكنها بالبصيرة قَبِلَتْه؛ لأنه وارد من الله لا
مُعانِدَ له من النفس البشرية.
فالبصيرة إذن: هي يقين ونور مبني على برهان من القلب؛ فيطيعه العبد طاعة بتفويض،
ويُقال: إن الإيمان طاعة بصيرة.
ويمكن أن نقرأ قوله الحق: { قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللَّهِ عَلَىا
بَصِيرَةٍ... } [يوسف: 108]
وهنا جملة كاملة؛ ونقرأ بعدها: { أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي... } [يوسف: 108]
أو نقرأها كاملة: { قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللَّهِ عَلَىا
بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108]
وقول الحق: { وَسُبْحَانَ اللَّهِ... } [يوسف: 108]
أي: أنه سبحانه مُنزَّه تنزيهاً مطلقاً في الذات، فلا ذاتَ تُشبِهه؛ فذاته ليست
محصورة في القالب المادي مثلك، والمنفوخة فيه الروح، وسبحانه مُنزَّه تنزيهاً
مُطْلقاً في الأفعال، فلا فعلَ يشبه فِعله؛ وكذلك صفاته ليست كصفات البشر، فحين
تعلم أن الله يسمع ويرى، فخُذْ ذلك في نطاق:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...
}[الشورى: 11]
وكذلك وجوده سبحانه ليس كوجودك؛ لأن وجوده وجود واجد أزليّ، وأنت حَدَثٌ طارئ على
الكون الذي خلقه سبحانه.
ولذلك قاس بعض الناس رحلة الإسراء والمعراج على قدرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ ولم ينتبهوا إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقد أُسري بي
".
ونزل قول الحق سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ
لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }[الإسراء: 1]
وهكذا تعلم أن الفعل لم يكن بقوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولكن بقوة من خلق الكون
كله، القادر على كل شيء، والذي لا يمكن لمؤمن حق أن يشرك به، أمام هذا البرهان.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً... }
(/1691)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
وينتقل الحق سبحانه هنا إلى الرسل الذين سبقوا محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فالحق
سبحانه يقول:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا
إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94]
أي: أنهم كانوا يطلبون رسولاً من غير البشر، وتلك مسألة لم تحدث من قبل، ولو كانت
قد حدثتْ من قَبْل؛ لقالوا: " ولماذا فعلها الله مع غيرنا؟ ".
ولذلك أراد سبحانه أن يَرُدُّ لهم عقولهم؛ فقال تعالى:{ قُل لَوْ كَانَ فِي
الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ
السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 95]
والملائكة بطبيعتها لا تستطيع أن تحيا على الأرض، كما أنها لا تصلح لأنْ تكون
قُدْوة أو أُسْوة سلوكية للبشر.
فالحق سبحانه يقول عن الملائكة:{ ...لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم: 6]
والملاك لا يصلح أن يكون أُسْوة للإنسان؛ لأن المَلَك مخلوق غيبيّ غير مُحَسٍّ من
البشر؛ ولو أراده الله رسولاً لَجسَّده بشراً؛ ولو جعله بشراً لبقيتْ الشبهةُ
قائمةً كما هي.
أو: أن الآية جاءت لِتسُدَّ على الناس ذرائع انفتحت بعد ذلك على الناس في حروب
الرِّدة حين ادَّعَتْ سجاح أنها نبية مُرْسَلة.
لذلك جاء الحق سبحانه من البداية بالقول: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ
رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىا... } [يوسف: 109]
ليوضح لنا أن المرأة لا تكون رسولاً منه سبحانه؛ لأن مهمة الرسول أن يلتحم بالعالم
التحامَ بلاغٍ، والمرأة مطلوب منها أن تكون سكناً.
كما أن الرسول يُفترض فيه ألاّّ يسقط عنه تكليف تعبديّ في أي وقت من الأوقات؛
والمرأة يسقط عنها التكليف التعبدي أثناء الطمث، ومهمة الرسول تقتضي أن يكون
مُسْتوفي الأداء التكليفي في أيِّ وقتٍ.
ثم كيف يطلبون ذلك ولَمْ تَأْتِ في مهام الرسل من قبل ذلك إلا رجالاً، ولم يسأل
الحق أيّاً منهم، ولم يستأذن من أيِّ واحد من الرسل السابقين ليتولى مهمته؛ بل
تلقَّى التكليف من الله دون اختيار منه، ويتلقى ما يؤمر أن يبلغه للناس، ويكون
الأمر بواسطة الوحي.
والوحي كما نعلم إعلام بخفاء، ولا ينصرف على إطلاقه إلا للبلاغ عن الله. ولم يوجد
رسول مُفوَّض ليبلغ ما يحب أو يُشرِّع؛ لكن كل رسول مُكلَّف بأن ينقل ما يُبَلغ
به، إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد فوَّضه الحق سبحانه في أن يُشرِّع، ونزل في
القرآن:{ مَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانتَهُواْ... }[الحشر: 7]
ويقول الحق سبحانه عن هؤلاء الرسل السابقين أنهم: { مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىا... }
[يوسف: 109]
والقرية كانت تأخذ نفس مكانة المدينة في عالمنا المعاصر. وأنت حين تزور أهل
المدينة تجد عندهم الخير عكس أهل البادية، فالبدويّ من هؤلاء قد لا يجد ما
يُقدِّمه لك، فقد يكون ضرع الماشية قد جَفَّ؛ أو لا يجد ما يذبحه لك من الأغنام.
والفارق بين أهل القرية وأهل البادية أن أهل القرية لهم توطُّن؛ ويملكون قدرة
التعايش مع الغير، وترتبط مصالحهم ببعضهم البعض، وترِقُّ حاشية كل منهم للآخر،
وتتسع مداركهم بمعارف متعددة، وليس فيهم غِلْظة أهل البادية.
فالبدويُّ من هؤلاء لا يملك إلا الرَّحْل على ظهر جَمله؛ ويطلب مساقط المياه،
وأماكن الكلأ لما يرعاه من أغنام.
وهكذا تكون في أهل القرى رِقَّة وعِلْم وأدبُ تناولٍ وتعاملٍ؛ ولذلك لم يَأْتِ
رسول من البدو كي لا تكون معلوماته قاصرة، ويكون جافاً، به غِلْظة قوْلٍ وسلوك.
والرسول يُفترض فيه أن يستقبل كل مَنْ يلتقي به بالرِّفق واللِّين وحُسْن
المعاشرة؛ لذلك يكون من أهل القرى غالباً؛ لأنهم ليسوا قُسَاة؛ وليسوا على جهل
بأمور التعايش الاجتماعي.
ويتابع الحق سبحانه: } أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... { [يوسف: 109]
أي: أنهم إنْ كانوا غير مؤمنين بآخرة يعودون إليها؛ ولا يعلمون متى يعودون؛
فليأخذوا الدنيا مِقْياساً؛ وَلْينظروا في رُقْعة الأرض؛ وينظروا ماذا حدث
للمُكذِّبين بالرسل، إنهم سيجدون أن الهلاك والعذاب قد حاقا بكل مُكذِّب.
ولو أنهم ساروا في الأرض ونظروا نظرة اعتبار، لرأوا قُرَى مَنْ نحتوا بيوتهم في
الجبال وقد عصف بها الحق سبحانه، ولَرأوْا أن الحق قد صَبَّ سَوْط العذاب على قوم
عاد وآل فرعون، فإن لم تَخَفْ من الآخرة؛ فعليك بالخوف من عذاب الدنيا.
وقول الحق سبحانه: } أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... { [يوسف: 109]
وهذا القول هو من لَفتاتِ الكونيات في القرآن، فقديماً كنا لا نعرف أن هناك غلافاً
جوياً يحيط بالأرض، ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي به الأكسوجين الذي نحتاجه
للتنفس.
ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي من ضمن تمام الأرض، وأنك حين تسير على اليابسة،
فالغلاف الجوي يكون فوقك؛ وبذلك فأنت تسير في الأرض؛ لأن ما فوقك من غلاف جوي هو
من مُلْحقات الأرض.
والسَيْر في الأرض هو للسياحة فيها، والسياحة في الأرض نوعان: سياحة اعتبار،
وسياحة استثمار.
ويُعبِّر الحق سبحانه عن سياحة الاعتبار بقوله:{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... }[الروم: 9]
ويعبر سبحانه عن سياحة الاستثمار بقوله:{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ...
}[العنكبوت: 20]
إذن: فالسياحة الاعتبار هي التي تَلْفتك لقدرة الله سبحانه، وسياحة الاستثمار هي
من عمارة الأرض، يقول الحق سبحانه:{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ
فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً... }[النساء: 100]
وأنت مُكَّلف بهذه المهمة، بل إن ضاق عليك مكان في الأرض فابحث عن مكان آخر، بحسب
قول الحق سبحانه:{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ
فِيهَا... }
[النساء: 97]
ولك أن تستثمر كما تريد، شرطَ ألاَّ يُلهِيك الاستثمار عن الاعتبار.
ويتابع الحق سبحانه: } كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... {
[يوسف: 109]
ويا لَيْتَ الأمر قد اقتصر على النكال الذي حدث لهم في الدنيا؛ بل هناك نَكَالٌ
أشدُّ وَطْأة في انتظارهم في الآخرة.
يقول الحق سبحانه: }...وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ { [يوسف: 109]
وحديث الحق سبحانه عن مصير الذين كَذَّبوا؛ يَظهر لنا كمقابل لما ينتظر المؤمنين،
ولم تذكر الآية مصير هؤلاء المُكذِّبين بالتعبير المباشر، ويُسمُّون ذلك في اللغة
بالاحتباك.
مثل ذلك قوله الحق:{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ
أَطْرَافِهَا... }[الرعد: 41] وكل يوم تنقص أرض الكفر، وتزيد رقعة الإيمان.
وهكذا يأتي العقاب من جانب الله، ونأخذ المقابل له في الدنيا؛ ومرة يأتي بالثواب
المقيم للمؤمنين، ونأخذ المقابل في الآخرة.
ولقائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلِ الحق سبحانه أنه سوف يأتي لهم بما هو أشد شراً
من عذاب الدنيا في اليوم الآخر؟
وأقول: إن السياق العقلي السطحي الذي ليس من الله؛ هو الذي يمكن أن يُذكِّرهم بأن
عذاب الآخرة هو أشدُّ شراً من عذاب الدنيا.
ولكن الحق سبحانه لا يقول ذلك؛ بل عَدل عن هذا إلى المقابل في المؤمنين؛ فقال:
}...وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {
[يوسف: 109]
فإذا جاء في الدنيا بالعذاب للكافرين؛ ثم جاء في الآخرة بالثواب لِلمُتقين؛ أخذ من
هذا المقابل أن غير المؤمنين سيكون لهم حسابٌ عسير، وقد حذف من هنا ما يدل عليه
هناك؛ كي نعرف كيف يُحْبَك النظم القرآني.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
} حَتَّىا إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ... {
(/1692)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
وكلمة: { حَتَّىا } [يوسف: 110]
تدل على أن هناك غاية، ومادامتْ هناك غاية فلابُدَّ أن بداية ما قد سبقتْها،
ونقول: " أكلتُ السمكة حتى رأسها ". أي: أن البداية كانت أَكْل السمكة،
والنهاية هي رأسها.
والبداية التي تسبق: { اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ... } [يوسف: 110]
هي قوله الحق:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي
إِلَيْهِمْ... }[يوسف: 109]
ومادام الحقُّ سبحانه قد أرسلهم؛ فهم قد ضَمِنوا النصر، ولكن النصر أبطأ؛ فاستيأس
الرسل، وكان هذا الإبطاء مقصوداً من الحق سبحانه؛ لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين
مهمة هداية حركة الحياة في الأرض إلى أن تقوم الساعة، فيجب ألا يضطلع بها إلا
المُخْتَبر اختباراً دقيقاً.
ولابُدَّ أن يمر الرسول ـ الأُسْوة لمَنْ معه ـ ومن يتبعه من بعد بمحن كثيرة،
ومَنْ صبر على المِحَن وخرج منها ناجحاً؛ فهو أَهْلٌ لأن يحمل المهمة.
وهو الحق سبحانه القائل:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا
يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ
وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىا يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
مَعَهُ مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ... }[البقرة: 214]
إذن: لابُدَّ من اختبار يُمحِّص. ونحن في حركة حياتنا نُؤهِّل التلميذ دراسياً؛
ليتقدم إلى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، ثم نُؤهِّله لِنَيْل شهادة إتمام
الدراسة الإعدادية؛ ثم نؤهله لنيل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ثم يلتحق
بالجامعة، ويتم اختباره سنوياً إلى أن يتخرج من الجامعة.
وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه، فهو يبذل المزيد من الجَهْد.
وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير
بها، فما بَالُنا بعملية بَعْث رسول إلى قوم ما؟
لابُدَّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه، وكي لا يبقى على العهد إلا المُوقِن تمام
اليقين بأن ما يفوته من خير الدنيا؛ سيجد خيراً افضل منه عند الله في الآخرة.
ولقائل أن يقول: وهل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
نقول: فَلنفهم أولاً معنى " استيأس "؛ وهناك فرق بين " يأس "
و " استيأس " ، فـ " يأس " تعني قطع الأمل من شيء. و "
استيأس " تعني: أنه يُلِحّ على قَطع الأمل.
أي: أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا
ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى.
لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة،
فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول: أنا لا تُهمّني الأسباب؛ لأن معي المُسبِّب.
ولذلك يقول الحق سبحانه:{ ...وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ
يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ }
[يوسف: 87]
ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين؛ لأنهم لا
يملكون رصيداً إيمانياً، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب؛ وقادر على أن
يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب،
والقادر على أن يَخْرِق الأسباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون:{ مَتَىا
نَصْرُ اللَّهِ... }[البقرة: 214]
فضلاً عن ظَنِّهم أنهم كُذّبوا، والحق سبحانه يقول هنا: } وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُواْ... { [يوسف: 110]
ومادة " الكاف " ، و " الذال " و " الباء " منها
" كَذَبَ " ، و " كُذِبَ عليه " و " كُذِّب ".
والكذب هو القول المخالف للواقع، والعاقل هو من يُورِد كلامه على ذِهْنه قبل أن
ينطق به.
أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبُّر؛ فينطق الكلام على عَواهِنه؛
ولا يمرر الكلام على ذهنه؛ ولذلك يقال عنه " مخرف ".
وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق، وقلنا: إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع، والكذب
هو ألاَّ تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع.
ومَنْ يقول كلاماً يعلم أنه لا يطابق الواقع؛ يقال عنه: إنه مُتعمِّد الكذب، ومَنْ
يقول كلاماً بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع، ونقله عن غيره؛ فهو يكذب دون أن
يُحسب كَذبه افتراءً، والإنسان الذي يتوخَّى الدِّقة ينقل الكلام منسوباً إلى مَنْ
قاله له؛ فيقول " أخبرني فلان " فلا يُعَدُّ كاذباً.
ولذلك أقول دائماً: يجب أن يُفرِّق العلماء بين كذب المُفْتين، وكذب الخبر؛ وكذب
المُخْبر. فالخبر الكاذب مسئول عنه مَنْ تعمَّد الكذب، أما الناقل للخبر مادام قد
نسبه إلى مَنْ قاله، فموقفه مختلف.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين؛ قراءة هي: " وظنوا
أنهم قد كُذبوا " أي: حدَّثهم غيرهم كَذِباً؛ وقراءة ثانية هي: " وظنوا
أنهم قد كُذِّبوا " وهي تعني: أنهم قد ظنُّوا أن ما قيل لهم من كلام عن النصر
هو كذب.
ولقائل أن يسأل: كيف يظن الرسل ذلك؟
وأقول: إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان؛ يعلم أن ما يُؤكِّد صدق رسالته هو
مجيء النصر؛ وتمرُّ عليه بعض من الخواطر خوفاً أن يقول المقاتلون الذين معه:
" لقد كذب علينا "؛ لأن الظن إخبار بالراجح.
ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى ـ معاذ الله ـ قد كَذَبهم وعده،
ولكنهم ظَنُّوا أن النصر سيأتيهم بسرعة؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلاً على أن
النصر لن يأتي.
أو: أنهم خافوا أن يُكذِّبهم الغير.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه،
ولا يعرفه أحد، فسبحانه لا يَعْجَلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد.
ويقول سبحانه: } وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا... {
[يوسف: 110]
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة
الصَّادي، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء.
وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي
النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع
بَأْسه وعذابه على الكافرين به.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
} لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ... {
(/1693)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
ونلحظ أن هذه الآية جاءت في سورة يوسف؛ أي: إنْ أردتَ قصة يوسف وإخوته؛ ففي السورة
كل القصة بمَراميها وأهدافها وعِظَتها، أو المهم في كل قصص الأنبياء.
يقول الحق سبحانه:{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا
نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ... }[هود: 120]
ونعلم أن معنى القَصَص مأخوذ من قَصِّ الأثر؛ وتتبُّعه بلا زيادة أو نقصان.
ويقول الحق سبحانه هنا: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ... } [يوسف: 111]
وفي أول السورة قال الحق:{ ...إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ }[يوسف: 43]
ونعرف أن مادة " العين " و " الباء " و " الراء "
تفيد التعدية من جَليّ إلى خَفيّ.
والعِبْرة في هذه القصة ـ قصة يوسف ـ وكذلك قصص القرآن كلها؛ نأخذ منها عِبْرة من
الجَليِّ فيها إلى الخَفيِّ الذي نواجهه؛ فلا نفعل الأمور السيئة؛ ونُقدِم على
الأمور الطيبة.
وحين نقبل على العمل الطيّب الذي جاء في أيّ قصة قرآنية؛ وحين نبتعد عن العمل
السيئ الذي جاء خَبرُه في القصة القرآنية؛ بذلك نكون قد أحسنَّا الفهم عن تلك
القصص.
وعلى سبيل المثال: نحن نجد الظالم في القصَص القرآني؛ وفي قصة يوسف تحديداً؛ وهو
ينتكس، فيأخذ الواحد مِنَّا العبرة، ويبني حياته على ألاّ يظلم أحداً. وحين يرى
الإنسان منا المظلومَ وهو ينتصر؛فهو لا يحزن إنْ تعرَّض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما
ينتصر؛ فهو لا يحزن إن تعرض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتظره من نصر بإذن الله.
ونحن نقول: " عبر النهر " أي: انتقل من شاطئ إلى شاطئ.
وكذلك قولنا " تعبر الرُّؤْيا " أي: تؤوّلها؛ لأن الرُّؤْيا تأتي رمزية؛
وتعبرها أي: تشرحها وتنقلها من خفيّ إلى جليّ؛ وإيضاح المطلوب منها.
ونَصِفُ الدَّمْعة بأنها " عَبْرة "؛ والحزن المدفون في النفس البشرية
تدل عليه الدَّمْعة.
وهنا قال الحق سبحانه: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي
الأَلْبَابِ... } [يوسف: 111]
والعِبْرة قد تمرُّ، ولكن لا يلتفت إليها إلا العاقل الذي يُمحِّص الأشياء، أما
الذي يمرُّ عليها مُرور الكرام؛ فهو لا يستفيد منها.
و " أولو الألباب " هم أصحاب العقول الراجحة، و " الألباب "
جمع " لُبّ ". واللب: هو جوهر الشيء المطلوب؛ والقَِشْر موجود لصيانة
اللُّبِّ، وسُمِّي العقل " لُبّاً " لأنه ينثرُ القشور بعيداً، ويعطينا
جوهر الأشياء وخيرها.
ويتابع الحق سبحانه: { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىا وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ... } [يوسف: 111]
أي: أن ما جاء على لسانك يا محمد وأنزله الحق وَحْياً عليك ليس حديث كَذبٍ
مُتعمَّد؛ بل هو الحق الذي يطابق الكتب التي سبقتْه.
ويُقال: " بين يديك " أي: سبقك؛ فإذا كنت تسير في طابور؛ فَمَنْ أمامك
يُقال له " بين يديك " ، ومَنْ وراءك يُقال له " مَنْ خلفك ".
والقرآن قد جاء ليصدق الكتب التي سبقتْه؛ وليست هي التي تُصدِّق عليه؛ لأنه الكتاب
المهيمن، والحق سبحانه هو القائل:{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ...
}[المائدة: 48]
ويضيف الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ... { [يوسف: 111]
فالقرآن يُصدِّق الكتب السابقة، ويُفصِّل كل شيء؛ أي: يعطي كل جزئية من الأمر
حُكْمها في جزئية مناسبة لها. فهو ليس كلاماً مُجْملاً، بل يجري تفصيل كل حُكْم
بما يناسب أيَّ أمر من أمور البشر.
وفي أعرافنا اليومية نقول: " فلان قام بشراء بذلة تفصيل ". أي: أن
مقاساتها مناسبة له تماماً؛ ومُحْكمة عليه حين يرتديها.
وفي الأمور العقدية نجد ـ والعياذ بالله ـ مَنْ يقول: إنه لا يوجد إله على
الإطلاق، ويقابله مَنْ يقول: إن الآلهة مُتعددة؛ لأن كل الكائنات الموجودة في
الكون من الصعب أن يخلقها إله واحد؛ فهناك إله للسماء، وإله للأرض؛ وإله للنبات؛
وإله للحيوان.
ونقول لهم: كيف يوجد إله يقدر على شيء، ويعجز عن شيء آخر؟
وإنْ قال هؤلاء: " إن تلك الآلهة تتكاتف مع بعضها ".
نرد عليهم: ليست تلك هي الألوهية أبداً، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:{
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً
سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر: 29]
وحين يكون الشركاء مختلفين؛ فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضَنْك وعذاب؛ أما
الرجل المملوك لرجل واحد فحاله يختلف؛ لأنه يأتمر بأمر واحد؛ لذلك يحيا مرتاحاً.
ونجد الحق سبحانه يقول عن الآلهة المتعددة:{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ
وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
}[المؤمنون: 91]
أما مَنْ يقول بأنه لا يوجد إله في الكون، فنقول له: وهل يُعقل أن كل هذا الكون
الدقيق المُحْكم بلا صانع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يُفَصّلَ هذا الأمر ليؤكد أنه لا يوجد سوى إله واحد في
الكون، ونجد القرآن يُفصِّل لنا الأحكام؛ ويُنزِل لكل مسألة حُكْماً مناسباً لها؛
فلا ينتقل حُكْم من مجال إلى آخر.
وكذلك تفصيل الآيات، فهناك المُحْكم والمُتَشابه؛ والمَثَل هو قول الحق سبحانه.{
وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ... }[آل عمران: 114]
ويقول في موقع آخر:{ وَسَارِعُواْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ... }[آل
عمران: 133]
جاء مرة بقول " إلى " ، ومرة بقول " في "؛ لأن كلاً منها
مناسبة ومُفصَّلة حَسْب موقعها.
فالمُسَارعة إلى المغفرة تعني أن مَنْ يسارع إليها موجود خارجها، وهي الغاية التي
سيصل إليها، أما مَنْ يسارع في الخيرات؛ فهو يحيا في الخير الآن، ونطلب منه أن
يزيد في الخير.
وأيضاً نجد قوله الحق:{ ...وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17]
ونجد قوله الحق:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ
}[الشورى: 43]
وواحدة منهما وردتْ في المصائب التي لها غَرِيم، والأخرى قد وردتْ في المصائب التي
لا غريم فيها؛ مثل المرض حيث لا غَرِيم ولا خُصومة.
أما إذا ضربني أحد؛ أو اعتدى على أحد أبنائي؛ فهو غريمي وتوجد خصومة؛ فوجوده أمامي
يَهِيج الشر في نفسي؛ وأحتاج لضبط النفس بعزيمة قوية، وهذا هو تفصيل الكتاب.
والحق سبحانه يقول:{ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ... }[فصلت: 3]
أي: أن كل جزئية فيه مناسبة للأمر الذي نزلتْ في مناسبته.
ومثال هذا هو قوله سبحانه:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... }[الإسراء: 31]
وقوله الحق:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... }[الأنعام: 151]
وكل آية تناسب موقعها، ومعناها مُتَّسق في داخلها، وتَمَّ تفصيلها بما يناسب ما
جاءت له، فقوله:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ... }[الأنعام:
151]
يعني أن الفقر موجود، والإنسان مُنْشغل برزقه عن رزق ابنه.
أما قوله:{ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... }[الإسراء: 31]
أي: أن الفقر غير موجود، وهناك خَوْف أن يأتي إلى الإنسان؛ وهو خوف من أمر لم
يَطْرأ بعد.
وهكذا نجد في القرآن تفصيلاً لكل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم، وهو تفصيل
لكل شيء ليس عندك؛ وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس:{ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ
شَيْءٍ... }[النمل: 23]
وليس معنى هذا أنها أوتيت من كل شيء في هذه الدنيا، بل هي قد أُوتيَت من كل شيء تملكه،
أو يُمكِن أن تملكه في الدنيا.
وقول الحق سبحانه: } وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ... { [يوسف: 111]
لا يعني أن نسأل مثلاً: " كم رغيفاً في كيلة القمح؟ ".
وقد حدث أن سأل واحد الإمام محمد عبده هذا السؤال؛ فجاء بخباز، وسأله هذا السؤال؛
فأجاب الخباز؛ فقال السائل: ولكنك لم تَأْتِ بالإجابة من القرآن؟ فقال الإمام محمد
عبده: لماذا لا تذكر قوله الحق:{ ...فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم
لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43]
وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يُفرِّط في الكتاب من شيء.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: }...وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [يوسف: 111]
ونعلم أن الهُدى هو الطريق المُؤدي إلى الخير، وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم
إلى قسمين:
القسم الأول: الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه.
والقسم الثاني: علاج لمَنْ وقع في المعصية.
وإليك المثال: هَبْ أن أُناساً يعلمون الشر؛ فنردهم عنه ونشفيهم منه؛ لأنه مرض،
وهو رحمة بمعنى ألاَّ يقعوا في المرض بداية.
إذن: فهناك ملاحظتان يشيران إلى القسمين:
الملاحظة الأولى: أن المنهج القرآني قد نزل وقايةً لمن لم يقع في المعصية.
والملاحظة الثانية: أن المنهج يتضمن العلاج لِمَنْ وقع في المعصية.
ويُحدِّد الحق سبحانه مَنْ يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلاجاً، فيقول:
}...وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [يوسف: 111]
أي: هؤلاء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون، ووضع للبشر قوانين صيانة حياتهم،
ومن المنطقيِّ أن يسمع المؤمن كلامه ويُنفذه؛ لأنه وضع المنهج الذي يمكنك أن تعود
إليه في كل ما يصون حياتك، فإنْ كنت مؤمناً بالله؛ فُخُذ الهدى، وخُذ الرحمة.
ونسأل الله أن نُعطَي هذا كله.
(/1694)
المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
وقد سبق لنا أن تكلمنا طويلاً في خواطرنا عن الحروف التي تبدأ بها بعض من سور
القرآن الكريم: مثل قوله الحق:{ الم }[ البقرة: 1]
وقوله: { المر... } [الرعد: 1]
ومثل قوله:{ المص }[الأعراف: 1]
وغير ذلك من الحروف التوقيفية التي جاءتْ في أول بعض من فَواتِح السُّور.
ولكن الذي أُحب أن أؤكد عليه هنا هو أن آيات القرآن كلها مَبْنية على الوَصْل؛ لا
على الوَقْف؛ ولذلك تجدها مَشْكُولة؛ لأنها مَوْصُولة بما بعدها.
وكان من المفروض ـ لو طبَّقْنَا هذه القاعدة ـ أن نقرأ " المر "
فننطقها: " ألفٌ " " لامٌ " " ميمٌ " " راءٌ
" ، ولكن شاء الحق سبحانه هنا أن تأتي هذه الحروف في أول سورة الرعد مَبْنية
على الوقف، فنقول: " ألفْ " " لامْ " " ميمْ "
" راءْ ".
وهكذا قرأها جبريل عليه السلام على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا
نقرأها نحن.
ويتابع سبحانه: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ... } [الرعد: 1]
أي: أن السورة القادمة إليك هي من آيات الكتاب الكريم ـ القرآن ـ وهي إضافة إلى ما
سبق وأُنْزِل إليك، فالكتاب كله يشمل من أول{ بسم الله الرَّحْمانِ الرَّحِيـمِ
}[الفاتحة: 1]
في أول القرآن، إلى نهاية سورة الناس.
ونعلم أن الإضافة تأتي على ثلاث مَعَانٍ؛ فمرَّة تأتي الإضافة بمعنى " من
" مثل قولنا " أردب قمح " والمقصود: أردب من القمح.
ومرة تأتي الإضافة بمعنى " في " مثل قولنا: " مذاكرة المنزل "
والمقصود: مذاكرة في المنزل.
ومرة ثالثة تأتي الإضافة بمعنى " اللام " وهي تتخذ شَكْليْنِ.
إمَّا أن تكون تعبيراً عن ملكية، كقولنا " مالُ زيدٍ لزيد ".
والشكل الثاني أن تكون اللام للاختصاص كقولنا " لجام الفرس " أي: أن
اللجام يخص الفرس؛ فليس معقولاً أن يملك الفرس لِجَاماً.
إذن: فقول الحق سبحانه هنا: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ... } [الرعد: 1]
يعني تلك آياتٌ من القرآن؛ لأن كلمة " الكتاب " إذا أُطلِقتْ؛ فهي تنصرف
إلى القرآن الكريم.
والمثل هو القول " فلانٌ الرجل " أي: أنه رجل حقاً؛ وكأن سُلوكه هو
مِعْيار الرجولة، وكأن خِصَال الرجولة في غيره ليست مُكْتملة كاكتمالها فيه، أو
كقولك " فلان الشاعر " أي: أنه شاعر مُتميِّز للغاية.
وهكذا نعلم أن كلمة " الكتاب " إذا أُطْلِقتْ ينصرف في العقائد إلى
القرآن الكريم، وكلمة الكتاب إذا أُطِلقت في النحو انصرفتْ إلى كتاب سيبويه الذي
يضم قواعد النحو.
ويتابع سبحانه في وصف القرآن الكريم: {...وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ
الْحَقُّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الرعد: 1]
ونعلم أن مراد الذي يخالف الحق هو أن يكسب شيئاً من وراء تلك المخالفة.
وقد قال سبحانه في أواخر سورة يوسف:{ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ }[يوسف: 103]
ثم وصف القرآن الكريم، فقال تعالى:{ ...مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىا وَلَـاكِن
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[يوسف: 111]
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يريد الكَسْب منكم، لكنه شاء أن يُنزِل هذا الكتاب
لتكسبوا أنتم: }...وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ { [الرعد: 1]
أي: أن أكثر مَنْ دعوتَهُم إلى الإيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأنه نزل إليك
من ربك؛ لأنهم لم يُحسِنوا تأمُّل ما جاء فيه؛ واستسلموا للهَوَى. وأرادوا السلطة
الزمنية، ولم يلتفتوا إلى أن ما جاء بهذا الكتاب هو الذي يعطيهم خير الدنيا
والآخرة.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
} اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ... {
(/1695)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
وكلمة " الله " عَلَمٌ على واجب الوجود؛ مَطمورة فيه كُلُّ صفات الكمال؛
ولحظةَ أنْ تقول " الله " كأنك قُلْتَ " القادر " "
الضار " " النافع " " السميع " " البصير "
" المُعْطي " إلى آخر أسماء الله الحسنى.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ عمل لا يبدأ باسم الله هو أبتر
".
لأن كل عمل لا يبدأ باسمه سبحانه؛ لا تستحضر فيه أنه سبحانه قد سَخَّر لك كُلَّ
الأشياء، ولم تُسخِّرْ أنت الأشياء بقدرتك.
ولذلك، فالمؤمن هو مَنْ يدخل على أيِّ عمل بحيثية " بسم الله الرحمن الرحيم
"؛ لأنه سبحانه هو الذي ذلَّلَ للإنسان كل شيء، ولو لم يُذلِّلها لَمَا
استجابتْ لك أيها الإنسان.
وقد أوضح الحق سبحانه ذلك في أمثلة بسيطة؛ فنجد الطفل الصغير يُمسِك بحبل ويربطه
في عنق الجمل، ويأمره بأن " ينخّ " ويركع على أربع؛ فيمتثل الجمل لذلك.
ونجد البرغوث الصغير؛ يجعل الإنسان ساهراً الليل كُلَّه عندما يتسلل إلى ملابسه؛
ويبذل هذا الإنسان الجَهْدَ الجَهِيد لِيُمسِك به؛ وقد يستطيع ذلك؛ وقد لا يستطيع.
وهكذا نعرف أن أحداً لم يُسخِّر أي شيء بإرادته أو مشيئته، ولكن الحق سبحانه هو
الذي يذلِّل كُلَّ الكائنات لخدمة الإنسان.
والحق سبحانه هو القائل:{ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ }[يس: 72]
وأنت حين تُقبِل على أيِّ عمل يحتاج إلى قدرة فتقول: " باسم القادر الذي
أعطاني بعض القدرة ".
وإنْ أقبلتَ على عمل يحتاج مالاً؛ تقول: " باسم الغني الذي وَهَبنِي بعضاً من
مال أقضي به حاجتي ".
وفي كل عمل من الأعمال التي تُقبِل عليها تحتاج إلى قدرة؛ وحكمة؛ وغِنىً، وبَسْط؛ وغير
ذلك من صفات الحق التي يُسخِّر بها سبحانه لك كُلَّ شيء؛ فشاءتْ رحمتُه سبحانه أنْ
سَهَّل لنا أن نفتتح أيَّ عمل باسمه الجامع لكل صفات الجمال والكمال " بسم
الله الرحمن الرحيم ".
ولذلك يُسَمُّونه " عَلَمٌ على واجب الوجود ".
وبقية الأسماء الحسنى صفات لا توجد بكمالها المُطْلق إلاَّ فيه؛ فصارتْ كالاسم.
فالعزيز على إطلاقه هو الله. ولكِنَّا نقول عن إنسان ما " عزيزُ قومِه "
، ونقول " الغَنيّ " على إطلاقه هو الله، ولكِنْ نقول " فلان غنيّ
" و " فلان فقير ".
وهكذا نرى أنها صفاتٌ أخذتْ مرتبة الأسماء؛ وهي إذا أُطِلقَتْ إنما تشير إليه
سبحانه.
وعرفنا من قَبْل أن أسماء الله؛ إما أن تكون أسماءَ ذات؛ وإما أن تكون أسماءَ
صفات؛ فإنْ كان الاسم لا مقابل له فهو اسمُ ذاتٍ؛ مثل: " العزيز ".
أما إنْ كان الاسم صفةَ الصفة والفعل، مثل " المُعِز " فلابُدَّ أن له
مقابلاً، وهو هنا " المُذِلّ ".
ولو كان يقدر أنْ يُعِزَّ فقط؛ ولا يقدر أن يُذِلَّ لما صار إلهاً، ولو كان يضر
فقط، ولا ينفع أحداً لَمَا استطاع أن يكون إلهاً، ولو كان يقدر أنْ يَبسُطَ، ولا
يقدر أن يقبض لما استطاع أنْ يكون إلهاً.
وكل هذه صفات لها مُقَابِلها؛ ويظهر فعْلُها في الغير؛ فسبحانه ـ على سبيل المثال
ـ عزيزٌ في ذاته؛ ومُعِزٌّ لغيره، ومُذِلٌّ لغيره.
وكلمة " الله " هي الاسم الجامع لكل صفات الكمال، وهناك أسماء أخرى
علَّمها الله لبعض من خلقه، وهناك أسماء ثالثة سنعرفها إنْ شاء الله حين نلقاه:{
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىا رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }[القيامة: 22-23]
ونلحظُ أن الحق سبحانه بدأ هذه الآية بالحديث عن العالم العُلْوي أولاً؛ ولم يتحدث
عن الأرض؛ فقال: } اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ... { [الرعد: 2]
وكلمة " رفع " إذا استعملتَها استعمالاً بشرياً؛ تدلُّ أن شيئاً كان في
وَضْع ثم رفعتَه عن موضعه إلى أعلى؛ مثل قول الحق سبحانه:{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ
عَلَى الْعَرْشِ... }[يوسف: 100]
فقد كان أَبَوا يوسف في موضع أقلّ؛ ثم رفعهما يوسف إلى موضع أعلى مما كَانَا فيه،
فهل كانت السماء موضوعة في موضع أقلّ؛ ثم رفعها الله؟ لا، بل خلقها الله مرفوعة.
ورَحِم الله شيخنا عبد الجليل عيسى الذي قال: " لو قلت: سبحان الله الذي
كبَّر الفيل؛ فهل كان الفيل صغيراً ثم كبَّره الله؛ أم خلقه كبيراً؟ لقد خلقه الله
كبيراً. وإنْ قلت: سبحان الله الذي صغَّر البعوضة؛ فهل كانت كبيرة ثم صَغَّرها
الله؟ لا بل خلقها الله صغيرة ".
وحين يقول سبحانه: } اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ... {
[الرعد: 2]
فهذا يعني أنه خلقها مرفوعة، وفي العُرْف البشري نعرف أن مُقْتضى رَفْع أيِّ شيء
أَنْ تُوجَد من تحته أعمدة ترفعه.
ولكن خلقَ الله يختلف؛ فنحن نرى السماء مرفوعة على امتداد الأفق؛ ويظهر لنا أن
السماء تنطبق على الأرض؛ ولكنها لا تنطبق بالفعل.
ولم نجد إنساناً يسير في أيِّ اتجاه ويصطدم بأعمدة أو بعمود واحد يُظَنُّ أنه من
أعمدة رَفْع السماء؛ وهي مَرْئية هكذا؛ فهل هناك أعمدة غير مَرْئية؛ أم لا توجد
أعمدة أصلاً؟.
وقد يكون وراء هذا الرَّفْع أمر آخر؛ فقد قلنا: إن الشيء إذا رُفع؛ فذلك بسبب وجود
ما يُمسكه أو ما يَحْمله؛ وسبحانه يقول في أمر رفع السماء:{ ...وَيُمْسِكُ
السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[الحج: 65]
فإذا كانت مَمْسُوكة من أعلى؛ فهي لا تحتاج إلى عَمَد، وقوله الحق: (يمسك) يعني
أنه سبحانه قد وضع لها قوانينها الخاصة التي لم نعرفها بَعْدُ.
وقد قام العلماء المعاصرون بمَسْح الأرض والفضاء بواسطة الأقمار الصناعية وغيرها،
ولم يجدوا عَمَداً ترفع السماوات أو تُمْسِكها.
والمهندسون يتبارَوْنَ في عصرنا لِيرفعوا الأسْقُفَ بغير عَمَدٍ؛ لكنهم حتى الآن؛
مازالوا يعتمدون على الحوائط الحاملة.
وهكذا نعلم أنه سبحانه إمَّا أنه حمل السماء على أعمدة أدقّ وألطفَ من أن تراها
أعيننا؛ ولذلك نراها بغير أعمدة، أو أنها مرفوعة بلا أعمدة على الإطلاق.
و " عَمَد " اسم جمع ـ لا جمع ـ ومفردها " عمود " أو "
عِمَاد " وقد جاءتْ هذه الآية بمثابة التفسير لِمَا أُجمِل في قول الحق
سبحانه في سورة يوسف:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105]
وجاء سبحانه هنا بالتفصيل؛ فأوضح لنا أنه: } رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا... { [الرعد: 2]
أي: لا ترونها أنتم بِحُكْم قانون إبصاركم. ولا تعجب من أنْ يوجد مخلوق لا تراه؛
لأن العينَ وسيلة من وسائل الإدراك، ولها قانون خاص؛ فهي ترى أشياء ولا ترى أشياء
أخرى.
هذا بدليل أنك إذا نظرتَ إلى إنسان طوله مِتْران يتحرك مُبْتعداً عنك؛ تجد يَصْغُر
تدريجياً إلى أن يتلاشى من مجال رؤيتك؛ لكنه لا يتلاشى بالفعل.
وهذا معناه أن قانون إبصارك مَحْكوم بقانون؛ له مدىً مُحدّد.
وهناك قوانين أخرى مثل: قانون السمع؛ وقانون الجاذبية؛ وقانون الكهرباء؛ وكلها
ظواهر نستفيد بآثارها، ولكِنّا لا نراها، فلا تعجب من أن يوجد شيء لا تدركه؛ لأن
قُوَى إدراكك لها قوانين خاصة.
ويشاء الحق سبحانه أن يُدلِّل على صدق ذلك بأن يجعل ما يكتشفه العلماء في الكون من
أشياء وقُوىً لم تكُنْ معروفة من قبل؛ ولكننا كنا نستفيد منها دون أن ندري؛ مما
يدلُّ على أن إدراك الإنسان غَيْرَ قادر على إدراك كل شيء.
وذلك يوضح لنا أن رؤيتنا للسماء مرفوعة بغير عَمَد نراها؛ قد يعني وجود أعمدة
مصنوعة بطريقة غير معروفة لنا؛ أو هي مرفوعة بغير عَمَدٍ على الإطلاق.
وقول الحق سبحانه: } بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا... { [الرعد: 2]
هو كلام خبري، والمثل من حياتنا حين تقول لابنك: " أنا خارج إلى العمل؛ وذاكر
أنت دروسك " ، وبذلك تكون قد أوضحت له: " ذاكر دروسك " وهذا كلام
خبريّ؛ لكن المراد به إنشائيّ.
وإبراز الكلام الإنشائي في مَقَام الكلام الخبري له مَلْحظ، مثلما تقول: "
فلان مات رحمه الله " وقولك " رحمه الله " كلام خبريّ؛ فأنت تخبر
أن الله قد رحمه.
على الرغم من أنك لا تدري: هل رحمه الله أم لا؛ ولكنك قلت ذلك تفاؤلاً أن تكون
الرحمةُ واقعة به، وكان من الممكن أن تقول: " مات فلان يا ربي ارحمه " ،
وأنت بذلك تطلب له الرحمة.
كذلك قول الحق سبحانه: } بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.
.. { [الرعد: 2]
أي: دَقِّقوا وأمعِنُوا النظر إليها، وابحثوا فيما يعنيكم على ذلك إن استطعتم،
وإذا لفتَكَ المتكلم إلى شيء لِيُحرِّك فيك حواسَّ إدراكك فمعنى ذلك أنه واثقٌ من
صَنْعته.
والمثل من حياتنا ـ ولله المثل الأعلى، وسبحانه مُنزَّه عن أن يكون له مثل ـ حين
تدخل لتشتري صُوفاً؛ فيقدم لك البائع قماشاً؛ فتسأله: هل هذا صوف مائة في المائة؟
" فيقول لك البائع: " نعم إنه صوف مائة في المائة، وهاتِ كبريتاً لنشعل
فتلة منه لترى بنفسك ".
ويوضِّح الحق سبحانه هنا: أن السماوات مرفوعة بغير عَمَدٍ، وانظروا أنتم؛ بمَدِّ
البصر، ولن تجدوا أعمدة على هذا الامتداد، وضمان عدم وجود أعمدة مُتحقِّق لك
ولغيرك على مدى أفُق أيٍّ منكم.
ولكُلِّ إنسان أُفُقه الخاص على حسب قدرة بصره، فهناك من تنطبق السماء على الأرض
أمام عيونه؛ فنقول له: أنت تحتاج إلى نظارة طبية تعالج هذا الأمر.
فالآفاق تختلف من إنسان إلى آخر، وفي التعبير اليومي الشائع يقال: " فلان
ضَيِّق الأفق لا يرى إلا ما تحت قدميْه ".
ولقائل أن يقول: إن هذا يحدث معي ومع مَنْ يعيشون الآن ولا أحد يرى أعمدة ترفع
السماوات؛ فهل سيحدث ذلك مع من سيأتون مَنْ بعدنا؟
ونقول: لقد مسحتْ الأقمار الصناعية من الفضاء الخارجي كل مساحات الأرض؛ ولم يجد
أحدٌ أية أعمدة ترفع السماء عن الأرض.
وهذا دليل صدق القضية التي قالها الحق سبحانه في هذه الآية: } اللَّهُ الَّذِي
رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا... { [الرعد: 2]
والسماوات جمع " سماء " وهي كل ما عَلاَك فأظلَّك، والحق سبحانه يقول:{
وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ... }[البقرة: 22]
ونعلم أن المطر إنما نزل من السُّحُب التي تعلو الإنسان، وتبدو مُعلَّقة في
السماء، وإذا أُطِلقتْ السماء انصرفت إلى السماء العليا التي تُظلِّل كل ما تحتها.
وحين أراد الناس معرفة كُنْه السماء، وهل لها جِرْم أم ليس لها جِرْم؛ وهل هي
امتداد أجواء وهواء؟ لم يتفق العلماء على إجابة.
وقد نَثَر الحقُّ سبحانه أدلة وجوده، وأدلة قدرته، وأدلة حكمته وأدلة صَنْعته في
الكون؛ ثم أعطاك أيها الإنسان الأدلة في نفسك أيضاً؛ وهو القائل سبحانه:{ وَفِي
أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ... }[الذاريات: 21]
وانظر إلى نفسك تجد العلماء وهم يكتشفون في كل يوم شيئاً جديداً وسِرّاً عجيباً،
سواء في التشريح أو علم وظائف الأعضاء.
وسوف تعجب من أمر نفسك، وأنت ترى تلك الاكتشافات التي كانت العقول السابقة تعجز عن
إدراكها، وقد يُدرَك بعضها الآن، ويُدرَك بعضها لاحقاً.
وإدراكُ البعض للمجهول في الماضي يُؤذِن بأنك سوف تدرك في المستقبل أشياء جديدة.
وإن نظرت خارج نفسك ستجد قول الحق سبحانه:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ
وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ... }[فصلت: 53]
ومعنى{ سَنُرِيهِمْ... }[فصلت: 53] أن الرؤية لا تنتهي؛ لأن " السين "
تعني الاستقبال، ومَنْ نزل فيهم القرآن قرءوها هكذا، ونحن نقرؤها هكذا، وستظل هناك
آيات جديدة وعطاء جديد من الله سبحانه إلى أن تقوم الساعة.
وسبحانه القائل:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْـثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[غافر: 57]
وأنت حين تفكر في خَلْق السماوات والأرض ستجده مسألة غايةً في الضخامة؛ ويكفيك أن
تتحيّر في مسألة خَلْقك وتكوينك؛ وأنت مجرد فرد محدود بحيّز، ولك عمر محدود ببداية
ونهاية، فما بَِالُك بخَلْق السماوات والأرض التي وُجِدَت من قَبْلك، وستستمر من
بعدك إلى أن تنشقَّ بأمر الله، وتتكسر لحظتها النجوم.
ولابُدَّ أن خَلْق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالسماوات والأرض تشمل
الكون كله.
وحين تُحدَّث عنها إياك أن تخلط فيها بوهمك؛ أو بتخمينك؛ لأن هذه مسألة لا تُدرك
في المعامل، ولا تستطيع أن تُجرِي تحليلات لمعرفة كيفية خَلْق السماوات والأرض.
ولذلك عليك أنْ تكتفي بمعرفة ما يطلبه منك مَنْ خلقها؛ وماذا قال عنها، وتذكر قول
الحق سبحانه:{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... }[ الإسراء: 36]
وقد حجز الحق سبحانه عن العقول المتطفلة أمرين؛ فلا داعي أن تُرهِق نفسك فيهما:
الأمر الأول: هو كيفية خَلْق الإنسان؛ وهل كان قرداً في البداية ثم تطوَّر؟ تلك
مسألة لا تخصُّك، فلا تتدخل فيها بافتراضات تؤدي بك إلى الضلال.
والأمر الثاني: هو مسألة خَلْق السماوات والأرض فتقول: إن الأرض كانت جزءاً من
الشمس، ومثل هذا الكلام لا يستند إلى وقائع.
وتذكر قول الحق سبحانه:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ... }[الكهف: 51]
ولو كان الحق سبحانه قد أراد أن تعلم شيئاً عن تفاصيل هذين الأمرين لأشهد خلقهما
لبعض من البشر، لكنه سبحانه نفى هذا الإشهاد؛ لذلك ستظل هذه المسألة لُغْزاً
للأبد؛ ولن تَحُلًّ أنت هذا اللُّغْز أبداً؛ بل يحلُّه لك البلاغ عن الحقِّ الذي
خلق.
وقد أوضح لك أنه قد خلقك من طين، ونفخَ فيك من روحه، فاسمع منه كيفية خَلْقك
وخَلْق الكون كله.
ويدل الإعجاز البياني في القرآن على أن بعضاً مِمَّنْ يملكون الطموح العقلي أرادوا
أن يأخذوا من القرآن أدلة على صِحَّة تلك النظريات التي افترضها بعض من العلماء عن
خَلْق الإنسان وخَلْق الأرض، فيبلغنا الحق سبحانه مقدَّماً ألاّ نصدقهم.
ويقول لنا:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ
أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51]
والمُضِلّ هو مَنْ يُضِلُّك في المعلومات، هكذا أثبت لنا الحق سبحانه أن هناك
مُضلِّين سيأتون ليقولوا كلاماً افتراضياً لا أساسَ له من الصِّحة.
وأوضح لنا سبحانه أن أحداً لم يتلصَّصْ عليه، ليعرف كيفية خَلْق الشمس أو الأرض،
ومَنْ يدعي معرفة ذلك فهو من المُضلِّين؛ لأنهم قَفَوْا ما ليس لهم به علم.
ومادام الحق سبحانه قد قال ذلك، فنحن نُصدِّق ما قال.
وقد أثبتت التحليلات صِدْق ما قاله سبحانه عن خَلْق الإنسان، فسبحانه قد خلق الكون
أولاً، ثم خلق السيد لهذا الكون وهو الإنسان، وكل الكون مُسخَّر للإنسان ويخدم هذا
الخليفة في الأرض، وكل ما في الكون يسير بنظام وانتظام.
والمُتمرد الوحيد في الكون هو الإنسان، فيأتي الحقُّ سبحانه إلى هذا المتمرِّد؛
ليجعل الآية فيه؛ وليثبت صِدْق الغيب في الأرض.
وأوضح سبحانه أنه خلق آدم من الطين؛ والإنسان من نسل آدم الذي سَوَّاه الله، ونفخ
فيه من روحه، وبعد ذلك أمر الملائكة؛ من المُدبِّرات أمراً ومن الحَفَظة؛ أنْ تسجدَ
للإنسان.
وهذا السجود هو إعلان الطاعة لأمر الله بخدمة الإنسان. هذا الذي بدأت حكاية خَلْقه
من تراب، ثم خُلط التراب بالماء؛ ليصير طيناً؛ ثم تُرِكَ قليلاً ليصير حَمَأً
مَسْنوناً؛ ثم يجفّ الحَمأ ليصير صَلْصالاً كالفخَّار؛ ثم ينفخ فيه الحق بالروح.
فإذا ما انتهى الأجل؛ فأول ما يُنقض هو خروج الروح؛ ثم يتصلَّب الجثمان، وبعد أن
يُوارَى التراب يصير الجثمان رِمّة؛ ثم يتسرَّب الماء الموجود في الجثة إلى الأرض،
وتبقى العظام إلى أن تتحول هي الأخرى إلى تراب.
وهكذا يتحقق نَقْضُ كل بناء؛ فما يُبني في نهاية أيِّ بناء هو ما يُنقض أولاً،
وهكذا يتأكد لنا صدق الحق سبحانه حين نرى صدق المقابل فيما أخبرنا به سبحانه عن
كيفية الخلق.
وعندما يُخبِرنا الحق سبحانه أن كيفية خَلْق السماوات والأرض ليست في مُتَناولنا؛
فقد أعطانا من قبل الدليل على صِدْق ما جاء به، فيما أخبرنا به عن أنفسنا.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: } اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ... { [الرعد: 2]
وكلمة " السماوات " في اللغة جمع، وفي آية أخرى، يقول سبحانه:{
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىا فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا...
}[فصلت: 12]
وقديماً كانوا يقولون: إن المقصود بالسبع سماوات هو الكواكب السبعة: الشمس،
والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى.
وشاء سبحانه أن يُكذِّب هذا القول وأصحابُه أحياء؛ فرأى علماء الفلك كواكبَ أخرى
مثل: نبتون وبلوتو؛ وكان في ذلك لَفْتة سماوية لِمَنْ قالوا: إن المقصود بالسماوات
السبع هو الكواكب السبعة.
وقد قالوا هذا القول بحُسْن نية وبرغبة في رَبْط القرآن بالعلم؛ لكنهم نَسُوا أن
يُدقِّقوا الفهم لِمَا في كتاب الله، فسبحانه قد أوضح أن الشمس والقمر والكواكب
زينة السماء الدنيا، فما بالُنَا بطبيعة وزينة بقية السماوات؟
ويتابع سبحانه: } ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ... { [الرعد: 2]
وهذه قضية هي أهمُّ قضية كلامية ناقشها علماء الكلام؛ قضية الاستواء والعرش، وحتى
نفهم أيَّ قضية لابُدَّ أن نُحلِّل ألفاظها لنتفقَ على معانيها، ثم نبحثها جملة
واحدة، لكن أن نجلس لنتجادل ونحن غير مُتوارِدين ومتفقين على فَهْم واحد؛ فهذا
أمرٌ لا يليق.
ولننظر الآن معنى " الاستواء " ومعنى " العرش " ، ونحن حين
نستقرئ كلمة " استوى " في القرآن نجدها قد وردتْ في آيات متعددة.
وجاءت مرّة واحدة بمعنى الاستواء أي: النضج، في قول الحق سبحانه:{ وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىا آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً... }[القصص: 14]
أي: أنه قد بلغ نُضْجه الكماليّ، ويستطيع أن يكون رجلاً صالحاً لممارسة ما يُبقِي
نوعه، وإنْ تزوج فسلوف يُنجِب مثله؛ وهذا استواء لمخلوق هو الإنسان.
ومرة أخرى يقول القرآن:{ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىا * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىا
}[النجم: 6-7]
والمعنى هنا هو: صعد؛ والمقصود هو صعود محمد وجبريل عليهما السلام إلى الأفق
الأعلى.
وهناك قوله الحق:{ ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ... }[البقرة: 29]
أي: أنه سبحانه قد استوى إلى السماء؛ وإياك أن تظن أن استواءه سبحانه إلى السماء
مساو لاستواء البشر؛ لأننا قلنا من قبل: إن كل شيء بالنسبة لله إنما نأخذه في
إطار:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11]
وبذلك يكون استواؤه سبحانه إلى السماء هو استواء يليق بذاته، والاستواء المطلق شيء
مختلف عن الاستواء على العرش.
وهكذا نجد استواءً لغير الله من إنسان؛ وهناك استواء لغير الله من إنسان ومن ملك؛
وهناك استواء من الله إلى غير العرش. وبجانب ذلك هناك استواء على العرش.
وقد وردَ الاستواء على العرش في سبعة مواقع بالقرآن؛ في: سورة الأعراف؛ وسورة
يوسف؛ والرعد، وطه، والفرقان، والسجدة، والحديد.
وورد ذكر العرش في القرآن بالنسبة لله واحداً وعشرين مرَّة، وورد بالنسبة لبلقيس
أربع مرات؛ فهو القائل سبحانه:{ ...وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }[النمل: 23]
وقال:{ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا... }[النمل: 38]
ثم قال:{ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا... }[النمل: 41]
وقال:{ أَهَكَذَا عَرْشُكِ... }[النمل: 41]
وبالنسبة ليوسف قال سبحانه:{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ... }[يوسف: 100]
وإيَّاك أن تأخذ الاستواء بالنسبة لله على أن معناه " النُّضْج "؛ لأن
النُّضْجَ إشعارٌ بكمالٍ سَبقه نَقْصٌ.
ولذلك نجد العلماء المُدقِّقين قد عَلِمُوا أن ذِكْر استواء الله على العرش قد ورد
في سبعة مواضع بالقرآن الكريم وقالوا:وَذِكْرُ اسْتواءِ اللهِ فِي كَلِمَاتِه عَلى
العَرْشِ في سَبْعِ مَوَاضِع فَاعْدُدِفَفِي سُورَةِ الأعْرَافِ ثُمَّةَ يُونُسَ
وَفِي الرَّعْدِ مع طَه فَلِلْعَدِّ أَكِّدِوَفِي سُورَةِ الفُْرقَانِ ثُمَّة
سَجْدة كَذَا في الحدِيدِ افْهمْهُ فَهْم مُؤيَّدِوقالوا في المعنى:فَلَهُمْ
مَقالاتٌ عَليْهَا أَرْبعة قََدْ حُصِّلَتْ لِلْفارسِ الطَّعَّانِوَهي اسْتقرَّ
وقَدْ عَلاَ وَكذلِكَ ارتَفَع مَا فِيهِ مِنْ نُكْرانِوَكَذاكَ قَدْ صَعَد الذِي
هُوَ رَابِعٌ بِتمَامِ أمْرٍ مِنْ حِمَى الرَّحمَانِوالصعود إلى العرش هو حركة
انتقال من وضع إلى وضع لم يَكُنْ فيه.
وهكذا نجد أن المعاني التي تتمشَّى مع الاستواء في عُرْفنا البشري لا تتناسب مع
كمال الله.
واختلف العلماء: قال واحد منهم: " سآخذ اللفظ كما قاله الله ".
ونردُّ على هذا بسؤال: وهل يمكنك أن تُغَيِّبَ:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...
}[الشورى: 11]
طبعاً، لا أحدَ يستطيع ذلك، وعليك أن تأخذ كل فَهْمٍ لشيء يخصُّ الذات العَلية في
إطار:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11]
ولذلك نجد أهل الدِّقة يقولون: " الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول، والسؤال
عنه الكيفية بدعة؛ لأن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسألوا عن تلك
الكيفية، رغم أنهم سألوا عن كثير من الأمور.
وهناك آيات متعددة تبدأ بقول الحق سبحانه:{ يَسْأَلُونَكَ... }[البقرة: 189]
وكان السؤال وارداً بالنسبة لهم؛ لكنهم بملكتهم العربية الفطرية قد فَهِموا
الاستواء كشيء يناسب الله، فلم يسألوا عنه.
وجاء السؤال من المتأخرين الذين تمحَّكوا، فقال واحد: سآخذ الألفاظ بمعناها؛ فإن
قال: إن له صعوداً؛ فهو يصعد، وإنْ قال: إن له استواء فهو يستوي.
ولِمَنْ قال ذلك نردُّ عليه: إن ما تقوله صالحٌ للأغيار، ولا يليق أن تقول ذلك عن
الذي يُغيِّر ولا يتغيَّر. وإذا سألتَ عن معنى كلمة " استواء " فهو
" استتب له الأمر ". وهل كان الأمر غير مستتب له سبحانه؟
ونقول: نحن نعلم أن لله سبحانه وتعالى صفات متعددة، وهذه الصفات كانت موجودة قبل
أن يخلق الله الخَلْق والكون؛ فسبحانه موصوفٌ أنه خالق قبل أنْ يخلق الخَلْق،
ومُعِزٌّ قبل أن يخلق مَنْ يُعزّه، ومُذِلّ قبل أنْ يخلق مَنْ يُذِلّه، وله سبحانه
صفاتُ الكمال المُطْلق.
وبهذه الصفات خلق الخلق، يقول الحق:{ ...رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىا كُلَّ شَيءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىا }[طه: 50]
وكذا نؤمن بأن صفة الخَلْق كانت في ذاته قبل أن يخلق خَلْقه، وحين خلق سبحانه
السماوات والأرض أبرز الصفة التي كانت موجودة فيه وليس لها مُتعلِّق؛ فأوجد هو
سبحانه المُتعلِّق، وهكذا استتبَّ له الأمر سبحانه.
إذن: إذا ذُكِر استواءُ الله، فهذا يعني تمامَ المُرَاد له، فصار للصفات التي كانت
فيه، وليس لها مُتعلِّق أو مَقْدُور؛ مُتعلِّق ومَقْدور.
وإذا وُجِدَتْ هذه الصفة في البشر مثل بلقيس التي وصفها سبحانه:{ ...وَلَهَا
عَرْشٌ عَظِيمٌ }[النمل: 23]
فهي تختلف عن صِفَة الله؛ لأنها لم تجلس على العرش إلا بعد أن خلقها الله، ولا
يستتب الأمر لملك أو ملكة إلا بمتاعب ومعارك، وقد ينشغل هذا الشخص في معارك وحروب،
ثم يستتبّ له الأمر.
وهكذا يختلف استواءُ الله عن استواءِ خَلْق الله، وإذا ذُكر استواء الله على
العرش؛ فنحن نُنزِّه الله عن كل استواء يناسب البشر، ونقول:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ... }[الشورى: 11]
واستواؤه هو تمام الأمر له، لأن أمره صادر، وعند تحقيق أمره في توقيته المراد له
يكون تمام الأمر، وتمام الأمر استواؤه، أما كلمة " العرش " فنحن نجدها
في القرآن بالنسبة لله.
إما مُضَافاً لاسم ظاهر:{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ... }[الحاقة: 17]
وإما مُضَافاً للضمير المخاطب أو الغائب:{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ...
}[هود: 7]
وإما مضافاً للتنسيب:{ ...فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ
}[الأنبياء: 7]
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.
.. { [الرعد: 2]
والتسخير هو طلب المُسخِّر أن يكون كما أراده تسخيراً، بحيث لا تكون له رغبة، ولا
رَأْي، ولا هَوَى، والتسخير ضِدُّه الاختيار.
والكائن المُسخَّر لا اختيارَ له، أما الكائن الذي له اختيار فهو إنْ شاء فعل،
وإنْ شاء لم يفعل.
وقُلْنا قديماً: إن الحق سبحانه قد خَيَّرَ الإنسان:{ إِنَّا عَرَضْنَا
الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ
ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72]
وبذلك قَبِل الإنسان أداء الأمانة وَقْتَ أدائها؛ لا وَقْتَ تحمُّلها، ووقت الأداء
غير وقت التحمُّل، وضربتُ المَثَل بمَنْ يقول لصديقه " عندي ألف جنيه؛ وأخاف
أنْ يضيعوا مِنِّي؛ فاحفظهم لي معك؛ وحين أحتاجهم اعْطِهمْ لي ".
ويقول الصديق: " هَاتِ النقود وسأُعطِيها لك وقت أنْ تطلبها ".
والصديق صادقٌ وقت تحمُّل الأمانة؛ لكن ظروفاً تمرُّ عليه، فيتصرَّف في هذه
الأمانة؛ وحين يطلبها صاحبها؛ قد يعجز حامل الأمانة عن رَدِّها، وهو بذلك ضَمِنَ
نفسه وقت التحمُّل؛ لكنه لم يضمن نفسه وقت الأداء.
وكان من الواجب عليه أن يقول لصديقه لحظةَ أنْ طلب منه ذلك: " أرجوك، ابتعد
عنِّي لأنِّي لا أضمن نفسي وَقْت الأداء ".
وقد أَبَتِ السماء والأرض والجبال تحمُّل الأمانة وَقْت عَرْضِها؛ وقَبِلتْ كل
منهم التسخير؛ فلا الجبال ولا السماوات ولا الأرض لها قدرة الاختيار، ولا هَوى
لأيٍّ منها في هذه القدرة؛ مثلها في ذلك مثل كل أجناس الكون ما عدا الإنسان؛ ولم
نجد فساداً في الأرض قد نشأ من ناحية المُسخَّرات.
أما الإنسان فقد قَبِل تحمُّل الأمانة؛ لأن له عقلاً يُفكِّر ويختار؛ ومن الاختيار
ونتيجة للهوى جاء الفساد في الكون، ولو أقبل الإنسان على العمل وكأنه مُسخَّر خاضع
لمنهج الله؛ لاستقام عمل الإنسان مِثْلما يستقيم عَمَلُ كل الكائنات المُسخَّرة
بأمر الله.
فإن أردتم أن تستقيمَ أموركم فيما لكم فيه اختيار، فطبِّقوا قول الحق سبحانه:{
أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ *وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ
تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 8-9]
وانظروا ماذا يطلب الحق منكم في منهجه، فإنْ نفَّذتم المنهج تَسْتقِمْ أموركم، كما
استقامتْ الكائنات المُسخَّرة.
ولا يأتي الخَلَل إلا من أننا نحن البشر نقوم ببعض الأعمال باختيارنا، وتكون
مخالفة لمنهج المُشرِّع، أما إذا كنا نؤدي أعمالنا ونضع نُصْب أعيننا قول الحق
سبحانه:{ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ }[الرحمن: 8]
فلسوف تكون أعمالنا مُطابِقة لمنهج الله، وسنجد في أعمالنا ما يَسرُّنا مثل سرورنا
حين نجد الأفلاك منتظمة بدقة وحساب.
إذن: فالفساد لا يأتي إلا من الاختيار غير المُرْتجي لمنهج مَنْ خلق فينا
الاختيار، وإن كنت تريد أن تكون مختاراً؛ فعليك أن تلتزم بمنهج مَنْ خيَّرك.
ولذلك نجد الصالحين من خَلْق الله قد ساروا على منهج ربهم؛ والتزموا باختيار مراد
ربهم فيما لهم فيه اختيار؛ فصاروا وكأنهم مُسخَّرون لمُرَادات الله.
وهؤلاء يسمُّونهم " العباد " لا " العبيد "؛ فكل مملوك لله من
العبيد؛ آمن به أو كفر؛ أطاع أو عصى؛ أما العباد فَهُمْ مَنْ جعلوا مرادات الله هي
اختيارهم، يقول تعالى:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىا
الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً }[الفرقان:
63]
هؤلاء هم مَنِ اتجهوا بالاختيار إلى ما يختاره لهم الله.
ونجد الحق سبحانه يقول في الملائكة:{ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }[الأنبياء: 26-27]
وإذا ما التزم العبد بمنهج ربه في حال الاختيار؛ فهو لا يتساوى مع الملائكة فقط،
بل قد يسمو عنهم؛ لأنهم مَقْهورون بالتسخير؛ بينما تتمتع أنت بالاختيار؛ وآثرْتَ
منهج ربك.
ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:{ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى... }[لقمان: 29]
ولحظةََ تجد التنوين مثل " كلٌّ " فهذه يعني كُلاّ من السابق. أي: الشمس
والقمر. أما الجَرْي إلى أَجَلٍ مُسمّى؛ فيقتضي مِنَّا أن نفهم معنى الجَرْي؛ وهو
تقليل الزمن عن المسافة.
فحين تريد الوصول إلى مكان مُعيَّن فقد تمشي الهُوَيْنا؛ لِتَصِلَ في ساعة زمن،
وقد تجري لتقطع نفس المسافة في نصف ساعة؛ والجَرْي بطبيعة الحال ملحوظ مِمَّن
يراك.
لكن: هل يرى أحدنا الشمس وهي تجري؟
لا، لأنها تجري في ذاتها؛ ويُسمَّى هذا النوع من الجري " جري انسيابي ".
أي: لا تدركه بالعين المجردة، وهناك ما يُسمّى " انتقال قفزي " ، وهناك
ما يُسمّى " انتقال انسيابي ".
وانظر إلى عقارب الساعة؛ ستجد عقربَ الثَّواني أسرعَ من عقرب الدقائق الذي يبدو
ساكناً رغم أنه يتحرك؛ وأنت ترى حركة عقرب الثواني؛ لأنها تتم قَفْزاً؛ بينما لا
ترى حركة عقرب الدقائق؛ لأنه يتحرك تِبَعاً لدورة هادئة من التروس داخل الساعة؛
وكل جزئية في حركة التُّرْس الخاص بعقرب الدقائق تتأثر بحركة تُرْس عقرب
الثَّواني؛ والحركة القفزية لعقرب الثواني تتحول إلى حركة انسيابية في عقرب الدقائق.
وحركة كل من العقربين تتحول إلى حركة أكثر انسيابية في عقرب الساعات، وهذا يعني أن
كل جزئية من الزمن فيها جزئية من الحركة.
وحتى في النمو بالنسبة للإنسان أو الحيوان أو النبات، تجد عملية النمو غير ظاهرة
لك؛ لأن الكائن الذي ينمو إنما ينمو بقدر بسيط غير ملحوظ، وهذا القدر البسيط شائع
في اليوم كله.
وإن أردتَ أن تعرف هذه المسألة أكثر، انظر إلى الظل، وأنت ترى الظل واضحاً ساعةََ
سطوع الشمس، ثم ينحسر الظل بانحسار الشمس.
واقرأ قول الحق سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ إِلَىا رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ
شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً }[الفرقان: 45]
أي: أن الظل متحرك وغير ثابت، وكل جزئية من الزمن تؤثر في حركة الشمس، فيتأثر بها
الظل.
وهكذا يجب أن نُفرِّق بين الحركة القفزية والحركة الانسيابية، وحين تقدمنا في
العلم نجدهم يقولون: سنزيد من الحركة الانسيابية عن الحركات القفزية ".
وهنا يقول الحق سبحانه: } وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ
مُّسَمًّـى... { [الرعد: 2] والأجل هو المدة المحدودة للشيء؛ وهي محدودة زمناً إنْ
أردنا ظرف الزمان؛ أو محدودة بالمسافة إن أردنا المكان.
والمقصود هنا بالأجل؛ إما الأجل النهائي لوجود الشمس والقمر؛ ثم إذا انشقتْ السماء
كُوِّرتْ الشمس، وانكدرت النجوم.
أو: أن المقصود هنا بالأجل هو للتعبير عن عملها اليومي.
وقد عرفنا أن هناك مطالع متعددة للشمس، وعلى الرغم من أن المشرق له جهة عامة
واحدة؛ لكن المطالع مختلفة، بدليل أن قدماء المصريين أقاموا في بعض المعابد طاقاتٍ
وفتحاتٍ في البناء.
فتطلع الشمس كُلَّ يوم من أحد هذه الطاقات؛ فكل يوم توجد لها منزلة مختلفة عن
اليوم السابق، وتظل تقطعها، ثم تعود مرة أخرى، وتفعل ذلك إلى أجل مُسمّى أي
يومياً.
ونُسمِّي نحن تلك المنازل " البروج " كبرج الحَمَل؛ والجَدي؛ والثور؛
والأسد؛ والسنبلة؛ والقوس؛ والحوت؛ ونحن نرصد هذه الأبراج كوسيلة لمعرفة أحوال
الطقس من حرارة، وبرودة، ومطر، وغير ذلك، ذلك أن كُلَّ برج له زمن، ويمكن تعريف
أحوال الجو خلال هذا الزمن بدقة.
ولكن بعضاً من تصرفات الإنسان تفسد عملية التحديد الدقيق في الكون، مثلما يشعل
البعض الحرائق في الغابات؛ فتحرق النار الأكسوجين الذي يحتاجه البشر والحيوانات
للتنفس، ويحاول الغلاف الجوي أن يتوازن، فيشُدّ كميات من الهواء من منطقة أخرى،
فيختلّ ميزان الطقس لأيام.
وكذلك يفسد الجو من التجارب الذرية التي تُجريها الدول أعضاء النادي الذري؛ تلك
التجارب التي تقوم بتفريغ الهواء، فتجعل الطقس غَيْرَ مُسْتقر وغير منضبط؛ وهذا ما
يفسد استخدامنا للأبراج كوسيلة لمعرفة تقلُّبات الطقس.
وقد أوجز الشاعر تلك الأبراج في قوله:حَملَ الثورُ جَوْزةَ السَّرطَانِ ورعى الليث
سنبل الميزانعَقْرب القَوْس جَدْي دَلْو وحُوت مَا عَرفْنَا مِنْ أُمةِ
السُّرْيَانِويتابع الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
}...يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ
تُوقِنُونَ { [الرعد: 2]
وسبحانه قد أوضح من أول الآية مسألة رَفْع السماوات بغير عَمَدٍ، واستوائه على
العرش، وتسخير الشمس والقمر، وكيف يجري كُلُّ شيء لأجل مُسمّى.
وكُلُّ ذلك يتطلب تدبيراً للأمر بعد أن أبرز القدرة؛ ثم يصون ذلك كله، فكما قَدَّر
فخلق، فهو يُدبِّر بقيوميته، فهو القائم على كل شيء، وسبحانه كل يوم هو في شَأْن.
وأقول هذا المثل لأوضح ـ لا لأُشبِّه فسبحانه مُنَزَّه عن التشبيه ـ ونحن نقول:
فلان فكَّر أولاً ثم دبَّر، والتفكير هو العملية التي تبحث فيها عن الشيء لإخراج
المطلوب منه؛ كأن تأتي بقليل من حبوب القمح لتفركه بيدك لتخرج القمحة من قشرته.
هذا هو التفكير الذي يطلب منك أن تبحث وتُنقِّب إلى أن تصل إلى لُبِّ الأشياء.
والتدبُّر يقتضي ألاَّ تقتنع بما هداك إليه فكرك في نفس اللحظة، ولكن أن تُمحِّص
الأمر لترى ماذا سينتج عن تنفيذ ما وصل إليه فكرك؟
فربما ما فكرتَ فيه يُسعِفك ويُعينك في لحظتِكَ الحالية؛ لكنه سيأتي لك بعَطَبٍ
بعد قليل.
والمَثَلُ الذي أضربه على مثل هذه الحالة دائماً هو اختراع المُبيدات الحشرية؛ ولم
يَفْطِنوا إلى أن هذه المبيدات لا تقتل الحشرات الضارة وحدها، بل تُسمِّم الطيور
التي كانت تفيد الفلاح.
ووصل الأمر إلى حَدِّ تحريم استخدام هذه المبيدات؛ وجاء هذا التحريم ممن تفاخروا
من قَبْل على كل شعوب الأرض باختراعهم لتلك المبيدات، فقد فَطِنوا إلى أنَّ ما
جاءهم من خَير عن طريق تلك المبيدات هو أقلُّ بكثير من الضُّرِّ الذي وقع بسببها.
وهذا يعني أنهم لم يتدبروا اختراعهم لتلك المبيدات؛ فقاموا بتصنيعها لفائدة عاجلة،
دون أن يتلفتوا إلى الخطورة الآجلة، وكان لابُدَّ لهم أن يتدبروا الأمر، لأن
التدبُّر معناه النظر في دُبُر الأشياء.
والحق سبحانه هو القائل:{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىا قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَآ }[محمد: 24]
أي: لا تنظر إلى واجهة الآية فقط، بل انظر في أعماقها، ولذلك يقول لنا سيدنا عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه: " ثَوِّروا القرآن ".
أي: استخرجوا منه الكنوز بالتدبُّر؛ لأن التدبر يحمي من حماقة التفكير، والمثل
البسيط المتكرر في بيوتنا هو أننا نغسل أفواهنا بعد تناول الطعام ونتمضمض مِمَّا
بَقِي في الفم من بقايا.
ونجد من بين هذه البقايا بعضاً من " الفتافيت الصلبة بعض الشيء " ، ثم
نغسل حوض المياه بتيار متدفق من ماء الصنبور، ونُفَاجأ بعد فترة من الزمن بانسداد
ماسورة الصرف الخاصة بالحوض؛ وحين يفتح السباك ماسورة الصرف هذه يجدها مليئة
برواسب من بقايا الأطعمة.
وأنت حين تمضمضتَ لم تلتفت إلا لنظافة الفَمِ من البقايا، ولم تتدبر أمر تلك
البقايا، ولو أنك تدبرتَ ذلك لَقُمْتَ بتركيب ماسورة صرف للحوض أكبر من الماسورة
التقليدية الضيقة؛ ولَجعلْتَ صندوق الطرد الخاص بالحوض أكبر من الحجم المعتاد
والمُجهَّز لصرف المياه فقط.
وهكذا نرى أن الفكر يحثُّك على أن تبحث عن مطلوب لك؛ ولكن عليك أن تنظر وتُدقِّق:
هل يحقق لك ما يقترحه عليك فكرك؛ ما يفيدك أم ما يضرك؟
هذا هو التدبُّر، وهو ما نُسمِّيه صيانة الأشياء.
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية: }...يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ { [الرعد: 2]
وتفصيل الآيات يعني أنه جعل لكل أمر حُكْماً مناسباً له. ودائماً أقول لمن يسألني
عن فتوى؛ ويُلِحّ أن تتوافق الفتوى مع مراده: " نحن لا نُفصِّل الفتوى من أجل
هواك؛ لأن ما عندي هي فتاوى جاهزة؛ وعليك أن تضبط مقاسك أنت على الفتوى، لا أن
نُفصِّل لك الفتوى على هواك ".
أقول ذلك؛ لأن المسألة ليست حياة تنتهي إلى العَدَم، ولكن هناك حياة أخرى تُحاسب
فيها على كل تصرُّف، فالحق سبحانه هو القائل:{ وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ
مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }[الفرقان: 23]
وهو القائل سبحانه أيضاً جَلَّ وعلا:{ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي
يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىا شَيْءٍ... }[إبراهيم:
18]
ولذلك فعليك أن تُقبِل على كل عمل وأنت مُوقِن بأن هذا العمل لا ينتهي بتركك
للحياة الدنيا، ولكن لكل عمل آثاره في حياة باقية، وإذا كانت الدنيا تحمل لك راحة
موقوتة أو تعباً موقوتاً، فالراحة في الآخرة باقية أبداً؛ والتعب فيها غير
مَوْقوت.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ... {
(/1696)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
ويتابع الحق سبحانه سَرْد آياته الكونية في هذه الآية: { مَدَّ الأَرْضَ... }
[الرعد: 3]
يعني أنها موجودة أمامك ومُمْتدة، وبعض الناس يفهمون المَدَّ بمعنى البسط، ونقول:
إن البَسْطَ تابع للمَدِّ.
ولذلك وقف بعض العلماء وقالوا: ومن قال إن الأرض كُرَويّة؟
إن الحق سبحانه قال: إنها مبسوطة، وهو سبحانه الذي قال: إنه قد مَدَّ الأرض.
وقلتُ لهؤلاء العلماء: فَلْنفهم كلمة المَدِّ أولاً، وَلنْفهَمْ أيضاً كلمة "
الأرض " وهي التي تقف عليها أنت وغيرك، وتعيش عليها الكائنات، وتمتد شمالاً
إلى القُطْب الشمالي، وجنوباً إلى القُطْب الجنوبي، أيّاً ما كُنْت في أيِّ موقع
فهي مَمْدودة شرقاً وغرباً.
ومعنى: { مَدَّ الأَرْضَ... } [الرعد: 3]
تعني أنك إنْ وقفتَ في مكان وتقدمتَ منه؛ تجد الأرض ممدودة أمامك؛ ولا توجد حَافّة
تنتهي لها، ولو أنها كانت مبسوطة لَكانَ لها نهاية، ولكانت على شكل مُثلّث أو
مُربع أو مستطيل؛ ولكانَ لها حافة؛ ولوجدنا مَنْ يسير إلى تلك الحافة، هو يقول:
" لقد وصلتُ لحافة الأرض؛ وأمامي الفراغ " ولم يحدث أنْ قال ذلك واحد من
البشر.
وإذا ما سار إنسان على خط الاستواء مثلاً؛ فسيظل ماشياً على اليابسة أو راكباً
لمركب تقطع به البحر أو المحيط ليصل إلى نفس النقطة التي بدأ منها سَيْره.
وهكذا نجد الأرض ممدودة غير محدودة، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة،
بحيث إذا مشيت مُتتبِّعاً أيَّ خط من خطوط العرض أو خطوط الطول لانتهتْ إلى النقطة
التي بدأت منها سَيْركَ.
وكان هذا هو الدليل الذي يقدمه العلماء على كروية الأرض؛ قبل أن يخترعوا فكرة
التصوير من خارج الغلاف الجوي.
ونأخذ من قول الحق سبحانه: { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ... } [الرعد: 3]
معنى آخر هو ضرورة أن ينظر الإنسانُ في هذا الامتداد؛ ومَنْ تضيق به الحياة في
مكان يُمكنه أن يرحلَ إلى مكان آخر، فأرضُ الله واسعة، والحق سبحانه هو القائل:{
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... }[النساء: 97]
ونعلم أن فساد العالم في زمننا إنما نشأ من فساد السياسات وزيادة الاضطرابات، وذلك
واحد من نتائج تعوق مَدِّ الأرض فساعة يحاول إنسان أن يترك حدود موطنه؛ يجد
الحراسات والعوائق عند حدود البلاد المجاورة، وتناسَى الجميع قَوْل الحق سبحانه:{
وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10]
فسبحانه قد سَخَّر الأرض وأخضعها للأنام كل الأنام، وإذا لم يتحقق هذا المبدأ
القرآني؛ سيظل العالم في صراع؛ وستظلُّ بعض من البلاد في حاجة للبشر وبعض من
البلاد في ضِيق من الرزق؛ لزيادة السكان عن إمكانات الأرض التي يعيشون عليها.
وستظل هناك أرض بلا رجال؛ ورجال بلا أرض، نتيجة للحواجز المصطنعة بين البلاد.
وحتى تُحل هذه القضية ـ كما قلنا في الأمم المتحدة ـ لابد من تطبيق المبدأ
القرآني:
{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10]
ومَنْ تضيق به الأرض التي نشأ فيها فليسمح له بالهجرة.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: } وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً... {
[الرعد: 3]
والرواسي هي جمع " رَاسٍ " وهو الشيء الثابت.
وسبحانه يقول:{ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا }[النازعات: 32]
وهكذا جاء الحق بالحكم الذي شاء أن تكون عليه الجبال، وفي آية أخرى يأتينا الله
بعلة كونها رواسي؛ فيقول:{ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ
بِهِمْ... }[الأنبياء: 31]
أي: لا تضطرب بكم الأرض، ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الثبات؛ لما احتجْنَا إلى
الجبال الرواسي كي تُثبِّتها، ولكن الأرض مخلوقة متحركة، وهي عُرْضة للاضطراب،
ولولا الجبال الرواسي لَمَادتْ الأرض.
ولسائل أن يقول: ولكننا نقطع الآن الجبال، ونأخذ الجرانيت من جبل لِنُزيِّن به
أرضية بعض المناطق؛ ونقطع الرخام من جبل آخر لنصنع منه حماماتٍ وأحواضاً ودرجات
السلالم، ونقتطع بعض أحجار أنواع معينة من الجبال؛ لنستخلص اليورانيوم منها؟
ونقول: انظر إلى حكمة الحق تبارك وتعالى حين خلق؛ وحكمته حين دَبَّر، فهذه الأرض
لها محيط؛ ولها مركز؛ ولها أقطار، وكلما اقتربتْ من مركز الأرض فالقطر يَقِلّ.
ومثال هذا هو البطيخة؛ فأنت إن استخلصتَ القشرة الخارجية لها يكون لديْكَ كرة من
القشرة الخضراء؛ وكرة أخرى من مُكوِّنات البطيخة التي نأكلها، ولو استخلصتَ كرة
أخرى من مكونات الألياف الحمراء التي تتكون منها البطيخة، لصار عندك كرة أخرى،
ولصار قُطْر الكرة الجديدة أصغر بطبيعة الحال من الكرة الخضراء.
وكلما استخلصتَ كُريّات أخرى من مُكوِّنات البطيخة؛ صَغُرَتْ الأقطار؛ لأنك تقترب
من مركز الدائرة، والمحيط الأخضر الذي يحيط بالبطيخة وهو القشرة؛ يشبه المحيط الذي
يوجد على الكرة الأرضية؛ وهذه القشرة التي توجد حول الكرة الأرضية صُلْبة؛ أما ما
بداخل الأرض وجَوْفها؛ فهو مُكوَّن من أشياء ومواد متعددة، منها ما هو سائل ومنها
ما هو صَلْب.
وكلما اقتربنا من مركز الأرض؛ وجدنا ارتفاعاً في درجة الحرارة؛ وتدلُّنا على ذلك
كُتَل الحُمَم التي تخرج فوَّارة من فُوَّهات البراكين؛ وهي حُمَم ذات حرارة
مرتفعة للغاية؛ وهي حُمَم مُحْرِقة.
وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل بطن الأرض سائلاً، رحمةً بنا؛ ذلك أننا حين نبني
بيوتاً؛ أو نقتطع أحجاراً من الجبال؛ أو نستخدم مُكوِّنات الجبال في أي غرض؛ إنما
ننقل بعضاً من مُكوِّنات الأرض من موقع إلى آخر.
وحين ينتقل ثقل من مكان على سطح الأرض إلى مكان آخر؛ فالسائل الذي في باطن الأرض
ينتقل من المنطقة التي زاد عليها الثقل إلى المنطقة التي خَفَّ من فوقها الثقل
ليتحقق التوازن، ولو لم يحدث ذلك لَتسَاقطتْ العمارات الشاهقة التي نراها أثناء
دوران الأرض.
والمَثَلُ الذي يُوضِّح ذلك أنك لو وضعتَ قطعة من العجين على سطح بطيخة أو كرة،
وجعلت البطيخة أو الكرة في حالة دوران لَطردتْ الكرة أو البطيخة قطعة العجين من
على سطحها.
وقد شرح العلماء في " علم الحركة " ذلك فقالوا: إن كل شيء مستدير يتحرك؛
إنما تنشأ عن حركته عملية اسمها الطرد الذاتي؛ لأن قطعة العجين أو أيَّ شيء نضعه
على شيء مستدير يتحرك تكون له كثافة وثقل على المنطقة التي يوجد فيها، ويصل هذا
الثقل إلى المركز، ولكي تستمر الحركة الدائرية متوازنة لابد أن يطرد الشيء
المستدير ما فوقه من ثُقْل زائد.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل نِصْفي الكرة الأرضية من أي موقع تتخيله، متساوياً
في الوزن مع النصف الآخر، ومهما أخذتَ من مواد ونقلتَها من موقع إلى آخر، فالوزن
يتعادل نتيجة لحركة السوائل التي في بطن الأرض.
وهذا يدلُّ على عظمة الخالق الذي خلق بتدبير دقيق، ويكفي أن ننظر إلى عظمة الحق
الذي لم يجعل الجبال رواسيَ ليمنع الأرض من أنْ تميدَ بنا، بل جعل في الجبال
والصحاري ما استنجدنا به حين ضاقت الأرض بنا؛ فذهبنا إلى الجبال؛ لنستخرج منها
المواد الخام؛ ونُصدِّرها؛ ثم نشتري بثمنها القمح.
ونرى من حولنا الصحاري حيث كان المقيمون فيها يلهثون قديماً من العطش، ولا يجدون
شجرة يستظلون بها؛ فيُفجِّر فيها الحق آبار البترول.
وهكذا نرى أن كل قطاع من الأرض فيه خير مُسَاوٍ لأي قطاع آخر من الأرض، وجعل الله
لكل أمر زمناً يمكن للبشر أن يستفيدوا من هذا الأمر في ذلك الزمن.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الجبال:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ
}[فصلت: 9-10]
أي: أنه سبحانه بارك في الجبال، ، وهي جزء من الأرض، وشاء أن يُقدِّر الأقواتَ في
الجبال والأرض؛ ويكفي أن نعلم أن المطر حين يتساقط من السماء على الجبال؛ فيحمل
المطر بعضاً من الطَّمْي من على أسطُح تلك الجبال، فتتجدد خُصوبة الأرض.
ولو كانت الجبال هشة لذابت الجبال من عدد قليل من مرات سقوط المطر، ولذابت القشرة
الخصبة التي تغذي النبات حين نزرعه في الأرض.
ولكنه سبحانه شاء أنْ تمُرَّ الظروف الجوية باختلافها وتنوُّعها في تتابع يُوفِّر
من الحرارة والرطوبة ما يجعل الأرض تتشقق؛ فيصير سطح الجبال الصّلْبة هَشَّاً
لينزل مع المطر؛ ولِيُغذِّي الأرض بالخُصوبة من أجل أن يستمر استبقاء الحياة بإنتاج
ما نحتاجه من نباتات مزروعة.
ونلحظ قوله سبحانه في نفس الآية: } وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً... {
[الرعد: 3]
وهنا يجمع الحق بين الرواسي وهي الثوابت، وبين الأنهار وهي التي تحمل الماء
السائل، وهذا جَمْعٌ بين الأضداد.
والنهر يُطلق على ما يحمل المياه العَذْبة؛ أما البحر فهو المُكوَّن من الماء
المالح، وأنت إذا استعرضت أنهار الدنيا كلها؛ ستجد أن مجاريها تصبُّ في البحار،
وهذا دليل على أن منسوب النهر أعلى دائماً من منسوب البحر، ولو كان الأمر بالعكس؛
لَطَغى ماء البحر على مياه النهر، ولَمَا استطعنا أن نشرب أو نزرع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الماء العذب هو الأعلى؛ لأن له مهمة يُؤدِّيها قبل
أن يصُبَّ في البحر. أقول ذلك حتى نعلم الحكمة في قول الحق سبحانه:{ بَيْنَهُمَا
بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ }[الرحمن: 20]
ومن العجيب أن البرزخ الذي يفصل بين النهر والبحر يكون انسيابياً، يتدرج نزول مياه
النهر في مياه البحر بما يُحقِّق سهولة في هذا الانتقال، ومن العجيب أيضاً أنك إنْ
حفرتَ عند شاطئ البحر قد تعثر على الماء العذب.
ولذلك حين نزور العريش نجد شاطئاً باسم شاطئ النخيل؛ ونحن نعلم أن النخيل يحتاج
إلى الماء العَذْب، وكأن الحق سبحانه قد جعل في هذا النخيل خاصية استخلاص الماء
العَذْب من هذا المكان الذي يوجد على البحر؛ وقد تكون له جداول عذبة.
فسبحانه القائل:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً
فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ... }[الزمر: 21]
ونحن في الريف نجد من يحفر بئراً ويكون ماؤه عَذْباً؛ وآخر يحفر بئراً ويكون ماؤه
مالحاً. وهذا دليل على أن الماء في بطن الأرض غير مختلط، بل لكل ماء مسارب تختلف
باختلاف نوعية المياه.
ويُرتِّب الحق سبحانه في نفس الآية مجيء الثمرات كنتيجة على وجود الثابت ـ الجبال
ـ كمصدر للغِرْيَن وخصوبة الأرض، وعلى وجود الأنهار التي تحمل الماء اللازم للري،
وهكذا يكون مجيء الثمرات أمراً طبيعياً.
والثمرة كما نعلم هي الغاية من أي زرع.
وفي نفس الآية يواصل الحق ذكر عطائه، فيقول سبحانه: } وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ
جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ... { [الرعد: 3]
ويستعمل البعض كلمة " زوج " ويراد به شيئان كقولنا " زوج أحذية
" مع أن التعبير الدقيق يقتضي أن نقول " زوجان من الأحذية " كتوصيف
لفردة حذاء يُمْنى وفردة حذاء يسرى؛ لأن كلمة " زوج " مرد، وتستخدم في
الشيء الذي له مثْل؛ ولذلك نجد العدد الفردي والعدد الزوجي؛ والعدد الزوجي مُفْرد
له مثيل؛ وفي الإنسان هو الذكر والأنثى.
وسبحانه القائل:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }[الذاريات: 49]
ويخطئ الناس أيضاً في فهم كلمة التوأم، ويظنون أنها تعني الاثنين اللذين يولدان
معاً، ولكن المعنى الدقيق للتوأم وهو الفرد الذي يُولَد مع آخر، ويقال لاثنين معاً
" التوأمان ".
وهنا يقول الحق سبحانه: } وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا
رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ... { [الرعد: 3]
ولم يخلق الحق سبحانه أيَّ شيء إلا وشاء له أن يتكاثر، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ
أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36]
وكُلُّ تكاثر إنما يحتاج إلى زوجين، وكنا نعتقد قديماً أن التكاثر يحدث فقط في
النبات؛ مثلما نُلقِّح النخلة بالذَّكَر، وفي الحيوان يخصب الفَحْل الأنثى، ثم كشف
لنا العلم بعد ذلك أن الكهرباء ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تتكون من سالب وموجب
وغير ذلك كثير، وكل ما قدمه العلم من كشوف يؤيد صِدْقه سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي
خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا... }[يس: 36]
ويتابع سبحانه في نفس الآية: } يُغْشِي الَّيلَ النَّهَارَ... { [الرعد: 3]
أي: أن تأتي الظُّلْمة على النهار فتُغطيه؛ وهو القائل في موقع آخر من القرآن:{
فَمَحَوْنَآ آيَةَ الَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً... }[الإسراء:
12]
وذلك تحقيقاً لمشيئته التي قالها:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ
خِلْفَةً... }[الفرقان: 62]
وإن سأل سائل: هل الليل هو الذي خُلِقَ أولاً أم النهار؟
أقول: نحن نرى الآن الليل والنهار، كُلٌّ منهما يُؤدِّي مُهِمَّته في نصفٍ ما في
الكرة الأرضية، وكل منهما يخلف الآخر، ولابد أن الأمر كذلك من أول الخلق.
فإنْ كان سبحانه قد أوجد الأرض مبسوطة وفي مواجهتها الشمس، لَكان النهار هو الأسبق
في الخَلْق، وإنْ كان قد خلق الشمس غير مواجهة للأرض؛ يكون الليل هو الذي سبق
النهار في الخَلْق.
ويوضح الحق سبحانه هذا الأمر قليلاً في سورة يس حين يقول:{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي
لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ }[يس: 40]
وكان العرب قديماً يظنُّون أن الليل هو الذي سبق النهار في الخَلْق؛ لأنهم كانوا
يُؤرِّخون الشهور بالقمر؛ فيدخل الشهر بليله لا بنهاره، ونحن نعلم أن رمضان يأتينا
بأول ليلة فيه.
وقد أوضح الحق سبحانه لهم على قَدْر معارفهم، ثم ثبت لنا أن الليل والنهار قد
وُجِدا في وقت واحد بعد أن وضحتْ لنا أن صورة الأرض كروية، وأنه سبحانه قد خلقها
كذلك، فما واجه الشمس كان نهاراً؛ وما غابتْ عنه الشمس كان ليلاً، ويخلف كل منهما
الآخر.
وهكذا وضَّح لنا أنهما موجودان في آنٍ واحد.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: }...إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { [الرعد: 3]
أي: أن على الإنسان مسئولية التفكُّر فيما يراه من حوله ليصل إلى لُبِّ الحقائق.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
} وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ... {
(/1697)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
هذه الآية جاءت بشيء من التفصيل لقول الحق سبحانه في أواخر سورة يوسف:{ وَكَأَيِّن
مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا
مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105]
وتلك آية تنضم إلى قوله تعالى:{ رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا... }[الرعد: 2]
وتنضم إلى:{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ... }[الرعد: 2]
وتنضم إلى قوله سبحانه:{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ
وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
يُغْشِي الَّيلَ النَّهَارَ... }[الرعد: 3]
وحين نتأمل قول الحق سبحانه: { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ... }
[الرعد: 4]
نجد أننا لا نستطيع أن نعرفها بأنها التي يعيش عليها أمثالنا؛ تلك هي الأرض، ولو
أردنا تعريفها لأبهمناها، فهي أوضح من أن تُعَرّف.
وكلمة " قِطَع " تدلُّ أول ما تدلُّ على " كل " ينقسم إلى
أجزاء، وهذا الكُلُّ هو جنس جامع للكلية؛ وفيه خصوصية تمييز قطع عن قطع.
وأنت تسمع كلام العلماء عن وجود مناطق من الأرض تُسمّى حزام القمح، ومناطق أخرى
تُسمَّى حزام الموز؛ ومناطق حارة؛ وأخرى باردة.
وقول الحق سبحانه: { قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ... } [الرعد: 4]
هو قول يدل على الإعجاز؛ فعلى الرغم من أنها متجاورات إلا أن كلاً منها تناسب
الطقس الذي توجد فيه؛ فزراعة الذرة تحتاج مناخاً مُعيناً؛ وكذلك زراعة الموز.
وهكذا تجد كل منطقة مناسبة لما تنتجه، فالأرض ليست عجينة واحدة استطراقية، لا بل
هي تربة مناسبة للجو الذي توجد به.
ومن العجيب أن فيها الأسرار التي يحتاجها الإنسان؛ هذا السيد الذي تخدمه كل
الكائنات، فليست الأرض سائلة في التماثل؛ بل تختلف بما يناسب الظروف، فهناك قطعة
سبخة لا تنبت؛ وأخرى خصبة تنبت.
بل وتختلف الخصوبة من موقع إلى آخر؛ ومن قطعة إلى أخرى؛ فثمرة الجوافة من شجرة
معينة في منطقة معينة تختلف عن ثمرة الجوافة من شجرة في منطقة أخرى؛ والقمح في
منطقة معينة يختلف عن القمح في منطقة أخرى؛ ويقال لك " إنه قمح فلان ".
ويحدث ذلك رغم أن الأرض تُسْقَى بماء واحد.
ويقول العلماء البعيدون عن منطق السماء: " إن السبب في الاختلاف هو عملية
الاختيار والانتخاب ". وكأنهم لا يعرفون أن الاختيار يتطلب مُخْتاراً، وأن
يكون له عقل يُفكِّر به ليختار، وكذلك الانتخاب فهل البُذَيْرات تملك عقلاً
تُفكِّر به وتختار؟ طبعاً لا.
ويقولون: إن النبات يتغذَّى بالخاصية الشعرية، ونعلم أن الأنابيب الشعرية التي
نراها في المعامل تكون من الزجاج الرفيع؛ وإذا وضعناها في حوض ماء، فالماء يرتفع
فيها على مستوى الإناء.
وإنْ صدَّقْنا العلماء في ذلك، فُكيف نصدِّقهم في أن شجرة ما تأخذ ماءً من الشجرة
الأخرى؛ وتنتج كل منهما نفس الثمار؛ لكن ثمار شجرة تختلف عن الأخرى في الطَّعْم؟
ونقول: إن كل شجرة تأخذ من الأرض ما ينفعها؛ ولذلك تختلف النباتات، ويحدث كل ذلك
بقدرة الذي قَدَّر فهدى.
وهكذا نرى الأرض قطعاً متجاورات؛ منها ما يصلح لزراعة تختلف عن زراعة الأرض
الأخرى.
وقد يقول بعض من الملاحدة: إن هذا الاختلاف بسبب الطبيعة والبيئة.
وهؤلاء يتجاهلون أن الطبيعة في مجموعها هي الشمس التي تعطي الضوء والحرارة
والإشعاع، والقمر أيضاً يعكس بعضاً مَنْ الضوء، والنجوم تهدي من يسير في الفَلاَة،
وتيارات الهواء تتناوب ولها مسارات ومواعيد.
ورغم كل ذلك فهناك أرض خِصْبة تنتج، وأرض سبخة لا تنتج، وأرض حمراء؛ وأخرى سوداء،
وثالثة رملية، وكلها متجاورة.
لابد إذن من وجود فاعل مختار يأمر هذه أمراً مختلفاً عن تلك.
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية: } وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ
وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ... { [الرعد: 4]
وجاء الحق سبحانه هنا بالمُرفِّهاتِ أولاً؛ فتحدث عن الفاكهة؛ ثم تحدث عن الزرع
الذي منه القُوت الأساسي، ونحن في حياتنا نفعل ذلك؛ فحين تدخل على مائدة أحد
الكبار؛ تجد الفاكهة مُعدَّة على أطباق بجانب المائدة الرئيسية التي يُقدَّم عليها
الطعام.
ويأتي الحق سبحانه بعد الأعناب والزَّرْع الذي منه القُوت الضروري بالنخيل، وهو
الذي ينتج غذاء، وقد يكون التمر الذي ينتجه تَرَفاً يتناوله الإنسان بعد تناول
الطعام الضروري.
وقول الحق سبحانه: } صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ... { [الرعد: 4]
يتطلب مِنَّا أن نعرف ما الصنوان؟ ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "
العم صنو أبيك " أي: أن الصِّنْو هو المِثْل.
وبهذا يكون معنى الصِّنْوان هو المِثْلان. ونرى ذلك واضحاً في النخيل؛ فنرى
أحياناً أصلاً واحداً تخرج منه نخلتان؛ أو ثلاث نخلات؛ وأحياناً يخرج من الأصل
الواحد أربع أو خمس نخلات.
ويُطلق لقب " الصنوان " على الأصل الواحد الذي يتفرع إلى نخلتين أو
أكثر؛ فكلمة " صنوان " تصلح للمثنى وللجمع، ولكنها في حالة المثنى تعامل
في الإعراب كالمثنى؛ فيقال " أثمرتْ صنوان " و " رأيت صنوين "
أما في حالة الجمع فيقال " رأيت صنواناً " و " مررْتُ بصنوان
". والمفرد طبعاً هو " صِنْو ".
ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَجَنَّاتٌ مِّنْ
أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىا بِمَآءٍ
وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىا بَعْضٍ فِي الأُكُلِ... { [الرعد: 4]
ومن العجيب أن كل شجرة تأخذ عَبْر جذورها كمية من الماء والغذاء اللازم لإنتاج
ثمارٍ ذات شكل وطَعْم مختلف.
وهذا ما جعلنا نقول من قَبْل: إن افتراضات العلماء المتخصصين في علوم النبات عن أن
النباتات تتغذَّى بخاصية الأنابيب الشعرية هو افتراض غير دقيق.
فلو كان الأمر كذلك لأخذت الأنابيب الشعرية الخاصية بنبات المواد التي أخذتها
الأنابيب الشعرية الخاصة بنبات آخر.
والأمر ليس كذلك، فكل نبات يأخذ من الأرض ما يخصه فقط، ويترك ما عدا ذلك.
ذلك أن الثمار لكل نبات تختلف ولا تتشابه؛ بل إن الشجرة الواحدة تختلف ثمارها من
واحدة إلى أخرى.
مثال هذا: هو شجرة المانجو أو النخلة المثمرة، ويمكنك أن تلاحظ نفسك، وسترى أنك
تنتقي من ثمار المانجو القادمة من شجرة واحدة ما يعجبك، وترفض غيرها من الثمار،
وسترى أنك تنتقي من ثمار البلح القادم من نخلة واحدة ما يروقُ لك؛ وترفض بعضاً من
ثمار نفس النخلة.
وحين تذهب لشراء الفاكهة؛ فأنت تشتري حسب موقفك في الادخار؛ فإنْ كنتَ تحب الادخار
فسوف تشتري الفاكهة التي من الدرجة الثانية؛ وإذا كنت تحب أن تستمتع بالطيب من تلك
الفاكهة فسوف تشتري من الفاكهة المتميزة.
وأتحدى أنْ يقف واحد أمام قفص للفاكهة، وينتقي الثمار غير الجميلة الشكل
والرَّوْنق، بل يحاول كل إنسان أن يأخذ الجميل والطيب من تلك الفاكهة، وحين يدفع
ثمن ما اشترى سنجده يدفع النقود الورقية القديمة التي تُوجد في جيبه، وسيحتفظ لنفسه
بالنقود الجديدة.
وهذا الموقف يغلب على مواقف أي إنسان، فهو مُقبِل دائماً على رَفْض أخذ السيئ؛
وخائف دائماً من التفريط في الحَسَن.
والحق سبحانه يقول:{ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي
إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ... }[الإسراء: 100]
وأنت لا تجد في الثمار تشابهاً، بل اختلافاً في الطَّعْم من نوع إلى نوع؛ كذلك تجد
اختلافاً في طريقة تناولها؛ فلا أحد مِنَّا يأكل البلحة بكاملها، بل نأكل ثمرة
البلحة بعد أن نُخرِج منها النواة؛ ونأكل ثمرة التين بأكملها، ونخرج ما في قلب
حَبَّة المشمش من بذرة جامدة، ثم نأكل المشمشة من بعد ذلك.
فكل ثمرة لها نظام خاص؛ وليست مسألة ميكانيكية في عطاء الله لثمار متشابهة؛ بل
هناك اختلاف، ويمتد هذا الاختلاف إلى أدقِّ التفاصيل؛ لدرجة أنك حين تتناول
قِطْفاً من العنب تجد اختلافاً لبعض من حبَّات العنب عن غيرها.
ونحن لا نُفضِّل بعضاً من الفاكهة على البعض الآخر في الأُكُل فقط، بل نُفضِّل في
الصنف الواحد بعضاً من ثماره عن البعض الآخر.
وحين تقرأ: } وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىا بَعْضٍ فِي الأُكُلِ... { [الرعد: 4]
فاعلم أنه لا يوجد شيء أو أمر مُفضّل على إطلاقه، وأمر آخر مفضول على إطلاقه، فما
دُمْنَا نُفضِّل بعضه على البعض الآخر؛ فهذا يعني أن كلاً منهما مُفضَّل في ناحية،
ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمثل الواضح أمامنا جميعاً أننا حين نجلس إلى مائدة عليها ديك رومي قد تجد يدك
تتجه إلى طبق " المخلل " قبل أن تمتدّ يدك إلى الديك الرومي؛ لأن "
نفسك " قد طلبتْه أولاً، فلا تَقُلْ: إن هناك شيئا مفضولاً عليه طوال الوقت،
أو شيئاً مفضلاً كل الوقت.
وكذلك الناس؛ إياك أن تظن أن هناك إنساناً فاضلاً على إطلاقه؛ وآخر مفضولاً على
إطلاقه؛ بل هناك إنسان فاضل في ناحية ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمَثَل: هو صاحب السيارة الفارهة؛ ثم ينفجر إطار سيارته؛ فيتمنى أن يرزقه الله
بمَنْ يمرُّ عليه ليقوم بتغيير إطار السيارة؛ فيمرُّ عليه هذا الإنسان صاحب
الملابس غير النظيفة بما عليها من شحوم؛ فيكون هذا الإنسان أفضل منه في قدرته على
فَكِّ الإطار المنفجر بالإطار السليم الاحتياطي.
وهكذا نشر الله الفضل على الناس ليحتاج بعضهم لبعض؛ ولذلك أقول: حين تجد نفسك
فاضلاً في ناحية إياك أنْ تقعَ في الغرور؛ واسأل نفسك: ما الذي يَفْضُل عليك فيه
غيرك؟
وتذكر قول الحق سبحانه:{ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ
خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىا أَن يَكُنَّ خَيْراً
مِّنْهُنَّ... }[الحجرات: 11]
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يُوزِّع الفضل بين الناس، ليحتاج كل منهم الآخر،
وليتكامل المجتمع. وكذلك وَزَّع سبحانه الفضل في الأطعمة والفواكه والثمار، وانظر
إلى نفسك لحظة أنْ تُقدَّم لك أصناف متعددة من الفاكهة؛ فقد تأخذ ثمرة من الجميز
قبل أن تأخذ ثمرة من التفاح؛ فساعة طلبتْ نفسك ثمرة الجميز صارت في تقدير الموازين
والتبادل هي الأفضل، وكل إنسان يمكن أن يجد ذلك فيما يَخصُّه أو يُحبه.
والحق سبحانه هو القائل:{ ...وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ }[الرعد: 8]
ولذلك نجد الإنسان وهو يُلوِّن ويتفنَّن في صناعة الطعام، ويختلف إقبال الأفراد
على الأطعمة المُنوَّعة، وقد تجد اثنين يُقبِلان على لحم الدجاج؛ لكن أحدهما
يُفضِّل لحم الصدر؛ والآخر يُفَضِّل لحم " الوَرِك " ، وتجد ثالثاً
يُفضِّل لحم الحمام؛ وتجد رابعاً يفضل تناول السمك.
بل إنك تجد اختلافاً في طريقة تناول مَنْ يحبون السمك؛ فمنهم مَنْ يحب أكل رأس
السمكة، ومنهم مَنْ يحب لحم السمكة نفسها، ولا أحد يملك معرفة السبب في اختلاف
الأمزجة في الانجذاب إلى الألوان المختلفة من الأطعمة.
وحين تتأمل تلك المسألة قد يأتي إلى خاطرك قول الحق سبحانه:{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ... }[البقرة: 28]
والسؤال هنا من الله للتعجُّب؛ والتعجُّب عادة يكون من شيء خَفِي سببه، فهل
يَخْفَى سبب على الله ليتعجب؟
طبعاً لا، فسبحانه مُنَّزه عن ذلك، وسبحانه يعلم سبب كفر الكافرين؛ لكنه ينكر
عليهم أسباب الكفر.
والمثَلُ من حياتنا ـ ولله المَثَلُ الأعلى ـ فأنت تجد نفسك وأنت تنطق بكلمة
" كيف تسُبّ أباك؟ " لإنسان يوجه كلمات جارحة لوالده؛ فتتعجب لتنكر ما
فعله هذا الإنسان.
وكذلك القول: كيف تكفرون بالله؟ لأن الكفر شيء لا يتأتى من عاقل. وكان لنا شيخ هو
فضيلة العالم أحمد الطويل؛ وكان يحدثنا عن شيخ له حين كان يقرأ قول الحق سبحانه:{
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ... }[البقرة: 28]
كان يقول: إن الخطاب هنا عام لكل إنسان؛ لأن الحق بعدها يأتي بالقضية العامة:
{ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ... }[البقرة: 28]
وهذا القول للعموم. وكان شيخنا يحكي عن شيخه أنه حدَّثهم أن إنساناً كان مُسرِفاً
على نفسه؛ ثم انصبَّتْ عليه الهداية مرة واحدة؛ ورآه كل مَنْ حوله وهو مُقْبِل على
الله؛ فسألوه عن سبب الهداية، فقال:
كنت أجلس في بستان، ثم رَاقَ لي عنقود من العنب؛ فقطفتُ العنقود، وأخذتُ أتأمل
فيه؛ فوجدت غِشاءً رقيقاً شفافاً ـ وهو قشرة حبة العنب ـ يشِفُّ عما تحته من لحم
العنبة الممتلئ بالعصير.
وحين وضعتُ حبة العنب في فمي؛ صارت ماء رطباً، وأخذني العجب من احتفاظ حبة العنب
ببرودتها ورطوبتها رغم حرارة جَوِّ شهر بؤونة؛ ثم وجدت بذرة الحبة ولها طَعْم
المِسْك؛ فلما غمرني السرور من طَعْم وجمال العنب سمعت هاتفاً يهتف بي: " كيف
تكفر بالله وهو خالق العنب؟ " فهتفت: آن يا رب أن أُومن بك.
وكل مِنَّا له أن ينظر إلى شيء يعجبه؛ وسيجد الشيء كأنه يقول له: كيف تكفر بالله
وهو خالقي؟ وهكذا سنجد كل إنسان وهو مُخاطب بهذه العبارة، لأنه ما من كائن إلا وله
شيء يعجبه في الكون.
وهكذا نفهم معنى قول الحق سبحانه: } وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىا بَعْضٍ فِي
الأُكُلِ... { [الرعد: 4]
ونجد أي شيء هو فاضل في وقت الحاجة إليه وطلبه؛ وكل شيء مَفْضُول عليه في وقت ما؛
وإنْ كان فاضلاً عند مَنْ يحتاجه. ونجد أن التفضيل هنا عند الأَكْل.
والأُكل هو ما يُؤكَل؛ لا الآن فقط إنما ما يؤكل الآن أو بعد ذلك وسبحانه القائل:{
كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ
فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ... }[البقرة: 265]
وسبحانه يقول أيضاً:{ أُكُلُهَا دَآئِمٌ... }[الرعد: 35]
وكذلك قال:{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا... }[إبراهيم: 25]
وهكذا نجد أن الأُكل مقصود به ما يُؤكل الآن، وما بعد الأكل أيضاً.
ويُذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: }...إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ { [الرعد: 4]
وبعض الناس يظنون أن العقل يعني أنْ يمرحَ الإنسان في الأشياء، وأنه يعطي الإنسان
الحرية المطلقة، ومثل هذا الظن خاطئ؛ لأن العقل جاء لِيُبصِّر الإنسانَ بعواقب
كُلِّ فعل ونتائجه، فيقول للإنسان: " إياكَ أنْ يستهويك الأمر الفلاني لأن
عاقبته وخيمة ". ومن مادة العين والقاف واللام عقل. ويقال: عقلْتُ البعير.
ومن مهام العقل أنْ يُفرِز الأشياء، وأنْ يفكر فيها ليستخرج المطلوب، وأنْ يتدبر
كل أمر، فعمليات العقل هي الاستقبال الإدراكي والبحث فيه لاستخلاص الحقائق
والنتائج، وأن يتدبر الإنسان كل أمر كي يتجنب ما فيه من ضرر.
والمثل: هو ما توصَّل إليه بعضٌ من العلماء من اكتشاف لأدوية يستخدمونها لفترة ما،
ثم يعلنون عن الاستغناء عنها؛ لأن آثارها الجانبية ضارة جداً؛ وهذا يعني أنهم لم
يتدبروا الأمر جيداً؛ وخَطَوْا خطوات إلى ما ليس لهم به كامل العلم.
وقول الحق سبحانه: }...إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الرعد:
4]
نلحظ فيه توجيهاً بالتعاون بين العقول، لتبحث في آيات رَبِّ العقول؛ فلا يأخذ أحد
قراراً بعقله فقط؛ بل يسمع أيّ مِنّا لرأي عقل ثانٍ وعقل ثالث ورابع؛ ليستطيع
الإنسان تدبُّر ما يمكن أنْ يقع؛ ولتتكاتف العقول في استنباط الحقائق النافعة التي
لا يتأتَّى منها ضرر فيما بعد؛ لأن من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركهم في
عقولهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ... {
(/1698)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
والعجب هو أن تُبدي دهشة من شيء لا تعرف سببه، وهذا التعجب لا يتأتَّى من الله؛
لأنه سبحانه يعلم كل شيء، فإذا صدر عجب من الله مثل قوله الحق:{ كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ... }[البقرة: 28]
فمعنى هذا أنه سبحانه يُنكِر أن يكفر الإنسان مع قيام الأدلة على الإيمان؛ لكن
بعضاً من الناس ـ رغم ذلك ـ يكفر بالله.
وقول الحق سبحانه: { وَإِن تَعْجَبْ... } [الرعد: 5]
هو خطاب مُوجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يتعجّب من أنهم كانوا يُسمُّونه قبل أن يبعثه الله رسولاً بالصادق الأمين؛
وبعد ما جاءت الرسالة قالوا: إنه ساحر كذاب.
فكيف يكون صادقاً أميناً ببشريته وذاتيته؛ ثم إذا أمدّه الحق سبحانه بالمَدَد
الرِّسَالي تتهمونه بالكذب؟ ألم يَكُنْ من الأجدر أنْ تقولوا إنه صار أكثر
صِدْقاً؟ وهل من المُمْكن أن يكون صادقاً عندكم، ثم يكذب على الله؟
والتعجُّب أيضاً من أنهم أنكروا البعث من بعد الموت، رغم أنه سبحانه أوضح الأدلة
على ذلك؛ ولكن المؤمنين وحدهم هم الذين استقبلوا أمر البَحْث بالتصديق؛ بمجرد أن
أبلغهم به رسول الله مُبلِّغاً عن ربِّه.
ونجد الحقَّ سبحانه وتعالى قد احترم فُضُول العقل البشري، فأوضح سبحانه ذلك
ونَصَبَ الأدلة عليه؛ وأبلغنا أنه لم يعجز عن الخَلْق الأول؛ لذلك لن يعجز عن
البعث.
فقد جاء بنا سبحانه من عدم، وفي البعث سيأتي بنا من موجود، ومن الغباء إذنْ أن
يتشكَّك أحد في البعث، والمُسْرِف على نفسه إنما يُنكِر البعث؛ لأنه لا يقدر على
ضبْط النفس؛ ويظن أنه بإنكار البعث لن يَلْقَى المصير الأسود الذي سيلقاه في
الآخرة.
ولذلك تجد المسرفين على أنفسهم يحاولون التشكيك في البعث ويأتي الحق سبحانه
بتشكيكهم هذا في قَوْل الحق سبحانه:{ وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ... }[الجاثية:
24]
ولو أن الواحد منهم وضع مسألة البَعْث في يقينه لانصرف عن شهواته، بينما هو يريد
أن ينطلق بالشهوات؛ ولذلك نجدهم يقولون:{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ...
}[السجدة: 10]
وهم يقصدون بذلك أنهم بعد الموت سيصيرون تراباً، ويعودون إلى الأرض كعناصر وتراب
تَذْروه الرياح، فكيف سيأتي بهم الله للبعث، ويُنشئهم من جديد؟
ويقول سبحانه:{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }[يس: 78-79]
ومن الكافرين مَنْ قال: سنصير تراباً، ثم نختلط بالتربة، ويتم زراعة هذه التربة،
فتمتزج عناصرنا بما تنبته الأرض من فواكه وخُضر وأشجار؛ ثم يأكل طفل من الثمرة
التي تغذَّتْ بعناصرنا؛ فيصير بعضٌ مِنَّا في مكونات هذا الطفل؛ والقياس يُوضِّح
أننا سوف نتناثر؛ فكيف يأتي بنا الله؟
كل ذلك بطبيعة الحال من وسوسة الشيطان ووحيه:{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ
إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ... }[الأنعام: 121]
وأقول: لنفترض أن إنساناً قد مرض؛ وأصابه هُزَال، وفقد ثلاثين كيلوجراماً من وزنه،
وما نزل من هذا الوزن لابُدَّ أنه قد ذهب إلى الأرض كعناصر اختلطتْ بها، ثم جاء
طبيب قام بتشخيص الداء وكتب الدواء، وشاء الله لهذا المريض الشفاء واستردَّ وزنه،
وعاد مرة أخرى لحالته الطبيعية؛ فهل الثلاثين كيلو جراماً التي استردَّها هي هي
نفس الكمية بنوعيتها وخصوصيتها التي سبق أنْ فقدها؟ طبعاً لا.
وهكذا نفهم أن التكوين هو تكوين نسبيّ للعناصر، كذا من الحديد؛ كذا من الصوديوم؛
كذا من المغنسيوم؛ وهكذا.
إذن: فالجزاء في اليوم الآخر عملية عقلية لازمة، يقول الحق:{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[البقرة: 28]
مادام هناك أمر؛ وهناك نهي؛ وهناك نهي؛ وهناك منهج واضح يُبيِّن كل شيء. وإنْ كنت
تعجبُ يا محمد من الكفار وما يثيرونه من أقضية، فَلَكَ أنْ تعجب لأنها أمور تستحق
العجب.
والحق سبحانه حين يخاطب الخَلْق فهو يخاطبهم إمَّا في أمر يشكُّون فيه، أو في أمر
لا يشكُّ فيه أحد.
والمَثَل من حياتنا ـ ولله المَثَلُ الأعلى ـ حين تخاطب أنت واحداً في أمر يَشُكُّ
هو فيه؛ فأنت تحاول أن تؤكد هذا الأمر بكل الطرق، وهكذا وجدنا بعضاً من الناس
ينكرون البعث والحساب؛ ووجدنا الحق سبحانه وتعالى يُذكِّرهم به عبر رسوله ويؤكده
لهم.
وأيضاً خاطبهم الحق سبحانه فيما لم يَشكُّوا فيه؛ وهو الموت؛ وقال:{ كُلُّ نَفْسٍ
ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... }[آل عمران: 185]
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس
بالموت ".
فالموت يقين، ولكن لا أحد يحاول التفكير في أنه قادم، وسبحانه يقول:{ ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ }[المؤمنون: 15]
وهذا تأكيد لأمر يُجمع الناس على أنه واقع، لكنهم لغفلتهم عنه بَدَوْا كالمنكرين
له، لذلك خاطبهم خطابَ المنكرين، ثم قال بعد ذلك:{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }[المؤمنون: 16]
ولم يَقُل: " ولتبعثون " لأن البعث مسألة لا تحتاج إلى تأكيد، وعدم
التأكيد هنا آكد من التأكيد، لأن أمر الموت واضح جداً رغم الغفلة عنه، أما البعث
فهو واقع لا محالة بحيث لا يحتاج إلى تأكيد.
والمثل من حياتنا ـ ولله المثل الأعلى ـ يذهب الإنسان إلى الطبيب؛ فيقول له الطبيب
بعد الكشف عليه " اذهب فلن أكتب لك دواء ". وهذا القول يعني أن هذا
الإنسان في تمام الصحة؛ وكأن كتابة الدواء يحمل شبهة أن هناك مرضاً.
وكذلك الحق سبحانه يخاطب الخَلْق في الشيء الذي ينكرونه وعليه دليل واضح؛ فيأتي
خطابه لهم بلا تأكيد؛ وهو يوضح بتلك الطريقة أنهم على غير حق في الإنكار، أما
الشيء الذي يتأكدون منه وهم غافلون عنه؛ فهو يؤكده لهم؛ كي لا يغفلوا عنه.
وكذلك في القَسَم؛ فنجده سبحانه قد أقسم بالتين والزيتون؛ وأقسم بالقرآن الحكيم؛
وأقسم بغير ذلك، ونجده في مواقع أخرى يقول:{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ *
وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـاذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ }[البلد: 1-3]
والعجيب أنه يأتي بجواب القسم، فيقول:{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ
}[البلد: 4]
وقد يقول قائل: كيف يقول:{ لاَ أُقْسِمُ... }[البلد: 1]
ثم يأتي بجواب القسم؟
وأقول: لقد جاء هنا بقوله:{ لاَ أُقْسِمُ... }[البلد: 1]
وكأنه يُوضِّح ألاَّ حقَّ لكم في الإنكار؛ ولذلك ما كان يصحّ أنْ أقسم لكم، ولو
كنت مُقْسِماً؛ لأقسمتُ بكذا وكذا وكذا.
وسبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ
قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ... { [الرعد:
5]
وهو جَلَّ وعلا يُذكِّرهم بما كان يجب ألاَّ ينسوه؛ فقد خلقهم من تراب؛ وخلق
التراب من عدم، وهو القائل:{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي
لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }[ق: 15]
إذن: فسبحانه يتعجب من أمر هؤلاء؛ ويزيد من العجب أنهم كذَّبوا محمداً صلى الله
عليه وسلم بعد أن جرَّبوا فيه الصدق، ولمسوا منه الأمانة؛ وقالوا عنه ذلك من قبل
أن يُبعث؛ وفوق ذلك أنكروا البعث مع قيام الدليل عليه.
ويصفهم الحق سبحانه: } أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ... { [الرعد:
5]
أي: أن هؤلاء المكذبين لك يا محمد والمنكرين للبعث لم يكفروا فقط بالله الذي أوجب
التكليف العبادي؛ بل هم يكفرون بالربوبية التي تعطي المؤمن والكافر؛ والطائع
والعاصي، وتأتمر بأمرها الأسباب لتستجيب لأي مجتهد يتبع قوانين الاجتهاد، فيأخذ من
عطاءات الربوبية؛ وهي عطاءات التشريف التي تضمن الرزق، بينما عطاءات الألوهية؛ هي
تكليفات بالطاعة للأوامر التعبدية؛ الممثلة في " افعل " و " لا
تفعل ". وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا بعد أن يبلغ الإنسان درجة النضج التي
تؤهله؛ لأن ينجب مثيلاً له؛ وقد ترك الحق سبحانه كل إنسان يرتع في خير النعم التي
أسبغها سبحانه على البشر، وكان على الإنسان أن يسعى إلى الإيمان فور أن تصله
الدعوة من الرسول المبلغ عن الله؛ هذا الرسول المشهود له بالصدق والأمانة. ولذلك
نجد الحق سبحانه وهو يصف المنكرين للإيمان: } أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
بِرَبِّهِمْ... { [الرعد: 5]
ويضيف: }...وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ { [الرعد: 5]
والغُّلّ: هو طَوْق الحديد الذي له طرف في كل يد لِيُقيدها؛ وطرف مُعلَّق في
الرقبة لِيُقلل من مساحة حركة اليدين، ولمزيد من الإذلال.
وهم أصحاب النار؛ وكلمة " صاحب " تُطلق على مَنْ تعرفه معرفةً تروق
كيانك وذاتك؛ فهناك مَنْ تصاحبه؛ وهناك من تصادقه؛ وهناك من تؤاخيه؛ وهناك من تعرفه
معرفة سطحية، ولا تقيم علاقة عميقة معه.
إن المعرفة مراتب، والصحبة تآلف وتجاذب بين اثنين؛ ومَنْ يصاحب النار فهو مَنْ
تعشقه النار، ويعشق هو النار، ويجب كل منهما ملازمة الآخر ألاَ تقول النار لربها
يوم القيامة:{ ...هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30]
أي: أن العذاب نفسه يكون مَشُوقاً أنْ يصلَ إلى العاصي.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ... {
(/1699)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
والاستعجال أن تطلب الشيء قبل زمنه، وتقصير الزمن عن الغاية، فأنت حين تريد غاية
ما؛ فأنت تحتاج لزمن يختلف من غاية لأخرى، وحين تتعجل غايةً، فأنت تريد أنْ تصل
إليها قبل زمنها.
وكل اختيار للتعجُّل أو الاستبطاء له مميزاته وعيوبه، فهل الاستعجال هنا لمصلحة
أمر مطلوب؟
إنهم هنا يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، وهذا دليل على اختلال وخُلْف موازين
تفكيرهم، وقد سبق لهم أن قالوا:{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ
وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ
السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً... }[الإسراء: 90-92]
وهكذا نجد هؤلاء الكافرين وهم يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، كما استعجلوا أنْ تنزل
عليهم الحجارة، وهم لا يعرفون أنْ كل عذاب له مدة، وله ميعاد موقوت. ولم يفكروا في
أنْ يقولوا: " اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ".
بل إنهم قالوا:{ ...اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
}[الأنفال: 32]
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه ما وصلوا إليه من خَلل في نفوسهم وفسادها؛ ذلك أن
مقاييسهم انتهت إلى الكفر، وليس أدلّ على فساد المقاييس إلا استعجالهم للسيئة قبل
الحسنة؛ لأن العاقل حين يُخيَّر بين أمرين؛ فهو يستعجل الحسنة؛ لأنها تنفع،
ويستبعد السيئة.
ومادامت نفوس هؤلاء الكافرين فاسدة؛ ومادامت مقاييسهم مُخْتلة، فلابد أن السبب في
ذلك هو الكفر.
إذن: فاستعجال السيئة قبل الحسنة بالنسبة للشخص أو للجماعة؛ دليلُ حُمْق الاختيار
في البدائل؛ فلو أنهم أرادوا الاستعجال الحقيقي للنافع لهم؛ لاستعجلوا الحسنة ولم
يستعجلوا السيئة.
وهنا يقول الحق سبحانه: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ
وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ... } [الرعد: 6]
فلماذا يستعجلون العذاب؟ ألم ينظروا ما الذي حاق بالذين كذَّبوا الرسل من قبلهم؟
وحين يقول الرسول: احذروا أن يصيبكم عذاب، أو احذروا أنْ كذا وكذا؛ فهل في ذلك
كذب؟ ولماذا لم ينظروا للعِبَر التي حدثتْ عَبْر التاريخ للأقوام التي كذبتْ الرسل
من قبلهم؟
و " المَثُلات " جمع " مُثْلة "؛ وفي قول آخر " مَثُلَة
". والحق سبحانه يقول لنا:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ... }[النحل: 126]
ويقول أيضاً:{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... }[الشورى: 40]
وهكذا تكون " مَثُلات " من المثل؛ أي: أن تكون العقوبة مُمَاثلة للفعل.
وقول الحق سبحانه: { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ... } [الرعد: 6]
يعني: أنه سبحانه سبق وأنزل العذاب بالمثيل لهم من الأمم السابقة التي كذبتْ
الرسل؛ إما بالإبادة إن كان ميئوساً من إيمانهم، وإما بالقهر والنصر عليهم.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ
عَلَىا ظُلْمِهِمْ.
.. { [الرعد: 6]
أي: أنه سبحانه لا يُعجِّل العذاب لِمَنْ يكفرون؛ لعل رجلاً صالحاً يوجد فيهم، وقد
صبر سبحانه على أبي جهل؛ فخرج منه عكرمة بن أبي جهل؛ وهو الصحابي الصالح؛ وصبر على
خالد بن الوليد فصار سيفَ الله المسلول، بعد أن كان أحد المقاتلين الأشداء في
معسكر الكفر.
وتحمل لنا أخبار الصحابة كيف قاتل عكرمة بن أبي جهل؛ إلى أن أصيب إصابة بالغة،
فينظر إلى خالد بن الوليد قائلاً: أهذه ميتة تُرضِي عني رسول الله؟
وتحمل لنا أخبار الصحابة كيف حزن واحد من المقاتلين المسلمين لحظة أنْ أفلتَ من
خالد بن الوليد أيام أنْ كان على الكفر؛ وهو لا يعلم أن الحق سبحانه قد ادخر
خالداً ليكون سيف الله المسلول من بعد إسلامه.
وهكذا شاء الحق أن يُفلت بعض من صناديد قريش من القتل أيام أنْ كانوا على الكفر،
كي يكونوا من خيرة أهل الإسلام بعد ذلك.
ويتابع سبحانه: } وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىا
ظُلْمِهِمْ... { [الرعد: 6]
فمع أن الناس ظالمون؛ فسبحانه يغفر لهم؛ لأنه سبحانه أفرح بعبده التائب المؤمن من
أحدكم، وقد وقع على بعيره، وقد أضلَّه في فلاة.
ولذلك أرى أن مَنْ يُعيِّر عبداً بذنب استغفر منه الله؛ هو إنسان آثم؛ ذلك أن
العبد قد استغفر الله؛ فلا يجب أنْ يحشر أحد أنفه في هذا الأمر.
ونلحظ هنا قول الحق سبحانه: } عَلَىا ظُلْمِهِمْ... { [الرعد: 6]
وفي هذا القول يجد بعض العلماء أن الله قد استعمل حرفاً بدلاً من حرف آخر؛ فجاءت
" على " بدلاً من " مع ".
ونلحظ أن " على " هي ثلاثة حروف؛ و " مع " مكونة من حرفين؛
فلماذا حذف الحق سبحانه الأخفَّ وأتى بـ " على "؟ لابد أن وراء ذلك
غاية.
أقول: جاء الحق سبحانه بـ " على " في قوله: } وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىا ظُلْمِهِمْ... { [الرعد: 6]
ليؤكد لنا أن ظلم الناس كان يقتضي العقوبة؛ ولكن رحمته سبحانه تسيطر على العقوبة.
وهكذا أدت كلمة " على " معنى " مع " ، وأضافت لنا أن الحق
سبحانه هو المسيطر على العقوبة؛ وأن رحمة الله تَطْغَى على ظلم العباد.
ومِثْل ذلك قوله سبحانه:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىا حُبِّهِ... }[الإنسان:
8]
أي: أنهم يُحِبون الطعام حَبَّاً جَمَّاً؛ لكن إرادة الحفاوة والكرم تَطْغى على
حُبِّ الطعام.
ولكن لا يجب أن يظن الناس أن رحمة الله تطغى على عقابه دائماً؛ فلو ظن البعض من
المجترئين هذا الظن؛ وتوهموا أنها قضية عامة؛ لَفسد الكون؛ ولذلك يُنِهي الحق
سبحانه الآية الكريمة بقوله: }...وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ { [الرعد:
6]
أي: أنه سبحانه قادر على العقاب العظيم، وهكذا جمعت الآية بين الرجاء والتخويف.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
} وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ... {
(/1700)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
ونحن نعلم أن " لولا " إنْ دخلت على جملة اسمية تكون حرف امتناع لوجود؛
مثل قولك " لولا زيد عندك لَزُرْتك " ، أي: أن الذي يمنعك من زيارة فلان
هو وجود زيد.
ولو دخلتْ " لولا " على جملة فعلية؛ فالناطق بها يحب أنْ يحدث ما بعدها؛
مثل قولك " لولا عطفتَ على فلان " أو " لولا صفحتَ عن ولدك "
، أي: أن في ذلك حَضّاً على أنْ يحدث ما بعدها.
وظاهر كلام الكفار في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنهم يطلبون آية
لتأييد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البيان الذي يحمله من الحق لهم، وكأنهم
بهذا القول يُنكِرون المعجزة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم وهي القرآن الكريم،
رغم أنهم أمةَ بلاغة وأدب وبيان، وأداء لُغوي رائع؛ وأقاموا أسواقاً للأدب، وخصصوا
الجوائز للنبوغ الأدبي؛ وعلَّقوا القصائد على جدران الكعبة، وتفاخرت القبائل بمَنْ
أنجبتهم من الشعراء ورجال الخطابة.
فلما نزل القرآن من جنس نبوغكم؛ وتفوَّق على بلاغتكم؛ ولم تستطيعوا أن تأتوا بآية
مثل آياته؛ كيف لم تعتبروه معجزة؛ وتطالبون بمعجزة أخرى كمعجزة موسى عليه السلام؛
أو كمعجزة عيسى عليه السلام؟
لقد كان عليكم أن تفخروا بالمعجزة الكاملة التي تحمل المنهج إلى قيام الساعة.
ولكن الحُمْق جعلهم يطلبون معجزة غير القرآن، ولم يلتفتوا إلى المعجزات الأخرى
التي صاحبتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يلتفتوا إلى أن الماء قد نبع من
أصابعه صلى الله عليه وسلم؛ والطعام القليل أشبع القوم وفاض منه، والغمامة قد
ظللته، وجذع النخلة قد أَنَّ بصوت مسموع عندما نقل رسول الله منبره؛ بعد أنْ كان
صلى الله عليه وسلم يخطب من فوق الجذع.
وقد يكونون أصحاب عُذْر في ذلك؛ لأنهم لم يَرَوا تلك المعجزات الحِسِّية؛ بحكم
أنهم كافرون؛ واقتصرت رُؤْياهم على مَنْ آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم.
وهكذا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُحرم من المعجزات الكونية؛ تلك التي
تحدث مرة واحدة وتنتهي؛ وهي حُجَّة على مَنْ يراها؛ وقد جاءتْ لتثبت إيمان
القِلَّة المضطهدة؛ فحين يروْنَ الماء مُتفجِراً بين أصابعه، وَهُمْ مَزلْزلون
بالاضطهاد؛ هنا يزداد تمسُّكهم بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الكافرين لم يَرَوْا تلك المعجزات. وكان عليهم الاكتفاء بالمعجزة التي قال
عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القرآن كافيني ".
والقرآن معجزة من جنس ما نبغتُم فيه أيها العرب، ومحمّد رسول من أنفسكم، لم يَأْتِ
من قبيلة غير قبيلتكم، ولسانه من لسانكم، وتعلمون أنه لم يجلس إلى معلم؛ ولا
عِلُمِ عنه أنه خطب فيكم من قبل، ولم يَقْرِض الشعر، ولم يُعرف عنه أنه خطيب من
خطباء العرب.
ولذلك جاء الحق سبحانه بالقول على لسانه:{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16]
أي: أنني عِشْتُ بينكم ولم أتكلَّم بالبلاغة؛ ولم أنافس في أسواق الشِّعْرِ؛ وكان
يجب أن تؤمنوا أنه قول من لَدُنْ حكيم عليم.
ولكن منهم مَنْ قال: " لقد كان يكتم موهبته وقام بتأجيلها ".
وهؤلاء نقول لهم: هل يمكن أن يعيش طفل يتيم الأب وهو في بطن أمه؛ ثم يتيم الأم وهو
صغير، ويموت جَدّه وهو أيضاً صغير، ورأى تساقط الكبار من حوله بلا نظام في التساقط؛
فقد ماتوا دون مرض أو سبب ظاهر؛ أكان مثل هذا الإنسان يأمنُ على نفسه أن يعيش إلى
عمر الأربعين ليعلن عن موهبته؟
ثم من قال: إن العبقرية تنتظر إلى الأربعين لتظهر؟ وكلنا يعلم أن العبقريات تظهر
في أواخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث.
ورغم عدم اعترافكم بمعجزة القرآن؛ هاهو الحق سبحانه يُجري على ألسنتكم ما أخفيتموه
في قلوبكم؛ ويُظهره الناس في مُحكم كتابه:{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا
الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31]
وهكذا اعترفتُم بعظمة القرآن؛ وحاولتُم أن تغالطوا في قيمة المنزل عليه القرآن.
ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ... { [الرعد: 7]
فلماذا إذنْ قُلْتم واعترفتم أنَّ له رباً؟ أمَا كان يجب أن تعترفوا برسالته
وتُعلنون إيمانكم به وبالرسالة، وقد سبق أنْ قالوا: إن ربَّ محمد قد قَلاَه.
وهذا القول يعني أنهم اعترفوا بأن له رباً؛ فلماذا اعترفوا به في الهَجْر وأنكروه
في الوَصْل.
وإذا كانوا يطلبون منك معجزة غير القرآن فاعلم يا محمد أن ربك هو الذي يرسل
المعجزات؛ وهو الذي يُحدِّد المعجزة بكل رسول حسب ما نبغ فيه القوم المُرْسَل
إليهم الرسول، وأنت يا محمد مُنْذر فقط؛ أي مُحذِّر: }...إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ { [الرعد: 7]
فكل قوم لهم هَادٍ، يهديهم بالآيات التي تناسب القوم؛ فبنو إسرائيل كانوا
مُتفوِّقين في السحر؛ لذلك جاءت معجزة موسى من لَوْنِ ما نبغوا فيه؛ وقوم عيسى
كانوا مُتفوقين في الطب؛ لذلك كانت معجزة عيسى من نوع ما نبغوا فيه.
وهكذا نرى أن لكل قوم هادياً، ومعه معجزة تناسب قومه؛ ولذلك رَدَّّ الله عليهم
الرد المُفْحم حين قالوا:{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا
مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً *
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا فِي السَّمَآءِ وَلَن
نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ... }
[الإسراء: 90-93]
فيقول الحق سبحانه:{ ...قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً
رَّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا
إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي
الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ
السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 93-95]
ويأتي الرد من الحق سبحانه:{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن
كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ... }[الإسراء: 59]
أي: أن قوماً قبلكم طلبوا ما أرادوا من الآيات؛ وأرسلها لهم الله؛ ومع ذلك كفروا؛
لأن الكفر يخلع ثوب العِنَاد على الكافر؛ لأن الكافر مُصَمِّم على الكفر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ... {
(/1701)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
وما المناسبة التي يقول فيها الحق ذلك؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يؤكد مسألة أن لكل قوم هادياً، وأن رسوله صلى الله عليه
وسلم هو منذر، وأن طلبهم للآيات المعجزة هو ابنٌ لرغبتهم في تعجيز الرسول صلى الله
عليه وسلم.
ولو جاء لهم الرسول بآية مما طلبوا لأصرُّوا على الكفر، فهو سبحانه العَالِم بما
سوف يفعلون، لأنه يعلم ما هو أخفى من ذلك؛ يعلم ـ على سبيل المثال ـ ما تحمل كل
أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد.
ونحن نعلم أن كُلَّ أنثى حين يشاء الله لها أن تحبل؛ فهي تحمل الجنين في رحمها؛
لأن الرحم هو مُسْتقرُّ الجنين في بطن الأم.
وقوله تعالى: { وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ... } [الرعد: 8]
أي: ما تُنقص وما تُذهب من السَّقْط في أي إجهاض، أو ما ينقص من المواليد بالموت؛
فغاضت الأرحام، أي: نزلتْ المواليد قبل أن تكتمل خِلْقتها؛ كأن ينقص المولود عيناً
أو إصبعاً؛ أو تحمل الخِلْقة زيادة تختلف عما نألفه من الخَلْق الطبيعي؛ كأن يزيد
إصبع أو أن يكون برأسين.
أو أن تكون الزيادة في العدد؛ أي: أن تلد المرأة تَوْأماً أو أكثر، أو أن تكون
الزيادة متعلقة بزمن الحَمْل.
وهكذا نعلم أنه سبحانه يعلم ما تغيض الأرحام. أي: ما تنقصه في التكوين العادي أو
تزيده، أو يكون النظر إلى الزمن؛ كأن يحدث إجهاض للجنين وعمره يوم أو شهر أو
شهران، ثم إلى ستة أشهر؛ وعند ذلك لا يقال إجهاض؛ بل يقال ولادة.
وهناك مَنْ يولد بعد ستة شهور من الحمل أو بعد سبعة شهور أو ثمانية شهور؛ وقد يمتد
الميلاد لسنتين عند أبي حنيفة؛ وإلى أربع سنوات عند الشافعي؛ أو لخمس سنين عند
الإمام مالك، ذلك أن مدة الحمل قد تنقص أو تزيد.
ويُقال: إن الضحاك وُلِد لسنتين في بطن أمه، وهرم بن حيان وُلِد لأربع سنين؛ وظل
أهل أمه يلاحظون كِبَر بطنها؛ واختفاء الطَّمْث الشهري طوال تلك المدة؛ ثم ولدتْ
صاحبنا؛ ولذلك سموه " هرم " أي: شاب وهو في بطنها.
وهكذا نفهم معنى " تغيض " نَقْصاً أو زيادة؛ سواء في الخِلْقة أو للمدة
الزمنية.
ويقول الحق سبحانه: {...وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد: 8]
والمقدار هو الكمية أو الكيف؛ زماناً أو مكاناً، أو مواهب ومؤهلات.
وقد عَدَّد الحق سبحانه مفاتيح الغيب الخمس حين قال:{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ...
}[لقمان: 34]
وقد حاول البعض أن يقيموا إشكالاً هنا، ونسبوه إلى الحضارة والتقدم العلمي، وهذا
التقدم يتطرق إليه الاحتمال، وكل شيء يتطرق إليه الاحتمال يبطل به الاستدلال، وذلك
بمعرفة نوعية الجنين قبل الميلاد، أهو ذكر أم أنثى؟ وتناسَوْا أن العلم لم يعرف
أهو طويل أم قصير؟ ذكي أم غبي؟ شقي أم سعيد؟ وهذا ما أعجز الأطباء والباحثين إلى
اليوم وما بعد اليوم.
ثم إنْ سألتَ كيف عرف الطبيب ذلك؟
إنه يعرف هذا الأمر من بعد أن يحدث الحَمْل؛ ويأخذ عينة من السائل المحيط بالجنين،
ثم يقوم بتحليلها، لكن الله يعلم دون أخذ عينة، وهو سبحانه الذي قال لواحد من
عباده:{ يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَىا... }[مريم:
7]
وهكذا نعلم أن عِلْم الله لا ينتظر عيِّنة أو تجربة، فعِلْمه سبحانه أزليّ؛ منزه
عن القصور، وهو يعلم ما في الأرحام على أي شكل هو أو لون أو جنس أو ذكاء أو سعادة
أو شقاء أو عدد.
وشاء سبحانه أن يجلي طلاقة قدرته في أنْ تحمل امرأة زكريا عليه السلام في يحيى
عليه السلام، وهو الذي خلق آدم بلا أب أو أم؛ ثم خلق حواء من أب دون أم؛ وخلق عيسى
من أم دون أب، وخلقنا كلنا من أب وأم، وحين تشاء طلاقة القدرة؛ يقول سبحانه:{
...كُن فَيَكُونُ }[يس: 82]
والمثل ـ كما قلت ـ هو في دخول زكريا المحرابَ على مريم عليها السلام؛ فوجد عندها
رزقاً؛ فسألها:{ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا... }[آل عمران: 37]
قالت:{ ...هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ }[آل عمران: 37]
وكان زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؛ ولكن هذا العلم كان في حاشية
شعوره؛ واستدعاه قول مريم إلى بُؤْرة الشعور، فزكريا يعلم عِلْم اليقين أن الله هو
وحده مَنْ يرزق بغير حساب.
وما أنْ يأتي هذا القول مُحرِّكاً لتلك الحقيقة الإيمانية من حافة الشعور إلى
بُؤْرة الشعور؛ حتى يدعو زكريا ربه في نفس المكان ليرزقه بالولد؛ فيبشره الحق
بالولد.
وحين يتذكر زكريا أنه قد بلغ من الكبر عتياً، وأن امرأته عاقر؛ فيُذكِّره الحق
سبحانه بأن عطاء الولد أمر هَيِّن عليه سبحانه:{ قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ
هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }[مريم:
9]
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
} عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ... {
(/1702)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
ومَنْ كُلُّ شيء عنده بمقدار؛ لا يغيب عنه شيء أبداً، وما يحدث لأيِّ إنسان في
المستقبل بعد أن يُولَد هو غيب؛ لكن المُطَّلع عليه وحده هو الله.
وكأن هناك " نموذجاً " مُصَغَّراً يعلمه الله أولاً؛ وإن اطلع عليه
الإنسان في أواخر العمر؛ لوجده مطابقاً لِمَا أراده وعلمه الله أولاً؛ فلا شيء
يتأبَّى عليه سبحانه؛ فكُلُّ شيء عنده بمقدار.
وهو عالم الغيب والشهادة؛ يعلمُ ما خَفِي من حجاب الماضي أو المستقبل، وكُلّ ما
غاب عن الإنسان، ويعلم ـ من باب أَوْلَى ـ المشهودَ من الإنسان، فلم يقتصر علمه
على الغيب، وترك المشهود بغير علم منه؛ لا بل هو يعلم الغيب ويعلم المشهود: {
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [الرعد: 9]
والكبير اسم من أسماء الله الحسنى؛ وهناك مَنْ تساءل: ولماذا لا يوجد "
الأكبر " ضمن أسماء الله الحسنى؛ ويوجد فقط قولنا " الله اكبر " في
شعائر الصلاة؟
وأقول: لأن مقابل الكبير الصغير، وكل شيء بالنسبة لمُوجِده هو صغير. ونحن نقول في
أذان الصلاة " الله اكبر "؛ لأنه يُخرِجك من عملك الذي أوكله إليك، وهو
عمارة الكون؛ لتستعين به خلال عبادتك له وتطبيق منهجه، فيمدُّك بالقوة التي تمارس
بها إنتاج ما تحتاجه في حياتك من مأكل، ومَلْبس، وسَتْر عورة.
إذن: فكلُّ الأعمال مطلوبة حتى لإقامة العبادة، فإياك أن تقول: إن الله كبير
والباقي صغير، لأن الباقي فيه من الأمور ما هو كبير من منظور أنها نعم من المنعم
الأكبر؛ ولكن الله أكبرُ مِنَّا؛ ونقولها حين يُطلَب منا أن نخرج من أعمالنا
لنستعين بعبادته سبحانه.
ونعلم أن العمل مطلوب لعمارة الكون، ومطلوب حتى لإقامة العبادة، ولن توجد لك قوة
لتعبد ربك لو لم يُقوِّك ربُّك على عبادته؛ فهو الذي يستبقي لك قُوتَك بالطعام
والشراب، ولن تطعم أو تشرب؛ لو لم تحرُثْ وتبذر وتصنع، وكل ذلك يتيح لك قوة
لِتُصلي وتُزكي وتحُج؛ وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وسبق أنْ قُلت: إن الحق سبحانه حينما نادانا لصلاة الجمعة قال:{ ياأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ
إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ }[الجمعة: 9]
وهكذا يُخرِجنا الحق سبحانه من أعمالنا إلى الصلاة الموقوتة؛ ثم يأتي قول الحق
سبحانه:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ
مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
}[الجمعة: 10]
وهكذا أخرجنا سبحانه من العمل، وهو أمر كبير إلى ما هو أكبر؛ وهو أداء الصلاة.
وقول الحق سبحانه في وصف نفسه (المتعال) يعني أنه المُنزَّه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً؛
فلا ذات كذاته؛ ولا صفة كصفاته، ولا فعل كفعله، وكل ما له سبحانه يليق به وحده،
ولا يتشابه أبداً مع غيره.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ... }
(/1703)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
وساعة تسمع كلمة " سواء " فالمقصود بها عدد لا يقل عن اثنين، فنقول
" سواء زيد وعمرو " أو " سواء زيد وعمر وبكر وخالد ".
والمقصود هنا أنه مادام الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة؛ فأي سر يوجد لابد أن
يعلمه سبحانه، وهو سبحانه القائل:{ الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىا *
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ
الثَّرَىا * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى
}[طه: 5-7]
وهل السر هو ما ائتمنتَ عليه غيرك؟ إذا كان السر هو ذلك؛ فالأخْفَى هو ما بَقِى
عندك، وإنْ كان السر بمعنى ما يوجد عندك ولم تَقُلْه لأحد؛ فسبحانه يعلمه قبل أن
يكون سراً.
ويتابع سبحانه: {...هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد:
10]
وهكذا جمع الحق سبحانه هنا كل أنواع العمل؛ فالعمل كما نعلم هو شغل الجوارح
بمتعلقاتها؛ فعمل اللسان أن يقول وأن يذوق، وعمل الأيدي أن تفعل، وعمل الأذن أن
تسمع، وعمل القلب هو النية، والعمل كما نعلم يكون مرَّة قَوْلاً، ومرَّة يكون
فِعْلاً.
وهكذا نجد " القول " وقد أخذ مساحة نصف " العمل " ، لأن
البلاغ عن الله قول، وعمل الجوارح خاضعِ لِمَقُول القول من الحق سبحانه وتعالى.
ولذلك أوضح لنا الحق سبحانه أن العمل هو كُلُّ فعل متعلق بالجوارح؛ وأخذ القول
شِقاً بمفرده؛ وأخذتْ أفعال الجوارح الشِّقَّ الآخر؛ لأن عمل بقية الجوارح يدخل في
إطار ما سمع من منهج الله.
ولذلك تجمع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها كل العمل من قَََوْل وفعل: { سَوَآءٌ
مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ
بِالَّيلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد: 10]
ومَنْ يستخفي بالليل لابد أنه يُدبِّر أمراً؛ كأن يريد أن يتسمَّع ما وراء كل
حركة؛ أو ينظر ما يمكن أنْ يشاهده، وكذلك مَنْ يبرز ويظهر في النهار فالله عالم
به.
وكان على الكفار أن ينتبهوا لأمر عجيب كانوا يُسِرُّونه في أنفسهم؛ لحظة أنْ حكى
الله؛ فقال:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا
نَقُولُ... }[المجادلة: 8]
فكيف عَلِمَ الله ذلك لولا أنه يعلم السِّرَّ وأخْفَي؟
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ... }
(/1704)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
وكلمة (له) تفيد النفعية، فإذا قلت " لك كذا " فهي عكس أن نقول "
عليك كذا ". وحين يقول سبحانه: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ... } [الرعد: 11]
فكأنَّ المُعقِّبات لصالح الإنسان. و " مُعقِّبات " جمع مؤنث، والمفرد
" مُعقِّبة " ، أي: أن للحق سبحانه وتعالى ملائكة يتناوبون على حراسة
الإنسان وحِفْظه ليلاً ونهاراً من الأشياء التي لا يمكن الاحتراز منها.
والمَثَلُ هو تلك الإحصاءات التي خرجت عن البشر الذين تلدغهم الثعابين، فقد ثبت
أنها لا تلدغهم وهم نائمون؛ بل في أثناء صَحْوتهم؛ أي: ساعةَ يكونون في ستْر النوم
فهناك ما يحفظهم؛ أما في اليقظة فقد يتصرَّف الإنسان بطَيْشٍ وغَفْلة فتلدغه
الأفعى.
ونحن نقول في أمثالنا الشعبية: " العين عليها حارس "؛ ونلحظ كثيراً من
الأحداث التي تبدو لنا غريبة كأنْ يسقط طفل من نافذة دور علوي؛ فلا يُصَاب بسوء؛
لأن الحق سبحانه شاء أن تحفظه الملائكة المُعقِّبات من السُّوء؛ لأن مهمة الحَفَظة
أن يحفظوا الإنسان من كُلِّ سوء.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه قد أعدَّ للإنسان الكونَ قبل أن يخلقه ليستخلفه فيه؛
أعدَّ السماوات وأعدَّ الأرض؛ وسَخَّر الشمس والقمر؛ وأخرج الثمراتِ؛ وجعل الليل
يَغْشَى النهارَ.
وكُلُّ ذلك أعدَّه سبحانه للخليفة قبل أن يوجد الخليفة؛ وهو سبحانه قَيُّوم على
هذا الخليفة؛ فيصونه أيضاً بعد الخَلْق، ولا يَدَعُه لمقومات نفسه ليدافع عنها
فيما لا يستطيع الدفاع عنها، ويُكلِّف الله الملائكة المُعقِّبات بذلك.
وقد ينصرف معنى المُعقِّبات إلى الملائكة الذين