Translate

الأربعاء، 13 أبريل 2022

تفسير الشعراوي 25- بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ سورة المؤمنون

 

25.

سورة المؤمنون

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89

تفسير الشعراوي 25-

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)


أي: لم يتعظوا بكل هذه الآيات، بل قالوا مثلما قال الألون: { قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً.. }.

(/2732)


قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)


وسواء أكان هذا قولهم أو قول سابقيهم من الأولين، فقد كان الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية في مسألة البعث من الموت، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر.
ولذلك قال قائلهم:{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }[يس: 78 - 97].

(/2733)


لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)


أتظنون أن الله تعالى إذا وعدكم بالموت ثم بالبعث أن هذا سيكون في الدنيا؟ لذلك تقولون: وُعِدْنا بهذا من قبل ولم يحدث، وقد مات مِنّا كثيرون ولم يعودوا ولم يُبعَثُوا، فَمَنْ قال لكم إنكم ستموتون اليوم وتُبعثون غداً؟
البعث لا يكون إلا بعد أن يموت جميع الخَلْق، ثم يُبعثوا كلهم مرة واحدة.
إذن: هذا الكلام منهم مجرد سفسطة وجدل لا معنى له.
وكلمة { وُعِدْنَا.. } [المؤمنون: 83] يعني بالبعث، والوعد عادة يكون بالخير، كما أن الوعيد يكون بالشر، كما جاء في قول الشاعر:وإنِّي إذَا أَوْعدتُه أَوْ وَعدتُه لَمخِلفُ إيعَادِي ومُنجِزُ موْعِدييعني: هو رجل كريم يترك الشر الذي توعّد به، ويفعل الخير الذي وعد به، وإن قال العلماء: قد يستعمل هذا مكان هذا.
لكن، هل الوعد للكفار بالبعث وما يتبعه من عذاب وعقاب يُعَدُّ وَعْداً؟ قالوا: نعم يعد هذا الشر وهذا العذاب الذي ينتظر وَعْداً بالخير لأنه يُنبههم ويَلفتهم إلى خطورته حتى لا يقعوا فيه إذن: هو خير لهم الآن حيث يُحذِّرهم كما تحذر ولدك من الرسوب إنْ أهمل في دروسه.
ومن ذلك أيضاً في هذه المسألة ما أشرنا إليه من تكرار قوله تعالى:{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 13] في سورة الرحمن، وأنها جاءت بعد ذِكْر نعم الله على سبيل التوبيخ لمَنْ أنكر هذه النعم أو كذَّب بها، وتكررت مع كل نعمة تأكيداً لهذا التوبيخ، لكن العجيب أن تذكر هذه الآية حتى بعد النقم أيضاً، كما في قوله تعالى:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ.. }[الرحمن: 35 - 36].
وهل في النار والشُّواظ نعمة؟ نقول: نعم فيها نعمة؛ لأنها نصيحة لك قبل أن تقع في هذا المصير وتحذير لك في وقت التدارك حتى تراجع نفسك.
وقولهم: { إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [المؤمنون: 83] { إِنْ هَـاذَآ.. } [المؤمنون: 83] يعني: ما هذا. وأساطير جمع أسطورة مثل: أعاجيب وأعجوبة، هناك مَنْ يقول: إن أساطير جمع سطر أسطار أساطير مثل شكل وأشكال، فهي جَمْع للجمع. وسواء أكانت جَمْع أسطورة أو جمع سطر، فالمعنى لا يختلف؛ لأن الشيء المسطور قد يعتبره الناس خرافة وكلاماً لا معنى له.
والأساطير هي الكلام المكذوب الذي لا أصلَ له، فلا يُسمَّى الكلام أسطورة إلا إذا جاء وقته ولم يحدث، فلَكَ أن تقول أساطير إنما البعث الذي تقولون عنه { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [المؤمنون: 83] لم يأت وقته بعد، فلم يمت جميع الخَلْق حتى يُبعثوا، فقد أخطأتم التوقيت وظننتم أنكم في الدنيا تموتون وتبعثون هكذا على رؤوس الأشهاد، والناس ما زالت في سعة الدنيا.
إذن: ليس البعث كما تقولون، بل هو حق، ولكنكم لم تضعوا له الكلمة المناسبة؛ لذلك يوجه إليهم هذه الأسئلة التقريرية التي تقيم عليهم الحجة: { قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ.. }.

(/2734)


قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)


ويأتي في السؤال بإن الشرطية الدالة على الشك في كونهم يعلمون.

(/2735)


سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)


فما دُمْتم أقررتم بأن الأرض ومَنْ فيها لله { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [المؤمنون: 85] يعني: ما الذي صرفكم عن مالك الأرض وخالقها؟
ثم يقول الحق سبحانه: { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ.. }.

(/2736)


قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)


نلحظ أنهم لم يجادلوا في هذه المسألة، ولم يقولوا مثلاً إنها سماء واحدة هي التي نراها، مما يدل على أنها أمر غير منكور عندهم، ولا بُدَّ أن الأنبياء السابقين قد أخبروهم خبر السماء، وأنها سبع سموات، وأصبحت عندهم قضية عقلية يعرفونها، وإلا كان بوُسْعهم الاعتراض، حيث لا يرون إلا سماءً واحدة. إذن: لم يجادلوا في هذا الموضوع.
وقوله تعالى: { وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [المؤمنون: 86] العرش مخلوق عظيم لا يعلم كُنْهه إلا الله الذي قال فيه{ ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ.. }[الأعراف: 54] وقال{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ.. }[هود: 7].
والعرش لم يَرَهُ أحد، إنما أخبر عنه ربه الذي خلقه، فقال: لي كذا ولي كذا، ويكفي أن الله تعالى وصفه بأنه عظيم. وفي هذه أيضاً لم يجادلوا رسول الله ولم يقولوا إننا لم نَرَ العرش، مما يدل على أن عندهم حصيلة من تراث الأنبياء السابقين انتقلت إليهم فطرة من فطر التكوين البشري في السماع من الموجودين.
وقد وصف العرش بأنه عظيم عند البشر أيضاً، ففي قصة سليمان وملكة سبأ قال الهدهد:{ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }[النمل: 23] لأن العرش رمزية لاستقرار الملْك واستتباب الأمر لِلْمَلك الذي لا ينازعه في مُلْكه أحد، ولا يناوشه عليه عدو؛ لذلك أول ما قال سليمان - عليه السلام - في أمرها قال:{ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا.. }[النمل: 38] وكأنه يريد أن يسلب منها أولاً رمز العظمة والأمن والأمان والاستقرار في الملك.
ثم يقول الحق سبحانه: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }.

(/2737)


سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)


فما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تعترفون بأن لله مُلْكَ السموات والأرض، وله العرش العظيم، فلماذا لا تتقون هذا الإله؟ لماذا تتمردون على منهجه؟ إن هذا الكون كله بما فيه خُلِق لخدمتك، أفلا يلفتك هذا إلى الصانع المنعم.
لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي: " يا ابْن آدم، خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له " يعني: لا تُلْهِك النعمة عن المنعم. وعلى العبد أن ينظر أولاً إلى خالقه ومالكه، فيؤدي حقه، ثم ينظر إلى ما يملك هو.
ومعنى: { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [المؤمنون: 87] الاتقاء: أن تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية، وسبق أن قُلْنا: من عجيب آيات القرآن أن تقول مرة (اتقوا الله) ومرة (اتقوا النار)، والمعنى لا تعارضَ فيه كما يظنه البعض، بل المعنى واحد؛ لأن النار جُنْد من جنود الله ومن صفات جلاله، فالمراد: اتقوا عذاب الله، واتقوا صفات القهر والجبروت بأن تجعل بينك وبينها وقاية.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ.. }.

(/2738)


قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)


معنى: { بِيَدِهِ.. } [المؤمنون: 88] تدل على التمكّن من الشيء، كما تقول: هذا الأمر في يدي يعني في مُكْنتي وتصرفي، أقلبه كيف أشاء { مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.. } [المؤمنون: 88] مادة ملك منها مِلْك، ومنها مُلْك، ومنها ملكوت.
المِلْك ما تملكه أنت، حتى لو لم يكن عندك إلا ثوب واحد فهو مِلْك، أمّا مُلْك فيعني أنْ تملك مَنْ يملك، وهذا يكون ظاهراً. أما الملكوت فالأشياء المخلوقة التي لا تقع عليها حواسُّك، ولا يمكن أن تعلم عنها شيئاً إلا بإخبار خالقها، والإنسان لا يرى كل ما في الكون، بل إن في نفسه وذاته أشياءً لا يعرفها، فهذا كله من عالم الملكوت.
بل إن الإنسان لا يرى حتى المُلْك الظاهر المحسّ؛ لأنه لا يرى منه إلا على قَدْر مَدِّ بصره، وما خرج عن هذا النطاق لا يراه، وإن كان يراه غيره، ويمكن أن يدخل هذا المُلك الذي لا تراه في دائرة الملكوت بمعناه الواسع.
إذن: الملكوت يُطلق على الأشياء المحجوبة التي لا يراها أحد، أو على الأشياء التي يراه واحد دون الآخر.
والإنسان إذا تعمَّق في عبادة الله وفي طاعته يفيض عليه من التجليات، ويعطيه من هذا الملكوت عطاءً مباشراً، كما قال:{ مِّن لَّدُنَّـآ.. }[النساء: 67].
ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال عنه ربه{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىا }[النجم: 37] وقال عنه:{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ.. }[البقرة: 124] يعني: يؤدي ما لله بدقة وعلى الوجهِ الأكمل؛ لذلك يأتمنه ربه على أن يكون إماماً للناس{ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً.. }[البقرة: 124]
فلما أحسن إبراهيمُ ما بينه وبين ربه وبلغ هذه المنزلة قال عنه ربه:{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. }[الأنعام: 75].
لأنه أحسن في الأولى فرقى إلى أعلى منه. كما لو دخل رجل بيتك وشاهد ما عندك من نعيم، ففرح لما أنت فيه، وقال: ما شاء الله تبارك الله، ودعا لك بالزيادة، فلما رأيت منه ذلك قلت له إذن: تعالى أريك ما هو أعظم.
كذلك العبد الصالح الذي عبد الله وتقرَّب إليه بمنهج موسى عليهما السلام، فلما استقام على هذا المنهج وتعمَّق في عبادة الله وطاعته أعطاه الله من علمه اللدنيّ دون واسطة ودون رسول، حتى كان هو مُعلِّماً لموسى عليه السلام.
ثم يقول سبحانه: { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ.. } [المؤمنون: 88] يجير: تقول: استجار بفلان فأجاره يعني: استغاث به فأغاثه، ومنه قوله تعالى:{ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ.. }[الأنفال: 48] والإنسان لا يستجير بغيره إلا إذا ضعُفَتْ قوته عن حمايته، فيلجأ إلى قوي يحميه ويدافع عنه.
إذن: هذه المسألة لها ثلاثة عناصر: مجير، وهو الذي يقبل أن يغيثك ويحتضنك ويدافع عنك.

ومُجَار: وهو الضعيف الذي يطلب الحماية. ومُجَار عليه: وهو القوي الذي يريد أن يبطش. ومن المعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف وبعد أنْ فعلوا به صلى الله عليه وسلم ما فعلوا استجار، ودخل في حمى كافر.
فالحق - سبحانه وتعالى - يجير مَنِ استجار به، ويغيث مَن استغاثة لكن } وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ.. { [المؤمنون: 88] لأن الذي يجيرك إنما يجيرك من مساوٍ له في القوة، فيستطيع أن يمنعك منه، ويحميك من بطشه، فَمنْ ذا الذي يحميك من الله؟ ومَنْ يجيرك إنْ كان الله هو طالبك؟!
لذلك يقول سبحانه في مسألة ابن نوح:{ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ.. }[هود: 43] فالله - عز وجل - يجير على كل شيء، ومن أصبح وأمسى في جوار ربه فلا خوف عليه.
وتلحظ هنا العلاقة بين صَدْر هذه الآية وعَجُزها: فالله تعالى بيده وفي قبضته سبحانه كل شيء، والأمر كله إليه، فإياك أنْ تظن أنك تلفت من قبضته بالنعمة التي أعطاك؛ لأنه سبحانه قادر أن يسلبك إياها، وساعتها لن يجيرك أحد، ولن يغيثك من الله مغيث، ولن يعصمك من الله عاصم.
ثم قرأ قوله تعالى:{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[آل عمران: 26].
وهنا أيضاً يقول سبحانه: } إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ { [المؤمنون: 88] إنْ كان عندكم علم بهذه المسألة ووصلت إليكم وعاينتموها.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم: } سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىا تُسْحَرُونَ {.

(/2739)


سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)


ففي هذه أيضاً يقولون " لله "؛ لأنه واقع ملموس لا يُنكَر، وطالما أن الأمر كذلك { فَأَنَّىا تُسْحَرُونَ } [المؤمنون: 89] كيف تسحرون أو أسُحِرتم عن هذا الواقع وصُرِفتم عنه إلى هذا الكلام الباطل؟
هذه قضايا ثلاث جاءت على صورة سؤال لتدينهم بوضوح العقيدة في الوجود الأعلى، وبوضوح البينات في إعجاز البلاغ عن الله، وبوضوح الآيات في آيات المنهج، وقد أراد الحق سبحانه أن يأتي الكلام منهم وبإقرارهم هم على أنفسهم؛ ليكون حجة وشهادة حَقٍّ عليهم.
ومعلوم أن الإقرار سيد الأدلة؛ لذلك سألهم:{ قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ.. }[المؤمنون: 84].
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }[المؤمنون: 86].
{ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.. } [المؤمنون: 88].
وهم يقولون في هذا كله (لله) إذن: فماذا بقي لكم؟ ما الذي منعكم أن تتقوا الذي تؤمنون بأنه المالك للأرض وللسماء وبيده كل شيء؟ إنه مجرد استكبار وعناد وغطرسة، وإلا فماذا تعني كلمة (الله) التي تنطقون بها؟
إنكم تعرفون الله، وتعرفون مدلول هذه الكلمة؛ لأن مدلول الكلمة سابق على وجودها في لغة البشر ، فاللغة عادة ألفاظ توضع لمعانٍ تدل عليها، فالمعنى يوُجدَ أولاً، ثم نضع له اللفظ الدالّ عليه، وما دام أن لفظ (الله) يدور على ألسنتكم ولا بُدَّ أنكم تعرفون مدلولة، وهو قضية لغوية انتهيتم منها، وإلا فالأمر العدمي لا اسم له. فالتليفزيون مثلاً: ما اسمه قبل أن يخترع؟ لم يكن له اسم؛ لأنه لم يكُنْ له معنى، فلما وُجِد وُضِع له الاسم.
وحيث دارت الألسنة بكلمة الله فمعنى ذلك أنه تعالى موجود قبل وجود الاسم، فالمسألة - إذن - حجة عليكم.
لذلك عرض الحق - سبحانه وتعالى - هذه القضايا في صورة سؤال لينتزع منهم الإقرار بها، كما لو أنكر شخص جميلك فيه، فإنْ قلتَ له على سبيل الإخبار: لقد قدمتُ لك كذا وكذا، والخبر يحتمل الصِّدْق ويحتمل الكذب وله أن يعترف أو ينكر.
أما حين تقول له: ألم أُقدِّم لك كذا وكذا؟ على سبيل الاستفهام، فإنه لا يملك إلا الاعتراف، وينطق لك بالحق وبالواقع، وتصل بإقراره إلى مَا لا تؤديه الشهادة أو البينة عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ.. }.

(/2740)


بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)


يعني: دعوني أخبركم عن أمرهم، ولماذا أنكروا الحق ولم ينطقوا به، إنهم ينكرون الحق لأنهم كاذبون ويريدون أنْ يُثبتوا أن ما هم عليه أمر طبيعي، لماذا؟ لأنهم مستفيدون من الانحراف ومن الباطل؛ لذلك يقفون في وجه الرسالة التي جاءت لتعديل الميزان والقضاء على الانحراف والباطل، ويلجئون إلى تكذيبها وصَرْف الناس عنها ليظلوا ينتفعون هم بالباطل.
لذلك تأمل: لماذا يُكذِّب الناس؟ يُكذِّبون لأنهم ينتفعون من الكذب، ويتعبهم الصدق، ويَضيِّق عليهم الخناق.
ثم يقول الحق سبحانه: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ.. }.

(/2741)


مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)


يا ليت الأمر وقف بهم عند مجرد عدم الإيمان بالله، إنما تعداه إلى أن وصفوا الله تعالى بما لا يليق من الصفات، وما دام أن الله تعالى ينفي عن نفسه تعالى اتخاذ الولد { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ.. } [المؤمنون: 91] فلا بد أنهم قالوا: اتخذ الله ولداً، فترقوا في فجورهم وطغيانهم، وتجرأوا حتى على مقام العزة.
ونقول أولاً: ما الولد؟ الولد ما ينجبه الإنسان من ذكر أو أنثى، وقد سمعنا هؤلاء يقولون: عيسى ابن الله، والعزير ابن الله، وقالوا عن الملائكة: بنات الله، وقد قال تعالى: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ.. } [المؤمنون: 91] ليشمل البنين والبنات.
ومعنى { اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ.. } [المؤمنون: 91] أن الله تعالى كان موجوداً، ثم اتخذ له ولداً، فاتخاذ الولد إذن حادث، وهذا يعني أنه قد مرت فترة لم يتخذ الله له فيها ولداً، لذلك نسأل: ما الذي زاد في مُلْك الله بوجود الولد؟ هل أصبحت السموات ثمانية؟ هل زاد في الكون شمس أخرى أو قمر؟ الكون كما خلقه الله تعالى، وجعل فيه ضرورياته وأصوله وفروعه لم يزد فيه شيء. إذن فاتخاذ الولد عَبَثٌ لم يحدث منه شيء.
ويقولون: اتخذ الله الولد ليُؤْنس خَلْقه بوجود ولده وشيء من رائحته بين الخلق، قالوا هذا في مؤتمر (نيقية)، كأنه عندهم يقوم مقام الألوهية. لكن كم كانت مدة بقائه بينكم؟ لقد أقام المسيح في الأرض بضعاً وثلاثين سنة قبل أن يُرْفع، فكيف يحرم من هذا الأنس مَنْ سبقوا ميلاده عليه السلام؟ وكيف يُحْرم منه مَنْ أتوا بعده؟
أليس في هذا ما يتعارض وعدالة الربوبية؛ لأن الخَلْق جميعاً خَلْق الله، وهم عنده سواء؟
ومنهم مَنْ يقول: إنه جاء ليرفع الخطيئة، لكن الخطيئة ما زالت في الأرض بعدما فعل ما فعل. إذن: فكلها حَجَج واهية.
ولو ناقشنا هذه المسألة مناقشةً منطقيةً فلسفيةً: لماذا يتخذ الإنسانُ الولدَ؟ يتخذ الإنسانُ الولدَ لأنه يحب الحياة، وموته يختصر هذه الحياة، فيريد الولد ليكون امتداداً لحياته، ويضمن به بقاء الذكْر جيلاً من بعده، فإنْ جاء للولد ولد ضمن جيلين؛ لذلك يقولون " أعزّ من الوِلْد وِلْد الولد ". لكن أي ذِكْر هذا الذي يتمسَّكون به؟ إن الذكر الحقيقي ما تخلفه من بعدك من عمل صالح يسبقك عند الله.
والحق - سبحانه وتعالى - لا يحتاج إلى ذِكْر من بعده تعالى؛ لأنه باقٍ لا يموت، فهذه المسألة إذن ممنوعة في حقِّه تَعالى.
وقد يتخذ الولد ليكون سنداً وعَوْناً لأبيه حين يكبر وتضعف قواه؛ لذلك يقولون: خير الزواج الزواج المبكر؛ لأنه يساعدك على إنجاب أب يعولك في طفولة شيخوختك؛ لأنك تنجب طفلاً وأنت صغير، فيعاصرك أكبر مدة من الزمن، وتطول به قُرّة عينك في خلاف مَنْ ينجب على كِبَر؛ لذلك قال: أب يعولك في طفولة شيخوختك ولم يقل ابناً لأنك في هذه الحال تحتاج إلى حنان الأب.

وهذه أيضاً ممتنعة في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه القوي، الذي لا يحتاج إلى معين، ولا إلى عزوة.
مسألة أخرى: أن الإنسان يحب الولد؛ لأنه بَعْضٌ منه، وهو سبب في وجوده، فيحب أن يكون له ولد من صُلْبه، وهذا فرع من حُبِّه للتملُّك، فالإنسان أول ما يحب يحب أن تكون له أرض، ثم يحب أن يزرعها ويأكل من خيراتها، ثم يحب أن تكون له حيوانات يشرب لبنها ويستفيد منها، ثم إنْ تَمَّ له هذا كله يتطلع إلى الولد، وكأنه تدرَّج من حب الجماد إلى النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.
وهذه المسألة أيضاً لا تجوز في حقه تعالى، فإنْ أحببتَ الولد ليكون جزءاً منك ومن صُلْبك تعتز به وببُنوته، فالخَلْق جميعاً عيال الله وأولاده، فكيف يحتاج إلى الولد بعد ذلك؟
إذن: كلها حجج ومسائل باطلة؛ لذلك رَدَّ الله عليهم } مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ.. { [المؤمنون: 91] وأتى بِمِنْ الدالة على العموم، يعني: ما اتخذ الله شيئاً من بداية مَا يُقال له ولد، ولو كان حتى مُتبنَّى، كما تقول: ليس عندي مال، فتنفي أن يكون عندك مال يُعْتد به أو ذو قيمة، لكن هذا لا يمنع أن يكون عندك عدة جنيهات أو قروش. فإنْ قلت: ما عندي من مال، فقد نفيتَ أنْ يكون عندك أقلّ ما يُقَال له مال.
ونردّ بهذه المسألة على مَنْ يقول أن (من) هنا زائدة؛ لأن كلام الله دقيق لا زيادة فيه، الزيادة في كلام البشر، والحق سبحانه مُنزَّه عن هذه المسألة.
ثم يرتقي بنا الحق سبحانه في الردِّ عليهم فيقول: } وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ.. { [المؤمنون: 91] يعني: معبود بحق أو بغير حق؛ لذلك سمّى الأصنام آلهة، لكن كلمة الله انصرفت إلى المعبود بحق سبحانه وتعالى، فنفى الحق سبحانه الشركاء معه في العبادة، كما جاء في موضع آخر:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا.. }[الأنبياء: 22].
يعني: لو كان فيهما آلهة الله خارج منها لَفَسدت السماء والأرض، وكذلك لو كان فيهما آلهة مع الله لَفسدتَا أيضاً؛ لأن إلا هنا ليست استثنائية، إنما هي اسم بمعنى غير، وقد ظهر إعرابها على لفظ الجلالة بعدها (الله).
ومسألة تعدُّد الآلهة لو تأملتها لَبانَ لك بطلانها، فإنْ كان مع الله آلهة لاقتسموا هذا الكون فيما بينهم، وجعلوه قطاعات، يأخذ كل منهم قطاعاً فيه، فواحد للأرض، وآخر للسماء، وثالث لما بين الأرض والسماء وهكذا.
ولكن، هل يستغني قطاع من الكون عن الآخر؟ اتستغني الأرض عن السماء؟ إذن: سيحدث تضارب لا يستقيم معه حال الكون.

كذلك نقول: الإله الذي أخذ الأرض مثلاً، لماذا لم يأخذ السماء؟ لا بُدَّ أنه أخذ الأرض بقُوَّته، وترك السماء لعجزه، ولا يصلح إلهاً مَنْ وُصِف بهذه الصفة، فإن قالوا: إنهم جميعاً أقوياء يستطيع كل واحد منهم أن يخلق الخَلْق بمفرده نقول: إذن ما فائدة الآخرين؟
ثم يقول سبحانه: } إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ.. { [المؤمنون: 91] يعني: لو استقل كل منهم بقطاع من الكون دون الآخر لَفَسدتْ الأمور، كما رأينا في دنيا البشر أن يحاول أحد الملوك أنْ يستقلّ بقطاع من الأرض لا حَقَّ له فيه، ورأينا ما أحدثه من فساد في الأرض، هذا مثال لقوله تعالى: } وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ.. { [المؤمنون: 91] وهي صورة من صور الفساد.
لذلك يعالج الحق سبحانه هذه القضية ويعلنها على الملأ:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ.. }[آل عمران: 18].
فليس هذا كلامنا، وليست هذه شهادتنا، بل كلام الله وشهادته سبحانه لنفسه، لكن هل علم هؤلاء الآلهة بهذه الشهادة؟ إنْ علموا بهذه الشهادة فسكوتهم عليها وعدم اعتراضهم عَجْز، وإن لم يدروا فَهُم غافلون نائمون، ففي كلتا الحالتين لا يصحّ أن يكونوا آلهة.
وفي موضع آخر يردّ عليهم الحق سبحانه:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً.. }[الإسراء: 42] يعني في هذه الحالة{ لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42] يعني: ذهبوا يبحثون عن الإله الذي أخذ منهم الكون، وتعدَّى على سلطانهم، إما ليجابهوه ويحاكموه، وإما ليتقربوا إليه.
لذلك سيقول عن الذين تدَّعون أنهم آلهة من دون الله:{ يَبْتَغُونَ إِلَىا رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ.. }[الإسراء: 57] يعني: عيسى والعزير والملائكة الذين قلتم إنهم بنات الله، هؤلاء جميعاً يتوسلون إلى الله ويتقربون إليه{ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ.. }[الإسراء: 57].
وفي موضع آخر يقول تعالى:{ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ.. }[النساء: 172].
إنهم لا يستنكفون عن عبوديتهم لله، بل يعتزون بهذه العبودية، ويُغضبهم ويسوؤهم أن نقول عنهم آلهة، أو نعطيهم من التقديس أكبر مما يستحقون؛ ذلك لأن ولاءهم وعصبيتهم لله تعالى أكبر من ولائهم وعصبيتهم لأنفسهم.
لذلك، فإن هذه الأشياء التي يتخذونها آلهة من دون الله هي أول مَنْ يلعنهم، فالأحجار التي عبدوها من دون الله - مع أن كلمة العبادة هنا خطأ ونقولها تجاوزاً؛ لأن العبادة طاعة العابد لأمر المعبود، وانتهاؤه ينهيه، والأحجار ليس لها أوامر وليس لها نَوَاهٍ - هذه الأحجار أعبد منهم لله، وأعرف منهم بالله؛ لذلك تكرههم الحجارة وتلعنهم، وتتحول عليهم في القيامة ناراً تَحْرقهم.
اقرأ هذا الحوار الذي يتنافس فيه غار حراء الذي شهد بداية الوحي وأَنِس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول آيات القرآن، وغار ثور الذي احتمى فيه رسول الله عند الهجرة، وكلاهما أحجار، يقول الشاعر:

كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرى الرُّوحَ أميناً يغْذُوكَ بالأنْوارِفَحِراءُ وثَوْرُ صَارَا سَوَاءً بهما اشْفع لدولةِ الأحجارِعَبدُونا ونَحْن أَعْبَدُ لله مِنَ القائمين بالأسْحَارِتَخِذُوا صَمْتنَا علينا دليلاً فغدَوْنا لهم وَقُودَ النارِقد تجنَّوا جَهْلاً كما قد تجنَّوْه علَى ابْن مريم والحَوارِىللمُغَالِى جزاؤه والمغَالَى فيه تُنجيهِ رحمةُ الغَفارِلذلك يقول تعالى لعيسى عليه السلام:{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ.. }[المائدة: 116].
فيقول عيسى:{ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }[المائدة: 116].
نعم، الله تعالى يعلم ما قال عبده ونبيه عيسى، لكن يريد أنْ يقر عليهم بأنه كاره لقولهم هذه الكلمة.
والنبي صلى الله عليه وسلم حينما هُزِم الرومان من الفرس حزن لهزيمة الرومان، لماذا؟ لأنهم أهل كتاب يعرفون الله، ويعرفون البلاغ عن الله، وإنْ كانوا كافرين به، أما الفُرْس فكانوا مَجُوساً يعبدون النار؛ لذلك يُطمئنه ربه بقوله:{ الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ.. }[الروم: 1 - 5].
فإنْ كانوا لا يؤمنون بمحمد، فهم يؤمنون بربِّ محمد، فالعصبية - إذن - لله أكبر من العصبية للرسول المبلّغ عن الله.
ثم يقول سبحانه: } سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ { [المؤمنون: 91].
يصفون بمعنى: يكذبون، لكن عبَّر عنه بالوصف كأن المعنى: إنْ أردت أنْ تعرف الكذب فاسمع إلى كلامهم فهو الوصف الدقيق له، وقال في موضع آخر:{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ.. }[النحل: 62] فكلامهم هو الكذب بعينه، وهو أصدق وَصْف له؛ لأن الكذب ما خالف الواقع، وهم لا يقولون إلا ما خالف الواقع.
كما لو سألت: ما الحماقة؟ فأقول لك: انظر إلى تصرفات فلان، يعني: هي الوصف الصادق للحماقة، والترجمة الواضحة لها، وكأنه بلغ من الوصف مَبْلَغاً يُجسِّم لك المعنى الذي تريده.
ومعنى: } سُبْحَانَ اللَّهِ.. { [المؤمنون: 91] تنزه، وهي مصدر وُجِد قبل أنْ يُوجَد المسيح، فهي صفة لله تعالى أزلية، حيث ثبت تنزيه الله قبل أن يخلق الخَلْق، فلما خلق الله السماء والأرض سبَّحت لله:{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. }[الحديد: 1] ولم ينقطع التسبيح بعد ذلك، قال الحق سبحانه:{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ.. }[الجمعة: 1].
وما دام الكل يُسبّح لله، وما زال مُسبِّحاً، فسبِّح أنت يا محمد:{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَىا }[الأعلى: 1].
فكيف يكون الكون كله مُسبِّحاً، ولا تُسبِّح أنت، وأنت سيد هذا الكون؟
ثم يقول الحق سبحانه عن ذاته العلية: } عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَىا.. {.

(/2742)


عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)


العلم: إدراك قضية أو نسبة واقعة مجزوم بها وعليها دليل، ولا يصل إلى العلم إلا بهذه الشروط، فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وواقعة، لكن لا تستطيع أن تُدلِّل عليها كالطفل حين يقول: الله أحد، فهذا تقليد كما يُقلِّد الولدُ أباه أو معلمه، فهو يُقلِّد غيره في هذا المسألة إلى أنْ يوجد عنده اجتهاد فيها ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها.
فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وليست واقعة، فهذا هو الجهل، فليس الجهل كما يظن البعض الاَّ تعلم، إنما الجهل أن تجزم بقضية مناقضة للواقع.
لذلك تجد الجاهل أشقّ وأتعب لأهل الدعوة وللمعلمين من الخالي الذهن الذي لا يعرف شيئاً، ليست لديه قضية بدايةً، فهذا ينتظر منك أن تُعلِّمه، أمّا الجاهل فيحتاج إلى أن تُخرِج من ذِهْنه القضية الخاطئة أولاً، ثم تضع مكانها الصواب.
والغيب: المراد به الغيب المطلق يعني: ما غاب عنك وعن غيرك، فنحن الآن مشهد لمن حضر مجلسنا هذا، إنما نحن غيب لمن غاب عنه، وهذا غيْب مُقيد، ومنه الكهرباء والجاذبية وغيرهما؛ لأن هذه الأشياء كانت غَيْباً عَمَّنْ قبلنا مع أنها كانت موجودة، فلما توصلنا إلى مقدماتها ظهرت لنَا وصارت مشهداً؛ لذلك قال تعالى:{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ.. }[البقرة: 255].
فأثبت الإحاطة للناس لكن بشرط مشيئته تعالى، فإنْ شاء أطلعهم على الغيب، وأوصلهم إلى معرفته حين يأتي أجل ميلاده وظهوره.
إذن: المعلوم لغيرك وغَيْب عنك ليس غيباً، وكذلك الغيب عنك وله مقدمات تُوصِّل إليه ليس غيباً، إنما الغيب هو الغيب المطلق الذي غاب عنك وعن غيرك، والذي قال الله تعالى عنه:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ.. }[الجن: 27].
والشهادة: يعني المشهود، لكن ما دام الحق سبحانه يعلم الغيب، فمِنْ باب أَوْلَى يعلم المشهود، فلماذا ذكر الشهادة هنا؟ قالوا: المعنى: يعلم الغيب الذي غيِّب عني، ويعلم الشهادة لغيري.
ومن ناحية أخرى: ما دام أن الله تعالى غيْب مستتر عنا، وهناك كوْن ظاهر، فربما ظن البعض أن المستتر الغيب لا يعلم إلا الغيب، فأراد - سبحانه وتعالى - أن يؤكد على هذه المسألة، فهو سبحانه غيب، لكن يعلم الغيب والشهادة.
ونرى من الناس مَنْ يحاول أن يهتك ستار الغيب، ويجتهد في أن يكشف ما استتر عنه، فيذهب إلى العرافين والمنجِّمين وأمثالهم، وهو لا يدري أن الغيب من أعظم نِعَم الله على خَلْقه، فالغيب هو علة إعمار الكون، وبه يتم التعامل بين الناس، ذلك لأن الإنسان ابن أغيار، كثير التقلُّب، ولو علم كل منا وكُشِف له ما عند أخيه لتقاطع الناس، وما انتفع بعضهم ببعض.
لذلك يقولون: لو تكاشفتم ما تدافنتم.

يعني: لو كُشِف لك عما في قلب أخيك لَضننْتَ عليه حتى بدفنه بعد موته.
إذن: فجَعْل هذه المسائل غَيْباً مستوراً يُحنِّن القلوب، ويثري الخير بين الناس، فينتفع كل منهم بالآخر، وإلا لو عَلِمتَ لواحد سيئة، وعرفتَ موقفه العدائي منك لكرهتَ حتى الخير الذي يأتيك من ناحيته، ولتحرك قلبك نحوه بالحقد والغل، وما انتفعتَ بما فيه من حسنات.
لذلك، نقول لمن يبحث عن غيْب الآخرين: إنْ أردتَ أن تعرف غَيْب غيرك، فاسمح له أن يعرف غَيْبك، ولن تسمح له بذلك، إذن: فدَعْ الأمر كما أراده الله، ولا تبحث عن غَيْب الآخرين حتى تستقيمَ دفّة الحياة.
وربك دائماً يلفتك إلى النظر إلى المقابل ، ففي الحديث القدسي: " يا ابن آدم، دعوت على مَنْ ظلمك، ودعا عليك مَنْ ظلمته، فإنْ شئت أجبناك وأجبنا عليك، وإن شئت تركتكما إلى الآخرة فيسعكما عفوي ".
فالحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يُصفِّي نفوس الخَلْق، وأن يقف الناس عند حدود ما أطلعك الله عليه، ولا تبحث عن المستور حتى لا تتعب نفسك، حتى تواجه مشاكل الحياة بنفسٍ صافية راضية عنك وعن الناس.
ثم يقول الحق تعالى: } فَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ { [المؤمنون: 92] لأن ما تشركونهم مع الله لا يعلمون شيئاً من هذا كله، لا غَيْباً ولا شهادة؛ لذلك لا ينفعك إنْ عبدتْه، ولا يضرك إنْ لم تعبده.
ثم يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: } قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي.. {.

(/2743)


قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)


{ قُل.. } [المؤمنون: 93] أمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { رَّبِّ.. } [المؤمنون: 93] منادى حُذِفَتْ منه أداة النداء يعني: يا رب { إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } [المؤمنون: 93] يعني: من العذاب { رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [المؤمنون: 94] أي: إن قدَّرتَ أن تعذبهم في حياتي فلا تُعذِّبهم وأنا فيهم.
وهذا من رقة قلبه صلى الله عليه وسلم، وحين اشتد به إيذاء الكفار وعنادهم في أوَل الدعوة أرسل الله إليه الملائكة تعرض عليه الانتقام من قومه المكذِّبين به، لكنه يأبى ذلك ويقول: " اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون " ويقول: " لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم مَنْ يقول: لا إله إلا الله ".
كما أن موقفه يوم فتح مكة واضح ومعروف؛ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أُرسِل رحمة للعالمين.
لكن، هل قال الرسول ودعا بهذا الدعاء لأنه يعتقد أن الله يجعله معهم حين ينزل بهم العذاب؟ نقول: لا؛ لأنه لم يقُلْ هذه الجملة من نفسه، إنما أمره الله بها، ولم يكُنْ رسول الله ليعتقد هذا الاعتقاد، إذن: المسألة وَحْي من الله لا بُدَّ أن يُبلِّغه، وأن يقولها كما قالها الله؛ لأن مدلولها رحمة به في ألاَّ يرى مَنْ يعذب، أو من باب قوله تعالى:{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً.. }[الأنفال: 25].
وهذا الدعاء الذي دعا به رسول الله يدفع عنه أيَّ خاطر يطرأ عليه، ويطمئنه أن هذا الأمر لن يحدث.
وقوله: { إِمَّا تُرِيَنِّي.. } [المؤمنون: 93] عبارة عن (إنْ) و (مَا) وهما يدلان على معنى الشرطية والزمنية، فكأنه قال: قُلْ ساعةَ أن ينزل بهم العذاب: ربِّ لا تجعلني في القوم الظالمين.

(/2744)


وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)


أي: أننا قادرون على أن نُريك شيئاً مما وعدناهم به من العذاب، لكنه ليس عذاب الاستئصال؛ لأن الله تعالى أكرم أمتك - حتى الكافر منها - بأن عافاها من هذا العذاب، لأنه يأتي على الكافرين فلا يُبقِي منهم أحداً، ويمنع أن يكون من ذريتهم مؤمن بالله. فهَبْ أن عذاب الاستئصال نزل بهم في بدر مثلاً، أكُنَّا نرى المؤمنين منهم ومن ذرياتهم بعد بدر؟
إذن: لا يكون عذاب الاستئصال إلا إذا عَلِم الله تعالى أنه لا فائدة منهم، ولا حتى من ذريتهم من بعدهم، كما حدث مع قوم نوح، أَلاَ ترى نوحاً عليه السلام يقول عنهم:{ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً }[نوح: 27].
ولا يمكن أن يقول نوح هذا الكلام، أو يحكم على قومه هذا الحكم إلا بوحْيٍ من الله؛ لأنه لا يستطيع أن يحكم على هذه القضية الكونية التي لا يعلمها إلا المكِّون الأعلى سبحانه، فنحن نرى عُتَاة الكفر ورؤوس الضلال، ثم يؤمنون بعد ذلك كله ويبْلُون في الإسلام بلاءً حَسَناً.
وانظر إلى عكرمة وخالد وعمرو بن العاص، وكم تألَّم المؤمنون وحَزِنوا لأنهم أفلتوا من القتل، لكن لله تعالى تدبير آخر، وكأنه يدخرهم لخدمة الإسلام وحماية الدعوة.
فعكرمة بن أبي جهل يُظهِر شجاعة نادرة في موقعه اليرموك حتى يُطعَن طعنةَ الموت، ويستند إلى عمر ويقول وهو يجود بروحه في سبيل الله: أهذه ميتة تُرضِي عني الله ورسوله؟ هذا في يوم الخندمة الذي قال فيه الشاعر:إنَّك لَوْ شَاهَدت يَوْمَ الخنْدَمه إذْ فَرَّ صَفْوانُ وفَرَّ عِكْرمَه ولحقتْنَا بالسُّيوفِ المسْلمه يَفْلِقْنَ كُلَّ سَاعِد وجُمْجُمْه ضَرْباً فَلاَ تُسْمَعُ إلاّ غَمْغَمَه لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَهُ وحَمْحَمَه لَمْ تنْطِقي باللَّوْمِ أدْنى كِلمَه أما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد كان من أمرهما ما نعرف جميعاً.

(/2745)


ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)


{ ادْفَعْ.. } [المؤمنون: 96] تدل على المدافعة يعني: أمامك خصم يهاجمك، يريد أن يؤذيك، وعليك أن تدفعه عنك، لكن دَفْع بالتي هي أحسن أي: بالطريقة أو الحال التي هي أحسن، فإنْ أخذك بالشدة فقابِلْه باللين، فهذه هي الطريقة التي تجمع الناس على دعوتك وتؤلِّفهم من حولك.
كما جاء في قوله تعالى:{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ.. }[آل عمران: 159].
فإنْ أردتَ أن تعطفهم نحوك فادفع بالتي هي أحسن، ومن ذلك الموقف الذي حدث من رسول الله يوم الفتح، يوم أنْ مكّنه ربه من رقاب أعدائه، ووقف أمامهم يقول: " يا معشر قريش، ما تظنون أنَّي فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
ونلحظ أنهم كلموه بما يستميل قلبه ويعطفه نحوهم، وذكَّروه بأواصر القرابة والرحم، وحدَّثوه بما يُحنِّن قلبه، ولقّنوه ما ينتفعون هم به: أخ كريم وابن أخ كريم، ولم يقولوا مثلاً: أنت قائد منتصر تستطيع أن تفعل بنا ما تشاء.
وفعلاً كان من هؤلاء ومن ذرياتهم نصراء للإسلام وأعوان لدعوة رسول الله.
وقصة فضالة الذي كان يبغض رسول الله، حتى قال قبل الفتح: والله ما أحد أبغض إلىَّ من محمد، وقد زاد غيظه من رسول الله حينما رآه يدخل مكة ويُحطِّم الأصنام، فأراد أنْ يشقَّ الصفوف إليه ليقتله، وبعدها قال: " فو الله، ما وضعتُ يدي عليه حتى كان أحب خَلْق الله إلىَّ ".
لكن ماذا ندفع؟ ندفع (السيئة). ونلحظ هنا أن ربنا - تبارك وتعالى - يدعونا أن ندفع السيئة بالتي هي أحسن، لا بالحسن؛ لأن السيئة يقابلها الحسنة، إنما ربك يريد أن يرتقي بك في هذا المجال، فيقول لك: ادفع السيئة بالأحسن.
وفي موضع آخر يعطينا ثمرة هذا التصرُّف الإيماني:{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34] ولو تأملتَ معنى هذه الآية لوجدتَ أن المجازاة من الله، وليست ممّنْ عاملْتَه هذه المعاملة؛ لأن الله تعالى يقول:{ كَأَنَّهُ.. }[فصلت: 34] ولم يقل: يصبح لك ولياً حميماً.
ذلك لأنك حين تدفع بالتي هي أحسن يخجل منك صاحبك، ويندم على إساءته لك، ويحاول أنْ يُعوِّضك عنها فيما بعد، وألاَّ يعود إلى مثلها مرة أخرى، لكنه مع كل هذا لا يُسمَّى ولياً حميماً، إنما هو ولي وحميم؛ لأنه كان سبباً في أنْ يأخذك ربك إلى جانبه، ويتولاك ويدافع عنك.
لذلك لما شتم أحدهم الحسن البصري وسبَّه في أحد المجالس، وكان في وقت رُطَب البلح أرسل الحسن إليه طبقاً من الرُّطَب وقال لخادمه: اذهب به إلى فلان وقُلْ له: لم يجد سيدي أثمن من هذا يهديه إليك، وقد بلغه أنك أهديت إليه حسناتك بالأمس، وهي بلا شك أعظم من هديتي تلك.

إذن: من الغباء أن نتناول الآخرين بالهَمْز واللمز والطعن والغيبة؛ فإنك بهذا الفعل كأنك أهديتَ لعدوك حسناتك، وأعطيتَ أعظم ما تملك لأبغض الناس إليك.
ألاَ ترى موقف الأب حين يقسو على ولده، فيستسلم له الولد ويخضع، أو يظلمه أخوه فيتحمل ظُلْمه ولا يقابله بالمثل، ساعتها يحنو الأب على ولده، ويزداد عطفاً عليه، ويحرص على ترضيته، كذلك يعامل الحق - تبارك وتعالى - العباد فيما بينهم من معاملات - ولله المثل الأعلى. لذلك قلنا: لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الجزاء لَضنَّ عليه بالظلم؛ لأنه سيظلمه من ناحية، ويُرضيه الله من ناحية أخرى.
ويقال: إنه كان عند أحد الملوك رجل يُنفِّس فيه الملك عن نفسه، فإنْ غضب استدعى هذا الرجل وراح يشتم فيه ويسبُّه أمام الناس حتى يهدأ، فإذا أراد أن ينصرف الرجل أخذه على انفراد وأعطاه كيساً من المال، وفي أحد الأيام احتاج هذا الرجل إلى مال ليقضي أمراً عنده، فحاول أنْ يتمحّك ليصل إلى الملك، ثم قال له: ألستَ في حاجة لأنْ تشتمني اليوم؟
فمسألتنا بهذا الشكل، إذن: ما عليك إلا أنْ تدفع بالتي هي أحسن، فإنْ صادفتَ من صاحبك مودة وصفاءً، وإلا فجزاءُ الله لك أوسع، وعطاؤه أعظم، وما أجمل قول الشاعر حين عبَّر عن هذا المعنى:يا مَنْ تُضَايِقه الفِعَال مِنَ التي ومِنَ الذيِ ادْفَعْ فدَيْتُكَ بالتي حَتَّى تَرَى فَإذَا الذِييعني: إن أردتَ الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؛ فاعمل بالتي هي أحسن.
ثم يقول سبحانه: } نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ { [المؤمنون: 96] معناه: أنت يا محمد تأخذ بحقك من هؤلاء إذا كنا نحن لا نعرف ما يفعلونه بك، لكن الحال أننا نعرفه جيداً ونحصيه عليهم، وقد أعددنا لهم الجزاء المناسب، فدَعْ هذه المسألة لنا ولا تشغل نفسك بها.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أن يُنزِّه ذات رسوله صلى الله عليه وسلم من انفعالات الغضب، وألاّ ينشغل حتى بمجرد الانفعال؛ لأنه حين يتعرّض لك شخص بسيئة تريد أن تجمع نفسك لترد عليه، وخصوصاً إذا كان هذا الرد مخالفاً لطبْعِك الحسن وخُلُقك الجميل، فكأنه يكلفك شيئاً فوق طاقتك.
فالله تعالى يريد أن يرحم نبيه وأن يريحه: دَعْكَ منهم، وفوِّض أمرهم إلينا، فنحن أعلم بما يصفون أي: بما يكذبون في حقك.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ {.

(/2746)


وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)


لماذا جاءتْ الاستعاذة من همزات الشياطين بعد هذه المسألة؟ قالوا: لأن الشيطان يريد أن يتدخل، ويُظهِر لك أنه معك، وأنه يَغَار عليك، فيحرضك عليهم ويُغريك بهم، ويدفعك إلى الانتقام منهم والتسلُّط عليهم.
وهمزات: جمع هَمْزة، وهي النزْعة أو النخسة يثير بها الشيطان الإنسان، ومنه قوله تعالى:{ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. }[الأعراف: 200].

(/2747)


وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)


يعني: إنْ دخل عليك الشيطان بهَمْزه ووسوسته فقل: أعوذ بالله من همزات الشياطين، بل وأزيد من ذلك الزم جانب الحَيْطة معه، فقُلْ: أعوذ بالله أن يحضرون مجرد حضور، وإن لم يهمزوا لي، فأنا لا أريدهم في مَحْضري، ولا أريد أن أجالسهم.

(/2748)


حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)


ذلك لمجرد أن تحضره سكرات الموت ويُوقِن أنه ميّت تتكشف له الحقائق ويرى ما لا نراه نحن، كما جاء في قوله تعالى:{ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }[ق: 22].
فيتمنى الإنسان أن يرجع إلى الدنيا وهو ما يزال يحتضر، لماذا؟ لأنه رأى الحقيقة التي كان ينكرها ويُكذِّب بها، والذين يشاهدون حال الموتى ساعة الاحتضار يروْنَ منهم إشارات تدلّ على أنهم يروْنَ أشياء لا نراها نحن، كُلٌّ حَسْب حالة وخاتمته.
وأذكر حين مات أبي، وكان على صدري ساعتها أنه قال لي: يا أمين - وهذا اسمي في بلدي - كيف تبني كل هذه القصور ولا تخبرني بها؟
والجنود الذين صاحوا في المعركة: هُبِّي يا رياح الجنة. لا بُد أنهم رأوها وشَمُّوا رائحتها، وإلا ما الذي جعلهم يتلهفّون للموت، ويشتاقون للشهادة إلا أنهم يرون حالاً ينتظرهم أفضل مما هم فيه.
ومن هؤلاء الصحابي الجليل الذي حدثَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهداء عند الله، وكان في يده تمرات أو في فمه يمضغها، فقال: يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فأُقتل في سبيل الله؟ قال: نعم، فألقى التمرة من فمه ومضى إلى المعركة.
كأنه استكثر أن يقعد عن طلب الجنة مدة مَضْغ التمرات. فإلى هذه الدرجة بلغ يقينُ هؤلاء الرجال في الله وفي رسول الله.
ونلحظ في هذه الآية: { حَتَّىا إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ.. } [المؤمنون: 99] هكذا بصيغة المفرد { قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } [المؤمنون: 99] جاء بالجمع على سبيل التعظيم، ولم يقل: ربِّ ارجعني، كما جاء في قوله تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9].
فهنا الحق - تبارك وتعالى - يُعظِّم ذاته، لكن هذا يُعظِّم الله الآن، وهو في حال الاحتضار، وقد كان كافراً به، وهو في سَعَة الدنيا وبحبوحة العيش.
أو: أنه كرر الطلب: أرجعني أرجعني أرجعني، فجمعها الله تعالى. أو: أنه استغاث بالله فقال: ربّ ثم خاطب الملائكة: ارجعون إلى الدنيا.
لكن، لماذا الرجوع؟
{ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي: أنني تركتُ كثيراً من أعمال الخير، فلعلِّي إنْ رجعتُ بعد أنْ عاينتُ الحقيقة أستدرك ما فاتني من الصالحات، أو لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركتُ، لأنني ضننْتُ بمالي وبمجهودي وفَضْلي على الناس، وكنْزتُ المال الكثير، وتركتُه خلفي ثم أُحاسب أنا عليه، فإنْ عُدت قدمته وأنفقته فيما يدخر لي ليوم القيامة.
ثم تأتي الإجابة: { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا.. } [المؤمنون: 100] أي: قوله: ارجعون لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركت، إنها مجرد كلمة لا واقع لها، كلمة يقولها وقت الضيق والشدة، فالله تعالى لن يرجعهم، ولو أرجعهم ما فعلوا؛ لذلك نفاها بقوله (كلا) التي ترد على قضايا تريد إثباتها، ويريد الله تعالى نفيها كما ورد في سورة الفجر:

{ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15 - 16].
فيرد الحق سبحانه: (كلا) لا أنت صادق ولا هو، فليس المال والغِنَى وكثرة العَرض دليل إهانة، ولا الفقر دليل إهانة، فكلتا القضيتين خطأ، بدليل أنك إذا أعطاك الله المال، ثم لا تؤدي فيه حَقَّ الله وحَقَّ العباد، ولا يعينك على أداء ما فُرِض عليك صار المال وبالاً عليك وإهانة لا كرامة. ما جدوى المال إنْ دخلتَ في قوله تعالى:{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ }[الفجر: 17]؟ ساعتها سيكون مالك حُجَّة عليك.
كذلك الحال مع مَنْ يظن أن الفقر إهانةٌ، فإنْ سلب الله منك المال الذي يُطغيك فقد أكرمك، وإنْ كنت لا تدري بهذا الإكرام.
ثم يقول سبحانه: } وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ { [المؤمنون: 100] أي: كيف يتمنوْنَ الرجوع وبينهم وبينه برزَخ يمنعهم العودة إلى الدنيا؛ لذلك تُسمَّى الفترة بين الحياة الدنيا والآخرة بالحياة البرزخية، فليست من الدنيا، وليست من الآخرة.
وفي موضع آخر يُصوِّر الحق سبحانه هذا الموقف بقوله:{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ.. }[الأنعام: 28] أي: لو رددناهم من الآخرة لعادوا لما كانوا عليه من معصية الله، وإنْ كانت هذه قضية عقلية ففي واقعهم ما يثبت صِدْق هذه القضية، واقرأ فيهم قول الله تعالى:{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ.. }[الإسراء: 83] فأخذ نعمة الله وتقلَّب فيها، ثم تنصَّل من طاعة الله.
ويقول تعالى في هذا المعنى أيضاً:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ.. }[يونس: 12].
إذن: المسألة اضطرارات، كلما اضطروا دَعَوا الله ولجئوا إليه، وتوسَّلوا، فخذوا من واقع حياتهم ما يدل على صِدْق حكمي عليهم لو عادوا من الآخرة.
والبرزخ: هو الحاجز بين شيئين، وهذا الحاجز يأخذ قوته من صاحب بنائه، فإنْ كان هذا الحاجز من صناعته - سبحانه وتعالى - فلن ينفذ منه أحد.
ومن ذلك قوله تعالى:{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ }[الرحمن: 19 - 20] وما داما يلتقيان، فما فائدة البرزخ هنا؟
قالوا: نعم يلتقيان، ولا يبغي أحدهما على الآخر؛ لأن المسألة ليست سَدَّاً أو بناءً هندسياً، إنما برزخ خاصٌّ لا يقدر عليه إلا طلاقة القدرة الإلهية التي خرقتْ النواميس، فجعلتْ الماءَ السائلَ جبلاً ، بعد أن ضربه موسى بعصاه، فصار كل فِرْق كالطود العظيم، طلاقة القدرة التي فجرت الحجر عيوناً.
إذن: المسألة ليست (ميكانيكا) كما يظن البعض.

والبرزخ بين الماء المالح والماء العَذْب آية من آيات الله شاخصة أمامنا، يمكننا جميعاً أنْ نتأكد من صحة هذه الظاهرة.
لكن هذا البرزخ من أمامهم، فلماذا قال تعالى: } وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ { [المؤمنون: 100].
قالوا: لأن اللفظ الواحد يُطلق في اللغة وله معَانٍ عدَّة واللفظ واحد؛ لذلك يُسمُّونه المشترك، فمثلاً كلمة عَيْن تطلق على العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وتُقال للذهب وللفضة، وللرجل البارز في قومه، والسياق هو الذي يُحدِّد المعنى المراد؛ لذلك على السامع أن تكون عنده يقظة ليردّ اللفظ إلى المعنى المناسب لسياقه.
وكذلك كلمة (النجم) فتعني الكوكب في السماء، وتعني كذلك مَا لا ساقَ له من النبات، وهو العُشْب الذي ترعاه البهائم، ومنه قول الشاعر:أُرَاعي النجْمَ في سَيْري إليكُمُ ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوَادِيَفكلمة (وراء) تُطلَق ويُراد بها معانٍ عدة، قد تكون متقابلة يُعيِّنها السياق، فتأتي وراء بمعنى (بَعْد) كما في قوله تعالى:{ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }[هود: 71] وتأتي بمعنى (غَيْر) كما في قوله تعالى:{ فَمَنِ ابْتَغَىا وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْعَادُونَ }[المؤمنون: 7].
وتأتي بمعنى (أمام) كما قوله تعالى:{ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً }[الكهف: 79] فالملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة قادمة. وكذلك في قوله تعالى:{ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ }[إبراهيم: 16].
فقوله تعالى: } وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ { [المؤمنون: 100] أي: أمامهم.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ.. {.

(/2749)


فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)


الصُّور: البُوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية للبعث.
والأنساب: جمع نَسَب، وهو الالتقاء في أصل مباشر، كالتقاء الابن بالأب، أو الأب بالابن، أو التقاء بواسطة كالعمومة والخؤولة.
والنسب هو أول لُحمة في الكون تربط بين الناس في مصالح مشتركة، وهو الالتقاء الضروري الذي يوجد لكل الناس، فقد لا يكون لك أصدقاء ولا أصحاب ولا زملاء عمل، لكن لا بُدَّ أن يكون لك نَسَب وقرابة وأهل.
فحين ينفي الحق - سبحانه وتعالى - النسب يقول: { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ.. } [المؤمنون: 101] فليس النفي لوجود النسب، فإذا نُفِخ في الصور منعت البُنوَّة من الأبوة، أو الأبوة من البنوة. إنما النسب موجود حقيقة، لكن لأن النسب المعروف فيه التعاون على الخير والتآزر في دفع الشر، فالنفي هنا لهذه المنفعة في هذا اليوم بالذات حيث لا ينفع أحد أحداً، فالنسب موجود لكن دون نفع، فالنفع من أمور الدنيا أن يُوجد قوي وضعيف، فالقوي يُعين الضعيف، ويفيض عليه، أمّا في هذا الموقف فالكل ضعيف.
كما قال تعالى:{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس: 34 - 37].
ويقول:{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ }[المدثر: 38].
لذلك حينما حدَّثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا سنُحشر يوم القيامة حُفَاة عُراة تعجبت السيدة عائشة، واستحيتْ من هذا الموقف، فأخبرها رسول الله أن الأمر ليس كذلك، فهذا موقف ينشغل كُلٌّ بنفسه، والحال أصعب من أن ينظر أحد لأحد.
إذن: النفي لنفع الأنساب، لا للأنساب نفسها.
وإنْ كان نفع الأنساب يمتنع لهول الآخرة فقد يتسامى الإنسان فيمنع نفعه حتى في الدنيا عن ذوي قرابته إنْ كانوا غير مؤمنين، وقد ضربها الله مثلاً في قصة نوح - عليه السلام - وولده، وخاطبه ربه:{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ.. }[هود: 46] فامتنع النسب حتى في الدنيا، فالنبوة ليست بُنوة الدم واللحم، البنوة - خاصة عند الأنبياء - بنوة عمل واتباع.
وإذا تأملتَ تاريخ المسلمين الأوائل لوجدتهم يعتزُّون بالإسلام، لا بالأنساب، فالدين والعقيدة هما اللُّحمْة، وهما الرابطة القوية التي تربط الإنسان بغيره، وإنْ كان أدنى منه في مقاييس الحياة.
قرأنا في قصة بدر أن مصعب بن عمير - رضوان الله عليه - وكان فتى قريش المدلل، وأغنى أغنيائها، يلبس أفخر الثياب ويعيش ألين عيشة، فلما أُشرِب قلبه الإيمان زهد في كل هذا النعيم، وحُرِم من خير أهله، ثم هاجر إلى المدينة، وهناك رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس جلد شاة فقال: " انظروا ماذا فعل الإيمان بأخيكم ".
وفي المعركة، رأى مصعب أخاه أبا عزيز أسيراً في يد واحد من الأنصار هو الصحابي أبو اليَسَر فقال له مصعب: اشدد على أسيرك - يعني: إياك أن يفلت منك - فإن أُمَّه غنية، وستفديه بمال كثير، فنظر أو عزيز إلى مصعب وقال: أهذا وصاتك بأخيك؟ فقال: هذا أخي دونك.

إذن: فلا أنسابَ بينهم، حتى في الدنيا قبل الآخرة.
وفي غزوة أحد استُشهد مصعب بن عمير، ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا ثوباً قَصيراً، إنْ غطى رأسه انكشفتْ رِجْلاه، وإنْ غطّى رِجْلَيْه انكشفت رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " غطوا رأسه، واجعلوا على رِجْلَيْه من الإذخر ".
والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان لما أسلمتْ وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، لكن اتهمها البعض بأنها هاجرت لا من إجل دينها، ولكن من أجل زوجها، فيشاء الله تعالى أن يُظهِر براءتها، فينتصَّر زوجها عبيد الله بن جحش هناك وتظل هي على الإيمان، ولَما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرها أراد أن يعوضها فخطبها لنفسه، ولم ينتظر إلى أن تجيء ليعقد عليها، فوكّل النجاشي ملك الحبشة ليعقد له عليها.
وبعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أبوها سفيان زيارتها، وكانت تمهِّد فراش رسول الله، فلما أراد أبو سفيان أن يجلس عليه نَحَّتْهُ جانباً، ومنعتْه أن يجلس - وهو كافر - على فراش رسول الله، فقال: أضنَاً بالفراش عليَّ؟ فقالت: نعم.
إذن: نَفْع الأنساب يمتنع في الدنيا قبل امتناعه في الآخرة، لكن الحق - سبحانه وتعالى - تفضّل بأن أبقى مطلوبات النسب في الدنيا ودعانا إلى الحفاظ عليها حتى مع الكافرين؛ لأنه سبحانه وَسِع الكافر، فعلى المؤمن أن يسعه من باب أَوْلَى، فإنْ رأيت الكافر في شدة وقدرت أن تُعينه فَاعِنْه.
واقرأ في هذا قوله تعالى:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً.. }[لقمان: 15].
فهما كافران، بل ويريدانك كافراً، ومع ذلك احفظ لهما حَقَّ النسب، ولا تقطع الصلة بهما.
ويُرْوَى أن إبراهيم - عليه السلام - وقد أعطاه الله الخُلَّة، وقال عنه:{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىا }[النجم: 37] وابتلاه بكلمات فأتمهُنَّ، مرَّ عليه عابر سبيل بليل، فقبل أن يُدخِله ويُضيفه سأله عن ديانته، فأخبره أنه غير مؤمن، فأعرض عنه إبراهيم - عليه السلام - وتركه ينصرف، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم وسعْتُ عبدي وهو كافر بي، وتريده أن يغير دينه لضيافة ليلة؟ فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب ربه له في شأنه، فقال الرجل: نِعْم الرب الذي يعاتب أحبابه في أمر أعدائه، وشهد أن لا إله إلا الله وأن إبراهيم رسول الله.
ويرتقي أهل المعرفة بالنسب، فيروْنَ أنه يتعدَّى الارتباط بسبب وجودك، وهو الأب أو الأم، فالنسب وإن كان ميلاد شيء من شيء، أو تفرُّع شيء من شيء، فهناك نسب أعلى، لا لمن أوجدك بسبب، وإنما لمن أوجدك بلا سبب الوجود الأول، فكان عليك أن تراعي هذا النسب أولاً الذي أوجدك من عدم، وإنْ أثبت حقاً للوالدين؛ لأنهما سبب وجودك.

فكيف بالموجد الأعلى؟
وقوله تعالى: } وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ { [المؤمنون: 101] سأل: تقتضي سائلاً ومسئولاً، أمّا الفعل (تساءل) فيدل على المفاعلة يعني: كل منهما سائل مرة، ومسئول أخرى، كما تقول: شارك محمد عمرًا، وقاتل.. الخ.
وقد اعترض على هذه الآية بعض المستشرقين الذين يحبون أن يتوركوا على كتاب الله، قائلين: إن المسلمين ينظرون إلى كتاب الله بمهابة وتقديس يمنعهم ويحجب عقولهم عن تعقُّل ما فيه، لماذا وقد قال تعالى عن القرآن:{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء: 82]؟
يقول هؤلاء: إن القرآن نفى التساؤل في هذه الآية، وأثبته في قوله تعالى:{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ }[الطور: 25] في الحوار بين الكفار.
وهناك تساؤل بين المؤمنين والكافرين:{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ }[المدثر: 38 - 46].
ومرة يكون التساؤل بين المؤمنين بعضهم وبعض:{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ }[الطور: 25 - 28].
إذن: كيف بعد ذلك ينفي التساؤل؟ ويقول: } وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ { [المؤمنون: 101].
وهذا التضارب الذي يروْنَه تضارب ظاهري؛ لأنه هناك فرقاً بين أن تسمع عن شيء وبين أن تُفاجأ به وأنت غير مؤمن، لقد قالوا:{ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }[المؤمنون: 37].
فحين فُوجئوا بالنفخ في الصُّور، وداهمتهم القيامة التي كانوا يُكذِّبون بها بُهِتوا ودُهِشُوا، وخرست ألسنتهم عن الكلام من شدة دهشتهم، وكيف وما كانوا ينكرونه ماثل أمامهم فجأة، ثم يتدرجون من هذه الحالة إلى أن يأخذوه أمراً واقعاً لا مَفرَّ منه، فيبدأون بالكلام ويسأل بعضهم بعضاً عَمَّا هم فيه وعَمَّا نزل بهم.
إذن: فالسؤال له زمن، ونَفْي السؤال له زمن؛ لذلك يقولون في مثل هذه المسألة أن الجهة مُنفكَّة، فإذا رأيتَ شيئاً واحداً أُثبتَ مرة، ونُفِي أخرى من قائل واحد منسوب إلى الحكمة وعدم التضارب، فاعلم أن الجهة مُنفكّة.
ومثل هذا الموقف من أهل الاستشراق وقفوه أيضاً في سؤال أهل المعاصي، حيث يقول تعالى في إثبات سؤالهم:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24] ويقول في نفي سؤالهم{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }

[الرحمن: 39] فكيف يثبت الفعل وينفيه، والفاعل واحد؟
وهذا الاعتراض منهم ناشيء عن عدم فَهْم للغة القرآن والمَلَكة العربية، أو لأنهم يريدون مجرد الاستدراك على كتاب الله وإثارة الشكوك حوله. لكن رُبَّ ضارَّة نافعة، فقد حرّكت شكوكهم ومآخذهم علماء المسلمين للتصدِّي لهم، وللرد على أباطيلهم وكشف نواياهم، فمثلنا كمثل الذي يستعد لملاقاة المرض بالطُّعْم المناسب الذي يعطي للجسم مناعة وحصانة ضد هذا المرض.
وسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان القرآن ينطق على وَفْق ما يريد، يرى الناس يُقبِّلون الحجر الأسود، فتوقع أن يتكلم الناس في هذه المسألة، وكيف أن الدين ينهاهم عن عبادة الأصنام وهي حجارة ويأمرهم بتقبيل الحجر، وكان رضي الله عنه يُقبّله ويقول: " والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبّلك ما قبَّلتك ".
فلفت الناس إلى أصل التشريع وأن الحجرية لا عبادةَ لها عندنا، لكن عندنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُشرِّع لنا وواجب علينا اتباعه، وهكذا كان ردّ عمر على مَنْ أثاروا هذه الفتنة.
ولما تكلم عمر في غلاء المهور وكان مُلْهماً يوافق قولُه قولَ القرآن الكريم، وقفتْ له امرأة وراجعته وقالت له: اخطأتَ يا عمر، كيف تنهى عن الغلاء في المهور، والله تعالى يقول:{ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً.. }[النساء: 20].
فأجار أن يكون المهر قنطاراً من ذهب، عندها قال عمربجلالة قدره: " أصابت امرأة وأخطأ عمر " ليبين أنه لا كبيرَ أمام شرع الله.
إذن: هذه مسائل مرسومة ولها أصل، يجب أن تُعلم لنردّ بها حين نسأل في أمور ديننا.
نعود إلى مسألة سؤال أهل المعصية، حيث نفاه القرآن مرة وأثبته أخرى. ونقول: جاء القرآن بأسلوب العرب وطريقتهم، والسؤال في الأسلوب العربي إما سؤال مِمَّنْ يجهل ويريد المعرفة، كما يسـأل التلميذ مُعلِّمه، أو يسأل العالم الجاهل لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما يريد.
فإذا نفى الله تعالى السؤال، فلا تظنوا أنه يسألكم ليعرف منكم، إنما يسألكم لتقروا؛ لذلك قال سبحانه:{ كَفَىا بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }[الإسراء: 14].
إذن: إثبات السؤال له معنى، ونَفْيه له معنى، فإذا نفى فقد نفى سؤال العلم من جهتهم، وإذا أثبت فقد أثبت سؤال الإقرار من جهتهم؛ لتكون الحجة ألزم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثال: التلميذ المهمل الذي يتظاهر أمام أبيه بالمذاكرة، فيفتح كتابه ويهزّ رأسه كأنه يقرأ، فإذا ما سأله والده لم يجده حصَّل شيئاً، فيقول له: ذاكرت وما ذاكرت.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَىا }[الأنفال: 17] هكذا نَفْي وإثبات في آية واحدة لفاعل واحد، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ فعلاً حَفْنة من الحصى ورَمَى بها نحو الأعداء، لكن هل في قدرته أن يُوصّل هذه الحفنة إلى أعين الأعداء جميعاً؟ فالعمل والرمي للرسول، والنتيجة والغاية لله عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانة: } فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ.. {.

(/2750)


فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)


ثقُلَتْ وخفَّتْ هنا للحسنات. يعني: كانت حسناته كثيرة أو كانت قليلة.
ويمكن أن نقول: ثقلت موازينه بالسيئات يعني: كثُرَتْ الحسنات، لكن القرآن تكلم من ناحية أن العمدة في الأمر الحسنات.
والميزان يقوم على كِفَّتين في أحدهما الموزون، وفي الأخرى الموزون به، وللوزن ثلاث صور عقلية: أن يخفّ الموزون، أو يخف الموزون به، أو يستويا، وقد ذكرت الآية حالتين: خفت موازينه، وثقلت موازينه، كما جاء في قوله تعالى:{ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ }[القارعة: 6 - 11].
أما حالة التساوي فقد جاءت لها إشارة رمزية في سورة الأعراف:{ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }[الأعراف: 46 - 47].
فمَنْ غلبت حسناته ذهب إلى الجنة، ومَنْ غلبت سيئاته ذهب إلى النار؛ وبقي أهل الأعراف بين الجنة والنار؛ لأنهم تساوت عندهم كِفَّتا الميزان، فلا هو من أهل الجنة، ولا هو من أهل النار، فهم على الأعراف، وهو السُّور بين الجنة والنار ينظرون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
ثم يقول تعالى في شأنهم:{ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ }[الأعراف: 46]؛ لأن رحمة الله سبقتْ غضبه، وعفوه سبق عقابه.
ومعنى ثقلت موازينه وخفت موازينه يدل على أن الأعمال تصبح ولها كثافة وجِرْم يعطي ثقلاً، أو أن الله تعالى يخلق في كل عمل له كتلة، فحسنةُ كذا بكذا، والمراد من الميزان دِقَّة الفَصْل والحساب.
ونلحظ في الآية: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ.. } [المؤمنون: 102] بالجمع ولم يقل: ميزانه، لماذا؟ قالوا: لأنه يمكن أن يكون لكل جهة عمل ميزان خاص، فللصلاة ميزان، وللمال ميزان، وللحج ميزان.. إلخ ثم تُجمع له كل هذه الموازين.
وقوله: { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ.. } [المؤمنون: 103] لأنهم أخذوا لها القليل العاجل، وفوَّتوا عليها الكثير الآجل، وسارعوا إلى متعة فانية، وتركوا متعة باقية؛ لأن الدنيا أجلها محدود؛ والزمن فيها مظنون، والخير فيها على قَدْر إمكانات أهلها.
أما الآخرة فزمنها مُتيقّن، وأجلها ممدود خالد، والخير فيها على قَدْر إمكانات المنعِم عَزَّ وجَلَّ، فلو قارنتَ هذا بذاك لتبيّن لك مدى ما خَسِروا، لذلك تكون النتيجة أنهم { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون: 103].
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة تُبشِّع الجزاء في جهنم، وتُصوِّر أهوالها، وذلك رحمة بنا لنرتدع من قريب، ونعمل جاهدين على أن ننجي أنفسنا من هذا المصير، وننفر من هذه العاقبة البشعة، كما يقول الشرع بداية: سنقطع يد السارق، فهو لا يريد أن يقطع أيدي الناس، إنما يريد أن يمنعهم ويحذرهم هذه العاقبة.
ومن ذلك قوله تعالى في مسألة القصاص:{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الأَلْبَابِ.. }[البقرة: 179].
وقد هُوجم القِصَاص كثيراً من أعداء الإسلام، إذ يقولون: يكفي أن قُتِل واحد من المجتمع، فكيف نقتل الآخر؟ والقرآن لم يضع القصاص ليقتل الاثنين، إنما وضعه ليمنع القتل، وليستبقي القاتل والقتيل أحياء، فحين يعرف القاتل أنه سيُقتل قصاصاً يمتنع ويرتدع، فإن امتنع عن القتل فقد أحيينا القاتل والقتيل، وقد عبَّروا عن هذا المعنى فقالوا: القتل أنفى للقتل.
يقول تعالى في تبشيع جهنم: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ.. }.

(/2751)


تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)


اللفْح: أن تمسَّ النار بحرارتها الشيء فتشويه، ومثله النَّفْح { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [المؤمنون: 104] كلمة " كالح " نقولها حتى في العامية: فلان كالح الوجه. يعني تغيّر وجهه تغيُّراً ينكر لا تستريح له، وضربوا للوجه الكالح مثلاً برأس الخروف المشوية التي غيَّرت النار ملامحها، فأصبحت مُشوَّهة كالحة تلتصق الشَّفَة العليا بجبهته، والسفلى بصدره، فتظهر أسنانه في شكل منفر.
بعد ذلك يخاطبهم الحق سبحانه خطاباً يُلقي اللوم عليه ويُحملهم مسئولية ما وصلوا إليه، فلم يعذبهم ربهم ابتداءً، إنما عذبهم بعد أن أنذرهم، وأرسل إليهم رسولاً يحمل منهجاً يبين ثواب الطائع وعقاب العاصي، ونبَّههم إلى كل شيء، ومع ذلك عصَوْا وكذَّبوا، ولم يستأنفوا عملاً جديداً على وَفْق ما أمر الله. إذن: فهُم المقصرون.

(/2752)


أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)


يعني: أنتم السبب فيما أنتم فيه من العذاب، فليس للناس على الله حجة بعد الرسل، وليس لأحد عذر بعد البلاغ، لذلك حينما يدخل أهل النار النارَ يخاطبهم ربهم:{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ.. }[الزمر: 71].
فالآية تثبت أنهم هم المذنبون أمام نفوسهم:{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل: 118] فلم نفاجئهم بعقوبة على شيء لم نُبصِّرهم به، إنما أرسلنا إليهم رسولاً يأمرهم وينهاهم ويُبشِّرهم وينذرهم.
والإنذار بالشر قبل أن يقع نعمة من النعم، كما قلنا في سورة الرحمن عن قوله تعالى:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 35 - 36] وهل النار والشواظ نعمة؟ نعم نعمة؛ لأننا نحذرك منها قبل وقوعها، وأنت ما زِلْتَ في سعة الدنيا، وأمامك فرصة الاستدراك.
والآيات - كما قلنا - تُطلَق على الآيات الكونية التي تلفت الناس إلى وجود الخالق الأعلى الذي أنشأ هذا الكون بهذه الهندسة البديعة، وتُطلَق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وتُطلَق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن.
وقد جئناكم بكل هذه الآيات تُتْلَى عليكم وتسمعونها وترونها، ومع ذلك كذَّبْتم، ومعنى { تُتْلَىا عَلَيْكُمْ.. } [المؤمنون: 105] أننا نبهناكم إليها، ولفتْنَا أنظاركم إلى تأملها، حتى لا تقولوا: غفلنا عنها.

(/2753)


قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)


{ شِقْوَتُنَا.. } [المؤمنون: 106] أي: الشقاوة وهي الألم الذي يملك كل ملكات النفس لا يترك منها جانباً، يقولون: فلان شقي يعني مُضيَّق عليه ومُتعَب في كل أمور حياته، لا يرى راحة في شيء منها.
وكأنهم بقولهم: { غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا.. } [المؤمنون: 106] يريدون أن يُبِعِدوا المسألة عن أنفسهم ويُلْقون بها عند الله تعالى، يقولون: يا رب لقد كتبتَ علينا الشقوة من الأزل، فلا ذنبَ لنا، وكيف نسعد نحن أنفسنا؟ يقولون: لو شاء ربنا ما فعلنا ذلك.
ونقول لهم: لقد كتب الله عليكم أزلاً؛ لأنه سبحانة علم أنكم ستختارون هذا.

(/2754)


رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)


فوصفوا أنفسهم بالظلم، كما قال سبحانه عنهم في آية أخرى:{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }[الأنعام: 28].
فيقول الحق سبحانه: { قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ }.

(/2755)


قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)


{ اخْسَئُواْ } [المؤمنون: 108] كلمة بليغة في الزجر تعني: السكوت مع الذّلة والهوان؛ لذلك يقولونها للكلاب، وقد تقول لصاحبك: اسكت على سبيل التكريم له، كما لو حدَّثك عن فضلك عليه، وأنك قدَّمْتَ له كذا وكذا فتقول له: اسكت اسكت، تريد له العزة، وألاَّ يقف أمامك موقف الضعف والذلة.
والخسوء من معانيها أنك تضعف عن تحمُّل الشيء، كما في قوله تعالى:{ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }[الملك: 4] يعني: ضعيف عن تحمُّل الضوء.
وفي قوله سبحانه:{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }[البقرة: 65] يعني: مطرودون مُبْعدون عن سُمو الإنسانية وعِزّتها؛ لذلك نرى القردة مفضوحي السَّوْءة، خفيفي الحركة بما لا يتناسب وكرامة الإنسان.
إذن: ليس المراد أنهم أصبحوا قردة، إنما كونوا على هيئة القردة؛ لذلك نراهم حتى الآن لا يهتمون بمسألة العِرْض وانكشاف العورة.
إذن: المعنى { اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108] اسكتوا سكوتاً بذلّة وهَوَان، ويكفي ما صنعتموه بالمؤمنين بي؛ فيقول الحق سبحانه: { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا.. }.

(/2756)


إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)


والمراد هنا الضعاف من المؤمنين أمثال عمار وبلال وخباب بن الأرت، وكانوا يقولون هذا الكلام، وهو كلام طيب لا يرد، بل يجب أن يُسمع، وأن يُحتذَى به، ويُؤخَذ قدوة.

(/2757)


فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)


تكلمنا عن هذه المسألة في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 29 - 36].
إذن: اتخذ الكفار ضعاف المؤمنين محلَّ سخرية واستهزاء، وبالغوا في ذلك، حتى لم يَعُدْ لهم شُغل غير هذا، وحتى شغلهم الاستهزاء والسخرية عن التفكّر والتأمل فلم يَبْقَ عندهم طاقة فكرية تفكر فيما آمن به هؤلاء، وهذا معنى: { حَتَّىا أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي.. } [المؤمنون: 110] أي: شغلكم الاستهزاء بالمؤمنين عن الإيمان بمَنْ خلقكم وخلقهم.
ويا ليت الأمر توقّف عند هذا الحد من السخرية، إنما تعداه إلى أن يضحكوا من أهل الإيمان، ويُضِحكوا أهلهم { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [المؤمنون: 110] وفي الآية الأخرى:{ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ }[المطففين: 31] وسخرية أهل الباطل من أهل الحق موجودة في كل زمان، وحتى الآن نرى مَنْ يسخرون من أهل الاستقامة والدين والورع ويتندَّرون بهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ.. }.

(/2758)


إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)


لما صبر أهل الإيمان على الاستهزاء والسخرية عوَّضهم الله تكريماً ونعيماً، وهذه مسألة يجب ألاَّ يغفل عنها المؤمن حين يسخر منه أعداؤه، عليه أن يتذكر عطاء ربه وجزاء صبره، وإنْ كان الساخر منك عبداً له قدرته المحدودة، فالمكرِّم لك ربك بقدرة لا حدودَ لها، ولك أن تقارن إذن بين مشقة الصبر على أذاهم، ولذة النعيم الذي تجده بعد ذلك جزاء صبرك.

(/2759)


قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)


لبث: مكث وأقام، فالمعنى: ما عدد السنين التي ظللتموها في الأرض، لكن لماذا هذا السؤال؟
قالوا: لأن الذي شغلكم عن دين يضمن لكم ميعاداً خالداً، ونعيماً باقياً هو الدنيا التي صرفتكم بزينتها وزخرفها وشهواتها - وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا - وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا - فهل يُقارن بما أُعِدَّ للمؤمنين في الآخرة من النعيم المقيم الذي لا يفوتهم ولا يفوتونه؟
والقيامة حين تقوم ستقوم على قوم ماتوا في ساعتها، فيكون لبثهم قريباً، وعلى أناس ماتوا من أيام آدم فيكون لبثهم طويلاً، إذن: فاللبث في الأرض مقول بالتشكيك كما يقولون، لكن هل يدرك الأموات المدة التي لبثوها في الأرض؟ معلوم أنهم لا يدركون الزمن؛ لأن إدراك الزمن إنما يتأتَّى بمشاهدة الأحداث، فالميت لا يشعر بالزمن؛ لأنه لا يعيش أحداثاً، كالنائم لا يدري المدة التي نامها، وكُلُّ مَنْ سُئِلَ هذا السؤال قال{ يَوْماً أَوْ بَعْضَ.. }[البقرة: 259].
قالها العُزَير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقالها أهل الكهف الذين أنامهم الله ثلاثمائة سنة وتسعاً؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن يتخيلها الإنسان لنومه، ولا يستطيع النائم تحديد ذلك بدقة؛ لأن الزمن ابْنُ الحدث، فإن انعدم الحدث إنعدم الزمن.
لذلك يقول تعالى عَمَّنْ ماتوا حتى من أيام آدم عليه السلام:{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }[النازعات: 46].
وكذلك يقول هؤلاء أيضاً في الإجابة على هذا السؤال: { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ.. }.

(/2760)


قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)


أي: أصحاب العدِّ الذين يمكنهم العدُّ والحساب؛ لأننا لم نكن في وعينا لنعُد كما لبثنا، والمراد بالعادِّين هم الملائكة الذين يعدُّون الأيام ويحسبونها.

(/2761)


قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)


إنْ: بمعنى ما، يعني: ما لبثتم إلا قليلاً، فمهما قدَّرْتم من طول الحياة حتى مَنْ مات منذ أيام آدم عليه السلام، فسيكون قليلاً بالمقارنة بالزمن الذي ينتظركم في الجزاء الأخروي، فما لبثتموه في الدنيا لا يُقَاس بعذاب الآخرة الممتد الباقي، هذا { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون: 114] تعلمون طول ما تصيرون إليه من العذاب الخالد المقيم.

(/2762)


أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)


(حسبتم) ظننتم يعني: ماذا كنتم تظنون في خَلْقنا لكم؟ كما قال في موضع آخر:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2] وكلمة { عَبَثاً.. } [المؤمنون: 115] العَبَث هو الفعل الذي لا غايةَ له ولا فائدةَ منه، كما تقول: فيم تعبث؟ لمن يفعل فِعْلاً لا جدوى منه، وغير العبث نقول: الجد ونقول: اللعب واللهو، كلها أفعال في حركات الحياة. لكن الجد: هو أن تعمل العمل لغاية مرسومة.
أما اللعب فهو أن تعمل عملاً هو في واقع الأمر لا غاية له الآن إلا دُرْبتك أنت على الحركة وشُغْل ملكاتك حتى لا تتوجه إلى فساد شيء أو الإضرار بشيء، كما تشتري لولدك لعبة يلهو بها، وينشغل بها عن الأشياء القيِّمة في المنزل، والتي إنْ لعب بها حطّمها، فأنت تصرف حركاته إلى شيء لتمنعه عن أشياء ضارة، أو تُعلِّمه باللعب شيئاً يفيده فيما بعد، كالسباحة أو ركوب الخيل.
واللهو كاللعب في أنه يكون لغاية قد تأتي بعد، أو لغاية تنفي ضرراً، إلا أن اللعب حين تزاوله لا يشغلك عن مطلوب، أما اللهو فهو الذي يشغلك عن مطلوب، فمثلاً الطفل دون السابعة يلعب في أوقات الصلاة، فيُسمّى فعله لعباً، فإنْ كان في العاشرة يُسمَّي فِعْله لَهْواً؛ لأنه شغله عن الصلاة، وهي واجبة عليه.
واللعب يُدربك على أشياء قد تحتاجها وقت الجد فتكون سهلة عليك، أما العبث فلا فائدةَ منه، لذلك قال سبحانه: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً.. } [المؤمنون: 115] فنفي أن يكون الخَلْق عبثاً بلا غاية؛ لأن الله تعالى خلق الخَلْق لغاية مرسومة، ووضع لها منهجاً يحدد هذه الغاية، ولا يضع المنهج للخَلْق إلا الخالق.
كما قلنا سابقاً: إن الصانع الذي صنع هذا الميكروفون لم يصنعه ثم طلب منا أن نبحث له عن مهمة، إنما قبْل أنْ يصنعه حدد له مهمته والغاية منه، وهي أن ينقل الصوت لمسافات بعيدة، إذن: فالغاية مرسومة بدايةً وقبل العمل.
فالذي يحدد الغاية هو الصانع المبدع للشيء، وهو أيضاً الذي يحدد صلاح الصنعة لغايتها، ويحدد قانون صيانتها لتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وأنت أيها الإنسان صنعة الله فَدَعْهُ يحدد لك غايتك، ويضع لك منهج حياتك وقانون صيانتك، بافعل كذا ولا تفعل كذا.
إذن: فساد الدنيا يأتي من ان الصنعة تريد أن تأخذ حق الصانع في تحديد الغاية، وفي تحديد المنهج، وقانون الصيانة، وليس من مهمتها ذلك، والخالق حينما يحدد لك المنهج الذي يُعينك على غايتك، إنما أنت: متى تستطيع أن تدرك الأشياء لتضع غاية أو تضع قانون الصيانة؟
إنك لا يمكن أن تبلغ هذا المبلغ قبل سِنِّ العشرين على أحسن تقدير، فمَنْ - إذن - يضع لك غايتك وقانون صيانتك قبل هذه السنِّ؟ لا أحدَ غير خالقك عز وجل، ولن يستقيم الحال إلا إذا تركنا الصَّنْعة للصانع غايةً ومنهجاً وصيانة.

وكيف تظن أن الله تعالى خلقك عَبثاً، وهو الذي استدعاك للوجود وأعدَّ لك مُقوِّمات حياتك وضرورياتها، وحثَّك بإعمال عقلك في هذه المقومات لتستطيع أن تُرفِّه بالطاقة والقدرة المخلوقة لله تعالى لتُسعِدَ نفسك وتُرفِّه حياتك.
وقد كنا في الماضي نجلس على ضوء المسرجة، والآن على أضواء النيون والكريستال، ومهما ترفهت حياتك وتوفرت لك وسائل الراحة فلا تنْسَ أنها عطَاء من الله في المادة وفي الطاقة وفي العقل المفكر، كلها مخلوقة لله عزَ وجل، لا تملك أنت منها شيئاً، بدليل أن الله إذا سلبك العقل لَصِرت مجنوناً، ولو سلبك الطاقة والقدرة لصرتَ ضَعيفاً لا تستطيع مجرد التنفس، فهذه نِعَمٌ موهوبة لك ليست ذاتية فيك.
إذن: عليك أن تتأمل في خالقك عز وجل، وما وهبك من مقومات الحياة، لتعلم أن هذا الخَلْق لا يمكن أن يكون عبثاً، ولا بد أن له غاية رسمها الخالق سبحانه، وأنت في ذاتك تحاول أن تضع لك غاية في جزئية ما من الغاية الكبرى التي خلقك الله لها.
أَلاَ ترى الولد الصغير كيف تعتني به وتُعلِّمه وتنفق عليه مرحلة بعد الأخرى، حتى يصل إلى الجامعة، وتتعلق أنت بأمل كبير في أن يكون لولدك هذا مكانة في المجتمع ومنزلة بين الناس؟ هذه العملية في حد ذاتها غاية، لكن بعد أن يحصل على الوظيفة المرموقة والمكانة والمنزلة ينتهي الأمر بالموت.
إذن: لا بُدَّ من وجود غاية أخرى أعظم من هذه، غاية لا يدركها الفناء، وليس لها بعد، هذه الغاية الكبرى هي لقاء الله وملاقاة الجزاء، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وعلينا أن نأخذ كل مسائل الحياة وجزئياتها في ضوء هذه الحقيقة، أننا لم نُخلَق عَبثاً، بل لغاية مراده لله، ولها أسباب توصل إليها.
ثم يقول سبحانه: } وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ { [المؤمنون: 115] (تُرجَعون) يعني: رَغْماً عنكم، ودون إرادتكم، كأن شيئاً ما يسوقهم، كما في قوله تعالى:{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىا نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا }[الطور: 13] يعني: يُدفعون إليها، ويُضربون على أقفائِهم، ويُسَاقون سَوْقَ الدواب.

(/2763)


فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)


{ فَتَعَالَى.. } [المؤمنون: 116] تنزَّه وتقدَّس، وكلمة العلو تعني علو المنزلة. نقول: علا فلان على فلان، أما حين نقول: تعالى الله، فالمراد العلو الأعلى، وإن وهب علواً للغير فهو عُلو الداني، وعلو المتغير، بدليل أنه تعالى يُعليك، وإنْ شاء سلبك، فالعلو ليس ذاتياً فيك.
وكلمة المِلك نعرفها فيمَنْ يملك قطعة من الأرض بمَنْ فيها ويحكم وله رعية، ومن هذه المادة: المالك. ويُطلَق على أيِّ مالك لأيِّ شيء، ولو لم يكن لديه إلا الثوب الذي يلبسه فهو مالك، أما: المَلِك فهو مَنْ يملك الذين يملكون، فله ملك على المالكين، وهذا المَلِك لم يأخذ مُلْكه بذاته، إنما بإيتاء الله له.
لذلك يقول تعالى:{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ.. }[آل عمران: 26].
فلو كان مُلْك هؤلاء الملوك ذاتياً ما نُزِع منهم، أَلاَ ترى الملِك من ملوك الدنيا يقوي ويستتب له الأمر، ويكون له صولجان وبَطْش وفَتْك.. إلخ، ومع كل هذا لا يستطيع الاحتفاظ بملكه؟ وفي لحظة ينهار هذا الملْك ولو على يد جندي من جنوده، بل وربما تلفظه بلاده، ولا تقبل حتى أنْ يُدفن بها، وتتطوع له بعض الدول، وتقبل أنْ تُواري رفاته بأرضها، فأيُّ ملك هذا؟
وهذه آية من الآيات نراها في كل عصر - وكأنها قائمة - دليلاً على صدق الآية:{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ.. }[آل عمران: 26] إذن: إنْ ملكك الله فاعلم أنه مُلْك موهوب، مهما استتب لك فلا تضمن بقاءه؛ لأن الله تعالى ملَّكك لغاية، ولا يملك الغاية إلا هو سبحانه.
لذلك كان الحق - سبحانه وتعالى - { الْمَلِكُ الْحَقُّ.. } [المؤمنون: 116] يعني: الذي لا يزحزحه أحد عن مُلْكه، أو يسلبه منه، وهو الذي يتصرّف في مُلْكه كيف يشاء لا ينازعه فيه أحد، وإنْ أعطى من باطن مُلْكه تعالى مُلْكاً لأحد، فيظل في يده سبحانه زمام هذا الملْك، إنْ شاء بسطه، وإنْ شاء سلبه ونزعه. فهو وحده الملك الحق، أما غيره فمُلْكهم موهوب مسلوب، وإنْ مَلَّك سبحانه أناساً. أَمْرَ أناس في الدنيا يأتي يوم القيامة فيقول:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ.. }[غافر: 16].
وتلحظ أن كلمة{ تُؤْتِي الْمُلْكَ.. }[آل عمران: 26] سهلة على خلاف{ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ.. }[آل عمران: 26]، ففي النزع دليل على المشقة والمعاناة؛ لأن صاحب الملْك يحاول أن يتمسك به ويتشبَّث وينازع، لكن أينازع الله؟
فقوله سبحانه: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.. } [المؤمنون: 116] المراد: تعالى عن أن يكون خَلْقكم عَبثاً، وتعالى عن أنْ تشردوا من قبضته، أو تخرجوا عن نفوذه، أو تستقِلُّوا بخَلْقكم عن سيطرته، وتعالى أن تُفلتوا من عقابة أو تمتنعوا عنه؛ لأنه لا إله غيره: { لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون: 116].

فالحق تبارك وتعالى يحكم في إطار:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }[الإخلاص: 1 - 4].
فإذا قال لك شيئاً فاعلم أنه لا إله غيره يعارضه.
والعرش: رمز لاستتباب الأمر للمالك؛ لأنه ينشغل بتدبير مُلْكه والقَضاء على المناوئين له وتأديب أعدائه، فإذا ما استتبّ له ذلك جلس على عرشه، إذن: الجلوس على العرش يعني استقرارَ الأمور واستتباب أمر الملك؛ لذلك فإن الحق سبحانه بعد أن خلق الخَلْق استوى على العرش.
والعرش يفيد أيضاً السيطرة والتحكم، وعَرْش الله عرش كريم؛ لأنه تعالى عليك لا ليُذلّك ويهنيك، وإنما تعالى عليك ليعاليك إليه ويعطيك من فضله. كما سبق أنْ قُلْنا: إن من مصلحتنا أن يكون الله تعالى مُتكبِّراً، ومن عظمة الحق سبحانه أن يكون له الكبرياء، فساعة يعلم الجميع أن الكبرياء لله وحدة لا يتكبر أحد على أحد.
يقول الحق سبحانه:{ وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ }[الجاثية: 37].
لذلك يقولون في الأمثال: (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) يعني: ليعيش في ظله، فالحق - تبارك وتعالى - يتعالى لصالح خَلْقه.
ومن ذلك ما قُلْناه في مسألة العبودية، وأنها مكروهه ثقيلة إنْ كانت للبشر؛ لأن السيد يأخذ خير عبده، إنما هي محبوبة إنْ كانت لله تعالى؛ لأن العبودية لله يأخذ العبد خير ربه.
فإنْ كانت عروش الدنيا للسيطرة والتحكُّم في مصائر الناس وامتصاص دمائهم وأَخْذ خيراتهم، فعرش ربك عَرْش كريم، والكريم في كل شيء أشرف غاياته، اقرأ قوله تعالى:{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ }[الدخان: 25 - 26].
وحين يوصينا بالوالدين، يقول سبحانه:{ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }[الإسراء: 23].
فالعرش الكريم أشرف غايات الملْك؛ لأن الملْك ليس تسلُّطاً وقَهْراً، إنما هو مَلْك لصالح الناس، والحق - تبارك وتعالى - حينما خلق الحياة وزَّع فيها أسباب الفضل، ولكنه جعل فيها القويّ القادر، وجعل فيها الضعيف العاجز، ثم أمر القوي أنْ يأخذ بيد الضعيف، وأنْ يعوله، فالكرم استطراق نفع القوى للضعيف، فكل خَصلْة من خصال الخير توصف بالكرم.
إذن: إياك أن تفهم أن عرش ربك للسيطرة والعُلو والجبروت؛ لأنه عرش كريم.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ.. {.

(/2764)


وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)


{ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ.. } [المؤمنون: 117] يعني: يعبد مع الله، والعبادة طاعة المعبود في أمره ونَهْيه، لكن كيف تدعو إلهاً، لا ينفعك ولا يضرُّك، ولا برهانَ عندك على ألوهيته؟ لذلك هدده سبحانه وتوعّده بقوله: { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ.. } [المؤمنون: 117] أي: ربه الحق { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون: 117].
وعجيبٌ أن تبدأ السورة بقوله تعالى: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [المؤمنون: 117] أي: بنقيض ما بدأتْ به، وعليك أنت أنْ تتأمل ما بين هذين القوسين، وما دامت المسألة مسألة إيمان يفلح أهله، وكفر لا يفلح أهله، فتمسَّكوا بربكم، والتزموا منهجه في (افعل) و (لا تفعل).
وإنْ غلبتكم النفس على شيء من الذنوب فتذكَّروا: { وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ.. }.

(/2765)


وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)


إنْ هفوتم هفوة فإياكم أن تنسُوا هذه الحقيقة، والجئوا إلى ربكم فإنه غفار شرع لكم التوبة لتتوبوا، والاستغفار لتستغفروا، وهو سبحانه أرحم بكم من الوالدة بولدها، وهو خير الراحمين.
والمعنى { اغْفِرْ.. } [المؤمنون: 118] أي: الذنوب السابقة الماضية { وَارْحَمْ.. } [المؤمنون: 118] أي: ارحمنا أن نقع في الذنوب فيما بعد، واعصمنا في مستقبل حياتنا من الزلل. إذن: تمسَّك بربك وبمنهج ربك في كل حال، لا يصرفك عنه صارف.

(/2766)


سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)


اسمها سورة (النور)، وإذا استقرأنا موضوع المُسمَّى أو المُعْنون له بسورة (النور) تجد النور شائعاً في كل أعطافها - لا أقول آياتها ولا أقول كلماتها - ولكن النور شائع في كل حروفها، لماذا؟
قالوا: لأن النور من الألفاظ التي يدل عليها نطقها ويعرفها أكثر من أيّ تعريف آخر، فالناس تعرف النور بمجرد نُطْق هذه الكلمة، والنور لا يُعرَّف إلا بحقيقة ما يؤديه، وهو ما تتضح به المرئيات، وتتجلى به الكائنات، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئاً.
إذن: يُعرف النور بخاصيته، وهو الذي يجعل لك قدرة على أن ترى المرئيات، بدليل أنها إنْ كانت في ظلمة لا تراها. إذن: فالنور لا يُرَى، ولكن نرى به الأشياء، فالله تعالى نور السموات والأرض يُنوِّرهما لنا، لكن لا نراه سبحانه.
لكن، هل كل الأشياء مرائي؟ أليس منها المسموع والمشموم والمتذوّق؟ قالوا: نعم، لكن الدليل الأول على كل هذه وفعل الحوادث هي المرئيات؟ لأن كل أدلة الكون مرئية نراها أولاً، ثم حين تسمع، وحين تشم، وحين تلمس، وحين تميز الثقيل من الخفيف، أو القريب من البعيد. فهذا كله فرع ما يوجد فيك، بعد ما تؤمن أن الله الذي أوجدك هو الذي أوجد لك كل شيء، فإذا ما نظرت إلى النور وجدتَ النور أمراً حسياً ترى به الأشياء.
وكانوا في الماضي يعتقدون أن الإنسان يبصر الأشياء بشعاع يخرج من العين، فيسقط على الشيء فتراه، إلى أن جاء العالم الإسلامي الحسن بن الهيثم، وأبطل هذه النظرية وقال: إن الشعاع يأتي من المرئي إلى العين فتراه، وليس العكس، واستدل على ذلك بأن الشيء إنْ كان في الظلام لا نراه، ونحن في النور، فلو أن الشعاع يخرج منك لرأيته.
وفي ضوء هذه النظرية فهمنا قوله تعالى:{ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.. }[الإسراء: 12] فهي مُبْصِرة؛ لأن الشعاع يأتي من هناك، فكأنها هي التي ترى.
لكن، ما نَفْع هذا النور الحسيّ للإنسان الخليفة في الأرض؟ أنت حين ترى الأشياء تتعامل معها تعاملاً يعطيك خيرها ويكفّ عنك شرها، ولو لم تَرَ الأشياء ما أمكنك التعامل معها، وإلا فكيف تسير في مكان مظلم فيه ما يؤذيك مثل الثعابين أو زجاج متكسر؟
إذن: لا تستطيع أن تهتدي إلى مواضع قدمك، وتأخذ خير الأشياء، وتتجنب شرها إلا بالنور الحسيِّ، كذلك إنْ سِرْت في ظُلْمة وعلى غير هُدىً، فلا بُدَّ أن تصطدم بأقوى منك فيحطمك، أو بأضعف منك فتحطمه.
لذلك سمَّى الحق - تبارك وتعالى - المنهج الذي يهديك في دروب الحياة نوراً.
والناس حين لا يوجد النور الرباني الإلهي يصنعون لأنفسهم أنواراً على قَدْر إمكاناتهم وبيئاتهم بداية من المسرجة ولمبة الجاز، وكان الناس يتفاوتون حتى في هذه - حتى عصر الكهرباء والفلوروسنت والنيون وخلافة من وسائل الإضاءة التي يتفاوت فيها الناس تفاوتاً كبيراً، هذا في الليل، فإذا ما أشرقتْ الشمس أطفأ الجميع أنوارهم ومصابيحهم، لماذا؟ لأن مصباح الله قد ظهر واستوى فيه الجميع لا يتميز فيه أحد عن أحد.

وكذلك النور المعنوي نور المنهج الذي يهديك إنْ كان لله فيه توجيه، فأطفيء مصابيح توجيه البشر لا يصح أن تستضيء بنور ونورُ ربك موجود، بل عليك أن تبادر وتأخذ ما تقدر عليه من نور ربك، فكما أخذتَ نور الله الحسيّ فألغيتَ به كل الأنوار، فخُذْ نور الله في القيم، خُذْ نُور الله في الأخلاق وفي المعاملات وفي السلوك يغنيك هذا عن أيِّ نور من أنوار البشر ومناهجهم.
أَلاَ ترى النمرود كيف بُهِتَ حينما قطع عليه إبراهيم - عليه السلام - جدله وألجأه إلى الحجة التي لا يستطيع الفكاك منها، حين قال له:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.. }[البقرة: 258].
والحق - تبارك وتعالى - يفيض من أنواره وصفات كماله على خَلْقه الذين جعلهم خلفاء له سبحانه في الأرض، فقال:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً.. }[البقرة: 30] والخليفة في الأرض ليس جيلاً واحداً خلقه الله واستخلفه في الأرض إلى قيام الساعة، إنما الخليفة أجيال وأنسال تتوالى، يموت واحد ويُولَد آخر في حلقات موصولة الأنسال لا الذوات.
والخليفة لا ينجح في خلافته إلا إذا سار فيها على وَفْق مراد مَن استخلفه، وآفة الناس في خلافتهم لله في الأرض أنْ يعتبروا أنفسهم أُصَلاء لا خلفاء، فالخليفة في ذِهْنه دائماً هذه الخلافة؛ لذلك يلتفت إلى الأصل، وينظر ماذا يريد منه مَن استخلفه.
والحق - تبارك وتعالى - جعل له خليفة في الأرض لتظهر عليه سمات قدرته تعالى وصفات كماله، فالله تعالى قادر، الله عالم، الله حكيم، الله غنيّ، الله رحيم، الله غفور.. الخ وهو سبحانه يعطي من صفاته ويفيض منها على خَلْقه وخليفته في أرضه بعضاً من هذه الصفات، فيعطيك من قدرته قدرة، ومن رحمته رحمةً، ومن غنائه غِنىً، لكن تظل الصفة في يده تعالى أنْ شاء سلبها، أَلاَ ترى القوي قد يصير ضعيفاً، والغني قد يصير فقيراً؟
ذلك لنعلم أن هذه الصفات ليست ذاتية فينا، وأن هذه الهبات ليست أصلاً عندنا، إنما هي فيْض من فيض الله وهبةٌ من هباته سبحانه، لذلك علينا أن نستعملها وَفْق مراده تعالى، فإنْ أعطاك ربُّك القدرة فإنما أفاض بها عليك لتفيض أنت بها على غيرك، أعطاك العلم لتنثره على الناس، أعطاك الغنى لترعى حق الفقير.
إذن: ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال واحتفظ هو سبحانه بملكية هذه الصفات، فإنْ شاء سلبها منك، فعليك أن تستغل الفرصة وتنتهز وجود هذه الخَصْلة عندك، فتُثمِّرها فيما أراده الله منك قبل أنْ تُسلَب، حتى إذا سُلِبَتْ منك نالتك من غيرك.

فتصدَّق وأنت غني لتنال صدقة الآخرين إنْ أصابك الفقر، وأكرم اليتيم لتجد مَنْ يُكرم يتيمك من بعدك، فإنْ قابلتَ أحداث الحياة بهذه النظرة اطمأنَّ قلبك، وأمِنْتَ من حوادث الزمن، واستقبلتَ الأحداث بالرضا، وكيف تهتم وأنت في مجتمع يرعاك كما رعيته، ويحملك كما حملته، ويتعاون معك كما تعاونتَ معه؟
وصدق الله تعالى حين قال:{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }[النساء: 9].
إذن: الحق - تبارك وتعالى - يريد من خليفته في أرضه أن يكون جِماعاً لصفات الكمال التي تسعد الخَلْقَ بآثار الخالق فيهم، وهذه هي الخلافة الحقة.
وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات، نور القيم، نور التعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتصرف، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أنْ يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى؛ لأنه كما قال سبحانه:{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }[النور: 40] فلو لم تكُنْ هذه الشمس ما استطاع أحد أنْ يصنع لنفسه نوراً أبداً.
فالحق - تبارك وتعالى - يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهراً شريفاً كريماً عزيزاً؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليماً في وضح النهار؛ لينتج عن هذا اللقاء نَسْل طاهر جدير بخلافة الله في أرضه؛ لذلك أول ما تكلم الحق سبحانه في هذه السورة تكلَّم عن مسألة الزنى.
والعجيب أن تأتي هذه السورة بعد سورة (المؤمنون) التي قال الله في أولها{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }[المؤمنون: 1] ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين{ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ }[المؤمنون: 5] وهنا قال:{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي.. }[النور: 2] فجاء بالمقابل للذين هم لفروجهم حافظون.
نفهم من هذا أنه لا يلتقي رجل وامرأة إلا على نور من الله وهدى من شريعته الحكيمة؛ لأنه عز وجلَّ هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما يُصلحه، وهو خالق ذرّاته، ويعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض، وهو سبحانه خالق مَلَكات النفس، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر.
إذن: طبيعي أنْ أردتَ أن تنشيء خليفة في الكون على غير مراد الله وعلى غير مواصفات الحق، لا بُدَّ أنْ يضطرب الكون وتتصارع فيه مَلكات النفس، وماذا تنتظر من هذا الخليفة إنْ جاء في الظلام؟ ساعتها تظهر أمراض النسل من وَأْد الأولاد وقتلهم حتى في بطون الأمهات، وقد يتشكّك الرجل في ولده، فيبغضه ويهمله ويتركه للتشرد.
إذن: لن تستقيم هذه المسألة إلا حين يأتي الخليفة وَفْق مواصفات ربه، وأنْ يلتقي الزوجان على ما شرع الله في وضح النهار، لا أن يندس كل منهما على الآخر في ظلمة الإثم، فيحدث المحظور الذي تختلط به الأنساب، ويتفكك رباط المجتمع.

إن من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشكَّ في نِسْبة ولده إليه، وأن تعتصره هذه الفكرة، فيهمل ولده وفلذة كبده، وينفق هنا وهناك ويحرمه على خلاف النسْل الطاهر، حيث يتلهف الأب لولده، ويجوع ليشبع، ويتعرّى ليلبس.
فالحق سبحانه يريد النسل المحضون بالأبوين في أُبوة صحيحة شرعية وأمومة صحيحة شرعية اجتمعا على نور الله.
ولك أنْ تُجري مقارنة بين امرأة حملتْ سفاحاً وأخرى حملتْ حَمْلاً شرعياً طاهراً، ستجد الأولى تحمله على مضض وكُرْه، وتودّ أنْ تتخلَّص منه وهو جنين في بطنها، فإنْ تحاملتْ على نفسها إلى حين ولادته تخلَّصتْ منه في ليلتها ولو بإلقائه على قارعة الطريق.
أما صاحبة الحمل الشرعي فتتلهف على الولد، وإنْ تأخر بعض الوقت صارت قلقة تدور بين الأطباء، فإنْ أكرمها الله بالحمل طارت به فرحاً وفخراً، وحافظت عليه في مَشْيها وحركاتها ونومها وقيامها إلى حين الوضع، فتتحمل آلامه راضيةً ثم تحتضنه وتُرضِعه وتعيش حياتها في خدمته ورعايته.
فالله يريد أن يأتي خليفته في أرضه من إخصاب طاهر على اعْيُنِ الناس جميعاً وفي نور الله المعنوي، يريد للزوج أن يأتي من الباب في ضوء هذا النور، لا أن يتلصص في الظلام من باب الخدم.
لذلك يتوعد الحق - سبحانه وتعالى - مَنْ يخالف هذا المنهج ويريد أن يُفسِد شرف الخلافة التي يريدها الله طاهرة، ويُدنِّس النسل، ويُوغِر الصدور بالأحقاد والعداوات، ويزرع الشك في نفوس الخَلْق، وجرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشخصية إنما تتعدى هذه إلى الإضرار بالمجتمع كله.
وانظر إلى الإيدز الذي يهدد المجتمعات الآن، وهو ناتج عن الالتقاء غير الشرعي، وخطر الإيدز لا يقتصر على طرفيه إنما يتعدّاها إلى الغير، إذن: من صالح المجتمع كله أن نقيم حدَّ الزنا حتى لا يستشري هذا الداء.
ونعجب من هؤلاء الذين يهاجمون شَرْع الله في مسألة الحدود حين تقضي برَجْم الزاني المحْصَن حتى الموت، أَلاَ يعلم هؤلاء أننا نُضحِّي بواحد لنحفظ سلامة الملايين في صحة وعافية؟ أَلاً يروْنَ ما يحدث مثلاً في وباء الطاعون الذي أعجز العلماء حتى الآن، ولم يجدوا له علاجاً، وكيف أن الشرع أمرنا إنْ نزل الطاعون بأرض ألاَّ نذهب إليها، وأمر مَنْ فيها ألاَّ يخرجوا منها، لماذا؟ لنحصر هذا الوباء حتى لا يستشري بين الناس.
كذلك الحال في مسألة الزنا؛ لأن الزاني لا يقتصر شرُّه عليه وحده، إنما يتعدّى شرُّه إلى المجتمع كله، مع مراعاة أن الشرع فرَّق بين الزاني المحصن وغير المحصن، وكذلك الزانية، ففي حالة الإحصان تتعدد الماءات في المكان الواحد ، لذلك سُئلنا في سان فرانسيسكو: لماذا أبحتم تعدُّد الزوجات، ولم تبيحوا تعدُّد الأزواج؟ هذا منهم على سبيل قياس الرجل على المرأة: لماذا لا تتزوج المرأة وتجمع بين أربعة رجال؟
قلت: اسألوهم، أليس عندهم أماكن يستريح فيها الشباب جنسياً - يعني بيوت للدعارة - قالوا: نعم في بعض الولايات، قلت: فبماذا احتطتم لصحة المجتمع وسلامته؟ قالوا: نُجرِي عليهم كشفاً دورياً كل أسبوع، قلت: وهل هذا الكشف الدوري يستوعب الجميع؟ أم أنه مجرد (ششن) وعينات عشوائية.

إذن: من الممكن أن يتسرّب المرض بين هؤلاء الشباب، وهَبْ أنك أجريتَ على إحداهن الكشف يوم الأحد مثلاً، وفي يوم الاثنين جاءها المرض، فإلى كم واحد سينتقل المرض إلى أنْ يأتي الأحد القادم؟ فهذه مسألة لا تستطيع السيطرة فيها على الداء.
ثم أتُجرون هذه الفحوصات على المتزوجين والمتزوجات؟ وهل اكتشفتم بينهم مثل هذه الأمراض؟ قالوا: لا لم يحدث أن اكتشفنا هذا بين المتزوجين. قلت: إذن كان عليكم أنْ تنتبهوا إلى سبب هذه الداءات، وأنها تأتي من تعدُّد ماءات الرجال في المكان الواحد؛ لأن كل ماء سياله وله ميكروبات تتصارع، إن اجتمعت في المكان الواحد فينشأ منها المرض.
لكن حين يكون للزوجة زوج واحد، فلن نرى مثل هذه الداءات في المجتمع، ومن هنا يأتي دور الوازع الديني، فإن فُقِد الوازع الديني فلا بُدَّ من الوازع الحسيّ ليزجر مثل هؤلاء ويُوقِفهم عند حدود الله رَغْماً عنهم، حتى وإنْ لم يكونوا يؤمنون بها.
إذن: هذه أقضية ومشاكل وداءات حدثتْ للناس بقدر ما أحدثوا من الفجور، وبقدر ما انتهكوا من حُرُمات الله، وانظر مثلاً لمن يُضطرّ للسفر إلى مثل هذه البلاد، كم يكون حَذراً مُفزَّعاً حين يقيم مثلاً في فندق، فيأخذ أدواته الشخصية، ويخاف أن يستعمل أشياء غيره، ويحرص على نظافة المكان وتغيير الفراش قبل أن ينام عليه.. الخ كل هذه الاحتياطات.
فالشرع حين يأمر بقتل الزاني أو الزانية إنما فعل ذلك ليسْلَمَ المجتمع بأسْره، وكثيراً ما نواجه مثل هذه الاعتراضات من أصحاب الرحمة الحمقاء والشعارات الجوفاء، أهُم أرحم بالخَلْق من الخالق؟
أَلاَ يروْن للزلزال أو لحوادث السيارات والطائرات التي تحصد الآلاف من الأرواح؟ فلماذا هي الضجة حين نبتر العضو المريض من المجتمع؟
قوله تعالى: } سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا.. { [النور: 1] السورة: مأخوذة من سور البيت، وهي طائفة من نجوم القرآن أو آياته محوطة ببداية ونهاية، تحمل أحكاماً وقد تكون طويلة كسورة البقرة، أو قصيرة كالإخلاص والكوثر، فليس للسورة كمية مخصوصة؛ لأنها توقيفية.
} أَنزَلْنَاهَا.. { [النور: 1] نفهم من أنزل أن الإنزال من أعلى إلى مَنْ هو أدنى منه، كما يكتب الموظف مثلاً يريد التظلُّم لرئيسه: أرفع إليك كذا وكذا، فيقول الأعلى: وأنا أنزلت القرار الفلاني، فالأدنى يرفع للأعلى، والأعلى يُنزِل للأدنى.
لذلك يقول تعالى: (أنزلنا) حتى للشيء الذي لا ينزل من السماء، كما قال سبحانه:

{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.. }[الحديد: 25] فالحديد وإنْ كان مصدره الأرض، إلا أنه لا يكون إلا بقدرة الأعلى سبحانه.
} وَفَرَضْنَاهَا.. { [النور: 1] الشيء المفروض يعني الواجب أن يُعمل؛ لأن المشرِّع قاله وحكم به وقدَّره، ومنه قوله سبحانه:{ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ.. }[البقرة: 237] أي: نصف ما قدَّرتم، إذن: كل شيء له حُكْم في الشرع، فإن الله تعالى مُقدِّره تقديراً حكيماً على قَدْره.
وقوله تعالى: } وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.. { [النور: 1] الآيات الواضحات، وتُطلق الآيات - كما قلنا - على الآيات الكونية التي تلفت أنظارنا إلى قدرة الله وبديع صُنْعه، وتُطلق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسل، وتُطلق على آيات القرآن الحاملة للأحكام.
وفي هذه السورة كثير من الأحكام إلى أن قال فيها الحق سبحانه:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. }[النور: 35] وقال:{ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ.. }[النور: 35] فطالما أنكم أخذتُم نور الدنيا، وأقررتُم أنه الأحسن، وأنه إذا ظهر ألغى جميع أنواركم، فكذلك خذوا نور التشريع واعملوا به واعلموا أنه نور على نور. إذن: لديكم من الله نوران: نور حسي ونور معنوي.
} لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { [النور: 1] بعد أنْ قال سبحانه أنزلت كذا وكذا أراد أنْ يُلهب المشاعر لتُستقبل آياته الاستقبال الحسن، وتُطبِّق أحكامه التطبيق الأمثل يقول: أنزلتُ إليكم كذا لعلكم تذكرون، ففيها حَثٌّ وإلهابٌ لنستفيد بتشريع الحق للخَلْق.
ثم يتحدث الحق سبحانه عن أول قضية فيما فرضه على عبادة: } الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ.. {.

(/2767)


الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)


قلنا: إن الحق سبحانه تناول هذه المسألة حرصاً على سلامة النشء، وطهارة هذا الإنسان الذي جعله الله خليفة له في الأرض، وحين نتأمل السياق القرآني في هذه الآية نجد أن كلمة الزاني تدل على كُلٍّ من الأنثى والذكر، ففي اللغة الاسم الموصول: الذي للمفرد المذكر، والتي للمفردة المؤنثة، واللذان للمثنى المذكر، واللتان للمثنى المؤنث، والذين لجمع الذكور، واللائي لجمع الإناث.
لكن هناك أسماء تدل على كل هذه الصيغ مثل: مَنْ، ما، ال.
تقول: جاء مَنْ أكرمني، وجاءت من أكرمتني، وجاء من أكرموني.
فكذلك (ال) في (الزاني) تدل على المؤنث وعلى المذكر، لكن الحق سبحانه ذكرهما صراحةً ليُزيلَ ما قد يحدث عند البعض من خلاف: أيهما السبب في هذه الجريمة، هذا الخلاف الذي وقع فيه حتى الأئمة والفقهاء، فهناك مَنْ يقول: الزاني واطئ وفاعل، والمرأة موطوءة، فالفعل للرجل لا للمرأة، فهو وحده الذي يتحمل هذه التبعة.
لذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه يحكي " أن رجلاً ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله وطئت امرأتي في رمضان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " كَفِّر " ".
وأخذ الشافعي من هذا الحديث أن الكفارة إنما تكون على الرجل دون المرأة، وإلا لقال له الرسول: كَفِّرا.
لكن يجب أن نفرق بين وطِئ وجامع: الوَطْءُ فعل الرجل حتى وإن كانت الزوجة كارهة رافضة، أمَّا الجماع فهو حال الرضا والقبول من الطرفين، وفي هذه الحالة تكون الكفارة عليهما معاً؛ لذلك صرَّح الحق تبارك وتعالى بالزاني والزانية ليزيل هذه الشُّبهة وهذا الخلاف.
وأرى في هذه المسألة أن الذي استفتى رسولَ الله هو الرجلُ، ولو كانت المرأة لقال لها أيضاً: كفِّري، فالحكم خاصٌّ بمن استفتى.
والمتأَمل في آيات الحدود يجد مثلاً في حَدِّ السرقة قوله تعالى{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ.. }[المائدة: 38] فبدَأ بالمذكر، أما في حَدِّ الزنا فقال: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي.. } [النور: 2] فبدأ بالمؤنث، لماذا الاختلاف في التعبير القرآني؟
قالوا: لأن دور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه؛ لذلك أمر الحق - تبارك وتعالى - الرجال بغَضِّ البصر وأمر النساء بعدم إبداء الزينة، ذلك ليسُدَّ نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها.
أما في حالة السرقة فعادةً يكون عِبْءُ النفقة ومُؤْنة الحياة على كاهل الرجل، فهو المكلف بها؛ لذلك يسرق الرجل، أمَّا المرأة فالعادة أنها في البيت تستقبل، وليس من مهمتها توفير تكاليف الحياة، لكن لا مانعَ مع ذلك أن تسرق المرأة أيضاً؛ لذلك بدأ في السرقة بالرجل.
إذن: بمقارنة آيات القرآن تجد الكلام موزوناً دقيقاً غاية الدقة، لكل كلمة ولكل حرف عطاؤه، فهو كلام رب حكيم، ولو كانت المسألة مجرد تقنين عادي ما التفتَ إلى مثل هذه المسائل.

ثم يأتي الحد الرادع لهذه الجريمة } فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ.. { [النور: 2] اجلدوا: أمر، لكن لمن؟ لم يقُل أيها الحاكم أو القاضي؛ لأن الأمر هنا للأمة كلها، فأمر إقامة الحدود منوط بالأمة كلها، لكن أتنهض الأمة بأَسْرها وتعدّدها بفعل واحد في كل مكان؟
قالوا: الأمة مثل النائب العام للوالي، عليه أن يختار مَنْ يراه أهلاً للولاية لينفذ له ما يريد، ومَنْ ولَّى قاضياً فقد قضى، وما دام الأمر كذلك فإياك أنْ تُولِّي القضاء مَنْ لا يصلح للقضاء؛ لأن التبعة - إذن - ستكون عليك إنْ ظلم أو جار، فالواو والألف في } فَاجْلِدُواْ.. { [النور: 2] تدل على معانٍ كبيرة، فالأمة في مجموعها لا تستيطع أن تجلد كل زانٍ أو زانية، لكن حين تولي إمامها بالبيعة، وحين تختاره ليقيم حدود الله، فكأنها هي التي أقامتْ الحدود وهي التي نفذت.
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ ولّى أحداً أمراً وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة " ".
لماذا؟ لأنك حين تُولِّي أمور الناس مَنْ لا يصلح لها في وجود مَنْ يصلح إنما تُشيع الفساد في المجتمع، ولا تظن أنك تستطيع أن تخفي شيئاً عن أعيُن الناس، فلهم من الوعي والانتباه ما يُفرِّقون به بين الكفء وغيره، وإنْ سكتوا وتغافلوا فإنهم يتساءلون من ورائك: لماذا ولّى هذا، وترك مَنْ هو أكفأ منه، لا بُدَّ أن له مؤهلات أخرى، دخل بها من الباب الخلفي، ولماذا لا نفعل مثله؟ عندها تسود الفوضى وتضيع الحقوق وينتشر الإحباط والتكاسل والخمول، ويحدث خلل في المجتمع وتتعطل المصالح.
ومع هذا كله لا نستطيع أن نلوم الوالي حين يختار مَنْ لا يصلح قبل أن نلوم أنفسنا أولاً، فنحن الذين اخترناه ودلَّسْنَا في البيعة له، فسلّطه الله علينا ليُدلِّس هو أيضاً في اختياره، أمّا لو أدى كل منا واجبه في اختيار مَنْ يصلح ما وصل إلى مراتب القيادة مَنْ يدلس على الناس، وبذلك تستقيم الأمور، ويتقرب الإنسان للولاية بالعمل وبالجد والإخلاص والأمانة والصدق والتفاني في خدمة المجتمع.
ومن رحمة الله تعالى بالخَلْق أنْ يقذف الإخلاص وحُبّ العمل ويزرع الرحمة بالخلق في بعض القلوب؛ لذلك ترى في كل مصلحة أو في كل مكتب موظفاً متواضعاً يحب الناس ويحرص على قضاء مصالحهم، تراه يرتدي نظارة سميكة يرى من خلالها بصعوبة، وهو دائماً مُنكبٌّ على الأوراق والملفات، ويقصده الخَلْق لقضاء مصالحهم: يا فلان أفندي، أعطني كذا، واكتب لي كذا، وقد وسَّع الله صَدْره للناس فلا يرد أحداً.
هذه المسائل كلها نفهمها من الواو والألف في } فَاجْلِدُواْ.. { [النور: 2] أما الجَلْد فهو الضرب، نقول: جلَده: يعني ضرب جِلْدَه، ورأسه: يعني ضرب رِأسه، وظهَره: ضرب ظهره.

والجلد ضَرْبٌ بكيفية خاصة، بحيث لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً؛ لأن الضربة حسب قوتها وحسب الآلة المستخدمة في الضرب، فمن الضرب ما يكسر العظم ولا يقطع الجلد، ومنه ما يقطع الجلد ولا يكسر العظم، ومنه ما يؤلم دون هذا أو ذاك.
ثم يقول سبحانه: } وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ.. { [النور: 2] تحذير من الرحمة الحمقاء، الرحمة في غير محلها، وعلى حَدِّ قول الشاعر:فَقَسَا لِيزدْجِرُوا ومَنْ يَكُ حَازِماً فَلْيَقْسُ أحْيَاناً على مَنْ يَرحَمُفالرأفة لا تكون في حدود الله، ارأفوا بهم في مسائلكم الخاصة فيما بينكم، وعجيب أن تدعوا الرأفة في مسائل الحدود وأنتم من ناحية أخرى تضربون وتسرقون أموال الناس، وتنتهكون حرماتهم، وتثيرون بينهم الفتنة والحروب، فأين الرأفة إذن؟
إذن: لا مجالَ للرحمة وللرأفَة في حدود الله، فلسنا أرحم بالخَلْق من الخالق، وما وُضِعَتْ الحدود حباً في تعذيب الناس، إنما وُضِعت وشُدِّد عليها لتمنع الوقوع في الجريمة التي تستوجب الحد، فقَطْع يد واحدة تمنع قَطْع آلاف الأيدي.
والذين يتهمون الإسلام بالقسوة والبشاعة في تطبيق الحدود أنَسُوا ما فعلوه في هيروشيما، وما زالت آثاره حتى الآن؟ أنسوا الحروب التي يشعلونها في أنحاء العالم، والتي تحصد آلاف الأرواح؟ أهي الرحمة الحمقاء التي لا معنى لها؟ أم هي الكراهية لحدود الله؟
ونذكر في الماضي أنه كان يخرج مع فوج الحجيج قوة حماية وحراسة من الجيش، تحمي الحجيج من قطاع الطرق، وكانوا يُسَمُّون بعثة الحج هذه (المحمل)، فلما أقامت السعودية حكم الله وطبَّقَتْ الحدود أمَّنَتْ الطرق، واستغنى الناس عن هذه الحراسات مع اتساعها وتشعُّب طرقها ووعورتها بين الجبال والوديان والصحاري الشاسعة التي لا يمكن أن تحكمها أو تحرسها عَيْن بشر، لا بُدَّ لها من تقنين الخالق عز وجل.
ومع ذلك حين أحْصَوا الأيدي التي قُطِعَتْ وجدوها قليلة جداً، وأغلبها من خارج المملكة - وأذكر أنني قلت مرة في خطبة عرفة: ارجعوا إلى حكامكم وقولوا لهم: اقطعوا يد السارق، فالذي لا يقطع يد السارق في نيته أن يسرق؛ لذلك يخاف على يده، فحين تذكر له مسألة قَطْع يد السارق ترتجف يده. والذين يعارضون حدود الله هم أنفسهم يسيرون على مبدأ أن هلاك الثُلث جائز لإصلاح الثلثين، لكن تقف حدود الله غُصَّة في حلوقهم.
والجلْد مائة جلدة يخصّ الزاني غير المحْصَن يعني غير المتزوج، أمَّا المتزوج فله حكم آخر لم يأْت في كتاب الله، إنما أتى في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأن القرآن الكريم ليس كتابَ منهج فقط، إنما كتابَ منهج ومعجزة ومعه أصول، من هذه الأصول أنه قال في آية من آياته: إننا وكلنا رسول الله في أن يُشرِّع للناس.

والحكم الذي يؤخذ من القول عُرْضة لأن نتمحك فيه ونقف أمامه نُقلّب ألفاظه أو نؤوله، أمّا إنْ أُخِذ الحكم من فعل المشرع، فليس فيه شكٌّ أو تمحُّك، وليس قابلاً للتأويل لأنه فعل، وقد فعل الرسول ورجم الزاني والزانية المحصنين في قصة ماعز والغامدية، لأنه مفوض من الله.
ولا بد أن نفرق بين الحدَّيْن، ففي حَدِّ الأمة إنْ زنت يقول تعالى:{ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ.. }[النساء: 25] البعض فَهِم من الآية أنها تشمل حدَّيْ الرَّجْم والجَلْد، فقالوا: في الجلد يمكن أن تجلد خمسين جلده، لكن كيف نجزيء الرجم؟ وما دام الرجم لا يُجَزَّأ فليس عليها رجم.
ولو تأمل هؤلاء نصَّ الآية لخرجوا من هذا الخلاف، فالحق سبحانه وتعالى لم يقل{ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ.. }[النساء: 25] وسكت، إنما قال{ مِنَ الْعَذَابِ.. }[النساء: 25] فخصَّ بذلك حدَّ الجلد؛ لأن العذاب إيلام حَيٍّ، أمَّا الرجم فهو إزهاق حياة، فهما متقابلان.
أَلاَ ترى قول القرآن في قصة سليمان عليه السلام والهدهد:{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ.. }[النمل: 21] فالعذاب غير الذبح.
إذن: تجزئة الحد في الجَلْد فقط، أمّا الرَّجم فلا يُجزَّأ، فإنْ زنتِ الأَمَة المحصنة رُجِمَتْ.
وقوله تعالى: } إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.. { [النور: 2] هذا كلام مُوجِع، وإهاجة لجماعة المؤمنين، فهذا هو الحكم، وهذا هو الحدُّ قد شرعه الله، فإن كنتم مؤمنين بالله وبالحساب والعقاب فطبِّقوا شَرْع الله، وإلاَّ فراجعوا إيمانكم بالله وباليوم الآخر لأننا نشكُّ في صِدْق هذا الإيمان.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يهيجنا ويثيرنا على أهل هذه الجريمة، لنأخذ على أيديهم ونُخوِّفهم بما شرع الله من الحدود.
فالمعنى: أنْ كنتم تؤمنون بالله إلهاً حكيماً مشرعاً، خلق خَلْقاً، ويريد أن يحمي خَلْقه ويُطهره ليكون أهلاً لخلافته في الأرض الخلافة الحقة، فاتركوا الخالق يتصرف في كونه وفي خَلْقه على مراده عَزَّ وجَلَّ، فالخَلْق ليس خَلْقكم لتتدخلوا فيه.
ثم يقول تعالى: } وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ { [النور: 2] فالأمر لا يقف عند حدِّ التعذيب والجَلْد، إنما لا بُدَّ أن يشهد هذا العذاب جماعة من المؤمنين، والطائفة هم الجماعة وأقلها أربعة لماذا؟ قالوا: لأن النفس قد تتحمّل الإهانة إنْ كانت سِراً لا يطَّلع عليها أحد، فلا يؤلمه أنْ تُعذِّبه أشدَّ العذاب بينك وبينه، إنما لا يتحمل أن تشتمه أمام الناس. إذن: فمشاهدة الحدِّ إهانة لصاحبه، وهي أيضاً زَجْر للمشاهد، ونموذج عمليٌّ رادع.
لذلك يقولون: الحدود زواجر وجوابر، زواجر لمن شاهدها أي: تزجره عن ارتكاب ما يستوجب هذا الحدَّ، وجوابر لصاحب الحد تجبر ذنبه وتُسقط عنه عقوبة الآخرة، فلا يمكن أن يستوي مَنْ أقر وأقيم عليه الحد بمَنْ لم يقر، ولأن الزنا لم يثبت بشهود أبداً، وإنما بإقرار، وهذا دليل على أن الحكم صحيح في ذِهْنه، ويرى أن فضوح الدنيا وعذابها أهونُ من فضوح الآخرة وعذابها، إلا لما أقر على نفسه.

فالمسألة يقين وإيمان ثابت بالقيامة وبالبعث والحساب، والعقوبة اليوم أهون، وإنْ كان الزنا يثبت بالشهود فلربما دلَّسُوا، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الرجل مُقرّاً بالزنا فيقول له: " لعلك قبَّلْتَ، لعلك غمزْتَ، لعلك لمسْت " يعني: لم تصل إلى الحد الذي يسمى زنا، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدرأ الحدَّ بالشبهة.
ولهذا المبدأ الإسلامي السمح إنْ أخذتَ الزاني وذهبت ترجمه فآلمه الحجر فحاول الفرار يأمرنا الشرع ألاَّ نتبعه وألاَّ نلاحقه، لماذا؟ لأنه اعتبر أن فراره من الحد كأنه رجوع عن الإقرار.
يقول الحق سبحانه: } الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.. {.

(/2768)


الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)


{ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.. } [النور: 3] لأن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي أحد الزوجين على الآخر، والزاني فيه خِسَّة، فلا يليق به إلا خسيسة مثله يعني: زانية، أو أخس وهي المشركة؛ لأن الشرك أخسُّ من الزنا، لأن الزنا مخالفة أمر توجيهي من الله، أمّا الشرك فهو كفر بالله؛ لذلك فالمشركة أخبث من الزانية. وما نقوله في زواج الزاني نقوله في زواج الزانية { وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.. } [النور: 3].
وهنا يعترض البعض: كيف إنْ كانت الزانية مسلمة: أينكحها مشرك؟ قالوا: التقابل هنا غرضه التهويل والتفظيع فقط لا الإباحة؛ لأن المسلمة لا يجوز أن تتزوج مشركاً أبداً، فالآية توبيخ لها: يا خسيسة، لا يليق بك إلا خسيس مثلك أو أخسّ.
وأرى أن النص محتمل لانفكاك الجهة؛ لأن التي زنتْ تدور بين أمرين: إما أنها أقبلتْ على الزنا وهي تعلم أنه مُحرَّم، فتكون عاصية باقية على إسلامها، أو أنها ردَّت حكم الزنا واعترضت عليه فتكون مشركة، وفي هذه الحالة يستقيم لنا فهم الآية.
ثم يقول تعالى: { وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور: 3] فهذا سبب طُهْر الأنسال أن يُحرِّم الله تعالى الزنا، فيأتي الخليفة طاهر النسل والعنصر، محضوناً بأب وأم، مضموماً بدفء العائلة، لا يتحملون عليه نسمة الهواء؛ لأنه جاء من وعاء طيب طاهر نظيف.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ.. }.

(/2769)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)


الرمي: قذف شيء بشيء، والمحصنات: جمع مُحْصنة من الإحصان، وهو الحفظ، ومنه قولنا: فلان عنده حصانة برلمانية مثلاً. يعني: تكفّل القانون بحفظه؛ لذلك إنْ أرادوا محاسبته أو مقاضاته يرفعون عنه الحصانة أولاً، ومنه أيضاً كلمة الحصن وهو الشيء المنيع الذي يحمي مَنْ بداخله.
يقول تعالى:{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ.. }[الأنبياء: 80] يعني: الدروع التي تحمي الإنسان وتحفظه في الحرب.
والمحصنات: تُطلَق على المتزوجة، لأنها حصَّنَتْ نفسها بالزواج أن تميل إلى الفاحشة، وتطلق أيضاً على الحرة، لأنهم في الماضي كانت الإماء هُنَّ اللائي يدعين لمسألة البغاء، إنما لا تقدم عليها الحرائر أبداً.
لذلك فإن السيدة هنداً التي نُسيِّدها الآن بعد إسلامها، وهي التي لاكتْ كبد سيدنا حمزة في غزوة أحد، لكن لا عليها الآن؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. لما سمعت السيدة هند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي النساء عن الزنا قالت: أو تزني حُرَّة؟ لأن الزنا انتشر قبل الإسلام بين البغايا من الإماء، حتى كانت لهن رايات يرفعْنها على بيوتهن ليُعرفْنَ بها.
والمعنى: يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان، والمراد الزنا { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.. } [النور: 4] وهذا يُسمَّى حدَّ القذف، أن ترمي حُرّة بالزنا وتتهمها بها، ففي هذه الحالة عليك أنْ تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميْتها به، فإن لم تفعل يُقام عليك أنت حَدُّ القذف ثمانين جلدة، ثم لا ينتهي الأمر عند الجَلْد، إنما تُقبل منك شهادة بعد ذلك أبداً.
{ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً.. } [النور: 4] لماذا؟ لأنه لم يَعُدْ أهلاً لها؛ لأنه فاسق { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 4] والفاسق لا شهادةَ له، وهكذا جمع الشارع الحكيم على القاذف حَدَّ الجلْد، ثم أسقط اعتباره من المجتمع بسقوط شهادته، ثم وصفه بعد ذلك بالفسق، فهو في مجتمعه ساقط الاعتبار ساقط الكرامة.
هذا كله ليزجر كل مَنْ تسوِّل له نفسه الخوْضَ في أعراض الحرائر واتهام النساء الطاهرات؛ لذلك عبَّر عن القَذْف بالرمي؛ لأنه غالباً ما يكون عن عجلة وعدم بينة، فالحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ مجتمع الإيمان من أن تشيع فيه الفاحشة، أو مجرد ذكرها والحديث عنها.
ثم يقول الحق سبحانه: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ.. }.

(/2770)


إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)


اختلف العلماء في معنى الاستثناء هنا: أهو استثناء من الفِسْق؟ أم استثناء من عدم قبول الشهادة؟
ذكرنا أن مشروعية التوبة مِنَّة وتكرُّم من الحق - تبارك وتعالى - لأنه لو لم تشرع التوبة كان مَنْ يقع في معصية مرة، ولا تُقبل منه توبه يتجرأ على المعصية ويكثر منها، ولم لا؟ فلا دافعَ له للإقلاع.
إذن: حين يشرع الله التوبة إنما يحمي المجتمع من الفاقدين الذين باعوا أنفسهم، وفقدوا الأمل في النجاة. فمشروعية التوبة كَرَم، وقبولها كرم آخر، لذلك يقول الحق سبحانه:{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ.. }[التوبة: 118] أي: شرع لهم التوبة ليتوبوا فيقبل منهم.
وقوله تعالى: { وَأَصْلَحُواْ.. } [النور: 5] تدل على أن مَنْ وقعتْ منه سيئة عليه أن يتبعها بحسنة، وقد ورد في الحديث الشريف: " وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها.... " لذلك تجد الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية ما، حينما يكبرون ويُحبّون التوبة تراهم شغوفين بحُبِّ الخير وعمل الطاعات، يريدون أن يُكفِّروا بها ما سبق من السيئات، على خلاف مَنْ حافظ على نفسه، ونأى بها عن المعاصي، فتراه بارداً من ناحيتها يفعل الخير على قَدْر طاقته.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُحذِّر عباده: يا عبادي احذروا: مَنْ أخذ مني شيئاً خِلْسة أو ترك لي حكماً، أو تجرأ عليَّ بمعصية سيتعب فيما بعد، ويلاقي الأمَّريْن؛ لأن السيئة ستظل وراءه تطارده وتُجهده لأغفرها له، وسيحتاج لكثير من الحسنات وأفعال الخير ليجبر بها تقصيره في حَقِّ ربه.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ.. }.

(/2771)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)


بعد أن تكلم الحق - تبارك وتعالى - عن الذين يرمون المحصنات، وبيّن حكم القذف، أراد أنْ يُبيِّن حكم الرمي إنْ كان من الزوج لزوجته؛ لأن الأمر هنا مختلف، وربما يكون بينهما أولاد منه أو من غيره، فعليه أن يكون مُؤدباً بأدب الشرع، ولا يجرح الأولاد برمي أمهم ولا ذنب لهم.
لذلك شرع الحق - سبحانه وتعالى - في هذه الحالة حكماً خاصاً بها هو الملاعنة، وقد سُمِّيت هذه الآية آية اللعان.
ويُرْوَى أن هلال بن أمية ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله إني رأيتُ فلاناً على بطن زوجتي، فإنْ تركتُه لآتي بأربعة شهداء لقضي حاجته وانصرف، وإنْ قتلتُه فقد اعتديْتُ عليه.
إذن: ما حَلّ هذا اللغز؟
وينبغي أن نعلم أن الله تعالى لا ينزل التشريع والحكم بدايةً، إنما يترك في الكون من أقضية الحياة واحداثها ما يحتاج لهذا الحكم، بحيث ينزل الحكم فيصادف الحاجة إليه، كما يقولون: موقع الماء من ذي الغُلَّة الصَّادي، يعني: حين ينزل الحكم يكون له موضع فيتلقفه الناس، ويشعرون أنه نزل من أجلهم بعد أنْ كانوا يستشرفون لحكم في مسألة لم يأت فيها حكم.
وقد شرع الله تعالى حكم الملاعنة أو اللعان خاصة، لهذه الحالة التي يلاحظ فيها الزوج شيئاً على أهله، وقد يضع يده عليه، لكن لا يستطيع أنْ يأتي عليه بشهود ليثبت هذه الحالة؛ لذلك جعله الشارع الحكيم يقوم وحده بهذه الشهادة، ويكررها أربع مرات بدل الشهداء الأربع.
يقول: أشهد الله أنني صادق فيما رميتُ به امرأتي، يقولها أربع مرات، وفي الخامسة يقول: ولعنة الله عليَّ إنْ كنتُ كاذباً، وهكذا ينتهي دور الزوج في الملاعنة.

(/2772)


وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)


(يَدْرَأ) أي: يدفع العذاب عن الزوجة أن تشهد هي الأخرى أربع شهادات بالله، تقول: أشهد الله أنه كاذب فيما رماني به، وفي الخامسة تقول: غضب الله عليَّ إنْ كان هو من الصادقين. فإن امتنعت الزوجة عن هذه الشهادة فقد ثبت عليها الزنا، وإنْ حلفتْ فقد تعادلا، ولم يَعُدْ كل منهما صالحاً للآخر، وعندها يُفرِّق الشرع بينهما تفريقاً نهائياً لا عودةَ بعده، ولا تحل له أبداً.
هذا التشريع فَضْل من الله؛ لأنه أنهى هذه المسألة على خير ما تنهي عليه؛ لذلك يقول الحق سبحانه بعدها: { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ.. }.

(/2773)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)


أي: لولا هذا لَفُضحتم ولتفاقمت بينكم العداوة، لكن عصمكم فضل الله في هذا التشريع الحكيم المناسب لهذه الحالة.
والقذف جريمة بشعة في حَقِّ المجتمع كله، تشيع فيه الفاحشة وتتقطع الأواصر، هذا إنْ كان للمحصنات البعيدات، وهو أعظم إنْ كان للزوجة، لكن ما بالك إنْ وقع مثل هذا القول على أم ليست أماً لواحد، إنما هي أم لجميع المؤمنين، هي أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها وأرضاها - فكانت مناسبة أن يذكر السياق ما كان من قَذْف السيدة عائشة، والذي سُمِّي بحادثة الإفك؛ لماذا؟
لأن الله تعالى يريد أن يُعطينا الأُسْوة في النبوة نفسها، ويريد أنْ يُسلِِّي عائشة صاحبة النسب العريق وأم المؤمنين، وقد قيل فيها ما قيل؛ لذلك ستظل السيدة عائشة أُسْوة لكل شريفة تُرْمَى في عِرْضها، ويحاول أعداؤها تشويه صورتها، نقول لها: لا عليك، فقد قالوا مثل هذا في عائشة.
وتقوم آيات الإفك دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم - في البلاغ عن ربه، فذكر أنهم يرمون المحصنات، ويرمون زوجاتهم، والأفظع من ذلك أنْ يرموا زوجة النبي وأم المؤمنين، فيقول سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.. }.

(/2774)


إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)


الإفك: لدينا نِسَب ثلاث للأحداث: نسبة ذهنية، ونسبة كلامية حين تتكلم، ونسبة خارجية. فحين أقول: محمد مجتهد. هذه قضية ذهنية، فإن نطقتَ بها فهي نسبة كلامية، فهل هناك شخص اسمه محمد ومجتهد، هذه نسبة خارجية، فإنْ وافقت النسبةُ الكلامية النسبةَ الخارجية، فالكلام صِدْق، وإنْ خالفت فالكلام كذب.
فالصدق أنْ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ، والكذب أَلاَّ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ، والكذب قد يكون غير متعمد، وقد يكون مُتعمداً، فإنْ كان مُتعمداً فهو الإفك، وإن كان غير متعمد كأنْ أخبره شخص أن محمداً مجتهد وهو غير ذلك، فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس كاذباً.
فالإفك - إذن - تعمُّد الكذب، ويعطي ضد الحكم، كأن تقول: محمد مجتهد. وأنت تعلم أنه مهمل؛ لذلك كان الإفكُ أفظعَ أنواع الكذب؛ لأنه يقلب الحقائق ويختلق واقعاً مضاداً لما لم يحدث.
يقول تعالى:{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىا }[النجم: 53] وهي القُرَى التي جعل الله عاليها سافلها، وكذلك الإفك يُغيِّر الواقع، ويقلبه رَأْساً على عَقِب.
والعصبة: الجماعة التي تربتط حركتها لتحقيق غاية متحدة، ومن ذلك نقول: عصابة مخدرات، عصابة سرقات، يعني: جماعة اتفقوا على تنفيذ حَدَث لغاية واحدة، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف:{ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ.. }[يوسف: 14].
وما دام أهلُ الإفْك عصبةً فلا بُدَّ أن لهم غاية واحدة في التشويه والتبشيع، وكان رئيسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وهو شيخ المنافقين، ومعذور في أن يكون كذلك، ففي اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أُبيٍّ تاجاً ليُنصِّبوه مَلِكاً على المدينة، فلما فُوجِيء برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه.
لذلك فهو القائل:{ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ.. }[المنافقون: 8] يقصد أنه الأعزُّ، فردَّ عليه الحق - تبارك وتعالى - صدقت، لكن العزة ستكون لله وللرسول وللمؤمنين، وعليه فالخارج منها أنت.
وهو أيضاً القائل:{ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىا يَنفَضُّواْ.. }[المنافقون: 7] والعجيب أنه يعترف أن محمداً رسول الله، ويقولها علانية، ومع ذلك ينكرها بأعماله وتصرفاته، ويحدث تشويشاً في الفكر وفي أداء العبارة.
وما دام أن الحق سبحانه سمَّى هذه الحادثة في حَقِّ أم المؤمنين عائشة إفكاً فلا بُدَّ أنهم قَلَبوا الحقائق وقالوا ما يناقض الواقع.
والقصة حدثت في غزوة بن المصطلق، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته: مَنْ تخرج منهن معه. وهذا ما تقتضيه عدالته صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الغزوة أقرع بينهن فخرج السهم لعائشة فخرجتْ معه، وبعد الغزوة وأثناء الاستعداد للعودة قالت السيدة عائشة: ذهبت لأقضي حاجتي في الخلاء، ثم رجعت إلى هَوْدَجِي ألتمس عِقْداً لي من (جَزْع ظَفَار) وهو نوع نفيس.

فلما عادت السيدة عائشة وجدت القوم قد ذهبوا، ولم تجد هَوْدجها فقالت في نفسها لا بُدَّ أنهم سيفتقدونني وسيعودون. لكن كيف حمل القوم هودج عائشة ولم تكُنْ فيه؟ قالوا: لأن النساء كُنَّ خِفَافاً لم يثقلن، وكانت عائشة نحيفة، لذلك حمل الرجال هَودْجها دون أن يشعروا أنها ليست بداخله. ثم نامت السيدة عائشة في موضع هودجها تنتظر مَنْ يأتيها، وكان من عادة القوم أن يتأخر أحدهم بعد الرحيل ليتفقد المكان ويُعقب عليه، عَلَّه يجد شيئاً نسيه القوم أو شخصاً تخلَّف عن الرَّكْب.
وكان هذا المعقِّب هو صفوان بن المعطل، فلما رأى شبحَ إنسان نائم فاقترب منه، فإذا هي عائشة رضي الله عنها، فأناخ ناقته بجوارها، وأدار وجهه حتى ركبتْ وسار بها دون أن ينظر إليها وعَفَّ نفسه، بدليل أن القرآن سمَّى ما قالوه إفْكاً يعني: مناقضاً للواقع، فصفوان لم يفعل إلا نقيض ما قالوا.
ولما قَدِم صفوان يقود ناقته بعائشة رآه بعض أهل النفاق فاتهموهما، وقالوا في حقهما مَا لا يليق بأم المؤمنين، وقد تولّى هذه الحملة رَأْسُ النفاق في المدينة عبد الله بن أُبيٍّ ومِسْطح بن أُثَاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله وأخت زينب بنت جحش، فروَّجوا هذا الاتهام وأذاعوه بين الناس.
ثم يقول سبحانه: } لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.. { [النور: 11] لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته؟ قالوا: لأن القرآن حين تُتَّهم عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سموات في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، وحين يُفضَح قوم على لسان القرآن، لا بُدَّ أن يعتبر الآخرون، ويخافوا إنْ فعلوا مخالفة أنْ يفتضح أمرهم؛ لذلك جاء هذا الموقف درساً عملياً لمجتمع الإيمان.
نعم، أصبحت الحادثة خيراً؛ لأنها نوع من التأييد لرسول الله ولدعوته، فالحق - تبارك وتعالى - يُؤيِّد رسوله في الأشياء المسرَّة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه، ولو بالتدليس، وبالمكر ولو بالإسرار والكَيْد الخفي، ففي ذروة عداء قريش لرسول الله كان إيمان الناس به يزداد يوماً بعد يوم.
وقد ائتمروا عليه وكادوا له ليلاً ليلة الهجرة، فلم يفلحوا، فحاولوا أن يسحروه، وفعلاً صنعوا له سحراً، ووضعوه في بئر ذروان في مُشْط ومشاطة، فأخبره بذلك جبريل عليه السلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فجاء به.
إذن: عجزوا في المواجهة، وعجزوا في التبييت والكيد، وعجزوا حتى في استخدام الجن والاستعانة به، وهنا أيضاً عجزوا في تشويه صورة النبوة والنَّيْل من سمعتها، وكأن الحق سبحانه يقول لأعدائه: اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبداً، ومن هنا كانت حادثة الإفك خيراً لجماعة المؤمنين.
ومع ذلك،

" لم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون في حقها، لكن تغيَّر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يَعُدْ يداعبها كعادته، وكان يدخل عليها فيقول: " كيف تيكم " وقد لاحظت عائشة هذا التغيُّر لكن لا تعرف له سبباً إلى أنْ تصادف أنْ سارت هي وأم مِسْطح أحد هؤلاء المنافقين، فعثرتْ فقالت: تعس مِسْطح فنهرتها عائشة: كيف تدعو على ابنها، فقالت: إنك لا تدرين ما يقول؟ عندها ذهبتْ السيدة عائشة إلى أمها وسألتها عَمَّا يقوله الناس فأخبرتها.
لذلك لما نزلت براءة عائشة في القرآن قال لها أبو بكر: قومي فاشكري رسول الله، فقالت: بل أشكر الله الذي بَرّأني ".
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: } لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ.. { [النور: 11].
عادةً ما يستخدم الفعل (كَسَبَ) المجرد في الخير، والفعل اكتسب المزيد الدال على الافتعال في الشر، لماذا؟ قالوا: لأن فِعْل الخير يتمشى وطبيعة النفس، وينسجم مع ذراتها وتكوينها، فالذي يُقدِم على عمل الخير لا يقاوم شيئاً في نفسه، ولا يعارض ملكَة من مَلَكَاته، أو عادة من العادات.
وهذه نلاحظها حتى في الحيوانات، أَلاَ ترى القطة: إنْ وضعتَ لها قطعة لحم تجلس بجوارك وتأكلها، وإنْ أخذتْها منك خَطْفاً تفرّ بها هاربة وتأكلها بعيداً عنك. إذن: في ذاتية الإنسان وفي تكوينه - وحتى في الحيوان - ما يُعرف به الخير والشر، والصواب والخطأ.
وأنت إذا نظرتَ إلى ابنتك أو زوجتك تكون طبيعياً مطمئناً؛ لأن مَلكَات نفسك معك موافقة لك لا تعارضك في هذا الفعل، فإنْ حاولتَ النظر إلى ما لا يحلّ لك تختلس النظرة وتسرقها، وتحاول سترها حتى لا يلحظها أحد، وقد ترتبك ويتغير لونك، لماذا؟ لأنك تفعل شيئاً غير طبيعي، لا حَقَّ لك فيه، فتعارضك ملكَاتُ نفسك، وذراتُ تكوينك. فالأمر الطبيعي تستجيب له النفس تلقائياً، أمّا الخطأ والشر فيحتاج إلى افتعال، لذلك عبَّر عن المكر والتبييت والكيد بـ (اكتسب) الدال على الافتعال.
وقوله تبارك تعالى: } وَالَّذِي تَوَلَّىا كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ { [النور: 11].
تولَّى كبر الشيء: يعني قام به وله حَظٌّ وافر فيه، أو نقول: هو ضالع فيه، والمقصود هنا عبد الله بن أُبيّ الذي قاد هذه الحملة، وتولّى القيام بها وترويجها } لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ { [النور: 11] أي: يناسب هذه الجريمة.

(/2775)


لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)


يُوجِّهنا الحق - تبارك وتعالى - إلى ما ينبغي أن يكون في مثل هذه الفتنة من ثقة المؤمنين بأنفسهم بإيمانهم، وأنْ يظنوا بأنفسهم خيراً وينأَوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتهامات التي لا تليق بمجتمع المؤمنين، فكان على أول أُذن تسمع هذا الكلام على أول لسان ينطق به أن يرفضه؛ لأن الله تعالى ما كان ليُدلس على رسوله وصَفْوته من خَلْقه، فيجعل زوجته محلَّ شكٍّ واتهام فضلاً عن رَمْيها بهذه الجريمة البشعة.
{ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [النور: 12] كان من المنتظر قبل أن تنزل المناعة في القرآن أن تأتي من نفوس المؤمنين أنفسهم، فيردون هذا الكلام.
و (لولا) أداة للخصِّ والحثِّ، وقال: { الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ.. } [النور: 12] لأنه جال في هذه الفتنة رجال ونساء، والقرآن لا يحثهم على ظنِّ الخير برسول الله أو زوجته، وإنما ظن الخير بأنفسهم هم؛ لأن هذه المسألة لا تليق بالمؤمنين، فما بالك بزوجة نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
{ وَقَالُواْ.. } [النور: 12] أي: قبل أن ينزل القرآن ببراءتها { هَـاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [النور: 12] يعني: كذب متعمد واضح بيِّن لأنه في حق مَنْ؟ في حق أم المؤمنين التي طهَّرها الله واختارها زوجة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه: { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ.. }.

(/2776)


لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)


وسبق أنْ ذكرت الآيات حُكْم القذف، وأن على مَنْ يرمي المحصنة بهذه التهمة عليه أن يأتي بأربعة شهداء ليثبت صِدْق ما قال، فإنْ لم يأْتِ بهم فهو كاذب عند الله، ويجب أنْ يُقام عليه حَدُّ القذف.
ثم يقول تعالى: { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ.. }.

(/2777)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)


{ أَفَضْتُمْ.. } [النور: 14] أن تندفع إلى الشيء اندفاعاً تقصد فيه السرعة، ومعنى السرعة أن يأخذ الحدث الكبير زمناً أقلَّ مما يتصوّر له، كالمسافة تمشيها في دقيقتين، فتسرع لتقطعها في دقيقة واحدة، فكأنهم أسرعوا في هذا الكلام لما سمعوه، كما يقولون: خبَّ فيها ووضع.
لكن، لماذا تفضَّل الله عليهم ورحمهم، فلم يمسَّهم العذاب، ولم يُجازهم على افترائهم على أم المؤمنين؟
قالوا: لأن الحق - تبارك وتعالى - أراد من هذه المسألة العبرة والعظة، وجعلها للمؤمنين وسيلةَ إيضاح، فليس المراد أن يُنزل الله بهم العذاب، إنما أن يُعلمهم ويعطيهم درساً في حِفْظ أعراض المؤمنين.

(/2778)


إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)


انظر إلى بلاغة الأداء القرآني في التعبير عن السرعة في إفشاء هذا الكلام وإذاعته دون وَعْي ودون تفكير، فمعلوم أن تلقِّي الأخبار يكون بألأُذن لا بالألسنة، لكن من سرعة تناقل هذا الكلام فكأنهم يتلقونه بألسنتهم، كأن مرحلة السماع بالأذن قد ألغيت، فبمجرد أن سمعوا قالوا.
{ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [النور: 15].
{ بِأَفْوَاهِكُمْ } [النور: 15] يعني: مجرد كلام تتناقله الأفواه، دون أنْ يُدقِّقوا فيه؛ لذلك قال بعدها { مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ.. } [النور: 15] وهذا الكلام ليس هيناً كما تظنون، إنما هو عظيم عند الله؛ لأنه تناول عِرْض مؤمن، وللمؤمن حُرْمته، فما بالك إنْ كان ذلك في حَقِّ رسول الله؟
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ.. }.

(/2779)


وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)


هذا ما كان ما يجب أن تقابلوا به هذا الخبر، أنْ تقولوا لا يجوز لنا ولا يليق بنا أن نتناقل مثل هذا الكلام. وكلمة { سُبْحَانَكَ.. } [النور: 16] تقال عند التعجُّب من حدوث شيء. والمعنى: سبحان الله نُنزِّهه ونُجِله ونُعليه أن يسمح بمثل الكذب الشنيع في حقِّ رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا كلام لا يصح أن نتكلم به ولو حتى بالنفي، فإنْ كان الكلام بالإثبات جريمة فالكلام بالنفي فيه مَظنة أن هذا قد يحدث.
كما لو قلت: الوَرِع فلان، أو الشيخ فلان لا يشرب الخمر، فكأنه رغم النفي جعلته مظنة ذلك، فلا يصح أن ينسب إليه السوء ولو بالنفي، فذلك ذَمٌّ في حقِّه لا مدح.
كذلك التحدث بهذه التهمة لا يليق بأم المؤمنين، ولو حتى بالنفي، ومعنى { بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [النور: 16] كذب يبهت سامعه، ويُدهِشه لفظاعته، وشناعته. فنحن نأنف أن نقول هذا الكلام، ولو كنا منكرين له.

(/2780)


يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)


الوعظ: أن تأتي لِقمة الأشياء فتعِظ بها، كالرجل حينما يشعر بنهايته يحاول أنْ يعِظَ أولاده ويُوصيهم، لكن لا يُوصيهم بكُلِّ أمور الحياة، إنما بالأمور الهامة التي تمثل القمة في أمور الحياة. ووعظ الحق - تبارك وتعالى - لعبادة من لُطفه تعالى ورحمته، يعظكم؛ لأنه عزيز عليه أنْ يؤاخذكم بذنوبكم.
وتذييل الآية بهذا الشرط: { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [النور: 17] حثٌّ وإهاجة لجماعة المؤمنين، لينتهوا عن مثل هذا الكلام، وألاَّ يقعوا فيه مرة أخرى، وكأنه تعالى يقول لهم: إنْ عُدْتُم لمثل هذا فراجعوا إيمانكم؛ لأن إيمانكم ساعتها سيكون إيماناً ناقصاً مشكوكاً فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ.. }.

(/2781)


إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)


{ يُحِبُّونَ.. } [النور: 19] الحب عمل قلبي، والكلام عمل لساني، وترجمة عملية لما في القلب، فالمعنى: الذين يحبون هذا ولو لم يتكلَّموا به؛ لأن لهذه المسألة مراحل تبدأ بالحب وهو عمل القلب، ثم التحدث، ثم السماع دون إنكار.
ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها، وهي مجرد عمل القلب الذي لم يتحول إلى نزوع وعمل وكلام إذن: المسألة خطيرة.
والبعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، نعم هي للمتهم، لكن قد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكن المصيبة أنها ستكون أُسْوة سيئة في المجتمع.
وهذا توجيه من الحق - سبحانه وتعالى - إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تُرَاعى، وهي: حين تسمع خبراً يخدش الحياءَ أو يتناول الأعراض أو يخدش حكماً من أحكام الله، فإياك أنْ تشيعه في الناس؛ لأن الإشاعة إيجاد أُسْوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضاً على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى مَنْ يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.. } [النور: 19].
والحق - تبارك وتعالى - لم يعصم أحداً من المعصية وعمل السيئة، لكن الأَسْوء من السيئة إشاعتها بين الناس، وقد تكون الإشاعة في حق رجل محترم مُهَابٍ في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة، فإنْ سمعت في حَقِّه مَا لا يليق فلربما زهّدك ما سمعتَ في هذا الشخص، وزهَّدك في حسناته وإيجابياته فكأنك حرمتَ المجتمع من حسنات هذا الرجل.
وهذه المسألة هي التعليل الذي يستر الله به غَيْب الخَلْق عن الخَلْق، إذن: سَتْر غيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تُثري الخير في المجتمع وتُنميه، ويجعلك تتعامل مع الآخرين، وتنتفع بهم على عِلاَّتهم، وصدق الشاعر الذي قال:فَخُذْ بِعلْمي ولاَ تركَنْ إلىَ عَمِلي وَاجْنِ الثمارَ وخَلِّ العُودَ للنَّارِثم يقول الحق سبحانه: { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ.. }.

(/2782)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)


انظر كم فضل من الله تعالى تفضّل به على عباده في هذه الحادثة، ففي كل مرحلة من مراحل هذه القضية يقول سبحانه: { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ.. } [النور: 20] وهذا دليل على أن ما حدث كان للمؤمنين نعمة وخير، وإنْ ظنوه غير ذلك.
لكن أين جواب لولا؟ الجواب يُفهَم من السياق وتقديره: لَفُضحْتُم ولَهلكتم، وحصل لكم كذا وكذا، ولك أنْ تُقدِّره كما تشاء.
وما منع عنكم هذا كله إلا فضل الله ورحمته.
وفي موضع آخر يوضح الحق سبحانه منزلة هذا الفضل:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].
فالحق - سبحانه وتعالى - شرع منهجاً ويحب مَنْ يعمل به، لكن فرحة العبد لا تتم بمجرد العمل، وإنما بفضل الله ورحمته في تقبُّل هذا العمل. إذن: ففضْل الله هو القاسم المشترك في كل تقصير من الخَلْق في منهج الخالق عز وجل.
وبعد هذه الحادثة كان لا بُدَّ أنْ يقول تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.. }.

(/2783)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)


كأن الشيطان له خطوات متعددة ليست خطوة واحدة، وقد أثبت الله عداوته لبني آدم، وهي عداوة مُسبِّبة ليست كلاماً نظرياً، إنما هو عدو بواقعة ثابتة، حيث امتنع عن السجود لآدم، وعصى أمر الله له، بل وأبدى ما في نفسه وقال:{ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }[الأعراف: 12].
وقال:{ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }[الإسراء: 61] وهكذا علّلَ امتناعه بأنه خير، وكأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربه.
والحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود، إنما يحذرنا منه، ويُنبِّهنا إلى خطره ويُربِّي فينا المناعة من الشيطان؛ لأن عداوته لنا عداوة مركزة، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق، إنما هي عداوة لها منهج ولها خطة.
فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خَلْقه، فقال:{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82].
فلو أرادنا ربنا - عز وجل - مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل، إنما تركنا سبحانه للاختيار، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب؛ لذلك قال بعدها:{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[الحجر: 40] فمَنِ اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل.
إذن: مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه وبين الشيطان، إنما بين الشيطان وبني آدم.
فقوله تعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ.. } [النور: 21] نداء: يا من آمنتم بإله كأنه يقول: تَنبَّهوا إلى شرف إيمانكم به، وابتعدوا عما يُضعِف هذا الإيمان، أو يفُتُّ في عَضُدِ المؤمنين بأيِّ وسيلة، وتأكّدوا أن الشيطان له خطوات متعددة.
{ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.. } [النور: 21] فإنْ وسوس لك من جهة، فتأبَّيْتَ عليه ووجد عندك صلابةً في هذه الناحية وجَّهك إلى ناحية أخرى، وزيّن لك من باب آخر، وهكذا يظل بك عدوك إلى أنْ يُوقِعك، فهو يعلم أن لكل إنسان نقطة ضَعْف في تكوينه، فيظل يحاوره إلى أنْ يصل إلى هذه النقطة.
والشيطان: هو المتمرد العاصي من الجن، فالجن مقابل الإنس، فمنهم الطائع والعاصي، والعاصي منهم هو الشيطان، وعلى قِمتهم إبليس؛ لذلك يقول تعالى في سورة الكهف:{ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.. }[الكهف: 50].
وسبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين المعصية من قِبل النفس والمعصية من قِبل الشيطان، فالنفس تُلِح عليك في معصية بعينها لا تتعدّاها إلى غيرها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً على أيِّ: وجه من الوجوه، فإن امتنعت عليه في معصية جَرَّك إلى معصية أخرى أياً كانت.
ثم يقول سبحانه: { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ.. } [النور: 21] ولك أنْ تسأل: أين جواب (مَنْ) الشرطية هنا؟ قالوا: حُذِف الجواب لأنه يُفهم من السياق، ودَلَّ عليه بذكر عِلَّته والمسبّب لَه، وتستطيع أن تُقدِّر الجواب: مَنْ يتبع خطوات الشيطان بُذِقْه ربه عذاب السعير؛ لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، فَمَنْ يتبع خطواته، فليس له إلا العذاب، فقام المسبّب مقام جواب الشرط.

والكلام ليس كلام بشر، إنما هو كلام رَبِّ العالمين. وأسلوب القرآن أسلوب رَاقٍ يحتاج إلى فكر وَاعٍ يلتقط المعاني، وليس مجرد كلام وحَشْو.
أَلاَ ترى بلاغة الإيجاز في قوله تعالى من سورة النمل:{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }[النمل: 28].
ثم يقول تعالى بعدها:{ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل: 29].
وتأمل ما بين هذيْن الحدثيْن من أحداث حُذِفت للعلم بها، فوعي القاريء ونباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد.. وو إلخ فهذه أحداث يُرتِّبها العقل تلقائياً.
وقد أوضح الشيطانُ نفسه هذه الخطوات وأعلنها، وبيَّن طرقه في الإغواء، ألم يقل:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16] فلا حاجةَ للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلاً، إنما يذهب إلى المسجد ليُفسِد على المصلين صلاتهم، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التي تنتابه في صلاته، وهي في الحقيقة ظاهرة صحية في الإيمان، ولولا أنك في طاعة وعبادة ما وسوس لك.
لكن مصيبتنا أن الشيطان فقط طرف الخيط، فنسير نحن خَلْفه (نكُرّ في الخيط كَرّاً) ولو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذْنا بالله من الشيطان الرجيم، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى:{ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. }[الأعراف: 200].
إذن: إياك أنْ تقبل منه طرف الخيط؛ لأنك لو قَبِلْته فلن تقدر عليه بعد ذلك.
ومن خطوات الشيطان أيضاً قوله:{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ.. }[الأعراف: 17].
إذن: للشيطان في إغواء الإنسان منهج وخُطّة مرسومة، فهو يأتي الإنسان من جهاته الأربع: من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله. لكن لم يذكر شيئاً عن أعلى وأسفل؛ لأن الأولى تشير إلى عُلُوِّ الربوبية، والأخرى إلى ذُلِّ العبودية، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدعاء، وحين تضع جبتهك على الأرض في سجودك؛ لذلك لا يأتيك عدوك من هاتين الناحيتين.
ثم يقول تعالى: } وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ.. { [النور: 21].
قلنا: إن فضل الجزاء يتناوبه أمران: جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق؛ لذلك ينبغي أن نقول في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب. فإنْ عاملنا ربنا - عز وجل - بالعدل لَضِعْنا جميعاً.
لكن، في أيِّ شيء ظهر هذا الفضل؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى لم يُعذِّبها بالاستئصال، كما أخذ الأمم السابقة، وظهر فَضْل الله على هذه الأمة في أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرَّض للحَدث، وحذرنا قديماً من الشيطان قبل أن نقع في المعصية، وقبل أن تفاجئنا الأحداث، فقال سبحانه:

{ فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ.. }[طه: 117] وإلا لغرق الإنسان في دوامة المعاصي.
لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يُربِّي المناعة في النفس، فلم يتركنا ربنا - عز وجل - في غفلة إلى أنْ تقعَ في المعصية، كما نُحصِّن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها.
وقوله تعالى: } مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً.. { [النور: 21] (زكَى) تطهَّر وتنقّى وصُفِّيِ } وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ { [النور: 21] وقال: } سَمِيعٌ عَلِيمٌ { [النور: 21] لأنه تعالى سبق أنْ قال:{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ.. }[النور: 19] ذلك في ختام حادثة الإفك التي هزَّتْ المجتمع الإسلامي في قمته، فمسَّتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصِّدِّيق وزوجته أم المؤمنين عائشة وجماعة من الصحابة.
لذلك قال تعالى (وَاللَّهُ سَمِيعٌ ) لما قيل (عَلِيمٌ) [النور: 21] بما تُكِّنُه القلوب من حُبٍّ لإشاعة الفاحشة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَىا.. {.

(/2784)


وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)


تورط في حادثه الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طُبِع على الخير، لكنه فُتِن بما قيل وانساقَ خلف مَنْ روَّجوا لهذه الإشاعة، وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها اقسم أبو بكر ألاّ ينفق عليه، وقد كان يعيش وأهله في سَعَة أبي بكر وفضله؛ لأن هذه الفتنة جعلتْ بعض أهل الخير يضِنُّ به.
وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يُقدِّر صنائع المعروف، وهذا الفعل يُزهِّد الناس في الخير، ويصرفهم عن عمل المعروف، والله تعالى يريد أنْ يُصحِّح لنا هذه المسألة، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعةَ الإيمان؛ لأن الذي يعصي الله فيك لا تكافئه إلا بأنْ تطيع الله فيه.
وحين تترك مَنْ أساء إليك لعقاب الله وتعفُو عنه أنت، فإنما تركتَه للعقاب الأقوى؛ لأنك إنْ عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك، وإنْ تركتَ عقابه لله عاقبه بقدْر طاقته تعالى وقدرته.
إذن: العافي أقسى قَلْباً من المنتقم، وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأخ حين يعتدي على أخيه الأصغر، فيأتي الأب فيجد صغيره مهاناً مظلوماً، فيأخذه في حضنه، ويحاول إرضاءه وتعويضه عَمَّا لَحِقه من ظلم أخيه، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى.
ومن هنا يجب عليك أن تُسَرَّ بمَنْ جعل الله في جانبك، وتُحسن إليه، لا أن تردّ له الإساءة بمثلها.
إذن: نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر أَلاَّ ينفق عليه وعلى أهله، وأنْ يمنع عنه عطاءه وبِرّه، نزلت لتصحح للصِّديق هذه النظرة وتُوجِّه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس.
فقال تعالى: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ.. } [النور: 22].
{ يَأْتَلِ.. } [النور: 22] ائتلى مثل اعتلى تماماً، ومنها تألّى يعني: حلف وأقسم، يوجه الحق - تبارك وتعالى - الصِّديق أبا بكر، ويذكر لفظ { أُوْلُواْ.. } [النور: 22] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام، ففي كل ناحية له فضل؛ لذلك أعطاه وصفيْن مثل ما أعطى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال للصِّديق: { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ.. } [النور: 22] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم:{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ.. }[المائدة: 13].
كذلك، أَلاَ ترى الصِّدِّيق ثانَي اثنينِ في الغار، وثاني اثنين في أمور كثيرة، فهو ثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى؛ لذلك صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عن الصِّديق: " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان ". يعني: في التسابق في الخير " فسبقته إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني إليها لاتبعته " ".


ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد، إنما بصيغة الجمع تكريماً وتعظيماً.
أَلاَ ترى الصِّديق مع ما عُرِف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وحدثتْ مسألة الردّة يقف ويقول: " والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله لجالدتهم بالسيف، لو لم أجد إلا الذر ".
هذا موقف الصِّديق رقيق القلب، ليِّن الجانب، صاحب الرحمة والحنان، الذي تقول عنه ابنته " إنه رجل بكّاء " يعني: كثير البكاء. في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع عُرِف عنه من الشدة والقسوة على الكفار. لكن هذا التناقض في موقف كل منها يقوم دليلاً على أن الإسلام ليس طَبْعاً غالباً على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه، فموقف الردة هو الذي جعل من الصِّدِّيق أسداً شجاعاً قاسيَ القلب، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصِّدِّيق لقالوا: شِدّة أَلِفها الناس من عمر.
فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبْع خاص يظل عليه، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانياً، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى:{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ.. }[الفتح: 29].
فالمسلم ليس مفطوراً لا على الشدة وحدها، ولا على الرحمة وحدها، إنما عليه أنْ يتصرَّف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله.
فقوله تعالى: } أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ.. { [النور: 22] يقول للصِّديق: أنت رجل فاضل صِدِّيق، وعندك سعة فلا تعطي ولا تُؤثر على نفسك من ضيق، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مِسْطح، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله، وعُوقِبَ بحدِّ القذف ثمانين جَلْدة، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك.
ومن سماحة الإسلام أن مَنْ وقع في حَدٍّ وعُوقِب به لا يجوز لأحد أنْ يُعيِّره بذنبه؛ لأنه تاب وأناب وطهّره الله منه بالحدِّ، وانتهت المسألة، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه.
فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول: ارجع إلى فضلك يا أبا بكر، وعُدْ أنت إلى سعتك، وكُنْ موصولَ المروءة، ولا تقطع رحمك، يريد - سبحانه وتعالى - أنْ يُصفِّي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلتْ المجتمع المؤمن في المدينة.
ولا يليق بذي الفضل والسَّعَة أنْ يعامل الناس بالعدل، فصحيح أن مِسْطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصِّدِّيق صاحب الفضل والسَّعَة.
ولو أجريتَ إحصاءً للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون، ستعلم أن المؤمنين قِلَّة والكافرين كثرة، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون: أعطوا مَنْ آمن، واتركوا مَنْ كفر؟ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مَثَلاً في ذاته عز وجل، فكما أنه يعطي مَنْ كفر به ويرزقه، بل ربما كان أحسن حالاً مِمَّنْ آمن، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عَمَّنْ أساء إليك.

لذلك يقول سبحانه في آية أخرى:{ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 224].
فإنْ كنت بارّاً بأحد وبدر منه شيء فلا تحلف بالله أنك لا تبرُّه، فقد تهدأ ثورتك عليه، وتريد أنْ تبرَّه، وتتحجج بحلفك، إذن: لا تجعلوا الله عُرْضة لحلف يمنعكم من المعروف.
ثم يقول سبحانه: } أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَىا وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. { [النور: 22] صحيح أن مِسْطح من ذوي قُرْبى أبي بكر ومن المساكين، لكن يعطيه الله نيشاناً آخر، فلم يخرجه مَا قال من وصف المهاجر، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم.
فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تُحبط الحسنة، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها، كما قال عز وجل:{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ.. }[هود: 114].
فرغم ما وقع فيه مِسْطح، فقد أبقاه الله في العَتْب على أبي بكر، وتحنين قلبه، وأبقاه في المهاجرين.
} وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ.. { [النور: 22] العفو: ترك العقوبة على الذنب، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تُؤنبه، وتمنّ عليه بعفوْك، وتُذكِّره دائماً أنه لا يستحق منك هذا العفو؛ لذلك يحثنا ربنا - تبارك وتعالى - على الصفح بعد العفو، والصفح: تَرْك المنِّ وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهونَ من عفوك عنه.
ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعاً، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه.
وفي ذلك يقول سبحانه:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }[النحل: 126].
لو تأملنا حقيقة المثْلية في رَدِّ الإساءة لوجدناها صعبة في تقديرها، فإنْ ضربَك شخصٌ ضربة، أعندك القدرة التي تردُّ بها هذه الضربة بمثلها تماماً بنفس الطريقة، وبنفس القوة، ونبفس الألم، بحيث لا تكون أنت مُعْتدياً؟ إنك لو تأملتَ هذه المثلية لفضَّلْتَ العفو بدل الدخول في متاهات أخرى.
وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إنْ تأخر في السداد أن يقطع رطلاً من لحمه، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي، وأخبره بما كان بينهما من شرط، وكان القاضي ذكياً فقال للمرابي: خُذ السكين واقطع رطلاً من لحمه، لكن إنْ زاد أخذناه منك، وإنْ نقص أخذناه منك، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة.
فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو، وانتهت المسألة على خير ما يكون.

وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].
فالحق - تبارك وتعالى - يجعل لنا مراتب في رَدِّ السيئة، فالعقاب بالمثل مرتبة، وكَظْم الغيظ مرتبه، والعفو مرتبة، والصفح مرتبة، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى مَنْ أساء إليك{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].
ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أُسْوة لعباده فيقول: } أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.. { [النور: 22] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك، فلماذا لا تغفر أنت لمَنْ أساء إليك؟ وكأن ربنا - عز وجل - يريد أن يُصلح ما بيننا؛ لذلك لما نزلتْ هذه الآية في شأن أبي بكر قال: أحب يا رب، أحب يا رب، أحب يا رب.
ومعنى } أَلاَ.. { [النور: 22] أداة للحضِّ وللحثِّ على هذا الخُلُق الطيب } وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { [النور: 22] فمن تخلَّق بأخلاق الله تعالى فليكُنْ له غفران، وليكن لديه رحمة، ومَنْ مِنّا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله، فيتصف بأنه غفور ورحيم؟
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ.. {.

(/2785)


إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)


نلحظ أن الآيات تحدثتْ عن حَدِّ القذف وما كان من حادثة الإفك، ثم ذكرت آية العتاب لأبي بكر في مسألة الرزق، ثم عاد السياق إلى القضية الأساسية: قضية القذف، فلماذا دخلتْ مسألة الرزق في هذا الموضوع؟
قالوا: لأن كل معركة فيها خصومة قد يكون آثار تتعلق بالرزق، والرزق تكفَّل الله به لعباده؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، سواء المؤمن أو الكافر، وحين تعطي المحتاج فإنما أنت مناول عن الله، ويد الله الممدودة بأسباب الله.
والحق تبارك وتعالى يحترم ملكية الإنسان مع أنه سبحانه رازقه ومعطيه، لكن طالما أعطاه صار العطاء مِلْكاً له، فإنْ حَثَّه على النفقة بعد ذلك يأخذها منه قَرْضاً؛ لذلك يقول سبحانه:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.. }[البقرة: 245].
فإنْ أنفق الموسر على المعسر جعله الله قَرْضاً، وتولّى سداده بنفسه؛ ذلك لأن الله تعالى لا يرجع في هِبَته، فطالما أعطاك الرزق، فلا يأخذه منك إلا قَرْضاً.
لذلك يقول تعالى:{ هَا أَنتُمْ هَـاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ.. }[محمد: 38].
وفي موضع آخر يقول عن الأموال:{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ }[محمد: 38] لأن الإنسان تعب في جمع المال وعَرق في سبيله، وأصبح عزيزاً عليه؛ لذلك يبخل به، فأخذه الله منه قَرْضاً مردوداً بزيادة، وكان الرزق والمال بهذه الأهمية لأنه أول مَنَاط لعمارة الخليفة في الأرض؛ لذلك ترك الحديث عن القضية الأساسية هنا، وذكر هذه الآية التي تتعلَّق بالرزق.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَىا.. }[البقرة: 238] وقد ذُكِرَتْ وسط مسائل تتعلق بالعِدَّة والكفارة، وعِدَّة المتوفَّي عنها زوجها، فما علاقة الصلاة بهذه المسائل؟
قالوا: لأن النزاعات التي تحدث غالباً ما تُغيِّر النفس البشرية وتثير حفيظتها، فإذا ما قمتَ للوضوء والصلاة تهدأ نفسك وتطمئن. وتستقبل مسائل الخلاف هذه بشيء من القبول والرضا.
نعود إلى قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ.. } [النور: 23] المحصنة: لها إطلاقات ثلاث، فهي المتزوجة لأن الإحصان: الحِفْظ وكأنها حفظتْ نفسها بالزواج، أو هي العفيفة، وإنْ لم تتزوج فهي مُحْصَنة في ذاتها، والمحصنة هي أيضاً الحرة؛ لأن عملية البِغَاء والزنا كانت خاصة بالإماء.
و { الْغَافِلاَتِ.. } [النور: 23] جمع غافلة، وهي التي لا تدري بمثل هذه المسائل، وليس في بالها شيء عن هذه العملية، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل بريرة خادمة السيدة عائشة: ما تقولين في عائشة يا بريرة؟ فقالت: تعجن العجين ثم تنام بجانبه فتأتي الدواجن فتأكله وهي لا تدري " وهذا كناية عن الغفلة لأنها ما زالت صغيرة لم تنضج نُضْج المراهقة ومع نُضْج المراهقة نُضْج اليقين والإيمان.

وتلحظ هذه الغفلة في البنت الصغيرة حين تقول لها: أتتزوجين فلاناً؟ تقول: لا أنا أتزوج فلاناً، ذلك لأنها لا تدري معنى العلاقة الزوجية، إنما حينما تكبر وتفهم مثل هذه الأمور فإنْ ذكرتَ لها الزواج تستحي وتخزى أن تتحدث فيه؛ لأنها عرفتْ ما معنى الزواج.
لذلك لما أمرنا الشرع باستئذان البنت للزواج جعل إذنها سكوتها، فإن سكتتْ فهذا إذْن منها، ودليل على فهمها لهذه العلاقة، إنما إنْ قالت: نعم أتزوجه لأنه جميل و.. و..، فهذا يعني أنها لم تفهم بعد معنى الزواج.
إذن: الغافلة حتى عن مسائل الزواج والعلاقات الزوجية، ولا تدري شيئاً عن مثل هذه الأمور كيف تفكر في الزنا؟
ثم يذكر ربنا - تبارك وتعالى - جزاء هذه الجريمة: } لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { [النور: 23].
وإن كانت الغافلة هي التي ليس في بالها مثل هذه الأمور، ولا تدري شيئاً حتى عن الزواج والعلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة، فيكيف نقول: إنها تفكر في هذه الجريمة؟
واللعْن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وأيضاً الطرد والإبعاد عن حظيرة المؤمنين؛ لأن القاذف حكمه أنْ يُقام عليه الحدُّ، ثم تسقط شهادته، ويسقط اعتباره في المجتمع الذي يعيش فيه، فجمع الله عليه الخزي في الدنيا بالحدِّ وإسقاط الاعتبار، إلى جانب عذاب الآخرة، فاللعن في الدنيا لا يعقبه من عذاب الآخرة.
وقلنا: إن العذاب: إيلام حَيٍّ، وقد يُوصَف العذاب مرة بأليم، ومرة بمهين، ومرة بعظيم، هذه الأوصاف تدور بين العذاب والمعذّب، فمن الناس مَنْ لا يؤلمه الجَلْد، لكن يهينه، فهو في حقه عذاب مهين لكرامته، أما العذاب العظيم فهو ما فوق ما يتصوَّره المتصوِّر؛ لأن العذاب إيلام من مُعذِّب لمعذِّب، والمعذَّب في الدنيا يُعذَّب بأيدي البشر وعلى قَدْر طاقته، أمّا العذاب في الآخرة فهو بجبروت الله وقَهْر الله؛ لذلك يُوصَف بأنه عظيم.
ثم يقول الحق سبحانه: } يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ.. {.

(/2786)


يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)


نعلم جميعاً أن اللسان هو الذي يتكلم، فماذا أضافت الآية: { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ.. } [النور: 24].
قالوا: في الدنيا يتكلم اللسان وينطق، لكن المتكلم في الحقيقة أنت؛ لأنه مَا تحرَّك إلا بمرادك له، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك، إذن: فهو مجرد آلة، أمَّا في الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه؛ لأن صاحبه ليس له مراد الآن.
ولتقريب هذه المسألة: أَلاَ ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم، ويُمسك لسانه بعد طلاقته، بسبب مرض أو نحوه، فلا يستطيع بعدها الكلام، وهو ما يزال في سَعَة الدنيا. فما الذي حدث؟ مجرد أن تعطلتْ عنده آلة الكلام، فهكذا الأمر في الآخرة تتعطل إرادتك وسيطرتك على جوارحك كلها، فتنطق وتتحرك، لا بإرادتك، إنما بإرادة الله وقدرته.
فالمعنى { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ.. } [النور: 24] أي: شهادة ونطقاً على مراد الله، لا على مراد أصحابها.
ولمَ نستبعد نُطْق اللسان على هذه الصورة، وقد قال تعالى:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] وقد جعل فيك أنت أيها الإنسان نموذجاً يؤكد صِدْق هذه القضية. فَقُلْ لي: ماذا تفعل إنْ أردتَ أن تقوم الآن من مكان؟ مجرد إرادة القيام ترى نفسك قد قُمْتَ دون أن تفكر في شيء، ودون أن تستجمع قواك وفكرك وعضلاتك، إنما تقوم تلقائياً دون أن تدري حتى كيفية هذا القيام، وأيّ عضلات تحركت لآدائه.
ولك أنْ تقارن هذه الحركة التلقائية السَّلسِة بحركة الحفار أو الأوناش الكبيرة، وكيف أن السائق أمامه عدد كبير من العِصيِّ والأذرع، لكل حركة في الآلة ذراع معينة.
فإذا كان لك هذه السيطرة وهذا التحكم في نفسك وفي أعضائك، فكيف تستبعد أن يكون لربك - عز وجل - هذه السيطرة على خَلْقه في الآخرة؟
إذن: فاللسان محلّ القول، وهو طَوْع إرادتك في الدنيا، أما في الآخرة فقد شُلَّتْ هذه الإرادة ودخلتْ في قوله تعالى:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
ثم يقول سبحانه: { وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النور: 24] وهذه جوارح لم يكُنْ لها نُطْق في الدنيا، لكنها ستنطق اليوم. ويحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون: إن الجارحة حين تعمل أيَّ عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملتْ، فنُطْقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التي التقطت.
والأقرب من هذا كله أن نقول: إنها تنطق حقيقة، كما قال تعالى حكايةً عن الجوارح:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[فصلت: 21].
ومعنى: { الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } أن لكل شيء في الكون نُطْقاً يناسبه، كما نطقت النملة وقالت:{ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ.. }

[النمل: 18] ونطق الهدهد، فقال:{ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }[النمل: 22].
وقد قال تعالى عن نُطْق هذه الأشياء:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.. }[الإسراء: 44].
لكن، إنْ أراد الله لك أن تفقه نُطْقهم فقَّهك كما فقَّه سليمان عليه السلام، حين فهم عن النملة:{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا.. }[النمل: 19] كما فَهِم عن الهدهد، وخاطبه في قضية العقيدة.
وإنْ كان النطق عادةً يفهم عن طريق الصوت، فلكل خَلْق نُطْقه الذي يفهمه جنسه؛ لذلك نسمع الآن مع تقدُّم العلوم عن لُغة للأسماك، ولغة للنحل... إلخ.
وسبق أنْ قلنا: إن الذين قالوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن الحصى سبّح في يده، نقول: عليكم أن تُعدِّلوا هذه العبارة، قولوا: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيح الحصى في يده، وإلاَّ فالحصى مُسبِّح في يده صلى الله عليه وسلم، كما هو مُسبِّح في يد أبي جهل.
ولو سألتَ هذه الجوارح: لم شهدتِ عليَّ وأنت التي فعلت؟ لقالت لك: فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك، إنما يوم ننحلّ عن إرادتك ونخرج عن قهرك، فلن نقول إلا الحق.
ثم يقول الحق سبحانه: } يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ.. {.

(/2787)


يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)


قوله: { يَوْمَئِذٍ.. } [النور: 25] أي: يوم أنْ تحدث هذه الشهادة، وهو يوم القيامة { يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ.. } [النور: 25] الدين: يُطلَق على منهج الله لهداية الخَلْق، ويُطلق على يوم القيامة، ويُطلَق على الجزاء.
فالمعنى: يوفيهم الجزاء الذي يستحقونه { الْحَقَّ.. } [النور: 25] أي: العدل الذي لا ظلمَ فيه ولا تغيير، فليس الجزاء جُزَافاً، إنما جزاء بالحق؛ لأنه لم يحدث منهم توبة، ولا تجديد إيمان؛ لذلك لا بُدَّ أنْ يقع بهم ما حذرناهم منه وأخبرناهم به من العقاب، وليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الحكم أو يؤخره عنهم.
لذلك بعد أنْ قال تعالى:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ }[المسد: 1 - 5].
قال بعدها:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ }[الإخلاص: 1 - 4].
يعني: ليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الكلام، فما قُلْته سيحدث لا محالةَ.
ثم يقول تعالى: { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [النور: 25] هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكلُّ ما عدا الله تعالى مُتغير، إذن: فالله بكل صفات الكمال فيه سبحانه لا تغييرَ فيه، لذلك يقولون: إن الله تعالى لا يتغير من أجلنا، ولكن يجب أنْ نتغير نحن من أجل الله، كما قال سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىا يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. }[الرعد: 11].
فالله هو الحقُّ الثابت، هذا بالبراهين العقلية وبالواقع، وقد عرفنا الكثير من البراهين العقلية، أما الواقع فإلى الآن لم يظهر مَنْ يقول أنا الله ويدَّعي هذا الكون لنفسه، وصاحب الدعوى تثبت له إنْ لم يَقُمْ عليها معارض ومعنى { الْمُبِينُ } [النور: 25] الواضح الظاهر الذي تشمل أحقيتُه الوجودَ كله.
ثم يقول الحق سبحانه: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ.. }.

(/2788)


الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)


قلنا في تفسير { الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.. } [النور: 3] أن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي طرف على الآخر، ومن هذا التكافؤ قوله تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ.. } [النور: 26].
ثم يقول سبحانه: { أُوْلَـائِكَ.. } [النور: 26] أي: الذين دارتْ عليهم حادثة الإفك، وخاض الناس في حقهم، وهما عائشة وصفوان { مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ.. } [النور: 26] أي: مما يُقَال عنهم، بدليل هذا التكافؤ الذي ذكرتْه الآية، فمن أطيبُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكما ذكرنا أن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على رسوله صلى الله عليه وسلم ويجعل من زوجاته مَنْ تحوم حولها الشبهات.
إذن: فلا بُدَّ أن تكون عائشة طَيّبةً طِيبةً تكافي وتناسب طِيبة رسول الله؛ لذلك برَّأها الله مما يقول المفترون.
وقوله: { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [النور: 26] مغفرة نزلتْ من السماء قبل القيامة، ورزق كريم، صحيح أن الرزق كله من الله بكرم، لكن هنا يراد الرزق المعنوي للكرامة وللمنزلة وللسمو، لا الرزق الحسيّ الذي يقيم قِوام البدن من أكل وشرب وخلافه.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ.. }.

(/2789)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)


كلمة بيت: نفهم منها أنه ما أعِدّ للبيتوتة، حيث يأوي إليه الإنسان آخر النهار ويرتاح فيه من عناء اليوم، ويُسمَّى أيضاً الدار؛ لأنها تدور على مكان خاص بك؛ لذلك كانوا في الماضي لا يسكنون إلا في بيوت خاصة مستقلة لا شركة فيها مثل العمارات الآن، يقولون: بيت من بابه. حيث لا يدخل ولا يخرج عليك أحد، وكان السَّكَن بهذه الطريقة عِصْمةً من الريبة؛ لأنه بيتك الخاص بأهلك وحدهم لا يشاركهم فيه أحد.
لكن هناك أمور تقتضي أنْ يدخل الناس على الناس؛ لذلك تكلم الحق - تبارك وتعالى - هنا عن آداب الاستئذان وعن المبادئ والنظم التي تنظم هذه المسألة؛ لأن ولوج البيوت بغير هذه الآداب، ودون مراعاة لهذه النظم يُسبِّب أموراً تدعو إلى الرِّيبة والشك؛ لذلك في الفلاحين حتى الآن: إذا رأوا شخصاً غريباً يدخل حارة لا علاقة له بها لا بُدَّ أن يسأل: لماذا دخل هنا؟
إذن: فشرْع الله لا يحرم المجتمع من التلاقي، إنما يضع لهذا التلاقي حدوداً وآداباً تنفي الرّيْب والشبهة التي يمكن أنْ تأتي في مثل هذه المسائل.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آداب الاستئذان: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىا تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىا أَهْلِهَا.. } [النور: 27].
{ حَتَّىا تَسْتَأْنِسُواْ.. } [النور: 27] من الأُنْس والاطمئنان، فحين تجلس وأهلك في بيتك، وأقبل عليك غريب لا تعرفه، إذا لم يُقدِّم لك ما تأنس به من الحديث أو الاستئذان لا بُدَّ أن تحدث منه وَحشة ونفور إذن: على المستأذن أن يحدث من الصوت ما يأنس به صاحب الدار، كما نقول: يا أهل الله، أو نطرق الباب، أو نتحدث مع الولد الصغير ليخبر مَنْ بالبيت.
ذلك لأن للبيوت حرمتها، وكل بيت له خصوصياته التي لا يحب صاحب البيت أن يطّلع عليها أحد، إما كرامةً لصاحب البيت، وإما كرامة للزائر نفسه، فالاستئذان يجعل الجميع يتحاشى ما يؤذيه.
لذلك قال تعالى بعدها: { ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ.. } [النور: 27].
أي: خير للجميع، للزائر وللمزور، فالاستئذان يمنع أن يتجسس أحد على أحد، يمنع أن ينظر أحد إلى شيء يؤذيه، وهَبْ أن أبا الزوجة أراد زيارتها ودخل عليها فجأة فوجدها في شجار مع زوجها، فلربما اطلع على أمور لا ترضيه، فيتفاقم الخلاف.
ثم تختم الآية بقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [النور: 27] يعني: احذروا أن تغفلوا هذه الآداب، أو تتهاونوا فيها، كمَنْ يقولون: نحن أهلٌ أو أقارب لا تكليفَ بيننا؛ لأن الله تعالى الذي شرع لكم هذه الآداب أعلَمُ بما في نفوسكم، وأعلم بما يُصلِحكم.
بل ويتعدى هذا الأدب الإسلامي من الغريب إلى صاحب البيت نفسه، ففي الحديث الشريف " " نهى أن يطرق المسافر أهله بليل " إنما عليه أن يخبرهم بقدومه حتى لا يفاجئهم وحتى يستعد كل منهما لملاقاة الآخر.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّىا يُؤْذَنَ لَكُمْ.. }.

(/2790)


فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)


فإذا استأذنتَ على بيت ليس فيه أحد، فلا تدخل؛ لأنك جئتَ للمكين لا للمكان، إلا إذا كنتَ تريد الدخول لتتلصص على الناس وتتجسَّس عليهم.
وقوله تعالى: { حَتَّىا يُؤْذَنَ لَكُمْ.. } [النور: 28] كيف والدار ليس فيها أحد؟
ربما كان صاحب الدار خارجها، فلما رآك تستأذن نادى عليك من بعيد: تفضل. فلا بُدَّ أنْ يأذن لك صاحب الدار أو مَنْ ينوب عنه في الإذن؛ لأنه لا يأذن إلا وقد أمِن خُلو الطريق مما يؤذيك، أو مما يؤذي أهل البيت.
ثم يقول سبحانه: { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىا لَكُمْ.. } [النور: 28].
لأنك إنْ تمسكت بالدخول بعد أنْ قال لك: ارجع فقد أثرت الريبة في نفسه، فعليك أن تمتثل وتحترم رغبة صاحب الشأن، فهذا هو الأزكى والأفضل، أَلاَ ترى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك ".
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [النور: 28] أي: عالم سبحانه بدخائل النفوس ووساوس الصدور، فإنْ قال لك صاحب الدار ارجع فوقفتَ أمام الباب ولم تنصرف، فإنك تثير حولك الظنون والأوهام، وربك - عز وجل - يريد أنْ يحميك من الظنون ودخائل النفوس.
ثم يقول الحق سبحانه: { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ.. }.

(/2791)


لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)


سأل الصِّديق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله نحن قوم أهل تجارة، نذهب إلى بلاد ليس لنا فيها بيوت ولا أهل، ونضطر لأن ننزل في أماكن (عامة كالفنادق) نضع فيها متاعنا ونبيت بها، فنزلت هذه الآية.
و { جُنَاحٌ.. } [النور: 29] يعني: إثم أو حرج، وهذه خاصة بالأماكن العامة التي لا يسكنها أحد بعينه، والمكان العام له قوانين في الدخول غير قوانين البيوت والأماكن الخاصة، فهل تستأذن في دخول الفندق أو المحل التجاري أو الحمام... إلخ، هذه أماكن لا حرجَ عليك في دخولها دون استئذان.
فمعنى { غَيْرَ مَسْكُونَةٍ.. } [النور: 29] أي: لقوم مخصوصين { فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ.. } [النور: 29] كأن تنام فيها وتأكل وتشرب وتضع حاجياتك، فالمتاع هنا ليس على إطلاقه إنما مقيد بما أحلَّه الله وأمر به، فلا يدخل في المتاع المحرمات.
لذل قال بعدها: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [النور: 29] يعني: في تحديد الاستمتاع، فلا تأخذه على إطلاقه فتُدخل فيه الحرامَ، وإلا فالبغايا كثيراً ما يرتادون مثل هذه الأماكن؛ لذلك يُحصِّنك ربك، ويعطيك المناعة اللازمة لحمايتك.
ثم يقول رب العزة سبحانه: { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ.. }.

(/2792)


قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)


تحدثت سورة النور من أولها عن مسألة الزنا والقذف والإحصان، وحذرتْ من اتباع خطوات الشيطان التي تؤدي إلى هذه الجريمة، وتحدثت عن التكافؤ في الزواج، وأن الزاني للزانية، والزانية للزاني، والخبيثون للخبيثات والطيبون للطيبات.
وهذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع والخليفة لله في أرضه، فالله تعالى يريد مجتمعاً تضيء فيه القيم السامية، مجتمعاً يخلو من وسائل (العكننة) والمخالفة والشَّحْناء والبغضاء، فلو أننا طبَّقنا منهج الله الذي ارتضاه لنا لارتاح الجميع في ظله.
ومسألة غَضِّ البصر التي يأمرنا بها ربنا - عز وجل - في هذه الآية هي صمام الأمان الذي يحمينا من الانزلاق في هذه الجرائم البشعة، ويسد الطريق دونها؛ لذلك قال تعالى: { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ.. } [النور: 30].
وقلنا: إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة، وكل جهاز إدراك له مناط: فالأذن تسمع الصوت، والأنف يشم الرائحة، واللسان للكلام، ولذوْق المطعومات، والعين لرؤية المرئيات، لكن أفتن شيء يصيب الإنسان من ناحية الجنس هي حاسَّة البصر؛ لذلك وضع الشارع الحكيم المناعة اللازمة في طرفي الرؤية في العين الباصرة وفي الشيء المبصر، فأمر المؤمنين بغضِّ أبصارهم، وأمر المؤمنات بعدم إبداء الزينة، وهكذا جعل المناعة في كلا الطرفين.
وحين تتأمل مسألة غَضِّ البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات: الأولى: أن يغضَّ هو بصره ولا تبدي هي زينتها، فخطّ الفتنة مقطوع من المرسل ومن المستقبل، الثانية: أن يغضَّ هو بصره وأن تبدي هي زينتها، الثالثة: أن ينظر هو ولا تبدي هي زينتها. وليس هناك خطر على المجتمع إو فتنة في هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدام الآخر. إنما الخطر في القسمة الرابعة: وهي أن ينظر هو ولا يغضّ بصره، وأنْ تتزين هي وتُبدي زينتها، ففي هذه الحالة فقط يكون الخطر.
إذن: فالحق - تبارك وتعالى - حرَّم حالة من أربع حالات؛ ذلك لأن المحرّمات هي الأقل دائماً، وهذا من رحمة الله بنا، بدليل قوله تعالى:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.. }[الأنعام: 151] فالمحرمات هي المحصورة المعدودة، أمّا المحللات فهي فوق الحصر والعَدِّ، فالأصل في الأشياء أنها حلال، وإذا أراد الحق سبحانه تحريم شيء نَصَّ عليه، فانظر إلى هذه المعاملة الطيبة من ربك عز وجل.
وكما أمر الرجل بغضِّ بصره، كذلك أُمِرَتْ المرأة بغضِّ بصرها، لأن اللَّفْتة قد تكون أيضاً للرجل ذي الوسامة و.. و فإنْ كان حظ المرأة في رجل تتقحمه العين، فلربما نظرتْ إلى غيره، فكما يُقال في الرجال يُقال في النساء.
هذا الاحتياط وهذه الحدود التي وضعها الله عز وجل وألزمنا بها إنما هي لمنع هذه الجريمة البشعة التي بُدِئَتْ بها هذه السورة؛ لأن النظر أول وسائل الزنا، وهو البريد لما بعده، أَلاَ ترى شوقي رحمه الله حين تكلم عن مراحل الغَزَل يقول:

نَظْرَةٌ فابتسَامَةٌ فسَلاَمٌ فكَلامٌ فموعِدٌ فَلِقَاءٌفالأمر بغَضِّ البصر لِيسدَّ منافذ فساد الأعراض، ومَنْع أسباب تلوث النسل؛ ليأتي الخليفة لله في الأرض طاهراً في مجتمع طاهر نظيف شريف لا يتعالى فيه أحد على أحد، بأن له نسباً وشرفاً، والآخر لا نسبَ له.
ذلك ليطمئن كل إنسان على أن مَنْ يليه في الخلافة من أبناء أو أو أحفاد إنما جاءوا من طريق شرعيٍّ شريف، فيجتهد كل إنسان في أن يُنشِّيء أطفاله تنشئةً فيها شفقة، فيها حنان ورحمة؛ لأنه واثق أنه ولده، ليس مدسوساً علي، وأغلب الظن أن الذين يُهملون أطفالهم ولا يُراعون مصالحهم يشكُّون في نسبهم إليهم.
ولا يصل المجتمع إلى هذا الطُّهْر إلا إذا ضمنتَ له الصيانة الكافية، لئلا تشرد منه غرائز الجنس، فيعتدي كل نظر على مَا لا يحلّ له؛ لأن النظر بريد إلى القلوب، والقلوب بريد إلى الجنس، فلا يعفّ الفرج إلا بعفاف النظر.
ونلحظ في قوله تعالى: } قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ.. { [النور: 30] دقة بلاغ الرسول عن ربه - عز وجل - وأمانته في نقل العبارة كما أُنزِلَتْ عليه، ففي هذه الآية كان يكفي أن يقول رسول الله: غُضُّوا أبصاركم، لكنه التزم بنص ما أُنزِل عليه؛ لأن القرآن لم ينزل للأحكام فقط، وإنما القرآن هو كلام الله المنزّل على رسوله والذي يُتعبَّد بتلاوته، فلا بُدَّ أنْ يُبلّغه الرسول كما جاءه من ربه.
لذلك قال في البلاغ عن الله (قُلْ) وفي الفعل (يَغضُّوا) دلالةً على ملحظية (قل)، فالفعل (يغضوا) مضارع لم تسبقه أداة جزم، ومع ذلك حُذِفت منه النون، ذلك لأنه جعل (قُلْ) ملحظية في الأسلوب.
والمعنى: إنْ تقُل لهم غُضُّوا أبصاركم يغضُّوا، فالفعل - إذن - مجزوم في جواب الأمر (قُلْ).
إذن } قُلْ.. { [النور: 30] تدل على أمانة الرسول في البلاغ، وعلى أن القرآن ما نزل للأحكام فحسب، إنما هو أيضاً كلام الله المعجز؛ لذلك نحافظ عليه وعلى كل لفظة فيه، وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما أتيتُ لكم بشيء من عندي، ومهمتي أن أبلغكم ما قاله الله لي.
وقوله: } لِّلْمُؤْمِنِينَ.. { [النور: 30] فما داموا مؤمنين بإله حكيم، وقد دخلوا حظيرة الإيمان باختيارهم لم يُرغمهم عليه أحد، فلا بُدَّ أنْ يلتزموا بما أمرهم ربهم به وينفذوه بمجرد سماعه.
والغَضُّ: النقصان، يقال: فلان يغُضُّ من قَدْر فلان يعني: ينقصه، فكيف يكون النقصان في البصر؟ أينظر بعين واحدة؟ قالوا: البصر له مهمة، وبه تتجلى المرائي، والعين مجالها حر ترى كل ما أمامها سواء أكان حلالاً لها أو مُحرّماً عليها.
فنقص البصر يعني: قَصْره على ما أحل، وكفّه عما حُرم، فالنقص نقص في المرائي وفي مجال البصر، فلا تعطي له الحرية المطلقة فينظر إلى كل شيء، إنما تُوقِفه عند أوامر الله فيما يُرى وفيما لا يُرى.

و } مِنْ.. { [النور: 30] في قوله تعالى: } مِنْ أَبْصَارِهِمْ.. { [النور: 30] البعض يرى أنها للتبعيض كما تقول: كُلْ من هذا الطعام يعني: بعضاً منه، فالمعنى: يغضُّوا بعض البصر؛ لأن بَعضه حلال لا أغض عنه بصري، وبعضه محرم لا أنظر إليه.
أو: أن } مِنْ.. { [النور: 30] هنا لتأكيد العموم في أدنى مراحله، وسبق أن تكلمنا عن (مِنْ) بهذا المعنى، ونحن كلما توغلنا في التفسير لا بُدّ أن تقابلنا أشياء ذكرناها سابقاً، ونحيل القارئ عليها.
قلنا: فرق بين قولك: ما عندي مال، وقولك: ما عندي من مال. ما عندي مال، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يُعْتدّ به، لكن ما عندي من مال نفي لجنس المال مهما قَلَّ، فمِنْ تعني بدايةَ ما يقال له مال.
فالمعنى هنا: } قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ.. { [النور: 30] يعني: بداية مَا يُقال له بصر، ولو لمحة خاطفة، ناهيك عن التأمل وإدامة البصر.
وقلنا: إن الشرع لا يتدخل في الخواطر القلبية والهواجس، إنما يتدخل في الأعمال النزوعية التي يترتب عليها فعل، قلنا: لو مررتَ ببستان فرأيتَ به ورده جميلة، فأعجبت بها وسُرِرْت وانبسطتْ لها أسارير نفسك، كل هذا مباح لك لا حرجَ عليك فيه، فإنْ تعدَّى الأمر ذلك فمددتَ إليها يدك لتقطفها، هنا يتدخل الشرع يقول لك: قِفْ، فليس هذا من حقك لأنها ليستْ لك.
هذه قاعدة عامة في جميع الأعمال لا يستثني منها إلا النظر وحده، وكأن ربنا - عز وجل - يستسمحنا فيه، هذه المسألة من أجلنا ولصالحنا نحن ولراحتنا، بل قل رحمة بنا وشفقة علينا من عواقب النظر وما يُخلِّفه في النفس من عذابات ومواجيد.
ففي نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له: انظر كما تحب واعشق كما شئت، فإن نزعْتَ إلى ضمة أو قبلة قلنا لك: حرام. لماذا؟ لأن الأمر هنا مختلف تماماً، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبداً.
فساعة تنظر إلى المرأة هذا إدراك، فإنْ أعجتبْك وانبسطتْ لها أساريرك، فهذا وجدان، لا بُدَّ أن يترك في تكوينك تفاعلاً كيماوياً لا يهدأ، إلا بأن تنزع فإنْ طاوعْتَ نفسك في النزوع فقد اعتديتَ، وإنْ كبتَّ في داخلك هذه المشاعر أصابتْك بعُقد نفسية ودعتْك إلى أن تبحث عن وسيلة أخرى للنزوع؛ لذلك رحمك ربك من بداية الأمر ودعاك إلى مَنْع الإدراك بغضِّ البصر.
لذلك بعد أن أمرنا سبحانه بعضِّ البصر قال: } وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ.. { [النور: 30] لأنك لا تملك أن تفصل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، وإنْ أمكن ذلك في الأمور الأخرى، فحين نمنعك عن قطف الوردة التي أعجبتْك لا يترك هذا المنع في نفسك أثراً ولا وَجْداً، على خلاف ما يحدث إنْ مُنعتَ عن امرأة أعجبتك، وهيَّجك الوجدان إليها.

وحِفْظ الفروج يكون بأن نقصرها على ما أحلَّه الله وشرعه فلا أنيله لغير مُحلَّل له، سواء كان من الرجل أو من المرأة، أو: أحفظه وأصونه أن يُرى؛ لأن رؤيته تهيج إلى الشر وإلى الفتنة.
} ذالِكَ أَزْكَىا لَهُمْ.. { [النور: 30] يعني: أطهر وأسلم وأدْعَى لراحة النفس؛ لأنه إما أن ينزع فيرتكب محرماً، ويلج في أعراض الناس، وإما ألا ينزع فيُكدِّر نفسه ويُؤلمها بالصبر على مَا لا تطيق.
ثم يقول سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ { [النور: 30] فهو سبحانه خالق هذه النفس البشرية، وواضع مسألة الشهوة والغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز ليربط بها بين الرجل والمرأة، وليحقق بها عملية النسل وبقاء الاستخلاف في الأرض، ولو لم تربط هذه العلاقة بالشهوة الملّحة لزهَدَ الكثيرون في الزواج وفي الإنجاب وما يترتب عليه من تبعات.
أَلاَ ترى المرأة وما تعانيه من آلام ومتاعب في مرحلة الحمل، وأنها ترى الموت عند الولادة، حتى إنها لتقسم أنها لا تعود، لكن بعد أن ترى وليدها وتنسى آلامها سرعان ما يعاودها الحنين للإنجاب مرة أخرى، إنها الغريزة التي زرعها الله في النفس البشرية لدوام بقائها.
وللبعض نظرة فلسفية للغرائز، خاصة غريزة الجنس، حيث جعلها الله تعالى أقوى الغرائز، وربطها بلذة أكثر أثراً من لذة الطعام والشراب والشَّمِّ والسماع.. إلخ فهي لذة تستوعب كل جوارح الإنسان وملكاته، وما ذلك إلا حِرْصاً على بقاء النوع ودواماً للخلافة في الأرض.
ثم يقول الحق سبحانه لرسوله: } وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا.. {.

(/2793)


وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)


ذكر هنا المقابل، فأمر النساء بما أمر به الرجال، ثم زاد هنا مسألة الزينة. والزينة: هي الأمر الزائد عن الحد في الفطرية؛ لذلك يقولون للمرأة الجميلة بطبيعتها والتي لا تحتاج إلى أن تتزين: غانِية يعني: غنيت بجمالها عن التزيُّن فلا تحتاج إلى كحل في عينيها، ولا أحمر في خدَّيْها، لا تحتاج أن تستر قُلْبها بأسورة، ولا صدرها بعقد.. إلخ.
فإنْ كانت المرأة دون هذا المستوى احتاجتْ لشيء من الزينة، لكن العجيب أنهن يُبالِغْنَ في هذه الزينة حتى تصبح كاللافتة النيون على كشك خشبي مائل، فترى مُسِنَّات يضعْنَ هذا الألوان وهذه المساحيق، فيَظْهَرن في صورة لا تليق؛ لأنه جمال مُصْطنع وزينة متكلفة يسمونها تطرية، وفيها قال المتنبي، وهو يصف جمال المرأة البدوية وجمال الحضرية:حُسْن الحِضارة مَجلْوبٌ بتطْرِيةٍ وفِي البَدَاوة حُسْنٌ غير مَجْلُوبومن رحمة الله بالنساء أن قال بعد { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ.. } [النور: 31] قال: { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا.. } [النور: 31] يعني: الأشياء الضرورية، فالمرأة تحتاج لأنْ تمشي في الشارع، فتظهر عينيها وربما فيها كحل مثلاً، وتظهر يدها وفيها خاتم أو حناء، فلا مانع أن تُظهر مثل هذه الزينة الضرورية.
لكن لا يظهر منها القُرْط مثلاً؛ لأن الخمار يستره ولا (الديكولتيه) أو العقد أو الأسورة أو الدُّمْلُك ولا الخلخال، فهذه زينة لا ينبغي أن تظهر. إذن: فالشارع أباح الزينة الطبيعية شريطةَ أن تكون في حدود، وأن تقصر على مَنْ جُعِلَتْ من أجله.
ونلحظ في قوله تعالى: { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا.. } [النور: 31] المراد تغطية الزينة، فالجارحة التي تحتها من باب أوْلَى، فالزينة تُغطِّي الجارحة، وقد أمر الله بسَتْر الزينة، فالجارحة من باب أَوْلَى.
وقوله تعالى: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىا جُيُوبِهِنَّ.. } [النور: 31].
الخُمر: جمع خِمّار، وهو غطاء الرأس الذي يُسْدل ليستر الرقبة والصدر. الجيوب: جميع جيب، وهو الفتحة العليا للثوب ويسمونها (القَبَّة) والمراد أن يستر الخمارُ فتحةَ الثوب ومنطقة الصدر، فلا يظهر منها شيء.
والعجيب أن النساء تركْنَ هذا الواجب، بل ومن المفارقات أنهن يلبسْنَ القلادة ويُعلِّقن بها المصحف الشريف، إنه تناقض عجيب يدل على عدم الوعي وعدم الدراية بشرع الله مُنزِل هذا المصحف.
وتأمل دقة التعبير القرآني في قوله تعالى { وَلْيَضْرِبْنَ.. } [النور: 31] والضرب هو: الوَقْع بشدة، فليس المراد أن تضع المرأة الطرحة على رأسها وتتركها هكذا للهواء، إنما عليها أنْ تُحكِمها على رأسها وصدرها وتربطها بإحكام.
لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة: رحم الله نساء المهاجرات، لما نزلت الآية لم يكُنْ عندهم خُمر، فعمدْن إلى المروط فشقوها وصنعوا منها الخُمُر.
إذن: راعَى الشارع الحكيم زِيَّ المرأة من أعلى، فقال: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىا جُيُوبِهِنَّ.

. { [النور: 31] ومن الأدنى فقال:{ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ.. }[الأحزاب: 59].
ثم يقول تعالى: } وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ.. { [النور: 31] أي: أزواجهن؛ لأن الزينة جُعِلَتْ من أجلهم } أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ.. { [النور: 31] أبو الزوج، إلا أنْ يخاف منه الفتنة، فلا تبدي الزوجة زينتها أمامه.
ومعنى } أَوْ نِسَآئِهِنَّ.. { [النور: 31] أي: النساء اللائي يعملْنَ معها في البيت كالوصيفات والخادمات } أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ.. { [النور: 31] والمراد هنا أيضاً ملْك اليمين من النساء دون الرجال.
ويشترط في هؤلاء النساء أن يكُنَّ مسلمات، فإنْ كُنَّ كافرات كهؤلاء اللائي يستقدمونهن من دول أخرى، فلا يجوز للمرأة أن تُبدي زينتها أمامهن، وأن تعتبرهن في هذه المسألة كالرجال، لأنهن غير مسلمات وغير مؤتمنات على المسلمة، وربما ذهبت فوصفتْ ما رأتْ من سيدتها للرجل الكافر فينشغل بها.
ومن العلماء مَنْ يرى أن مِلْك اليمين لا يخصُّ النساء فقط، إنما الرجال أيضاً، فللمرأة أنْ تُبدي زينتها أمامهم، قالوا: لأن هناك استقبالاً عاطفياً وامتناعاً عاطفياً في النفس البشرية، فالخادم في القَصْر لا ينظر إلى سيدته ولا إلى بناتها؛ لأنه لا يتسامى إلى هذه المرتبة، إلا إذا شجَّعْنَهُ، وفتحْنَ له الباب، وهذه مسألة أخرى.
وقوله تعالى: } أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ.. { [النور: 31] أي: التابعين للبيت، والذين يعيشون على فضلاته، فتكون حياة التابع من حياة متبوعه، فليس عنده بيت يأويه؛ لذلك ينام في أيِّ مكان، وليس عنده طعام؛ لذلك يُطعمه الناس وهكذا، فهو ضائع لا هدفَ له ولا استقلاليةَ لحياته، وترى مثل هؤلاء يأكلون فضلات الموائد ويلبسون الخِرَق وينامون ولو على الأرصفة.
مثل (الأهبل) أو المعتوه الذي يعطف الناس عليه، وليس له مطمع في النساء، ولا يفهم هذه المسألة، فلا يُخاف منه على النساء؛ لأنه لا حاجةَ له فيهن؛ ولا يتسامى لأنْ ينظر إلى أهل البيت.
ومعنى: } غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ.. { [النور: 31] يعني: كأن يكون كبير السِّنِّ واهن القوى، لا قدرةَ له على هذه المسائل، أو يكون مجبوباً، مقطوع المتاع، ولا خطرَ من مثل هؤلاء على النساء.
وقوله تعالى: } أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ.. { [النور: 31].
نلحظ هنا أن الطفل مفرد، لكن وُصِف بالجمع } الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ.. { [النور: 31] لماذا؟ قالوا: هذه سِمَة من سمات اللغة، وهي الدقة في التعبير، حيث تستخدم اللفظ المفرد للدلالة على المثنى وعلى الجمع.
كما نقول: هذا قاضٍ عَدْلٌ، وهذان قاضيان عَدْل، وهؤلاء قضاة عَدْل، ولم نقل: عدلان وعدول، فإذا وحِّد الوصف في الجميع بدون هوى كان الوصف كالشيء الواحد، فالقاضي لا يحكم بمزاجه وهواه، والآخر بمزاجه وهواه، إنما الجميع يصدرون عن قانون واحد وميزان واحد. إذن: فالعدل واحد لا يُقَال بالتشكيك، وليس لكل واحد منهم عدل خاص به، العّدْل واحد.

كذلك الحال في } الطِّفْلِ.. { [النور: 31] مع أن المراد الأطفال، لكن قال (الطفل) لأن غرائزه مشتركة مع الكل، وليس له هَوىً، فكل الأطفال - إذن - كأنهم طفل واحد حيث لم يتكوّن لكل منهم فِكْره الخاص به، الجميع يحب اللهو واللعب، ولا شيءَ وراء ذلك، فالجمعية هنا غير واضحة لوجود التوحيد في الغرائز وفي الميول.
بدليل أنه إذا كَبِر الأطفال وانتقلوا إلى مرحلة البلوغ وتكوَّن لديهم هَوىً وفِكْر وميْل يقول القرآن عنهم:{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ.. }[النور: 59] فنظر هنا إلى الجمع لعدم التوحُّد في مرحلة الطفولة المبكرة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ }[الذاريات: 24] فوصف ضيف وهي مفرد بالجمع (مكرمين)؛ ذلك لأن ضَيْف تدل أيضاً على الجمع، فالضيف من انضاف على البيت وله حَقٌّ والتزامات لا بُدَّ أن يقدمها المضيف، مما يزيد على حاجة البيت، والضيف في هذه الالتزامات واحد، سواء كان مفرداً أو جماعة؛ لذلك دَلَّ بالمفرد على الجميع.
وقوله تعالى: } الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ.. { [النور: 31] يظهر على كذا: لها معنيان في اللغة: الأول: بمعنى يعلم كما في قوله تعالى:{ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ.. }[الكهف: 20] يعني: إنْ عَلِموا بكم وعرفوا مكانكم.
والثاني: بمعنى يعلو ويغلب ويقهر، كما في قوله تعالى:{ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ }[الكهف: 97] أي: السد الذي بناه ذو القرنين، فالمعنى: ما استطاعوا أنْ يعلوه ويرتفعوا عليه.
وهنا } لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ.. { [النور: 31] يعني: يعرفونها ويستبينونها، أو يقدرون على مطلوباتها، فليس لهم عِلْم أو دراية بهذه المسائل.
ثم يقول سبحانه: } وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ.. { [النور: 31].
الحق - تبارك وتعالى - يكشف ألاعيب النساء وحِيَلهنّ في جَذْب الأنظار، فإذا لم يلفتْك إليها النظر لفتَك الصوت الذي تحدثه بمشيتها كأنها تقول لك: يا بجم اسمع، يا للي ما نتاش شايف اسمع، وفي الماضي كُنَّ يلبسْنَ الخلخال الذي يُحدِث مثل هذا الصوت أثناء المشي، وأول مَنِ استخدم هذه الحيل الراقصات ليجذبن إليهن الأنظار.
ومعلوم أن طريقة مَشْي المرأة تُبدِي الكثير من زينتها التي لا يراها الناس، وتُسبِّب كثيراً من الفتنة؛ لذلك يقول تعالى بعدها وفي ختام هذه المسائل: } وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { [النور: 31].
لم يَقُل الحق تبارك وتعالى: يا مَنْ أذنبتم بهذه الذنوب التي سبق الحديث عنها، إنما قال } جَمِيعاً.. { [النور: 31] فحثَّ الجميع على التوبة؛ ليدل على أن كل ابن آدم خطاء، ومهما كان المسلم مُتمسِّكاً ملتزماً فلا يأمن أنْ تفوته هفوة هنا أو هناك، والله - عز وجل - الخالق والأعلم بمَنْ خلق؛ لذلك فتح لهم باب التوبة وحثَّهم عليها، وقال لهم: ما عليكم إلا أنْ تتوبوا، وعليَّ أنا الباقي.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَىا مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ.. {.

(/2794)


وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)


بعد أن تكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن مسألة حِفْظ الفروج ودعا إلى الحفاظ على طهارة الأنساب، أراد أنْ يتكلم عن هؤلاء الرجال أو النساء الذين لم يتيسَّر لهم أمر الزواج؛ ذلك ليعالج الموضوع من شتى نواحيه؛ لأن المشرِّع لا بُدَّ أن يستولي بالتشريع على كُلِّ ثغرات الحياة فلا يعالج جانباً ويترك الآخر.
و { الأَيَامَى.. } [النور: 32] جمع أيِّم، والأيِّم من الرجال مَنْ لا زوجةَ له، والأيِّم من النساء مَنْ لا زوجَ لها.
ونلحظ أن الأمر في { أَنْكِحُواْ.. } [النور: 32] جاء هكذا بهمزة القَطْع، مع أن الأمر للواحد (انكح) بهمزة الوصل، ذلك لأن الأمر هنا (أنكحوا) ليس للمفرد الذي سينكح الأيِّم، إنما لغيره أنْ يُنكحه، والمراد أمر أولياء الأمور ومَنْ عندهم رجال ليس لهم زوجات، أو نساء ليس لَهُنَّ أزواج: عَجِّلوا بزواج هؤلاء، ويسِّروا لهم هذه المسألة، ولا تتشددوا في نفقات الزواج حتى تُعِفُّوا أبناءكم وبناتكم، وإذا لم تعينوهم فلا أقلَّ من عدم التشدد والمغالاة.
وفي الحديث الشريف: " إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ".
ومع ذلك في مجتمعاتنا الكثير من العادات والتقاليد التي تعرقل زواج الشباب أخطرها المغالاة في المهور وفي النفقات والنظر إلى المظاهر.. إلخ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لأولياء الأمور: يسِّروا للشباب أمور الالتقاء الحلال ومهَّدوا لهم سبيل الإعفاف.
وقد أعطانا القرآن نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه وليُّ الأمر، فقال تعالى عن سيدنا شعيب عليه السلام:{ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ.. }[القصص: 27] ذلك لأن موسى - عليه السلام - سيكون أجيراً عنده، وربما لا يتسامى إلى أن يطلب يد ابنته؛ لذلك عرضها عليه وخطبه لها وشجَّعه على الإقبال على زواجها، فأزال عنه حياء التردد، وهكذا يجب أن يكون أبو الفتاة إنْ وجد لابنته كفؤاً، فلا يتردد في إعفافها.
وقوله تعالى: { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ.. } [النور: 32]
وقوله صلى الله عليه وسلم: " تُنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
ولما سُئِل الحسن - رضي الله عنه - عن مسألة الزواج قال لوالد الفتاة الذي جاء يستشيره: زوِّجها مَنْ تأمنه على دينه، فإنْ أحبَّ ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها. وماذا يريد الإنسان في زوج ابنته أكثر من هذا؟
فالدين والخُلق والقيم السامية هي الأساس الذي يُبني عليه الاختيار، أما المال فهو شيء ثانوي وعَرَض زائل؛ لذلك يقول تعالى: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.. } [النور: 32].
فالفقر قد يكون سبباً في عدم الإقبال على البنت، أو عدم إقبال أهل البنت على الزوج، لكن كيف يتخلى الله عَنَّا ونحن نتقيه ونقصد الإعفاف والطهر؟ لا يمكن أن يضن الله على زوجيْن التقيا على هذه القيم واجتمعا على هذه الآداب، ومَنْ يدريك لعل الرزق يأتي للاثنين معاً، ويكون اجتماعهما في هذه الرابطة الشرعية هو باب الرزق الذي يفتح للوجهين معاً؟
{ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [النور: 32] فعطاء الله دائم لا ينقطع؛ لأن خزائنه لا تنفد ولا تنقص، والإنسان يُمسِك عن الإنفاق؛ لأنه يخاف الفقر، أمّا الحق - تبارك وتعالى - فيعطي العطاء الواسع؛ لأن ما عنده لا ينفد.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىا يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.. {.

(/2795)


وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)


في حالة إذا لم ننكح الأيامى، ولم نُعِنهم على الزواج، ولم يقدروا هم على القيام بنفقاته يصف لهم الحق - سبحانه وتعالى - العلاج المناسب، وهو الاستعفاف، وقد طلب الله تعالى من المجتمع الإسلامي سواء - تمثَّل في أولياء الأمور أو في المجتمع العام - أن ينهض بمسألة الأيامى، وأنْ يعينهم على الزواج، فإنْ لم يقُمْ المجتمع بدروه، ولم يكُنْ لهؤلاء الأيامى قدرة ذاتية على الزواج، فليستعفف كل منهم حتى يغنيهم الله، مما يدل على أن التشريع يبني أحكامه، ويُراعي كل الأحوال، سواء أطاعوا جميعاً أو عَصَوْا جميعاً.
وقوله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ.. } [النور: 33] يعني: يحاول العفاف ويطلبه ويبحث عن أسبابه، يجاهد أن يكون عفيفاً، وأول أسباب العفاف أن يغضَّ بصره حين يرى، فلا يوجد له مُهيِّج ومثير، فإنْ وجد في نفسه فُتوة وقوة فعلية أن يُلجمها ويُضعِفها بالوسائل الشرعية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما معشر الشباب مَنِ استطاع منكم الباءة - يعني: نفقات الحياة الزوجية - فليتزوج، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء ".
والصوم يعمل على انكسار هذه الشهوة ويُهدِّيء من شراسة الغريزة؛ ذلك لأنه يأكل فقط ما يقيم أَوْدَه، ولا يبقى في بدنه ما يثير الشهوة، كما جاء في الحديث الشريف: " بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه... ".
أو: أن يُفرِّغ الشاب نفسه للعمل النافع المفيد الذي يشغله ويستنفد جَهْده وطاقته، التي إن لم تصرف في الخير صرفت في الشر، وبالعمل يثبت الشاب ذاته، ويثق بنفسه، ويكتسب الحلال الذي يُشجِّعه مع الأيام على الزواج وتحمُّل مسئولياته.
لذلك قال تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ.. } [النور: 33] ولم يقُلْ: وليعف، فالمعنى ليسلك سبيل الإعفاف لنفسه وليسْعَ إليه، بأن يمنع المهيِّج بالنظر ويُهدئ شراسة الغريزة بالصوم، أو بالعمل فيشغل وقته ويعود آخر النهار متعباً يريد أن ينام ليقوم في الصباح لعمله نشيطاً، وهكذا لا يجد فرصة لشيء مما يغضب الله.
ومعنى: { الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً.. } [النور: 33] أي: بذواتهم قدرة أو بمجتمعهم معونة.
وقوله تعالى: { حَتَّىا يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.. } [النور: 33] يدل على أن الاستعفاف وسيلة من وسائل الغنى؛ لأن الاستعفاف إنما نشأ من إرادة التقوى، وقد قال تعالى في قضية قرآنية:{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }[الطلاق: 2 - 3] فمن هذا الباب يأتيه غِنَى الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ.. } [النور: 33].
الكتاب: معروف أنه اجتماع عدة أشياء مكتوبة في ورق، والمراد هنا المكاتبة، وهي أن تكتب عَقْداً بينك وبين العبد المملوك، تشترط فيه أن يعمل لك كذا وكذا بعدها يكون حراً، إنْ أدَّى ما ذكر في عَقْد المكاتبة.

} فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً.. { [النور: 33] يعني: إنْ كانت حريتهم ستؤدي إلى خير كأنْ ترفع عنهم ذِلَّة العبودية، وتجعلهم ينشطون في الحياة نشاطاً يناسب مواهبهم.
لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - هذه المكاتبة مَصْرفاً من مصارف الزكاة، فقال تعالى:{ وَفِي الرِّقَابِ.. }[البقرة: 177] يعني: المماليك الذين نريد أنْ نفكَّ رقابهم من أَسْر العبودية وذُلِّها بالعتق، وإنْ كان مال الزكاة يُدفع للفقراء وللمساكين.. إلخ ففي الرقاب يدفع المال للسيد ليعتق عبده.
كما جعل الإسلام عِتْق الرقاب كفارةً لبعض الذنوب بين العبد وبين ربه؛ ذلك لأن الله تعالى يريد أن يُنهي هذه المسألة.
} وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ.. { [النور: 33].
الحق - تبارك وتعالى - هو الرازق، والمال في الحقيقة مال الله، لكن إنْ ملّكك وطلب منك أن تعطي أخاك الفقير يحترم ملكيتك، ولا يعود سبحانه في هِبَته لك؛ لذلك يأخذ منك الصدقة على أنها قَرْض لا يردُّه الفقير، إنما يتولى ربك عز وجل رَدَّه، فيقول:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.. }[البقرة: 245] ولم يقُلْ سبحانه: يقرض فلاناً، وإنما يُقرِض الله لأنه تعالى هو الخالق، ومن حق عبده الذي استدعاه للوجود أنْ يرزقه ويتكفّل له بقُوتِه.
واحترام الملكية يجعل الإنسان مطمئناً على آثار حركة حياته وثمره جهده، وأنها ستعود عليه، وإلاّ فما الداعي للعمل ولبذل المجهود إنْ ضاعت ثمرته وحُرِم منها صاحبها؟ عندها ستتعطل مصالح كثيرة وسيعمل الفرد على قَدْر حاجته فحسب، فلا يفيض عنه شيء للصدقة.
ثم يقول سبحانه: } وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { [النور: 33].
يُقَال للمملوك: فتى، وللمملوكة: فتاة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي إنما يقول: فتاي وفتاتي، فهذه التسمية أكرم لهؤلاء وأرفع، فالفتى من الفُتوّة والقوة كأنك تقول: هذا قوتي الذي يساعدني ويعينني على مسائل الحياة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يرفع من شأنهم.
ومن هؤلاء جماعة المماليك الذين حكموا مصر في يوم من الأيام، وكانوا من أبناء الملوك والسلاطين والأعيان.
والبغاء ظاهرة جاء الإسلام فوجدها منتشرة، فكان الرجل الذي يملك مجموعة من الإماء ينصب لهُنّ راية تدل عليهن، ويأتيهن الشباب ويقبض هو الثمن، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق، وكان عنده (مسيكة، ومعاذه) وفيه نزلت هذه الآية.
وتأويل الآية: لا تُكرِهوا الإماء على البغاء، وقد كُنَّ يبكين، ويرفضْنَ هذا الفعل، وكُنَّ يؤذيْنَ ويتعرضْنَ للغمز واللمز، ويتجرأ عليهن الناس، وكان من هؤلاء الإماء بنات ذوات أصول طيبة شريفة، لكن ساقتهن الأقدار إلى السَّبْي في الحروب أو خلافه، في حين أن الحرة العفيفة تسير لا يتعرض لها أحد بسوء.

ومعنى: } إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.. { [النور: 33] يتكلم القرآن هنا عن الواقع بحيث إنْ لم يُرِدْن تحصُّناً فلا تُكرهِوهُنَّ } لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. { [النور: 33] طلباً للقليل من المال الزائل } وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { [النور: 33] لأنهن في حالة الإكراه على البغاء يفقدن شرط الاختيار، فلا يتحملن ذنب هذه الجريمة، عملاً بالحديث النبوي الشريف: " رُفِع عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه ".
لذلك يُطمئِن الحق - تبارك وتعالى - هؤلاء اللاتي يُرِدْنَ التحصُّن والعفاف، لكن يكرههن سيدهن على البغاء، ويُرغمهن بأيِّ وسيلة: اطمئنن فلا ذنبَ لَكُنَّ في هذه الحالة، وسوف يُغفر لَكُنَّ والله غفور رحيم.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ.. {.

(/2796)


وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)


المعنى: لا عذر لكم؛ لأن الله تعالى قد أنزل إليكم الآيات الواضحة التي تضمن لكم شرف الحياة وطهارتها ونقاء نسل الخليفة لله في الأرض، وهذه الآيات ما تركتْ شيئاً من أقضية الحياة إلا تناولتْه وأنزلتْ الحكم فيه، وقد نلتمس لكم العذر لو أن في حياتكم مسألة أو قضية ما لم يتناولها التشريع ولم ينظمها.
لذلك يقول سيدنا الإمام علي - رضي الله عنه - عن القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
ولا يزال الزمان يُثبِت صِدْق هذه المقولة، وانظر هنا وهناك لتجد مصارع الآراء والمذاهب والأحزاب والدول التي قامت لتناقض الإسلام، سواء كانت رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة. إلخ. كلها انهارت على مَرْأىً ومَسْمع من الجميع.
نعم، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، لأنه خالقك، وهو أعلم بما يُصلحك، فلا يليق بك - إذن - أن تأخذ خَلْق الله لك ثم تتكبر عليه وتضع لنفسك قانوناً من عندك أنت.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الآيات تطلق على ثلاثة إطلاقات: الآيات الكونية التي تلفتك إلى الصانع المبدع عز وجل، وعلى المعجزات التي تأتي لتثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وتُطلق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن الكريم، وفي القرآن هذا كله.
وقوله تعالى: { وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [النور: 34].
أي: جعلنا لكم موعظة وعبرة بالأمم السابقة عليكم، والتي بلغت شأوها في الحضارة، ومع ذلك لم تملك مُقوِّمات البقاء، ولم تصنع لنفسها المناعة التي تصونها فانهارت، ولم يبق منهم إلا آثار كالتي نراها الآن لقدماء المصريين، وقد بلغوا من الحضارة منزلةً أدهشت العالم المتقدم الحديث، فيأتون الآن متعجبين: كيف فعل قدماء المصريين هذه الحضارة؟
وكان أعظم من حضارة الفراعنة حضارة عاد التي قال الله عنها:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر: 6 - 14] يعني: لن يفلت من المخالفين أحد، ولن ينجو من عذاب الله كافر.
والمثَل كذلك في مسألة الزنا وقَذْف المحصنات العفيفات، كحادثة الإفك التي سبق الكلام عنها، وأنها كانت مَثَلاً وعِبرةً، كذلك كانت قصة السيدة مريم مثلاً وقد اتهمها قومها، وقالوا:{ ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً }[مريم: 28].
وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، وكلها مسائل تتعلق بالشرف، ولم تَخْلُ من رَمْي العفيفات المحصنات، أو العفيف الطاهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
وهذه الآيات مبينات للوجود الأعلى في آيات الكون، مُبينات لصِدْق المبلِّغ عن الله في المعجزات، مُبيِّنات للأحكام التي تنظم حركة الحياة في آيات القرآن، ثم أريناهم عاقبة الأمم السابقة سواء مَنْ أقبل منهم على الله بالطاعة، أو مَنْ أعرض عنه بالمعصية، ولا يستفيد من هذه المواعظ والعِبَر إلا المتقون الذين يخافون الله وتثمر فيهم الموعظة.

(/2797)


اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)


قلنا: فإن الله تعالى أعطانا النور الحسيِّ الذي نرى به مرائي الأشياء، وجعله وسيلة للنور المعنوي، وقلنا إن الدنيا حينما تظلم ينير كل مِنّا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة، فإذا ما طلعتْ الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل مِنَّا نوره؛ لأن نور الله كافٍ، فكما أن نور الله كافٍ في الحسيات فنوره أيضاً كافٍ في المعنويات.
فإذا شرع الله حكماً معنوياً يُنظِّم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره، والأمر واضح في الآيات الكونية.
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. } [النور: 35] كما نقول ولله المثل الأعلى: فلان نوَّر البيت، فالآية لا تُعرِّف الله لنا، إنما تُعرِّفنا أثره تعالى فينا، فهو سبحانه مُنوِّر السموات والأرض، وهما أوسع شيء نتصوره، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحاً غيرَ خفيّ.
ثم يضرب لنا ربنا - عز وجل - مثلاً توضيحياً لنوره، فيقول: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ.. } [النور: 35] أي: مثَلُ تنويره للسموات وللأرض { كَمِشْكَاةٍ.. } [النور: 35] وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديماً في الجدار، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المِسْرجة، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قوياً، ولا يصنع ظِلاً أمام مسار الضوء.
والمصباح: إناء صغير يُوضع فيه زيت أو جاز فيما بعد، وفي وسطه فتيل يمتصّ من الزيت فيظل مشتعلاً، فإنْ ظلَّ الفتيل في الهواء تلاعبَ به وبدَّد ضوءه وسبَّب دخاناً؛ لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق؛ لذلك جعلوا على الفتيل حاجزاً من الزجاج ليمنع عنه الهواء، فيأتي الضوء منه صافياً لا دخانَ فيه، وكانوا يسمونه (الهباب).
وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته، ومن ذلك قوله تعالى: { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ.. } [النور: 35] لكنها ليست زجاجة عادية، إنما زجاجة { كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ.. } [النور: 35] يعني: كوكب من الدُّرِّ، والدُّر ينير بنفسه.
كذلك زَيْتها ليس زيتاً عادياً، إنما زيت زيتونة مباركة.
يقول الحق سبحانه: { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } [النور: 35].
يعني: شجرة زيتون لا شرقية ولا غربية، يعني: لا شرقية لأنها غربية، ولا غربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية على حَدٍّ سواء، لكن كيف ذلك؟
قالوا: لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلماً، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلماً، إذن: يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء.
وهذا يؤثر في زيتها، فتراه من صفائه ولمعانه { يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [النور: 35]، وتعطي الشجرة الضوء القوي الذي يناسب بنوتها للشمس، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها، ومنها تستمد نورها، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس.

إذن: مَثْلُ تنوير الله للسموات وللأرض مثل هذه الصورة مكتلمة كما وصفنا، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات، أيكون بها موضع مظلم؟ فالسموات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة، والمثل هنا ليس لنور الله، إنما لتنويره للسموات وللأرض، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أنْ يُوصَف. وما المثَل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان.
وسبق أنْ ذكرنا قصة أبي تمام حين وصف الخليفة ومدحه بأبرز الصفات عند العرب، فقال:إقْدَامُ عَمْرٍ فِي سَمَاحَةٍ حَاتمٍ في حِلْم أحنفَ في ذَكَاءِ أيَاسِفجمع للخليفة كل هذه الصفات ومدحه بأشهر الخصال عند العرب؛ لذلك قام إليه أحد الحاقدين وقال معترضاً عليه: كيف تشبه الخليفة بصعاليك العرب؟ فالأمير فوق مَنْ وصفتَ.
فأكمل أبو تمام على البديهة وبنفس الوزن والقافية:لاَ تُنكروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِفَاللهُ قَدْ ضربَ الأقلَّ لنُورِهِ مَثَلاً من المشْكَاةِ والنِّبراسِفالله ـ تبارك وتعالى ـ هو نور السموات والأرض أي: مُنوِّرهما، وهذا أمر واضح جداً حينما تنظر إلى نور الشمس ساعة يظهر يجلو الكون، بحيث لا يظهر معه نور آخر، وتتلاشى أنوار الكواكب الأخرى والنجوم رغم وجودها مع الشمس في وقت واحد، لكن يغلب على نورها نور الشمس، على حَدٍّ كقول الشاعر في المدح:كأنكَ شَمْسٌ والمُلوكُ كَواكبٌ إذَا ظَهَرتْ لَمْ يَبْدُ منهُنّ كوكَبُثم يقول سبحانه: } نُّورٌ عَلَىا نُورٍ { [النور: 35] فلم يتركنا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ في النور الحسيِّ فقط، إنما أرسل إلينا نوراً آخر على يد الرسل هو نور المنهج الذي ينظم لنا حركة الحياة، كأنه تعالى يقول لنا: بعثت إليكم نوراً على نور، نور حِسيِّ، ونور قيمي معنوي، وإذا شهدتم أنتم بأن نوري الحسيّ ينير لكم السموات والأرض، وإذا ظهر تلاشت أمامه كل أنواركم، فاعلموا أن نور منهجي كذلك يطغَى على كل مناهجكم، وليس لكم أن تأخذوا بمناهج البشر في وجود منهج الله.
وقوله تعالى: } يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ { [النور: 35] أي: لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور، وإنِ اهتدوا إلى النور الحسيِّ في الشمس والقمر وانتفعوا به، وأطفأوا له مصابيحهم، لكن لم يكُنْ لهم حظ في النور المعنوي، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلوبهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به.
وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مِثْلُ نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه، لذلك جاء في أثر علي بن أَبي طالب: " من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله ".
والعجيب أن العبد كلما توغل في الهداية ازداد نوراً على نور، كما قال سبحانه:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً }[الأنفال: 29].
وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17].
ثم يقول تعالى: } وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ { [النور: 35].
يعني للعبرة والعِظة مثل المثل السابق لنوره تعالى } وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ { [نور: 35].

(/2798)


فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)


بدأت الآية بالجار والمجرور { فِي بُيُوتٍ } [النور: 36] ولا بُدَّ أن نبحث له عن متعلق، فالمعنى: هذا النور الذي سبق الحديث عنه في بيوت أَذِن الله أن تُرفع. والبيت: هو ما أُعِدَّ للبيتوتة، بل لمعيشة الحياة الثابتة، وإليه يأوي الإنسان بعد عناء اليوم وطوافه في مناكب الأرض، والبيت على أية صورة هو مكان الإنسان الخاص الذي يعزله عن المجتمع العام، ويجعل له خصوصية في ذاته، وإلا فالإنسان لا يرضى أن يعيش في ساحة عامة مع غيره من الناس.
وهذه الخصوصية في البيوت يتفاوت فيها الناس وتتسامى حسْب إمكاناتهم، وكل إنسان يريد أنْ يتحيّز إلى مكان خاص به؛ لأن التحيّز أمر مطلوب في النفس البشرية: الأسرة تريد أن تتحيز عن المجتمع العام، والأفراد داخل الأسرة يريدون أن يتحيزوا أيضاً، كل إلى حجرة تخصه، وكذلك الأمر في اللباس، ذلك لأن لكل واحد منا مساتير بينه وبين نفسه، لا يحب أن يطلع عليها أحد.
وقد اتخذ الله له بيتاً في الأرض، هو أول بيت وُضِع للناس، كما قال الحق سبحانه وتعالى:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً }[آل عمران: 96].
وهذا هو بيت الله باختيار الله، ثم تعددتْ بيوت الله التي اختارها خَلْق الله، فكما اتخذتم لأنفسكم بيوتاً اتخذ الله لنفسه بيوتاً { أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [النور: 36] وأنتم جميعاً عباد الله وعيال الله، وسوف تجدون الراحة في بيته تعالى كما تجدون الراحة في بيوتكم، مع الفارق بين الراحة في بيتك والراحة في بيت الله.
الراحة في بيوتكم راحة حِسِّية بدنية في صالون مريح أو مطبخ مليء بالطعام، أمّا في بيت الله فالراحة معنوية قيمية؛ لأن ربك ـ عز وجل ـ غيْبٌ فيريحك أيضاً بالغيب.
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة ليُلقي باحماله على ربه. وماذا تقول في صنعة تُعرض على صانعها مرة واحدة كل يوم، أيبقى بها عطل أو فساد؟ فما بالك إنْ عُرِضَتْ على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة؟
فربُّكَ يدعوك إلى بيته ليريحك، وليحمل عنك همومك، ويصلح ما فسد فيك، ويفتح لك أبواب الفرج. إذن فنور على نور هذه لا تكون إلا في بيوت الله التي أذِن سبحانه أن تُرفعَ بالذكر وبالطاعات وترفع عما يحل في الأماكن الأخرى وتعظم.
فالبيوت كلها لها مستوى واحد، لكن ترفع بيوت عن بيوت وتُعلَّى وقد رُفِعَت بيوت الله بالطاعة والعبادة، فالمسجد مكان للعبادة لا يُعصَى الله فيه أبداً على خلاف البيوت والأماكن الأخرى، فعظّم الله بيوته أن يُعْصَى فيها، وعظّم روادها أن يشتغلوا فيها بسفاسف الأمور الحياتية الدنيوية، فعليك أن تترك الدنيا على باب المسجد كما تترك الحذاء.

لذلك نهى الإسلام أن نعقد صفقة في بيت الله، أو حتى ننشد فيه الضالة؛ لأن الصفقة التي تُعقَد في بيت الله خاسرة بائرة، والضالة التي ينشدها صاحبها فيه لا تُردُّ عليه، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول لمن يفعل هذا بالمسجد " لا ردها الله عليكم ".
وإنْ جعل الله الأرض كلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسجداً وطهوراً، لكن فَرْقٌ بين الصلاة في المسجد والصلاة في أيِّ مكان آخر، المسجد خُصِّص للعبادة، ولا نذكر فيه إلا الله، أمّا الأماكن الأخرى فتصلح للصلاة، وأيضاً لمزاولة أمور الدنيا.
وإلا، فكيف تعيش كل وقتك لأمور الدنيا على مدار اليوم والليلة، ثم تستكثر على ربك هذه الدقائق التي تؤدي فيها فَرْض الله عليك فتجرجر الدنيا معك حتى في بيت الله؟ ألا تعلم أن بيوت الله ما جُعِلت إلا لعبادة الله؟ لابد للمؤمن أن يترك دُنْياه خارج المسجد، وأن ينوي الاعتكاف على عبادة ربه والمداومة على ذِكْره في بيته، فلا يليق بك أن تكون في بيت الله وتنشغل بغيره.
فإن التزمتَ بآداب المسجد تلقيتَ من ربك نوراً على نور، وزال عن كاهلك الهمّ والغم وحُلَّت مشاكلك من حيث لا تحتسب.
إذن: فالحق ـ تبارك وتعالى ـ جعل في الفطرة الإيمانية أن تؤمن بإله، فالإيمان أمر فطري مهما حاول الإنسان إنكاره، فالكافر الذي ينكر وجود الله ساعة يتعرَّض لأزمة لا منجاةَ منها بأسباب البشر تجده تلقائياً يتوجه إلى الله يقول: يا رب، لا يمكن أن يكذبَ على نفسه في هذه الحالة أو يُسلم نفسه ويبيعها رخيصة.
وفي ذلك يقول تعالى:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُواْ إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً }[الزمر: 8].
ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ }[الجمعة: 9].
فذكر طرفاً واحداً من عملية التجارة وهو البيع، ولم يقل: والشراء، قالوا: لأنه حين يُمنع البيع يُمنع الشراء في الوقت نفسه؛ ولأن الإنسان يحرص على البيع لكن قد يشتري وهو كاره، فشهوة الإنسان متعلقة بالبيع لا بالشراء، لأن الشراء يحتاج منه إلى مال على خلاف البيع الذي يجلب له المال.
إذن: قوله تعالى:{ وَذَرُواْ الْبَيْعَ }[الجمعة: 9] إنما ذكر قمة حركة الحياة وخلاصتها، فكل حركات الحياة من تجارة أو زراعة أو صناعة تنتهي إلى مسألة البيع؛ لذلك يحزن البائع إذا لم يَبِعْ، أما المشتري فيقول حين لا يجد الشيء أو يجد المحل مُغلَقاً: بركة يا جامع.
ثم إذا انتهتْ الصلاة يعيدنا من حديد إلى حركة الحياة:

{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ }[الجمعة: 10].
كأنك ذهبتَ للمسجد لتأخذ شحنة إيمانية تعينك وتسيطر على كُلِّ حواسك في حركتك في التجارة، وفي الإنتاج، وفي الاستهلاك، وفي كل ما ينفعك ويُنمي حياتك. وحين يأمرك ربك أن تفرغ لأداء الصلاة لا يريد من هذا الفراغ أن يُعطّل لك حركة الحياة، إنما ليعطيك الوقود اللازم لتصبح حركة حياتك على وَفْق ما أراده الله. وما أشبه هذا الوقت الذي نختزله من مصالح دنيانا في عبادة الله بشحن بطارية الكهرباء، فحين تذهب بالبطارية إلى جهاز الشحن لا نقول: إنك عطلت البطارية إنما زدتَ من صلاحيتها لأداء مهمتها وأخْذ خيرها.
فأنت تذهب إلى بيت الله بنور الإيمان، وبنور الاستجابة لنداء: الله أكبر، فتخرج بأنوار متعددة من فيوضات الله؛ لذلك ضرب لنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ مثلاً لها النور بالمصباح الذي يتنامى نوره ويتصاعد؛ لأنه في زجاجة تزيد من ضوئه؛ لأنها مثل كوكب دُريٍّ والنور يتصاعد؛ لأنها بزيت زيتونة، ويتصاعد لأنها شرقية وغربية في آن واحد، إذن: عندنا ألوان متعددة في المثل، فكذلك النور في بيوت الله.
لذلك قال بعض العارفين: أهل الأرض ينظرون في السماء نجوماً متلألئة، والملائكة في السماء ينظرون نجوماً متلألئة من بيوت الله، ولا عجبَ في ذلك لأنها أنوار الله تتلألأ وتتدفق في بيته وفي مسجده، وكيف نستبعد ذلك ونحن نرى نور الشمس كيف يفعل حينما يعكس على سطح القمر فيُلقِي إلينا بالضوء الذي نراه؟ والشمس والقمر أثر من آثار نور الله الذي يَسْطع في بيوت الله، ألاّ يعطينا ذلك الإشعاع الذي يفوق إشعاع البدور؟
ثم يقول تعالى: } يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ { [النور: 36].
فالمساجد جُعِلَتْ لتسبيح الله؛ لذلك كان بعض الصالحين إذا نزل بلداً يتحيل أن ينزلها في غير وقت الصلاة، ثم يذهب إلى المسجد فإنْ وجده عامراً في غير وقت الصلاة بالمسبحين علم أن هؤلاء ملتزمون بمنهج الله، حيث يجلسون قبل وقت الصلاة يُسبِّحون الله وينتظرون الصلاة، وإنْ وجد الحال غير ذلك انصرف عنها وعلم أنها بلد لا خيرَ فيها.
والغُدوُّ: يعني الصباح، والآصال: يعني المساء، فهي لا تخلو أبداً من ذكْر الله وتسبيحه، وقد وصف هؤلاء الذين يعمرون بيوت الله بالذكر والتسبيح بأنهم: } رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ {

(/2799)


رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)


قلنا: إن التجارة هي قمة حركة الحياة؛ لأنها واسطة بين منتج زارع أو صانع وبين مستهلك، وهي تقتضي البيع والشراء، وهما قمة التبادلات، وهؤلاء الرجال لم تُلْهِهِمْ التجارة عن ذِكْر الله لأنهم عرفوا ما في الزمن المستقطع للصلاة من بركة تنثر في الزمن الباقي.
أو نقول: إن التجارة لم تُلْههم عن ذِكْر الله في ذاتها، فهُمْ حالَ تجارتهم لا يغفلون عن ذكر الله، وقد كنا في الصِّغَر نسمع في الأسواق بين البائع والمشتري، يقول أحدهما للآخر: وحدِّ الله، صَلِّ على النبي، مدَّح النبي، بالصلاة على النبي، كل هذه العبارات انقرضت الآن من الأسواق والتعاملات التجارية وحَلَّ محلَّها قيم وعبارات أخرى تعتمد على العَرْض والإعلان، بل الغش والتدليس. ولم نَعُدْ نسمع هذه العبارات، حتى إذا لم يتم البيع كنت تسمع البائع يقول: كسبنا الصلاة على النبي، فهي في حَدِّ ذاتها مكسب حتى لو لم يتم البيع.
{ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَـاةِ } [النور: 37] الصلاة لأنها تأخذ وقتاً من العمل، وكثيراً ما ينشغل المرء بعمله وتجارته عن إقامة الصلاة ظاناً أنها ستُضيِّع عليه الوقت، وتُفوِّت عليه مصالح كثيرة، وكذلك ينظر إلى الزكاة على أنها تنقص من ماله، وهذه نظرة خاطئة حمقاء؛ لأن الفلاح الذي يُخرِج من مخزنه أردباً من القمح ليزرع به أرضه: الأحمق يقول: المخزن نقص أردباً، أما العاقل فيثق أن هذا الأردب سيتضاعف عند الحصاد أضعافاً مضاعفة.
أو: أن الله تعالى يفيض عليه من أنواره، فيبارك له في وقته، وينجز من الأعمال من الوقت المتبقي ما لا ينجزه تارك الصلاة، أو: يرزقه بصفقة رابحة تأتيه في دقائق، ومن حيث لا يحتسب، والبركة كما قلنا قد تكون سَلْباً وقد تكون إيجاباً، وهذه كلها أنوار وتجليات يفيض الله بها على الملتزم بمنهجه.
ثم يقول سبحانه في صفات هؤلاء الرجال: { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } [النور: 37] ذلك لأنهم يتجارون لهدف أسمى وأخلد، فأهل الدنيا إنما يتاجرون لصيانة دنياهم، أمّا هؤلاء فيتجارون مع الله تجارة لن تبور، تجارة تصون الدنيا وتصون الآخرة.
وإذا قِسْتَ زمن دنياك بزمن أُخْراك لوجدته هباء لا قيمةَ له، كما أنه زمن مظنون لعمر مظنون، لا تدري متى يفاجئك فيه الموت، إمّا الآخرة فحياة يقينية باقية دائمة، وفي الدنيا يفوتك النعيم مهما حَلاَ وطال، أما الآخرة فنعيمها دائم لا ينقطع.
إذن: فَهُمْ يعملون للآخرة { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } [النور: 37] واليوم في ذاته لا يُخاف منه، وإنما يُخَاف ما فيه، كما يقول الطالب: خِفْت يوم الامتحان، واليوم يوم عادي لا يخاف منه، إنما يُخاف مما سيحدث في هذا اليوم، فالمراد: يخافون عذاب هذا اليوم.

ومعنى } تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ { [النور: 37] يعني: رجفة القلب واضطراب حركته، وما ينتابه من خفقان شديد، ونحن نرى ما يصيب القلوب من ذلك لمجرد أحداث الدنيا، فما بالك بهوْل الآخرة، وما يحدث من اضطراب في القلب؟
كذلك تضطرب الأبصار وتتقلَّب هنا وهناك؛ لأنها حين ترى الفزع الذي يخيفها تتقلب، تنظر هنا وتنظر هنا عَلَّها ترى ما يُطمئنها أو يُخفِّف عنها ما تجد، لكن هيهات فلن ترى إلا فزعاً آخر أشدّ وأَنكى.
لذلك ينتهي الموقف إلى:{ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ }[القلم: 43]{ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ }[النازعات: 8ـ9] يعني: ذليلة منكسرة حيث لا مفرَّ ولا مَنْجى، ولن يجد في هذا اليوم راحة إلا مَنْ قدم له العمل الصالح كالتلميذ المجتهد الواثق من نفسه ومعلومات، يتلهف إلى ورقة الأسئلة، أما الآخرة فيقف حائراً لا يدري.
ثم يقول الحق سبحانه: } لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ {

(/2800)


لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)


أي: في هذا اليوم يجزيهم الله أحسن ما عملوا، ما شاء الله على رحمة الله!! لكن كيف بأسوأ ما عملوا؟ هذه دَعْوها لرحمة الله ولمغفرته { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } [النور: 38] لأن الله تعالى لا يعاملنا في الحسنات بالعدل، ولا يجازينا عليها بالقسطاس المستقيم وعلى قَدْر ما نستحق، إنما يزيدنا من فضله.
لذلك ورد في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان. فليس لنا نجاة إلا بهذا، كما يقول سبحانه:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].
{ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [النور: 38] والرزق: كُلُّ ما يُنتفع به، وكل معنى فيه فوقية لك هو رزق، فالصحة رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، والشجاعة رزق.. الخ.
والبعض يظن أن الرزق يعني المال، وهذا خطأ؛ لأن الرزق مجموعُ أمورٍ كثيرة، فإنْ كان رزُقك علماً فعلِّم الجاهل، وإنْ كان رزقك قوةً فأعِن الضعيف، وإنْ كان رزقك حِلْماً فاصبر على السَّفيه، وإن كان رزقك صنعة تجيدها، فاصنع لآخرقَ لا يجيد شيئاً.
وإذن: هذا كله رزق، وما دام ربك ـ عز وجل ـ يرزقك بغير حساب، ويفيض عليك من فضله فأعْطِ المحتاجين، وارزق أنت أيضاً المعدمين، واعلم أنك مُنَاول عن الله، والرزق في الأصل من الله وقد تكفّل لعباده به، وما أنت إلا يد الله الممدودة بالعطاء، واعلم أنك ما دُمْتَ واسطة في العطاء، فأنت تعطي من خزائن لا تنفد، فلا تضنّ ولا تبخل، فما عندكم ينفد وما عند الله بَاقٍ.
والحساب: أنْ تحسب ثمرة الأفعال: هذه تعطي كذا، وهذا ينتج كذا، يعني ميزانية ودراسة جدوى، أمّا عطاء الله فيأتيك دون هذه الحسابات، فأنت تحسب؛ لأن وراءك مَنْ سيحاسبك، أمّا ربك عز وجل فلا يحاسبه أحد؛ لذلك يعطيك بلا عمل ودون أسباب، ويعطيك بلا مُقدِّمات، ويعطيك وأنت لا تستحق، أَلاَ ترى مَنْ تتعثر قدمه فيجد تحتها كنزاً؟
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ }

(/2801)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)


الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أنْ يلفت أنظار مَنْ شغلتهم الدنيا بحركتها ونشاطها عن المراد بالآخرة، فيصنعون صنائع معروفٍ كثيرة، لكن لم يُخلصوا فيها النية لله، والأصل في عمل الخير أن يكون من الله ولله، وسوف يُواجَه هؤلاء بهذه الحقيقة فيقال لأحدهم كما جاء في الحديث: " عملت ليقال وقد قيل ".
لقد مدحوك وأثنَواْ عليك، وأقاموا لك التماثيل وخَلَّدوا ذِكْراك؛ لذلك رسم لهم القرآن هذه الصورة: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [النور: 39].
{ أَعْمَالُهُمْ } [النور: 39] أي: التي يظنونها خيراً، وينتظرون ثوابها، والسراب: ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة كأنه ماء وليس كذلك. وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء، و " قِيعة ": جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة.
وأسند الفعل { يَحْسَبُهُ } [النور: 39] إلى الظمآن؛ لأنه حاجة للماء، وربما لو لم يكُنْ ضمآناً لما التفتَ إلى هذه الظاهرة، فلظمئه يجري خلف الماء، لكنه لا يجد شيئاً، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما { وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } [النور: 39] فُوجىء بإله لم يكُنْ على باله حينما فعل الخير، إله لم يؤمن به، والآن فقط يتنبه، ويصحو من غَفْلته، ويُفَاجأ بضياع عمله.
إذن: تجتمع عليه مصيبتان: مصيبة الظمأ الذي لم يجد له رِياً، ومصيبة العذاب الذي ينتظره، كما قال الشاعر:كَما أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامَةٌ فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتَجلَّتِوسبق أن ضربنا مثلاً لهذه المسألة بالسجين الذي بلغ منه العطش مبلغاً، فطلب الماء، فأتاه الحارس به حتى إذا جعله عند فيه واستشرف المسكين للارتواء أراق الحارسُ الكوبَ، ويُسمُّون ذلك: يأْسٌ بعد إِطْماع.
لذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطينا في الكون أمثلة تُزهِّد الناس في العمل للناس من أجل الناس، فالعمل للناس لا بُدَّ أن يكون من أجل الله. وفي الواقع تصادف مَنْ ينكر الجميل ويتنكر لك بعد أنْ أحسنْتَ إليه، وما ذلك إلا لأنك عملتَ من أجله، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس، ولو فعلتَ ما فعلتَ من أجل الله لوجدتَ الجزاء والثواب من الله قبل أنْ تنهتي من مباشرة هذ الفعل.
وفي موضع آخر يُشبِّه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء، فلا ينبت شيئاً:{ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىا شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 264].
وقوله تعالى: { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [النور: 39] فإياك أنْ تستبعد الموت أو البعث، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمنٌ لا يُحسَب لأنه يمرُّ عليك دون أن تشعر به ، كما قال سبحانه:{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }[النازعات: 46].
والله تعالى أخفى الموت أسباباً وميعاداً؛ لأن الإبهام قد يكون غاية البيان، وبإبهام الموت تظل ذاكراً له عاملاً للآخرة؛ لأنك تتوقعه في أي لحظة، فهو دائماً على بالك، ومَنْ يدريك لعلَّك إنْ خفضْتَ طرْفك لا ترفعه، وعلى هذا فالحساب قريب وسريع؛ لذلك قالوا: مَنْ مات فقد قامت قيامته.
ثم يقول الحق سبحانه: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ }

(/2802)


أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)


هذا مَثَل آخر توضيحي لأعمال الذين كفروا، والبحر اللجي: الواسع الكبير الذي تتلاطم فيه الأمواج، بعضها فوق بعض، وفوق هذا كله سحاب إذن: فالظلام مُطبق؛ لأنه طبقات متتالية، وفي أعماق بعيدة، وقد بلغتْ هذه الظلمة حداً لا يرى الإنسان معها حتى يده التي هي جزء منه، فما بالك بالأشياء الأخرى؟
وقوله: { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [النور: 40] أي: لم يقرب من أنْ يراها، وإذا نفى القُرْب من أن يرى فقد نفى الرؤية من باب أَوْلَى؛ ذلك لأنه ليس له نور من الله يرى به ويهتدي { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور: 40] فكما أنه لم ينتفع بالنور، ولم يَرَ حتى يده، كذلك لا ينتفع بشيء من عمله.
ثم يقول الحق سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }

(/2803)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)


يريد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن يلفتنا إلى ما يدّل على وحدة الخالق الأعلى، وكمال قيوميته، وكمال قدرته، وذُكِرَتْ هذه الآية بعد عدة أوامر نواهٍ، وكأن ربك ـ عز وجل ـ يريد أنْ يُطمئِنك على أن هذا الكون الذي خلقه من أجلك وقبل أن تُولد، بل، وقبل أن يخلق الله آدم أعدَّ له هذه الكون، وجعله في استقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه، يقول لك ربك: اطمئن فلن يخرج شيء من هذا الكون عن خدمتك فهو مُسخَّر لك، ولن يأتي يوم يتمرّد فيه، أو يعصي أوامر الله:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [النور: 41].
{ أَلَمْ تَرَ } [النور: 41] يعني: ألم تعلم، كما في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1] ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد عام الفيل، ولم يَرَ هذه الحادثة، فلماذا لم يخاطبه ربُّه بألم تعلم ويريح الناس الذين يتشكّكون في الألفاظ؟
قالوا: ليدلّك على أن ما يخبرك الله به ـ غيباً عنك ـ أوثقُ مما تخبرك به عينُك مشهداً لك؛ لأن مصدر علمك هو الله، أَلاَ ترى أن النظر قد يصيبه مرض فتختل رؤيته، كمن عنده عمى ألوان أو قِصَر نظر.. إلخ إذن: فالنظر نفسه وهو أوثق شيء لديك قد يكذب عليك.
والتسبيح: هو التنزيه، والتنزيه أن ترتفع بالمنزّه عن مستوى ما يمكن أنْ يجولَ بخاطرك: فالله تعالى له وجود، وأنت لك وجود، لكن وجودَ الله ليس كوجودك، الله له ذاته وصفات، لكن ليست كذاتك وصفاتك..إلخ.
إذن: نزَّه ذات الله تعالى عن الذوات التي تعرفها؛ لأنها ذوات وُهِبَتْ الوجود، أما ذات الله فغير موهوبة، ذات الله ذاتية، كذلك لك فِعْل، ولله تعالى فِعْل.
وقد ذكرنا في قوله تعالى:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَا }[الإسراء: 1].
إن الذين اعترضوا على هذا الفعل اعترضوا بغباء، فلم يُفرِّقوا بين فِعْل الله وفِعْل العبد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل: سريْتُ من مكة ألى بيت المقدس. إنما قال: أُسْرِي بي.
فالاعتراض على هذا فيه مغالطة، فإنْ كنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ فذلك لأن سَيْركم خاضع لقدرتكم وإمكاناتكم، أمّا الله تعالى فيقول للشيء: كُنْ فيكون، فلا يحتاج في فِعْله سبحانه إلى زمن. فمن الأدب أَلاَّ تقارن فِعْل الله بفعلك، ومن الأدب أنْ تُنزِّه الله عن كل مَا يخطر لك ببال، نزَّه الله ذاتاً، ونزِّهه صفاتاً، ونزهه أفعالاً.
ألا ترى أن (سبحان) مصدر للتسبيح، يدل على أن تنزيه الله ثابت له سبحانه قبل أن يخلق مَنْ ينزهه، كما جاء في قوله تعالى:

{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ }[آل عمران: 18] فشهد الحق ـ تبارك وتعالى ـ لنفسه قبل أنْ تشهدوا، وقبل أن تشهد الملائكة، فهذه هي شهادة الذات للذات. وقبل أن يخلق الله الإنسان المسبِّح سبَّح لله السموات والأرض ساعة خلقهما سبحانه وتعالى.
وحين تتتبع ألفاظ التسبيح في القرآن الكريم تجدها جاءت مرة بصيغة الماضي{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[الحديد: 1] فهل سبّحَتْ السموات والأرض مرة واحدة، فقالت: سبحان الله ثم سكتَتْ عن التسبيح؟ لا إنما سبَّحَتْ في الماضي، ولا تزال تُسبِّح في الحاضر:{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }[الجمعة: 1].
وما دام أن الكون كله سبَّح لله، وما يزال يُسبِّح فلم يَبْقَ إلا أنت يا ابن آدم:{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَىا }[الأعلى: 1] يعني: استح أن يكون الكون كله مُسبِّحاً وأنت غير مُسبِّح، فصِلْ أنت تسبيحك بتسبيح كل هذه المخلوقات.
وعجيب أن نسمع من يقول أن (مَنْ) في الآية للعاقل، فهو الذي يُسبِّح أمّا السموات والأرض فلا دخلَ لهما في هذه المسألة، ونقول: لا دخلَ لها في تصورك أنت، أمّا الحقيقة فإنها مثلك تُسبِّح كما قال تعالى: } كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ { [النور: 41].
وقال:{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ }[الرعد: 13] فليس لك بعد كلام الله كلام.
وآخر يقول لك: التسبيح هنا ليس على الحقيقة، إنما هون تسبيح دلالة وحال، لا مقال، يعني: هذه المخلوقات تدلُّ بحالها على تسبيح الله وتنزيهه، وأنه واحد لا شريك له، على حد قول الشاعر:وَفِي كُلِّ شَيء لَهُ آيَةٌ تدُلُّ على أنَّه الوَاحِدُوهذا القول مردود بقوله تعالى:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }[الإسراء: 44].
إذن: فهذه المخلوقات تُسبِّح على الحقيقة ولها لسان ولغة، لكنك لا تفهم عنها ولا تفقه لغاتها، وهل فهمتَ أنت كل لغات بني جنسك حتى تفهم لغات المخلوقات الأخرى؟ إن العربي إذا لم يتعلم الإنجليزية مثلاً لا يستطيع أن يفهم منها شيئاً، وهي لغة منطوقة مكتوبة، ولها ألفاظ وكلمات وتراكيب مثل العربية.
إذن: لا تقُلْ تسبيحَ حال، هو تسبيح مقال، لكنك لا تفهمه، وكل شيء له مقال ويعرف مقاله، بدليل أن الله تعالى إنْ شاء أطلع بعض أهل الاصطفاء على هذه اللغات، ففهمها كما فهم سليمان عليه السلام عن النملة{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا }[النمل: 19] وسمع كلام الهدهد وفهم عنه ما يقول عن ملكة سبأ.
ونقول لأصحاب هذا الرأي: تأملوا الخلية المسدَّسة التي يصنعها النحل وما فيها من هندسة تتحدى أساطين الهندسة والمقاييس أن يصنعوا مثلها، تأمَّلوا عش الطائر وكيف ينسج عيدان القش، ويُدخل بعضها في بعض، ويجعل للعُشِّ حافَّة تحمي الصغار، فإذا وضعْتَ يدك في العُشِّ وهو من القَشِّ وجدتَ له ملمسَ الحرير، تأملوا خيوط العنكبوت وكيف يصطاد بها فرائسه؟
لقد شاهدت فِليماً مصوراً يُسجِّل صراعاً بين دب وثور، الدب رأى قرون الثور طويلة حادة، وعلم أنها وسيلة الثور التي ستقضي عليه، فما كان منه إلا أن هجم على الثور وأمسك قَرْنَيْه بيديه، وظل ينهش رأس الثور بأسنانه حتى أثخنه جراحاً حتى سقط فراح يأكله.

إذن: كيف نستبعد أن يكون لهذه المخلوقات لغات تُسبِّح الله بها لا يعرفها إلا بنو جنسها، أو مَنْ أفاض الله عليه بعلمها؟
ثم ألم يتعلَّم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى لما قَتَل قابيلُ هابيلَ؟ كما يقول سبحانه:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ }[المائدة: 31] وكأن ربنا ـ عز وجل ـ يُعلِّمنا الأدب وعدم الغرور.
وقرأنا أن بعض الباحثين والدارسين لحياة النمل وجدوا أنه يُكوِّن مملكة متكاملة بلغت القمة في النظام والتعاون، فقد لاحظوا مجموعة تمرُّ هنا وهناك، حتى وجدتْ قطعة من طعام فتركوها وانصرفوا، حيث أتوا، ثم جاءت بعدهم كوكبة من النمل التفتْ حول هذه القطعة وحملتْها إلى العُشِّ، ثم قام الباحث بوضع قطعة أخرى ضِعْف الأولى، فإذا بمجموعة الاستكشاف (أو الناضورجية) تمر عليها وتذهب دون أنْ تحاول حَمْلها، وبعدها جاء جماعة من النمل ضِعْف الجماعة الأولى، فكأن النمل يعرف الحجم والوزن والكتلة ويُجيد تقديرها.
وفي إحدى المرات لاحظ الباحث فتاتاً أبيض أمام عُشِّ النمل، فلما فحصه وجده من جنين الحبة الذي يُكوِّن النبتة، وقد اهتدى النمل إلى فصل هذا الجنين حتى لا تُنبت الحبة فتهدم عليهم العُشّ، لهذا الحد عَلِم النمل قانون صيانته، وعلم كيف يحمي نفسه، وهو من أصغر المخلوقات، أبعد هذا كله نستبعد أن يكون للنمل أو لغيره لُغته الخاصة؟
ثم يقول سبحانه: } وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ { [النور: 41] فلماذا خَصَّ الطير بالذكْر مع أنها داخلة في } مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { [النور: 41].
قالوا: خَصَّها لأن لها خصوصية أخرى وعجيبة، يجب أن نلتفت إليها؛ لأن الله تعالى يريد أنْ يجعل الطير مثلاً ونموذجاً لشيء أعظم، فالطير كائن له وزن وثِقل، يخضع لقانون الجاذبية التي تجذب للأرض كُلَّ ثقل يعلَقُ في الهواء.
لكن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يخرق هذا القانون للطير حين يصُفُّ أجنحته في الهواء، يظل مُعلّقاً لا يسقط:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـانُ }[الملك: 19].
وكان الخالق ـ عز وجل يقول: خُذُوا من الطير المشاهد نموذجاً ووسيلة إيضاح، فإذا قلتُ لكم:{ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }[الحج: 65] فَصِدِّقوا وآمنوا أن الله يُمسك السماء، بل:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ }[فاطر: 41].

فخُذْ من المشهد الذي تدركه دليلاً على ما لا تدركه.
لكن، مَن الفاعل في } عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ { [النور: 41].
يمكن أن يكون الفاعل الطير وكل ما في الوجود، وأحسن منه أن نقول: علم الله صلاتها وتسبيحها؛ لأنه سبحانه خالقها وهاديها إلى هذا التسبيح. إذن: فكل ما في الوجود يعلم صلاته ويعلم تسبيحه، كما تعلم أنت المنهج، لكنه استقام على منهجه لأنه مُسخّر وانحرفت أنت لأنك مُخيَّر.
فإنْ أردتَ أنْ تستقيمَ أمور حياتك فطبِّق منهج الله كما جاءك؛ لذلك لا تجد في الكون خللاً أبداً إلا في منطقة الاختيار عند الإنسان، كل شيء لا دخْلَ للإنسان فيه يسير منتظماً، فالشمس لم تعترض في يوم من الأيام ولم تتخلف، كذلك القمر والنجوم والهواء، إنها منضبطة غاية الإنضباط، حتى إن الناس يضبطون عليها حساباتهم ومواعيدهم واتجاهاتهم.
لذلك يقول تعالى:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5] يعني: بحساب دقيق، وما كان للشمس أنْ تضبط الوقت إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.
} وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ { [النور: 41] أي: لقيوميته تعالى على خَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ {

(/2804)


وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)


يريد ربك ـ عز وجل ـ أنْ يُطمئنك أن الذي كلَّفك بما كلَّفك به يضمن لك مُقوِّمات حياتك، فلن ينقطع عنك الهواء في يوم من الأيام، ولن تتأبَّى عليك الشمس أو القمر أو الأرض؛ لأنها مِلْك لله، لا يشاركه سبحانه في ملكيتها أحد يمنعها عنك، فاطمئن إلى أنها ستؤدي مهمتها في خدمتك إلى يوم القيامة، ولا تشغل نفسك بها، فقد ضمنها الله.
ثم يقول رب العزة سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً }

(/2805)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)


قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ } [النور: 43] يعني: ألم تعلم، وقد وقفنا مع تطور العلم على كيفية تكوُّن المطر بين التبخير والتكثيف الذي يُكوِّن السحاب، وقلنا سابقاً: إن مُسطح الماء على الأرض ثلاثة أرباع اليابسة حتى تكفي هذه المساحة البخر اللازم لتكوّن المطر، ونحن نُجري مثل هذه العملية في تقطير الماء حين نغلي الماء ونستقبل البخار على سطح بارد، فتحدث له عملية التكثيف.
وقد أوضحنا هذه العملية بكوب الماء حين تتركه ممتلئاً وتسافر مثلاً، فحين تعود تجد الكوب قد نقص قليلاً، أما إذا أرقْتَهُ على الأرضِ، فإنه يجفُّ سريعاً، وقبل أن تغادر المكان، لماذا؟ لأنك وسََعْتَ مساحة البَخْر.
ومعنى { يُزْجِي سَحَاباً } [النور: 43] أي: يرسله برِفْق ومَهَل؛ لذلك لما وصف الشاعر مَشْي الفتاة قال:كَأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بيْتِ جَارَتِها مَرُّ السَّحابَة لاَ رَيْث ولاَ عَجَل{ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } [النور: 43] أي: يجمع بعضه على بعض، وحين يُجمع الشيء بعضه على بعض لا بُدَّ أن يبقى بينه فاصل، فلا يلتحم بغيره التحاماً تاماً، ولولا هذه الفواصل بين قِطَع السحاب، ولولا هذه الفتوق ما نزل الوَدَق من خلاله.
ولو شاء سبحانه لجعل السحاب قطعة واحدة، ولكنه سبحانه يؤلف بينه ويُجمِّعه بعضه على بعض دون أنْ يُوحِّده تكويناً، فيحدث بذلك فراغاً بين قطع السحاب. أرأيتَ حين نلصق الورق بالصمغ مثلاً فمهما وضعت عليه من ثقل لا بُدَّ أن يبقى بينه فراغات؛ لأنه ليس ذاتاً واحدة.
وعملية تفريغ الهواء هذه تلاحظها حين تضع كوباً مبلولاً وتتركه لفترة، فيتبخر الماء من تحته ويخرج الهواء، فإذا أردْتَ رفعه وجدته صعباً لماذا؟ لتفريغ الهواء من تحت قاعدة الكوب، وفي هؤلاء الذين يعالجون الآلام الناتجة عن البرد، فيضعون الكوب مقلوباً على مكان الألم، ثم يُشعِلُون بداخله قطعة من القماش مثلاً لتحرق الهواء بداخل الكوب.
وبذلك نمنع الخلل في التقاء الكوب بالجسم، وهذه المسألة هي سِرُّ عظمة قدماء المصريين في البناء، حيث تتماسك الحجارة دون وجود (مونه) تربط بينها.
إذن: وجود الهواء بين الشيئن يُحدِث خللاً بينهما، ولولا هذا الخلل في السحاب ما نزل منه الماء، والمطر آية عظيمة من آيات الله لا نشعر بها، ولك أنْ تتصور كم يُكلِّفنا كوب الماء المقطّر حين نُعِدُّه في المعمل، فما بالك بالمطر الذي يسقي الأرض كلها؟
ثم يقول تعالى: { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } [النور: 43] يعني: مُكدَّساً بعضه على بعض، وفي آية أخرى:{ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ }[الطور: 44] متراكم بعضه على بعض { فَتَرَى الْوَدْقَ } [النور: 43] أي: المطر: { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [النور: 43] أي: من خلال هذه الفجوات والفواصل التي تفصل بين السُّحُب.

وهذا الماء الذي ينزل من السماء فيُحيي به الله الأرض قد يأتي نقمةً وعذاباً، كما قال سبحانه: } وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ { [النور: 43] ولنا في أهل مأرب الذين أغرقهم الله عبرةٌ وعظة.
ولو تأملتَ لوجدتَ الماء والنار عدويْن متقابلين يصعب مقاومتهما؛ لذلك كان العرب إلى عهد قريب يخافون الماء لما عاينوه من غرق بعد انهيار سدِّ مأرب؛ لذلك آثروا أنْ يعيشوا في الصحراء بعيداً عن الماء.
وبالماء نجَّى الله تعالى موسى ـ عليه السلام ـ وأغرق عدوه فرعون، ففعل سبحانه الشيء وضده بالشيء الواحد.
وقوله تعالى: } يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ { [النور: 43] أي: الضوء الشديد الذي يُحدِثه السحاب يكاد أن يخطف الأبصار، وفي البرق تتولد النار من الماء؛ لذلك حينما يقول تعالى:{ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ }[التكوير: 6] فصدِّق هذه الآية الغيبية؛ لأنك شاهدت نموذجاً لها في مسألة البرق.
ثم يقول الحق سحبانه: } يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ {

(/2806)


يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)


فالليل والنهار آيتان يتتابعان لكن دون رتابة، فالليل قد يأخذ من النهار، والنهار يأخذ من الليل، وقد يستويان في الزمن تماماً. ومن تقليب الليل والنهار ما يعتريهما من حَرٍّ أو برد أو نور وظلمة.
إذن: فالمسألة ليست ميكانيكية رتيبة، إنما هي قيومية الله تعالى وقدرته في تصريف الأمور على مراده تعالى؛ لذلك يقول تعالى بعدها: { إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } [النور: 44].
العِبرة والعَبرة والعبور والتعبير كلها من مادة واحدة، نقول: هذا مكان العبور يعني الانتقال من جهة إلى جهة أخرى، وفلان عبَّر عن كذا، يعني: نقل الكلام النفسي إلى كلام باللسان، والعبرة أنْ ننظرَ في الشيء ونعتبر، ثم ننتقل منه إلى غيره، وكذلك العَبْرة لأنها حزن أسال شيئاً، فنزل من عيني الدمع.
والعبرة هنا لمن؟ { لأُوْلِي الأَبْصَارِ } [النور: 44] والمراد: الأبصار الواعية لا الأبصار التي تدرك فقط، والإنسان له إدراكات بوسائلها، وله عقل يستقبل المدركات ويغربلها، ويخلُص منها إلى قضايا، ومن الناس مَنْ يبصر لكنه لا يرى شيئاً ولا يصل من رؤيته إلى شيء، ومنهم أصحاب النظر الواعي المدقِّق، فالذي كتشف قوة البخار رأى القِدْر وهي تغلي وتفور فيرتفع عليها الغطاء، وهذا منظر نراه جميعاً الرجل والمرأة، والكبير والصغير، لكن لم يصل أحد إلى مثل ما وصل إليه.
إذن: المراد الأبصار التي تنقل المبصر إلى العقل ليُحلِّله ويستنبط ما فيه من أسباب، لعله يستفيد منها بشيء ينفعه، والله تعالى قد خلق في الكون ظواهرَ وآياتٍ لو تأملها الإنسان ونظر إليها بتعقُّل وتبصُّر لاستنبطَ منها مَا يُثري حياته ويرتقي بها.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىا بَطْنِهِ }

(/2807)


وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)


الدابة: كلّ ما يدبُّ على الأرض، سواء أكان إنساناً أو أنعاماً أو وحشاً، فكُلُّ ما له دبيب على الأرض خلقه الله من ماء حتى النملة لها على الأرض دبيب.
وكل شيء يضخم قابل لأنْ يُصغَّر، وقد يُضخَّم تضخيماً لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كُنْهه، وقد يَصْغُر تصغيراً حتى لا تكاد تراه، وتحتاج في رؤيته إلى مُكبِّر، ومن عجائب الخَلْق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومُقوِّماتها، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم، ومن عظمة الخالق سبحانه أن يخلق الشيء الضخم الذي يفوق الإدراك لضخامته، ويخلق الشيء الضئيل الذي يفوق الإدراك لضآلته.
ألاَ ترى أن ساعة (بج بن) أخذتْ شهرتها لضخامة حجمها، ثم جاء بعد ذلك مَنْ صنع الساعة في حجم فصِّ الخاتم، وفيها نفس الآلات التي في ساعة (بج بن)، كذلك خلق الله من الماء الفيل الضخم، وخلق الناموسة التي تؤرق الفيل رغم صِغَرها.. سبحان الخالق.
ولما كان الماء هو الأصل في خِلْقة كل شيء حيٍّ وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأنْ يحجبوا عنه المائية فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطاً مائياً يعيش فيه.
وهذه الخِلْقة ليست على شكل واحد ولا وتيرة واحدة في قوالب ثابتة، إنما هي ألوان وأشكال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىا بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىا رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىا أَرْبَعٍ } [النور: 45].
والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حَيِّز مكاني إلى حَيِّز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يُوضِّح لنا سبحانه أن المشْي أنواع: فمن الدوابِّ مَنْ يمشي على بطنه، ومنه مَنْ يمشي على رِجْليْن، ومنهم مَنْ يمشي على أربع.
وربنا ـ سبحانه وتعالى ـ بسط لنا هذه المسألة بَسْطاً يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلاً أن من الدواب مَنْ له أربع وأربعون مثلاً، وفي تنوع طُرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خَلْقه.
لذلك قال بعدها: { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } [النور: 45] لأن الآية لم تستقْص كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } [النور: 45] تندرج مثلاً (أُم أربعة وأربعين) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه.
وكما سخر الله الإنسان لخدمة الإنسان، كذلك سخَّر الحيوان لخدمة الحيوان ليُوفِّر له مُقوِّمات حياته، ألاَ ترى الطير يقتات على فضلات الطعام بين أسنان التمساح مثلاً فينظفها له، إذن: فما في فم التمساح من الخمائر والبكتيريا هي مخزن قوت لهذه الطيور، ويحدث بينها توافق وانسجام وتعاون، حتى إن الطير إنْ رأى الصياد الذي يريد أن يصطاد التمساح فإنها تُحدِث صوتاً لتنبه التمساح حتى ينجو.
ومن المشْيِ أيضاً السَّعْي بين الناس بالنميمة، كما قال تعالى:{ هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ }[القلم: 11].
وبعد أن أعطانا الحق ـ تبارك وتعالى ـ الأدلة على أن المْلك له وحده، وأن كل شيء يُسبِّح بحمده تعالى وإليه تُرجَع الأمور، وأنه تعالى خلق كُلَّ دابة من ماء، قال سبحانه: { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ }

(/2808)


لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)


يعني: مَنْ ملك هذا الملْك وحده، وخلق لكم هذه العجائب أنزل لكم آيات بينات تحمل إليكم الأحكام، فكما فعل لكم الجميل، ووفر لكم ما يخدمكم في الكون، سمائه وأرضه، فأدُّوا أنتم ما عليكم نحو منهجه وأحكامه، واتبعوا هذه الآيات البينات.
ومعنى: { مُّبَيِّنَاتٍ } [النور: 46] أي: لاستقامة حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تحتاج لأنْ يتحرك الجميع ويؤدي كُلٌّ مهمته حتى تتساند الحركات ولا تتعاند، فالذي يُتعب الدنيا أن تبنى وغيرك يهدم.
إذن: لا بُدَّ من ضابط قيمي يضبط كل الحركات ويحثّ كل صانع أنْ يتقن صَنْعته ويُخلِص فيها، والإنسان غالباً لا يحسن إلا زاوية واحدة في حياته، هي حرفته وتخصصه، وربما لا يحسنها لنفسه؛ لأنه لا يتقاضى عليها أجراً، لذلك يقولون (باب النجار مخلع) أما إنْ عمل للآخرين فإنه يُحسِن عمله ويتقن صنعته، وكذلك يتقن الناس لك ما في أيديهم، فتستقيم الأمور، فأحْسن ما في يدك للناس، يحسنْ لك الناسُ ما في أيديهم.
وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النور: 46].
ولقائل أنْ يسأل: وما ذنب مَنْ لم يدخل في هذه المشيئة فلم يُهْتد؟ وسبق أن قلنا: إن الهداية نوعان: هداية الدلالة وهداية المعونة على الدلالة.
فالله تعالى يهدي الجميع هداية الدلالة، ويبين للكل أسباب الخير وسُبل النجاة وطريق الفلاح والأسلوب الأمثل في إدارة حركة الحياة، فمَنْ سمع كلام الله ووثق في توجيهه وأطاع في هداية الدلالة أعانه بهداية المعونة.
فساعة تسمع:{ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[المائدة: 108].
{ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[البقرة: 258].
فاعلم أنهم امتنعوا عن هداية الدلالة فامتنعت عنهم هداية المعونة، لا هداية الدلالة والإرشاد والبيان.
وقلنا: إن كلمة { أَنزَلْنَآ } [النور: 46] تشعر باحترام الشيء المنزّل؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من العُلُو إلى الأدنى، فكأن ربك ـ عز وجل ـ حين يكلفك يقول لك: أريد أن أرتفع بك من مستوى الأرض إلى عُلو السماء؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }[الأنعام: 151].
أي: لا تضعوا لأنفسكم القوانين، ولا تسيروا خلف آرائكم وأفكاركم، إنما تعالوا إلى الله وخذوا منه سبحانه منهج حياتكم، فهو الذي خلقكم، وخلق لكم هذه الحياة.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ }

(/2809)


وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)


وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً }[النساء: 61].
وهؤلاء هم المنافقون، وخَيْبة المنافق أنه متضارب الملكات النفسية؛ ذلك لأن للإنسان مَلَكات متعددة تتساند حال الاستقامة، وتتعاند حال المعصية، فالإنسان تراه طبيعياً حين ينظر إلى ابنته أو زوجته، لأن مَلَكاته منسجمة مع هذا الفعل، أما حين ينظر إلى محارم الغير فتراه يختلس النظرة، يخاف أنْ يراه أحد يتلصّص ويحتاط؛ لأن مَلَكاته مضطربة غير منسجمة مع هذا الفعل.
لذلك يقولون: الاستقامة استسامة، فملكات النفس بطبيعتها متساندة لا تتعارض أبداً، لكن المنافق فضلاً عن كذبه، فهو متضارب الملَكات في نفسه؛ لأن القلب كافر واللسان مؤمن.
لذلك فكرامة الإنسان تكون بينه وبين نفسه قبل أن تكون بينه وبين الناس، فقد يصنع الإنسان أمام الناس صنائع خير تُعجب الآخرين، لكنه يعلم من نفسه الشر، فهو وإن كسب ثقة المجتمع من حوله، إلا أنه خسر رَأْي نفسه في نفسه، وإذا خسر الإنسان نفسه فلن يُعوِّضه عنها شيء حتى إنْ كسب العالم كله؛ لأن المجتمع لا يكون معك طول الوقت، أمّا نفسك فملازمة لك كل الوقت لا تنفك عنها، فأنا كبير أمام الناس ما دُمْت معهم، أمّا حين أختلي بنفسي أجدها حقيرة: فعلتْ كذا، وفعلت كذا.
إذن: أنت حكمتَ أنّ رأى الناس أنفَسُ من رأيك، ولو كان لرأيك عندك قيمة لحاولت أن يكون رأيك في نفسك صحيحاً، لكن أنت تريد أن يكون رأي الناس فيك صحيحاً، وإنْ كان رأيك عند نفسك غير ذلك.
ويقول تعالى في هؤلاء:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً }[النساء: 60].
فقد حكم عليهم أنهم يزعمون، والزعم مطيّة الكذب، والدليل على أنهم يزعمون أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ولو كانوا مؤمنين بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلك ما تحاكموا إلى الطاغوت، وهكذا فضحوا هم أنفسهم، فالثانية فضحتْ الأولى.
لذلك قالوا: إن الكافر أحسن منهم؛ لأنه منسجم الملَكات: قلبه موافق للسانه، قلبه كافر ولسانه كذلك، ومن هنا كان المنافقون في الدَّرْك الأسفل من النار.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يعطينا صورة ونموذجاً يحذرنا ألاَّ نحكم على القول وحده، فيقول تعالى عن المنافقين:{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1].
وهذه المقولة{ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ }[المنافقون: 1] مقولة صادقة، لكن القرآن يُكذِّبهم في أنهم شَهدوا بها.
وقد نزلتْ هذه الآية في أحد المنافقين أظن أنه بشر، وكانت له خصومة مع يهودي، فطلب اليهودي أن يتحاكما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب المنافق أنْ يتحاكما عند كعب بن الأشرف، لكن رَدَّ اليهودي حكومة كعب لما يعلمه من تزييفه وعدم أمانته ـ والإنسان وإن كان في نفسه مُزِّيفاً إلا أنه يحب أنْ يحتكم في أمره إلى الأمين العادل ـ وفعلاً تغلّب اليهودي وذهبا إلى رسول الله فحكم لليهودي.

وفي هذا دلالة على أن اليهودي كان ذكياً فَطِناً، يعرف الحق ويعرف مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن المنافق لم يَرْضَ حكم رسول الله، وانتهى بهما الأمر إلى عمر رضي الله عنه وقَصَّا عليه ما كان، ولما علم أن المنافق رَدَّ حكم رسول الله قام عمر وجاء بالسيف يُشْهِره في وجه المنافق وهو يقول: مَنْ لم يَرْضَ بقضاء رسول الله فذلك قضائي فيه.
إذن: فهؤلاء يقولون: } آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا { [النور: 47] كلام جميل وأكثر الله من خيركم، لكن هذا قول فقط لا يسانده تطبيق عملي، والإيمان يقتضي أن تجيء الأعمال على وَفْق منطوق الإيمان.
فهذا منهم مجرد كلام، أما التطبيق: } ثُمَّ يَتَوَلَّىا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ { [النور: 47] والتولِّي: الانصراف عن شيء كان موجوداً إلى شيء مناقض } وَمَآ أُوْلَـائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ { [النور: 47] فما داموا قد تولوا فهم لم يطيعوا ولم يؤمنوا.

(/2810)


وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)


المراد ما كان من أمر بشر واليهودي، وقد أعرضا عن حكم الله ورسوله، وإنْ كان إعراض المنافق واضحاً فالآية لا تريد تبرئة ساحة اليهودي، لأنه ما رضي بحكم الله إلا لأنه واثق أن الحق له وواثق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بالحق، حتى وإنْ كان ليهودي، وإذن: ما أذعن لحكم الله ورسوله محبةً فيه أو إيماناً به، إنما لمصلحته الشخصية، لذلك يقول تعالى بعدها: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ }

(/2811)


أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)


والمرض: خروج الشيء عن استقامة سلامته، فكل عضو من أعضائك له سلامة: العين لها سلامة، والأذن لها سلامة.. الخ والعجيب أن تعيش بالجارحة لا تدري بها طالما هي سليمة صحيحة، فإذا أصابها مرض تنبهتَ إليها، وأحسست بنعمة الله عليك فيها حال سلامتها.
{ أَمِ ارْتَابُواْ } [النور: 50] يعني: شكُّوا في رسول الله { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } [النور: 50] يعني: يجور ويظلم { بَلْ أُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [النور: 50] أي: لأنفسهم أولاً، وذلك منتهى الحُمْق أن يظلم الإنسان نفسه، لو ظلم غيره لَقُلْنا: خير يجلبه لنفسه، لكن ما الخير في ظلم الإنسان لنفسه؟ ومَنْ ظلم نفسه لا تَلُمْه إن ظلَم الآخرين.
والحق ـ تباك وتعالى ـ حينما يعاقب الظالم، فذلك لمصلحته حتى لا يتمادى في ظُلْمه، ويجرُّ على نفسه جزاء شر بعد أن كان الحق سبحانه يُمنّيه بجزاء خير.
ثم يأتي السياق بالمقابل: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ }

(/2812)


إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)


فما دُمْت قد آمنتَ، والإيمان لا يكون إلا عن رغبة واختيار لا يجبرك أحد عليه، فعليك أن تحترم اختيار نفسك بأنْ تطيعَ هذا الاختيار، وإلا سفَّهتَ رأيك واختيارك، لذلك كان حال المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.
ولو تأملتَ الكون من حولك لوجدتَهُ يسير على هذه القاعدة، فما دون الإنسان في كَوْن الله مُسيَّر لا مُخيَّر، وإنْ كان الأصل أنه خُيِّر أولاً، فاختار أن يكون مُسيّراً من البداية، وأراح نفسه، كما قال سبحانه:
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }[الأحزاب: 72].
وتصدير الآية الكريمة بـ (إنما) يدل على أنها سبقها مقابل، هذا المقابل على النقيض لما يجيء بعدها، فالمنافقون أعرضوا وردُّوا حكم الله ورسوله، والمؤمنون قالوا سمعنا وأطعنا، كما تقول: فلان كسول إنما أخوه مُجِدٌّ. فقول المنافقين أنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله، أمّا المؤمنون فيقبلون حكْم الله ورسوله.
ومعنى { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [النور: 51] يعني: سمعنا سمعاً واعياً يليه إجابة وطاعة، لا مجرد أنْ يصل الصوت إلى أذن السامع دون أن يُؤثر فيه شيء.
ويقول تعالى في موضع آخر:{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ }[المائدة: 83].
فالسمع له وظيفة، وهو هنا بمعنى: أجَبْنا يا رب، وصممنا على الإجابة، وهذا وعد كلامي يتبعه تنفيذ وطاعة. مثل قولنا في الصلاة: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله مَنْ حمده.
{ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [النور: 51] المفلحون: الفائزون الذين بلغوا درجة الفلاح، ومن العجيب أن يستخدم الحق سبحانه كلمة الفلاح، وهي من فلاحة الأرض؛ لأن الفلاحة في الأرض هي أصل الاقتيات، وكل مَنْ أتقن فلاحة أرضه جاءت عليه بالثمرة الطيبة، وزاد خيره، وتضاعف محصوله، حتى إن حبة القمح تعطي سبعمائة حبة، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تعطي من يزرعها كل هذا العطاء، فما بالك بخالق الأرض كيف يكون عطاؤه؟
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }

(/2813)


وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)


كان سيدنا الشيخ موسى شريف ـ رحمه الله ورضي الله عنه ـ يدرس لنا التفسير، فلما جاءت هذه الآية قال: اسمعوا، هذه برقية من الله تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون } [النور: 52] فلم تَدَع هذه الآية حُكْماً من أحكام الإسلام إلا جاءتْ به في هذه البرقية الموجزة التي جمعتْ المنهج كله.
ومعنى { يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [النور: 52] آمن بالله وأطاعه وصدَّق رسوله { وَيَخْشَ اللَّهَ } [النور: 52] أي: يخافه لما سبق من الذنوب { وَيَتَّقْهِ } [النور: 52] في الباقي من عمره { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون } [النور: 52] وهكذا جمعتْ الآيةُ المعانيَ الكثيرة في اللفظ القليل الموجز.
ومعلوم أن التعبير الموجز أصعب من الإطناب والتطويل، وسبق أنْ ذكرنا قصة الخطيب الإنجليزي المشهور حين قالوا له: إذا طُلِب منك إعداد خطاب تلقيه في ربع ساعة في كم تُعِدّه؟ قال: في أسبوع، قالوا: فإنْ كان في نصف ساعة؟ قال: أُعِدُّه في ثلاثة أيام، قالوا: فإذا كان في ساعة؟ قال: أُعِدّه في يومين، قالوا: فإنْ كان في ثلاث ساعات؟ قال: أُعِده الاّن.
وقالوا: إن سعد باشا زغلول رحمه الله أرسل من فرنسا خطاباً لصديق في أربع صفحات قال فيه: أما بعد، فإني أعتذر إليك عن الإطناب (الإطالة)؛ لأنه لا وقت عندي للإيجاز.
وبعد أنْ تحدّث القرآن عن قَوْل المنافقين وعن ما يقابله من قول المؤمنين وما ترتب عليه من حكم { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون } [النور: 52] ذلك لأن ذِكْر المقابل يُظهِر المقابل، كما قالوا: والضد يظهر حُسْنَه الضِّدُّ. بعدها عاد إلى الحديث عن النفاق والمنافقين، فقال سبحانه: { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }

(/2814)


وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)


القَسَم: هو اليمين والحَلِف، والإنسان يُقسم ليؤكد المقسَم عليه يريد أن يطمئن المخاطب على أن المقسَم عليه حَقٌّ، وهؤلاء لم يقسموا بالله سِراً في أنفسهم، إنما { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } [النور: 53] يعني: بَالَغوا وأتَوْا بمنتهى الجهد في القسم، فلم يقل أحدهم: وحياة أمي أو أبي، إنما أقسموا بالله، وليس هناك قَسَم أبلغ من هذا القسم، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت ".
فلما أقسموا بالله للرسول أنْ يخرجوا من بيوتهم وأولادهم وأموالهم إلى الجهاد مع رسول الله فضح الله سرائرهم، وكشف سترهم، وأبان عن زيف نواياهم، كما قال في آية أخرى:{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ }[النساء: 81].
وتأمل دقَّة الأداء القرآني في:{ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ }[النساء: 81] وهذا احتياط؛ لأن منهم أُنَاساً يراود الإيمان قلوبهم ويفكرون في أنْ يُخلِصوا إيمانهم ونواياهم لله تعالى، ويعودوا إلى الإسلام الصحيح.
والقرآن يفضح أمر هؤلاء الذي يُقسِمون عن غير صِدْق في القَسَم، كمن تعوَّد كثرة الحَلِف والحِنْث فيه؛ لذلك ينهاهم عن هذا الحَلِف: { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } [النور: 53] ولا يمكن أن ينهي المتكلمُ المخاطبَ عن القسم خصوصاً إذا أقسم على خير، لكن هؤلاء حانثون في قَسَمهم، فهو كعدمه، فهم يُقسِمون باللسان، ويخالفون بالوجدان.
وقوله تعالى: { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } [النور: 53]. يُشعِر بتوبيخهم، كأنه يقول لهم: طاعتكم معروفة لدينا ولها سوابق واضحة، فهي طاعة باللسان فحسب، ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [النور: 53] والذي يؤكد هذه الخبرة أنه يفضح قلوبهم ويفضح نواياهم.
والعجيب أنهم لا يعتبرون بالأحداث السابقة، ولا يتعظون بها، وقد سبق لهم أنه كان يجلس أحدهم يُحدِّث نفسه الحديث فيفضح الله ما في نفسه ويخبر به رسول الله، فيبلغهم بما يدور في نفوسهم، كما جاء في قول الله تعالى:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ }[المجادلة: 8].
ومع ذلك لم يعتبروا ولم يعترفوا لرسول الله بأنه مُؤيَّد من الله، وأنه تعالى لن يتخلى عن رسوله، ولن يدعه لهم يخادعونه ويغشُّونه، وهذه سوابق تكررتْ منهم مرات عِدّة، ومع ذلك لم ينتهوا عما هم فيه من النفاق، ولم يُخلِصوا الإيمان لله.
وبعد هذا كله يوصي الحق تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُبقِي عليهم، وألاَّ يرمي (طوبتهم) لعل وعسى، فيقول عز وجل: { قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }

(/2815)


قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)


وكأنه تعالى لا يريد أنْ يُغلق الباب دونهم، فيعطيهم الفرصة: جَدِّدوا طاعة لله، وجَدِّدوا طاعة لرسوله، واستدركوا الأمر؛ ذلك لأنهم عباده وخَلْقه.
وكما ورد في الحديث الشريف: " لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة ".
ونلحظ في هذه الآية تكرار الأمر أطيعوا { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [النور: 54] وفي آيات أخرى يأتي الأمر مرة واحدة، كما في الآية السابقة:{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }[النور: 52]، وفي{ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }[الأنفال: 20] وفي{ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء: 80] أي: أن طاعتهما واحدة.
قالوا: لأن القرآن ليس كتابَ أحكام فحسب كالكتب السابقة، إنما هو كتاب إعجاز، والأصل فيه أنه مُعْجز، ومع ذلك أدخل فيه بعض الأصول والأحكام، وترك البعض الآخر لبيان الرسول وتوضيحه في الحديث الشريف، وجعل له صلى الله عليه وسلم حقاً في التشريع بنصِّ القرآن:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
والقرآن حين يُورد الأحكام يوردها إجمالاً ثم يُفصِّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصلاة مثلاً أمر بها الحق ـ تبارك وتعالى ـ وفرضها، لكن تفصيلها جاء في السنة النوبية المطهرة، فإنْ أردتَ التفصيل فانظر في السنة.
كالذي يقول: إذا غاب الموظف عن عمله خمسة عشر يوماً يُفصَل، مع أن الدستور لم ينص على هذا، نقول: لكن في الدستور مادة خاصة بالموظفين تنظم مثل هذه الأمور، وتضع لهم اللوائح المنظِّمة للعمل.
وذكرنا أن الشيخ محمد عبده سأله بعض المستشرقين: تقولون في القرآن:{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }[الأنعام: 38] فهات لي من القرآن: كم رغيفاً في إردب القمح؟ فما كان من الشيخ إلا أن أرسل لأحد الخبازين وسأله هذا السؤال فأجابه: في الإردب كذا رغيف. فاعترض السائل: أريد من القرآن.
فردَّ الشيخ: هذا من القرآن؛ لأنه يقول:{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43].
فالأمر الذي يصدر فيه حكم من الله وحكم من رسول الله، كالصلاة مثلاً:{ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }[النساء: 103].
وفي الحديث: " الصلاة عماد الدين ".
ففي مثل هذه المسألة نقول: أطيعوا الله والرسول؛ لأنهما متواردان على أمر واحد، فجاء الأمر بالطاعة واحداً.
أما في مسائل عدد الركعات وما يُقَال في كل ركعة وكوْنها سِراً أو جهراً، كلها مسائل بيَّنها رسول الله. إذن: فهناك طاعة لله في إجمال التشريع أن الصلاة مفروضة، وهناك طاعة خاصة بالرسول في تفصيل هذا التشريع، لذلك يأتي الأمر مرتين { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } [النور: 54].
كما نلحظ في القرآن:{ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ }[النور: 56] هكذا فحسب.
قالوا: هذه في المسائل التي لم يَرِدْ فيها تشريع ونَصٌّ، فالرسول في هذه الحالة هو المشرِّع، وهذه من مميزات النبي صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل، فقد جاءوا جميعاً لاستقبال التشريع وتبليغه للناس، وكان صلى الله عليه وسلم هو الوحيد الذي فُوِّض من الله في التشريع.

ثم يقول تعالى: } فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ { [النور: 54] لأنه تعالى أعلم بحِرْص النبي على هداية القوم، وكيف أنه يجهد نفسه في دعوتهم، كما خاطبه في موضع آخر:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3] وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لنبيه: قُلْ لهم وادْعُهم مرة ثانية لتريح نفسك } قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ { [النور: 54] وإنْ كنت غير مكلَّف بالتكرار، فما عليك إلا البلاغ مرة واحدة.
ومعنى: } فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ { [النور: 54] أي: من الله تعالى، فالرسول حُمِّل الدعوة والبلاغ، وأنتم حُمِّلْتم الطاعة والأداء، فعليكم أن تُؤدُّوا ما كلَّفكم الله به.
} وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ { [النور: 54] نلحظ أن المفعول في } وَإِن تُطِيعُوهُ { [النور: 54] مفرد، فلم يقل: تطيعوهما، لتناسب صدر الآية } أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ { [النور: 54] ذلك لأن الطاعة هنا غير منقسمة، بل هي طاعة واحدة.
وقوله: } وَمَا عَلَى الرَّسُولِ { [النور: 54] تكليفاً من الله } إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ { [النور: 54] المحيط بكل تفصيلات المنهج التشريعي لتنظيم حركة الحياة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ {

(/2816)


وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)


في أول الحديث عن سورة النور قلنا: إنها سُمِّيَتْ بالنور؛ لأنها تبين للناس النور الحسيّ في الكون، وتقيس عليه النور المعنوي في القيم، وما دُمْنا نطفىء أنوارنا الحسية حين يظهر نور الله في الشمس، يجب كذلك أن نطفىء أنوارنا المعنوية حين يأتينا شرع من الله.
فليس لأحد رَأْيٌ مع شرع الله؛ ذلك لأن الخالق ـ عز وجل ـ يريد لخليفته في الأرض أن يكون في نور حِسِّيٍّ ومعنوي، ثم ضمن له مقومات بقاء حياته بالطعام والشراب شريطةَ أنْ يكون من حلال حتى تبنى خلاياه وتتكون من الحلال فيَسلم له جهاز الاستقبال عن الله وجهاز الإرسال إنْ أراد الدعاء.
وفي الحديث الشريف: " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: { ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] وقال: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك؟ ".
فهذه أجهزة مُعطَّلة خَرِبة أشبه ما تكون بالراديو الذي لا يحسن استقبال ما تذيعه محطات الإذاعة، فالإرسال قائم يستقبله غيره، أما هو فجهاز استقباله غير سليم.
فإذا ضمنتَ سلامة تكوينك بلقمة الحلال ضمن الله لك إجابة الدعاء، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: " أطِبْ مَطْعمك تكُنْ مُسْتجاب الدعوة ".
ثم ضمن الله للإنسان مُقوِّمات بقاء نوعه بالزواج لاستمرار الذرية لتستمر الخلافة في الأرض طاهرة نظيفة، ثم تحدثتْ السورة مُحذِّرة إياكم أنْ تجترئوا على أعراض الناس، أو ترْمُوا المحصنات، أو تدخلوا البيوت دون استئذان، حتى لاتطّلعوا على عورات الناس..إلخ.
فالحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد سلامة المجتمع وسلامة الخلافة في الأرض، وكل هذه الأحكام والمعاني تصبُّ في هذه الآية:
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ } [النور: 55]. فمَنْ فعل ذلك كان أَهْلاً للخلافة عن الله، إنها معركة ابتلاءات وتمحيص تُبيِّن الغَثَّ من السَّمين، أَلاَ ترى المسلمين الأوائل كيف كانوا يُعذَّبون ويُضطهدون، ولا يجرؤ أحد على حمايتهم حتى اضطروا للهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وقد قال تعالى:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2].
وهؤلاء الصحابة هم الذي حملوا للدنيا مشاعلَ الهداية، وساحوا بدعوة الله في أنحاء الأرض، فلا بُدَّ أن يُربوا هذه التربية القاسية، وأن يُمتحنوا كل هذا الامتحان، وهم يعلمون جيداً ثمن هذه التضحية وينتظرون ثوابها من الله، فأهل الحق يدفعون الثمن أولاً، أما أهل المبادىء الباطلة فيقبضون الثمن أولاً قبل أنْ يتحركوا في اتجاه مبادئهم.

وهذا الابتلاء الذي عاشه المسلمون الأوائل هو من تنقية الخليفة ليكون أَهْلاً لها.
لذلك قال سبحانه: } وَعَدَ اللَّهُ { [النور: 55] والوَعْد: بشارة بخير لم يَأْتِ زمنُه بعد، حتى يستعد الناس بالوسيلة له، وضِدّه الوعيد أو الإنذار بشرٍّ لم يأتِ زمنه بعد، لتكون هناك فرصة للاحتياط وتلافي الوقوع في أسبابه.
وما دام الوعد من الله تعالى فهو صِدْق، كما قال سبحانه:{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً }[النساء: 122] وقال سبحانه:{ وَمَنْ أَوْفَىا بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ }[التوبة: 111].
والذي يفسد على الناس وعودهم، ويجرُّ عليهم عدم الوفاء أن الإنسان مُتغِّير بطَبْعه مُتقلِّب، فقد يَعِد إنساناً بخير ثم يتغير قلبه عليه فلا يفي له بما وعد، وقد يأتي زمن الوفاء فلا يقدر عليه، أمّا الحق ـ تبارك وتعالى ـ فلا يتغير أبداً، وهو سبحانه قادر على الوفاء بما وعد به، فليست هناك قوة أخرى تمنعه، فهو سبحانه واحد لا إله غيره؛ لذلك فوَعْده تعالى ناجز.
} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ { [النور: 55] قلنا: إن الإيمان الذي يقوم على صفاء الينبوع والعقيدة ليس مطلوباً لذاته، إنما لا بُدَّ أن تكون له ثمرة، وأن يُرى أثره طاعة وتنفيذاً لأوامر الله، فطالما آمنتَ بالله فنفَّذ ما يأمرك به، وهناك من الناس مَنْ يفعل الخير، لكن ليس من منطلق إيماني مثل المنافقين الذين قال الله فيهم:{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا }[الحجرات: 14] فَردَّ الله عليهم:{ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا }[الحجرات: 14] يعني: خضعنا للأوامر، لكن عن غير إيمان، إذن: فقيمة الإيمان أن تُنفِّذ مطلوبه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ }[العصر: 1ـ3].
فبماذا وعد الله الذين آمنوا؟ } لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ { [النور: 55] وهذه ليست جديدة، فقد سبقهم أسلافهم الأوائل } كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ { [النور: 55]، فاستخلاف الذين آمنوا ليس بدْعاً، إنما هو أمر مُشاهد في مواكب الرسل والنبوة ومُشَاهد في المسلمين الأوائل من الصحابة الذين أُذوا وعُذِّبوا واضطهدوا وأُخْرِجوا من ديارهم وأولادهم وأموالهم ولم يُؤمَروا بردِّ العدوان.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة في جَمْع من صحابته استقبله الأنصار بالحفاوة، واحتضنوا هؤلاء المهاجرين، وفعلوا معهم نموذجاًَ من الإيثار ليس له مثيل في تاريخ البشرية، وهل هناك إيثار أعظم من أنْ يعرض الأنصاري زوجاته على المهاجر يقول: اختر إحداهما أُطلِّقها لك، إلى هذه الدرجة فعل الإيمان بنفوس الأنصار.
ولما رأى كفار قريش ما صنعه الأنصار مع المهاجرين توقَّدوا ناراً: كيف يعيش المهاجرون في المدينة هذه العيشة الهنية وتكتلوا جميعاً ضد هذا الدين ليضربوه عن قَوْس واحدة، وتآمروا على القدوة ليقضوا على هذا الدين الوليد الذي يشكل أعظم الخطر عليهم.

حتى إن الأمر قد بلغ بالمهاجرين والأنصار أنهم لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا بالسلاح مخافةَ إنْ ينقضَّ عليهم أعداؤهم، حتى إن أحد الصحابة يقول لإخوانه: أتروْنَ أنَّا نعيش حتى نأمن ونطمئن و لانبيت في السلاح ونصبح فيه، ولا ننخشى إلا الله؟ يعني: أهناك أمل في هذه الغاية؟
وآخر يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون.؟ ألاَ يأتينا يوم نضع فيه السلاح ونبيت آمنين؟
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق من وعد ربه، وليس كلاماً قد يُكذَّب فيما بعد: " لا تصبرون إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتبياً ليست فيه حديدة " يعني: في الملأ الواسع، والاحتباء جلسة المستريح الهانىء، والحديدة كناية عن السلاح.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلْك أمتي ما زُوِيَ لي منها ".
ومعنى " إن الله زوى لي الأرض " معلوم أن للإنسان مجالَ رؤية يلتقي فيه إلى نهاية الأفق، أمّا الأرض ذاتها فواسعة، فُزويَتْ الأرض لرسول الله يعني: جُمعت في زاوية، فصار ينظر إليها كلها.
إذن: فهم في هذه المرحلة يشتهون الأمن وهدوء البال، وقد قال تعالى عنهم في هذه الفترة:{ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىا يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ }[البقرة: 214].
وفي غمرة هذه الشدة وقمة هذا الضيق يُنزل تعالى على رسوله:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45] حتى إن الصحابة ليتعجبون، يقول عمر رضي الله عنه: أيُّ جمع هذا؟ وقد نزلت الآية وهم في مكة في أشد الخوف لا يستطيعون حماية أنفسهم.
لكن بعد بدر وبعد أنْ رأى ما نزل بالكفار قال: صدق الله{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].
ثم ينزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض الآيات التي تُطمئن المؤمنين وتصبرهم:{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ }[الرعد: 41].
فاطمئنوا، فكل يوم ننقص من أرض الكفر، ونزيد من أرض الإيمان، فالمقدِّمات في صالحكم، ثم يأتي فتح مكة ويدخلها النبي صلى الله عليه وسلم في موكب مهيب مُطْأطِئاً رأسه، تواضعاً لمن أدخله، مُظهِراً ذِلة العبودية لله.
حتى إن أبا سفيان لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموكب يقول للعباس: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً، فيقول العباس: إنها النبوة يا أبا سفيان، يعني: المسألة ليست مُلْكاً إنما هو بشائر النصر لدين الله وظهوره على معقل الأصنام والأوثان في مكة.
ثم يذهب إلى خيبر معقل أهل الكتاب من بني قَيْنُقَاع وبني النضير وبني قريظة وينتصر عليهم، ثم تسقط في يده البحرين ومجوس هَجَر، ويدفعون الجزية.

بعد ذلك يرسل صلى الله عليه وسلم كُتبه إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام، فيرسل إلى النجاشي مَلِك الحبشة، وإلى المقوقِس، وإلى هرقل، وإلى كسرى، وتأتيه الهدايا من كُلِّ هؤلاء.
ويستمر المدُّ الإسلامي والوفاء بوعد الله تعالى لخليفة رسول الله، فإنْ كان المد الإسلامي قد شمل الجزيرة العربية على عهد رسول الله، فإنه تعدّاها إلى شتى أنحاء العالم في عهد الخلفاء الراشدين، حتى ساد الإسلامُ العالمَ كله، وأظهره الله على أكبر حضارتين في ذلك الوقت: حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب في وقت واحد، ويتحقق وعد الله للذين آمنوا بأنْ يستخلفهم في الأرض.
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحقق النبؤات التي أخبر بها، ومنها ما كان من أمر سراقة بن مالك الذي خرج خلف رسول الله في رحلة الهجرة يريد طلبه والفوز بجائزة قريش، وبعد أن تاب سُرَاقة وعاد إلى الجادة كان الصحابة يعجبون لدقة ساعديْه ويصفونهما بما يدعو إلى الضحك " فكان صلى الله عليه وسلم يقول عن ساعدي سراقة: كيف بهما في سواري كسرى؟ "
ويفتح المسلمون بعد ذلك مُلْك كسرى، ويكون سِوَارا كسرى من نصيب سُرَاقة، فيلبسهما، ويراهما الناس في يديه.
هذه كلها بشائر ومقدمات لوعد الله يراها المؤمنون في أنفسهم، لا فيمن يأتي بعد } وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ { [النور: 55] يعني المسألة لن تطول.
كذلك " أم حرام بنت ملحان التي خرجت في غزوة ذات الصواري وركبت البحر ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام هناك ثم يصحو وهو يضحك، فقالت له: ما يُضحكك يا رسول الله؟ قال: " أناس من أمتي يركبون زَبَد هذا البحر، ملوك على الأَسِرَّة أو كالملوك على الأَسِرّة " فقال: ادْعُ الله أن أكون منهم، فدعا لها فاستجاب الله دعاءه، وخرجتْ في الغزوة، ولما ركبوا البحر الأبيض أرادت أن تخرج فماتت ".
إذن: فالبشارة في هذه الآية ليست بشارة لفظية، إنما هي بشارة واقعية لها واقع يؤيدها، قد حدث فعلاً.
لكن، ما المراد بالأرض في } لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ { [النور: 55]؟ إذا جاءت الأرض هكذا مُفْردةً غير مضافة لشيء فتعني كل الأرض، كما في قوله تعالى:{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ }[الإسراء: 104] يعني: تقطّعوا في كل أنحائها،{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ }[الإسراء: 104] الذي وعد الله به{ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }[الإسراء: 104] يعني: جمعناكم من الأراضي كلها، وهذا هو الأمل القوي الذي نعيش عليه، وننتظر من الله أنْ يتحقق.
ثم يقول تعالى: } وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىا لَهُمْ { [النور: 55] ففوق الاستخلاف في الأرض يُمكِّن الله لهم الدين، ومعنى تمكين الدين: سيطرته على حركة الحياة، فلا يصدر من أمور الحياة أمر إ لا في ضوئه وعلى هَدْيه، لا يكون ديناً مُعطّلاً كما نُعطِّله نحن اليوم، تمكين الدين يعني توظيفه وقيامه بدوره في حركة الحياة تنظيماً وصيانة.

وقوله سبحانه: } وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً { [النور: 55] وهم الذين قالوا: نبيت في السلاح، ونصبح في السلاح، فيبدلهم الله بعد هذا الخوف آَمْناً، فإذا ما حدث ذلك فعليهم أنْ يحافظوا على الخلافة هذه، وأنْ يقوموا بحقها } يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { [النور: 55].
ومعنى } كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ { [النور: 55] يعني: بعد أن استخلفه الله، ومكّن له الدين وأمَّنه وأزال عنه أسباب الخوف.
وفَرْق بين تمكين الإسلام وتمكين مَنْ يُنسب إلى الإسلام، فالبعض يدَّعي الإسلام، ويركب موجته حتى يحكم ويستتب له الأمر وتنتهي المسألة، لا.. لأن التمكين ليس لك أيها الحاكم، إنما التمكين لدين الله.

(/2817)


وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)


دائماً ما يقرن القرآن بين هذيْن الركنين، وتأتي الزكاة بعد الصلاة؛ ذلك لأن الصلاة هي الركن الوحيد الذي فُرِض من الله مباشرة، أما بقية الأركان فقد فُرِضَتْ بالوحي، وضربنا لذلك مثلاً، ولله تعالى المثَل الأعلى بالرئيس الذي يُكلِّف مرؤوسيه بتأشيرة أو بالتليفون، فإنْ كان الأمر مُهماً استدعى الموظف المختص إلى مكتبه وكلَّفه بهذا الأمر مباشرة لأهميته.
فكذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ أمر بكل التكاليف الشرعية بالوحي، إلا الصلاة فقد فرضها على رسول الله بعد أن استدعاه إلى رحلة المعراج فكلّفه بها مشافهةً دون واسطة، ولما يعلمه الله تعالى من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قال له: " أنا فرضتُ عليك الصلاة بالقرب، وكذلك أجعلها للمصلى في الأرض بالقرب، فإنْ دخل المسجد وجدني ".
وإنْ كانت أركان الإسلام خسمة، فإن الشهادة والصلاة هما الركنان الدائمان اللذان لا ينحلان عن المؤمن بحال من الأحوال، فقد لا تتوفر لك شروط الصوم أو الزكاة أو الحج فلا تجب عليك، كما أن الصلاة هي الفريضة المكررة على مدار اليوم والليلة خمس مرات، وبها يتم إعلان الولاء لله دائماً، وقد وزَّعها الحق سبحانه على الزمن ليظل المؤمن على صلة دائمة بربه كلما شغلتْه الدنيا وجد (الله أكبر) تناديه.
وانظر إلى عظمة الخالق ـ عز وجل ـ حين يطلب من صنعته أن تقابله وتعُرض عليه كل يوم خمس مرات، وهو سبحانه الذي يطلب هذا اللقاء ويفرضه عليك لمصلحتك أنت، ولك أن تتصور صنعة تعُرض على صانعها كل يوم خمس مرات أيصيبها عَطَبَ؟
وربك هو الذي يناديك ويدعوك للقائه ويقول: " لا أملّ حتّى تملَّوا " ومن رحمته بك ومحبته لك تركَ لك حرية اختيار الزمان والمكان، وترك لك حرية إنهاء المقابلة متى تشاء، فإنْ أردتَ أنْ تظلّ في بيته وفي معيته فعلى الرَّحْب والسَّعَة.
ولأهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام اجتمع فيها كل أركان الإسلام، ففي الصلاة تتكرر الشهادة: لا إلا إلا الله محمد رسول الله، وفي الصلاة زكاة؛ لأن الزكاة فرع العمل، والعمل فرع الوقت، والصلاة تأخذ الوقت نفسه، وفيها صيام حيث تمتنع في الصلاة عما تمتنع عنه في الصوم بل وأكثر، وفيها حج لأنك تتجه في صلاتك إلى الكعبة.
إذن: فالصلاة نائبة عن جميع الأركان في الاستبقاء، لذلك كانت هي عمود الدين، والتي لا تسقط عن المؤمن بحال من الأحوال حتى إنْ لم يستطع الصلاة قائماً صلى جالساً أو مضطجعاً، ولو أن يشير بأصبعه أو بطرفه أو حتى يخطرها على باله؛ ذلك لاستدامة الولاء بالعبودية لله المعبود.
والصلاة تحفظ القيم، فتُسوِّي بين الناس، فيقف الغني والفقير والرئيس والمرؤوس في صَفٍّ واحد، الكل يجلس حَسْب قدومه، وهذا يُحدِث استطراقاً عبودياً في المجتمع، ففي الصلاة مجال يستوي فيه الجميع.

وإنْ كانت الصلاة قوامَ القيم، فالزكاة قوام المادة لمنْ ليستْ له قدرة على الكسب والعمل. إذن: لدينا قوانين للحياة، ولاستدامة الخلافة على الأرض قوام القيم في الصلاة، وقوام المادة في الزكاة.
ثم يقول سبحانه: } وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ { [النور: 56] وهنا في الصلاة والزكاة خَصَّ الرسول بالإطاعة؛ لأنه صاحب البيان والتفصيل لما أجمله الحق سبحانه في فرضية الصلاة والزكاة، حيث تفصيل كل منهما في السُّنة المطهرة، فقال: } وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ { [النور: 56].
ثم يقول الحق سبحانه: } لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ {

(/2818)


لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)


يعود السياق للحديث عن الكافرين: { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ } [النور: 57] يعني: لا تظنن، والشيء المعجز هو الذي يثبت العجز للمقابل، نقول: عملنا شيئاً مُعْجزاً لفلان يعني: لا يستطيع الإتيان بمثله.
فإياك أنْ تظن أن الكافرين مهما عَلَتْ مراتبهم ومهما استشرى طغيانهم يُفْلِتون من عقاب الله، فلن يثبتوا له سبحانه العجز عنهم أبداً، ولن يُعجِزوه، إنما يُملي لهم سبحانه ويمهلهم حتى إذا أخذهم، أخذهم أَخذ عزيز مقتدر، وهو سبحانه مُدرِكهم لا محالةَ.
وجاء على لسان الجن:{ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }[الجن: 12].
ونلحظ في قوله تعالى: { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } [النور: 57] أنها عطفتْ هذه الجملة على سابقتها، وهي منفية { لاَ تَحْسَبَنَّ } [النور: 57] فهل يعني هذا أن معناها: ولا تحسبن مأواهم النار؟ قالوا: لا، إنما المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض لأن مأواهم النار.
{ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [النور: 57] أي: المرجع والمآب.
ثم ينتقل السياق إلى سلوك يمسُّ المجتمع من داخله والأسرة في أدقِّ خصوصياتها، بعد أنْ ذكر في أول السورة الأحكام الخاصة بالمجتمع الخارجي، فيقول سبحانه: { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ }

(/2819)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)


تُعلِّمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكوَّنة من الأبويْن والأبناء، ثم الأتباع مثل الخدم وغيرهم، والحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يُنشِّىءَ هذه الأسرة على أفضل ما يكون، ويخصّ بالنداء هنا الذين آمنوا، يعني: يا من آمنتم بي رباً حكيماً مُشرِّعاً لكم حريصاً على مصلحتكم استمعوا إلى هذا الأدب: { لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } [النور: 58].
معلوم أن طلب المتكلم من المخاطب يأتي على صورتين: فعل الأمر وفعل المضارع المقترن بلام الأمر، فقوله تعالى: { لِيَسْتَأْذِنكُمُ } [النور: 58] يعني: عَلِّموا هؤلاء أن يستأذنوا عليكم مثل:{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً }[النور: 33] يعني: استعفوا، لأن اللام هنا لام الأمر، ومثل:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ }[الطلاق: 7].
وهذا الأدب تكليف من الله تعالى يُكلِّف به كل مؤمن داخل الأسرة، وإنْ كان الأمر هنا لغير المأمور، فالمأمور بالاستئذان هم مِلْك اليمين والأطفال الصغار، فأمر الله الكبارَ أن يُعلِّموا الصغار، كما ورد في الحديث الشريف: " مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر ".
فلم يُكلِّف بهذا الصغار إنما كُلِّف الكبار؛ لأن الأطفال لم يبلغوا بَعْد مبلغ التكليف من ربهم، إنما بلغوا مبلغ التكليف عندكم أنتم، لذلك أنت الذي تأمر وأنت الذي تتابع وتعاقب.
وأْمُرْ الصغير بالصلاة أو بالاستئذان لِتُربي فيه الدربة والتعود على أمر قد يشقُّ عليه حال كِبَره، إنما إنْ عوَّدته عليها الآن فإنها تسهل عليهم عند سِنِّ التكليف، وتتحول العادة في حقه إلى عبادة يسير عليها.
وشرع الله لنا آداب الاستئذان؛ لأن الإنسان ظاهراً يراه الناس جميعاً ويكثر ظاهره للخاصة من أهله في أمور لا يُظهرها على الآخرين، إذن: فَرُقْعة الأهل والملاصقين لك أوسع، وهناك ضوابط اجتماعية للمجتمع العام، وضوابط اجتماعية للمجتمع الخاص وهو الأسرة، وحرية المرء في أسرته أوسع من حريته في المجتمع العام، فإنْ كان في حجرته الخاصة كانت حريته أوسعَ من حريته مع الأسرة.
فلا بُدَّ إذن من ضوابط تحمي هذه الخصوصيات، وتُنظِّم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة، كما سبقت ضوابط تُنظِّم علاقات الأفراد خارج الأسرة.
ومعنى: { الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النور: 58] هم العبيد الذين يقومون على خدمة بعض الناس وليس الأجير لأن الأجير يستطيع أن يتركك في أي وقت، أمَّا العبد فليس كذلك؛ لأنه مملوك الرقبة لا حريةَ له، فالمملوكية راجحة في هؤلاء، وللسيد السيطرة والمهابة فلا يستطيع أن يُفْلت منه.
{ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ } [النور: 58] هم الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبْلَغ التكليف، ويقضون المصالح؛ فتراهم في البيت يدخلون ويخرجون دون ضوابط، فهل نتركهم هكذا يطَّلِعون على خصوصياتنا؟
وللخدم في البيت طبيعة تقتضي أن يدخلوا علينا ويخرجوا، وكذلك الصغار، إلا في أوقات ثلاثة لا يُسْمح لهم فيها بالدخول إلا بعد الاستئذان: { مِّن قَبْلِ صَـلَاوةِ الْفَجْرِ } [النور: 58] لأنه وقت متصل بالنوم، والإنسان في النوم يكون حُرَّ الحركة واللباس { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ } [النور: 58] وهو وقت القيلولة، وهي وقت راحة يتخفّف فيها المرء من ملابسه { وَمِن بَعْدِ صَلَاوةِ الْعِشَآءِ } [النور: 58] وبعد العشاء النوم.

هذه أوقات ثلاثة، لا ينبغي لأحد أن يدخل عليك فيها إلا بإذنك.
وانظر إلى هذا التحفّظ الذي يوفره لك ربك ـ عز وجل ـ حتى لا تُقيِّد حريتك في أمورك الشخصية ومسائلك الخاصة، وكأن هذه الأوقات مِلْكٌ لك أيها المؤمن تأخذ فيها راحتك وتتمتع بخصوصياتك، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيأ لمقابلة المستأذن.
أما في بقية الأوقات فالكل يستأذن عليك حتى الزوجة.
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد سيدنا عمر في أمر من الأمور، فأرسل إليه غلاماً من الأنصار، فلما ذهب الغلام دفع الباب ونادى: يا عمر. فلم يرد؛ لأنه كان نائماً، فخرج الغلام وجلس في الخارج ودَقَّ الباب فلم يستيقظ عمر، فماذا يفعل الغلام؟
رفع الغلام يديه إلى السماء وقال: يا رب أيقظه. ثم دفع الباب ودخل عليه، وكان عمر نائماً على وضع لا يصح أن يراه عليه أحد، واستيقظ عمر ولحظ أن الغلام قد رآه على هذا الوضع، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله نريد أن يستأذن علينا أبناؤنا ونساؤنا وموالنا وخدمنا، فقد حدث من الغلام كيت وكيت، فنزلت هذه الآية.
ويُسمِّي الله تعالى هذه الأوقات الثلاثة عورة: } ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ { [النور: 58] والعورة: هي ما يحب الإنسان ألاّ يراها أحد، أو يراه عليها؛ لأنها نوع من الخلل والخصوصية، والله لا يريد أنْ يراك أحد على شيء تكرهه.
لذلك يقولون لمن به خَلَل في عينه مثلاً: أعور: والعرب تقول للكلمة القبيحة: عوراء، كما قال الشاعر:وعَوْراء جاءتْ من أخٍ فردَدْتُها بِسالمةِ العَيْنيْنِ طَالِبةً عُذْراًيعني: كلمة قبيحة لم أردّ عليها بمثلها، إنما بسالمة لا عين واحدة، بل بسالمة العينين الاثنين.
ثم يقول سبحانه: } لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ { [النور: 58] يعني: بعد هذه الأوقات: لا إثمَ ولا حرجَ عليكم، ولا على المماليك، أو الصغار أنْ يدخلوا عليكم، ففي غير هذه الأوقات يجلس المرء مُسْتعداً لممارسة حياته العادية، ولا مانع لديه من استقبال الخَدَم أو الأَطفال الصغار دون استئذان؛ لأن طبيعة المعيشة في البيوت لا تستغني عن دخول هؤلاء وخروجهم باستمرار.
لذلك قال تعالى بعدها: } طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىا بَعْضٍ { [النور: 58] يعني: حركتهم في البيت دائمة، دخولاً وخروجاً، فكيف نُقيِّدها في غير هذه الأوقات؟
} كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَـاتِ { [النور: 58] أي: بياناً واضحاً، حتى لا يحدث في المجتمع تناقضات فيما بعد } وَاللَّهُ عَلِيمٌ { [النور: 58] بكل ما يُصلح الخلافة في الأرض } حَكِيمٌ { [النور: 58] في تشريعاته وأوامره، لا يضع الحكم إلا بحكمة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ {

(/2820)


وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)


الطفل حين كان طفلاً لم يبلغ الحُلُم كان يدخل دون استئذان في غير هذه الأوقات، فإنْ بلغ الحُلُم فعليه أنْ يستأذن، لا نقول: إنه تعوَّد الاستئذان في هذه الأوقات فقط، لا، إنما عليه أنْ يستأذن في جميع الأوقات فقد شَبَّ وكَبِر، وانتهتْ بالنسبة له هذه الحالة.
وبلوغ الحلم أن ينضج الإنسان نُضْجاً يجعله صالحاً لإنجاب مثله، فهذه علامة اكتمال تكوينه، وهذا لا يتأتّى إلا باستكمال الغريزة الجنسية التي هي سَبَب النَّسْل والإنجاب، ومثّلْنا ذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نُضْجها، فإنْ تركتَها بعد النضج سقطتْ من نفسها، وهذه آية من آيات الله لبقاء النوع، فلو أكلنا الثمرة قبل نُضْجها لا تنبت بذرتها وينقرض نوعها، فمن حكمة الله في الخَلْق ألاَّ تحلو الثمرة إلا بعد النُّضْج.
كذلك الولد حين يبلغ يصبح صالحاً للإنجاب، ونقول له، انتهتْ الرخصة التي منحها لك الشرع، وعليك أن تستأذن في جميع الأوقات.
لذلك يقول تعالى في موضع آخر:{ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىا عَوْرَاتِ النِّسَآءِ }[النور: 31].
وجاء بالطفل بصيغة المفرد؛ لأن الأطفال في هذه السِّنِّ لم تتكوّن لديهم الغريزة، وليست لهم هذه الميول أو المآرب، فكأنهم واحد، أمّا بعد البلوغ وتكوُّن الميول الغريزية قال: { الأَطْفَالُ } [النور: 59] لأن لكل منهم بعد البلوغ ميوله وشخصيته وشطحاته.
وقوله: { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النور: 59] أي: من الكبار الذين يستأذنون في كل الأوقات { كَذالِكَ } [النور: 59] أي: مثل ما بينَّا في الاستئذان الأول { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } [النور: 59] لأنه سبحانه { عَلِيمٌ } [النور: 59] بما يُصلِحكم { حَكِيمٌ } [النور: 59] لا يُشرِّع لكم إلا بحكمة.
ثم يقول سبحانه: { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً }

(/2821)


وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)


نعلم أن الشارع الحكيم وضع للمرأة المسلمة قواعد تسير عليها في زِيِّها وسلوكها ومِشْيتها، حمايةً لها وصيانةً للمجتمع من الفتنة، وحتى لا يطمع فيها أصحاب النفوس المريضة، فجعل لها حجاباً يسترها يُخفي زينتها لا يكون شفافاً ولا واصفاً، وقال:{ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ }[الأحزاب: 59].
لكن القواعد من النساء والكبيرات منهن لَهُنَّ حكم آخر.
والقواعد: جمع قاعد لا قاعدة، قاعدة تدل على الجلوس، أمّا القاعد ذكراً أو أنثى فهو الذي قعد عن دورة الحياة، ولم يَعُدْ له مهمة الإنجاب، ومثل هؤلاء لم يَعُدْ فيهنَّ إِرْبة ولا مطمع؛ لذلك لا مانعَ أن يتخفَّفْنَ بعض الشيء من اللباس الذي فُرِض عليهن حال وجود الفتنة، ولها أن تضع (طرحتها) مثلاً.
لكن هذه مسألة مقولة بالتشكيك: نسبية يعني: فمِن النساء مَنْ ينقطع حَيْضها ويدركها الكِبَر، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة؛ لذلك ربنا ـ تبارك وتعالى ـ وضع لنا الحكم الاحتياطي { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [النور: 60] ثم يدلُّهُن على ما هو خير من ذلك { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } [النور: 60].
والمقصود بوَضْع الثياب: التخفّف بعض الشيء من الثياب الخارجية شريطة { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [النور: 60] فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أَخْذاً بهذه الرخصة، ثم تضع الزينة وتتبرج. ونخشى أن نُعلِّم النساء هذا الحكم فلا يأخذْنَ به حتى لا نقول عنهن: إنهن قواعد!!
وتعجب حين ترى المرأة عندما تبلغ هذه السِّنَّ فتجدها وَرِعة في ملبسها، وَرِعة في مظهرها، وَرِعة في سلوكها، فتزداد جمالاً وتزداد بهاءً وآسرية، على خلاف التي لا تحترم سِنّها فتضع على وجهها المساحيق والألوان فتبدو مَسْخاً مُشوَّهاً.
ومعنى { يَسْتَعْفِفْنَ } [النور: 60] أي: يحتفظْنَ بملابسهن لا يضعْنَ منها شيئاً، فهذا أَدْعى للعفة.

(/2822)


لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)


قوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىا حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور: 61] الحرج: هو الضيق، كما جاء في قوله سبحانه:{ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ }[الأنعام: 125],
أو الحرج بمعنى: الإثم، فالحرج المرفوع عن هؤلاء هو الضِّيق أو الإثم الذي يتعلق بالحكم الآتي في مسألة الأكل، بدليل أنه يقول { وَلاَ عَلَىا أَنفُسِكُمْ } [النور: 61].
والأعمى يتحرَّج أنْ يأكل مع الناس؛ لأنه لا يرى طعامه، وربما امتدتْ يده إلى أطيب الطعام فيأكله ويترك أدناه، والأعرج يحتاج إلى راحة خاصة في جلْسته، وربما ضايق بذلك الآخرين، والمريض قد يتأفف منه الناس. فرفَع الله تعالى عن عباده هذا الحرج، وقال: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } [النور: 61].
فيصح أن تأكلوا معاً؛ لأن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد أنْ يجعل التكامل في الذوات لا في الأعراض، وأيضاً أنك إنْ رأيتَ شاباً مَؤوفاً يعني به آفة، ثم تعامله معاملة خاصة فربما جرحْتَ شعوره، حتى إنْ كان ما به أمراً خَلْقياً من الله لا يتأباه، والبعض يتأبى أن يخلقه الله على هيئة لا يرضاها.
لذلك كانوا في الريف نسمعهم يقولون: اللي يعطي العمى حقه فهو مبصر، لماذا؟ لأنه رضي بهذا الابتلاء. وتعامل مع الناس على أنه كذلك، فطلب منهم المساعدة؛ لذلك ترى الناس جميعاً يتسابقون إلى مساعدته والأخذ بيده، فإنْ كان قد فقد عيناً فقد عوَّضه الله بها ألف عَيْن، أما الذي يتأبّى ويرفض الاعتراف بعجزه ويرتدي نظارة سوداء ليخفي بها عاهته فإنه يسير مُتعسِّراً يتخبّط لا يساعده أحد.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد لأصحاب هذه الآفات أن يتوافقوا مع المجتمع، لا يأخذون منه موقفاً، ولا يأخذ المجتمع منهم موقفاً؛ لذلك يعطف على { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىا حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور: 61] ثم يقول سبحانه { وَلاَ عَلَىا أَنفُسِكُمْ } [النور: 61] يعني: هم مثلكم تماماً، فلا حرجَ بينكم في شيء.
{ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [النور: 61] إلخ.
وكان في الأنصار قزازة، إذا جلس في بيت لا يأكل منه إلا إذا أَذِنَ له صاحب البيت، وقد يسافر الرجل منهم ويترك التابع عنده في البيت دون أنْ يأذنَ له في الأكل من طعام بيته ويعود، فيجد الطعام كما هو، أو يجده قد فسد دون أنْ يأكل منه التابع شيئاً، فأراد الحق سبحانه أنْ يرفع هذا الحرج عن الناس، فقال:
{ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىا حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىا أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [النور: 61] إلى آخر هذه المعطوفات.

ولقائل أنْ يقول: وأيّ حرج في أنْ يأكل المرء في بيته؟ وهل كان يخطر على البال أنْ تجد حَرَجاً، وأنت تأكل من بيتك؟
قالوا: لو حاولتَ استقصاء هؤلاء الأقارب المذكورين في الآية لتبيّن لك الجواب، فقد ذكرتْ الآية آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم، ولم تذكر شيئاً عن الأبناء وهم في مقدمة هذا الترتيب، لماذا؟
قالوا: لأن بيوت الأبناء هي بيوت الآباء، وحين تأكل من بيت ولدك كأنك تأكل من بيتك، على اعتبار أن الولد وما ملكتْ يداه مِلْك لأبيه، إذن: لك أن تضع مكان } بُيُوتِكُمْ { [النور: 61] بيوت أبنائكم. ذلك لأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يُرِدْ أنْ يجعل للأبناء بيوتاً مع الآباء، لأنهما شيء واحد.
إذن: لا حرجَ عليك أن تأكل من بيت ابنك أو أبيك أو أمك أو أخيك أو أختك أو عمك أو عمتِك، أو خالك أو خالتك } أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ { [النور: 61] يعني: يعطيك صاحب البيت مفتاح بيته، وفي هذا إذْنٌ لك بالتصرُّف والأكل من طعامه إنْ أردتَ.
} أَوْ صَدِيقِكُمْ { [النور: 61]ٍ وتلحظ في هذه أنها الوحيدة التي وردتْ بصيغة المفرد في هذه الآية، فقبلها: بيوتكم، آباءكم، أمهاتكم.. إلخ إلا في الصديق فقال } أَوْ صَدِيقِكُمْ { [النور: 61] ولم يقل: أصدقائكم.
ذلك لأن كلمة صديق مثل كلمة عدو تستعمل للجميع بصغية المفرد، كما في قوله تعالى:{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي }[الشعراء: 77].
لأنهم حتى إنْ كانوا جماعة لا بُدَّ أنْ يكونوا على قلب رجل واحد، وإلا ما كانوا أصدقاء، وكذلك في حالة العداوة نقول عدو، وهم جمع؛ لأن الأعداء تجمعهم الكراهية، فكأنهم واحد.
ثم يقول سبحانه: } لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً { [النور: 61] } جَمِيعاً { [النور: 61] سوياً بعضكم مع بعض، } أَوْ أَشْتَاتاً { [النور: 61] متفرقين، كُلٌّ وحده.
وقوله تعالى: } فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً { [النور: 61] علىأنفسكم، لأنك حين تُسلِّم على غيرك كأنك تُسلِّم على نفسك، لأن غيرك هو أيضاً سيسلم عليك، ذلك لأن الإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيماني وحدة متماسكة، فحين تقول لغيرك: السلام عليكم سيردّ: وعليكم السلام. فكأنك تُسلِّم على نفسك.
أو: أن المعنى: إنْ دخلتم بيوتاً ليس فيها أحد فسلِّموا على أنفسكم، وإذا دخلوا المسجد قالوا: السلام على رسول الله وعلينا من ربنا، قالوا: تُسمع الملائكة وهي ترد.
وقوله تعالى: } تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً { [النور: 61] وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ }[النساء: 86].
والتحية فوق أنها من عند الله فقد وصفها بأنها } مُبَارَكَةً { [النور:61] والشيء المبارك: الذي يعطي فوق ما ينتظر منه } كَذَلِكَ { [النور: 61] أي: كما بيَّن لكم الأحكام السابقة يُبيِّن لكم } الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ { [النور: 61].
أي: أن الذي كلّفكم بهذه الأحكام رَبٌّ يحب الخير لكم، وهو غنيٌّ عن هذه، إنما يأمركم بأشياء ليعود نَفْعها عليكم، فإنْ أطعتموه فيما أمركم به انتفعتُم بأوامره في الدنيا، ثم ينتظركم جزاؤه وثوابه في الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {

(/2823)


إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)


المؤمن: مَنْ آمن بإله وآمن بالرسول المبلّغ عن الإله، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالرسول المبلِّغ عن الله فلا بُدَّ أن تكون حركتك خاضعةً لأوامره، ويجب أن تكون ذاتك له، فإذا رأى الرسول أمراً جامعاً يجمع المسلمين في خَطْب أو حدث أو حرب، ثم يدعوكم إلى التشاور لِيُدلي كل منكم برأيه وتجربته، ويُوسِّع مساحة الشورى في المجتمع ليأتي الحكم صحيحاً سليماً موافقاً للمصلحة العامة.
فالمؤمن الحق إذا دُعي إلى مثل هذا الأمر الجامع، لا يقوم من مجلسه حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس إلزاماً أنْ يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أمر المسلمين الجامع لهم قد يكون أهمّ من الأمر الذي يشغلك، وتريد أن تقوم من أجله، وتترك مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [النور: 62] فالاستئذان هنا من علامات الإيمان، لا يقوم خِلْسة (وينسلت) من المجلس، لا يشعر به أحد، لا بُدَّ من أن يستأذن رسول الله حتى لا يُفوت مصلحة على المؤمنين، ولربما كان له رَأْيٌ ينتفع به.
والرسول إما يستشير أصحابه ليستنير برأيهم وتجاربهم، فحين يدعوهم إلى أمر جامع يجب أن يُفهم هذا الأمر على نطاق منزلة الرسول من بلاغة عن الله للأمة، فإذا دعا نفر نفراً للتشاور، فإنما يتشاوران في أمر شخصي يخصُّ صاحبه، لكن حين يدعوهم رسول الله لا يدعو لخصوصية واحدة، وإنما لخصوصية أمة، شاء الله أن تكون خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، وسوف يستفيد الفرد أيضاً من هذه الدعوة، وربما كانت استفادته من الاستجابة للدعوة العامة التي تنتظم كل الناس خَيْراً من استفادته من دعوته الخاصة،ـ فيجب أنْ يُقدِّر المدعو هذا الفارق.
ومع وجود هذا الفارق لم يَحرِم اللهُ بعضَ الناس الذين لهم مشاغل أنْ يستأذنوا فيها رسول الله وينصرفوا؛ لذا شرع لهم الاستئذان، لكن يجب أنْ يضعوا هذا الفارق في بالهم، وأنْ يذكروا أنهم انصرفوا لبعض شأنهم، والرسول قائم في أمر لشئون الدنيا كلها إلى أنْ تقوم الساعة.
فكأنه إنْ شارك في هذا الاجتماع فسيستفيد كفرد، وستستفيد أمته: المعاصرون منهم والآتُون إلى أنْ تقومَ الساعة، فإنْ فضّل شأنه الخاص على هذه الشئون فقد أساء، وفعل مَا لا يليق بمؤمن؛ لذلك أُمر رسول الله أنْ يأذنَ لمنْ يشاء، ثم يستغفر له اللهَ.
يقول سبحانه: { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [النور: 62] فالأمر متروك لرسول الله يُقدِّره حَسْب مصلحة المسلمين العامة، فَلَهُ أن يأذنَ أو لا يأذنَ.
إذن: لا بُدَّ من استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن لمَنْ يشاء منهم ممَّنْ يرى أن في الباقين عِوَضاً عنه وعن رأيه، فإنِ استأذن صاحب رأي يستفيد منه المسلمون لم يأذن له.

ثم يقول سبحانه: } وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ { [النور: 62]، وكأن مسألة الاستئذان والقيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لا يريده الله تعالى.
حتى إن استأذنتَ لأمر يهمك، وحتى إنْ أَذِن لك رسول الله، فالأفضل ألاَّ تستأذن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعو لأمر جامع يُهِمّ جماعة المسلمين، يجب ألاَّ ينشغل أحد عَمَّا دُعِي إليه، وألاَّ يُقدِّم على مصلحة المسلمين ومجلس رسول الله شيئاً آخر، ففي الأمر الجامع ينبغي أنْ يُكتّل الجميع مواهبهم وخواطرهم في الموضوع، وساعة تستأذن لأمر يخصُّك فأنت منشغل عن الجماعة شارد عنهم.
فحين تنشغل بأمرك الخاص عن أمر المسلمين العام، فهذه مسألة تحتاج إلى استغفار لك من رسول الله، فالرسول يأذن لك، ثم يستغفر لك الله.
ثم يقول الحق سحبانه: } لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً {

(/2824)


لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)


قوله سبحانه: { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [النور: 63] فأنتم يدعو بعضكم بعضاً في مسألة خاصة، لكن الرسول يدعوكم لمسألة عامة تتعلق بحركة حياة الناس جميعاً إلى أنْ تقوم الساعة.
أو: أن الدعاء هنا بمعنى النداء يعني: يناديكم الرسول أو تنادونه؛ لأن لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم آداباً يجب مراعاتها، فهو ليس كأحدكم تنادونه: يا محمد، وقد عاب القرآن على جماعة لم يلتزموا أدب النداء مع رسول الله، فقال:{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }[الحجرات: 4].
فأساءوا حين قالوا: يا محمد، ولو قالوا حتى: يا أيها الرسول فقد أساءوا؛ لأنه لا يصحّ أنْ يتعجّلوا رسول الله، ويجب أنْ يتركوه على راحته، إنْ وجد فراغاً للقائهم خرج إليهم، إذن: أساءوا من وجهين.
ولا يليق أن نناديه صلى الله عليه وسلم باسمه: يا محمد. لأن الجامع بين الرسول وأمته ليس أنه محمد، إنما الجامع أنه رسول الله، فلا بُدَّ أنْ نناديه بهذا الوصف. ولِمَ لا وربه عز وجل وهو خالقه ومصطفيه قد ميّزه عن سائر إخوانه من الرسل، ومن أولي العزم، فناداهم بأسمائهم:
{ يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ }[البقرة: 35].
وقال:{ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا }[هود: 48].
وقال:{ ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ }[الصافات: 104ـ105].
وقال:{ يامُوسَىا إِنِّي أَنَا اللَّهُ }[القصص: 30].
وقال:{ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ }[المائدة: 116].
وقال:{ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ }[ص: 26].
لكن لم يُنَادِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم باسمه أبداً، إنما يناديه بـ " ياأيها " الرسول، ياأيها النبي. فإذا كان الحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يجعل دعاءه للرسول كدعائه لباقي رسله، أفندعوه نحن باسمه؟ ينبغي أن نقول: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا رسول الله، يا نبي الله، فهذا هو الوصف اللائق المشرِّف.
وكما نُميِّز دعاء رسول الله حين نناديه، كذلك حين ينادينا نحن يجب أن نُقدِّر هذا النداء، ونعلم أن هذا النداء لخير عام يعود نفعه على الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور: 63].
لا شكَّ أن الذين يستأذنون رسول الله فيهم إيمان، فيُراعنون مجلس رسول الله، ولا يقومون إلا بإذنه،لكن هناك آخرون يقومون دون استئذان: { يَتَسَلَّلُونَ } [النور: 63] والتسلل: هو الخروج بتدريج وخُفْية كأنْ يتزحزح من مكان لآخر حتى يخرج، أو يُوهِمك أنه يريد الكلام مع شخص آخر ليقوم فينسلِتُ من المجلس خُفْية، وهذا معنى { يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } [النور: 63] يلوذ بآخر ليخرج بسببه.
ويحذر الله هؤلاء: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور: 63] والتحذير إنذار بالعاقبة السيئة التي تترتب على الانسحاب من مجلس رسول الله، كأنه يقول لهم: قارنوا بين انسحابكم من مجلس الرسول وبين ما ينتظركم من العقاب عليه.

وقال: } يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ { [النور: 63] لا يخالفون أمره، فجعل في المخالفة معنى الإعراض، لا مجرد المخالفة، فالمعنى: يُعرِضون عنه.
والأمر: يُراد به فعل الأمر أو النهي أو الموضوع الذي نحن بصدده يعني: ليس طلباً، وهذا المعنى هو المراد هنا: أي الموضوع الذي نبحثه ونتحدث فيه، فانظروا ماذا قال رسول الله ولا تخالفوه ولا تعارضوه؛ لأنه وإنْ كان بشراً مثلكم إلا أنه يُوحَى إليه.
لذلك يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم مركزه كبشر وكرسول، فيقول: " يَرِدُ عليَّ ـ يعني من الحق الأعلى ـ فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخَذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم ".
لذلك كان الصحابة يفهمون هذه المسألة، ويتأدبون فيها مع رسول الله، ويسألونه في الأمر: أهو من عند الله قد نزل فيه وَحْي، أم هو الرأْي والمشورة؟ فإنْ كان الأمر فيه وَحْيٌ من الله فلا كلامَ لأحد مع كلام الله، وإنْ كان لم يرد فيه من الله شيء أدْلَى كُلٌّ منهم برأيه ومشورته.
وهذا حدث فعلاً " في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً رأى بعض الصحابة أن غيره خير منه، فسألوا رسول الله: أهذا منزل أنزلكَهُ الله، أم هو الرأْيُ والمشورة؟ فقال: " بل هو الرأي والمشورة " فأخبروه أنه غير مناسب، وأن المكان المناسب كذا وكذا ".
وقوله تعالى: } أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ { [النور: 63] أي: في الدنيا } أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { [النور: 63] أي: في الآخرة، فإنْ أفلتوا من فتنة الدنيا فلنْ يُفلتوا من عذاب الآخرة.
ثم تختم السورة بقوله تعالى: } أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ {

(/2825)


أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)


ألا: أداة تنبيه لشيء مهم بعدها، والتنبيه يأتي لأن الكلام سفارة بين المتكلم والمخاطب، المتكلم عادة يُعد كلامه، ولديْه أُنْسُّ بما سيقول، لكن المخاطب قد لا يكون خالي الذِّهْن فيفاجئه القول، وربما شغله ذلك عن الكلام، فيضيع منه بعضه.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد ألاَّ يضيع منك حرف واحد من كلامه، فينبهك بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها، إلا أنها تنبهك وتُذهِب ما عندك من دهشة أو غفلة، فتعي ما يُقال لك، وهذا أسلوب عربي عرفته العرب، وتحدثتْ به قبل نزول القرآن.
ويقول الشاعر الجاهلي يخاطب المرأة التي تناوله الكأس:أَلاَ هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبِحِيناَ وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدرِينَايريد أن ينبهها إلى الكلام المفيد الذي يأتي بعد.
وبعد ألا التنبيهية يقول سبحانه: { إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [النور: 64].
والسموات والأرض ظرف فيهما كل شيء في الكون العُلْوي والسُّفْلي، فلله ما في السموات وما في الأرض أي: المظروف فيهما، فما بال الظرف نفسه؟ قالوا: هو أيضاً لله، كما جاء في آية أخرى:{ للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[النور: 42] إذن: فالظرف والمظروف مِلْك له سبحانه.
وعادةً ما يكون الظرف أقلَّ قيمةً من المظروف فيه، فما بداخل الخزينة مثلاً أثمن منها، وما بداخل الكيس أثمن منه، وكذلك عظمة السموات والأرض بما فيهما من مخلوقات. لذلك إياك أنّْ تجعل المصحف الشريف ظرفاً لشيء مهم عندك فتحفظه في المصحف؛ لأنه لا شيء أغلى ولا أثمن من كتاب الله، فلا يليق أن تجعله حافظةً لنقودك، أو لأوراقك المهمة؛ لأن المحفوظ عادة أثمن من المحفوظ فيه.
وفي الآية: { أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [النور: 64] أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، فكلُّ ما في السموات، وكل ما في الأرض مِلْكٌ لله وحده، لا يشاركه فيه أحد، وعلى كثرة المفترين في الألوهية والفرعونية لم يَدَّعِ أحد منهم أن له مُلْكَ شيء منها.
حتى إن النمورد الذي جادل أبانا إبراهيم عليه السلام وقال: أنا أُحي وأميت لمَّا قال له إبراهيم:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ }[البقرة: 258] لم يستطع فِعْل شيء وبُهِت وانتهت المسألة.
ومُلْكه تعالى لم يقتصر على الخَلْق، فخَلَق الأشياء ثم تركها تؤدي مهمتها وحدها، إنما خلقها وله تعالى قيومية على ما خلق، وتصرّف في كل شيء، فلا تظن الكون من حولك يخدُمك آلياً، إنما هو خاضع لإرادة الله وتصرّفه سبحانه.
فالماء الذي ينساب لك من الأمطار والأنهار قد يُمنع عنك ويصيب أرضك الجفاف، أو يزيد عن حَدِّه، فيصبح سيولاً تغرق وتدمر، إذن: المسألة ليست رتابة خَلْق، وليست المخلوقات آلاتٍ (ميكانيكية)، إنما لله المْلك والقيومية والتصرُّف في كل ما خلق.

ثم يقول سبحانه: } قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ { [النور: 64] لفهم هذه الآية لا بُدَّ أن نعلم أن علاقة الحق ـ تبارك وتعالى ـ بالأحداث ليستْ كعلاقتنا نحن، فنحن نعلم من علم النحو أن الأفعال ماضٍ، وهو ما وقع بالفعل قبل أن تتكلم به مثل: جاء محمد، ومضارع وهو إما للحال مثل: يأكل محمد. أو للاستقبال مثل: سيأكل محمد.
أما بالنسبة لله تعالى، فالأحداث سواء كلها مَاضٍ وواقع، وقد تكلمنا في هذه المسألة في قوله تعالى:{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ }[النحل: 1].
ومعلوم أن الاستعجال يكون للأمر الذي يأْتِ بَعْد، والقيامة لم تأتِ بعد لكن عبَّر عنها بالماضي (أتى) لأنه سبحانه لا يعوقه ولا يُخرجه شيء عن مراده، فكأنها أتتْ بالفعل، إذن:{ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ }[النحل: 1] ليست منطقية مع كلامك أنت،ـ إنما هي منطقية مع كلام الله.
كذلك في قوله تعالى: } قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ { [النور: 64] فقد: للتحقيق، ويعلم بالنسبة لله تعالى تعني عَلِم، لكنه بالنسبة لك أنت يعلم: إذن: فهناك طرف منك وطرف من الحق سبحانه، فبالنسبة للتحقيق جاء بقد، وبالنسبة للاستقبال جاء بيعلم.
ثم يقول سبحانه: } وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ { [النور: 64] وجاء في آية أخرى:{ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[يونس: 61].
فإياك أن تفهم أن نظر الله ورؤيته سبحانه للأبعاض المختلفة في الأماكن المختلفة رؤية جزئية، تتجه إلى شيء فلا ترى الآخر، إنما هي رؤية شاملة، كأن لكل شيء رؤية وحده، وهذا واضح في قوله تعالى:{ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىا كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }[الرعد: 33].
فسبحانه لا يشغله سَمْع عن سمع، ولا بَصَر عن بصر، فبصره سبحانه محيط، واطلاعه دقيق؛ لذلك يأتي جزاؤه حقاً يناسب دِقّة اطلاعه، فإياك إذن أن تغفل هذه الحقيقة، فربُّك قائم عليك، ناظر إليك، لا تَخْفى عليه منك خافية.
فيا مَنْ تتسلل لِواذاً احذر، فلا شيء أهمّ من مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله نفسه كان حريصاً أن يرى أصحابه في مجلسه بإستمرار، والله تعالى يوصيه بذلك فيقول له:{ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ }[الكهف: 28].
وكان بعض أصحابه يُصلِّي خلفه، فكان عندما يسلم ينصرف الرجل مسرعاً فيراه صلى الله عليه وسلم في أول الصلاة، ولا يراه في آخرها، فاستوقفه في إحدى الصلوات وقال له: " أزهداً فينا "؟ وكأنه يعزّ على رسول الله أن يجد أحد أصحابه لا يتواجد مع حضرته، أو يَزْهَد في مجلسه، فيُحرم من الخيرات والتجليات التي تتنزل على مجلس رسول الله، ويُحرَم من إشعاعات بصيرته وبصره إليه.

لذلك أُحرِج الرجل، وأخذ يوضح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدفعه كل صلاة إلى الإسراع بالانصراف، وأن هذا منه ليس زهداً في حضرة رسول الله ومجلس رسول الله، فقال: يا رسول الله إن لي امرأة بالبيت تنتظر ردائي هذا لتصلي فيه.
يعني: ليس لديه في بيته إلا ثوبٌ واحد، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، فلما عاد لزوجته سألته عن سبب غيابه، فقصَّ عليها ما كان من أمر رسول الله، وأنه استوقفه وحكى لها ما دار بينهما، فقالت لزوجها: أتشكو ربك لمحمد؟
ولما سألوها بعد ذلك قالت: " غاب عني مقدار مائة تسبيحة " فانظر إلى ساعتها التي تضبط عليها وقتها.

(/2826)


تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)


{ تَبَارَكَ } [الفرقان: 1] مادة الباء والراء والكاف عادةً تدلُّ على البركة، وهي أن يعطيك الشيء من الخير فوق ما تظن فيه ويزيد عن تقديرك، كما لو رأيتَ طعام الثلاثة يكفي العشرة، فتقول: إن هذا الطعام مُبَاركٌ أو فيه بركة.
ومن معاني تبارك: تعالى قَدْره و { تَبَارَكَ } [الفرقان: 1] تنزّه عن شبه ما سواه، وتبارك: عَظُم خَيْره وعطاؤه. وهذه الثلاثة تجدها مُكمِّلة لبعضها.
ومن العجيب أن هذا اللفظ { تَبَارَكَ } [الفرقان: 1] مُعجز في رَسْمه ومُعْجز في اشتقاقه، فلو تتعبتَ القرآن لوجدتَ أن هذه الكلمة وردتْ في القرآن تسْع مرات: سبع منها بالألف { تَبَارَكَ } [الفرقان: 1] ومرتان بدون الألف، فلماذا لم تُكتب بالألف في الجميع، أو بدونها في الجميع؟ ذلك ليدلُّك على أن رَسْم القرآن رَسْم توقيفيّ، ليس أمراً (ميكانيكياً)، كما في قوله تعالى في أول سورة العلق:{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }[العلق: 1] فرَسْم كلمة اسم هنا بالألف، وفي باقي القرآن بدون الألف.
إذن: فالقرآن ليس عادياً في رَسْمه وكتابته، وليس عادياً في قراءته، فأنت تقرأ في أي كتاب آخر على أيِّ حال كنتَ، إلا في القرآن لا بُدَّ أن تكون على وضوء وتدخل عليه بطُهْر.. الخ ما نعلم من آداب تلاوة القرآن.
ومن حيث الاشتقاق نعلم أن الفعل يُشتَقُّ منه الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل..الخ، لكن { تَبَارَكَ } [الفرقان: 1] لم يذكر منها القرآن إلا هذه الصيغة، وكأنه يريد أنّْ يخصَّها بتنزيه الله تعالى، مثلها مثل كلمة سبحان؛ لذلك على كثرة ما مرَّ في التاريخ من الجبابرة أرغموا الناس على مدحهم والخضوع لهم، لكن ما رأينا واحداً مهما كان مجرماً في الدين يقول لأحد هؤلاء: سبحانك.
لذلك نقول في تسبيح الله: سبحانك، ولا تُقال إلا لك. مهما اجترأ الملاحدة فإنهم لا ينطقونها لغير الله.
إذن: { تَبَارَكَ } [الفرقان: 1] تدور حول معَانٍ ثلاثة: تعالى قَدْره، وتنزَّه عن مشابهة ما سواه، وعَظُم خَيْره وعطاؤه، ومَنْ تعاظُم خَيْره سبحانه أنه لا مثيل له: في قَدْره، ولا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في فعله. وهذا كله من مصلحتنا نحن، فلا كبيرَ إلا الله، ولا جبارَ إلا الله، ولا غنيَّ إلا الله.
وسُمِّي القرآن فرقاناً؛ لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل، وقد نزل القرآن ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور، فيسير الناس على هُدىً وعلى بصيرة، فالقرآن إذن فَرَق لهم مواضع الخير عن مواضع العطب، فالفرقان سائر في كل جهات الدين، ففي الدين قمة هي الحق ـ تبارك وتعالى ـ ومُبلِّغ عن القمة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومُرْسَل إليه هم المؤمنون، فجاء القرآن ليفرُقَ بين الحق والباطل في هذه الثلاثة.

ففي القمة، وُجدِ مَنْ ينكر وجود إله خالق لهذا الكون، وآخرون يقولون بوجود آلهة متعددة، وكلاهما على طرفي نقيض للآخر، ليس هناك سيال فكر يجمعهم، فجاء القرآن ليفرق بين الحق والباطل في هذه المسألة، ويقول: الأمر وسط بين ما قُلْتم: فالإله موجود، لكنه إله واحد لا شريكَ له، ففرقَ في مسألة القمة.
كذلك فَرق في مسألة الرسول وهو بشر من قومه، فلما اعترض بعضهم عليه وحسدوه على هذه المكانة وهو واحد منهم أيَّده الله بالمعجزة التي تُؤيده وتُظهِر صِدْقه في البلاغ عن الله، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في شيء نبغ فيه القوم، وهي الفصاحة والبلاغة والبيان، والعرب أهل بيان، وهذه بضاعتهم الرائجة وتحدَّاهم بهذه المعجزة فلم يستطيعوا.
وكذلك فَرَق في مسألة الخَلْق من حيث مُقوِّمات حياتهم، فبيَّن لهم الحلال والحرام، وفي استبقاء النوع بيَّن لهم الحلال، وشرع لهم الزواج، ونهاهم عن الزنا ليحفظ سلالة الخليفة لله في الأرض.
إذن: فَرق القرآن في كل شيء: في الإله، وفي الرسول، وفي قِوَام حياة المرسَل إليهم، وما دام قد فَرقَ في كل هذه المسائل فلا يوجد لفظ أفضل من أن نُسمِّيه " الفرقان ".
ولا شكَّ أن الألفاظ التي ينطق بها الحق ـ تبارك وتعالى ـ لها إشعاعات، وفي طياتها معَانٍ يعلمها أهل النظر والبصيرة ممَّنْ فتح الله عليهم، وما أشببها بفصوص الماس! والذي جعل الماس ثميناً أن به في كل ذرة من ذراته تكسراتٍ إشعاعية ليست في شيء غيره، فمن أيِّ ناحية نظرتَ إليه قابلك شعاع معكوس يعطي بريقاً ولمعاناً يتلألأ من كل نواحيه، وكذلك ألفاظ القرآن الكريم.
ومن معاني الفرقان التي قال بها بعض العلماء أنه نزل مُفَرَّقاً، كما جاء في قوله تعالى:{ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ }[الإسراء: 106] يعني: أنزلناه مُفرَّقاً لم ينزل مرة واحدة كالكتب السابقة عليه، وللحق ـ تبارك وتعالى ـ حكمة في إنزال القرآن مُفرقاً، حيث يعطي الفرصة لكل نَجْم ينزل من القرآن أنْ يستوعبه الناس؛ لأنه يرتبط بحادثة معينة، كذلك ليحدث التدرّج المطلوب في التشريعات.
يقول تعالى:{ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىا مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }[الإسراء: 106].
لقد كان المسلمون الأوائل في فترة نزول القرآن كثيري الأسئلة، يستفسرون من رسول الله عن مسائل الدين، كما قال تعالى:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ }[البقرة: 189]{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ }[البقرة: 219]{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ }[الأنفال: 1] فكان النجم من القرآن ينزل ليُجيب عليهم ويُشرَّع لهم، وما كان يتأتَّى ذلك لو نزل القرآن جملة واحدة.
وكلمة: } نَزَّلَ الْفُرْقَانَ { [الفرقان: 1] تؤيد هذا المعنى وتسانده؛ لأن نزّل تفيد تكرار الفعل غير " أنزل " التي تفيد تعدِّى الفعل مرة واحدة.
وقوله تعالى: } عَلَىا عَبْدِهِ { [الفرقان: 1] كأن حيثية التنزيل عليه هي العبودية لله تعالى، فهو العبد المأمون أن ينزل القرآن عليه.

وسبق أن قلنا: أن العبودية لفظ بغيض إنِ استُعمِل في غير جانب الحق سبحانه، أمّا العبودية لله فيه عِزٌّ وشرف ولفظ محبوب في عبودية الخَلْق للخالق؛ لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خير عبده، أمّا العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده.
لذلك جعل الله تعالى العبودية له سبحانه حيثية للارتقاء السماوي في رحلة الإسراء، فقال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ }[الإسراء: 1] فالرِّفْعة هنا جاءتْ من العبودية لله.
ثم يقول سبحانه: } لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً { [الفرقان: 1] العالمين: جمع عَالَم، والعَالَم ما سوى الله تعالى، ومن العوالم: عالم الملائكة، عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الجماد، إلا أن بعض هذه العوالم لم يَأْتِها بشير ولا نذير؛ لأنها ليست مُخيَّرة، والبشارة والنذارة لا تكون إلا للمخيّر.
يقول تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].
فإنْ عزلْتَ من هذه العوالم مَنْ ليس له اختيار، فيتبقى منها: الجنّ والإنس، وإليهما أُرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، لكن لماذا قال هنا } لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً { [الفرقان: 1] ولم يقل: بشيراً ونذيراً؟
قالوا: لأنه سبحانه سيتكلم هنا عن الذين خاضوا في الألوهية، وهؤلاء تناسبهم النَّذَارة لا البشارة؛ لذلك قال في الآية بعدها: } الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ {

(/2827)


الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)


في آخر سورة النور قال سبحانه:{ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[النور: 64] فذكر ملكية المظروف، وهنا قال: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الفرقان: 2] فذكر مِلْكية الظرف أي: السماوات والأرض.
ثم تكلّم سبحانه في مسألة القمة التي تجرّأوا عليها، فقال: { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } [الفرقان: 2].
وسبق أنْ تكلمنا كثيراً عن مسألة اتخذا الولد والحكمة منها، فالناس تحب الولد، إما ليكون امتداداً للذكْر، وإما ليساند والده حالَ ضَعْفه، وإما للكثرة، والحق ـ تبارك وتعالى ـ هو الحيُّ الباقي الذي لا يموت، ولا يحتاج لمن يُخلِّد ذِكْراه، وهو القويُّ الذي لا يحتاج لغيره، فَلِمَ إذنْ يتخذ ولداً؟
وقوله: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } [الفرقان: 2] وهذا أمر يؤيده الواقع؛ لأن الله تعالى أول ما شَهِد شهد لنفسه، فقال سبحانه:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ }[آل عمران: 18].
أي: لما خلقتُ الملائكة شهدوا لله تعالى، ثم شهد أولو العلم بالاستدلال، فشهادة الحق سبحانه لنفسه شهادة الذات للذات، والملائكة شهدتْ شهادةَ المشاهدة، ونحن شهدنا شهادةَ الاستدلال والبرهان.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يُعطينا الدليل على صِدْق هذه الشهادة، فيقول تعالى:{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ }[المؤمنون: 91].
وقال سبحانه:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42].
وهذا هو التفصيل المنطقي العاقل الذي نردُّ به على هؤلاء، فلو كان مع الله تعالى آلهة أخرى لَذهبَ كل منهم بجزء من الكون، وجعله إقطاعية خاصة به، وعَلاَ كل منهم على الآخر وحاربه، ولو كان معه سبحانه آلهة أخرى لاجتمعوا على هذا الذي أخذ الملْك منهم ليحاكموه أو ليتوسَّلوا إليه.
وقلنا: إن الدَّعْوى تثبُتُ لصاحبها إذا لم يَدّعِهَا أحد غيره لنفسه، وهذه المسألة لم يدَّعها أحد، فهي ـ إذن ـ ثابتة لله تعالى إلى أنْ يُوجَد مَنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه.
وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بجماعة في مجلس فَقَد أحدهم محفظته فيه، ولما انصرفوا وجدها صاحب البيت، فسألهم عنها، فلم يدَّعِها أحد منهم، ثم اتصل به أحدهم يقول: إنها لي، فلا شكّ أنها له حتى يوجد مُدَّعٍ آخر، فنفصل بينهما.
ثم يقول تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2] فخَلْق الله تعالى ليس خَلْقاً كما اتفق، إنما خَلْقه سبحانه بقَدَرٍ وحساب وحكمة، فيخلق الشيء على قَدْر مهمته التي يُؤدِّيها؛ لذلك قال في موضع آخر:{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىا * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىا }[الأعلى: 2ـ3].

(/2828)


وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)


أي: أتوْا بآلهة غير الله، هذه الآلهة بإقرارهم وبشهادتهم وواقعهم لا تخلق شيئاً، ويا ليتها فقط لا تخلق شيئاً، ولكن هي أنفسها مخلوقة، فاجتمع فيها الأمران.
وهذه من الآيات التي وقف عندها المستشرقون وقالوا: إن فيها شهبة تناقض؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14] فأثبت أن معه آخرين لهم صفة الخَلْق، بدليل أنه جمعهم معه، وهو سبحانه أحسنهم. وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ وَرَسُولاً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ }[آل عمران: 49].
وللردِّ على هؤلاء نقول: تعالوْا أولاً نفهم معنى الخَلْق، الخَلْق: إيجاد لمعدوم، كما مثّلْنا سابقاً بصناعة كوب الزجاج من صَهْر بعض المواد، فالكوب كان معدوماً وهو أوجده، لكن من شيء موجود، كما أن الكوب يجمد على حالته، لكن الحق سبحانه وتعالى يُوجِد من معدوم: معدوماً من معدوم، ويُوجده على هيئة فيها حياة ونمو وتكاثر من ذاته، كما قال سبحانه:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[الذاريات: 49].
والذين يصنعون الآن الورد الصناعي، ويحاولون جاهدين مُضَاهاة الورد الطبيعي الذي خلقه، فيضعون عليه رائحة الورد ليتوفر لها الشكل والرائحة، ثم ترى الوردة الصناعية زاهية لا تذبُل، لكن العظمة في الوردة الطبيعية أنها تذبل؛ لأن ذُبولها يدلُّ على أن بها حياة.
لذلك سمَّى اللهُ الإنسانَ خالقاً، فأنصفه واحترم إيجاده للمعدوم، لكنه سبحانه أحسنُ الخالقين، ووَجْه الحُسْن أن الله تعالى خلق من لا شيء، وأنت خلقتَ من موجود، الله خلق خَلْقاً فيه حياة ونمو وتكاثر، وأنت خلقتَ شيئاً جامداً على حالته الأولى، ومع ذلك أنصفك ربك.
ففي قوله تعالى:{ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[آل عمران: 49] معلوم أنه في مقدور كل إنسان أنْ يُصوِّر من الطين طَيْراً؟ ويُصمِّمه على شكله، لكن أَيُقال له: إنه خلق بهذا التصوير طَيْراً؟ وهل العظمة في تصويره على هيئة الطير؟ العظمة في أنْ تبعثَ فيه الحياة، وهذه لا تكون إلا من عند الله؛ لذلك قال عيسى عليه السلام:{ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ }[آل عمران: 49].
فإنْ سلَّمْنا أنهم يخلقون شيئاً فهم في ذات الوقت مخلوقون، والأدْهَى من هذا أن الذي يتخذونه إلهاً لا يستطيع حتى أن يحمي نفسه أو يقيمها، إنْ أطاحتْ به الريح، وإنْ كُسِر ذراع الإله أخذوه لِيُرمموه، الإله في يد العامل ليصلحه!! شيء عجيب وعقليات حمقاء.
لذلك يقول تعالى عن آلهتهم:{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73].
ثم يقول سبحانه: { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } [الفرقان: 3] يعني: لا تنفعهم إنْ عبدوها، ولا تضرّهم إنْ كفروا بها { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً } [الفرقان: 3] أي: موتاً أو حياة لغيرهم، فهم لا يملكون شيئاً من هذا كله، لأنه من صفات الإله الحق الذي يُحيي ويُميت، ثم ينشر الناس في الآخرة. إذن: للإنسان مراحل متعددة، فبعد أنْ كان عَدَماً أوجده الله، ثم يطرأ عليه الموت فيموت، ثم يبعثه الله، ويُحييه حياة الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَا إِلاَّ إِفْكٌ }

(/2829)


وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)


بعد أن تكلم الفرقان وفرَق في مسألة القمة والألوهية واتخاذ الولد والشركاء، وبيَّن الإله الحق من الإله الباطل، أراد سبحانه أنْ يتكلّم عن الفرقان في الرسالة، فيحكى ما قاله الكفار عن القرآن { إِنْ هَـاذَا } [الفرقان: 4] يعني: ما هذا ـ أي القرآن ـ الذي يقوله محمد { إِلاَّ إِفْكٌ } [الفرقان: 4] الإفك: تعمُّد الكذب الذي يقلب الحقائق، وسبق أن قُلْنا: إن النسبة الكلامية إنْ وافقت الواقع فهي صٍِدْق، وإنْ خالفتْه فهي كذب.
والإفْك قَلْب للواقع يجعل الموجود غير موجود، وغير الموجود موجوداً، كما جاء في حادثة الإفك حين اتهموا عائشة أم المؤمنين بما يخالف الواقع، فالواقع أن صفوان أناخ لها ناقته حتى ركبت دون أن ينظر إليها، وهذا يدل على مُنْتهى العِفَّة والصيانة، وهُمْ بالإفك جعلوا الطُّهْر والعفة عُهْراً.
ومن العجيب أن هؤلاء الذين اتهموا القرآن بأنه إفك هم أنفسهم الذين قالوا عنه:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
فهم يعترفون بالقرآن ويشهدون له، لكن يُتعبهم ويُنغِّص عليهم أن يُنزل على محمد بالذات، فلو نزل ـ فرضاً ـ على غير محمد لآمنوا به.
ومن حُمْقهم أن يقولوا:{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].
والمنطق أن يقولوا فاهْدنا إليه، لكنه العناد والمكابرة.
وقوله: { افْتَرَاهُ } [الفرقان: 4] أي: ادعاه، وعجيب أمر هؤلاء، يتهمون القرآن بأنه إفك مُفْترى، فلماذا لا يفترون هم أيضاً مِثْله، وهم أمة بلاغة وبيان؟!
وفي موضع آخر يقول تعالى:{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103].
وقديماً قالوا: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذكوراً، وإلا فكيف تتهمون محمداً أن رجلاً أعجمياً يُعلِّمه القرآن، والقرآن عربي؟
وقوله تعالى: { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } [الفرقان: 4] الذي قال هذه المقولة هو النضر بن الحارث، ولما قالها رددها بعده آخرون أمثال: عدَّاس، ويسَّار، وأبي فكيهة الرومي، والقرآن يرد على كل هذه الاتهامات: { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } [الفرقان: 4] أي: حكموا به والظلم هو: الحكم بغير الحق، والزّور هو: عُدَّة الحكم ودليله. والظلم يأتي بعد الزور، لأن القاضي يستمع أولاً إلى الشهادة، ثم يُرتِّب عليها الحكم، فإن كانت الشهادةُ شهادةَ زور كان الحكم حينئذ ظالماً.
لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول { ظُلْماً وَزُوراً } [الفرقان: 4] وهذا دليل على أن الحكم جاء منهم مُسبقاً، ثم التمسوا له دليلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }

(/2830)


وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)


الأساطير: جمع أسطورة، مثل أعاجيب جمع أعجوبة، وأحاديث جمعُ أُحْدوثة، والبكرة أو النهار، والأصيل آخره، والمعنى أنهم قالوا عن القرآن: إنه حكايات وأساطير السابقين { اكْتَتَبَهَا } [الفرقان: 5] يعني: أمر بكتابتها. وهذا من ترددهم واضطراب أقوالهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وقولهم: { فَهِيَ تُمْلَىا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [الفرقان: 5] أي: باستمرار ليُكرِّرها ويحفظها.
ويردُّ القرآن عليهم: { قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ }

(/2831)


قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)


{ أَنزَلَهُ } [الفرقان: 6] أي: القرآن مرة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا { الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الفرقان: 6] فلا تظن أنك بمجرد خَلْقك قدرْتَ أن تكشف أسرار الله في كونه، إنما ستظل إلى قيام الساعة تقف على سر، وتقف عند سر آخر.
لماذا؟ لأن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يريد أن يبطل هذه المدعيات، ويأتي بأشياء غيبية لم تكن تخطر على بال المعاصرين لمحمد، ثم تتضح هذه الأشياء على مَرَّ القرون، مع أن القرآن نزل في أُمة أمية، والرسول الذي نزل عليه القرآن رجل أمي، ومع ذلك يكشف لنا القرآن كل يوم عن آية جديدة من آيات الله.
كما قال سبحانه:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ }[فصلت: 53].
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يكشف لرسوله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الغيبيات، ليراها المعاصرون له ليلقم الكفارَ الذين اتهموه حجراً، فيكشف بعض الأسرار كما حدث في بدر حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم في ساحة المعركة بعد أن عرف أن مكة ألقتْ بفلذات أكبادها وسادتها في المعركة، وقف يشير بعصاه إلى مصارع الكفار، ويقول: " هذا مصرع أبي جهل، وهذا مصرع عتبة بن ربيعة.. " . الخ يخطط على الأرض مصارع القوم.
ومَنِ الذي يستطيع أن يحكم مسبقاً على معركة فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وضَرْب وانتقال وحركة، ثم يقول: سيموت فلان في هذا المكان.
والوليد بن المغيرة والذي قال عنه القرآن{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }[القلم: 16] يعني: ستأتيه ضربة على أنفه تَسِمُه بسِمَة تلازمه، وبعد المعركة يتفقده القوم فيجدونه كذلك.
هذه كلها أسرار من أسرار الكون يخبر بها الحق ـ تبارك وتعالى ـ رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول يخبر بها أمته في غير مظنَّة العلم بها.
ومن ذلك ما يُروى من " أن ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجتا من ولدين لأبي لهب، فلما حدثت العداوة بينه وبين رسول الله أمر ولديْه بتطليق ابنتي رسول الله، وبعدها رأى أحد الولدين رسول الله ماشياً، فبصق ناحيته، ورأى رسول الله ذلك فقال له: " أكلك كلب من كلاب الله ". فقال أبو لهب بعد أن علم بهذه الدعوة: أخاف على ولدي من دعوة محمد.
وعجيب أنْ يخاف الكافر من دعوة رسول الله، وهو الذي يتهمه بالسحر وبالكذب ويكفر به وبدعوته.
ولما خرج هذا الولد في رحلة التجارة إلى الشام أوصى به القوم أن يحرسوه، ويجعلوا حوله سياجاً من بضائعهم يحميه خشية أن تنفذ فيه دعوة محمد، وهذا منه كلام غير منطقي، فهو يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه مُرْسَل من عند الله، لكن يمنعه من الإيمان حقده على رسول الله وتكبّره على الحق.

وخرج الولد في رحلة التجارة ورغم احتياطهم في حمياته هجم عليه سبع في إحدى الليالي واختطفه من بين أصحابه، فتعجبوا لأن رسول الله قال: " كلب من كلاب الله " وهذا أسد ليس كلباً. قال أهل العلم: ما دام أن رسول الله نسب الكلب إلى الله، فكلب الله لا يكون إلا أسداً.
فالمعنى: قل يا محمد في الرد عليهم ولإبطال دعاواهم: } أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { [الفرقان: 6] وسوف يفضحكم ويُبطِل افتراءكم على رسول الله من قولكم إفك وكذب وافتراء وأساطير الأولين، وسوف يُخْزِيكم أمام أعْينِ الناس جميعاً.
وعلى عهد رسول الله قامتْ معركة بين الفُرْس والروم غُلبت فيها الروم، فحزن رسول الله لهزيمة الروم؛ لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله وبالرسول، أما الفرس فكانوا كفاراً لا يؤمنون بالله ويعبدون النار وغيرها. فمع أنهما يتفقان في تكذيبهم لرسول الله، إلا أن إيمان الروم بالله جعل رسول الله يتعصب لهم مع أنهم كافرون به، فعصبية رسول الله لا تكون إلا لربه عز وجل.
فلما حزن رسول الله لذلك أنزل الله تعالى عليه:{ الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }[الروم: 1ـ5].
فأيُّ عقل يستطيع أنْ يحكم على معركة ستحدث بعد عدة سنوات؟ لو أن المعركة ستحدث غداً لأمكن التنبؤ بنتيجتها، بناءً على حساب العَدد والعُدة والإمكانات العسكرية، لكن مَنْ يحكم على معركة ستدور رحاها بعد سبع سنين؟ ومَنْ يجرؤ أن يقولها قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة. فلو أن هذه المدة مرَّت ولم يحدث ما أخبر به رسول الله لكفَر به مَنْ آمن وانفضَّ عنه مَنْ حوله.
إذن: ما قالها رسول الله قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلا وهو واثق من صِدْق ما يخبر به؛ لأن الذي يخبره ربه ـ عز وجل ـ الذي يعلم السرَّ في السموات والأرض؛ لذلك قال هنا الحق سبحانه وتعالى:
} قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { [الفرقان: 6].
ومن العجيب أن ينتصر الروم على الفُرْس في نفس اليوم الذي انتصر فيه الإيمان على الكفر في غزوة بدر، هذا اليوم الذي قال الله تعالى عنه:{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ }[الروم: 4ـ5].
وما دام أن الذي أنزل القرآن هو سبحانه الذي يعلم السِّر في السماوات والأرض، فلن يحدث تضارب أبداً بين منطوق القرآن ومنطوق الأكوان؛ لأن خالقهما واحد ـ سبحانه وتعالى ـ فمن أين يأتي الاختلاف أو التضارب؟
ثم يقول سبحانه: } إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً { [الفرقان: 6] فما مناسبة الحديث عن المغفرة والرحمة هنا؟ قالوا لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يترك لهؤلاء القوم الذين يقرعهم مجالاً للتوبة وطريقاً للعودة إليه ـ عز وجل ـ وإلى ساحة الإيمان.

لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أشار عليه بقتل الكفار: " لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ".
وكان الصحابة يألمون أشد الألم إنْ أفلتَ أحد رءوس الكفر من القتل في المعركة، كما حدث مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل إسلامهما، وهم لا يدرون أن الله تعالى كان يدَّخِرهم للإسلام فيما بعد.
فقوله تعالى: } إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً { [الفرقان: 6] حتى لا يقطع سبيل العودة إلى الإيمان بمحمد على مَنْ كان كافراً به، فيقول لهم: على رغم ما حدث منكم. إنْ عُدْتم إلى الجادة وإلى حظيرة الإيمان ففي انتظاركم مغفرة الله ورحمته.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يُبيِّن لنا هذه المسألة حتى في النزوع العاطفي عند الخَلْق، فهند بنت عتبة التي أغرتْ وَحْشِياً بقتل حمزة عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، ولم تكتف بهذا، بل مثَّلتْ به بعد مقتله ولاكَتْ كبده رضي الله عنه، ومع ذلك بعد أنْ أسلمتْ وبايعتْ النبي صلى الله عليه وسلم نُسيت لها هذه الفعلة وكأنها لم تكُنْ.
ولما قال أحدهم لعمر بن الخطاب: هذا قاتل أخيك (يشير إليه) والمراد زيد بن الخطاب، فما كان من عمر إلا أن قال: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟
ثم يقول الحق سبحانه: } وَقَالُواْ مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ)

(/2832)


وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)


عجيب أمر هؤلاء المعاندين: يعترضون على رسول الله أنْ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لكسْب العيش، فهل سبق لهم أنْ رَأَوْا نبياً لا يأكل الطعام، ولا يمشي في الأسواق؟ ولو أن الأمر كذلك لكان لاعتراضهم معنى، إذن: قولهم { مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ } [الفرقان: 7] قولٌ بلا حجة من الواقع، ليستدركوا بهذه المسألة على رسول الله.
فماذا يريدون؟
قالوا: { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [الفرقان: 7] صحيح أن الملَك لا يأكل، لكن معنى { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } [الفرقان: 7] يعني: يسانده، وفي هذه الحالة لن يُغيِّر من الأمر شيئاً، وسيظل كلام محمد هو هو لا يتغير. إذَن: لن يضيف الملَك جديداً إلى الرسالة.. وعليه، فكلامهم هذا سفسطة وجَدَلٌ لا معنى له.
وكلمة { فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [الفرقان: 7] لم يقولوا بشيراً، مما يدل على اللدَد واللجاج، وأنهم لن يؤمنوا؛ لذلك لن يفارقهم الإنذار.

(/2833)


أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)


تلحظ أنهم يتنزلون في لَدَدهم وجَدَلهم، فبعد أنْ طلبوا مَلَكاً يقولون { أَوْ يُلْقَىا إِلَيْهِ كَنْزٌ } [الفرقان: 8] أي: ينزل عليه ليعيش منه { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } [الفرقان: 8] أي: بستان { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [الفرقان: 8].
والمسحور هو الذي ذهب السِّحْر بعقله، والعقل هو الذي يختار بين البدائل ويُرتِّب التصرُّفات، ففاقد العقل لا يمكن أن يكونَ منطقياً في تصرفاته ولا في كلامه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، فأنتم تعرفون خُلقه وأمانته، وتُسمُّونه " الصادق الأمين " وتعترفون بسلامة تصرفاته وحكمته، كيف تقولون عنه مجنون؟
لذلك يقول تعالى ردًّا عليهم:{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 1ـ4].
والخُلُق يسوي تصرُّفات الإنسان فيجعلها مُسْعدة غير مفسدة، فكيف ـ إذن ـ يكون ذو الخُلق مجنوناً؟ إذن: ليس محمد مسحوراً.
وفي موضع آخر قالوا: ساحر، وعلى فرض أنه صلى الله عليه وسلم ساحر، فلماذا لم يسحركم كما سَحَر المؤمنين به؟ إنه لَجَج الباطل وتخبّطه واضطرابه في المجابهة. ثم يقول الحق سبحانه: { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ }

(/2834)


انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)


{ انظُرْ } [الفرقان: 9] خطاب لإيناس رسول الله وتطمينه { كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ } [الفرقان: 9] أي: اتهموك بشتّى التهم فقالوا ساحر. وقالوا: مسحور. وقالوا: شاعر. وقالوا: كاهن { فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [الفرقان: 9] لأنهم يقولون كذباً وهُرَاءً وتناقضاً في القول.
{ فَضَلُّواْ } [الفرقان: 9] أي: عن المثل الذي يصدُق فيك ليصرف عنك المؤمنين بك، ويجعل الذين لم يؤمنوا يُصرُّون على كفرهم، فلم يصادفوا ولو مثلاً واحداً، فقالوا: ساحر وكذبوا وقالوا: مسحور وكذبوا { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [الفرقان: 9] أي: إلى ذلك.
ثم يقول الحق سبحانه: { تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً }

(/2835)


تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)


{ تَبَارَكَ } [الفرقان: 10] كما قلنا: تنزّه وعَظُم خيره؛ لأن الكلام هنا أيضاً فيه عطاء مُتمثِّل في الخير الذي ساقه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فعطاؤه سبحانه دائم لا ينقطع، بحيث لا يقف خبر عند عطائه، بل يظل عطاؤه خيراً موصولاً، فإذا أعطاك اليوم عرفتَ أن ما عنده في الغد خير مما أعطاك بالأمس.
ثم يقول الحق سبحانه: { بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ }

(/2836)


بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)


يُضرِب السياق عن الكلام السابق، ويعود إلى مسألة تكذيبهم وعدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان ليس في مصلحتهم، فالإيمان يقتضي حساباً وجزاءً، وهم يريدون التمادي في باطلهم والاستمرار في لَغْوهم واستهتارهم ومعاصيتهم؛ لذلك يُكذِّبهم أنفسهم ويخدعونها ليظلوا على ما هم عليه.
ولذلك ترى الذين يُسرفون على أنفسهم في الدنيا من الماديين والملاحدة والفلاسفة يتمنون أنْ تكون قضية الدين قضية فاسدة كاذبة، فينكرونها بكل ما لديْهم من قوة، فالدين عندهم أمر غير معقول؛ لأنهم لو أقروا به فمصيبتهم كبيرة.
ومعنى: { وَأَعْتَدْنَا } [الفرقان: 11] هيّأنا وأعددْنا لهم سعيراً؛ لأن عدم إيمانهم بالساعة هو الذي جَرَّ عليهم العذاب، ولو أنهم آمنوا بها وبلقاء الله وبالحساب وبالجزاء لاهتَدوْا، واعتدلوا على الجادة، ولَنجَوْا من هذا السعير.
والسعير: اسم للنار المسعورة التي التي تلتهم كل ما أمامهم، كما نقول: كَلْب مسعور، ثم يقول سبحانه في وصفها: { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }

(/2837)


إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)


يريد الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن يُشخِّص لنا النار، فهي ترى أهلها من بعيد، وتتحرّش بهم تريد من غَيْظها أنْ تَثِبَ عليهم قبل أنْ يصلوا إليها.
والتغيُّظ: ألم وجداني في النفس يجعل الإنسان يضيق بما يجد، ومن ذلك نسمع مَنْ يقول: (أنا ح أطلق من جنابي)، يعني: نتيجة ما بداخله من الغيظ لا يتسع له جوفه، وما دام الغيظ فوق تحمُّل النفس وسِعَتها فلا بُدَّ أن يشعر الإنسان بالضيق، وأنه يكاد ينفجر.
لذلك يقول تعالى عن النار في موضع آخر{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ }[الملك: 8] تميّز يعني: تكاد أبعاضها تنفصل بعها عن بعض.
لكن، لماذا تميِّز النار من الغيظ؟ قالوا: لأن الكون كله مُسبِّح لله حامد شاكر لربه؛ لذلك يُسَّرُّ بالطائع ويحبه، ويكره العاصي، أَلاَ ترى أن الوجود كله قد فرح لمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فرح لمولده الجمادُ والنباتُ والحيوانُ واستبشر، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء ليعيد للإنسان انسجامه مع الكون المخلوق له، ويعدل الميزان.
ومع ذلك نرى من البشر العقلاء أصحاب الاختيار مَنْ يكفر، لذلك تغتاظ النار من هؤلاء الذي شذُّوا عن منظومة التسبيح والتحميد ورَضُوا لأنفسهم أن يكونوا أَدْنى من الجماد والنبات والحيوان، ومن ذلك يقولون: نَبَا بهم المكان من كفرهم، يعني الأماكن من الأرض تُنكرهم وتتضايق من وجودهم عليها، كما تفرح الأرض بالطائع وتحييه؛ لأنه منسجم معها، المكان والمكين ينتظمان في منظومة التسبيح والطاعة.
لذلك يُنبِّهنا إلى هذه المسألة الإمام على ـ رضي الله عنه ـ فيقول: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء، وموضع في الأرض، أما في الأرض فموضع مُصلاَّه؛ لأنه حُرِم من صلاته، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله الطيب.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ يُظهر لنا هذه الصورة في قوله سبحانه:{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30].
فالنار تتشوّق لأهلها كالذي يأكل ولا يشبع، فمهما أُلْقِي فيها من العصاة تقول:{ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30].
ومعنى { وَزَفِيراً } [الفرقان: 12] النفَس الخارج. وفي موضع آخر يقول تعالى:{ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُور&