Translate

الأربعاء، 13 أبريل 2022

تفسير الشعراوي 23. قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)

 

23.

 

تفسير الشعراوي 23.

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)

---------------
الخوف: شعور في النفس يُحرِّك فيك المهابة من شيء، ومِمَّ يخافان؟ { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } [طه: 45] يفرط: أي: يتجاوز الحد.. ومضادها: فرَّط يعني: قصّر في الأمر؛ لذلك يقولون: الوسط فضيلة بين إفراط وتفريط.
ومَنْ أفرط يقولون: فَرَس فارط عندما يسبق في المضمار. ويقولون: حاز قَصْب السبق، وكانوا يضعون في نهاية المضمار قصبة يركزونها في الأرض، والفارس الذي يلتقطها أولاً هو الفائز، والفرس فارط يعني: سبق الحدِّ المعمول له، لا مجرد أن يسبق غيره.
لذلك عندما يُحدِّثنا القرآن عن الحدود، يقول مرة:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }[البقرة: 229] أي: إياك أن تسبق الحد الذي وُضِع لك ومرة أخرى يقول:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا }[البقرة: 187] ففي المحلّلات قال{ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }[البقرة: 229] قِفُوا على الحدِّ لا تسبقوه، وفي المحرمات قال{ فَلاَ تَقْرَبُوهَا }[البقرة: 187] لأنك لو اقتربتَ منها وقعتَ فيها.
فالمعنى إذن { يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } [طه: 45] يتجاوز الحدّ، وربما عاجلنا بالقتل قبل أن نقول شيئاً فيسبق قتلُه لنا كلامنا له.
وقوله تعالى: { أَوْ أَن يَطْغَىا } [طه: 45] فلا يكتفي بقتلنا، بل ويخوض في حَقِّ ربنا، أو يقول كلاماً لا يليق، كما سبق له أن ادَّعى الألوهية.
ومن واجب الدعاة ألاَّ يَصِلوا مع المدعوين إلى درجة أن يخوضوا في حقِّ الله تبارك وتعالى؛ لذلك فالحق سبحانه يُؤدِّب المؤمنين به بأدب الدعوة في مجابهة هؤلاء فيقول:{ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ }[الأنعام: 108].
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ }

(/2376)


قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)


أي: لن أسلمكما ولن أترككما، وأنا معكما أسمع وأرى؛ لأن الحركة إما قول يُسمع، أو فعل يُرى، فاطمئنّا، لأننا سنحفظكما، وقد قال تعالى:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171ـ173].
وهذه سُنة من سُنَن الله تعالى، فإنْ رأيتَ جنداً من الجنود منسوبين لله تعالى وهُزِمُوا، فاعلم أنهم انحلوا عن الجندية لله، وإلا فوعْد الله لجنوده لا يمكن أن يتخلف أبداً.
والدليل على ذلك ما حدث للمسلمين في أُحُد، صحيح أن المسلمين هُزِموا في هذه الغزوة؛ لأنهم انحرفوا عن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه عندما قال للرماة: " لاتتركوا أماكنكم على أيّ حال من الأحوال " لكن بمجرد أنْ رأوا بوادر النصر تركوا أماكنهم، ونزلوا لجَمْع الغنائم، فالتف من خلفهم خالد بن الوليد وألحق بهم الهزيمة، وإن انهزم المسلمون فقد انتصر الإسلام؛ لأنهم لما خالفوا أوامر رسولهم انهزموا، وبالله لو انتصروا مع المخالفة أكان يستقيم لرسول الله أمر بعد ذلك؟
ففي الآية التي معنا يطمئنهم الحق ـ تبارك وتعالى ـ حتى لا يخافا، فقدرة الله ستحفظهما، وسوف تتدخل إنْ لزمَ الأمر كما تدخلْت في مسألة التمرة والجمرة، وهو صغير في بيت فرعون.
ثم يقول لهما الحق سبحانه وتعالى: { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ }

(/2377)


فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)


ونلحظ هنا أنهما لم يواجهاه بما ادعاه من الألوهية مرة واحدة، إنما أشارا إلى مقام الربوبية { رَسُولاَ رَبِّكَ } [طه: 47] وهذه هِزّة قوية تزلزل فرعون، ثم تحوّلا إلى مسألة أخرى، وهي قضية بني إسرائيل، وكان فرعون يُسخِّرهم في خدمته ويُعذِّبهم ويشقّ عليهم.
{ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [طه: 47] فقد جئنا لنأخذ أولادنا وننقذهم من هذا العذاب { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ } [طه: 47] أي: معجزة { مِّن رَّبِّكَ } [طه: 47] فأعادوا عليه هذه الكلمة مرة أخرى.
وقد علّمهما الحق سبحانه كيف يدخلون على فرعون؟ وكيف يتحدثون معه في أمر لا يمسّ كبرياءه وألوهيته.
وبنو إسرائيل هم البقية الباقية من يوسف عليه السلام وإخوته، لما جاءوا إلى مصر في أيام العزيز الذي قرَّب يوسف وجعله على خزائن الأرض، كما قال تعالى في قصة يوسف:{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىا خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }[يوسف: 54ـ55].
وقوله: { وَالسَّلاَمُ عَلَىا مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىا } [طه: 47] وهذه ليست تحية؛ لأنك تُحيي مَنْ كان مُتبعاً للهدى، وتدعو له بالسلام، فإنْ لم يكُنْ كذلك فهي نهاية للكلام.
لذلك كان يكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى المقوقس عظيم القبط، وإلى هرقل عظيم الروم، يقول: " اسلم تسلم، يؤتِكَ الله أجرك مرتين، فإنْ توليت فإنما عليك إثم الأريسيين والسلام على مَنِ اتبع الهدى ".
قال موسى وهارون لفرعون: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ }

(/2378)


إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)


فأعطاه هنا القضية النهائية: جاءنا في الوحي أن مَنْ كذّب وتولّى فله العذاب، ومعنى { أُوحِيَ إِلَيْنَآ } [طه: 48] أي: من ربك.
فلما سمع فرعون هذه المقولة أحب أنْ يدخل معهما في متاهات يشغلهم بها، ويطيل الجدل ليُرتِّب أفكاره، وينظر ما يقول: { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَىا }

(/2379)


قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)


ووجّه الخطاب إلى الرئيس الأصلي في هذه المهمة، وهو موسى عليه السلام.

(/2380)


قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)


معنى { أَعْطَىا كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } [طه: 50] أي: كل ما في الوجود، خلقه الله لمهمة، فجاء خَلْقه مناسباً للمهمة التي خُلِق لها { ثُمَّ هَدَىا } [طه: 50] أي: دلّ كل شيء على القيام بمهمته ويسّره لها.
والحق سبحانه أعطى كل شيء (خَلْقَهُ) الخَلْق يُطلَق، ويُراد به المخلوق، فالمخلوق شيء لا بُدَّ له من مادة، لا بُدَّ أن يكون له صورة وشكل، له لون ورائحة، له عناصر ليؤدي مهمته.
فإذا أراد الله سبحانه خَلْق شيء يقْدِر له كل هذه الأشياء فأمدَّ العين كي تبصر، والأنف كي يشم، واللسان كي يتذوق، ثم هدى كل شيء إلى الأمر المراد به لتمام مهمته، بدون أي تدخّل فيه من أحد.
وإذا كان الإنسان، وهو المقدور للقادر الأعلى يستطيع أن يصنع مثلاً القنبلة الزمنية، ويضبطها على وقت، فتؤدي مهمتها بعد ذلك تلقائياً دون اتصال الصانع بها.
فالحق سبحانه خلق كل شيء وأقدره على أنْ يُؤدِّي مهمته على الوجه الأكمل تأدية تلقائية غريزية، فالحيوانات التي نتهمها بالغباء، ونقول عنها: " بهائم " هي في الحقيقة ليست كذلك، وقد أعطانا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ صورة لها في مسألة الغراب الذي بعثه الله ليُعلِّم ولد آدم كيف يواري سوءة أخيه كما قال سبحانه:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ }[المائدة: 31].
فكيف صنع الغراب هذا الصنيع؟ صنعة بالغريزة التي جعلها الله فيه، ولو تأملتَ الحمار الذي يضربون به المثل في الغباء حين تريده أنْ يتخطى (قناة) مثلاً، تراه ينظر إليها ويُقدِّر مسافتها، فإن استطاع أنْ يتخطاها قفز دون تردد، وإنْ كانت فوق إمكانياته تراجع، ولم يُقْدِم مهما ضربته أو أجبرته على تخطيها، هذه هي الغريزة الفِطْرية.
لذلك تجد المخلوقات غير المختارة لا تخطىء؛ لأنها محكومة بالغريزة، وليس لها عقل يدعو إلى هوىً، وليس لها اختيار بين البدائل مثل العقل الإلكتروني الذي يعطيك ما أودعته فيه لا يزيد عليه ولا ينقص، أما الإنسان فيمكن أنْ يُغيّر الحقيقة، ويُخفِي ما تريده منه، لأن له عقلاً يفاضل: قُلْ هذه، ولا تقُلْ هذه ، وهذا ما ميّز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات.
كذلك، ترى الحيوان إذا شبع يتمنع عن الطعام ولا يمكن أن تؤكله عود برسيم واحد مهما حاولتَ، إنما الإنسان صاحب العقل والهوى يقول لك: (أرها الألوان تريك الأركان)، فلا مانع ـ بعد أن أكل حتى التخمة ـ من تذوُّق أصناف شتّى من الحلوى والفاكهة وخلافه.
وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه وتعالى أنه: { أَعْطَىا كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىا } [طه: 50].

خذ مثلاً الأذن، وكيف هي محكمة التركيب مناسبة لتلقي الأصوات، ففي الأذن من الخارج تجاعيد وتعاريج تتلقى الأصوات العالية، فتُخفّف من حِدّتها حتى تصل إلى الطبلة الرقيقة هادئة، وإلاَّ خرقتها الأصوات وأصَمّتها، وكذلك جعلها لله لِصدِّ الرياح حتى إذا هبت لم تجد الأذن هكذا عارية فتؤذيها.
وكذلك العَيْن، كم بها من آيات لله، فقد خلقها الله بقدر، من هذه الآيات أن حرارتها إنْ زادت عن 12 درجة تفسد، وأرنبة الأنف إنْ زادت عن 9 درجات لا تؤدي مهمتها، مع أن في الجسم عضواً حرارته 40 درجة هو الكبد، والحرارة الكلية للإنسان 37 درجة، تكون ثابتة في المناطق الباردة حيث الجليد كما هي في المناطق الحارة، لا ترتفع ولا تنخفض إلا لعِلَّة أو آفة في الجسم.
إذن: كل شيء في الوجود خلقه الله بقدر وحكمة وكيفية لأداء مهمته، كما قال في آية أخرى:{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىا * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىا }[الأعلى: 2ـ3].
اللسان مثلاً جعل الله به حَلَمات متعددة، كل واحدة منها تتذوّق طَعْماً معيناً، فواحدة للحلو، وواحدة للمُرِّ، وواحدة للحريف، وهكذا، وجميعها في هذه المساحة الضيقة متجاورة ومتلاصقة بقَدْر دقيق ومُعْجز.
الأنف وما فيه من مادة مُخاطية عالقة لا تسيل منك، وشعيرات دقيقة، ذلك لكي يحدث لهواء الشهيق عملية تصفية وتكييف قبل أن يصل إلى الرئتين؛ لذلك لا ينبغي أنْ نقصَّ الشعيرات التي بداخل الأنف؛ لأن لها مهمة.
عضلة القلب وما تحتويه من أُذَيْن وبُطَيْن، ومداخل للدم، ومخارج محكمة دقيقة تعمل ميكانيكياً، ولا تتوقف ولا تتعطل لمدة 140 أو 120 سنة، تعمل تلقائياً حتى وأنت نائم، فأيّ آلة يمكن أنْ تُؤدِّي هذه المهمة؟
والحق سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون بآية دالة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمتهما الأساسية أَخْذ بني إسرائيل، وإنقاذهم من طغيان فرعون، وجاءت المسألة الإيمانية تبعية، أما أصل مهمة موسى فكان:{ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ }[طه: 47].
والحق سبحانه حين يعرض قضية الإيمان يعرضها مبدوءة بالدليل دليل البدء الذي جاء في قوله تعالى: } قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىا كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىا { [طه: 50] لأن، فرعون الذي ادعى الألوهية لا بُدَّ أن يكون له مألوهون، وهم خَلْق مثله، وهو يعتزّ بملكه وماله من أرض مصر ونيلها وخيراتها حتى قال:
{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي }[الزخرف: 51].
فأراد الحق سبحانه وتعالى أنْ يرد عليه: ألَكَ شيء في خَلْق هؤلاء المألوهين لك؟
وما أشبهَ موقف فرعون أمام هذه الحجة بموقف النمروذ أمام نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما قال له:{ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ }[البقرة: 258].
فلم يجد النمروذ إلا الجدل والسفسطة، فلجأ إلى حيلة المفلسين، وجاء برجلين فقال: أنا أحكم على هذا بالموت وأعفو عن هذا؛ لذلك لما أحسَّ إبراهيم ـ عليه السلام منه المراوغة والجدال نقله إلى مسألة لا يستطيع منها فكاكاً.

{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[البقرة: 258].
إذن: فالردُّ إلى قضية الخلق الأول دليل لا يمكن لأحد ردُّه، حتى فرعون ذاته لم يدَّعِ أنه خلق شيئاً، إنما تجبّر وتكبّر وادّعى الألوهية فقط على مألوه لم يخلقه، ولم يخلق نفسه، ولم يخلق الملْك الذي يعتز به.
ولما كان دليل الخلق الابتدائي هو الدليل المقنع، لم يكن لفرعون رَدٌّ عليه؛ لذلك لما سمع هذه المسألةَ } قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىا كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىا { [طه: 50] لم يستطع أنْ ينقضَ هذا الدليل، فأراد أنْ يُخرِج الحوار من دليل الجد إلى مسألة أخرى يهرب إليها، مسألة فرعية لا قيمة لها: } قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَىا {

(/2381)


قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)


أي: ما شأن الأمم السابقة؟ لكن ما دَخْل القرون الأولى بما نتكلّم فيه؟ كلمة البال: هو الفكر، نقول: خطر ببالي. أي: بفكري، ولا يأتي في الفكر وبُؤْرة الشعور إلا الأمر المهم.
لكن، سرعان ما أحسَّ موسى بمراوغة فرعون، ومحاولة الهرب من الموضوع الأساسي فسَدَّ عليه الباب.

(/2382)


قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)


فهذه المسألة ليست من اختصاصي؛ لأن الذي يُسأل عن القرون الأولى هو الذي يُجازيها، وينبغي أنْ يعلم حالها، وما هي عليه من الإيمان أو الكفر؛ لِيُجازيها على ذلك، إذن: هذا سؤال لا موضعَ له، إنه مجرد هَزْل ومهاترة وهروب، فلا يعلم حال القرون الأولى إلا الله؛ لأن سبحانه هو الذي سَيُجازيها.
ومعنى { فِي كِتَابٍ } [طه: 52] أي: سجّلها في كتاب، يطلع عليه الملائكة المدبرات أمراً؛ ليمارسوا مهمتهم التي جعهلم الله لها، وليس المقصود من الكتاب أن الله يطّلع عليه ويعلم ما فيه؛ لأنه سبحانه { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 52].
ثم أرجعه موسى إلى القضية الأولى قضية الخلق، ولكن بصورة تفصيلية: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً }

(/2383)


الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)


مَهْداً: من التمهيد وتوطئة الشيء ليكون صالحاً لمهمته، كما تفعل في فراشك قبل أن تنام، ومن ذلك يسمى فراش الطفل مَهْداً؛ لأنك تُمهِّده له وتُسوّيه، وتزيل عنه ما يقلقه أو يزعجه ليستقر في مَهْده ويستريح.
ولا بُدَّ لك أنْ تقوم له بهذه المهمة؛ لأنه يعيش بغريزتك أنت، إلا أن تتنبه غرائزه لمثل هذه الأمور، فيقوم بها بنفسه؛ لذلك لزمك في هذه الفترة رعايته وتربيته والعناية به.
فمعنى { جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً } [طه: 53] أي: سوَّاها ومهَّدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها.
وليس معنى مهّدها جعلها مستوية، إنما سوّاها لمهمتها، وإلا ففي الأرض جبال ومرتفعات ووديان، وبدونها لا يستقيم لنا العيش عليها، فتسويتها تقتضي إصلاحها للعيش عليها، سواء بالاستواء أو التعرّج أو الارتفاع أو الانخفاض.
فمثلاً في الأرض المستوية نجد الطرق مستوية ومستقيمة، أما في المناطق الجبلية فهي مُتعرّجة مُلتوية؛ لأنها لا تكون إلا كذلك، ولها ميزة في التوائها أنك لا تواجه الشمس لفترة طويلة، بل تراوح بين مواجهة الشمس مرة والظل أخرى.
وسبق أن ضربنا مثلاً بالخطّاف الذي نصنعه من الحديد، فلو جعلناه مستقيماً ما أدَّى مهمته، إذن: فاستقامته في كَوْنه مُعْوجاً فتقول: سويته ليؤدي مهمته، ولو كان مستقيماً ما جذب الشيء المراد جَذْبه به.
إذن: نقول التسوية: جَعْل الشيء صالحاً لمهمته، سواء أكان بالاعتدال أو الاعوجاج، سواء أكان بالأمْت أو بالاستقامة.
ثم يقول تعالى: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } [طه: 53] أي: طرقاً ممهدة تُوصّلكم إلى مهماتكم بسهولة.
سلك: بمعنى دخل، وتأتي متعدية، تقول: سلك فلان الطريق. وقال تعالى:{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ }[المدثر: 42] فالمخاطبون مَسْلوكون في سقر يعني: داخلون، وقال:{ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ }[القصص: 32] أي: أدْخِلْها.
فتعديها إلى المفعول الداخل أو للمدخول فيه، فقوله: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } [طه: 53] متعدية للمدخول فيه أي: عديت المخاطب إلى المدخول فيه، فأنتم دخلتم، والسُّبل مدخول فيه. إذن: المفعول مرة يكون المسلوك، ومرة يكون المسلوك فيه.
وحينما تسير في الطرق الصحراوية تجدها مختلفة على قَدْر طاقة السير فيها، فمنها الضيّق على قَدْر القدم للشخص الواحد، ومنها المتسع الذي تسير فيه الجمال المحمّلة أو السيارات،فسلك لكم طرقاً مختلفة ومتنوعة على قَدْر المهمة التي تؤدونها.
ثم يقول تعالى: { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىا } [طه: 53].
وهذه أيضاً من مسألة الخَلْق التي لا يدعيها أحد؛ لأنها دَعْوى مردودة على مدعيها، فأنت يا مَنْ تدّعي الألوهية أخرِجْ لنا شيئاً من ذلك، إرِنَا نوعاً من النبات فلن يقدر، وبذلك لزمتْه الحجة.
كما أن إنزال الماء من السماء ليس لأحد عمل فيه، لكن عندما يخرج النبات قد يكون لنا عمل مثل الحَرْث والبَذْر والسَّقْي وخلافه، لكن هذا العمل مستمد من الأسباب التي خلقها الله لك؛ لذلك لما تكلم عن الماء قال (أنْزَلَ) فلا دَخْل لأحد فيه، ولما تكلم عن إخراج النبات قال (أَخْرَجْنَا) لأنه تتكاتف فيه صفات كثيرة، تساعد في عملية إخراجه، وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يحترم عملك السَّببي ويُقدِّره.

اقرأ قوله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }[الواقعة: 63ـ64] فأثبت لهم عملاً، واحترم مجهودهم، إنما لما حرثتم من أين لكم بالبذور؟ فإذا ما تتبعت سِلْسِلة البذور القبلية لانتهتْ بك إلى نبات لا قَبْلَ له. كما لو تتبعتَ سلسلة الإنسان لوجدتها تنتهي إلى أب، لا أب له إلا مَنْ خلقه.
وأنت بعد أن ألقيتَ البذرة في الأرض وسقيْتها، ألَكَ حيلة في إنباتها ونُموّها يوماً بعد يوم؟ أأمسكْتَ بها وجذبْتها لتنمو؟ أم أنها قدرة القادر{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىا * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىا }[الأعلى: 2ـ3].
لذلك يقول تعالى بعدها:{ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً }[الواقعة: 65]، فإنْ كانت هذه صنعتكم فحافظوا عليها.
كما حدث مع قارون حينما قال عن نعمة الله:{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ }[الزمر: 49].
فما دام الأمر كذلك فحافظ عليه يا قارون بما عندك من العلم، فلما خسف الله به وبداره الأرض دَلَّ ذلك على كذبه في مقولته.
ونلحظ في قوله تعالى:{ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً }[الواقعة: 65] أنه مؤكد باللام، لماذا؟ لأن لك شبهة عمل في مسألة الزرع، قد تُطمِعك وتجعلك مُتردّداً في القبول. إنما حينما تكلم عن الماء قال:
{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً }[الواقعة: 68ـ70].
هكذا بدون توكيد؛ لأنها مسألة لا يدَّعيها أحد لنفسه.
وقوله تعالى: } أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىا { [طه: 53] لم يقل: نباتاً فقط. بل أزواجاً؛ لأن الله تعالى يريد أن تتكاثر الأشياء، والتكاثر لا بُدَّ له من زوجين: ذكر وأنثى. وكما أن الإنسان يتكاثر، كذلك باقي المخلوقات؛ لأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ خلق الأرض وقدَّر فيها أقواتها، ولا بُدَّ لهذه الأقوات أن تكفي كل مَنْ يعيش علىهذه الأرض.
فإذا ضاقت الأرض، ولم تُخرِج ما يكفينا، وجاع الناس، فلنعلم أن التقصير مِنّا نحن البشر من استصلاح الأرض وزراعتها؛ لذلك حينما حدث عندنا ضيق في الغذاء خرجنا إلى الصحراء نستصلحها، وقد بدأت الآن تُؤتي ثمارها ونرى خيرها، والآن عرفنا أننا كنا في غفلة طوال المدة السابقة، فتكاثرنا ولم نُكثِّر ما حولنا من الرقعة الزراعية.
والذكر والأنثى ليسا في النبات فحسْب، بل في كل ما خلق الله:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36].
فالزوجية في كل شيء، عَلِمته أو لم تعلمه، حتى في الجمادات، هناك السالب والموجب والألكترونيات والأيونات في الذرة، وهكذا كلما تكاثر البشر تكاثر العطاء.
وقوله تعالى: } مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىا { [طه: 53] شتى مثل: مرضى جمع مريض فشتى جمع شتيت. يعني أشياء كثيرة مختلفة ومتفرقة، ليست في الأنواع فقط، بل في النوع الواحد هناك اختلاف.
فلو ذهبت مثلاً إلى سوق التمور في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أنواعاً كثيرة، مختلفة الأشكال والطُّعوم والأحجام، كلها تحت مُسمّى واحد هو: التمر. وهكذا لو تأملتَ باقي الأنواع من المزروعات.
ثم يذكر الحق ـ تبارك وتعالى ـ العِلَّة في إخراج النبات: } كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ {

(/2384)


كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)


(كُلُوا): تدل على أن الخالق عز وجل خلق الحياة، وخلق مقومات الحياة، وأولها القوت من الطعام والشراب، وهذه المقوّمات تناسبت فيها الملكية مع الأهمية، فالقوت أولاً، ثم الماء، ثم الهواء.
فأنت تحتاج الطعام وتستطيع أن تصبر عليه شهراً على قَدْر ما يختزن في جسمك من شحم ولحم، يتغذّى منها الجسم في حالة فقد الطعام؛ لأنك حين تأكل تستهلك جزءاً من الطعام في حركتك، ثم يُختزن الباقي في صورة دهون هي مخزن الغذاء في الجسم، فإذا ما نفد الدُّهْن امتصَّ الجسم غذاءه من اللحم، ثم من العظم، فهو آخر مخازن الغذاء في جسم الإنسان.
لذلك لما أراد سيدنا زكريا عليه السلام أن يعبر عن ضعفه، قال:{ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي }[مريم: 4].
لذلك تجد كثيراً ما يُتملّك الغذاء؛ لأنك تصبر عليه مدة طويلة تُمكِّنك من الاحتيال في طلبه، أو تُمكِّن غيرك من مساعدتك حين يعلم أنك محصور جوعان.
أما الماء فلا تصبر عليه أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة؛ لذلك قليلاً ما يُملِّك الماء لأحد.
أما الهواء فلا تصبر عليه أكثر من نفَس واحد، فمن رحمة الله بعباده ألاَّ يُملِّك الهواء لأحد، وإلاّ لو غضب عليك صاحب الهواء، فمنعه عنك لمتّ قبل أنْ يرضى عنك، وليس هناك وقت تحتال في طلبه.
وقوله تعالى: { وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } [طه: 54] لأنها تحتاج أيضاً إلى القُوت، وقال تعالى في أية أخرى:{ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ }[النازعات: 33] ثم يصبّ الجميع في أن يكون متاعاً للإنسان الذي سخّر الله له كل هذا الكون.
وقوله تعالى: { إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَىا } [طه: 54].
آيات: عجائب. والنُّهَى: جمع نُهية مثل قُرَبْ جمع: قُرْبة. والنُّهَى: العقول، وقد سمّاها الله تعالى أيضاً الألباب، وبها تتم عملية التدبير في الاختيارات.
والعقل من العقال الذي تعقل به الدابة حتى لا تشرد منك، وكذلك العقل لم يُخلَق لك كي تشطح به كما تحب، إنما لتعقل غرائزك، وتحكمها على قَدْر مهمتها في حياتك، فغريزة الأكل مثلاً لبقاء الحياة، وعلى قَدّْر طاقة الجسم، فإنْ زادت كانت شراهة مفسدة.
وقد جُعل حُبُّ الاستطلاع للنظر في الكون وكَشْف أسراره وآيات الله فيه، فلا ينبغي أنْ تتعدّى ذلك، فتتجسس على خَلْق الله.
وسُمِّيَتْ العقول كذلك النُّهَى، لأنها تنهي عن مثل هذه الشطحات. إذن: فلا بد للإنسان من عقل يعقل غرائزه، حتى لا تتعدى المهمة التي جُعلَتْ لها، ويُوقِفها عند حَدِّها المطلوب منها، وإلا انطلقتْ وعربدتْ في الكون، لا بُدَّ للإنسان من نُهية تنهاه وتقول له: لا لشهوات النفس وأهوائها، وإلاّ فكيف تُطلِق العنان لشهواتك، ولست وحدك في الكون؟ وما الحال لو أطلق غيرك العنان لشهواتهم؟
وسُمِّي العقل لُبّاً، ليشير لك إلى حقائق الإشياء لا إلى قشورها، ولتكون أبعد نظراً.

وأعمق فكراً في الأمور. فحين يأمرك أن تعطي شيئاً من فضل مالك للفقراء، فسطحية التفكير تقول: لا كيف أتعب وأعرق في جمعه، ثم أعطيه للفقير؟ وهو لم يفعل شيئاً؟
أماحين تتعمق في فَهْم الحكمة من هذا الأمر تجد أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ قال لك: أعط المحتاجين الآن وأنت قادر حتى إذا ما احتجتَ تجد مَنْ يعطيك، فقد يصبر الغني فقيراً، أو الصحيح سقيماً، أو القوي ضعيفاً، فهذه سنة دائرة في الخَلْق متداولة عليهم.
وحين تنظر إلى تقييد الشرع لشهواتك، فلا تنسَ أنه قيَّد غيرك أيضاً بنفس المنهج وبنفس التكاليف. فحين يقول لك: لا تنظر إلى محارم الناس وأنت فرد فهو في نفس الأمر يكون قد أمر الناس جميعاً ألاّ ينظروا إلى حرماتك.
وهكذا جعل الخالق عز وجل آلة العقل هذه، لا لنعربد بها في الكون، إنما لنضبط بها الغرائز والسلوك، ونحرسها من شراسة الأهواء، فيعتدل المجتمع ويسْلَم أفراده.
وإلاَّ فإذا سمحتَ لنفسك بالسرقة، فاسمح للآخرين بالسرقة منك!! إذن: فمن مصلحتك أنت أنْ يوجد تقنين ينهاك، ومنهج يُنظِّم حياتك وحياة الآخرين.
والحق سبحانه يقول: } مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ {

(/2385)


مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)


نلحظ هنا أن موسى ـ عليه السلام ـ يعرض على فرعون قضايا لا تخصُّ فرعون وحده، إنما تمنع أنْ يوجد فرعون آخر.
وقوله: { مِنْهَا } [طه: 55] أي: من الأرض التي سبق أنْ قال عنها:{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً }[طه: 53].
ثم ذكر لنا مع الأرض مراحل ثلاث: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىا } [طه: 55].
وفي آية أخرى يذكر مرحلة رابعة، فيقول:{ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }[الأعراف: 25].
بذلك تكون المراحل أربعة: منها خلقناكم، وفيها تحيَوْن، وإليها تُرجعون بالموت، ومنها نُخرجكم بالبعث.
فقوله تعالى: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } [طه: 55] الخلْق قِسْمان: خَلْق أولي، وخَلْق ثانوي، الخلق الأَوليّ في أدم عليه السلام، وقد خُلِق من الطين أي: من الأرض. ثم الخَلْق الثاني، وجاء من التناسل، وإذا كان الخَلْق الأَوْلي من طين، فكل ما ينشأ عنه يُعَدّ كذلك؛ لأنه الأصل الأول.
ويمكن أن نُوجِّه الكلام توجيهاً آخر، فنقول: التناسل يتولد من ميكروبات الذكورة وبويضات الأنوثة، وهذه في الأصل من الطعام والشراب، وأصله أيضاً من الأرض. إذن: فأنت من الأرض بواسطة أو بغير واسطة.
وإنْ كانت قضية الخَلْق هذه قضية غيبية، فقد ترك الخالق في كونه عقولاً تبحث وتنظر في الكون، وتعطينا الدليل على صِدْق هذه القضية، فلما حلّل العلماء طينة الأرض وجدوها ستة عشر عنصراً تبدأ بالأكسوجين، وتنتهي بالمنجنيز، وحين حلّلوا عناصر الإنسان وجدوها نفس العناصر الستة عشر، ليثبتوا بذلك البحث التحليلي صِدْق قضية الخَلْق التي أخبر عنها الخالق عز وجل.
وقوله: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [طه: 55] هذه مرحلة مشاهدة، فكُلُّ مَنْ يموت مِنّا ندفنه في الأرض؛ لذلك يقول الشاعر:إنْ سَئِمْتَ الحياةَ فَارْجِعْ إلَى الأرْضِ تَنَمْ آمِناً مِنَ الأوْصَابهِيَ أُمُّ أحْنَى عَليْكَ مِنَ الأم التي خَلَّفتْك للإتْعَابِفبعد أن تُنقض بنية الإنسان بالموت لا يسارع إلى مواراته التراب إلا أقرب الناس إليه، فترى المرأة التي مات وحيدها، وأحب الناس إليها، والتي كانت لا تطيق فراقه ليلة واحدة، لا تطيق وجوده الآن، بل تسارع به إلى أمه الأصلية (الأرض).
وذلك لأن الجسد بعد أنْ فارقته الروح سرعان ما يتحول إلى جيفة لا تطاق حتى من أمه وأقرب الناس إليه، أما الأرض فإنها تحتضنه وتمتصُّ كل مافيه من أذى.
ومن العجائب في نَقْض بنية الإنسان بالموت أنها تتم على عكس بنائه، فعندما تكلم الخالق عز وجل عن الخلق الأول للإنسان قال: إنه خلق من تراب، ومن طين، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار. وقلنا: إن هذه كلها أطوار للمادة الواحدة، ثم بعد ذلك ينفخ الخالق فيه الروح، فتدبّ فيه الحياة.
فإذا ما تأملنا الموت لوجدناه على عكس هذا الترتيب، كما أنك لو بنيتَ عمارة من عِدَّة أدوار، فآخر الأدوار بناءً أولها هَدْماً.

كذلك الموت بالنسبة للإنسان يبدأ بنزع الروح التي وُضِعَتْ فيه آخراً، ثم يتصلّب الجسد و(يشضب) كالصلصال ثم يرمّ، ويُنتن كالحمأ المسنون، ثم يتبخر ما فيه من ماء، وتتحلل باقي العناصر، فتصير إلى التراب.
ثم يقول تعالى: } وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىا { [طه: 55] أي: مرة أخرى بالبعث يوم القيامة، وهذا الإخراج له نظام خاصّ يختلف عن الإخراج الأول؛ لأنه سيبدأ بعودة الروح، ثم يكتمل لها الجسد.
هذه كلها قضايا كونية تُلْقَى على فرعون عَلَّها تُثنيه عَمَّا هو عليه من ادّعاء الألوهية، والألوهية تقتضي مألوهاً، فالإله معبود له عابد، فكيف يَدّعي الألوهية، وليس له في الربوبية شيء؟ فلا يستحق الألوهية والعبادة إلا مَنْ له الربوبية أولاً، وفي الأمثال: (اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي).
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا {

(/2386)


وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)


الآيات: الأمور العجيبة، كما نقول: فلان آية في الذكاء، آية في الحسن، آية في الكرم. يعني: عجيب في بابه، وسبق أنْ قسّمنا آيات الله إلى: آيات كونية كالشمس والقمر، وآيات لإثبات صِدْق الرسُل، وهي المعجزات وآيات القرآن الكريم، والتي تسمى حاملة الأحكام.
لكن آيات الله ـ عز وجل ـ كثيرة ولا تُحصى، فهل المراد هنا أن فرعون رأى كل آيات الله؟ لا؛ لأن المراد هنا الآيات الإضافية، وهي الآيات التسعة التي جعلها الله حُجّة لموسى وهارون، ودليلاً على صِدْقهما، كما قال سبحانه:
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ }[الإسراء: 101].
وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم والسنين والنقص من الثمرات. تلك هي الآيات التي أراها الله لفرعون.
والكلية في قوله: { آيَاتِنَا كُلَّهَا } [طه: 56] كلية إضافية. أي: كل الآيات الخاصة به كما تقول لولدك (لقد أحضرتُ لك كل شي) وليس المقصود أنك أتيتَ له بكل ما في الوجود، إنما هي كلية إضافية تعني كل شيء تحتاج إليه.
ومع ذلك كانت النتيجة { فَكَذَّبَ وَأَبَىا } [طه: 56] كذَّب: يعني نسبها إلى الكذب، والكذب قَوْل لا واقعَ له، وكان تكذيبه لموسى عِلَّة إبائه { وَأَبَىا } [طه: 56] امتنعَ عن الإيمان بما جاء به موسى.
ولو ناقشنا فرعون في تكذيبه لموسى عندما قال:{ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىا كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىا }[طه: 50].
لما كذبتَ يا فرعون؟ الحق سبحانه قال: خلقتُ هذا الكون بما فيه، ولم يَأْتِ أحد لينقضَ هذا القول، أو يدَّعيه لنفسه، حتى أنت يا مَنْ ادعيْتَ الألوهية لم تدَّعِ خَلْق شيء، فهي ـ إذن ـ قضية مُسلَّم بها للخالق عز وجل لم ينازعه فيها أحد، فأنت ـ إذن ـ كاذب في تكذيبك لموسى، وفي إبائك الإيمان به.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا }

(/2387)


قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)


عاش المصريون قديماً على ضفاف النيل؛ لذلك يقولون: مصر هِبَة النيل، حتى إذا ما انحسر الماء بذروا البذور وانتظروها طوال العام، ليس لهم عمل ينشغلون به، وهذه الحياة الرتيبة عوَّدتهم على شيء من الكسل، إلا أنهم أحبُّوا هذا المكان، ولو قلت لواحد منهم: اترك هذه الأرض لمدة يوم أو يومين يثور عليك ويغضب.
لذلك استغلّ فرعون ارتباط قومه بأرض مصر، وحاول أن يستعدي هؤلاء الذين يمثّل عليهم أنه إله، يستعديهم على موسى وهارون فقال مقولته هذه { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَىا } [طه: 57].
وهنا ثار القوم، لا لألوهية فرعون المهددة، إنما دفاعاً عن مصلحتهم الاقتصادية، وما ينتفعون به على ضفاف هذه النيل المبارك، الذي لا يضنّ عليهم في فيضانه ولا في انحساره، فكان القوم يسمونه: ميمون الغَدَوات والروحَات، ويجري بالزيادة والنقصان كجرْي الشمس والقمر، له أوان.
وهكذا نقل فرعون مجال الخلاف مع موسى وهارون إلى رعيته، فأصبحت المسألة بين موسى وهارون وبين رعية فرعون؛ لأنه خاف من كلام موسى ومِمّا يعرضه من قضايا إنْ فهمها القوم كشفوا زَيْفه، وتنمَّروا عليه، وثاروا على حكمه، ورفضوا ألوهيته لهم، فأدخلهم طرفاً في هذا الخلاف.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ }

(/2388)


فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)


فسمَّى فرعون ما جاء به موسى سِحْراً؛ لذلك قال { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } [طه: 58] وهذه التسمية خاطئة في حق موسى، وإنْ كانت صحيحة بالنسبة لقوم فرعون. فما الفرق ـ إذن ـ بين ما جاء به موسى وما جاء به قوم فرعون؟
السحر لا يقلب حقيقة الشيء، بل يظل الشيء على حقيقته، ويكون السحر للرائي، فيرى الأشياء على غير حقيقتها، كما قال تعالى:{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ }[الأعراف: 116] فلما ألقى السحرةُ حبالهم كانت حبالاً في الحقيقة، وإنْ رآها الناظر حيّات وثعابين تسعى، أما عصا موسى فعندما ألقاها انقلبت حية حقيقية، بدليل أنه لما رآها كذلك خاف منها.
وقوله: { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [طه: 58] أي: نتفق على موعد لا يُخلفه واحد منّا { مَكَاناً سُوًى } [طه: 58] أي: مُسْتوياً؛ لأنه سيكون مشهداً للناس جميعاً فتستوي فيه مرائي النظارة، بحيث لا تحجب الرؤية عن أحد. أو (سُوىً) يعني: سواء بالنسبة لنا ولك، كما نقول: نلتقي في منتصف الطريق، لا أنا أتعب ولا أنت.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ }

(/2389)


قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)


معلوم أن الحدث يحتاج إلى مُحدِث له، ويحتاج إلى مكان يقع عليه، ويحتاج إلى زمان يحدث فيه، وقد عرفنا المحدِث لهذا اللقاء، وهما موسى وهارون من ناحية، وفرعون وسحرته من ناحية.
وقد حدد فرعون المكان، فقال{ مَكَاناً سُوًى }[طه: 58] بقي الزمان لإتمام الحدث؛ لذلك حدده موسى، فقال: { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } [طه: 59]؛ لأن الحدث لا يتم إلا في زمان ومكان.
لذلك لا نقول: متى الله ولا: أين الله؟ فالحق ـ تبارك وتعالى ـ ليس حَدَثاً، ومتى وأين مخلوقة لله تعالى، فكيف يحدُّه الزمان أو المكان؟
وقول موسى { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } [طه: 59] ولم يقُلْ: يوم الاثنين أو الثلاثاء مثلاً، ويوم الزينة يوم يجتمع فيه كل سُكَّان مصر، يظهر أنه يوم وفاء النيل، فيخرجون في زينتهم مسرورين بفيضان النيل وكثرة خيره وبركاته، وما زالت مصر تحتفل بهذا اليوم.
وكان القاضي لا يقضي بأمر الخراج إلا بعد أنْ يطّلع على مقياس النيل، فإنْ رآه يُوفي بريٍّ البلاد حدَّد الخراج وإلاَّ فلا.
لكن، لماذا اختار موسى هذه اليوم بالذات؟ لماذا لم يحدد أي يوم آخر؟ ذلك؛ لأن موسى ـ عليه السلام ـ كان على ثقة تامة بنصر الله له، ويريد أن تكون فضيحة فرعون على هذا الملأ، ووسط هذه الجمع، فمِثْل هذا التجمع فرصة لا يضيعها موسى؛ لأن النفس في هذا اليوم تكون مسرورة منبسطة، فهي أقرب في السرور لقبول الحق من أيٍّ وقت آخر.
وقوله: { وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } [طه: 59] أي: ضاحين، ويوم الزينة يمكن أن يكون في الصباح الباكر، أو في آخر النهار، لكن موسى متمكِّن واثق من الفوز، يريد أن يتم هذا اللقاء في وضح النهار، حتى يشهده الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَتَوَلَّىا فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ }

(/2390)


فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)


تولى: أي: ترك موسى و انصرف ليُدبِّر شأنه { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [طه: 60] الكيد: التدبير الخفي للخَصْم، والتدبير الخفيّ هنا ليس دليلَ قوة، بل دليل ضَعْف؛ لأنه قوةَ له على المجابهة الواضحة، مثل الذي يدسُّ السُّم للآخر لعدم قدرته على مواجهته.
إذن: الكيد دليل ضَعْف؛ لذلك نفهم من قوله تعالى عن النساء:{ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }[يوسف: 28] أنه ليس دليلاً على قوة المرأة، إنما دليلٌ على ضعفها، فكما أن كيدهُنّ عظيم، فكذلك ضعفُهن عظيم.
فمعنى { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [طه: 60] أدار فِكْره على ألوان الكَيْد المختلفة، ليختار منها ما هو أنكَى لخَصْمه، كما جاء في آية أخرى في شَأْنِ نوح عليه السلام{ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ }[يونس: 71].
وكأن الأمر الذي هو بصدده يتطلب وجهات نظر متعددة: نفعل كذا، أو نفعل كذا؟ ثم ينتهي من هذه المشاورة إلى رَأْي يجمع كل الاحتمالات، بحيث لا يفاجئه شيء بعد أنْ احتاط لكل الوجوه.
فالمعنى: اتفِقُوا على الخطة الواضحة التي تُوحِّد آراءكم عند تحقيق الهدف.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام:{ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ }[يوسف: 15]. أي: اتفقوا على هذا الرأي، وأجمعوا عليه، بعد أن قال أحدهم{ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً }[يوسف: 9]، فكان الرأي النهائي أنْ يجعلوه في غيابة الجب.
فهُمْ على آية حال سلالة نُبوة، لم يتأصل الشرُّ في طباعهم؛ لذلك يتضاءل شرُّهم من القتل إلى الإلقاء في متاهات الأرض إلى أهْوَن هذه الأخطار، أنْ يُلْقوه في الجُبِّ، وهذه صفة الأخيار، أما الأشرار الذين تأصل الشر في نفوسهم وتعمّق، فشرُّهم يتزايد ويتنامى، فيقول أحدهم: أريد أنْ أقابل فلاناً، فأبصق في وجهه، أو أضربه، أو أُقطّعه، بل رصاصة تقضي عليه فيُصعِّد ما عنده من الشر.
وبعد ذلك يرجُونَ له النجاة، فيقولون:{ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ }[يوسف: 10].
ثم يقول تعالى في شأن فرعون: { ثُمَّ أَتَىا } [طه: 60] أي: أتى الموعد الذي سبق تحديده، مكاناً وزماناً.
ثم يُحدِّثنا الحق سبحانه عن وقائع هذا اليوم، فيقول: { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىا وَيْلَكُمْ }

(/2391)


قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)


لما رأى موسى السحرة أراد أنْ يُحذِّرهم مِمَّا هم مُقبِلون عليه، وأنْ يعطيهم المناهي التي تمنعهم، فذكَّرهم بأن لهم رباً سيحاسبهم كما تقول لشخص، تراه مُقْدِماً على جريمة، لو فعلتَ كذا سأُبلغ عنك الشرطة، وستُعاقب بكذا وكذا، وتُذكّره بعاقبة جريمته.
{ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً } [طه: 61] افترى أي: جاء بالفِرْية، وهي تعمُّد الكذب { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } [طه: 61] يعني: يستأصلكم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىا } [طه: 61] أي: خسر.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ }

(/2392)


فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)


يبدو أن تخويفَ موسى لهم بقوله:{ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ }[طه: 61] قد أثَّر فيهم وأخافهم { فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ } [طه: 62] أخذوا يتساومون القَوْل ويتبادلون الآراء.
{ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَىا } [طه: 62] تحدثوا سِراً، وهذا دليل خوفهم من كلام موسى، ودليل ما فيهم من استعداد للخير، لكن انتهى رأيهم إلى الاستمرار في الشوط إلى آخره.

(/2393)


قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)


توقف العلماء طويلاً حول هذه الآية، لأن فيها قراءتين (إنْ هذان) بسكون (إنْ) والأخرى (إنَّ هذان) بالتشديد.
والقراءة التي نحن عليها قراءة حفص { إِنْ هَـاذَانِ لَسَاحِرَانِ } [طه: 63] و(إنْ) شرطية إنْ دخلت على الفعل، كما نقول: إنْ زارني زيد أكرمته، وتأتي نافية بمعنى ما، كما في قوله تعالى:{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }[المجادلة: 2].
فالمعنى: ما أمهاتهم إلا اللائي وَلَدْنهم. كذلك في قوله تعالى: { إِنْ هَـاذَانِ لَسَاحِرَانِ } [طه: 63] فالمعنى: ما هذان إلا ساحران، فتكون اللام في { لَسَاحِرَانِ } [طه: 63] بمعنى إلا. كأنك قُلْتَ: ما هذان إلا ساحران.
وتأتي اللام بمعنى إلا، إذا اختلفنا مثلاً على شيء، كل واحد مِنّا يدَّعيه لنفسه، فيأتي الحكم يقول: لَزَيدُ أحقُّ به، كأنه قال: ما هذا الشيء إلا لزيد. إذن: اللام تأتي بمعنى إلا.
وعلى القراءة الثانية بالتشديد (إنَّ هذان لساحران) فإنَّ حرف ناسخ ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، تقول: إنَّ زيداً مجتهدٌ، أما في الآية بهذه القراءة: (إنّ هذان لساحران) جاء اسم إنَّ هذان بالرفع بالألف؛ لأنه مثنى، والقاعدة تقتضي أن نقول (هذين).
فكيف يتم توجيه إنَّ المشددة الناسخة وبعدها الاسم مرفوع؟
قالوا: هذه لغة كنانة إحدى قبائل العرب، وكان لكل قبيلة لهجتها الخاصة ولغتها المشهورة فيقولون: جعجعة خزاعة، وطُمْطُمانيّة حِمْيَر، وتَلْتلة بَهْراء، وفحفحة هذيل.. الخ.
ولما نزل القرآن نزل على جمهرة اللغة القرشية؛ لأن لغات العرب جميعها كانت تصبُّ في لغة قريش في مواسم الحج والشعر والتجارة وغيرها، فكانت لغة قريش هي السائدة بين لغات كل هذه القبائل؛ لذلك نزل بها القرآن، لكن الحق تبارك وتعالى أراد أن يكون للقبائل الأخرى نصيب، فجاءت بعض ألفاض القرآن على لهجات العرب المختلفة للدلالة على أن القرآن ليس لقريش وحدها، ليجعل لها السيادة على العرب، وإنما جاء للجميع.
ومن لهجات القبائل التي نزل بها القرآن لهجة كنانة التي تلزم المثنى الألف في كل أحواله رَفْعاً ونَصْباً وجراً. وشاهدهم في كتب النحو قول شاعرهم:وَاهَاً لِسَلْمى ثُمَّ وَاَهَا وَاهَا يَا ليْتَ عَيْناهَا لَنَا وَافَاهَاهِيَ المُنَى لَوْ أنَّنَا نِلْناهَا ومَوْضِع الخُلْخال من قَدمَاهَاإنَّ أبَاهَا وأبَا أَبَاهَا قَدْ بلغَا في المجْدِ غَايتَاهَافقال: إنَّ أباها. ولم يقل: إنَّ أبيها؛ لأنه يُلزِم المثنى الألف.
إذن: لم ينزل القرآن بلغة قريش على أنها لغة سيادة، وإنما لأنها تنطوي على زُبْدة فصاحات لغات الجزيرة كلها، وكانت لغة قريش تصفَّى في مواسم الشعر والأدب في عكاظ وذى المجنّة وغيرها.
نعود إلى قول الحق تبارك وتعالى: { قَالُواْ إِنْ هَـاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } [طه: 63] ويبدو أن استعداء فرعون لقومه على موسى وهارون جاء بنتيجة ونالتْ حيلته من نفوسهم؛ لذلك يُردِّدون نفس كلام المعلم الكبير فرعون، فيتهمون موسى وهارون بالسحر.
وقولهم: { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىا } [طه: 63] طريقتهم المثلى. أي: ما ارتضاه القوم للعيش عليه، والمذهب والطريق الذي سلكوه. والمراد بالطريقة المثلى التي ساروا عليها أنهم اتخذوا واحداً منهم إلهاً يعبدونه ويأتمرون بأمر، تلك هي الطريقة المثلى!! والمثلى: أي الفاضلة مُذكّرها أمثل.

(/2394)


فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)


أي: تنبهوا واشحذوا كل أذهانكم، وكل فنونكم، وحركاتكم في السحر حتى لا يتمكنا من هذين الأمرين: إخراجكم من أرضكم، والقضاء على طريقتكم المثلى.
وهذا قَوْل بعضهم لبعض { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [طه: 64] فلا يُخفِي أحد فناً من فنون السحر، وليُقدّم كُلُّ مِنّا ما عنده؛ لأن عادة أهل الحِرَف أن يوجد بينهم تحاسد، فلا يُظهر الواحد منهم كل ما عنده مرة واحدة، أو يحاول أنْ يُخفي ما عنده حتى لا يطلع عليه الآخر، لكن في مثل هذا الموقف لا بُدَّ لهم من تضافر الجهود فالموقف حرِج ستعمُّ بلواه الجميع إنْ فشلنا في هذه المهمة.
وقوله: { ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً } [طه: 64] يعني: مجتمعين كأنكم يد واحدة، فهذا أهْيَبُ لكم وأدْخَلُ للرعب في قلوب خصمكم، كما أننا إذا جِئْنَا سوياً لم يتمكن أحد من التراجع، فيكون بعضنا رقيباً على بعض.
{ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىا } [طه: 64] أفلح: فاز، كما في قوله تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }[المؤمنون: 1] وهذا اللفظ مأخوذ من فلح الأرض ومنه الفلاحة؛ لأن الفلاح إذا شقَّ الأرض أو حرثَها ورعاها تعطيه خيرها، فحركتُه فيها حركة ميمونة مباركة.
لذلك، لما أراد الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن يُبيِّن لنا مضاعفة الأجر والثواب على الصدقة وعلى فعل الخير ضرب لنا مثلاً بالزرع، فقال تعالى:{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 261].
فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تعطي كل هذا العطاء، فما بالك بعطاء الخالق لهذه الأرض؟ لذلك عقب المثل بقوله تعالى:{ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ }[البقرة: 261].
ثم أُخِذَتْ كلمة الفلاح عَلماً على كل فلاح، ولو لم يكن فيه صِلَة بالأرض؛ لأن قصارى كل حركات الحياة أن تضمن للإنسان بقاء نَوْعه بالأكل، والأرض مصدر هذا كله، فكانت لذلك مصدراً للفوز.
وقوله: { مَنِ اسْتَعْلَىا } [طه: 64] أي: طلب العُلو على خَصْمه. لكن هل الفلاَح يكون لمن طلب العلو أم لمن علا بالفعل؟ طبعاً يكون لمن علا، إذن: مَنْ عَلاَ بالفعل لا بُدَّ أنْ يشحذَ ذِهْنه على أن يطلب العلو على خصمه، فمهما علا الخصم استعلى عليه أي: طلب العُلو، إذن: قبل علا استعلى.
ثم يقول الحق سبحانه عن السحرة: { قَالُواْ يامُوسَىا إِمَّآ أَن تُلْقِيَ }

(/2395)


قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)


تُلْقي: ترمي. والمراد أن يرمي واحد منهم ما أعدّه من سحر، فاختار موسى أنْ يُلْقُوا هم أولاً.

(/2396)


قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)


لأنهم إنْ ألقوا سِحْرهم كانت للعصا مهمة حين يلقيها موسى، فأراد أن يكون للعصا حركة بعد أن تنقلب إلى ثعبان أو حية أو جان، وإلا لو ألقى هو أولاً، فماذا سيكون عملها؟
وقد ألهم الله تعالى سحرة فرعون هذه الأدب في معركتهم مع موسى، فخيَّروه بين أنْ يلقي هو، أو يلقوا هُمْ، والله ـ تبارك وتعالى ـ يحُول بين المرء وقلبه، فألهمهم ذلك مع أنهم خصومه، وأنطقهم بما يؤيد صاحب المعجزة الخالدة، فقالوا:{ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىا }[طه: 65].
وقد اختار موسى ـ عليه السلام ـ أنْ يُلقي أخيراً؛ لأن التجربة التي مَرَّ بها في طوى مع ربه ـ عز وجل ـ لما قال له ربه:{ قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَىا }[طه: 19].
فلما ألقى موسى عصاه انقلبتْ إلى حيَّة تسعى ورأى هو حركتها، لكن لم يكُنْ بهذه التجربة شيء تلقفه العصا، فإذا ألقى موسى أولاً وتحوَّلَتْ العصا حية أو ثعباناً، فما الفرق بينها وبين حبال السحرة التي تحولتْ أمامهم إلى حيَّات وثعابين؟
إذن: لا بُدَّ من شيء يُميِّز عصا موسى كمعجزة عن سِحْر السحرة وشعوذتهم؛ لذلك اختار موسى أنْ يُلقي هو آخراً بإلهام من الله حتى تلقف عصاه ما يأفكون، فما يُلقَف لا بُدَّ أن يسبق ما يَلْقُف.
فمن حيث الحركة أمام الناظرين لا فَرْقَ بين عصا موسى وحبال السحرة وعِصِيهم، فكلها تتحرك، إنما تميزت عصا موسى بأنها تلقف ما يصنعون من السحر، وتتتبع حبالهم وعِصيَّهم، وتقفز هنا وهناك، فلها ـ إذن ـ عَيْن تبصر، ثم تلقف سحرهم في جوفها، ومع ذلك تظل كما هي لا تنتفخ بطنها مثلاً، وهذا هو موضع المعجزة في عصا موسى عليه السلام.
وقوله تعالى: { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىا } [طه: 66] إذن: فحركة العِصِيّ والحبال ليستْ حركة حقيقية، إنما هي تخيُّل { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } [طه: 66] فيراها تسعى، وهي ليست كذلك.
وقد قال تعالى عن هؤلاء السحرة:{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ }[الأعراف: 116] فجاءوا بأعمال تخيُّلية خادعة بأيِّ وسيلة كانت، فالبعض يقول مثلاً: إنهم وضعوا بها الزئبق، فلما حَمِيَتْ عليه الشمس تمدّد، فصارتْ الأشياء تتلوّى وتتحرك، فأياً كانت وسائلهم فهي مجرد تخيُّلات، أمَّا الساحر نفسه فيراها حِبَالاً على حقيقتها، وهذا هو الفرق بين سِحْر السحرة، ومعجزة عصا موسى.
والسحر يختلف عن الحِيَل التي تعتمد على خِفَّة الحركة والألاعيب والخُدَع، فالسحر أقرب ما يكون إلى الحقيقة في نظر الرائي، كما قال تعالى:{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَىا مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }[البقرة: 102].
إذن: هو فَنُّ يُتعلم، يعطي التخييل بواسطة تسخير الجنِّ، فهم الذين يقومون بكل هذه الحركات، فهي ـ إذن ـ ليستْ حيلاً ولا خفة حركة، إنما هي عملية لها أصول وقواعد تُدرَّس وتُتعَلَّم.

والخالق ـ عز وجل ـ حينما يعرض علينا قضية السحر، وأنه عبارة عن تَسخير الشياطين لخدمة الساحر، ويجعل لكل منهما القدرة على مضرّة الآخرين: الساحر بالسحر، والشياطين بما لديهم من قوة التشكّل في الأشكال المختلفة والنفاذ من الحواجز؛ لأن الجن خُلِقُوا من النار، والنار لها شفافية تنفذ خلال الجدار مثلاً.
أما الإنسان فَخُلِق من الطين، والطين له كثافة، وضربنا مثلاً لنقرب هذه المسألة، قلنا: هَبْ أنك تجلس خلف جدار، ووراء هذا الجدار تفاحة مثلاً وهي من الطينية المتجمدة، أيصل إليك من التفاحة شيء؟ إنما لو خلف الجدار نار فسوف تشعر من خلال الجدار بحرارتها. هذه ـ إذن ـ خصوصيات جعلها الخالق عز وجل للشياطين فضلاً عن أنهم يرونكُم من حيث لا ترونهم.
لكن، كان من لُطْف القدير بنا أن جعل لنا ما يحمينا من الشياطين، فجعل الحق ـ تبارك وتعالى ـ حين يتشكَّلون في الأشكال المختلفة تحكمهم هذه الأشكال، بمعنى لو أن الشيطان تشكّل لك في صورة إنسان فقد حكمتْه هذه الصورة، فلو أطلقتَ عليه الرصاص في هذه اللحظة لقتلتَه فعلاً.
لذلك؛ فالشيطان يخاف منك أكثر مما تخاف منه، ولا يظهرون لنا إلا ومضة ولمحة سريعة خَوْفاً أن يكون الرائي له على عِلْم بهذه المسألة فيمسك به وساعتها لن يفلت منك.
وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً وقال: " لقد هممت أن أربطه بسارية المسجد، يلعب به غلمان المدينة، إلا أنني ذكرت دعوة أخي سليمان } وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي { [ص: 35] ".
إذن: الحق سبحانه أعطاهم خصوصية التشكّل كما يحبون، إنما قيدهم بما يشكّلون به، كأنه يقول له: إذا تركتَ طبيعتك وتشكَّلْت بصورة أخرى فارْضَ بأنْ تحكمك هذه الصورة، وأن يتحكم فيك الأضعف منك، وإلا لَفزَّعوا الناس وأرهبوهم، ولم نسلم من شَرَّهم.
وكذلك الحال مع الساحر نفسه، فلديه بالسحر والطلاسم أن يُسخِّر الجن يفعلون له ما يريد، وهذه خصوصية تفوق بها قدرتُه قدرةَ الآخرين، ولديه بالسحر فُرْصة لا تتوفر لغيره من عامة الناس، فليس بينه وبين تكافؤ في الفُرص.
والله عز وجل يريد لخَلْقه أنْ تتكافأ فُرَصهم في حركة الحياة فيقول الساحر: إياك أن تفهم أن ما يسَّرته لك من تسخير الأقوى منك ليقدر على ما لا تقدر عليه يفيدك بشيء. أو أنك أخذتَ بالسحر فرصةً على غيرك، بل العكس هو الصحيح فلن تجنيَ من سِحْرك إلا الضرر والشقاء، فالسحر فتنة للإنسان، كما أنه فتنة للجن.
لذلك يقول تعالى:{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىا يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }

[البقرة: 102].
والفتنة هنا معناها أن نختبر استعماله لمدى مَا اعدَّه الله له، أيستعمله في الخير أم في الشر؟ فإنْ قُلْتَ: أتَعلَّم السحر لأستعمله في الخير. نقول: هذا كلامك ساعة التحمُّل، ولا تضمن نفسك ساعة الأداء. كما قلنا سابقاً في تحمُّل الأمانة حين تقبلها ساعة التحمل، وأنت واثق من قدرتك على أدائها في وقتها، ومطمئنٌ إلى سلامة نيتك في تحمُّلها، أما وقت الأداء فربما يطرأ عليك ما يُغيّر نيتك.
وكما جاء في قول الحق تبارك وتعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].
فاخترْنَ التسخير على الاختيار وحَمْل الأمانة؛ لأنهن لا يضمَنَّ القيام بها.
وقد أعذر الله تعالى إلى السحرة في قوله:{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىا يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }[البقرة: 102].
كأن الساحر مآله إلى الكفر؛ لأنه ابن أهواء وأغيار، لا يستطيع أن يتحكّم في نفسه فيُسخِّر قوة السحر في الخير، كما أن الله تعالى إذا أراد أن يُسخِّر القوى للخير: أيُسخِّر الطائع؟ أم يُسخِّر العاصي؟ سيُسخِّر الطائع، والجن الطائع لا يرضى أبداً بهذه المسألة.
إذن: لن يستطيع الساحر إلا تسخير الجن العاصي، كما قال تعالى:{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ }[الأنعام: 121].
لذلك تلاحظ أن كل الذين يشتغلون بهذه العملية على سَمْتهم الغضب، وعلى سحنتهم آثار الذنوب وشُؤْمها، ينفر منهم مَنْ رآهم، يعيشون في أضيق صور العيش، فترى الساحر يأخذ من هذا، ويأخذ من هذا، ويبتز الناس ويخدعهم، ومع ذلك تراه شحاذاً يعيش في ضيق، ويموت كافراً مُبْعَداً من رحمة الله حتى أولاده من بعده لا يَسْلمَون من شُؤْمه، وصدق الله العظيم حين قال:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }[الجن: 6].
كما أن في حياة السحرة لفتة، يجب أن نلتفت إليها، وهي أن السحرة الذين يصنعون السحر للناس ويخدعونهم: من أين يرتزقون؟ من عامة الناس الذين لا يفهمون في السحر شيئاً، ولو أنه أفلح بالسحر لأغنى نفسه عن أنْ تمتد يده إلى هذا، فيأخذ منه عدة جنيهات، وإلى هذا يطلب منه أشياء غريبة يُوهمه أن مسألته لن تُحّل إلا بها.
ولماذا لم يستخدم سحره في سرقة خزينة مثلاً ويريح نفسه من هذا العناء، وإنْ قال: كيف وهي أموال الناس والسطو عليها سرقة، فليذهب إلى الرِّكاز وكنوز الأرض فليست مملوكة لأحد.
نعود إلى سحرة فرعون؛ أياً كان سحرهم أمِنْ نوع الألاعيب وخِفّة الحركة وخداع الناظرين؟ أم من نوع السحر الذي علّمته الشياطين من زمن سليمان ـ عليه السلام ـ فهو سحر لن يقف أمام معجزة باهرة جاءت على يد موسى لإثبات صدقه.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: } فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً {

(/2397)


فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)


أوجس: من الإيجاس، وهو تحرّك شيء مخيف في القلب لا يتعدّى إلى الجوارح، فإنْ تعدى إلى الجوارح يتحول إلى عمل نزوعي، كأن يهرب أو يجري، فالعمل النزوعي يأتي بعد الإحساس الوجداني؛ لذلك يقول بعدها: { فِي نَفْسِهِ } [طه: 67].
وقد شعر موسى عليه السلام بالخوف لما رأى حبال السحرة وعِصيّهم تتحول أمام النظارة إلى حيَّات وثعابين، وربما اكتفى المشاهدون بما رأَوْه فهرجوا عليه وأنهوا الموقف على هذا أنْ يتمكّن هو من عمل شيء. فإنْ قُلْت: فلماذا لم يُلْقِ عصاه وتنتهي المسألة؟ نقول: لأن أوامره من الله أولاً بأول، وهو معه يتتبعه سماعاً ورؤية، فتأتيه التعاليم جديدة مباشرة.

(/2398)


قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)


هذا حكم الله عز وجل يأتي موسى على هيئة برقية مختصرة { أَنتَ الأَعْلَىا } [طه: 68] أنت المنصور الفائز فاطمئن، لكن تتحرك في موسى بشريته: منصور كيف؟
وهنا يأتيه الأمر العملي التنفيذي بعد هذا الوعد النظري، وكأن الحق سبحانه متتبع لكل حركات نبيه موسى، ولم يتركه يباشر هذه المسألة وحده، إنما كان معه يسمع ويرى، فيردُّ على السماع بما يناسبه، ويردُّ على الرؤية بما يناسبها. ودائماً يرهف النبي سمعه وقلبه إلى ما يُلْقي عليه من توجيهات ربه عز وجل؛ لذلك خاطبه ربه بقوله:{ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىا }[طه: 46].
فسيأتيك الرد المناسب في حينه. إذن: الحق سبحانه لم يخبر موسى بمهمته مع فرعون ثم تركه يباشرها بنفسه، وإنما تمَّتْ هذه المسألة بتوجيهات مباشرة من الله تعالى.

(/2399)


وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)


وهذا أصل المعجزة في عصا موسى، أن تلقف وتبتلع ما يأفكون من السحر وكلمة { تَلْقَفْ } [طه: 69] تعطيك الصورة الحركية السريعة التي تُشبه لمح البصر، تقول: تلقفتُه يعني أخذتُه بسرعة وشدة، وهذه هي العِلّة في العصا أن تلقف ما صنعوا من السحر { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [طه: 69] والكَيْد: التدبير الخفيّ للتغلُّب على الخَصْم، لكن ماذا يفعل كَيْد الساحر وألاعيبه وتلفيقه أمام قدرة الرب تبارك وتعالى؟
ثم يقول تعالى: { وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىا } [طه: 69] سبق أنْ تكلّمنا في مسألة فَلاَح الساحر، وأنه مهما أوُتِي من قدرة على تسخير الجن لعمل شيء فوق طاقة الإنس، فلن يعطيه ذلك مَيْزةً على غيره، ولن تكون له قدرة على شيء.
فإياكم أن تظنوا أن الله تعالى ملَّك مصالحكم لهؤلاء، صحيح هو يفعل، أما الإصابة والأذى فبإذن الله وتحت عنايته:{ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ }[البقرة: 102] وهذه القضية لا تنسحب على الساحر فحسب، إنما على الوجود كله، وإلى أنْ تقوم الساعة.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً }

(/2400)


فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)


قال الزجاج في هذا الموقف: عجيب أمر هؤلاء، فقد ألقوا حبالهم وعِصيّهم للكفر والجحود، فإذا بهم يُلْقُون أنفسهم للشكر والسجود.
نعم، لقد دخلوا كافرين فجرة فخرجوا مؤمنين بررة، لأنهم جاءوا بكل ما لديهم من الكَيْد، وجمعوا صَفْوة السحر وأساتذته ممنْ يَعْلمون السحر جيداً، ولا تنطلي عليهم حركات السحرة وألاعيبهم، فلما رَأوا العصا وما فعلتْ بسحرهم لم يخالطهم شكٌّ في أنها معجزة بعيدة عَمّا يصنعونه من السحر؛ لذلك سارعوا ولم يترددوا في إعلان إيمانهم بموسى وهارون.
وهذا يدلُّنا على أن الفطرة الإيمانية في النفس قد تطمسها الأهواء، فإذا ما تيقظتْ الفطرة الإيمانية وأُزيلَتْ عنها الغشاوة سارعتْ إلى الإيمان وتأثرتْ به.
لقد سارع السحرة إلى الإيمان، وكان له هَوىً في نفوسهم، بدليل أنهم سيقولون فيما بعد:{ وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ }[السحر: 73] فكانوا مكرهين، كانوا أيضاً مُسخَّرين، بدليل قولهم:{ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ }[الأعراف: 113].
كأنهم كانوا لا يأخذون على السحر أجراً، فلما كانت هذه المهمة صعبة طلبوا عليها أجراً، فهي معركة تتوقف عليها مكانته بين قومه، أما ممارستهم للسحر إرهاباً للناس وتخويفاً لمن تُسوِّل له نفسه الخروج والتمرد على فرعون، فكان سُخْرة، لا يتقاضَوْن عليه أجراً.
لذلك لم يعارض فرعون سحرته في طلبهم، بل زادهم منحة أخرى{ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }[الأعراف: 114] فسوف تكونون سدنة الفرعونية، يريد أنْ يشحن هِمَمهم، ويشحذَ عزائمهم، حتى لا يدخروا وُسْعاً في فَنِّ السحر في هذه المعركة.
إذن: فطباعهم وفطرتهم تأبى هذا الفعل، وتعلم أنه كذب وتلفيق، لكن مذا يفعلون وكبيرهم يأمرهم به، بل ويُكرههم عليه، ويلزمهم أنْ يُعلِّموا غيرهم، لماذا؟ لأن السحر والشعوذة والتلفيق هي رأس ماله وبضاعته التي يسعى إلى ترويجها، فعليها يقوم مُلْكه وتُبْنى ألوهيته.
وقوله تعالى: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } [طه: 70] فَرْق بين{ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ }[الشعراء: 44] وهذا منهم عمل اختياري، وبين { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } [طه: 70]: يعني على غير اختيارهم وعلى غير إرادتهم، كأن صَوْلة الحق فاجأتْ صحوة الفطرة، فلم يملكوا إلا أنْ خرُّوا لله ساجدين، فالإلقاء هنا عمل تلقائي دون تفكير منهم ودون شعور، فقد فاجأهم الحق الواضح والمعجزة الباهرة في عصا موسى، لأنها ليستْ سِحْراً فهم أعلم الناس بالسحر.
ونلحظ في هذه الآية أنها جاءت بصيغة الجمع؛ أُلقى السحرةُ، قالوا، آمنا. لتدل على أنهم كانوا يَداً واحدة لم يشذْ منهم واحد، مما يدل على أنهم كانوا مكرهين مُسخَّرين.
كما أن إعلان إيمانهم جاء بالفعل المرئي المشاهد للجميع { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } [طه: 70]، ثم بالقول المسموع { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا } [طه: 70] وفي آية أخرى:{ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىا وَهَارُونَ }

[الشعراء: 47ـ48].
ونعلم أن موسى ـ عليه السلام ـ هو الأصل، ثم أُرسِل معه أخوه هارون، ولما عرضَ القرآن موقف السحرة مع موسى حكى قولهم: } آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا { [طه: 70] وقولهم:{ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء: 47ـ48].
لذلك كانت هذه المسألة مثارَ جَدَل من خصوم الإسلام، يقولون: ماذا قال السحرة بالضبط؟ أقالوا الأولى أم الثانية؟
ولك أن تتصور جمهرة السحرة الذين حضروا هذه المعركة، فكان رؤساؤهم وصفوتهم سبعين ساحراً، فما بالك بالمرؤوسين؟ إذن: هم كثيرون، فهل يُعقل مع هذه الكثرة وهذه الجمهرة أن يتحدوا في الحركة وفي القول؟ أم يكون لكل منهم انفعاله الخاص على حَسْب مداركه الإيمانية؟
لا شَكَّ أنهم لم يتفقوا على قول واحد، فمنهم مَنْ قال } آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا { [طه: 70] وآخرون قالوا:{ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء: 47ـ48].
كذلك كان منهم سطحيّ العبارة، فقال{ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء: 47ـ48] ولم يفطن إلى أن فرعون قد ادّعى الألوهية وقال أنا ربكم الأعلى فربما يُفهم من قوله{ رَبِّ مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء: 48] أنه فرعون، فهو الذي ربّى موسى وهو صغير.
وآخر قد فطن إلى هذه المسألة، فكان أدقَّ في التعبير، وأبعد موسى عن هذه الشبهة، فقال: } آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا { [طه: 70] وجاء أولاً بهارُون الذي لا علاقة لفرعون بتربيته، ولا فضل له عليه، ثم جاء بعده بموسى.
إذن: هذه أقوال متعددة ولقطات مختلفة لمجتمع جماهيري لا تنضبط حركاته، ولا تتفق تعبيراته، وقد حكاها القرآن كما كانت فليس لأحد بعد ذلك أن يقول: إنْ كان القول الأول صحيحاً، فالقول الآخر خطأ أو العكس.
وما أشبه هذا الموقف الآن بمباراة رياضية يشهدها الآلاف ويُعلِّقون عليها، تُرى أتتفق تعبيراتهم في وصف هذه المباراة؟
نقول: إذن، تعددت اللقطات وتعددت الأقوال للقصة الواحدة لينقل لنا القرآن كل ما حدث.
ثم يقص الحق سبحانه رد فعل فرعون على ما حدث، فيقول: } قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ... {

(/2401)


قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)


طبيعي أن يشتاط فرعون غضباً بعدما سمعه من سحرته، فقد جمعهم لينصروه فإذا بهم يخذلونه، بل ويُقوِّضون عرشه من أساسه فيؤمنون بإله غيره، ويا ليتهم لما خذلوه سكتوا،ـ إنما يعلنونها صريحة عالية مدوية:{ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا }[طه: 70].
{ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ... } [طه: 71] فمع الخيبة التي مُنِي بها ما يزال يتمسك بفرعونيته وألوهيته، ويهرب من الاستخزاء الذي حاق به، يريد أن يعطي للقوم صورة المتماسك الذي لم تُؤثّر فيه هذه الأحداث، فقال { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [طه: 71] فأنا كبيركم الذي علّمكم السحر، وكان عليكم أنْ تحترموا أستاذيته، وقد كنت سآذنُ لكم.
وكلمة (آمنتم) مادتها: أمِنَ. وقد أخذت حيزاً كبيراً في القرآن الكريم، والأصل فيها: أمِنَ فلان آمناً يعني: اطمأن. فليس هناك ما يُخوّفه. لكن هذه المادة تأتي مرة ثلاثية (أَمِنَ) وتأتي مزيدة بالهمزة (آمن).
وهذا الفعل يأتي متعدياً إلى المفعول مباشرة، كما في قوله تعالى{ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 3ـ4] يعني: آمن سكان مكة من الخوف.
وقد يتعدى بالباء كما في: آمنت بالله، أو يتعدى باللام كما في قوله تعالى:{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىا إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ }[يونس: 83] وآمن له يعني: صدَّقه فيما جاء به.
إذن: لدينا: آمَنَهُ يعني أعطاه الأمن، وآمن به: يعني اعتقده، وآمن له: يعني صَدَّقه.
وقد تأتي أَمن وآمن بمعنى واحد، كما في قول سيدنا يعقوب:{ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىا أَخِيهِ مِن قَبْلُ }[يوسف: 64].
فلماذا اختلفت الصيغة من آمن إلى أمِن؟
قالوا: لأن قوله{ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىا أَخِيهِ مِن قَبْلُ }[يوسف: 64] كانت تجربة أولى، فجاء الفعل (أَمن) مُجرّداً على خلاف الحال في المرة الثانية، فقد احتاجت إلى نوع من الاحتياط للأمر، فقال{ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ }[يوسف: 64] فزاد الهمزة للاحتياط.
فمعنى قول فرعون: { آمَنتُمْ لَهُ } [طه: 71] يعني أي: صدَّقتموه.
وتأمل هنا بلاغة القرآن في هذا التعبير { قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [طه: 71] ومَنِ الذي يقولها؟ إنه فرعون الآمر الناهي في قومه يتحدث الآن عن الإذن. وفَرْق بين أمر وأذن، أمر بالشيء يعني: أنه يحب ما أمر به، ويجب عليك أنت التنفيذ. أما الإذن فقد يكون في أمر لا يحبه ولا يريده، فهو الآن يأذن؛ لأنه لا يقدر على الأمر.
وما دُمْتُمْ قد آمنتم له قبل أن آذن لكم فلا بُدَّ أن يكون هو كبيركم الذي علّمكم السحر، فكان وفاؤكم له، واحترمتم هذا الكِبَر وساعدتموه على الفوز.
وهذا من فرعون سوء تعليل لواقع الإيمان، ففي نظره أن موسى تفوّق عليهم، لا لأنه يُجيد فنَّ السحر أكثر منهم، إنما تفوّق عليهم لأنهم جاملوه وتواطأوا معه؛ لأنه كبيرهم ومُعلِّمهم.

لذلك يتهدَّدهم قائلا: } فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ { [طه: 71].
جاء هذا التهديد والوعيد جزاءً لهم؛ لأنهم ـ في نظره ـ هزموه وخذوله في معركته الفاصلة أمام موسى عليه السلام، ومعنى: } مِّنْ خِلاَفٍ { [طه: 71] الخِلاَف أن يأتي شيء على خلاف شيء آخر، والكلام هنا عن الأيدي والأرجل، فيكون المراد اليد اليمنى مع الرِّجْل اليسرى، أو اليد اليُسْرى مع الرِّجْل اليُمْنى.
وقوله: } وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ { [طه: 71] المعروف أن التَّصلْيب يكون على الجذوع؛ لذلك حاول بعض المفسرين الخروج من هذا الإشكال فقالوا: (في) هنا بمعنى (على). لكن هذا تفسير لا يليق بالأسلوب الأعلى للبيان القرآنيّ، ويجب أن نتفق أولاً على معنى التصليب: وهو أن تأتي بالمصلوب عليه وهو الخشب أو الحديد مثلاً، ثم تأتي بالشخص المراد صَلْبه، وتربطه في هذا القائم رباطاً قوياً، ثم تشدّ عليه بقوة.
ولك أنْ تُجرِّب هذه المسألة، فتربط مثلاً عود كبريت على إصبعك، ثم تشدُّ عليه الرباط بقوة، وسوف تجد أن العود يدخل في اللحم، ساعتها تقول: العود في إصبعك، لا على إصبعك.
إذن قوله تعالى: } وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ { [طه: 71] (في) هنا على معناها الأصلي للدلالة على المبالغة في الصَّلْب تصليباً قوياً، بحيث يدخل المصلوب في المصلوب فيه، كأنه ليس عليه، بل داخل فيه.
ثم يقول: } وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىا { [طه: 71] أينا: المراد فرعون وموسى، أو فرعون ورب موسى الذي أرسله } أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىا { [طه: 71] فجمع في العذاب شدته من حيث الكيفية، ودوامه وبقاءه في الزمن. ولم يذكر القرآن شيئاً عن تهديد فرعون، أفعله أم لا؟ والأقرب أنه نفّذ ما هدد به.
وكان من المفروض في تهديد فرعون أن يأخذ من قلوب السَّحرة ويُرهبهم، فيحاولون على الأقل الاعتذار عَمَّا حدث، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل قالوا ما أهاجه أكثر: } قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىا مَا جَآءَنَا... {

(/2402)


قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)


الإيثار: تفضيل شيء على شيء في مجال متساوٍ تقول: آثرتُ فلاناً على فلان، وهما في منزلة واحدة، أو أن معك شيئاً ليس معك غيره، ثم جاءك فقير فآثرْتَهُ على نفسك.
ومنه قوله تعالى:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }[الحشر: 9].
فقولهم: { لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىا مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا... } [طه: 72] لأنه قال{ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىا }[طه: 71] أنا أمْ موسى؟ فالمعركة في نظره مع موسى، فأرادوا أنْ يُواجهوه بهذه الحقيقة التي اتضحتْ لهم جميعاً، وهي أن المعركة ليستْ مع موسى، بل مع آيات الله البينات التي أُرسِل بها موسى، ولن نُفضّلك على آيات الله التي جاءتْنا واضحة بيِّنة.
ولما رأى السحرة معجزة العصا كانوا هم أكثَر القوم إيماناً، وقد وَضُحَ عُمْق إيمانهم لما قالوا:{ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا }[طه: 70] ولم يقولوا: آمنا بموسى وهارون، إذن: فإيمانهم صحيح صادق من أول وَهْلة.
وقد تعرضنا لهذه المسألة في قصة سليمان مع ملكة سبأ، حين قالت:{ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[النمل: 44] فأنا وهو مسلمان لله، ولم تقل: أسلمت لسليمان، فهناك رب أعلى، الجميع مُسلِّم له.
إذن: فقوْل السَّحَرة لفرعون: { لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىا مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا } [طه: 72] تعبير دقيق وواعٍ وحكيم لا تلحظ فيه ذاتية موسى إنما تلحظُ البينة التي جاء بها موسى من الله.
لذلك يقول تعالى:{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىا تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ }[البينة: 1] ثم يُبين عند منْ جاءت البينة:{ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً }[البينة: 2].
فالارتقاء من الرسول إلى البينة إلى مَنْ أعطى له البينة، فهذه مراحل ثلاث.
والبينات، هي الأمور الواضحة التي تحسم كل جَدَلٍ حولها، فلا تقبل الجدل والمهاترات؛ لأن حجتها جليّة واضحة.
وقولهم: { وَالَّذِي فَطَرَنَا } [طه: 72] أي: ولن نُؤثرك أيضاً على الله الذي فطرنا، أو تكون { وَالَّذِي فَطَرَنَا } [طه: 72] قسم على ما يقولون، كما تقول: لن أفعل كذا والذي خلقك، فأنت تُقسِم ألاَّ تفعل هذا الشيء.
وهذه حيثية عدم الرجوع فيما قالوه وهو الإيمان بربِّ هارون وموسى.
ثم لم يَفُتْهم الإشارة إلى مسألة التهديدات الفرعونية:{ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه: 71].
لذلك يقولون: { فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [طه: 72] أي: نفَّذ ما حكمتَ به من تقطيع الأيدي والأرجل، أو أقْضِ ما أنت قاض من أمور أخرى، وافعل ما تريد فلم تعُدْ تخيفنا هذه التهديدات { إِنَّمَا تَقْضِي هَـاذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ } [طه: 72].
فأنت إنسان يمكن أن تموتَ في أي وقت، فما تقضي إلا مُدَّة حياتك، وربما يأتي من بعدك مَنْ هو أفضل منك فلا يدّعي ما ادَّعيْته من الألوهية.
وهَبْ أن مَنْ جاء بعدك كان على شاكلتك، فحياته أيضاً منتهية، وحتى لو ظَلَّ ما سننته للناس من ادعاء الألوهية إلى يوم القيامة، وامتدّ طغيان غيرك من بعدك، فالمسألة ستنتهي، ولو حتى بقيام الساعة.
كما سبق أن قُلْنا: إن نعيم الدنيا مهما بلغ فيتهدده أمران: إما أن تفوته أو يفوتك، أما نعيم الآخرة فنعيم بَاقٍ دائم، لا تفوته ولا يفوتك.
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا... }

(/2403)


إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)


فما دُمْنا رجعنا من الإيمان بالبشر إلى الإيمان بخالق البشر، فهذا رُشْدٌ في تفكيرنا لا يصح أنْ تلومنَا عليه، ثم أوضحوا حيثية إيمانهم { لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ } [طه: 73] فالإيمان بالله سينفعنا، وسيغفر لنا الخطايا وهي كثيرة، وسيغفر لنا ما أكرهتنا عليه من مسألة السحر، فقد صنعوا السحر مُكْرهين، ومارسوه مُجْبرين، فهو عمل لا يوافق طبيعتهم ولا تكوينهم ولا فطرتهم.
وما أكثر ما يُكْره الناس على أمور لا يرضونها، وينفذون أوامر وهم غير مقتنعين بها، خاصة في عصور الطُّغَاة والجبّارين، وقد سمعنا كثيراً عن السَّجانين في المعتقلات، فكان بعضهم تأتيه الأوامر بتعذيب فلان، فلماذا يفعل وهو يعلم أنه بريء مظلوم، ولا يطاوعه قلبه في تعذيبه، فكان يدخل على المسجون ويقول له: اصرخ بأعلى صوتك، ويُمثِّل أنه يضربه.
ثم يقولون: { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىا } [طه: 73] فأنت ستزول، بل دنياك كلها ستزول بمَنْ جاء بعدك من الطُّغَاة، ولن يبقى إلا الله، وهو سبحانه يُمتِّع كل خَلْقه بالأسباب في الدنيا، أما في الآخرة فلن يعيشوا بالأسباب. إنما بالمسبب عز وجل دون أسباب.
لذلك إذا خطر الشيء ببالك تجده بين يديك، وهذا نعيم الآخرة، ولن تصل إليه حضارات الدنيا مهما بلغتْ من التطور.
لذلك في قوله تعالى:{ حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً }[يونس: 24]، فمهما ظَنَّ البشر أنهم قادرون على كل شيء في دُنْياهم فهم ضُعفاء لا يستطيعون الحفاظ على ما توصّلوا إليه.
إذن: اجعل الله ـ تبارك وتعالى ـ في بالك دائماً يكُنْ لك عِوَضاً عن فائت، واستح أنْ يطلع عليك وأنت تعصيه. وقد ورد في الحديث القدسي: " إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟! ".
ولما سُئل أحد العارفين: فيم أفنيتَ عمرك؟ قال: في أربعة أشياء: علمتُ أنِّي لا أخلو من نظر الله تعالى طَرْفة عَيْن، فاستحييتُ أن أعصيه، وعلمتُّ أنَّ لي رِزْقاً لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي فقنعتُ به، وعلمتُ أن عليَّ ديناً لا يُؤدِّيه عنِّي غيري فاشتغلتُ به، وعلمتُ أن لي أَجَلاً يبادرني فبادرته.
وقد شرح أحد العارفين هذه الأربع، فقال: اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمَنْ لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه.
وهكذا جمعتْ هذه الأقوالُ الثمانية الدينَ كله.
ثم يُقدِّم السحرة الذين أعلنوا إيمانهم حيثيات هذا الإيمان، فقالوا: { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً... }

(/2404)


إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)


قوله: { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } [طه: 74] يعني مُجرِّماً عمل الجريمة، والجريمة أنْ تكسر قانوناً من قوانين الحق ـ عز وجل ـ كما يفعل البشر في قوانينهم، فيضعون عقوبة لمَنْ يخرج عن هذه القوانين، لكن ينبغي أن تُعيِّن هذه الجريمة وتُعلَن على الناس، فإذا ما وقع أحد في الجريمة فقد أعذر من أنذر.
إذن: لا يمكن أن تعاقب إلا بجريمة، ولا توجد جريمة إلا بنص.
وقوله: { يَأْتِ } أي: هو الذي سيأتي رغم إجرامه، ورغم ما ينتظره من العذاب. لكن لماذا خاطبوه بلفظ الإجرام؟ لأنه قال:{ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه: 71] ولم يفعلوا أكثر من أنْ قالوا كلمة الحق، فأيُّنا إذنْ المجرم؟
وقوله تعالى: { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىا } [طه: 74] لأن الموت سَيُريحهم من العذاب؛ لذلك يتمنَّوْنَ الموت، كما جاء في قوله تعالى:{ وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ }[الزخرف: 77] فيأتي رده{ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ }[الزخرف: 77].
وفَرْقٌ بين عذاب وموت، فالموت إنهاء للحياة، وليس بعد الموت إيلام، أمَّا العذاب فلا ينشأ إلا مع الحياة؛ لأنه إيلام حَيٍّ.
لذلك، فالحق ـ تبارك وتعالى لما عرض لهذه المسألة في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وأن سليمان قال:{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ }[النمل: 21] فالعذاب شيء، و الذبح شيء آخر؛ لأنه إنهاء للحياة الحاسة.
ومعنى: { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىا } [طه: 74] أن هناك مرحلة وحلقة بين الموت والحياة، حيث لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياةً سالمة من العذاب، فبقاؤهم في جهنم في هذه المرحلة، التي لا هي موت ولا هي حياة.

(/2405)


وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75)


فكأنهم كانوا يشيرون بقولهم:{ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً }[طه: 74] إلى فرعون، والآن يشيرون إلى أنفسهم، وما سلكوه من طريق الإيمان { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ } [طه: 75].
فجمعوا بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن الإيمان هو الينبوع الوجداني الذي تصدر عنه الحركات النزوعية على وَفْق المنهج الذي آمنت به، وإلا فما فائدة أنْ تؤمنَ بشيء، ولا تعمل له، وكثيراً ما جمع القرآن بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله: { فَأُوْلَـائِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىا } [طه: 75] الدرجات أي: درجات الجنة، فالجنة درجات، بعضها فوق بعض، أما النار فدركات، بعضها تحت بعض.
وقد جعل الحق ـ تبارك وتعالى ـ الجنة درجات؛ لأن أهلها متفاوتون في الأعمال، كما أنهم متفاوتون حتى في العمل الواحد؛ لأن مناط الإخلاص في العمل متفاوت.
لذلك جاء في الأثر: " الناس على خطر إلا العالمون، والعالمون على خطر إلا العاملون، والعاملون على خطر إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم ".
والعُلاَ: جمع عُليا. فما الدرجات العُلاَ؟

(/2406)


جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)


عدن: أي إقامة. مِنْ عَدَنَ في المكان: أقام فيه، فالمراد جنات أعِدَّتْ لإقامتك، وفرْق بين أنْ تُعِد المكان للإقامة وأنْ تُعِدَّ مكاناً لعابر، كما أن المكان يختلف إعداده وترفه حَسْب المُعِدْ وإمكاناته، فالإنسان العادي يُعِد مكاناً غير الذي يعده عظيم من العظماء، فما بالك إذنْ بمكان أعدّه لك ربك ـ عز وجل ـ بقدراته وإمكاناته؟
وقوله: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } [طه: 76].
نعلم أن الماء من أهم مقومات الحياة الدنيا، فبه تنبت الأرض النبات، وفيه تذوب العناصر الغذائية، وبدونه لا تقوم لنا حياة على وجه الأرض. والحق سبحانه وتعالى ساعةَ يُنزِل مطراً من السماء قد لا ينتفع بالمطر مَنْ نزل عليه المطر، فربما نزل على جبل مثلاً، فالنيل الذي نحيا على مائه يأتي من أين؟ من الحبشة وغيرها.
لذلك جعل الخالق ـ عز وجل ـ كلمة { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [طه: 76] رمزاً للخضرة وللنضارة وللنماء وللحياة السعيدة الهانئة، حتى الإنسان وإنْ لم يكُنْ محتاجاً للطعام بأنْ كان شبعان مثلاً، يجد لذة في النظر إلى الطبيعة الخضراء، وما فيها من زرع وورود وزهور، فليس الزرع للأكل فقط، بل للنظر أيضاً، وإنْ كنتَ تأكل في اليوم ثلاث مرات، والأكل غذاء للجسم، فأنت تتمتع بالمنظر الجميل وتُسَرُّ به كلما نظرتَ إليه، والنظر متعة للروح، وسرور للنفس.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول لنا: لا تقصروا انتفاعكم بنعم الله على ما تملكون، فتقول مثلاً: لا آكل هذه الفاكهة لأنها ليست مِلْكي، لأن هناك متعةً أخرى:{ انْظُرُواْ إِلِىا ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ }[الأنعام: 99] فقبل أن تأكل انظر، فالنظر متعة، وغذاء مستمر.
فقوله تعالى: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [طه: 76] لأن ظاهرة جريان الأنهار في الدنيا وسيلة للخُضْرة والخِصْب والإيناع، و { مِن تَحْتِهَا } [طه: 76] أي: أن الماء ذاتيّ فيها، ونابع منها، ليس جارياً إليك من مكان آخر، ربما يُمنَع عنك أن تُحرم منه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى:{ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ }[التوبة: 100] فتحتها أنهار جارية، لكن مصدرها ومنبعها من مكان آخر.
ونسب الجريان إلى النهر، لا إلى الماء للمبالغة. فالنهر هو المجرى الذي يجري فيه الماء.
ثم يقول تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا } [طه: 76] وهذا هو التأمين الحقّ للنعيم؛ لأن آفة النعم أنْ تزولَ، إمّا بأن تفوتها أنت أو تفوتك هي، أما نعيم الجنة فقد سَلَّمه الله تعالى من هذه الآفة، فهو خالد بَاقٍ، لا يزول ولا يُزال عنه.
{ وَذالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىا } [طه: 76] الزكاة: تُطلَق على الطهارة وعلى النماء، فالطهارة: أن يكون الشيء في ذاته طاهراً، والنماء: أنْ توجَد فيه خصوصية نمو فيزيد عَمَّا تراه أنت عليه.

كما ترى مثلاً الورد الصناعي والورد الطبيعي في البستان، وفيه المائية والنضارة والرائحة الطيبة والألوان المختلفة والنمو، وكلها صفات ذاتية في الوردة، على خلاف الورد الصناعي فهو جامد على حالة واحدة.
وهذا هو الفرق بين صَنْعة البشر وصَنْعة الخالق للبشر؛ لذلك كانت صنعة الله أخلد وأبقى، وصدق الله العظيم حين قال:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14].
وتلحظ أنه لم يَضِنّ عليك بصفة الخَلْق؛ لأنك استعملتَ الأسباب وأَعلمتَ الفكر، فكان لك شيء من الخلق، لكن ربَّك أحسنُ الخالقين؛ لأنك خلقتَ من باطن خِلْقته، خلقتَ من موجود، وهو سبحانه يخلق من عدم، خلقتَ شيئاً جامداً لا حياة فيه، وخلق سبحانه شيئاً نامياً، يتكاثر بذاته.
ومن هنا سُمِّي المال الذي تُخرجه للفقراء زكاةً؛ لأنه يُطهِّر الباقي ويُنمِّيه. ومن العجائب أن الله تعالى سَمّى ما يخرج من المال زكاة ونماءً، وسَمَّى زيادة الربا مَحْقاً.
فمعنى: } وَذالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىا { [طه: 76] أي: تطهَّر من المعاصي، ثم نَمَّى نفسه، ومعنى التنمية هنا ارتقاءات المؤمن في درجات الوصول للحق، فهو مؤمن بداية، لكن يزيد إيمانه وينمو ويرتقي يوماً بعد يوم، وكلما ازداد إيمانه ازداد قُرْبه من ربه، وازدادت فيوضات الله عليه. والطهارة للأشياء سابقة على تنميتها؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.
إذن: زكَّى نفسه: طهَّرها أولاً، ثم يُنمِّيها ثانياً، كمَنْ يريد التجارة، فعليه أولاً أن يأتي برأس المال الطاهر من حلال ثم يُنمِّيه، لكن لا تأتي برأس المال مُدنّساً ثم تُنمِّيه بما فيه من دَنَسٍ.
وكلما نَمَّى الإنسانُ إيمانَهُ ارتقى في درجاته، فكانت له الدرجات العُلاَ في الآخرة.

(/2407)


وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)


كان هذا الوحي لموسى ـ عليه السلام ـ بعد أنِ انتهت المعركة، وانتصر فيها معسكر الإيمان، أما فرعون فقد خسر سلاحاً من أهمِّ أسلحته وجانباً كبيراً من سَطْوته وجبروته.
وهنا جمع موسى بني إسرائيل، وهم بقايا ذرية آل يعقوب ليذهب بهم إلى أرض الميعاد، وسرعان ما أعدَّ فرعون جيشه وجمع جموعه، وسار خلفهم يتبعهم إلى ساحل البحر، فإذا بموسى وقومه مُحَاصرين: البحر من أمامهم، وفرعون بجيشه من خلفهم، وليس لهم مَخْرج من هذا المأزق.
هذا حُكْم القضايا البشرية المنعزلة عن ربِّ البشر، أما في نظر المؤمن فلها حَلٌّ؛ لأن قضاياه ليست بمعزل عن ربه وخالقه؛ لأنه مؤمن حين تصيبه مصيبة، أو يمسه مكروه ينظر فإذا ربُّه يرعاه، فيلجأ إليه، ويرتاح في كَنَفِه.
لذلك يقولون: لا كَرْبَ وأنت ربٌّ، وما دام لي رب ألجأ إليه فليست هناك معضلة، المعضلة فيمن ليس له رَبٌّ يلجأ إليه.
وقد ضربنا لذلك مثلاً ـ ولله المثل الأعلى ـ لو أن إنساناً معه في جيبه جنيه، فسقط منه في الطريق، فإذا لم يكُنْ عنده غيره يحزن أمّا إنْ كان لديه مال آخر فسوف يجد فيه عِوَضاً عَمَّا ضاع منه، هذا الرصيد الذي تحتفظ به هو إيمانك بالله.
وهنا جاء الأمر من الله تعالى لموسى ـ عليه السلام ـ ليُخرجه وقومه من هذا المأزق: { أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } [طه: 77].
أَسْرِ: من الإسراء ليلاً. أي: السير؛ لأنه أستر للسائر.
وقوله: { بِعِبَادِي } [طه: 77] كملة " عبد " تُجمع على " عبيد " و " عباد " والفَرْق بينهما أن كل مَنْ في الكون عبيد لله تعالى؛ لأنهم وإنْ كانوا مختارين في أشياء، فهم مقهورون في أشياء أخرى، فالذي تعوَّد باختياره على مخالفة منهج الله، وله دُرْبة على ذلك، فله قَهْريات مثل المرض أو الموت.
أما العباد فهم الصَّفْوة التي اختارت مراد الله على مرادها، واختياره على اختيارها، فإنْ خيَّرهم:{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29] خرجوا عن اختيارهم لاختيار ربهم.
لذلك نسبهم الله إليه فقال:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }[الحجر: 42] وقال عنهم:{ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }[الأنبياء: 26] وقال:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىا الأَرْضِ هَوْناً }[الفرقان: 63].
ويقول الحق سبحانه: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } [طه: 77] أي: يابساً جافاً وسط الماء.
والضرب: إيقاع شيء من ضارب بآلة على مضروب، ومنه ضرَب العملة أي: سكَّها وختمها، فبعد أنْ كان قطعةَ معدن أصبح عملة متداولة.
وضرب موسى البحر بعصاه فانفلق البحر وانحسر الماء عن طريق جافّ صالح للمشي بالأقدام، وهذه مسألة لا يتصورها قانون البشر؛ لذلك يُطمئنه ربه { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } [طه: 77] أي: من فرعون أنْ يُدرِككَ { وَلاَ تَخْشَىا } [طه: 77] أي: غرقاً من البحر؛ لأن الطريق مضروب أي: مُعَد ومُمهَّد وصالح لهذه المهمة.

وهذه معجزة أخرى لعصا موسى التي ألقاها، فصارت حية تسعى، وضرب بها البحر فانفلق فصار ما تحت العصا طريقاً يابساً، وما حولها جبالاً{ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }[الشعراء: 63] وهي التي ضرب بها الحجر فانبجس منه الماء.
والسياق هنا لم يذكر شيئاً عن الحوار الذي دار بين موسى وقومه حينما وقعوا في هذه الضائقة، لكن جاء في لقطة أخرى من القصة حيث قال تعالى:{ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 61ـ62].
وبتعدد اللقطات في القرآن تكتمل الصورة العامة للقصة، وليس في ذلك تكرار كما يتوهّم البعض.
فقبل أنْ يُوحِي إليه: } فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً { [طه: 77] قال القوم:{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء: 61] فقال: (كَلاّ). لكن كيف يقولها قَوْلة الواثق وما يخافون منه محتمل أنْ يقع بعد لحظة؟
نقول: لأنه لم يقل (كَلاَّ) من عنده، لم يَقُلها بقانون البشر، إنما بقانون خالق البشر{ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62] فأنا لا أغالطكم، ولسْتُ بمعزل عن السماء وتوجيه ربي.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ... {

(/2408)


فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)


قوله تعالى: { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [طه: 78] غشيهم يعني: غطّاهم الماء، وقد أبهم هذا الحدث للدلالة على فظاعته وهَوْله، وأنه فوق الحَصْر والوصف، كأن تقول في الأمر الذي لا تقدر على تفصيله: حصل ما حصل.
وفي لقطة أخرى لهذه الحادثة يُبيِّن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أن موسى ـ عليه السلام ـ بعد أن عبر بقومه آمناً أراد باجتهاده وترجيحاته الإيمانية أن يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى سيولته فلا يتمكن فرعون من اللحاق به، لكن توجيهات ربه لها شأن آخر. فأوحى الله إليه:{ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }[الدخان: 24].
أي: اتركه كما هو لا تُعِدْه إلى استطراق سيولته، فكما أنجيتك بالماء سأتلف عدوك بالماء، فسبحان مَنْ يُنجِي ويُهلك بالشيء الواحد.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ }

(/2409)


وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)


وسبق أن قال فرعون لقومه.{ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ }[غافر: 29].
فأين سبيل الرشاد الذي تحدَّث عنه فرعون بعدَ أنْ أطبق الله عليهم البحر؟ لقد سُقْتهم إلى الهلاك، ولم تسلك بهم مناط النجاة والهداية. فأنت ـ إذن ـ كاذب في ادعاء سبيل الرشاد؛ لأنك أضللتَهم ما هديتهم، وأهلكتهم ما نجَّيتهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { يابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ... }

(/2410)


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)


لله عز وجل على بني إسرائيل منَنٌ كثيرة ونِعَم لا تُعَدُّ، كان مقتضى العبادية التي وصفهم بها{ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي }[طه: 77] أَن يُنَفِّذوا منهج ربهم، ويذكروا نعمه ذِكْراً لا يغيب عن بالهم أبداً، بحيث كلما تحركتْ نفوسهم إلى مخالفة ذكروا نعمةً من نِعَم الله عليهم، تذكّروا أنهم غير متطوعين بالإيمان، إنما يردُّون لله ما عليهم من نِعَم وآلاء.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ هنا يذكِّرهم ببعض نعَمه، ويناديهم بأحبِّ نداء { يابَنِي إِسْرَائِيلَ } [طه: 80] وإسرائيل يعني عند الله، عبده المخلص، كما تقول لصاحبك: يا ابن الرجل الطيب.. الورع، فالحق يُذكِّرهم بأصلهم الطيب، ينسبهم إلى نبي من أنبيائه. كأنه يلفت أنظارهم أنه لا يليق بكم المخالفة، ولا الخروج عن المنهج. وأنتم سلالة هذا الرجل الصالح.
وقوله تعالى: { قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ } [طه: 80] أي: من فرعون الذي استذلكم، وذبح أبناءكم، واستحي نساءكم ويُسخِّرهم في الأعمال دون أجر، وفعل بكم الأفاعيل، ثم { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ } [طه: 80] لتأخذوا المنهج السليم لحركة الحياة. إذن: خلَّصْناكم من أذى، وواعدناكم لنعمة.
{ وَوَاعَدْنَاكُمْ } [طه: 80] واعد: مفاعلة لا تكون إلا من طرفيْن مثل: شارك وخاصم، فهل كان الوَعْد من جانبهما معاً: الله عز وجل وبني إسرائيل؟ الوَعْد كان من الله تعالى، لكن لم يقُلْ القرآن: وعدناكم. بل أشرك بني إسرائيل في الوعد، وهذا يُنبِّهنا إلى أنه إذا وعدك إنسان بشيء ووافقتَ، فكأنك دخلتَ في الوعد.
وجانب الطور الأيمن: مكان تلقِّي منهج السماء، وهو مكان بعيد في الصحراء، لا زرعَ فيه ولا ماء؛ لذلك يضمن لهم ربُّهم عز وجل ما يُقِيتهم { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىا } [طه: 80].
المنّ: سائل أبيض يشبه العسل، يتساقط مثل قطرات بلورية تشبه الندى على ورق الأشجار، وفي الصباح يجمعونه كطعام حلو. وهذه النعمة ما زالت موجودة في العراق مثلاً، وتقوم عليها صناعة كبيرة هي صناعة المنّ.
والسَّلْوى: طائر يشبه طائر السَّمان.
وهكذا وفَّر لهم الحق ـ تبارك وتعالى ـ مُقوِّمات الحياة بهذه المادة السُّكَّرية لذيذة الطعم تجمع بين القشدة مع عسل النحل، وطائر شهي دون تعب منهم، ودون مجهود، بل يروْنَه بين أيديهم مُعَدّاً جاهزاً، وكان المنتظر منهم أن يشكروا نعمة الله عليهم، لكنهم اعترضوا عليها فقالوا:
{ لَن نَّصْبِرَ عَلَىا طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىا بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ }[البقرة: 61].
وفي سورة البقرة ذكر مع هذه النعمة التي صاحبتهم في جَدْب الصحراء نعمة أخرى، فقال تعالى:{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىا }[البقرة: 57] أي: حَمْيانكم من وهج الشمس وحرارتها حين تسيرون في هذه الصحراء.
ونلحظ اختلاف السياق هنا { نَزَّلْنَا } ، وفي البقرة قال: { أنْزَلْنَا }؛ ذلك لأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يعالج الموضوع في لقطات مختلفة من جميع زواياه، فقوله { أنْزَلْنَا } تدل على التعدِّي الأول للفعل، وقد يأتي لمرة واحدة، إنما { نَزَّلنَا } فتدلُّ على التوالي في الإنزال.
وأهل الريف في بلادنا يُطلِقون المنَّ على مادة تميل إلى الحمرة الداكنة، ثم تتحول إلى السواد، تسقط على النبات، لكنها ليست نعمةً، بل تُعَدُّ آفة من الآفات الضارة بالنبات.
ثم يقول الحق سبحانه: { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... }

(/2411)


كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)


الطعام والشراب والهواء مُقوِّمات الحياة التي ضمنها الله عز وجل لنا، والأمر بالأكل هنا للإباحة، وليست فَرْضاً عليك أنْ تأكل إلا إذا أردتَ الإضراب عن الطعام إضراباً يضرُّ بحياتك فعندها تُجبر عليه.
وقوله: { مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [طه: 81] خصَّ الطيبات؛ لأن الرزق: منه الطيب، ومنه غير الطيّب، فالرزق: كُلّ ما انتفعتَ به ولو كان حراماً. بمعنى أن ما نِلْتَه من الحرام هو أيضاً من رزقك إلا أنك تعجَّلته بالحرام، ولو صبرْتَ عليه وعففْتَ نفسك عنه لَنِلْتَ أضعافه من الحلال.
ثم يقول تعالى: { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } [طه: 81] وفي آية البقرة{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل: 118] فكأن ظلمَ النفس عِلَّته أنهم طَغَوْا في الأكل من الرزق.
والطغيان: من طغى الشيء إذا زاد عن حَدِّه المألوف الذي ينتفع به، ومنه طغيان الماء إذا زاد عن الحدِّ الذي يزيل الشَّرق والعطش إلى حَدِّ أنه يُغرق، كما قال تعالى:{ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ }[الحاقة: 11] أي: تجاوز الحد الذي ينتفع به إلى العَطَب والهلاك.
وهكذا في أي حَدٍّ، لكن كيف تتأتى مجاوزة الحد في الطعام والأقوات؟
الحق ـ تبارك وتعالى ـ لما خلق الأرض قدَّر فيها أقواتها إلى يوم القيامة، فقال تعالى:{ وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا }[فصلت: 10].
فاطمئنوا إلى هذه المسألة، وإذا رأيتم الأرض لا تعطي فلا تتهموها، إنما اتهموا أنفسكم بالتقصير والتكاسل عن عمارة الأرض وزراعتها، كما أمركم الله:{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }[هود: 61].
وقد غفلنا زمناً عن هذه المسألة، حتى فاجأتنا الأحداث بكثرة العدد وقِلَّة المدد، فكان الخروج إلى الصحراء وتعميرها.
وما دام أن الخالق ـ عز وجل ـ خلق لنا أرزاقنا ومُقوِّمات حياتنا، وجعلها مناسبة لهذا الإنسان الذي كرّمه وجعله خليفة له في الأرض، وجعل لهذا الرزق ولهذه المقوّمات حدوداً حدّها وبيَّنها هي (الحلال)، فلا ينبغي لك بعد ذلك أن تتعدى هذه الحدود، وتطغى في تناول طعامك وشرابك.
ونحن نرى حتى الآلات التي صنعها البشر، لكل منها وقودها الخاص، وإذا أعطيتها غيره لا تؤدي مهمتها، فمثلاً لو وضعت للطائرة سولاراً لا تتحرك، فليس هو الوقود المناسب لطبيعتها.
إذن: حدودك في مُقوِّمات حياتك الحلال، ولو استقرأنا ما أحلَّ الله وما حرَّم لوجدنا الأصل في الأشياء أنها حلال، والكثير هو المحلل لك، أما المحرم عليك فهو القليل المحصور الذي يمكن تحديده.
لذلك يقول عز وجل:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }[الأنعام: 151] ولم يقُلْ مثلاً في آية أخرى: تعالوا أَتْلُ ما أحل الله لكم؛ لأنها مسألة تطول ولا تحصى.
إذن: ساعةَ أعطاك ربك قال لك: هذا رِزْقُك الحلال الخالص، ومنه وقودك ومُقوِّمات حياتك، وبه بقاؤك ونشاط حركتك.

فلا تتعدَّ الحلال على كثرته إلى الحرام على قِلَّته وانحصاره في عِدَّة أنواع، بيَّنها لك وحذَّرك منها.
وبالغذاء تتم في الجسم عملية (الأَيْض) يعني: الهدم والبناء، وهي عملية مستمرة في كل لحظة من لحظاتك، فإياك أنْ تبني ذَرَّة من ذراتك من الحرام؛ لأن ذرة الحرام هذه تظل تُشاغبك وتُلِح عليك كي تُوقِعك في أصلها.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: } ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ { [المؤمنون: 51] وقال: } ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ { [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ثم يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك ".
ذلك لأن ذرات بنائه غير منسجمة، لأنها نَمتْ على وقودٍ ما أحله الله له.
لذلك تسمع من بعض المتمحكين: ما دام أن الله خلق الخنزير فلماذا حرَّمه؟ نقول: لقد فهمتَ أن كل مخلوق خُلِق ليؤكل، وهذا غير صحيح، فالله خلق البترول الذي تعمل به الآلات، أتستطيع أن تشربه كالسيارة؟
إذن: فَرْق بين شيء مخلوق لشيء، وأنت توجهه لشيء آخر، هذه تسمى إحالة أي: تحويل الشيء إلى غير ما جُعِل له، وهذا هو الطغيان في القُوت؛ لأنك نقلتَ الحرام إلى الحلال.
وقد يأتي الطغيان في صورة أخرى، كأن تأكل ما أحلَّ الله من الطيبات، لكنك تحصل عليها بطريق غير مشروع، وتُعوِّد نفسك الكسل عن الكسْب الحلال، فتأخذ مجهود غيرك وتعيش عالةً عليه، فإلى جانب أنك تتغذَّى على الحرام فأنت أيضاً تُزهّد غيرك في الحركة والإنتاج والمِلك، وما فائدة أن يتعب الإنسان ويأخذ غيره ثمرة تعبه؟
وقد أخذ الطغيان بهذا المعنى صُوراً متعددة في مجتمعاتنا، فيمكن أن ندرج تحته: الغصب، والخطف، والسرقة، والاختلاس، والرشوة، وخيانة الأمانة، وخداع مَن استأجرك إلى غير ذلك من أخْذ أموال الناس بالباطل ودون وَجْه حق، وكل عمل من هذه التعديات له صورته.
فالخطف: أنْ تخطف مال غيرك دون أنْ يكون في متناول يد المخطوف منه ثم تَفِر منه، فإنْ كان في متناول يده وأنت غالبته عليه، وأخذته عُنْوةً فهو غَصْب مأخوذ من: غَصْب الجلد عن الشاة أي: سلخه عنها. فإنْ كان أخذ المال خُفْية وهو في حِرْزه فهي سرقة. وإن كنت مُؤتمناً على مال بين يديك فأخذتَ منه خفية فهو اختلاس.. الخ.
إذن: أحل الله لك أشياءً، وحرَّم عليك أخرى، فإنْ كان الشيء في ذاته حلالاً فلا تأخذه إلا بحقِّه حتى يحترم كل مِنّا عمل الآخر وحركته في الحياة وملكيته للأشياء، وبذلك تستقيم بِنَا حركة الحياة، ويسعد الجميع ونعين المنفق، ونأخذ على يد المتسبِّب البلطجي.

وللإسلام منهج قويم في القضاء على مسألة البطالة، تأخذ منه بعض النظم الحديثة الآن، وهو أن الشرع يأمر للقضاء على البطالة أن تحفر بئراً وتطُمَّها: أي احفرها وأرْدِمها ثم اعْطِ الأجير فيها أجره. كيف هذا؟ تحفر البئر ولا تستفيد منها وتردمها فما الفائدة؟ ولماذا لم نعط الأجير أجره دون حفر ودون ردم؟
قالوا: حتى لا يتعوَّد على الخمول والكسل، وحتى لا يأكل إلاّ من عرقه وكَدَّه، وإلا فسد المجتمع.
وللطغيان في القوت صورة أخرى، هي أن تستخدم القوت الذي جعله الله طاقة لك في حركة الحياة النافعة، فإذا بك تصرف هذه الطاقة التي أنعم الله بها عليك في معصيته.
وهكذا، كان الطغيان هو علّة{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ }[النحل: 118] أي: بالعقوبة{ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل: 118] أي: بالطغيان.
ثم يقول تعالى: } فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي { [طه: 81] الفعل: حَلَّ، يحلّ يأتي بمعنى: صار حلالاً، كما تقول للسارق: حلال فيه السجن. وتأتي حلَّ يحل بمعنى: نزل في المكان، تقول: حَلَّ بالمكان أي: نزل به. فيكون المعنى: } فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي { [طه: 81] أي: صار حلالاً، ووجب لكم، أو بمعنى: ينزل بكم. وقد يكون المعنى أعمَّ من هذا كله.
والغضب انفعال نفسيٌّ يُحدِث تغييراً في كيماوية الجسم، فترى الغاضب قد انتفختْ أوداجه واحمرَّ وجهه، وتغيّرت ملامحه، فهذه أغيار تصاحب هذا الانفعال. فهل غضب الله عز وجل من هذا النوع؟
بالطبع لا؛ لأنه تعالى ليس عنده أغيار، وإذا كان الغضب يتناسب وقدرة الغاضب على العذاب، فما بالك إنْ كان الغضب من الله؟
ثم يقول تعالى: } وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىا { [طه: 81] مادة: هَوَى لها استعمالان، الأول: هَوَى يهْوِي: يعني سقط من أَعْلى سقوطاً لا إرادةَ له في منعه، كأن يسقطَ فجأة من على السطح مثلاً، ومن ذلك قوله:هُوِىّ الدلو أَسْلَمَها الرِّشَاء إذا انقطع الحبل الذي يُخرِج الدَّلُو.
والآخر: هَوِىَ يَهْوَى: أي أحبَّ.
فيكون المعنى } فَقَدْ هَوَىا { [طه: 81] سقط إلى القاع سقوطاً لا يبقى له قيمة في الحياة، أو هَوَى في الدنيا، ويَهوي في الآخرة، كما جاء في قوله تعالى:{ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ }[القارعة: 9] فأمه ومصدر الحنان له هاوية، فكيف به إذا هوى في الهاوية؟
هذه كلها عِظَات ومواعظ للمؤمن، يُبيِّنها الحق ـ سبحانه وتعالى ـ له ـ كي يبني حركة حياته على ضَوْئها وهُدَاها.
ولما كان الإنسان عُرْضة لأغيار لا يثبتُ على حال يتقلَّب بين عافية ومرض، بين غِنىً وفقرٍ، فكُلُّ ما فيه موهوب له لا ذاتيّ فيه، لذلك إياك أن تحزن حين يفوتك شيء من النعمة؛ لأنها لن تبقى ولن تدوم، وهَبْ أنك بلغتَ قمة النعيم، فماذا تنتظر إلا أنْ تزول، كما قال الشاعر:

إذَا تَمَّ شَيْءٌ بَدَا نَقْصُه تَرقَّبْ زَوَالاً إِذَا قِيلَ تَمّفإذا تَمَّ لك الشيء، وأنت ابْنُ أغيار، ولا يدوم لك حال فلا بُدَّ لك أن تنحدر إلى الناحية الأخرى.
فكأن نقْصَ الإنسان في آماله في الحياة هي تميمة حراسة النِّعَم، وما فيه من نَقْص أو عيب يدفع عنه حَسَد الحاسد، كما قال الشاعر في المدح:شَخَصَ الأنَامُ إلى كَمَالِكَ فَاسْتِعذْ مِنْ شَرِّ أعينهِمْ بِعيْبٍ وَاحِدٍأي: أن الأعين متطلعة إليك، فاصرفها عنك، ولو بعيب واحد يذكره الناس وينشغلون به.
وفي الريف يعيش بعض الفلاحين على الفطرة، فإنْ رُزِق أحدهم بولد جميل وسيم يُلفِت نظر الناس إليه. وتراهم يتعمدون إهمال شكله ونظافته، أو يضعونَ له (فاسوخة) دَفْعاً للحسد وللعين.
لذلك فالمرأة التي دخلت على الخليفة، فقالت له: أتمَّ الله عليك نعمته، وأقرَّ عينك، ففهم الحضور أنها تدعو له، فلما خرجتْ قال الخليفة: أعرفتم ما قالت المرأة؟ قالوا: تدعو لك، قال: بل تدعو عليَّ، فقد أرادت بقولها: أتمَّ الله عليك نعمته تريد أزالها؛ لأن النعمة إذا تمت لم يَبْقَ لها إلا الزوال، وقولها: أقَرَّ الله عينكَ تريد: أسكنها عن الحركة.
إذن: لا تغضَب إنْ قالوا عنك: ناقص في كذا، فهذا النقص هو تميمة الكمال، ويريدها الله لك لمصلحتك أنت.
وما دام الإنسان ابن أغيار، فلا بُدَّ أنْ يغفل عن منهج الله، فتكون له سَقَطات وهَفَوات تحتاج إلى غفران؛ لذلك يقول تعالى: } وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ... {

(/2412)


وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)


غفار: صيغة مبالغة من غفر، فإذا أثبت المبالغة فالترتيب اللغوي بالتالي يُثبتِ الأقلَّ وهو غافر،هذا في الإثبات: وكذلك في النفي في مثل قوله تعالى:{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46] فنفى المبالغة في الظلم، فهل يعني ذلك أنه ـ تعالى ـ يمكن أن يكون ظالماً؟
والشيء يُبالغ فيه لأمرين: الأول: أن تبالغ في نفس الحدث، كأن تأكلَ رغيفاً في الوجبة أو رغيفين، وآخر يأكل خمسة أرغفة، فهذه منه مبالغة في نفس الحدث وهو الأكل، والثاني: قد تكون المبالغة بتكرار الحدَث، فالعادة أن نأكل ثلاث مرات، وهناك مَنْ يأكل سِتّ وجبات، ونسميه (أكول) أي: كثير الأكل، لا في الوجبة الواحدة، إنما في عدد الوجبات.
فمعنى (غَفَّارٌ) غافر لي، وغافر لك، وغافر لهذا وهذا.. غافر لكل الخَلْق، فتكررت مغفرته عز وجل لخَلْقه.
وقد شرع الحق ـ سبحانه وتعالى ـ المغفرة والتوبة ليحمي المجتمعات من شرار الناس فيها، فالشرير إذا ارتكب جريمة ولم يجد له فرصة للمغفرة والتوبة، فإنه يستمرىء الجريمة، بل ويبالغ فيها.
أما إذا فُتِح له باب التوبة والمغفرة فإن هذا يرحم المجتمع من شراسة أصحاب السوء.
والله ـ عز وجل ـ ليس غافراً للذنوب فحسب، بل هو غفار لها، وكلما عدت إليه غفر لك، ولكن وَطِّن نفسك أنك إذا فعلت الذنب وتُبْت منه فلا تعد إليه، ولا ترتب وتخطط لمعصيتك على أمل أن تتوب، فما يدريك أن تعيش إلى أن تتوب؟
والمغفرة تكون { لِّمَن تَابَ وَآمَنَ } [طه: 82] وما دام قال { تَابَ وَآمَنَ } [طه: 82] فلا بُدَّ أن التوبة هنا عن الكُفْر، ثم أنشأ إيماناً بالله وبرسوله. والإيمان هو الينبوع الذي يصدر عنه السُّلوك البشري، وهذا يقتضي أن تسمع كلامه وتُنفِّذ أوامره، وتجتنب نواهيه، وهذا هو المراد بقوله { وَعَمِلَ صَالِحَاً } [طه: 82].
لكن، أليس العمل الصالح هداية؟ فلماذا قال بعدها { ثُمَّ اهْتَدَىا } [طه: 82] قالوا: لأن الهداية أنْ تستمر على هذا العمل الصالح، وأنْ تستزيدَ منه، كما قال تعالى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى }[محمد: 17].
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ... }

(/2413)


وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)


نقول: ما أعجلك؟ يعني: ما أسرع بك؟ لماذا جئتَ قبل موعدك؟ وكان موسى عليه السلام على موعد مع ربه ـ عز وجل ـ ليتلقى عنه المنهج، والمفروض في هذا اللقاء أنْ يأتيَ معه مجموعة من صَفْوة قومه ورؤسائهم، فتعجل موسى موعد ربه، وذهب دون قومه، فقال له: { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَىا } [طه: 83] أي: أسرعتَ وتعجَّلْتَ وجِئْتَ بدونهم.
فقال موسى عليه السلام: { قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىا أَثَرِي... }

(/2414)


قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)


أي: قادمين خلفي وسيتبعونني، أما أنا فقد { عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا } [طه: 84] تعجَّلْتُ في المثول بين يديك لترضى.
وقد تعجَّل موسى إلى ميقات ربه، وسبق قومه لحكمة، فالإنسان حين يأمر غيره بأمر فيه مشقّة على النفس وتقييد لشهواتها، لا بُدَّ أن يبدأ بنفسه يقول: أنا لست بنجْوَةٍ عن هذا الأمر، بل أنا أول مَنْ أُنفِّذ ما آمركم به، وسوف أسبقكم إليه.
لذلك يقول القائد الفاتح طارق بن زياد لجنوده: " واعلموا أني إذا التقى الفريقان مُقبِل بنفسي على طاغية القوم ـ لزريق ـ فقاتله إن شاء الله، فإن قتلته فقد كُفيتم أمره " وهكذا تكون القيادة قدوة ومثَلاً كما يقولون في الأمثال (اعمل كذا وإيدي في إيدك) وهنا يقول: يدي قبل يدك.
فموسى عليه السلام يقول: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا } [طه: 84] ترضى أن منهجك يُطبِّق من جهتي كرسول مؤتمن عليه، ومن جهة قومي؛ لأنهم حين يروني قد تعجلت للقائك في الموعد يعلمون أن في ذلك خيراً لهم، وإلا ما سبقتهم إليه. وبذلك يسود منهج الله ويُمكَّن في الأرض، وإذا ساد منهج الله رضي الله. عن خليفته في الأرض.
ثم يُخبر الحق ـ تبارك وتعالى ـ نبيه موسى ـ عليه السلام ـ بما كان من قومه بعد مفارقته لهم من مسألة عبادة العجل.

(/2415)


قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)


الفتنة: ليست مذمومة في ذاتها؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، ونتيجته هي التي تُحمَد أو تُذمّ، كما لو دخل التلميذ الامتحان فإنْ وُفِّق فهذا خير له، وإنْ أخفق فهذا خير للناس، كيف؟
قالوا: لأن هناك أشياءَ إنْ تحققتْ مصلحة الفرد فيها انهدمتْ مصلحة الجماعة. فلو تمكَّن التلميذ المهمل الكَسُول من النجاح دون مذاكرة ودون مجهود، فقد نال انتفاعاً شخصياً، وإنْ كان انتفاعاً أحمق، إلا أنه سيعطي الآخرين إشارة، ويُوحِي لهم بعدم المسئولية، ويفرز في المجتمع الإحباط والخمول، وكفى بهذا خسارة للمجتمع.
وقد جاءتْ الفتنة بهذا المعنى في قول الحق تبارك وتعالى:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2].
إذن: لا بد من الاختبار لكي يعطي كل إنسان حسب نتيجته، فإن سأل سائل: وهل يختبر الله عباده ليعلَم حالهم؟ نقول: بل ليعلم الناس حالهم، وتتكشف حقائقهم فيعاملونهم على أساسها: هذا منافق، وهذا مخلص، وهذا كذاب، فيمكنك أنْ تحتاط في معاملتهم.
إذن: الاختبار لا ليعلم الله، ولكن ليعلم خَلْق الله.
أو: لأن الاختبار من الله لِقطْع الحجة على المختبر، كأن يقول: لو أعطاني الله مالاً فسأفعل به كذا وكذا من وجوه الخير، فإذا ما وُضِع في الاختبار الحقيقي وأُعطِى المال أمسك وبَخِل، ولو تركه الله دون مال لَقال: لو عندي كنتُ فعلت كذا وكذا.
فهناك عِلْم واقع من الله، أو علم من خَلْق الله لكل مَنْ يفتن، فإنْ كان مُحْسِناً يقتدون به، ويقبلون عليه، ويحبونه ويستمعون إليه، وإلاَّ انصرفوا عنه. فالاختبار ـ إذن ـ قَصْده المجتمع وسلامته.
وقد سَمَّى الحق سبحانه ما حدث من بني إسرائيل في غياب موسى من عبادة العجل سماه فتنة، ثم نسبها إلى نفسه { فَتَنَّا } [طه: 85] أي: اختبرنا.
ثم يقول تعالى: { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [طه: 85] أضلهم: سلك بهم غير طريق الحق، وسلوك غير طريق الحق قد يكون للذاتية المحضة، فيحمل الإنسان فيها وِزْر نفسه فقط، وقد تتعدَّى إلى الآخرين فيسلك بهم طريق الضلال، فيحمل وزْره ووِزْر غيره مِمَّنْ أضلّهم.
وفي هذه المسألة يقول تعالى:{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ }[النحل: 25].
مع أن الله تعالى قال في أية أخرى:{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىا }[فاطر: 18].
وهذه من المسائل التي توقَّف عندها بعض المستشرقين، محاولين اتهام القرآن وأسلوبه بالتناقض، وما ذلك منهم إلا لعدم فَهْمهم للغة القرآن واتخاذها صناعة لا مَلَكة، ولو فَهِموا القرآن لَعَلِموا الفرق بين أن يضل الإنسان في ذاته، وبين أن يتسبب في إضلال غيره.
والسامري: اسمه موسى السامري، ويُرْوَى أن أمه وضعته في صحراء لا حياة فيها، ثم ماتت في نفاسها، فظل الولد بدون أم ترعاه، فكان جبريل عليه السلام يتعهده ويربِّيه إلى أن شبَّ.
وقد عبَّر الشاعر عن هذه اللقطة وما فيها من مفارقات بين موسى عليه السلام وموسى السامري، فقال:إِذَا لَمْ تُصَادِفْ فِي بَنِيكَ عِنَايةً فَقَدْ كذَبَ الرَّاجِي وَخَابَ المؤمِّلفَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْريلُ كَافِر وَمُوسَى الذِي رَبَّاه فِرْعَوْنُ مُرْسَلُثم يقول الحق سبحانه: { فَرَجَعَ مُوسَىا إِلَىا قَوْمِهِ غَضْبَانَ... }

(/2416)


فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)


رَجَع: تُستعمل لازمة. مثل: رجع فلان إلى الحق. ومُتعدِّية مثل{ فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَىا طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ }[التوبة: 83] والمعنى فيهما مختلف.
هنا رجع موسى أي: حين سمع ما حدث لقومه من فتنة السامري { غَضْبَانَ أَسِفاً } [طه: 86] أي: شديد الحزن على ما حدث { قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } [طه: 86] الوعْد الحسن أن الله يعطيهم التوراة، وفيها أصول حركة الحياة، وبها تَحسُن حياتنا في الدنيا، ويحسُن ثوابنا في الآخرة.
وقوله: { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } [طه: 86].
يعني: أطال عهدي بكم، وأصبح بعيداً لدرجة أنْ تنسَوْه ولم أَغبْ عنكم إلا مُدَّة يسيرة. قال الله عنها:{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ }[الأعراف: 142].
ثم يقول: { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } [طه: 86].
وما دام أن عهدي بكم قريب لا يحدث فيه النسيان، فلا بُدَّ أنكم تريدون العصيان، وتبغُون غضب الله، وإلاّ فالمسألة لا تستحق، فبمجرد أنْ أغيبَ عنكم تنتكسون هذه النكسة، وإن كان هذا حال القوم ورسولُهم ما زال بين أظهرهم، فما بالهم بعد موته؟
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أذلك وأنا بين ظَهْرانيكم؟ ".
أي: ما هذا الذي يحدث منكم، وأنا ما زلت موجوداً بينكم؟
وقوله: { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } [طه: 86] وفي آية أخرى قال:{ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي }[الأعراف: 150] فكأنه كان له معهم وَعْد وكلام، فقد أوصاهم قبل أن يُفارقهم أنْ يسلكوا طريق هارون، وأن يطيعوا أوامره إلى أنْ يعود إليهم، فهارون هو الذي سيخلفه من بعده في قومه، وهو شريكه في الرسالة، وله مهابة الرسول وطاعته واجبة.
هذا هو الوَعْد الذي أخلفوه مع نبيهم موسى ـ عليه السلام ـ.

(/2417)


قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)


مادة " ملك " لها صور ثلاثة، لكل منها معنى، وليست بمعنى واحد كما يدَّعِي البعض، فتأتي مَلْك بفتح الميم، ومِلْك بكسرها، ومُلْك بضم الميم، وجميعها تفيد الحيازة والتملُّك، إلا أن مَلْك تعني تملك الإنسان لنفسه وذاته وإرادته، دون أنْ يملكَ شيئاً آخر مِمَّا حوله.
ومِلْك: لتملك ما هو خارج عن ذاتك.
ومُلْك: أنْ تملك شيئاً، وتملك مَنْ ملكه.
إذن: هذه الثلاثة ليستْ مترادفات بمعنى واحد. فقوله تعالى: { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } [طه: 87] أي: بإرادتنا، بل أمور أخرى خارجة عن إرادتنا حملتنا على إخلاف الوعد، فما هذه الأمور الخارجة عن إرادتكم؟
قالوا: { وَلَـاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ } [طه: 87] (أَوْزَاراً) جمع وِزْر، وهو الشيء الثقيل على النفس، ويطلق الوِزْر على الإثم؛ لأنه ثقيل على النفس ثِقَلاً يتعدىَ إلى الآخرة أيضاً، حيث لا ينتهي ألم الحمْل فيها؛ لذلك يقول تعالى:{ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }[طه: 101].
وكانت هذه الأوزار من زينة القوم: أي: قوم فرعون. وقالوا إنهم كانوا في أعيادهم يستعيرون الحُليّ من جيرانهم ومعارفهم من قوم فرعون يتزيَّنون بها. فلماذا لم يردُّوا الأمانات هذه إلى أصحابها قبل أنْ يخرجُوا إلى الميقات الذي واعدهم عليه؟
قالوا: لأنهم أرادوا أنْ يُسِرُّوا ساعة خروجهم حتى لا يستعد لهم أعداؤهم، وصدُّوهم عن الخروج فأعجلوا عن رَدِّها.
وقال قوم: إن هذه الزينات والحليّ كانت مما قذف به البحر بعد أنْ غرق فرعون وقومه، ولكن هذا القول مردود؛ لأنهم إنْ أخذوها بعد أنْ ألْقَى بها البحر فسوف تكون أسلاباً لا أوزاراً.
ثم يقول تعالى: { فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } [طه: 87].
إذا أُطلِقَتْ الزينة تنصرف عادةً إلى الذهب، والقَذْف هو الرَّمْي بشدة، وكأن الرامي يتأفَف أنْ يحمل المرمىّ، وفي ذلك دلالة على أن بني إسرائيل ما يزال عندهم خميرة إيمان فتألموا وحزنوا لأنهم لم يردُّوا الأمانات إلى أهلها.
لذلك دخل عليهم السامري من هذه الناحية، فأفهمهم: إنكم لن تبرأوا من هذه المعصية إلا أنْ ترمُوا بهذه الزينة في النار، وهو يقصد شيئاً آخر، هو أنْ ينصهر الذهب، ويُخرِج ما فيه من الشوائب { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } [طه: 87] أي: ألقى ما معه من الحُليّ، لكن فَرْق بين القَذْف والإلقاء، الإلقاء فيه لُطْف وتمهُّل، فهو كبيرهم ومُعلِّمهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ... }

(/2418)


فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)


أي: أخرج لهم من هذا الذهب المنصهر { عِجْلاً جَسَداً } [طه: 88] كلمة جسد وردتْ أيضاً في القرآن في قصة سليمان عليه السلام، حيث قال تعالى:{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىا كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ }[ص: 34].
وقد أعطى الله سليمان مُلْكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعده، فسخَّر له الطير والجنَّ والإنس والريح يأتمرون بأمره، ويبدو أنه أخذه شيء من الزَّهْو أو الغرور، فأراد الحق سبحانه أنْ يلفته إلى مانح هذا الملْك ويُذكِّره بأن هذا الملْك لا يقوم بذاته، إنما بأمر الله القادر على أن يُقعِدك على كُرسيِّك جسداً، لا حركة فيه ولا قدرة له حتى على جوارحه وذاته.
كما ترى الرجل ـ والعياذ بالله ـ قد أصابه شلل كُليٌّ أقعده جسداً، لا حركة فيه، ولا إرادةَ على جوارحه، فإذا لم تكن له إرادة على جارحة واحدة من جوارحه، أفتكون له إرادة على الخارج عنه من طير أو إنس أو جن؟
فلا تغتر بأنْ جعل الله لك إمْره على كل الأجناس؛ لأنه قادر أنْ يسلبكَ هذا كله.
ويُروَى أن سليمان ـ عليه السلام ـ ركب بساط الريح يحمله إلى حيث يريد، كما قال تعالى:{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ }[سبأ: 12] فَداخلَه شيء من الفخر والزَّهْو، فسمع من تحته مَنْ يقول: يا سليمان ـ هكذا دون ألقاب ـ أُمِرْنا أنْ نطيعك ما أطعتَ الله، ثم رَدَّه حيث كان.
لذلك استغفر سليمان ـ عليه السلام ـ وأناب.
وكذلك نرى الإنسان ساعة أن يموتَ أولَ ما يُنسَى منه اسمه، فيقولون: الجثة: الجثة هنا، ماذا فعلتم بالجثة، ثم تُنسَى هذه أيضاً بمجرد أن يُوضَع في نعشه فيقولون الخشبة: أين الخشبة الآن، انتظروا الخشبة.. سبحان الله بمجرد أنْ يأخذ الخالق ـ عز وجل ـ سِرَّه من العبد صار جثة، وصار خشبة، فما هذه الدنيا التي تكون نهايتها هكذا؟
ففي قوله تعالى { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } [طه: 88] أي: لا حركة فيه، فهو مجرد تمثال. صُنِع على هيئة معينة، بحيث يستقبل الريح، فيحدث فيه صفيراً يشبه الخوار أي: صوت البقر.
لكن، لماذا فكَّر السامري هذا التفكير، واختار مسألة العجل هذه؟
قالوا: لأن السامري استغلَّ تشوُّق بني إسرائيل، وميلهم إلى الصنمية والوثنية، وأنها متأصلة فيهم. ألم يقولوا لنبيهم عليه السلام وما زالت أقدامهم مُبتلة من البحر بعد أن أنجاهم الله من فرعون، وكان جديراً بهم شكر الله، فإذا بهم يقولون وقد أَتَوْا على قوم يعكفون على أصنام لهم:{ يامُوسَىا اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـاهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }[الأعراف: 138].
فجاءهم بهذا العجل، وقد ترقَّى به من الصنمية، فجعله جسداً، وجعل له خواراً وصَوْتاً مسموعاً.
ثم يقول تعالى: { فَقَالُواْ هَـاذَآ إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَىا فَنَسِيَ } [طه: 88] أي: نسي السامري خميرة الإيمان في نفسه، ونسي أن هذا العمل خروجٌ عن الإيمان إلى الكفر، ولَيْتَه يكفر في ذاته، إنما هو يكفر ويُكفِّر الناس. لا بُدَّ أنه نسي، فلو كان على ذُكْر من الإيمان ومن عاقبه عمله وخيبة ما أقدم عليه ما فعل.
ثم يقول الحق سبحانه: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ }

(/2419)


أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)


أي: كيف يعبدون هذا العجل، وهو لا يردّ عليهم جواباً، ولا يملك له شيئاً، كما قال تعالى في آية أخرى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ }[الشعراء: 69ـ73].
فَمنْ كان لديه ذرة من عقل لا يُقدم على هذه المسألة؛ لذلك فالحق ـ سبحانه ـ يناقش هؤلاء:{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ }[البقرة: 28].
أي: أخبرونا بالطريق الذي يحملكم على الكفر، كأنها مسألة عجيبة لا يقبلها العقل ولا يُقرُّها. ألم يخطر ببال هؤلاء الذين عبدوا العجل أنه لا يردّ عليهم إنْ سألوه، ولا يملك لهم ضَرَّاً إنْ كفروا به، ولا نفعاً إن آمنوا به وعبدوه.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ }

(/2420)


وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)


وكان هارون ـ عليه السلام ـ خليفة لأخيه في غَيْبته، كما قال تعالى:{ وَقَالَ مُوسَىا لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ }[الأعراف: 142].
اخْلُفْنِي واعمل الصالح، فكان هذا تفويضاً من موسى لأخيه هارون أن يقضي في القوم بما يراه مناسباً، وأنْ يُقدِّر المصلحة كما يرى. وقد شُفِع هذا التفويض لهارون أمام أخيه بعد ذلك.
فقوله تعالى: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } [طه: 90].
وهكذا وعظهم هارون على قَدْر استطاعته، وبيّن لهم أن مسألة العِجْل هذه اختبار من الله. وكان تقديره في هذه القضية ألاَّ يدخل مع هؤلاء في معركة؛ لأن القومَ كانوا جميعاً ثلاثمائة ألف، عبد العجل منهم أثنا عشر ألفاً، ولو جعلها هارون ـ عليه السلام ـ معركة لأفْنى كل هذا العدد.
لذلك اكتفى بالوعظ { ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي } [طه: 90] كما أخذتم العهد عند موسى.

(/2421)


قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)


{ لَن نَّبْرَحَ } [طه: 91]. أي سنظل عل هذا الحال، البعض يظن أنها للمكان فقط، إنما هي حَسْب ما تتعلق به، تقول: لا أبرح سائراً حتى أصِلَ لغرضي، ولا أبرح هذه المكان فقد تكون للمكان، وقد تكون للحال. كما ورد في القرآن:
ـ للمكان والإقامة في قوله:{ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىا يَأْذَنَ لِي أَبِي }[يوسف: 80].
ـ وللحال في قوله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىا لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّىا أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ }[الكهف: 60] أي: لا أبرح السير.
فالمعنى { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } [طه: 91] سنظلّ على عبادته حتى يرجع موسى، فلن نمكثَ هذه الفترة دون إلهٍ.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ ياهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ }

(/2422)


قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)


هذا حوار دار بين موسى وأخيه هارون { مَا مَنَعَكَ } [طه: 92] وقد وردتْ هذه الكلمة في القرآن بأُسْلوبين: الأول: قوله تعالى:{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }[ص: 75] أي: ما منعك من السجود.
والآخر:{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }[الأعراف: 12]. أي: ما منعك أن لا تسجد؛ لأن المانع قد يكون قَهْراً عنك، وأنت لا تريد أن تفعل، وقد يأتي آخر فيُقنِعك أن تفعل. فمَرّة يُرغِمك: أنت لا تريد أنْ تسجد يقول لك: اسجد. إذن: منعك أن تسجد يعني قهراً عنك، لكن أقنعك أن تسجد أنت باختيارك فقد منعك ألاَّ تسجد.
إذن: مرة من النفس، ومرة من الغير، وهكذا يلتقي الأسلوبان.
فقوله: { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [طه: 92ـ93] أي: من اتباعي، لكن هل موسى عليه السلام هنا يستفهم؟ الحقيقة أنه لا يريد الاستفهام، فقد تخاطب إنساناً بذنب، وأنت لا تعلم ذنبه، إنما تخاطبه بصورة الذَّنْب لتسمع الردَّ منه، فيكون رَدًَاً على مَنْ يعترض عليه.
ومن ذلك ما كان من سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ عند الحجر الأسود، فلما قَبَّله قال: " اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنِّي رأيت رسول الله يُقبِّلك ما قبَّلتُك ".
إذن: قبّله عمر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّله، إلا أنه جاء بهذا الكلام ليعطينا الجواب المستمر على مَرِّ التاريخ لكل مَنْ يسأل عن تقبيل الحجر.
وهنا أثارها موسى شبهة؛ كي نسمع نحن الجواب، ولنسمع الردّ من صاحب الشأن باقياً سائراً في طول الأزمان.

(/2423)


قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)


إذن: صاحبَ خطابَ موسى لأخيه هارون فعْل نزوعيٌّ وحركة، فهمناها من قول هارون: { يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [طه: 94].
ثم ذكر العلة { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه: 94] يقصد قول أخيه:{ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ }[الأعراف: 142].
فذكّره بالتفويض الذي أعطاه إياه. وقد اجتهد هارون حَسْب رؤيته للموقف، ونأى بالقوم عن معركة ربما انتهتْ بالقضاء على خَِلِية الإيمان في بني إسرائيل، اجتهد في إطار{ وَأَصْلِحْ }[الأعراف: 142].
إذن: أثار موسى هذه القضية مع أخيه، لا ليسمع هو الرد، وإنما ليُسمع الدنيا كلّها على مَرِّ التاريخ.
ثم ينقل موسى الخطاب إلى رأس هذه الفتنة: { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ }

(/2424)


قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)


أي: ما شأنك؟ وما قصتك؟
والخَطْب: يُقال في الحدّث المهم الذي يُسمُّونه الحدَث الجلَل، والذي يُقال فيه " خطب " ، فليس هو الحدث العابر الذي لا يقف عنده أحد.
ومن ذلك قوله تعالى:{ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ }[يوسف: 51].
وما حكاه القرآن من قول موسى ـ عليه السلام ـ لابنتَيْ شعيب:{ مَا خَطْبُكُمَا }[القصص: 23].
ثم يقول الحق سبحانه عن السامري: { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ }

(/2425)


قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)


مادة: بَصُر منها أبصرت للرؤية الحسية، وبصرت للرؤية العلمية أي: بمعنى علمتُ.
فمعنى { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } [طه: 96] يعني: اقتنعتُ بأمر هم غير مقتنعين به، فأنا فعلتُ وهم قَلَّدوني فيما فعلتُ من مسألة العِجْل.
وقد أدَّى به اجتهاده إلى صناعة العجل؛ لأنه رأى قومه يحبون الأصنام، وسبق أنْ طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً لما رأوا قوماً يعبدون الأصنام، فانتهز السامريُّ فرصة غياب موسى، وقال لهم: سأصنع لكم ما لم يستطع موسى صناعته، بل وأزيدكم فيه، لقد طلبتم مجرد صنم من حجارة إنما أنا سأجعل لكم عِجْلاً جَسَداً من الذهب، وله صوت وخُوَار مسموع.
وقوله: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } [طه: 96] قبض على الشيء: أخذه بجُمْع يده. ومثلها: قَبصَ.
وقوله: { مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } [طه: 96] للعلماء في هذه المسألة روايات متعددة. منها: أن السامري حين كان جبريل عليه السلام يتعَهَّده وهو صغير، كان يأتيه على جواد فلاحظ السامري أن الجواد كلما مَرَّ على شيء اخضرّ مكان حافره، ودَبَّتْ الحياة فيه، لذلك: فأصحاب هذا القول رأؤا أن العجل كان حقيقياً، وله صوت طبيعي ليس مجرد مرور الهواء من خلاله.
ورَأْى آخر يقول: { مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } [طه: 96] الرسول كما نعلم هو المبلِّغ لشرع الله المباشر للمبلّغ، أما جبريل فهو رسول للرسول، ولم يَرَه أحد فأُطلِقت الرسول على حامل المنهج إلى المتكلّم به، لكنها قد تُطلق ويُراد بها التهكّم، كما جاء في قوله تعالى:{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ }[المنافقون: 7] فيقولون: رسول الله تهكماً لا إيماناً بها.
وكذلك في قوله تعالى:{ وَقَالُواْ مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ }[الفرقان: 7].
إذن: قد يُرَاد بها التهكّم.
لكن، ما المراد بأثر الرسول؟ الرسول جاء لِيُبلِّغ شرعاً من الله، وهذا هو أثره الذي يبقى من بعده. فيكون المعنى: قبضتُ قبضة من شرع الرسول، قبضة من قمته، وهي مسألة الإله الواحد الأحد المعبود، لا صنمَ ولا خلافه.
وقوله تعالى: { فَنَبَذْتُهَا } [طه: 96] أي: أبعدتُها وطرحتها عن مُخيِّلتي، ثم تركتُ لنفسي العنان في أن تفكر فيما وراء هذا.
بدليل أنه قال بعدها { وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } [طه: 96] أي: زيَّنتها لي، وألجأتني إلى معصية. فلا يقال: سوَّلَتْ لي نفسي الطاعة، إنما المعصية وهي أن يأخذ شيئاً من أثر الرسول ووَحْيه الذي جاء به من الله، ثم يطرحه عن منهجه ويُبعده عن فِكْره، ثم يسير بِمَحْض اختياره.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ }

(/2426)


قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)


كان ردّ موسى ـ عليه السلام ـ على هذه الفعْلة من السامري: جزاؤك أن تذهب، ويكون قولك الملازم لك { لاَ مِسَاسَ } [طه: 97] والمِسَاس أي: المسّ. المعنى يحتمل: لا مساس مِنّي لأحد، أو لا مساسَ من أحد لي.
ذلك لأن الذين يفترون الكذب ويدَّعُون أن لهم رسالة ولهم مهمة الأنبياء، حظُّهم من هذا كله أن تكون لهم سُلْطة زمنية ومكانة في قلوب الناس، وأن يكون لهم مذهب وأتباع وأشياع.
لذلك تراهم دائماً ـ في سبيل الوصول إلى هذه الغاية ـ يتحللون من المنهج الحق، ويستبدلونه بمناهج حَسْب أهوائهم، فيميلون إلى تسهيل المنهج وتبسيطه، ويُعطون لأتباعهم حريةً ما أنزل الله بها من سلطان، كالذي خرج علينا يُبيح للناس الاختلاط بين الرجال والنساء.
ومن العجيب أن تجد لهذه الأفكار أَنصاراً يؤمنون بها ويُطبِّقونها، لا من عامة الناس، بل من المثقفين وأصحاب المناصب. فكيف تحجب عنهم المرأة، وهي نصف المجتمع؟
إذن: ما أجملَ هذ الدين ومَا أيسره على الناس، فقد جاء على وَفْق أهوائهم وشهواتهم، ووسَّع لهم المسائل، فالنفس تميل بطبعها إلى التدين؛ لأنها مفطورة عليه، لكن تريد هذا الدين سَهْلاً لا مشقةَ فيه، حتى وإنْ خالف منهج الله.
لذلك تجد مثلاً مسيلمة وسجاح وغيرهما من مُدَّعِي النبوة يُخفِّفون عن أتباعهم تكاليف الشرع في الصلاة والصوم، أما الزكاة فهي ثقيلة على النفس فلا داعيَ لها. وإلاَّ فما الميْزة التي جاءوا بها ليتبعهم الناس؟ وما وسائل التشجيع لاتباع الدين الجديد؟
وهكذا يصبح لهؤلاء سُلْطة زمنية ومكانة، وأتباع، وجمهور، إذن: الذي أفسد حياته أن يجد العِزَّ والمكانة في انصياع الناس له وتبعيتهم لأفكاره، فيعاقبه الله بهم، ويجعل ذُلَّه على أيديهم وفتنته من ناحيتهم، فهم الذين أعانوه على هذا الباطل، فإذا به يكرههم ويبتعد بنفسه عنهم، لدرجة أن يقول { لاَ مِسَاسَ } [طه: 97] كأنه يفِرُّ منهم يقول: إياك أنْ تقربَ مِنِّي أو تمسِّني.
لقد تحول القُرْب والمحبة إلى بُعْد وعداوة، هذه الجمهرة التي كانت حوله وكان فيها عِزُّه وتسلُّطه يفرُّ منها الآن، فهي سبب كَبْوته، وهي التي أعانَتْه على معصية الله.
وهكذا، كانت نهاية السامريّ أن ينعزل عن مجتمعه، ويهيم على وجهه في البراري، ويفرّ من الناس، فلا يمسّه أحد، بعد أنْ صدمه الحق، وواجهتْه صَوْلته.
وما أشبهَ هذا الموقف بما يحدث لشاب متفوق مستقيم يُغريه أهل الباطل، ويجذبونه إلى طريقهم، وبعد أن انخرط في سِلْكهم وذاق لذة باطلهم وضلالهم إذَا به يصحو على صدمة الحق التي تُفيقه، ولكن بعد أن خسر الكثير، فتراه بعد ذلك يفِرُّ من هذه الصُّحْبة وينأى بنفسه عن مجرد الاقتراب منهم.
لذلك من الذين اختاروا دينهم وَفْق أهوائهم عبدة الأصنام، فإن كانت العبادة أنْ يطيع العابدُ معبوده، فما أيسرَ عبادة الأصنام؛ لأنها آلهة بدون تكليف، وعبادة بدون مشقة، لا تقيد لك حركة، ولا تمنعك من شهوة، وإلا فماذا أعدَّتْ الأصنام من ثواب لمَنْ عبدها؟ وماذا أعدَّتْ من عذاب لمن كفر بها.

فكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ قال للسامري: ستُعاقب بنفس المجتمع الذي كنت تريد منه العِزّة والسُّلْطة والسيطرة والذكر، فتتبرأ أنت منهم وتفرّ من جوارهم، ولا تتحمل أنْ يمسَّك أحد منهم، فهم سبب بلائك، ومصدر فتنتك، كما قال تعالى:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67].
فأخلاءُ الباطل، وصُحْبَة السوء الذين يجتمعون على معصية الله في سهرات مُحرَّمة عليهم أنْ يحذروا هذا اللقاء. أما الخُلّة الحقيقية الصادقة فهي للمتقين، الذين يأتمرون بالحق، ويتواصَوْن بطاعة الله.
وفَرْق بين مَنْ يقاسمك الكأس ومَنْ يكسرها ويُريقها قبل أنْ تذوقها، فَرْق بين مَنْ يلهيك عن الصلاة ومَنْ يحثُّك عليها، فَرْق بين مَنْ يُسعِدك الآن بمعصية ومَنْ يحملك على مشقّة الطاعة، فانظر وتأمَّلْ.
ثم يقول: } وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ { [طه: 97] أي: ما ينتظرك من عذاب الآخرة.
} وَانظُرْ إِلَىا إِلَـاهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً { [طه: 97].
(عَاكِفاً) أي: مقيماً على عبادته، والاعتكاف: الإقامة في المسجد، والانقطاع عن المجتمع الخارجي.
ومعنى } لَّنُحَرِّقَنَّهُ { [طه: 97] أي: نُصيِّره كالمحروق، بأنْ نبردَه بالمبرد حتى يصبح فُتاتاً وذرات متناثرة، بحيث يمكن أن نذروه في الهواء } ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً { [طه: 97] أي: نذروه كما يفعل الفلاحون حين يذرون الحبوب لفَصْل القِشْر عنها بآلة تسمى (المنسف) تشبه الغربال، وقد استبدلوا هذه الأدوات البدائية الآن بآلات ميكانيكية حديثة تُؤدِّي نفس الغرض.
ذلك لأن إلهَ السَّامري كان هذا العجل الذي اتخذه من ذهب، فلا يناسبه الحرق في النار، إنما نريد له عملية أخرى، تذهب به من أصله، فلا نُبقِي له على أثر. وهذا هو إلهك الذي عبدته إنْ أفلح كان يدافع عن نفسه ويحمي رُوحَه.
وبعد أن بَيَّن الحق ـ سبحانه ـ وَجْه البطلان فيما فعله السامري، ومَنْ تبعه من القوم،عاد لِيذكِّرهم بمنطقه الحق وجادة الطريق، وأن كلَّ ما فعلوه هراء في هراء:
} إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ {

(/2427)


إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)


الحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يقول: { لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ } [طه: 98] نقولها نحن هكذا، ونشهد بها، فقد تعلَّمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمعها من ربه ونقلها إلينا، فهي الشهادة بالوحدانية الحقّة، شهادة من الله لذاته أولاً:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ }[آل عمران: 18].
فهذه شهادة الذات للذات قبل أنْ يخلق شاهداً يشهد بها. ثم شهدتْ له بذلك الملائكة شهادةَ المشهد أنه لا إله غيره، ثم شهد بذلك أولو العلم شهادة استدلال بالمخلوقات التي رأوْها على أبدع نظام وأعجبه، ولا يمكن أن ينشأ هذا كله إلا عن إله قادر.
وقد سلمتْ لله تعالى هذه الدَّعوْى؛ لأنها قضية صادقة شَهِد بها سبحانه لنفسه، وشَهِد بها الملائكة وأولو العلم ولم يَقُمْ لها معارض يدِّعِيها لنفسه.
وإلا ـ والعياذ بالله ـ أين ذلك الإله الذي أخذ الله تعالى منه الألوهية؟ فإما أنْ يكون لا يعلم، أو عَلِم بذلك ولم يعترض، وفي كلتا الحالتين لا يستحق أن يكون إلهاً. والدَّعْوى إذا لم تُجْبَه بمعارض فقد سلمتْ لصاحبها، إلى أن يُوجَد المعارض.
وكأن الحق سبحانه قال: لا إله إلا أنا، وأنا خالق الكون كله ومُدبِّر أمره، ولم يَأْتِ أحد حتى من الكفار يدَّعي شيئاً من هذا. وقد ضربنا لهذه المسألة مثلاً ـ ولله المثل الأعلى ـ: هَبْ أنه نزل عندك مجموعة ضيوف وزوار، وبعد انصرافهم وجدتَ حافظة نقود فسألتَ عن صاحبها، فلم يدَّعِها أحد إلى أنْ قال واحد منهم: هي لي، إذن: فهو صاحبها، وهو أحقُّ بها حيث لم يَقُمْ له معارض.
لذلك يقول تعالى:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42].
يعني إنْ كان هناك آلهة أخرى فلا بُدَّ أنْ يذهبوا إلى صاحب العرش، إما ليخضعوا له ويستلهموا منه القدرة على فِعْل الأشياء، أو ليُحاسبوه ويُحاكموه: كيف يدَّعي الألوهية وهم آلهة؟ ولم يحدث شيء من هذا كله، ولا أقام أحد دليلاً على أنه إله، والدَّعْوى إذا لم يَقُمْ عليها دليل فهي باطلة.
وينفي الحق سبحانه وجود آلهة أخرى، فيقول في موضع آخر:{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ }[المؤمنون: 91].
فهذا إله للسماء، وهذا إله للأرض، وهذا الجن، وهذا الإنس.. إلخ، وبذلك تكون الميْزة في أحدهم نقصاً في الآخر، والقدرة في أحدهم عجزاً في الآخر، وهذا لا يليق في صفات الألوهية.
ونلحظ هنا في قوله تعالى: { إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ } [طه: 98] أن كلمة (إله) لا تعني (الله)، وإلا لو كان إلهاً بمعنى الله لأصبح المعنى: إنما الله الله.

إذن: هناك فَرْق بين اللفظين: الله عَلَم على واجب الوجود الأعلى، أما الإله فهو المعبود المطاع فيما يأمر، فالمعنى: أن المعبود المطاع فيما يأمر به هو الله خالق هذا الوجود، وصاحب الوجود الأعلى.
فالله تعالى هو المعبود المطاع بحقٍّ، لأن هناك معبوداً ومطاعاً لكن بالباطل، كالذين يعبدون الشمس والقمر والأشجار والأحجار ويُسمُّونهم آلهة، فإذا كانت العبادة إطاعة أمر ونهي المعبود، فبماذا أمرتْهم هذه الآلهة؟ وعن أيِّ شيء نهتْهم؟ وماذا أعدَّتْ لمن عبدها أو لمن كفر بها؟ إذن: هي معبودة، لكن بالباطل؛ لأنها آلهة بلا منهج.
وكلمة } إِنَّمَآ { [طه: 98] لا تأتي إلا استدراكاً على باطل، وتريد أن تُصوِّبه، كأن تقول: إنما الذي حضر زيد، فلا تقولها إلا لمن ادَّعى أن الذي حضر غير زيد، فكأنك تقول: لا، فلان لم يحضر، إنما الذي حضر زيد.
فلا بُدَّ أن قوله تعالى: } إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ { [طه: 98] جاء رداً على كلام قيل يدَّعي أن هناك إلهاً آخر، وإنما لا تُقال إلا إذا ادُّعِيَ أمر يخالف ما بعدها، فتنفي الأمر الأول، وتُثبت ما بعدها.
وهنا يقول: } إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ { [طه: 98] لأن السامريَّ لما صنع لهم العجل قال:{ هَـاذَآ إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَىا }[طه: 88] فكذَّبه الله واستدرك بالحقِّ على الباطل: } إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ { [طه: 98].
ثم أضاف الحق ـ تبارك وتعالى ـ ما يُفرِّق بين إله الحق وإله الباطل، فقال: } وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً { [طه: 98] لأنه سبحانه هو الإله الحق، وهذه أيضاً رَدٌّ على السامريّ وما اتخذه إلهاً من دون الله، فالعجل الذي اتخذه لا عِلمَ عنده، وكذلك السامري الذي أمر الناس بعبادته، فلو كان عنده علم لعرفَ أن عِجْله سيُحرق ويُنسَف وتذروه الرياح، ولعرفَ العاقبة التي انتهى إليها من قوله للقوم (لا مساس)، وأنه سينزل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، فلو علم هذه الحقائق ما أقدمَ على هذه المسألة.
ووسع علم الله لكل شيء يعني: مَنْ أطاع ومَنْ عصى، لكن من رحمته تعالى بنا ألاَّ يحاسبنا عَمَّا علم منّا، بل يعلمنا حين ندعوه أن نقول:{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً }[غافر: 7] فسبقتْ رحمته تعالى سيئاتنا وذنوبنا، وسبقت عذابه ونقمته، وفي موضع آخر يقول عز وجل:{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ }[الأعراف: 156].
فلو وقفنا عند } وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً { [طه: 98] لأتعبتْنا هذه المسألة؛ لأنه سيجازينا عن السيئة وعن الحسنة، ومَنْ يطيق هذا؟
ثم يُبيِّن الحق سبحانه حكمة القَصَص في القرآن، والقَصَص لون من التاريخ، وليس مطلق التاريخ، القصص تاريخ لشيء مشهود يهمني وتفيدني معرفته، وإلا فمن التاريخ أن نقول: كان في مكان كذا رجل يبيع كذا، وكان يفعل كذا أو كذا.

إذن: فالقصص حدث بارز، وله تأثيره فيمَنْ سمعه، وبه تحدث الموعظة، ومنه تؤخذ العبرة.
والتاريخ هو ربط الأحداث بأزمنتها، فحين تربط أيَّ حدث بزمنه فقد أرَّخْتَ له، فإذا كان حَدَثاً متميزاً نسميه قصة تُروَى، فإنْ كانت قصة شهيرة تعلو على القصص كله نسميها سيرة، لذلك خُصَّ باسم السيرة تاريخ قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القَصَص شيء مميز، أما السيرة فهي أميز، ورسول الله خاتم الأنبياء؛ لذلك نقول عن تاريخه سيرة ولا نقول قصة؛ لأن واقعه في الحياة كان سَيْراً على منهج الله، وعليه نزل القرآن، وكان خُلقه القرآن.
والقصص يأتي مرة بالحدث، ثم تدور حوله الأشخاص، أو يأتي بشخصية واحدة تدور حولها الأحداث، فإذا أردتَ أن تؤرخ للثورة العرابية مثلاً وضعت الحدث أولاً، ثم ذكرتَ الأشخاص التي تدور حوله، فإنْ أردتَ التأريخ لشخصية عرابي وضعت الشخصية أولاً، ثم أدرت حولها الأحداث.
وقَصص القرآن يختلف عن غيره من الحكايات والقصص التي نسمعها ونحكيها من وضع البشر وتأليفهم، فهي قصص مُخْتَرعة تُبنى على عُقْدة وَحلِّها، فيأخذ القاصُّ حدثاً، ثم ينسخ حوله أحداثاً من خياله.
وبذلك يكونون قد أخذوا من القصص اسمه، وعدلوا عن مُسمَّاه، فهم يُسمُّون هذا النسيج قصة، وليست كذلك؛ لأن قصة من قصَّ الأثر اي: مشى على أثره وعلى أقدامه، لا يميل عنها ولا يحيد هنا أو هناك.
فالقصة ـ إذن ـ التزام حدثيٌّ دقيق لا يحتمل التأليف أو التزييف، وهذا هو الفَرْق بين قَصَص القرآن الذي سماه الحق سبحانه وتعالى:{ الْقَصَصُ الْحَقُّ }[آل عمران: 62] و{ أَحْسَنَ الْقَصَصِ }[يوسف: 3] وبين قَصَص البشر وتآليفهم.
القصص الحقُّ وأحسن القصص؛ لأنه ملتزم بالحقيقة لا يتجاوزها، وله غاية سامية أَسْمى من قَصَص دنياكم، فقَصَص الدنيا غايته وخلاصته ـ إن أفلح ـ أن يحميك من أحداث الدنيا، أما قصص القرآن فحمايته أوسع؛ لأنه يحميك في الدنيا والآخرة.
فإنْ رأيتَ في قصص القرآن تكراراً فاعلم أنه لهدف وغاية، وأنها لقطات شتَّى لجوانب الحدَث الواحد، فإذا ما تجمعتْ لديك كل اللقطات أعطتك الصورة الكاملة للحدث.
وهنا يقول تعالى: } كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ {

(/2428)


كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)


وفي موضع آخر قال تعالى:{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ }[هود: 120].
فكأن فؤاده صلى الله عليه وسلم كان في حاجة إلى تثبيت؛ لأنه سيتناول كل أحداث الحياة، وسيتعرض لما تشيب لهَوْله الرؤوس، ألم يَقُلْ الحق تبارك وتعالى عن الرسل قبله:{ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىا يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىا نَصْرُ اللَّهِ }[البقرة: 214].
ألم يُضطهد رسول الله والمؤمنون ويُضربوا ويُحاصروا في الشِّعْب بلا مأوى ولا طعام، حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر؟
فهذه أحداث وشدائد تضطرب النفس البشرية حين تستقبلها، ولا بُدَّ لها من تأييد السماء لتثبت على الإيمان؛ لذلك يقصُّ الحق ـ تبارك وتعالى ـ على رسوله قصص مَنْ سبقوه في موكب الرسالات ليقول له: لست يا محمد بِدْعاً من الرسل، فقد تحملوا من المشاق كيت وكيت، وأنت سيدهم، فلا بُدَّ أنْ تتحمل من المشاقِّ ما يتناسب ومكانتك، فوطِّن نفسك على هذا.
فقوله تعالى: { كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } [طه: 99] (كذلِكَ): أي: كما قصصنا عليك قصة موسى وهارون وفرعون والسامريّ نقصُّ عليك قصصاً آخر من أنباء مَنْ سبقُوك من الرسل.
وأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر الهام العظيم، فلا يُقال للأمر التافه نبأ. ومن ذلك قوله تعالى عن يوم القيامة:{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ }[النبأ: 1ـ2] إنما يُقال " خبر " في أي شيء.
ثم يقول تعالى: { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } [طه: 99].
وأكد الإتيان بأنه { مِن لَّدُنَّا } [طه: 99] أي: من عندنا، فلم يَقُلْ مثلاً: آتيناك ذِكْراً. وهذا له معنى؛ لأن كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين نزلت ورُويتْ بالمعنى، ثم صاغها أصحابها بألفاظ من عند أنفسهم، أمَّا القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي نزل بلفظه ومعناه؛ لذلك قال { مِن لَّدُنَّا } [طه: 99] أي: مباشرة من الله لرسوله.
والمتأمّل في تبليغ الرسول وتلقِّيه عن ربه يجد أنه يحافظ على لفظ القرآن، لا يُخْفى منه حرفاً واحداً، كما في قوله تعالى مثلاً:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1] فكان يكفي في تبليغ هذه العبارة أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أحد، لكنه يقول نصّ ما جاءه من ربه مباشرة.
أرأيتَ لو قلت لولدك: اذهب إلى عمك وقُلْ له: أبي سيزورك غداً، ألاَ يكفي أن يقول الولد: أبي سيزورك غداً؟
إذن: فالقرآن الذي بين آيدينا هو نفسه كلام الله المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم لم يتغير فيه حرف واحد لا بالزيادة ولا بالنقصان؛ لأنه نصُّ الإعجاز، وما دام نص الإعجاز فلا بُدَّ أنْ يظلَّ كما قاله الله.
ومعنى { ذِكْراً } [طه: 99] للذكْر معان متعددة، فيُطلق الذكر، ويُراد به القرآن، كما في قوله تعالى:

{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9].
ويُطلَق ويُراد به الصِّيت والشَّرف والجاه في الدنيا، كما في قوله تعالى:{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ }[الأنبياء: 10] أي: شرفكم ورِفْعتكم بين الناس، وقال:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }[الزخرف: 44].
وقد يقول قائل: كيف يكون القرآن ذكراً وشرفاً للعرب، وقد أبان عجزهم، وأظهر ما فيهم من عِيٍّ؟ وهل يكون للمغلوب صِيت وشَرف.
نقول: كونهم مغلوبين للحق شهادة بأنهم أقوياء، فالقرآن أعجز العرب وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان، والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حين يتحدى لا يتحدى الضعيف، إنما يتحدى القوي، ومن الفخر أن تقول: غلبت البطل الفلاني، لكن أيّ فخر في أن تقول: غلبت أيّ إنسان عادي؟
وكذلك يُطلَق الذكْر على كل كتاب أنزله الله تعالى، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43] أي: أهل الذكر قبلكم، وهم أهل التوراة وأهل الإنجيل.
ويُطلَق الذكر، ويُراد به فعل العمل الصالح والجزاء من الله عليه، كما قال تعالى:{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }[البقرة: 152] أي: اذكروني بالطاعة أذكركم بالخير.
ويأتي الذكْر بمعنى التسبيح والتحميد، وبمعنى التذكُّر والاعتبار، فله ـ إذن ـ معانٍ متعددة يُحدِّدها السياق.
لكن، لماذا اختار كلمة (ذكر) ولم يقل مثلاً كتاباً؟
قالوا: لأن الذكْر معناه أن تذكر الشيء بداية؛ لأنه أمر مهم لا يُنسَى، وهو ذِكْر لأنه يُسْتلهم، ومن الذكر الاعتبار والتذكير، والشيء لا يُذكر إلا إذا كان له أهمية، هذه الأهمية تتناسب مع الأمر من حيث مُدّة أهميته ومقدار أهميته، وكل ذكر لشيء في الدنيا قصارى أمره أنْ يعطيك خير الدنيا، أمّا القرآن فهو الذكر الذي يعطيك خير الدنيا والآخرة؛ لذلك فهو أهم ذكر يجب أنْ يظلَّ على بالك لا يُنسى أبداً.
إذن: فالقرآن ذِكْر ذُكر أولاً، وذِكْر يُذكَر ثانياً، ويستلهم ذكراً يشمل الزمن كله في الدنيا وفي الآخرة.
ثم يصف الحق تبارك وتعالى هذا الذكر، فيقول: } مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ {

(/2429)


مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)


أعرض: نعرف أن الطول أبعد المسافات، وأن العرض أقصر المسافات؛ لذلك لما أراد الحق سبحانه أن يُصوِّر لنا اتساع مُلْكه سبحانه قال:{ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ }[آل عمران: 133] فأتى بالأوسع للأقل، فإن كان عَرْضها السموات والأرض، فما بالك بطولها؟ لا بُدَّ أنه لا نهاية له.
والإنسان مِنّا له طول، وله عرض، ولا يميز العرض إلا الكتفان، ودائماً مرآهما من الخلف، لا من الأمام؛ لذلك نجد الخياط إذا أراد أنْ يقيس لك الثوب قاسه من الخلف، فعَرْض الإنسان مؤخرته من أعلى.
وبذلك يكون أعرض عن كذا، يعني: تركه وذهب بعيداً عنه، أو: أعطاه ظهره وانصرف عنه.
ومن ذلك ما نقوله (اديني عرض كتافك) يعني: در وجهك وانصرف عني، فإنْ كان جالساً نقول (انقُضْ طولك أو اطول) أي: قم وأَرِني طولك، كي تريني عرض أكتافك وتنصرف عني.
والحق ـ سبحانه وتعالى ، يعطينا صورة من الإعراض للذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، فيقول:{ يَوْمَ يُحْمَىا عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىا بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }[التوبة: 35].
وهكذا ترى ترتيب العذاب حسْب ترتيب الإعراض، فأول ما واجهه السائل قَطَّب جبهته، وكشَّر وبدَتْ عليه ملامح الغضب والضيق، ثم أدار له جنبه، ثم أعطاه ظهره وانصرف عنه.
والوِزْر: الحِمْل الثقيل، وليْتَه في الدنيا فيمكنك أن تتخلص منه، إما بأنْ يُوضع عنك، وإما أنْ تفوته بالموت، إنما الوِزْر هنا في الآخرة؛ لذلك فهو وزر ثقيل لا ينحط عنك ولا تفوته بالموت، فهو حِمْل لا نهايةَ له ولا أملَ في الخلاص منه. فهو ثقيل ممتد الإيلام، فقد يكون الحمل ثقيلاً إلا أنه مُحبَّب إلى النفس، كمَنْ يحمل شيئاً نافعاً له، أمّا هنا فحِمْل ثقيل مكروه.
وبعد ذلك يستدرك به على العقوبة، فالذي يأثم يُقال: أتى وزراً.
{ خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ }

(/2430)


خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)


ساء: قبح ذلك الحمل يوم القيامة؛ لأن الحمل قد لا يكون قبيحاً إنْ كان خيراً، وإن كان شراً فقد يحمله صاحبه في الدنيا ويزول عنه أمّا الوزر فحِمْل سيىء قبيح، لأنه في دار الخُلْد التي لا نهايةَ لها.
فمتى يكون ذلك؟

(/2431)


يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)


وهو يوم القيامة، والصور: هو البوق الذي يُنفخ فيه النفخة الأولى والثانية، كما جاء في قوله تعالى:{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر: 68].
وقوله تعالى: { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [طه: 102].
أي: نجمعهم ونسوقهم زُرْقاً، والزُّرْقة هي لونهم، كما ترى شخصاً احتقن وجهه، وازرقَّ لونه بسبب شيء تعرَّض له، هذه الزُّرْقة نتيجة لعدم السلام والانسجام في كيماوية الجسم من الداخل، فهو انفعال داخلي يظهر أثره على البشرة الخارجية، فكأن هَوْلَ القيامة وأحداثها تُحدِث لهم هذه الزرقة.
والبعض يفسر { زُرْقاً } [طه: 102] أي: عُمْياً، ومن الزُّرْقة مَا ينشأ عنها العمى، ومنها المياه الزرقاء التي تصيب العين وقد تسبب العمى.

(/2432)


يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)


أي: في هذه الحال التي يُحشرون فيها زرقاً { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } [طه: 103] أي: يُسِرُّون الكلام، ويهمس بعضهم إلى بعض، لا يجرؤ أحد منهم أنْ يجهر بصوته من هَوْل ما يرى، والخائف حينما يلاقي من عدوه مَا لا قِبلَ له به يُخفِي صوته حتى لا يُنبهه إلى مكانه؛ أو: لأن الأمر مَهوُل لدرجة الهلع الذي لا يجد معه طاقة للكلام، فليس في وُسْعه أكثر من الهَمْس.
فما وجه التخافت؟ وبِمَ يتخافتون؟
يُسِرُّ بعضهم إلى بعض { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [طه: 103] يقول بعضهم لبعض: ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام، ثم يُوضِّح القرآن بعد ذلك أن العشرة هذه كلامهم السطحي، بدليل قوله في الآية بعدها:{ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً }[طه: 104].
فانتهت العشرة إلى يوم واحد، ثم ينتهي اليوم إلى ساعة في قوله تعالى حكاية عنهم:{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }[الروم: 55] فكُلُّ ما ينتهي فهو قصير.
إذن: أقوال متباينة تميل إلى التقليل؛ كأن الدنيا على سَعة عمرها ما هي إلا ساعة:{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ }[الأحقاف: 35].
وما هذا التقليل لمدة لُبْثهم في الدنيا إلا لإفلاسهم وقِلَّة الخير الذي قدَّموه فيها، لقد غفلوا فيها، فخرجوا منها بلا ثمرة؛ لذلك يلتمسون لأنفسهم عُذْراً في انخفاض الظرف الزمني الذي يسَع الأحداث، كأنه لم يكُنْ لديهم وقت لعمل الخير؟؟
ثم يقول الحق سبحانه: { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ }

(/2433)


نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)


الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقصُّ على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ما سيكون من أمر هؤلاء المجرمين في الآخرة، فإذا ما وقعتْ القيامة جاءت الصورة كما حكاها الله لرسوله هي هي؛ ذلك لأن الله تعالى وسع كل شيء علماً.
وهذا القول الذي حكاه القرآن عنهم أمر في اخيتارهم، وقد سمعوا ذلك من رسول الله، وبوسعهم ألاَّ يقولوا، لكن إذا جاءت القيامة فسوف يقولونه بالحرف الواحد لا يُغيِّرون منه شيئاً.
وقوله: { أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } [طه: 104] يعني: أحسنهم حُكْماً.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ }

(/2434)


وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)


تكلمنا عن (يسألونك) في قوله تعالى:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ }[البقرة: 219].
والسؤال استفهام يعني: طلب فَهْم يحتاج إلى جواب، والسؤال إما أن يكون من جاهل لعالم، كالتلميذ يسأل أستاذه ليعلم الجواب، أو: من عالم لجاهل، كالأستاذ يسأل تلميذه ليعرف مكانته من العلم وإقراره بما يعلم.
وهذه المسألة حَلَّتْ لنا إشكالاً كان المستشرقون يُوغلون فيه، يقولون: بينما الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }[الرحمن: 39] يقول في آية أخرى:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24] فالأولى تنفي السؤال، والثانية تُثبته؛ لذلك اتهموا القرآن بالتضارب بين آياته.
وهؤلاء معذورون، فليست لديهم المَلَكة العربية لفَهْم الأداء القرآني، وبيان هذه الإشكال أن السؤال يرِدُ في اللغة إمَّا لتعلمَ ما جهلتَ، وإما لتقرير المجيب بما تعلم أنت ليكون حجة عليه.
فالحق سبحانه حين يقول:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24] أي: سؤالَ إقرار، لا سؤالَ استفهام، فحين ينفي السؤال ينفي سؤال العلم من جهة المتكلم، وحين يثبت السؤال فهو سؤال التقرير.
والحدث مرة يُنفَى، ومرة يُثبت، لكن جهة النفي مُنفكَّة عن جهة الإثبات، فمثلاً الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ }[الأنفال: 17].
فنفى الرمي في الأولى، وأثبته في الثانية، والحدث واحد، المثَبت له والمنفيّ عنه واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم. فكيف نخرج من هذا الإشكال؟ أرمَى الرسول أم لم يَرْمِ؟
ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً بالأب الذي جلس بجوار ولده كي يذاكر دروسه، فأخذ الولد يذاكر، ويُقلِّب صفحات الكتاب، وحين أراد الأب اختبار مدى ما حصَّل من معلومات لم يجد عنده شيئاً، فقال للولد: ذاكرت وما ذاكرت. ذاكرت يعني: فعلت فِعْل المذاكر، وما ذاكرت لأنك لم تُحصِّل شيئاً.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رمى، أيمكنه أنْ يُوصل هذه الرمية إلى أعين الجيش كله؟ إذن: فرسول الله أخذ قبضة من التراب ورمى بها ناحية الجيش، إنما قدرة الله هي التي أوصلتْ حفنة التراب هذه وذَرَّتْها في أعيُنِ الأعداء جميعاً.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[الجاثية: 26] فنفتْ عنهم العلم، وفي آية أخرى:{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[الروم: 7] فأثبتتْ لهم عِلْماً.
نعود إلى قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } [طه: 105] وحينما استعرضنا (يَسْألُونَكَ) في القرآن الكريم وجدنا جوابها مسبوقاً بـ (قُلْ) كما في قوله تعالى:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }[البقرة: 219].
وقوله تعالى{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ }[البقرة: 189] وهكذا في كل الآيات، ما عدا قوله تعالى هنا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [طه: 105] فاقترن الفعل (قُلْ) بالفاء، لماذا؟
قالوا: لأن السؤال في كُلِّ هذه الآيات سؤال عن شيء وقع بالفعل، فكان الجواب بقُلْ.

مثل:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى }[البقرة: 222] أما } وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ { [طه: 105] قال في الجواب } فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً { [طه: 105]؛ لأنه حَدَثٌ لم يقع بَعْد.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يُخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيُسَأل هذا السؤال، فكأن الفاء هنا دَلَّتْ على شرط مُقدّر، بمعنى: إنْ سألوك بالفعل فقُلْ: كذا وكذا.
إذن: السؤال عن الجبال لم يكُنْ وقت نزول الآية، أمَّا الأسئلة الأخرى فكانت موجودة، وسُئِلت لرسول الله قبل نزول آياتها.
وقد تأتي إجابة السؤال بدون (قُلْ) كما في قوله تعالى:{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ }[البقرة: 186] ولم يقُلْ هنا (قُلْ أو فقُلْ) لأنها تدُّل على الواسطة بين الله تعالى وبين عباده، وكأن الحق ـ سبحانه ـ يُوضّح أنه قريب من عباده حتى عن الجواب بقُلْ.
وقد تتعجب: كيف تأتي في القرآن كل هذه الأسئلة لرسول الله مع أن القرآن كتاب منهج جاء بتكاليف قد تشقُّ على الناس؛ لأنه يلزمهم بأمور تخالف ما يشتهون، فكان المفروض ألاَّ يسألوا عن الأمور التي لم ينزل فيها حكم.
نقول: دَلَّتْ أسئلتهم هذه على عِشْقهم لأحكام الله وتكاليفه، فالأشياء التي كانت عاداتٍ لهم في الجاهلية يريدون الآن أنْ يُؤدُّوها على طريقة الإسلام على أنها عبادة، لا مجرد عادة جاهلية.
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن السؤال فقال: " دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ".
ومع ذلك سألوا وأرادوا أنْ تُبنَى حياتهم على منهج القرآن من الله، لا على أنه إِلْف عادة كانت له في الجاهلية، إذن: هذه الأسئلة ترسيمُ للأمر من جانب الحق سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: } فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً { [طه: 105] تكلمنا عن هذا المعنى في قوله تعالى:{ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً }[طه: 97] فالمراد: نُفتِّتها ونذروها في الهواء، وأكَّد النسف، فقال{ نَسْفاً }[طه: 97] ليؤكد أن الجبل سيتفتت إلى ذرات صغيرة يذروها الهواء.
فقد يتصوَّر البعض أنْ الجبال تُهَدُّ، وتتحول إلى كُتَل صخرية كما نُفجِّر نحن الصخور الآن إلى قطع كبيرة؛ لذلك أكّد على النسف، وأن الجبال ستكون ذرات تتطاير؛ لذلك قال في آية أخرى:{ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ }[القارعة: 5] أي: كالصوف المندوف.
لكن، لماذا ذكر الجبال بالذات؟
قالوا: لأن الإنسان يرى أنه ابْنُ أغيار في ذاته، وابن أغيار فيما حوله مِمَّا يخدمه من حيوان أو نبات، فيرى الحيوان يموت أو يُذبَح، ويرى النبات يذبل ثم يجفّ ويتفتَّت، والإنسان نفسه يموت وينتهي.
إذن: كل ما يراه حوله بيِّن فيه التغيير والانتهاء، إلا الجبال يراها راسية ثابتة، لا يلحقها تغيير ظاهر على مرِّ العصور.
لذلك يُضرب بها المثل في الثبات، كما في قوله الحق سبحانه وتعالى:{ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }[إبراهيم: 46].
فالجبال مظهر للثبات، فقد يتساءل الإنسان عن هذا الخلْق الثابت المستقر، ماذا سيفعل الله به؟
ثم يقول الحق سبحانه: } فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً {

(/2435)


فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)


{ قَاعاً صَفْصَفاً } [طه: 106]: أرضاً مستوية مَلْساء لا نباتَ فيها ولا بناء، والضمير في { فَيَذَرُهَا } [طه: 106] يعود على الأرض لا على الجبال؛ لأن الجبال لا تكون قاعاً صفصفاً، أمّا الأرض مكان الجبال فتصير ملساء مستوية، لا بناءَ فيها ولا جبال، فالأرض شيءٌ والجبال فوقها شيء آخر.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }[فصلت: 9ـ10].
فالضمير في{ وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا }[فصلت: 10] لا يعود على الأرض، إنما على الجبال. لأن الجبال في الحقيقة هي مخازن القُوت ومصدر الخِصْب للأرض، التي هي مصدر القوت، فالإنسان مخلوق من الأرض، واستبقاء حياته من الأرض، فالنبات قوت الإنسان وللحيوان، والنبات والحيوان قوت للإنسان.
إذن: لا بُدَّ للأرض من خُصُوبة تساعدها وتُمدّها بعناصر الغذاء، ولو أن الخالق ـ عز وجل ـ جعل الأرض هكذا طبقةً واحدة بها المخصّبات لانتهتْ هذه الطبقة بعد عدة سنوات، ولأجدبتْ الأرض بعد ذلك.
إذن: خلق اللهُ الجبالَ لحكمة، وجعلها مصدراً للخصب الذي يمد الأرض مَدَداً دائماً ومستمراً ما بقيتْ الحياة على الأرض، ومن هذا تتضح لنا حكمة الخالق ـ سبحانه ـ في أن تكون الجبال صَخْراً أصمّ، فإذا ما تعرضت لعوامل التعرية على مَرَّ السنين تتفتتْ منها الطبقة الخارجية نتيجة لتغيُّر الظروف المناخية من حرارة وبرودة.
ثم تأتي الأمطار وتعمل في الصخر عمل المَبْرَد، وتُكوِّن ما يسمى بالغِرْيَن، فتحمل هذا الفتات إلى الوِدْيان ومجاري الأنهار، وتُوزِّعه على طبقة الأرض، فتزيدها خِصْباً تدريجياً كل عام، وإلاَّ لو كانت الجبال هَشَّة غير متماسكة لانهالتْ في عدة أعوام، ولم تُؤَدِّ هذا الغرض. لذلك نقول: إن الجبال هي مصدر القوت، وليست الأرض.
ألاَ ترى أن خصوبة الوادي والدلتا جاءت من طمي النيل، والغِرْين الذي يحمله الماء من أعالى أفريقيا. وهذا الغِرْيَن الذي يُنحَتُ من الجبال هو الذي يُسبب الزيادة في رقعة اليابسة، وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة في المدن المطِلَّة على البحر، فبعد أن كانت على شاطئه أصبحت الآن داخل الياسبة.
وقد مثَّلْنَا سابقاً للجبل بأنه مُثلث قاعدته إلى أسفل، والوادي مُثلث قاعدته إلى أعلى، فكل نحْتٍ في الجبل زيادة في الوادي، وكأن الخالق ـ عز وجل ـ جعل هذه الظاهرة لتتناسبَ مع زيادة السكان في الأرض.
وقد حُذِف العائد في { فَيَذَرُهَا } [طه: 106] اعتماداً على ذِهْن السامع ونباهته إلى أنه لا يكون إلا ذلك، كما في قوله تعالى:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1] فلم يذكر عائد الضمير (هو) لأنه إذا قيل لا ينصرف إلا إلى الحق سبحانه وتعالى، وإنْ لم يتقدم اسمه.
وكما في قوله تعالى:{ حَتَّىا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ }[ص: 32] والمراد: الشمس التي غابت، ففاتتْ سليمان ـ عليه السلام ـ الصلاة، ولم تذكر الآية شيئاً عن الشمس.
كذلك في:{ مَا تَرَكَ عَلَىا ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ }[فاطر: 45] أي: على الأرض ولم تذكرها الآية، كذلك هنا (فَيذَرُهَا) أي الأرض.

(/2436)


لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)


أي: كأنها مُسْتوية على " ميزان الماء " لا ترى فيها اعوجاجاً ولا (أَمْتاً) يعني: منخفض ومرتفع، فهي مستوية استواءً تاماً، كما نفعل نحن في الجدار، ونحرص على استوائه.
لذلك نرى المهندس إذا أراد استلام مبنى من المقاول يعتمد إما على شعاع الضوء؛ لأنه مستقيم ويكشف له أدنى عَيْب في الجدار أو على ذرات التراب؛ لأنها تسقط على استقامتها، وبعد عدة أيام تستطيع أن تلاحظ من ذرات التراب ما في الجدار من التواءات أو نتوءات.
ثم يقول الحق سبحانه: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ }

(/2437)


يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)


الداعي: المنادي، كالمؤذِّن الذي كثيراً ما دعا الناس إلى حضرة الله تعالى في الصلاة، فمنهم مَنْ أجاب النداء، ومنهم مَنْ تأبَّى وأعرض، أما الداعي في الآخرة، وهو الذي ينفخ في الصور فلن يتأبَّى عليه أحد، ولن يمتنع عن إجابته أحد.
وقوله: { لاَ عِوَجَ لَهُ } [طه: 108] لأننا نرى داعي الدنيا حين يُنادِي في جَمْع الناس، يتجه يميناً ويتجه يساراً، ويدور ليُسمع في كُلِّ الاتجاهات، فإذا لم يَصِلْ صوته إلى كل الآذان استيعاباً يستعمل مُكبِّر الصوت مثلاً، أما الداعي في الآخرة فليس له عوج هنا أو هناك؛ لأنه يُسمِع الجميع، ويصل صوته إلى كل الآذان، دون انحراف أو ميْل.
ثم يقول تعالى: { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [طه: 108] هذا الهمْسُ الذي قال عنه في الآيات السابقة:{ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ }[طه: 103].
ونعرف أن كل تجمُّع كبير لا تستطيع أنْ تضبط فيه جَلبة الصوت، فما بالك بجَمْع القيامة من لَدُنْ آدم عليه السلام حتى قيام الساعة، ومع ذلك: { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } [طه: 108] فلماذا كتمت هذه الأصوات التي طالما قالتْ ما تحب، وطالما كان لها جلبة وضجيج؟
الموقف الآن مختلف، والهَوْل عظيم، لا يجرؤ أحد من الهَوْل على رَفْع صوته، والجميع كُلٌّ منشغل بحاله، مُفكّر فيما هو قادم عليه، فإنْ تحدّثوا تحدّثوا سِرّاً ومخافتة: ماذا حدث؟ ماذا جرى؟
وكذلك نحن في أوقات الشدائد لا نستطيع الجهر بها، كما حدث لما مات سعد زغلول ـ رحمه الله ـ وكان أحمد شوقي وقتها في لبنان، فسمع الناسَ يتخافتون، ويهمس بعضهم إلى بعض بأن سعداً قد مات، ولا يجرؤ أحد أن يجهر بها لِهَوْل هذا الحادث على النفوس، فقال شوقي:يَطأُ الآذَانَ هَمْساَ والشِّفَاهَا قُلْتُ يا قَوْم اجمعُوا أحْلامكُمْ كُلُّ نَفْسٍ في وَريديْها رَدَاهَاثم يقول الحق تبارك وتعالى: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ }

(/2438)


يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)


والشفاعة تقتضي مشفوعاً له وهو الإنسان. وشافعاً وهو الأعلى منزلةً، ومشفوعاً عنده: والمشفوع عنده لا يسمح بالشفاعة هكذا ترتجلها من نفسك، إنما لا بُدَّ أنْ يأذنَ لك بها، وأنْ يضعَك في مقام ومرتبة الشفاعة، وهذا شَرْط في الشافع.
وقوله تعالى: { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [طه: 109] هذه للمشفوع له، أن يقول قولاً يرضى الله عنه ـ وإنْ قصَّر في جهة أخرى ـ وخَيْر ما يقوله العبد ويرضى عنه الله أن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذه مَقُولة مَرْضيَّة عند الله، وهي الأمل الذي يُتعلق به، والبُشّْرى لأهل المعاصي؛ لأنها كفيلة أن تُدخِلهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان لديك خَصْلة سيئة، أو نقطة ضعف في تاريخك تراها عقبةً فلا تيأس، وانظر إلى زاوية أخرى في نفسك تكون أقوى، فأكثِرْ بها الحسنات، لأن الحسنات يُذهِبْن السيئات.

(/2439)


يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)


معنى { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [طه: 110] ما أمامهم، ويعلم ما خلفهم، أما أنت فلا تحيط به عِلْماً، ولا تعرف إلا ما يُخبرك به، إلا أن تكون هناك مقدمات تستنبط منها، لأن ما ستره الحق في الكون كثير، منه ما جعل له مقدمات، فمَنْ ألمَّ بهذه المقدمات يصل إليها.
ومع ذلك لا يقال له: عَلِم غيباً. إنما اكتشف غيباً بمقدمات أعطاها له الحق سبحانه وتعالى، كما نعطي التلميذ تمريناً هندسياً، ونذكر له المعطيات، فيستدل بالمعطيات على المطلوب.
والكون ملىء بالأشياء والظواهر التي إنْ تأملناها وبحثْناها ولم نُعرِض عنها وجدنا فيها كثيراً من الأسرار، فبالنظر في ظواهر الكون اكتشفوا عصر البخار ويسَّروا الحركة على الناس، وبالنظر في ظواهر الكون اكتشف أرشميدس قانون الأجسام الطافية، واكتشفوا البنسلين.. إلخ.
هذه كلها ظواهر موجودة في كون الله، كانت تنتظر مَنْ يُنقِّب عنها ويكتشفها؛ لذلك ينعى علينا الحق تبارك وتعالى:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].
فلو التفتوا إليها الالتفات الحق لانتفعوا بها.
لكن هناك أشياء استأثر الله تعالى بعلمها، وقد يعطيها لمن أحبَّ من عباده، ويُطلِعهم عليها، أو تظل في علم الله لا يعرفها أحد.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ }

(/2440)


وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)


الوجه أشرف وأكرم شيء في تكوين الإنسان، وهو الذي يُعطِي الشخص سِمَته المميزة؛ لذلك يحميه الإنسان ويحفظه، ألاَ ترى لو أصاب وجهك غُبَار أو تراب أو طين مثلاً تمسحه بيدك، لم تزِدْ على أنك جعلْتَ ما في وجهك في يدك لماذا؟ لأنه أشرف شيء فيك.
لذلك، كان السجود لله تعالى في الصلاة علامة الخضوع والخشوع والذلَّة والانكسار له عز وجل، ورضيتَ أن تضع أشرف جزءٍ فيك على الأرض وتباشر به التراب، والإنسان لا يعنُو بوجهه إلا لمَنْ يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه يستحقُّ هذا السجود، وأن السجود له وحده يحميه من السجود لغيره، كما قال الشاعر:والسُّجُودُ الذِي تَجْتَوِيِه مِن أُلُوفِ السُّجُودِ فيهِ نَجَاةُفاسْجُدْ لواحد يكْفك السجود لسواه، واعمل لوجه واحد يكْفك كل الأوْجُه.
وقوله: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [طه: 111] حمل: يعني أخذه عبئاً ثقيلاً عليه. والظلم في أصله أنْ تأخذَ خيراً ليس لك لتنتفع به وتزيد ما عندك، فأنت في الظاهر تزداد كما تظن، إنما الحقيقة أنك تُحمِّل نفسك وِزْراً وحملاً ثقيلاً، سوف تنوء به، وازددْتَ إثماً لا خيراً.
والظلم مراتب ودرجات، أدناها أنْ تأخذ ما ليس لك وإن كان حقيراً لا قيمة له، أو تظلم غيرك بأنْ تتناوله في عِرْضه، ثم ترقى الظلم إلى أنْ تصلَ به إلى القمة، وهو الشرك بالله، كما قال سبحانه:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
وهو عظيم؛ لأنك أخذتَ حقّاً لله تعالى، وأعطيته لغيره.
إذن: فحاول أن تَسْلَم من هذه الآفة؛ لأن الله قال فيها:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }[النساء: 48].
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ }

(/2441)


وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)


الصالحات: هي الأعمال التي تعود بالخير عليك أو على غيرك، وأضعفُ الإيمان في عمل الصالح أن تترك الصالح في ذاته على صلاحه فلا تفسده، كأن تجد بئراً يشرب منه الناس فلا تطمسه ولا تلوثه. فإنْ رقيت العمل الصالح فيمكنك أن تزيد من صلاحه، فتبنى حوله جداراً يحميه أو تجعل له غطاءً.. إلخ.
ومن رحمة الله بنا أنه سبحانه حينما حثَّنا على العمل الصالح قال: { مِنَ الصَّالِحَاتِ } [طه: 112] ومن هنا للتبعيض، فيكفي أنْ تفعل بعض الصالحات؛ لأن طاقة الإنسان لا تسع كل الصالحات ولا تقوى عليها، فحسْبُك أن تأخذ منها طرفاً، وآخر يأخذ طرفاً، فإذا ما تجمعتْ كل هذه الأطراف من العمل الصالح من الخلق كوَّنَتْ لنا الصلاح الكامل.
كما سبق أن ذكرنا أن ليس بوسع أحد منا أن يجمع الكمال المحمدي في أخلاقه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " الخير فيَّ ـ حقاً ـ وفي أمتي إلى يوم القيامة ".
ففي كل فرد من أفراد الأمة خصلة من خصال الخير، بحيث إذا تجمعت خصال الكمال في الخلق أعطتنا الكمال المحمدي.
وقوله: { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [طه: 112] لأن الإيمان شرط في قبول العمل الصالح، فإنْ جاء العمل الصالح من غير المؤمن أخذ أجره في الدنيا ذِكْراً وشُهْرة وتخليداً لذكراه، فقد عمل ليقال وقد قيل، وانتهتْ المسألة.
ثم يقول تعالى: { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [طه: 112] والظلم هنا غير الظلم في قوله تعالى:{ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً }[طه: 111] فالظلم هنا من الإنسان لنفسه أو لغيره، إنما { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [طه: 112] أي: ظُلْماً يقع عليه، بألاَّ يأخذ حقه على عمله، بمعنى أننا لا نعاقبه على سيئة لم يعملها، ولا نضيع عليه ثواب حسنة عملها؛ لأن الحق سبحانه لا يظلم الناس مثقال ذرة.
{ وَلاَ هَضْماً } [طه: 112] الهَضْم يعني النقصان، فلا ننقصه أجره وثوابه، ومنه هضم الطعام، فكمية الطعام التي نأكلها تُهضَم ثم تُمتصّ، وتتحول إلى سائل دموي، فتأخذ حَيِّزاً أقل، ومنه نقول: فلان مهضوم الحق. يعني: كان له حق فلم يأخذه.
لكن، ما فائدة عطف (هَضْماً) على (ظُلْماً) فنَفْي الظلم نَفْي للهضم؟ نقول: لأنه مرة يُبطل الثواب نهائياً، ومرة يُقلِّل الجزاء على الثواب.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }

(/2442)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)


(كَذَلِكَ) أي: كالإنزال الذي أنزلناه إلى الأمم السابقة، فكما أرسلنا إليهم رُسُلاً أرسلنا إلى الأمم المعاصرة لك رسلاً، إلا أنْ فارق الرسالات أنهم بُعِثُوا لزمان محدود، في مكان محدود، وبُعثْتَ للناس كافّة، وللزمان كافة إلى أنْ تقوم الساعة.
ونفهم من كلمة { أَنزَلْنَاهُ } [طه: 113] أن المُنزَّل أعلى من المُنزَّل عليه، فالإنزال من شيء عالٍ، وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يلفت أنظارنا ويُصعِّد هممنا، فيقول: لا تهبطوا إلى مستوى تشريع الأرض؛ لأنه يُقنِّن للحاضر ويجهل المستقبل، ويتحكم فيه الهوى فتغيب عنه أشياء فيحتاج إلى استدراك.
لذلك، حين ينادينا إلى منهجه العلوي يقول:{ قُلْ تَعَالَوْاْ }[الأنعام: 151] يعني: اعلوا وخُذُوا منهجكم من أعلى، لا من الأرض.
{ قُرْآناً } [طه: 113] يعني: مقروء، كما قال{ كِتَاباً }[الأنبياء: 10] يعني: مكتوب، ليُحفظ في الصدور وفي السطور. وقال { قُرْآناً عَرَبِيّاً } [طه: 113] مع أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرْسَل إلى الناس كافة في امتداد الزمان والمكان، والقرآن نزل معجزة للجميع.
قالوا: لأنه صلى الله عليه وسلم هو المباشر لهذه الأمة العربية التي ستستقبل أول دعوة له، فلا بُدَّ أنْ تأتي المعجزة بلسانها، كما أن معجزة القرآن ليستْ للعرب وحدهم، إنما تحدٍّ للإنس والجن على امتداد الزمان المكان.
كما قال سبحانه:{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ }[الإسراء: 88].
فالقرآن تحدٍّ لكل الأجناس: الروسي، والأمريكي، والياباني، والدنيا كلها، ومعهم الجن أيضاً. لكن لماذا والجن أيضاً داخل في مجال التحدي؟
قالوا: لأن العرب قديماً كانوا يعتقدون أن لكل شاعر أو خطيب مفوه شيطاناً يمُدُّه ويُوحِي إليه؛ لذلك أدخل الجن أيضاً في هذا المجال.
وقد يقول قائل: وكيف نتحدّى بالقرآن غير العرب وهو بلسان عربي، فهو حجة على العرب دون غيرهم؟
نقول: وهل إعجاز القرآن من حيث أسلوبه العربي وأدائه البياني فقط؟ لا، فجوانب الإعجاز في القرآن كثيرة لا تختلف فيها اللغات، فهل تختلف اللغات في التقنين لخير المجتمع؟ ألم يأْتِ القرآن بمنهج في أمة بدوية أمية يغزو أكبر حضارتين معاصرتين له، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب؟ ألم تكُنْ هذه الظاهرة جديرةً بالتأمل والبحث؟
ثم الكونيات التي تحدَّث القرآن عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن.
إذن: طبيعي أن يأتي القرآن عربياً؛ لأنه نزل على رسول عربي، وفي أمة عربية، والحق سبحانه يقول:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }[إبراهيم: 4].
فهم الذين يستقبلون الدعوة، وينفعلون لها، ويقتنعون بها، ثم ينساحون بها في شتَّى بقاع الأرض، ومن العجيب أنهم بدعوة القرآن أقنعوا الدنيا التي لا تعرف العربية، أقنعوها بالمبادىء والمناهج التي جاء بها القرآن؛ لأنها مبادىء ومناهج لا تخلتف عليها اللغات.

ثم يقول تعالى: } وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ { [طه: 113] أي: حينما ينذر القرآن بشيء يُصرف هذا الإنذار على أوجه مختلفة، ويُكرَّر الإنذار لينبه أهل الغفلة.
يعني: لوَّنا فيه كل أساليب الوعد والوعيد، فكل أسلوب يصادف هوى في نفس أحد المستقبلين، فخطابنا الأهواء كلها بكل مستوياتها، فالعالم والجاهل ومتوسط الفكر، الكل يجد في القرآن مَا يناسبه؛ لأنه يُشرِّع للجميع، للفيلسوف وللعامي، فلا بُدَّ أنْ يكون في القرآن تصريفٌ لكل ألوان الملكات ليقنع الجميع.
وفي القرآن وَعْد ووعيد، فلكل منهما أهْل، ومَنْ لم يَأْتِ بالإغراء بالخير يأتي بأن ينزعه بالقوة والجبروت، كما قال الشاعر:أَنَاةٌ فَإِنْ لم تُغْنِ عَقَّبَ بعدَها وَعِيداً فَإنْ لم يُغْن أغنَتْ عَزَائمهُوفي الأثر: " إن الله ليزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن ".
والإنذار والتخويف نعمة من الله، كما ورد في سورة الرحمن، حيث يقول تعالى:{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 19ـ21] فهذه نعم من الله.
أما قوله:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 35ـ36] فما النعمة في النار والشُّواظ؟
النعمة أن ينذرك الله بها ويحذرك منها، قبل أنْ تقعَ فيها، ويعظك بها وأنت ما زلتَ في فترة المهلة والتدارك، فلا يأخذك على غِرَّة ولا يتركك على غفلتك. كما تُحذِّر ولدك: إنْ أهملتَ دروسك فسوف تفشل في الامتحان فيحتقرك زملائك، ويحدث لك كيت وكيت، فلم يترك ولده على غَفْلته وإهماله، إلى أنْ يداهمه الامتحان ويُفاجِئه الفشل، أليستْ هذه نعمة؟ أليستْ نصيحة مهمة؟
والتصريف: يعني التحويل والتغيير بأساليب شتَّى لتناسب استقبال الأمزجة المختلفة عند نزول القرآن لعلها تصادف وَعْياً واهتماماً } لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً { [طه: 113].
} لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ { [طه: 113] الاتقاء عادة يكون للشر والمعاصي المهلكة، أو يُحدِث لهم الذكْر والشرف والرفعة بفعل الخيرات، وهذا من ارتقاءات الطاعة.
ذلك لأن التكليف قسمان: قسم ينهاك عن معصية، وقسم يأمرك بطاعة، فينهاك عن شُرْب الخمر، ويأمرك بالصلاة، فهم يتقون الأول، ويُحدِث لهم ذِكْراً يوصيهم بعمل الثاني. وما دام القرآن نازلاً من أعلى فلا بُدَّ أن يقول بعدها: } فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ {

(/2443)


فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)


{ تَعَالَى } [طه: 114] تنزّه وارتفع عن كل ما يُشبه الحادث، تعالى ذاتاً، فليستْ هناك ذاتٌ كذاته، وتعالى صفاتاً فليست هناك صفة كصفته، فإنْ وُجِدَتْ صفة في الخَلْق تشبه صفة في الخالق سبحانه، فخُذْها في ضوء{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى: 11].
فالحق سبحانه لا يضنُّ على عبده أنْ يُسميه خالقاً إنْ أوجد شيئاً من عدم، إنما لما تكلم عن خَلْقه سبحانه، قال:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنين: 14].
فأنت خالق، لكن ربَّك أحسَنُ الخالقين، فأنت خلقتَ من موجود أمّا ربك عز وجل فقد خلق من العدم، أنت خلقتَ شيئاً جامداً على حالة واحدة، والله خلق خَلْقاً حياً نامياً، يُحسُّ ويتحرك ويتكاثر، وسبق أنْ مثَّلنا لذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ بصانع الأكواب الزجاجية من الرمال، وأوضحنا الفرق بين خَلْق وخَلْق.
وقوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [طه: 114] تلفتنا إلى ضرورة التطلع إلى أعلى في التشريع. فما الذي يُجبرك أنْ تأخذ تشريعاً من عبد مثلك؟ ولماذا يأخذ هو تشريعك؟ إذن: لا بُدَّ أن يكون المشرِّع أعلى من المشرَّع له.
ومن ألفاظ تنزيه الله التي لا تُقال إلا له سبحانه كلمة (سبحان الله) أسمعتَ بشراً يقولها لبشر؟ وهناك كفرة وملاحدة ومنكرون للألوهية ومعاندون، ومع ذلك لم يقُلْها أحد مَدْحاً في أحد.
كذلك كلمة (تعالى وتبارك) لا تُقال إلا لله، فنقول: (تباركت ربنا وتعاليت) أي: وحدك لا شريك لك.
فقوله: { فَتَعَالَى اللَّهُ } [طه: 114] علا قَدْره وارتفع التنزيه ارتفاعاً لا يوصل إليه، أمّا التعالي في البشر فيما بينهم فأمْر ممقوتٌ؛ أما تعالى الحق سبحانه فمن مصلحة الخلق، وهذه اللفتة يُعَبِّر عنها أهل الريف، يقولون (اللي ملوش كبير يشتري له كبير)؛ لأن الكبير هو الذي سيأخذ بيد الضعيف ويدكّ طغيان القوى، فإذا لم يكُنْ لنا كبير نختلف ونضيع.
إذن: من مصلحة الكون كله أنْ يكونَ الله متعالياً، والحق ليس متعالياً علينا، بل متعالٍ من أجلنا ولصالحنا، فأيُّ مُتعالٍ أو جبار من البشر عندما يعلم أن الله أعلى منه يندكّ جبروته وتعاليه، وأيّ ضعيف يعلم أن له سنداً أعلى لا يناله أحد، فيطمئن ويعيش آمناً وبذلك يحدث التوازن الاجتماعي بين الناس.
ونحن نحب عبوديتنا لله عز وجل، وإنْ كانت العبودية كلمة بغيضة مكروهة حين تكون عبودية الخَلْق للخَلْق فيأخذ السيد خَيْر عبده، إلا أن العبودية لله شرف وكرامة؛ لأن العبد لله هو الذي يأخذ خَيْر سيده، فأنا عبد لله وعبوديتي له لصالحي أنا، ولن أزيد في مُلْكه شيئاً، ولن ينتفع من ورائي بشيء؛ لأنه سبحانه زوال مُلْكه وزوال سلطانه في الكون قبل أن يخلق الخَلْق، فبقدرته وعظمته خلق، وقبل أنْ توجد أنت أيها الإنسان الطاغي المتمرد أوجد لك الكون كله بما فيه.

فأنت بإيمانك لن تزيد شيئاً في مُلْك الله، كما جاء في الحديث القدسي: " يا عبادي إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني، ولن تملكوا ضري فتضروني.. " فأنا إنْ تصرَّفْتُ فيكم فلمصلحتكم، لا يعود عليَّ من ذلك شيء.
وقوله تعالى: } الْمَلِكُ الْحَقُّ { [طه: 114] لأن هناك ملوكاً كثيرين، أثبتَ الله لهم الملْك وسمَّاهم مُلُوكاً، كما قال سبحانه:{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ }[يوسف: 50] وقال:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ }[البقرة: 258].
إذن: في الدنيا ملوك، لكنهم ليسوا مُلوكاً بحق، الملك بحق هو الله؛ لأن ملوك الدنيا ملوك في مُلْك موهوب لهم من الله، فيمكن أن يفوت مُلْكَه، أو يفوته المْلكُ، وأيُّ مُلْك هذا الذي لا يملكه صاحبه؟ أيّ مُلْك هذا الذي يُسلب منك بانقلاب أو بطلقة رصاص؟
إذن: الملِك الحق هو الله، وإن ملَّك بعض الخلق شئون بعض لمصلحتهم، فهو سبحانه الذي يهَب الملْك، وهو الذي ينزعه إن أراد:{ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ }[آل عمران: 26].
فالحق سبحانه له الملْك الحق، ويهَبُ من مُلْكه لمَنْ يشاء، لكن يظل المَلِك وما مَلَكه في قبضة الله؛ لأنه سبحانه قيُّوم على خَلْقه لا يخرج أحد عن قيوميته.
وقد نسمع مَنْ يسبُّ الملوك والرؤساء، ومَنْ يخوض في حقهم، وهو لا يدري أن مُلْكهم من الله، فهو سبحانه الذي ملّكهم وفوَّضهم، ولم يأخذ أحد منه مُلْكاً رَغْماً عن الله، فلا تعترض على اختيار الله واحترم مَنْ فوَّضه الله في أمرك، واعلم أن في ذلك مصلحة البلاد والعباد، ومَنْ يدريك لعلَّ الطاغية منهم يصبح غَداً واحداً من الرعية.
إذن: الحق سبحانه ملَّك بعض الناس أمْر بعض: هذا يتصرف في هذا، وهذا يملك هذا لتسير حركة الكون، فإذا كانت القيامة، قال عز وجل:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16] هذا هو الملْك الحق.
ومن عظمته في التعالى أنه يريحك هو سبحانه بعمله لك، فيقول لك: نَمْ مِلْءَ جفونك، فأنا لا تأخذني سِنَة ولا نوم، نَمْ فلكَ رب قيوم قائم على أمرك يرعاك ويحرسك.
ومن معاني } الْمَلِكُ الْحَقُّ { [طه: 114] أي: الثابت الذي لا يتغير، وكُلُّ ظاهرة من ظواهر القوة في الكون تتغير إلا قوة الحق ـ تبارك وتعالى ـ لذلك يُلقِي سبحانه أوامره وهو واثق أنها ستُنفذ؛ لأنه سبحانه مِلكٌ حقّ، بيده ناصية الأمور كلها، فلو لم يكُنْ سبحانه كذلك، فكيف يقول للشيء: كُنْ فيكون؟ فلا يعصاه أحد، ولا يخرج عن طَوْعه مخلوق، فيقول له: كُنْ فلا يكون.
فالحق ـ تبارك وتعالى ـ أنزل القرآن عربياً، وصرَّف فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً؛ لأنه من حقه أن يكون له ذلك؛ لأنه مَلِك حق ليس له هوى فيما شرع؛ لذلك يجب أن تقبل تشريعه، فلا يطعن في القوانين إلا أن تصدر عن هوى، فإنْ قنَّن رأسمالي أعطَى الامتياز للرأسماليين، وإنْ قنَّن فقير أعطى الامتياز للفقراء، والله عز وجل لا ينحاز لأحد على حساب أحد.

وأيضاً يجب في المقنِّن أن يكون عالماً بمستجدَّات الأمور في المستقبل، حتى لا يستدرك أحد على قانون فيُغيِّره كما يحدث معنا الآن، وتضطرنا الأحداث إلى تغيير القانون؛ لأننا ساعة شرعناه غابتْ عنا هذه الأحداث، ولم نحتط لها؛ لذلك لا استدراكَ على قانون السماء أبداً.
وطالما أن الحق سبحانه وتعالى هو } الْمَلِكُ الْحَقُّ { [طه: 114] فلا بُدَّ أنْ يضمن للخلق أنْ يصلهم الكتاب والمنهج كما قاله سبحانه، لا تغيير فيه؛ لذلك قال عز وجل:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9].
نحن الذين سنحفظه؛ لأن البشر جُرِّبوا في حِفْظ مناهج السماء، ولم يكونوا أمناء عليها، فغيَّروا في التوراة وفي الإنجيل وفي الكتب المقدَّسة، إما بأن يكتموا بعض ما أنزل الله، وإما أنْ ينسُوا بعضه، والذي ذكروه لم يتركوه على حاله بل حرَّفوه. وإنْ قُبِل منهم هذا كله فلا يُقبَل منهم أنْ يفتَرُوا على الله فيُؤلِّفون من عندهم، ويقولون:{ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ }[آل عمران: 78].
ذلك لأن الحفْظ للمنهج كان موكولاً للبشر تكليفاً، والتكليف عُرْضَة لأنْ يُطَاع، ولأن يُعْصَى، كما قال تعالى:{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ }[المائدة: 44].
أي: طلب منهم أن يحفظوها بهذا الأمر التكليفي، فعَصَوْه نسياناً، وكتماناً، وتحريفاً، وزيادة؛ لذلك تولّى الحق ـ تبارك وتعالى ـ حفْظ القرآن؛ لأنه الكتاب الخاتم الذي لا استدراكَ عليه، وضمن سبحانه للقرآن ألاَّ يُحرَّف بأيِّ وجه من أَوْجُه التحريف.
فاطمئنوا إلى أن القرآن كتاب الله الذي بين أيديكم هو كلام الله الذي جاء من علمه تعالى في اللوح المحفوظ الذي قال عنه:{ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ }[الواقعة: 78ـ79].
ثم نزل به الروح الأمين، وهو مُؤتَمن عليه لم يتصرَّف فيه، ثم نزل على قلب سيد المرسلين الذي قال الله عنه:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ }[الحاقة: 44ـ45].
إذن: حُفِظ القرآن عِلْماً في اللوح المحفوظ، وحُفِظ في أمانة مَنْ نزل به من السماء، وحُفِظ في مَنْ استقبله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا حجةَ لنا بعد أن جمع الحق ـ سبحانه وتعالى ـ للقرآن كُلَّ ألوان الحفظ.
لذلك كان ولا بُدَّ حين يُنزِل الله القرآن على رسوله أن يقول له: } فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ { [طه: 114] فليست هناك حقيقة بعد هذا أبداً، وليس هناك شيء ثابت ثبوتَ الحق سبحانه وتعالى.

ثم يقول تعالى } وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىا إِلَيْكَ وَحْيُهُ { [طه: 114] وهذه مُقدِّمات ليطمئن رسول الله على حِفْظ القرآن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي، فيحاول إعادته كلمة كلمة. فإذا قال الوحي مثلاً:{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ }[الجن: 1] فيأخذ الرسول من تكرارها في سِرَّه ويُردِّدها خلف جبريل عليه السلام مخافة أنْ ينساها لشدة حِرْصه على القرآن.
فنهاه الله عن هذه العجلة } وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ { [طه: 114] أي: لا تتعجل، ولا تنشغل بالتكرار والترديد، فسوف يأتيك نُضْجها حين تكتمل، فلا تَخْشَ أنْ يفوتك شيءٌ منه طالما أنني تكفَّلْتُ بحِفْظه؛ لذلك يقول له في موضع آخر:{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىا }[الأعلى: 6].
فاطمئن ولا تقلق على هذه المسألة؛ لأن شغلك بحفظ كلمة قد يُفوِّت عليك أخرى.
والعَجَلة أنْ تُخرِج الحدث قبل نُضْجه، كأن تقطف الثمرة قبل نُضْجها وقبل أوانها، وعند الأكل تُفَاجأ بأنها لم تَسْتَوِ بعد، أو تتعجل قَطْفها وهي صغيرة لا تكفي شخصاً واحداً، ولو تركتها لأوانها لكانت كافية لعدة أشخاص.
والقرآن كلام في مستوى عَالٍ من البلاغة، وليس كلاماً مألوفاً له يسهُل عليه حِفْظه؛ لذلك كان حريصاً على الحِفْظ والتثبيت.
وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذه المسألة:{ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة: 16ـ18] أي: لما تكتمل الآيات فلكَ أنْ تقرأها كما تحب.
وهذه الظاهرة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، نبي ينزل عليه عدة أرباع من القرآن، أو السورة كاملة، ثم حيث يُسري عنه الوحي يعيدها كما أُنزِلتْ عليه، ولك أن تأتي بأكثر الناس قدرة على الحفظ، واقرأ عليه المدة عشر دقائق مثلاً من أي كتاب أو أي كلام، ثم اطلب منه إعادة ما سمع فلن يستطيع.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأمر الكَتبة بكتابة القرآن، ثم يمليه عليهم كما سمعه، لا يُغير منه حرفاً واحداً، بل ويُملي الآيات في موضعها من السور المختلفة فيقول: " ضعوا هذه في سورة كذا، وهذه في سورة كذا ".
ولو أن السورة نزلت كاملة مرة واحدة لكان الأمر إلى حَدٍّ ما سهلاً، إنما تنزل الآيات متفرقة، فإذا ما قرأ صلى الله عليه وسلم في الصلاة مثلاً قرأ بسورة واحدة نزلتْ آياتها متفرقة، هذه نزلت اليوم، وهذه نزلت بالأمس، وهكذا، ومع ذلك يقرؤها مُرتَّبة آية آية.
وقوله تعالى بعدها:{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }[القيامة: 19] وخاطب النبي في آية أخرى:{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }[النحل: 44] فالبيان من الله تعالى والتبيين من النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعنى: } مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىا إِلَيْكَ وَحْيُهُ { [طه: 114] أي: انتظر حتى يسري عنك، لكن كيف يعرف الرسول ذلك؟ كيف يعرف أن الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي قد زالتْ؟ والصحابة يصفون حال النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه فيقولون: كنا نسمع حول رأسه كغطيط النحل، وكان جبينه يتفصد عرقاً، ويبلغ منه الجهد مبلغاً، وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ برسول الله؛ لأن الله تعالى قال:{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }[المزمل: 5].
إذن: هناك آيات مادية تعرض لرسول الله عند نزول الوحي؛ لأن الوَحْي من مَلَك له طبيعته التكوينية التي تختلف وطبيعة النبي البشرية، فلكي يتم اللقاء بينهما مباشرة لا بُدَّ أنْ يحدث بينهما نوعٌ من التقارب في الطبيعة،ـ فإمّا أن يتحول الملَك من صورته الملائكية إلى صورة بشرية، أو ينتقل رسول الله من حالته البشرية إلى حالة ملائكية ارتقائية حتى يتلقّى عن الملك.
لذلك، كانت تحدث لرسول الله تغييرات كيماوية في طبيعته، هذه التغييرات هي التي تجعله يتصبَّبُ عَرَقاً حتى يقول: " زملوني زملوني " أو " دثروني دثروني " لما حدث في تكوينه من تفاعل.
فكان الوحي شاقاً على رسول الله خاصة في أوله، فأراد الحق ـ سبحانه ـ أنْ يُخفِّف عن رسوله هذه المشقة، وأنْ يُريحه فترة من نزول الوحي ليريحه من ناحية وليُشوِّقه للوحي من ناحية أخرى، فقال تعالى:{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ }[الشرح: 1ـ3] والوِزْر هو الحِمْل الثقيل الذي كان يحمله رسول الله في نزول الوحي عليه.
فلما فتر الوحي عن رسول الله شمتَ به الأعداء، وقالوا: إن ربَّ محمد قد قلاه. سبحان الله، أفي الجَفْوة تذكرون أن لمحمد رباً؟ ألستم القائلين له: كذاب وساحر؟ والآن أصبح له رب لأنه قلاه؟
وما فهم الكفار أن فتور الوحي لحكمة عالية، أرادها ربُّ محمد، هي أنْ يرتاح نفسياً من مشقة هذه التغيرات الكيماوية في تكوينه، وأنْ تتجدد طاقته، ويزداد شوقه للقاء جبريل من جديد، والشَّوْق إلى الشيء يُهوِّن الصعاب في سبيله. كما يسير المحب إلى حبيبه، لا تمنعه مشاقّ الطريق.
فردَّ الله على الكافر:{ وَالضُّحَىا * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىا * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىا * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىا * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا }[الضحى: 1ـ5].
فنفى عن رسوله ما قاله الكفار، ثم عدَّل عبارتهم: إن ربَّ محمد قد قلاه فقال:{ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىا }[الضحى: 3] هكذا بكاف الخطاب؛ لأن التوديع قد يكون للحبيب.
أمَّا في قوله:{ وَمَا قَلَىا }[الضحى: 3] فلم يأْتِ هنا بكاف الخطاب حتى مع النفي، فلم يقُلْ (وما قلاك)؛ لأن النفي مع ضمير المخاطب يُشْعِر بإمكانية حدوث الكُره لرسول الله.

كما لو قلت: أنا لم أرَ شيخ الأزهر يشرب الخمر، أمدحتَ شيخ الأزهر بهذا القول أم ذَمَمْته؟ الحقيقة أنك ذممته؛ لأنك جعلته مظنة أن يحدث منه ذلك.
فهذا التعبير القرآني يعطي لرسول الله منزلته العالية ومكانته عند ربه عز وجل.
لكن، ما الحكمة في أن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أقسم في هذه المسألة بالضحى وبالليل إذا سَجَى؟ وما صلتهما بموضوع غياب الوحي عن رسول الله؟
الله عز وجل يريد بقوله:{ وَالضُّحَىا * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىا }[الضحى: 1ـ2] أن يرد هؤلاء إلى ظاهرة كونية مُشَاهدة ومُعْتَرف بها عند الجميع، وهي أن الله خلق النهار وجعله مَحلاً للحركة والنشاط والسعي، وخلق الليل وجعله مَحَلاً للراحة والسكون، فيرتاح الإنسان في الليل ليعاود نشاطه في الصباح من جديد.
وهكذا أمر الوحي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أجهده الوحي احتاج إلى وقت يرتاح فيه، لا لتنتهي المسألة بلا عودة، بل ليُجدِّد نشاط النبي، ويُشوِّقه للوحي من جديد؛ لذلك بشَّره بقوله:{ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىا }[الضحى: 4] أي: انتظر يا محمد، فسوف يأتيك خير كثير.
فالحق سبحانه يُرجِعهم إلى ظواهر الكون، وإلى الطبيعة التي يعيشون عليها، فأنتم ترتاحون من عَناء النهار بسكون الليل، فلماذا تنكرون على محمد أن يرتاح من عناء الوحي ومشقته؟ وهل راحتكم في سكون الليل تعني دوام الليل وعدم عودة النهار؟
وقوله تعالى: } وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً { [طه: 114] هذا توجيه للنبي صلى الله عليه وسلم للاستزادة من العلم، فما دُمْتَ أنت يا رب الحافظ فزِدْني منه، ذلك لأن رسول الله سيحتاج إلى علم تقوم عليه حركة الحياة من لَدُنْه إلى أن تقوم الساعة، عِلْمٌ يشمل الأزمنة والأمكنة، فلا بُدَّ له أنْ يُعَدَّ الإعدادَ اللازم لهذه المهمة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىا ءَادَمَ {

(/2444)


وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)


كأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يُعزِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له: اقبلهم على عِلاَّتهم، فهُمْ أولاد آدم، والعصيان أمر وارد فيهم، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسى، فإذا نسى هؤلاء فاقبل منهم فهم أولاد " نسَّاي ".
لذلك، إذا أوصيتَ أحداً بعمل شيء فلم يَقُمْ به، فلا تغضب، وارجع الأمر إلى هذه المسألة، والتمس له عُذْراً.
وقوله: { عَهِدْنَآ إِلَىا ءَادَمَ } [طه: 115] أي: أمرنا ووصَّيْنا ووعظنا، وقلنا كل شيء.
{ مِن قَبْلُ } [طه: 115] هذه الكلمة لها دَوْر في القرآن، وقد حسمتْ لنا مواقف عدة، منها قوله هنا عن آدم والمراد: خُذْ لهم أُسْوة من أبيهم الذي كلّفه الله مباشرة، ليس بواسطة رسول الله، وكلّفه بأمر واحد، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد: كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه بأمر واحد، ثم نهاه أيضاً عن أمر واحد: كُل من كُلِّ الجنة إلا هذه الشجرة، هذا هو التكليف، ومع ذلك نسى آدم ما أُمِر به.
إذن: حينما يأتي التكليف بواسطة رسول، وبأمور كثيرة، فمَنْ نسى من ولد آدم فيجب أنْ نعذره ونلتمس له عذراً، ولكثرة النيسان في ذرية آدم قال تعالى:{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ }[طه: 82] بالمبالغة؛ لأن الجميع عُرْضَة للنسيان وعُرْضة للخطأ، فالأمر ـ إذن ـ يحتاج إلى مغفرة كثيرة.
كذلك جاءتْ (من قبل) في قوله تعالى:{ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ }[البقرة: 91].
فكان لها دور ومَغْزى، فلو قال الحق سبحانه: فَلِمَ تقتلون أنبياء الله؟ فحسْب، فربما جرَّأهم على الاعتداء على رسول الله أنْ يقتلوه، أو يفهم منها رسول الله أنه عُرْضة للقتل كما حدث مع سابقيه من الأنبياء. لذلك قيَّدها الحق ـ تبارك وتعالى ـ وجعلها شيئاً من الماضي الذي لن يكون، فهذا شيء حدث من قبل، وليس هذا زمانه.
وقوله: { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] أي: نسي العَهْد، هذه واحدة. { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] ليس عنده عزيمة قوية تُعينه على المضيِّ والثبات في الأمر.
فالحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أن يعطينا فكرة بأنه سبحانه حين يأمر بأمْر فيه نفع لك تتهافت عليه، أمّا إذا أمر بشيء يُقيِّد شهواتك تأبَّيْتَ وخالفتَ، ومن هنا احتاج التكليف إلى عزيمة قوية تعينك على المضيّ فيه والثبات عليه، فإنْ أقبلتَ على الأمر الذي يخالف شهوتك نظرتَ فيه وتأملتَ: كيف أنه يعطيك شهوة عاجلة زائلة لكن يعقبها ذلٌّ آجل مستمر، فالعَزْم هنا ألاَّ تغريك الشهوة.
ألا ترى أن الله تعالى سمَّى الرسل أصحاب الدعوات والرسالات الهامة في تاريخ البشرية{ أُوْلُواْ الْعَزْمِ }[الأحقاف: 35] لأنهم سيتحملون مشاقَ ومهامَ صعبة تحتاج إلى ثبات وصبر على التكليف.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ }[البقرة: 63] أي: عزيمة تدفع إلى الطاعات، وتمنع من المعاصي.
ومسألة نسيان العبد للمنهيات التي يترتب عليها عقاب وعذاب أثارتْ عند الناس مشكلة في القضاء والقدر، فتسمع البعض يقول: ما دام أن الله تعالى كتب عليَّ هذا الفعل فَلِمَ يعاقبني عليه؟
ونعجب لهذه المقولة، ولماذا لم تَقُلْ أيضاً: لماذا يثيبني على هذا الفعل، ما دام قد كتبه عليَّ؟ لماذا توقفتَ في الأولى و(بلعْت) الأخرى، بالطبع؛ لأن الأولى ليست في صالحك. إذن، عليك أن تتعامل مع ربك معاملة واحدة، وتقيس الأمور بمقياس واحد.
والعهد الذي أخذه الله على آدم أنْ يأكل رَغَداً من كل نعيم الجنة كما يشاء إلا شجرة واحدة حذَّره من مجرد الاقتراب منها هو وزوجه:{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }[البقرة: 35].
وهذه المسألة تلفتنا إلى أن المحللات كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى أمّا المحرمات فقليلة معدودة محصورة؛ لذلك حينما يُحدِّثنا الحق سبحانه عن التكليف يقول:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }[الأنعام: 151] فالمحرَّمات هي التي يمكن حصرها، أما المحللات فخارجة عن نطاق الحَصْر.
ونلحظ أن الله تعالى حينما يُحذِّرنا من المحرمات لا يُحذِّرنا من مباشرتها، بلْ مِن مجرد الاقتراب منها{ وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ }[البقرة: 35] ولم يقُلْ: لا تأكلا منها؛ ليظل الإنسان بعيداً عن منطقة الخطر ومظنّة الفِعْل.
وحينما يُحدِّثنا ربُّنا عن حدوده التي حدَّهَا لنا يقول في الحدّ المحلَّل:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا }[البقرة: 229] وفي الحدِّ المحّرم يقول:{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا }[البقرة: 187] ذلك لأن مَنْ حامَ حول الحِمَى يوشك أنْ يقع فيه.
وقد كان للعلماء كلام طويل حول ما نسيه آدم عليه السلام، فمنهم مَنْ قال: نسى (كُل من هذه ولا تقرب هذه)، وعلى هذا الرأي لم يَنْسَ آدم لأنه نفَّذ الأمر فأكل مِمّا أحله الله له، أما كونه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فليس في هذه أيضاً نسيان؛ لأن إبليس ذكّره بهذا النهي فقال:{ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ }[الأعراف: 20].
فحينما أكل آدم من الشجرة لم يكُنْ ناسياً ما نهاه الله عنه. إذن: ما المقصود بالنسيان هنا؟
المقصود أن آدم ـ عليه السلام ـ نسى ما أخبره الله به من عداوة إبليس ـ لعنه الله ـ حين قال له:{ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىا }[طه: 117].
والفكر البشري لا بُدَّ أن تفوتَهُ بعض المسائل، ولو كان عند الإنسان يقظه وحَذَر ما انطلى عليه تغفيل إبليس، فتراه يُذكِّر آدمَ بالنهي ولم يَدَعْهُ في غفلته ثم يحاول إقناعه: إنْ أكلتُما من هذه الشجرة فسوف تكونَا ملَكين، أو تكونَا من الخالدين.

وما دُمْتَ أنت يا أبليس بهذا الذكاء، فلماذا لم تأكل أنت من الشجرة وتكون مَلَكاً أو تكون من الخالدين؟ لماذا تضاءلت فصْرتَ أرنباً تقول:{ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }[الأعراف: 14].
إذن: هذا نموذج من تغفيل إبليس لآدم وذريته من بعده، يلفتنا الله تعالى إليه يقول: تيقظوا واحذروا، فعداوته لكم مُسْبقة منذ سجد الجميع لآدم تكريماً، وأَبَى هو أن يسجد.
فكان على آدم أنْ يُحذِّر عدوه، وأنْ يتحصَّن له بسوء الظن فيه، فينظر في قوله ويفكر في كلامه ويفتش في اقتراحه.
والبعض يقول: إن خطأ آدم ناتج عن نسيان، فهو خطأ غير مُتعَمَّد، والنسيان مرفوع، كما جاء في الحديث الشريف: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
فهل كان النسيان قديماً لا يُرْفَع، ورُفِع لهذه الأمة إكْراماً لها؟ فأصحاب هذا القول يلتمسون العُذْر لآدم عليه السلام، لكن كيف وقد كلَّفه ربُّه مباشرة، وكلَّفه بأمر واحد، فالمسألة لا تحتمل نسياناً، فإذا نسي آدم مع وحدة التكليف وكَوْنه من الله مباشرة، فهذا على آية حال جريمة.
ثم يقص الحق سبحانه علينا قصة آدم مع إبليس: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمََ {

(/2445)


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)


الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقصُّ علينا قصة آدم عليه السلام، لكن نلاحظ أنه سبحانه أعطانا مُجْمل القصة ومُوجزها في قوله تعالى:{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىا ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }[طه: 115] وأصلْ القصة وترتيبها الطبيعي أنه سبحانه يقول: خلقْتُ آدم بيدي وصوَّرته، وكذا وكذا، ثم أمرْتُ الملائكة بالسجود له ثم قلت له: كذا....
وعَرْض القصة بهذه الطريقة أسلوبٌ من أساليب التشويق يصنعه الآن المؤلفون والكُتَّاب في قصصهم، فيعطوننا في بداية القصة لقطة لنهايتها؛ لإثارة الرغبة في تتبُّع أحداثها، ثم يعود فيعرض لك القصة من بدايتها تفصيلاً، إذن: هذا لوْنٌ من ألوان الإثارة والتشويق والتنبيه.
ومن ذلك أسلوب القرآن في قصة أهل الكهف، حيث ذكر القصة مُوجَزة فقال:{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَىا آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىا لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }[الكهف: 9ـ12].
ثم أخذ في عَرْضها تفصيلاً:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ }[الكهف: 13].
وقد جاء هذا الأسلوب كثيراً في قَصَص القرآن، ففي قصة لوط ـ عليه السلام ـ يبدأ بنهاية القصة وما حاق بهم من العذاب:{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ }[القمر: 33ـ34].
ثم يعود إلى تفصيل الأحداث:{ وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ }[القمر: 36ـ37].
ومن أبرز هذه المواضع قوله تعالى في قصة موسى وفرعون:{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىا بِآيَاتِنَآ إِلَىا فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }[الأعراف: 103] أي: من بعد موكب الرسالات إلى فرعون وملَئِه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين، هذا مُجمل القصة، ثم يأخذ في قَصِّ الأحداث بالتفصيل:{ وَقَالَ مُوسَىا يافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }[الأعراف: 104].
وهكذا أسلوب القرآن في قصة آدم عليه السلام، يعطينا مُجْمل القصة، ثم يُفصِّلها: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُواْ } [طه: 116] يعني: إذكر إذ قُلْنا للملائكة{ اسْجُدُواْ لأَدَمَ }[البقرة: 34].
وقبل أن نخوضَ في قصة أبينا آدم ـ عليه السلام ـ يجب أن نشير إلى أنها تكررتْ كثيراً في القرآن، لكن هذا التكرار مقصود لحكمة، ولا يعني إعادة الأحداث، بل هي لقطاتٌ لجوانب مختلفة من الحدَث الواحد تتجمع في النهاية لتعطيك القصة الكاملة من جميع زواياها.
كما أن الهدف من قَصَص القرآن تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيمرُّ بكثير من الأحداث والشدائد، سيحتاج في كل منها إلى تثبيت، وهذا الغرض لا يتأتَّى إذا سردنا القصة مرة واحدة، كما في قصة يوسف عليه السلام مثلاً.

قوله تعالى: } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُواْ { [طه: 116] البعض يعترض يقول: كيف تسجد الملائكة لبشر؟ نعم، هم سجدوا لآدم، لكن ما سجدوا من عند أنفسهم، بل بأمر الله لهم، فالمسألة ليستْ سجوداً لآدم، بقدر ما هي إطاعة لأمر الله. ولقائل هذا الكلام: أأنت مَلِكيٌّ أكثر من الملك؟ يعني: أأنت ربانيّ أكثر من الربّ؟
وما معنى السجود؟ السجود معناه: الخضوع، كما جاء في قوله تعالى:{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً }[يوسف: 100] أي: سجودَ تعظيم وخضوع، لا سجودَ عبادة.
وآدم ـ عليه السلام ـ هو خليفة الله في الأرض، لكنه ليس الوحيد عليها، فعلى الأرض مخلوقات كثيرة منها المحسّ، كالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء والأرض والجبال، وكُلّ ما فيه مصلحة لهذا الخليفة، ومنها ما هو خفيّ كالملائكة التي تدير خفى هذا الكون، فمنهم الحفظة والكتبة، ومنهم المكلَّفون بالريح وبالمطر.. إلخ من الأمور التي تخدم الخَلْق. فلا بُدَّ ـ إذن ـ أن يخضع الجميع لهذا المخدوم الآتي.
وقد يحلو للبعض أن يقول: لقد ظَلَمنا آدمُ حين عصى ربه، فأنزلنا من الجنة إلى الأرض. نقول: يجب أن نفهم عن الله تعالى، فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يخلق آدم للجنة التي هي دار الخُلْد، إنما خلقه ليكون خليفة له في الأرض، كما قال سبحانه:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة: 30].
فأوّل بلاغ من الله عن آدم أنه خالقه للأرض لا للجنة. والجنة، وإن كانت تُطلَق على دار الخُلْد ودار النعيم الأُخْروي فهي تُطلَق أيضاً على حدائق وبساتين الدنيا، كما جاء في قول الحق سبحانه:
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ }[القلم: 17].
وقوله:{ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ }[الكهف: 32].
إذن: تُطلَق الجنة على شيء في الدنيا يضمُّ كل ما تطلبه النفس وسمَّوْها الجنة؛ لأنها تستر بشجرها وكثافتها مَنْ يدخل فيها، أو جنة لأنها تكفي الإنسان ولا تُحوجه إلى شيء غيرها.
فلا تظلموا آدم بأنه أخرجكم من الجنة؛ لأنه لم يكُنْ في جنة الخُلْد، إنما في مكان أعدَّه الله له، وأراد أنْ يُعطيه في هذا المكان درساً، ويُدرِّبه على القيام بمهمته في الحياة وخلافته في الأرض.
أرأيتَ ما نفعله الآن من إقامة معسكرات للتدريب في شتى مجالات الحياة، وفيها نتكفّل بمعيشة المتدرب وإقامته ورعايته.
إنها أماكن مُعدَّة للتدريب على المهام المختلفة: رياضية، أو علمية، أو عسكرية.. الخ.
هكذا كانت جنة آدم مكاناً لتدريبه قبل أنْ يباشر مهمته كخليفة لله في الأرض، فأدخله الله في هذه التجربة العملية التطبيقية، وأعطاه فيها نموذجاً للتكليف بالأمر والنهي، وحذَّره من عدوه الذي سيتربص به وبذريته من بعده، وكشف له بعض أساليبه في الإضلال والإغواء.

وهذه هي خلاصة منهج الله في الأرض، وما من رسول إلا وجاء بمثل هذا المنهج: أمر، ونهي، وتكليف، وتحذير من الشيطان ووسوسته حتى يُخرِجنا عن أمر الله ونَهْيه.
وبعد هذا (الكورس) التدريبي في الجنة عَلِم آدم بالتطبيق العملي أن الشيطان عدوه، وأنه سيُغريه ويخدعه، ثم بعد هذه التجربة أنزله الله ليباشر مهمته في الأرض، فيكون من عدوه على ذِكْر وحذر.
والبعض يقف طويلاً عند مسألة عصيان آدم: كيف يعصي الله وهو نبي؟ ويذكرون قوله تعالى:{ وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا }[طه: 121].
نقول: ما دام أن آدم ـ عليه السلام ـ هو خليفة الله في أرضه، ومنه أَنْسَالُ الناس جميعاً إلى أنْ تقوم الساعة، ومن نَسله الأنبياء وغير الأنبياء، من نسله الرسل والمرسل إليهم. إذن: فهو بذاته يمثل الخَلْق الآتي كله بجميع أنواعه المعصومين وغير المعصومين.
كما أن آدم ـ عليه السلام ـ مرَّ بهذه التجربة قبل أن يُنبأ، ومَرَّ بها بعد أن نُبىء، بدليل قوله تعالى:{ وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىا }[طه: 121ـ122].
فكان الاجتباء والعصمة بعد التجريب، ثم لما أُهبِط آدم وعدوه إلى الأرض خاطبه ربه:{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 38].
وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام، ومثَّل آدم الدَّوْريْن: دَوْر العصمة والنبوة بعدما اجتباه ربه، ودَوْر البشر العادي غير المعصوم والمعرَّض للنسيان وللمخالفة كأيِّ إنسان من أناس الأرض.
ينبغي ـ إذن ـ أن نفهم أن آدم خُلِق للأرض وعمارتها، وقد هيَّأها الله لآدم وذريته من بعده، وأعدَّها بكُلِّ مقوِّمات الحياة ومُقوِّمات بقاء النوع، فمَنْ أراد ترف الحياة فليُعمل عقله في هذه المقوّمات وليستنبط منها ما يريد.
لقد ذكرنا أن في الكون مُلكاً وملكوتاً: الملْك هو الظاهر الذي نراه ونشاهده، والملكوت ما خفى عنّا وراء هذا الملْك، ومن الملكوت أشياء تؤدي مهمتها في حياتنا دون أنْ نراها، فمثلاً ظاهرة الجاذبية الأرضية التي تتدخل في أمور كثيرة في حياتنا، كانت في حجاب الملكوت لا نراها ولا نعرف عنها شيئاً، ثم لما اهتدتْ إليها العقول و اكتشفتْها عرفنا أن هناك ما يسمى بالجاذبية.
ومن الملكوت الملائكة الموكّلون، كما قال تعالى:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }[الرعد: 11].
ومنهم الكَتَبة:{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق: 18].
فلما خلق الله آدم، وخلق الملائكة الموكلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسجود له؛ لأنهم سيكونون في خدمته، فالسجود طاعة لأمر الله، وخضوع للخليفة الذي سيعمر الأرض.
وقوله تعالى: } إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىا { [طه: 116] وفي آية أخرى:{ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ }

[ص: 74].
وقد أوضح الحق سبحانه سبب رَفْض إبليس للسجود لآدم بقوله:{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }[ص: 75]
أي: لا سبب لامتناعك إلا الاستكبار على السجود، أو تكون من العالين. أي: الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود، فكأن الأمر كان للملائكة خاصة هم الموكّلون بخدمة آدم، أمّا العالون فهم الملائكة المهيّمون، ولا علاقة لهم بآدم، وربما لا يدرُون به.
ومن الأساليب التي أثارتْ جَدَلاً حول بلاغة القرآن لدى المستشرقون قوله تعالى:{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }[ص: 75] وقوله في موضع آخر:{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }[الأعراف: 12] فأيُّ التعبيريْن بليغ؟ وإنْ كان أحدهما بليغاً فالآخر غير بليغ.
وهذا كله ناتج عن قصور في فَهْم لغة القرآن، وعدم وجود الملَكة العربية عند هؤلاء، فهناك فَرْق بين أنك تريد أن تسجدَ ويأتي مَنْ يقول لك: لا تسجد، وبين أنْ يُقنعك شخص بألاَّ تسجد. فقوله:{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }[ص: 75] كنت تريد السجود وواحد منعك، وقوله:{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }[الأعراف: 12] يعني: أمرك ألاَّ تسجد، وأقنعك وأنت اقتنعتَ.
ومن المسائل التي أثيرتْ حول هذه القصة: أكان إبليس من الملائكة فشمله الأمر بالسجود؟ وكيف يكون من الملائكة وهم لا يعصُون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون؟ وإذا لم يكُنْ مَلَكاً فماذا أدخله في الأمر؟
ولتوضيح هذه المسألة نقول: خلق الله الثَّقليْن: الجن والإنس، وجعلهم مختارين في كثير من الأمور، ومقهورين في بعض الأمور، ليثبت طلاقة قدرته تعالى في خَلْقه، فإنْ كنتَ مختاراً في أمور التكليف وفي استطاعتك أنْ تطيع أو أنْ تعصي، فليس من اختيارك أنْ تكون صحيحاً أو مريضاً، طويلاً أو قصيراً، فقيراً أو غنياً، ليس في اختيارك أنْ تحيا أو تموت.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ لا يُكلِّفك بافعل كذا ولا تفعل كذا، إلا إذا خلقك صالحاً للفعل ولعدم الفعل، هذا في أمور التكليف وما عداه أمور قَهْرية لا اختيارَ لك فيها هي القدريات.
لذلك نقول للذين أَلِفُوا التمرد وتعوَّدوا الخروج على أحكام الله في التكليفات: لماذا لا تتَمردوا أيضاً على القدريات ما دُمْتم قد أَلِفْتم المخالفة؟ إذن: أنت مقهور وعَبْد رَغماً عنك.
لذلك، إذا كان المختار طائعاً يلزم نفسه بمنهج ربه، بل ويتنازل عن اختياره لاختيار الله، فمنزلته عند الله كبيرة، وهي أفضل من المَلَك، لأن المَلك يطيع وهو مرغم. ومن هنا يأتي الفرْق بين عباد وعبيد، فالكل في القهر عبيد، لكن العباد هم الذين تركوا اختيارهم لاختيار ربهم.
ومن هنا نقول: إن إبليس من الجن، وليس من الملائكة؛ لأنه أُمِر فامتنع فعُوقِب، وإنْ كان الأمر في الأصل للملائكة.
وقد حسم القرآن هذه القضية حين قال:{ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }[الكهف: 50] وهذا نصٌّ صريح لا جدالَ حوله.
فإنْ قُلْتَ: فلماذا شمله الأمر بالسجود، وهو ليس مَلَكاً؟
نقول: لأن إبليس قبل هذا الأمر كان طائعاً، وقد شهد عملية خَلْق آدم، وكان يُدْعَي " طاووس الملائكة " لأنه ألزم نفسه في الأمور الاختيارية ففاق بذلك الملائكة، وصار يزهو عليهم ويجلس في مجلسهم، فلما جاء الأمر للملائكة بالسجود لآدم شمله الأمر ولزمه من ناحيتين:
الأولى: إنْ كان أعلى منهم منزلةً وهو طاووسهم الذي ألزم نفسه الطاعة رغم اختياره فهو أَوْلَى بطاعة الأمر منهم، ولماذا يعصي هذا الأمر بالذات؟
الأخرى: إنْ كان أقلّ منهم، فالأمر للأعلى لا بُدَّ أنْ يشمل الأدنى، كما لو أمرتَ الوزراء مثلاً بالقيام لرئيس الجمهورية، وبينهم وكلاء ومديرون، فطبيعيٌّ أنْ يشملهم الامر.

ثم يقول الحق: } فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ {

(/2446)


فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)


قوله تعالى: { وَلِزَوْجِكَ } [طه: 117] كلمة الزوج لا تعني اثنين كما يظن البعض، الزوج فرد واحد معه مثله، فليس صحيحاً أن نقول: توأم إنما توأمان، فكل منهما توأم للآخر؛ لذلك يقول تعالى:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }[الذاريات: 49].
مَلْحَظ آخر في قوله تعالى: { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ } [طه: 117] الخطاب لآدم وزوجه يُحذِّرهما من إغواء إبليس وكَيْده، ثم يقول { فَتَشْقَىا } [طه: 117] بصيغة الإفراد، ولم يقُل: فتشقيَا. لماذا؟ لأن مسئولية الكَدْح والحركة للرجل أمَّا المرأة فهي السكن المريح المنشِّط لصاحب الحركة، على خلاف ما نرى في مجتمعنا من الحرص على عمل المرأة بحجة المساعدة في تبعات الحياة.

(/2447)


إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)


فقد أعددْتُ لك الجنة، وجعلتُ لك فيها كل ما تحتاجه، وأبَحْتُ لك كل نعيمها ونهيتُك عن شيء واحد منها، ولك علينا { أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىا } [طه: 118] فلن تجوع فيها؛ لأن فيها كل الثمرات{ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا }[البقرة: 35].
ونلحظ هنا أن الله تعالى تكفَّل لهما بشيء ظاهر يُلبِّي غريزة ظاهرة هي اللباس والتستُّر، وغريزة باطنة هي غريزة الطعام.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا }

(/2448)


وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)


(تظمأ) يعني: تعطش، و(تضحى): أي: لا تتعرض لحرارة الشمس اللافحة، فتكفّل لهما ربهما أيضاً بغريزة باطنة هي العطش، وغريزة ظاهرة هي ألاَّ تلفحك حرارة الشمس.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ }

(/2449)


فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)


نلحظ أن الحق سبحانه اختار لعمل الشيطان اسماً يناسب الإغراء بالشيء، وهي كلمة (الوَسْوَسة) هي في الأصل صوت الحليّ ـ أي: الذهب الذي تتحلَّى به النساء، كما نقول: نقيق الضفادع، وصهيل الخيل، وخُوار البقر، ونهيق الحمير، وثغاء الشاة، وخرير الماء، وحفيف الشجر.
وكذلك الوسوسة اسم لصوت الحليّ الذي يجذب الأسماع، ويُغرِي بالتطلع إليه، وكأن الحق سبحانه يُحذِّرنا أن الشيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتزيين.
فما الذي وَسوس به إلى آدم؟
{ قَالَ ياآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىا شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىا } [طه: 120].
ونعجب لإبليس: ما دُمْت تعرف شجرة الخُلْد والملْك الذي لا يبلى، لماذا لم تأكل أنت منها وتحوز هذه الميزة؟

(/2450)


فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)


أي: بعد أن أكلا من هذه الشجرة ظهرتْ لهما سوءآتهما، والسَّوْأة هي العورة أي: المكان الذي يستحي الإنسان أن ينكشف منه، والمراد القُبُل والدُّبُر في الرجل والمرأة. ولكل من القُبل والدُّبر مهمة، وبهما يتخلص الجسم من الفضلات، الماء من ناحية الكُلى والحالب والمثانة عن طريق القُبل، وبقايا وفضلات الطعام الناتجة عن حركة الهَضْم وعملية الأَيْض، وهذه تخرج عن طريق الدُّبُر.
لكن، متى أحسَّ آدم وزوجه بسوءاتهما، أبعد الأكل عموماً من شجر الجنة، أم بعد الأكل من هذه الشجرة بالذات؟
الحق ـ تبارك وتعالى ـ رتَّب ظهور العورة على الأكل من الشجرة التي نهاهما عنها { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [طه: 121] فقبْل الأكل من هذه الشجرة لم يعرفا عورتيهما، ولم يعرفا عملية الإخراج هذه؛ لأن الغذاء كان طاهيه ربُّه، فيعطي القدرة والحياة دون أن يخلف في الجسم أيَّ فضلات.
لكن، لما خالفوا وأكلوا من الشجرة بدأ الطعام يختمر وتحدث له عملية الهضم التي نعرفها، فكانت المرة الأولى التي يلاحظ فيها آدم وزوجه مسألة الفضلات، ويلتفتان إلى عورتيهما: ما هذا الذي يخرج منها؟
وهنا مسألة رمزية ينبغي الالتفات إليها، فحين ترى عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عُطل.
إذن: لم يعرف آدم وزوجه فضلات الطعام وما ينتج عنه من ريح وأشياء مُنفَّرة قذرة إلا بعد المخالفة، وهنا تحيَّرا، ماذا يفعلان؟ ولم يكن أمامهما إلا ورق الشجر { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } [طه: 121].
أي: أخذا يلصقان الورق على عورتيهما لسترها هكذا بالفطرة، وإلا ما الذي جعل هاتين الفتحتين عورة دون غيرهما من فتحات الجسم كالأنف والفم مثلاً؟
قالوا: لأن فَتْحتيْ القُبُل والدُّبُر يخرج منهما شيء قذر كريه يحرص المرء على سَتْره، ومن العجيب أن الإنسان وهو حيوان ناطق فضَّله الله، وحين يأكل يأكل باختيار، أمّا الحيوان فيأكل بغريزته، ومع ذلك يتجاوز الإنسان الحد في مأكله ومشربه، فيأكل أنواعاً مختلفة، ويأكل أكثر من حاجته ويأكل بعدما شبع، على خلاف الحيوان المحكوم بالغريزة.
ولذلك ترى رائحة الفضلات في الإنسان قذرة مُنفّرة، ولا فائدة منها في شيء، أما فضلات الحيوان فلا تكاد تشمُّ لها رائحة، ويمكن الاستفادة منها فيجعلونها وقوداً أو سماداً طبيعياً. وبعد ذلك نتهم الحيوان ونقول: إنه بهيم.. إلخ.
وقوله تعالى: { وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا } [طه: 121] أي: فيما قبل النبوة، وفي مرحلة التدريب، والإنسان في هذه المرحلة عُرْضة لأنْ يصيب، ولأنْ يخطىء، فإنْ أخطأ في هذه المرحلة لا تضربه بل تُصوِّب له الخطأ. كالتلميذ في فترة الدراسة، إنْ أخطأ صوَّب له المعلم، أما في الامتحان فيحاسبه.
ومعنى: { فَغَوَىا } [طه: 121] يعني: لم يُصِبْ الحقيقة، كما يقولون لمن تاه في الصحراء غاوٍ أي: تائه. ثم تأتي المرحلة الأخرى: مرحلة العِصْمة.
ثم يقول الحق سبحانه: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ }

(/2451)


ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)


إذن: مثَّل آدم دَوْر الإنسان العادي الذي يطيع ويعصي، ويسمع كلام الشيطان، لكن ربه شرعَ له التوبة كما قال سبحانه:{ فَتَلَقَّىا ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ }[البقرة: 37].
إذن: عصى آدم وهو إنسان عادي وليس وهو نبي كما يقول البعض.
فقوله: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ } [طه: 122] هذه بداية لمرحلة النبوة في حياة آدم عليه السلام، و(ثُمَّ) تعني الترتيب مع التراخي { اجْتَبَاهُ } [طه: 122] اصطفاه ربه.
ولم يقل الحق سبحانه: ثم اجتباه الله، إنما { اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } [طه: 122] لأن الرب المتولي للتربية والرعاية، ومن تمام التربية الإعداد للمهمة، ومن ضمن إعداد آدم لمهمته أنْ يمرَّ بهذه التجربة، وهذا التدريب في الجنة.
{ وَهَدَىا } [طه: 122] المراد بالهداية قوله: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً }

(/2452)


قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)


أي: اهبطا إلى الأرض وامضوا فيها على ضوء التجربة الماضية، واعلما أن هناك أمراً ونهياً وعدواً يوسوس ويُزيِّن ويُغوِي حتى يظهر عوراتكم، وكأنه ـ عز وجل ـ يعطي آدم المناعة الكافية له ولذريته من بعده لتستقيم لهم حركة الحياة في ظل التكاليف؛ لأن التكاليف إما أمر وإما نهي، والشيطان هو الذي يفسد علينا هذه التكاليف.
ومع ذلك لا ننسى طَرَفاً آخر هو النفس الأمَّارة التي تُحرِّكك نحو المعصية والمخالفة. إذن: ليس عدوك الشيطان فحسب فتجعله شماعة تُعلّق عليها كل معاصيك، فهناك مَعَاصٍ لا يدخل عليك الشيطان بها إلا عن طريق النفس، وإلا إبليس لما غوى؟ مَنْ أغواه؟ ومَنْ وسوس له؟
وقوله: { اهْبِطَا } [طه: 123] بصيغة التثنية أمر لاثنين: آدم مطمور فيه ذريته، وإبليس مطمور فيه ذريته، فقوله: { اهْبِطَا } [طه: 123] إشارة إلى الأصل، وقوله في موضع آخر:{ اهْبِطُواْ }[البقرة: 38] إشارة إلى ما يتفرّع عن هذا الأصل.
وقوله:{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }[البقرة: 36] أي: بعض عدو للبعض الآخر، وكلمة (بعض) لها دَوْر كبير في القرآن، والمراد: أنت عدو الشيطان إنْ كنتَ طائعاً، والشيطان عدوك إنْ كنتَ طائعاً. فإنْ كنتَ عاصياً فلا عداوة إذن؛ لأن الشيطان يريدك عاصياً. وحين لا يُعيِّن البعض تكون العداوة متبادلة، فالبعض شائع في الجميع.
كما في قوله تعالى:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ }[الزخرف: 32] فمَن المرفوع؟ ومَنْ المرفوع عليه؟ أصحاب النظرة السطحية يفهمون أن الغنيَّ مرفوع على الفقير.
والمعنى أوسع من هذا بكثير، فكُلُّ الخَلْق بالنسبة للحق سبحانه سواء، ومهمات الحياة تحتاج قدرات كثيرة ومواهب متعددة؛ لذلك لا تتجمع المواهب في شخص، ويُحرم منها آخر، بل ينشر الخالق ـ عز وجل ـ المواهب بين خَلْقه، فهذا ماهر في شيء، وذاك ماهر في شيء آخر، وهكذا ليحتاج الناس بعضهم لبعض، ويتم الربْط بين أفراد المجتمع، ويحدث بينهما الانسجام اللازم لحركة الحياة.
إذن: كُلُّ بعض في الوجود مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر، فليكُنْ الإنسان مُؤدَّباً في حركة حياته لا يتعالى على غيره لأنه نبغ في شيء، ولينظر إلى ما نبغ فيه الآخرون، وإلى ما تميَّزوا به حتى لا يسخَر قوم من قوم، عسى أن يكونوا خيراً منهم، وربما لديهم من المواهب ما لم يتوفّر لك.
لكن ما دام بعضكم لبعض عدواً أي: آدم مطمور فيه ذريته، وإبليس مطمور فيه ذريته، فَمنْ سيكون. الحَكَم؟ الحَكَم بينهما منهج الله: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [طه: 123] فإياكم أنْ تجعلوا الهدى من عندكم؛ لأن الهدى إنْ كان من عندكم فلن ينفع ولن يفلح.

} فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا { [طه: 123] فكأن هدى الله ومنهجه هو (كتالوج) سلامة الإنسان وقانون صيانته. ألاَ ترى الصانع من البشر حين يرفق بصنعته (كتالوجاً) يضم تعليمات عن تشغيلها وصيانتها، فإن اتبعتَ هذه التعليمات خدمتْك هذه الآلة وأدَّتْ لك مهمتها دون تعطّل.
وكما أن هذا (الكتالوج) لا يضعه إلا صانع الآلة، فكذلك الخالق ـ عز وجل ـ لا يضع لخَلْقه قانونهم وهَدْيَهم إلا هو سبحانه، فإنْ وضعه آخر فهذا افتئات على الله عز وجل، وكما لو ذهبتَ إلى الجزار تقول له: ضَعْ لي التعليمات اللازمة لصيانة (الميكروفون)!!
إذن: الفساد في الكون يحدث حينما نخرج عن منهج الله، ونعتدى على قانونه وتشريعه، ونرتضي بهَدْي غير هَدْيه؛ لذلك يقول تعالى بعدها: } فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا { [طه: 123] فإنْ كانت هذه نتيجة مَنِ اتبع هدى الله وعاقبة السير على منهجه تعالى، فما عاقبة مَنْ أعرض عنه؟ } وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي {

(/2453)


وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)


والإعراض: هو الانصراف، وأن تعطيه عَرْض أكتافك كما ذكرنا من قبل.
وقوله: { مَعِيشَةً ضَنكاً } [طه: 124] الضنْك هو الضيق الشديد الذي تحاول أنْ تُفلتَ منه هنا أو هناك فلا تستطيع، والمعيشة الضَّنْك هذه تأتي مَنْ أعرض عن الله، لأن مَنْ آمن بإله إنْ عَزَّتْ عليه الأسباب لا تضيق به الحياة أبداً؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يُخرِجه مما هو فيه.
أما غير المؤمن فحينما تضيف به الأسباب وتُعجِزه لا يجد مَنْ يلجأ إليه فينتحر. المؤمن يقول: لي ربٌّ يرزقني ويُفرِّج كَرْبي، كما يقول عز وجل:{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[الرعد: 28].
لذلك يقولون: لا كَرْب وأنت رَبٌّ، وإذا كان الولد لا يحمل هَمّاً في وجود أبيه فله أبٌ يكفيه متاعب الحياة ومشاقها، فلا يدري بأزمات ولا غلاء أسعار، ولا يحمل هَمَّ شيء، فما بالُكَ بمَنْ له رَبٌّ؟
وسبق أنْ ضربنا مثلاً ـ ولله المثل الأعلى ـ، قلنا: هَبْ أن معك جنيهاً ثم سقط من جيبك، أو ضاع منك فسوف تحزن عليه إنْ لم يكُنْ معك غيره، فإنْ كان معك غيره فلن تحزن عليه، فإن كان لديك حساب في البنك فكأن شيئاً لم يحدث. وهكذا المؤمن لديه في إيمانه بربه الرصيد الأعلى الذي يُعوِّضه عن كل شيء.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ أعطانا مثالاً لهذا الرصيد الإيماني في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حينما حُوصِر موسى وقومه بين البحر من أمامهم وفرعون بجنوده من خلفهم، وأيقن القوم أنهم مُدْركون، ماذا قال نبي الله موسى؟
قال:{ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62] هكذا بملْء فيه يقولها قَوْلةَ الواثق مع أنها قَوْلة يمكن أن تكذب بعد لحظات، لكنه الإيمان الذي تطمئن به القلوب، والرصيد الذي يثِقُ فيه كُلُّ مؤمن.
إذن: مَنْ آمن بالله واتبع هُدَاه فلن يكون أبداً في ضَنْكٍ أو شِدَّة، فإنْ نزلت به شِدَّة فلن تُخرِج عَزْمه عن الرضى، واللجوء إلى ربه.
ومن آيات الإعجاز القرآني في مسألة الضيق، قوله تعالى:{ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ }[الأنعام: 125].
فمن أين عرف محمد صلى الله عليه وسلم أن مَنْ يصعِّد في السماء يضيق صدره؟ وهل صَعَد أحد إلى السماء في هذا الوقت وجَرَّب هذه المسألة؟ ومعنى ضيق الصدر أن حيِّز الرئة التي هي آلة التنفس يضيق بمرض أو مجهود زائد أو غيره، ألاَ ترى أنك لو صعدتَ سُلَّماً مرتفعاً تنهج، معنى ذلك أن الرئة وهي خزينة الهواء لا تجد الهواء الكافي الذي يتناسب والحركة المبذولة، وعندها تزداد حركة التنفس لتُعوِّض نَقْص الهواء.
والآن وبعد غزو الفضاء عرفنا مسألة ضيق التنفّس في طبقات الجو العليا مما يضطرهم إلى أخذ أنابيب الأكسجين وغيرها من آلات التنفس.

(/2454)


قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)


وكلمة { أَعْمَىا } [طه: 125] جاءت في قوله تعالى:{ وَمَن كَانَ فِي هَـاذِهِ أَعْمَىا فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَىا وَأَضَلُّ سَبِيلاً }[الإسراء: 72].
والمراد بالعَمَى ألاَّ تُدرِكَ المبصَرات، وقد توجد المبصَرات ولا تتجه لها بالرؤية، فكأنك أعمى لا ترى، وكذلك المعرِض عن الآيات الذي لا يتأملها، فهو أعمى لا يراها.
لذلك في الآخرة يقول تعالى:{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىا وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً }[الإسراء: 97] فساعةَ يُبعَث الكافرون يُفزَّعون بالبعث الذي كانوا ينكرونه ويضطربون اضطراباً، يحاول كل منهم أن يرى منفذاً وطريقاً للنجاة، ولكن هيهات، فقد سلبهم الله منافذ الإدراك كلها، وسَدَّ في وجوههم كل طرق النجاة، والإنسان يهتدي إلى طريقه بذاته وبعيونه، فإنْ كان أعمى أمكنه أنْ ينادي على مَنْ يأخذ بيده، فإنْ كان أيضاً أبكم، فلربما سمع مَنْ يناديه ويُحذره ويُدِله، فإنْ كان أصمَّ لا يسمع؟
إذن: سُدَّتْ أمامه كل وسائل النجاة، فهو أعمى لا يبصر النجاة بذاته، وأبكم لا يستطيع أنْ يستغيث بمَنْ ينقذه، وهو أيضاً أصمّ لا يسمع مَنْ يتطوع بإرشاده أو تحذيره.
وقد وجد كثير من المشككين في هذه الآية شيئاً ظاهرياً يطعنون به على أسلوب القرآن، حيث يقول هنا: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىا } [طه: 125] وفي موضع آخر يقول:{ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا }[الكهف: 53] فنفى عنهم الرؤية في آية، وأثبتها لهم في آية أخرى.
وفاتَ هؤلاء المتمحِّكين أَن الإنسانَ بعد البعث يمرُّ بمراحل عِدَّة: فساعةَ يُحشرون من قبورهم يكونون عُمْياً حتى لا يهتدوا إلى طريق النجاة، لكن بعد ذلك يُريهم الله بإيلام آخر ما يتعذبون به من النار.
وهذا الذي حآق بهم كِفَاءٌ لما صنعوه، فقد قدَّموا هم العمى والصمم والبكم في الدنيا، فلما دعاهم الرسول إلى الله صَمُّوا آذانهم، واستغشوا ثيابهم.

(/2455)


قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)


أي: نعاملك كما عاملتنا، فننساك كما نسيت آياتنا.
والآيات جمع آية، وهي الأمر العجيب، وتُطلق على الآيات الكونية التي تلفت إلى المكوِّن سبحانه، وتُطلَق على المعجزات التي تؤيد الرسل، وتثبت صِدْق بلاغهم عن الله، وإنْ كانت الآيات الكونية تُلفِت إلى قدرة الخالق ـ عز وجل ـ وحكمته، فالرسول هو الذي يدلُّ الناس على هذه القوة، وعلى صاحب هذه الحكمة والقدرة التي يبحث عنها العقل.
أيها المؤمنون هذه القوة هي الله، والله يريد منك كذا وكذا، فإنْ أطعتَه فَلَك من الأجر كذا وكذا، وإنْ عصيتَه فعقابك كذا وكذا، ثم يؤيد الرسول بالمعجزات التي تدلُّ على صِدْقه في البلاغ عن ربه.
وتُطلَق الآيات على آيات الكتاب الحاملة للأحكام وللمنهج.
وأنت كذَّبْتَ بكل هذه الآيات ولم تلتفت إليها، فلما نسيت آيات الله كان جزاءَك النسيان جزاءً وفَاقاً. والنسيان هنا يعني الترك، وإلا فالنسيان الذي يقابله الذكر مُعْفىً عنه ومعذور صاحبه.
أما قوله: { وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىا } [طه: 126] أي تُنسَى في النعيم وفي الجنة، لكنك لا تُنسى في العقاب والجزاء.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَكَذالِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ }

(/2456)


وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)


قوله تعالى: { كَذالِكَ } [طه: 127] أي: مثل هذا الجزاء { نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } [طه: 127] والإسراف: تجاوز الحدِّ في الأمر الذي له حَدُّ معقول، فالأكْل مثلاً جعله الله لاستبقاء الحياة، فإنْ زاد عن هذا الحدِّ فهو إسراف.
دَخْلك الذي يسَّره الله لك يجب أن تنفق منه في حدود، ثم تدَّخر الباقي لترقى به في الحياة، فإنْ أنفقتَه كله فقد أسرفْتَ، ولن تتمكن من أن تُرقِّى نفسك في ترف الحياة.
ولذلك يقول الحق سبحانه:{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ }[الإسراء: 27].
وللإسلام نظرته الواعية في الاقتصاديات، فالحق يريد منك أنْ تنفق، ويريد منك ألاَّ تُسرِف وبين هذين الحدَّيْن تسير دَفّة المجتمع، ويدور دولاب الحياة، فإنْ بالغتَ في حَدٍّ منهما تعطلتْ حركة الحياة، وارتبك المجتمع وبارت السلع.
وقد أوضح الحق سبحانه هذه النظرة في قوله:{ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }[الفرقان: 67].
فربُّك يريد منك أنْ تجمع بين الأمرين؛ لأن التقتير والإمساك يُعطِّل حركة الحياة، والإسراف يُجمِّد الحياة ويحرمك من الترقي، والأخذ بأسباب الترف؛ لذلك قال تعالى:{ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً }[الإسراء: 29].
وقد يكون الإسراف من ناحية أخرى: فربُّك عز وجل خلقك، وخلق لك مُقوِّمات حياتك، وحدَّد لك الحلال والحرام، فإذا حاولتَ أنت أنْ تزيد في جانب الحلال مما حرمه الله عليك، فهذا إسراف منك، وتجاوز للحدِّ الذي حَدَّه لك ربك، وتجاوزتَ فيما أحلَّ لك، وفيما حرَّم عليك.
وقد يأتي الإسراف من ناحية أخرى: فالشيء في ذاته قد يكون حلالاً، لكن أنت تأخذه من غير حِلِّة.
فإذا نقلنا المسألة إلى التكاليف وجدنا أن الله تعالى أحلَّ أشياء وحرَّم أشياء، فلا تنقل شيئاً مما حُرِّم إلى شيء أحلَّ، ولا شيئاً مما أُحلَّ إلى شيء حُرِّم، كما قال سبحانه:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ }[الأعراف: 32].
وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ }[التحريم: 1].
إذن: فربّك لا يُضيِّق عليك، وينهاك أنْ تُضيِّق على نفسك وتُحرّم عليها ما أحلَّ لها، كما يلومك على أنْ تُحلِّل ما حرّم عليك لأن ذلك في صالحك.
وكما يكون الإسراف في الطعام والشراب وهما من مُقوِّمات استبقاء الحياة، يكون كذلك في استبقاء النوع بالزواج والتناسل، إلى أنْ تقوم الساعة، فجعل الحق سبحانه للممارسة الجنسية حدوداً تضمن النسل والاستمتاع الحلال، فمَنْ تعدَّى هذه الحدود فقد أسرف.
ومن رحمته تعالى أنه يغفر لِمنْ أسرف على نفسه شريطةَ أن يكون مؤمناً:{ قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ }[الزمر: 53].
وقوله تعالى: { وَكَذالِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } [طه: 127] فأنزل الإسراف منزلةَ تالية لعدم الإيمان؛ لذلك قال بعدها: { وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّه } [طه: 127] لأنه حين ينقل الحلال إلى الحرام، أو الحرام إلى الحلال، فكأنه عطّل آيات الله.

ثم يقول تعالى: } وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىا { [طه: 127] إذن: فالكلام هنا عن الدنيا، فلا تظن أن الله يُؤخِّر للكافر كُلَّ العذاب، فهناك أشياء تُعجِّل له في الدنيا لا تُؤخِّر.
وأول مَا لا يُؤخِّر ويُعجل الله به في الدنيا عقوبة الظلم، فلا يمكن أنْ يموتَ الظالم قبل أن يرى المظلوم ما صنعه الله به، وإلاّ فالذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالجزاء كانوا فجروا في الخَلْق وَعاثُوا في الأرض، فمن حكمة الله أن نرى لكل ظالم مصرعاً حتى تستقيم حركة الحياة، ولو لم يكُنْ الإنسان مؤمناً.
والحق سبحانه حين يريد أنْ يُعذِّب يتناسب تعذيبه مع قدرته تعالى، كما أن ضربة الطفل غير ضربة الشاب القوي. إذن: مَا يناله من عذاب في الحياة هين لأنه من الناس، أمّا عذاب الآخرة فشيء آخر؛ لأنه عذاب من الله يتناسب مع قدرته تعالى.
} وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىا { [طه: 127] أبْقَى؛ لأن عذاب الدنيا ينتهي بالموت، أو بأن يرضى عنك المعذَّب ويرحمك، وقد يتوسط لك أحد فيزيل عنك العذاب، أمّا في الآخرة فلا شيء من ذلك، ولا مفرَّ من العذاب ولا مَلْجأ.
ثم يقول الحق سبحانه: } أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ {

(/2457)


أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)


الهداية: الدلالة والبيان، وتهديه أي: تدلّه على طريق الخير. والاستفهام في { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } [طه: 128] والاستفهام يَرِد مرة لتعلم ما تجهل، أو يرد للتقرير بما فعلتَ.
فالمراد: أفلم ينظروا إلى الأمم السابقة وما نزل بهم لما كَذَّبوا رسُل الله؟ كما قال في آية أخرى:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }[الصافات: 137].
وقال سبحانه:{ وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَالَّيلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ }[الفجر: 1ـ10].
أَلاَ تروْنَ كل هذه الآيات في المكذبين؟ ألاَ ترون أن الله ناصرُ رسُلَه؟ ولم يكُنْ سبحانه ليبعثهم، ثم يتخلى عنهم، ويُسلمهم، كما قال سبحانه:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173] وقال:{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ }[الحج: 40].
وبعد هذا كله يُعرِض المكذبون، وكأنهم لم يروا شيئاً من هذه الآيات.
وساعة ترى (كَمْ) فاعلم أنها للشيء الكثير الذي يفوق الحصر، كما تقول لصاحبك: كم أعطيتُك، وكم ساعدتُك. أي: مرات كثيرة، فكأنك وكلته ليجيب هو بنفسه، ولا تستفهم منه إلا إذا كان الجواب في صالحك قطعاً.
فمعنى { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } [طه: 128] يعني: يُبيّن لهم ويدُّلهم على القرى الكثيرة التي كذَّبت رسلها، وماذا حدث لها وحاق بها من العذاب، وكان عليهم أنْ يتنبهوا ويأخذوا منهم عِبرة ولا ينصرفوا عنها.
وقوله تعالى: { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } [طه: 128] كقوله:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }[الصافات: 137] فليس تاريخاً يُحكَى إنما واقع ماثل تروْنَه بأعينكم، وتسيرون بين أطلاله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَىا } [طه: 128] أي: عجائب لمَنْ له عقل يفكر.
وكلمة (النُّهَى) جمع نُهية، وهي العقل، وهذه الكلمة تحلُّ لنا إشكالات كثيرة في الكفر، فالبعض يظن أن الله تعالى خلق لنا العقل لنرتع به في مجالات الفكر كما نشاء، وننفلت من كل القيود.
إنما العقل من العقال الذي يُعقَل به البعير حتى لا ينفلتَ منك، وكذلك عقلُك يعقِلك، ويُنظِّم حركتك حتى لا تسير في الكون على هَواك، عقلك لتعقل به الأمور فتقول: هذا صواب، وهذا خطأ. قبل أن تُقدِم عليه.
فالسارق لو عقل ما يفعل ما أقدمَ على سرقة الناس، وما رأيك لو أبحنا للناس جميعاً أنْ يسرقوك، وأنت فرد، وهم جماعة؟
الحق ساعةَ يعقل بصرك أنْ يمتدَّ لما حرم عليك فلا تقُلْ: ضيق عليَّ، لأنه أمر الآخرين أنْ يغضُّوا أبصارهم عن محارمك، والغير أكثر منك، إذن: فأنت المستفيد. فإنْ أردتَ أن تُعربد في أعراض الناس، فأَبِح لهم أن يُعربِدوا في أعراضك.

" والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه شاب يشكو عدم صبره على غريزة الجنس، يريد أن يبيح له الزنا والعياذ بالله، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يُلقِّنه درساً يصرفه عن هذه الجريمة، فماذا قال له؟
قال: " يا أخا العرب، أتحب هذا لأمك؟ أتحب هذا لأختك؟ أتحب هذا لزوجتك؟ " والشاب يقول في كل مرة: لا يا رسول الله جُعِلْتُ فداك. ولك أنْ تتصوَّر ماذا ينتاب الواحد منّا إنْ سمع سيرة أمه وأخته وزوجته في هذا الموقف.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم للشاب بعد أن هزَّه هذه الهزة العنيفة: " كذلك الناس لا يحبون لذلك لأمهاتهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأخواتهم، ولا لبناتهم.
وهنا قال الشاب: " فو الله ما همَّتْ نفسي لشيء من هذا إلا وذكرتُ أمي وزوجتي وأختي وابنتي ".
إذن: فالعقل هو الميزان، وهو الذي يُجرِي المعادلة، ويُوازِن بين الأشياء، وكذلك إنْ جاء بمعنى النُّهى أو اللُّب فإنها تؤدي نفس المعنى: فالنُّهي من النهي عن الشيء، واللب أي: حقيقة الشيء وأصله، لا أنْ يكون سطحيّ التفكير يشرد منك هنا وهناك.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ {

(/2458)


وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)


الكلام عن آيات الله في المكذبين للرسل وما حاق بهم من العذاب وقد مَرَّ عليها القوم دون أن يعتبروا بها، أو يرتدعوا، أو يخافوا أن تكون نهايتهم كنهاية سابقيهم، وربما قال هؤلاء القوم: ها نحن على ما نحن عليه دون أن يصيبنا شيء من العذاب: لا صَعْق ولا مَسْخ ولا ريح، فبماذا تهددنا؟
لذلك يوضح لهم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ هذه المسألة: ما منعنا أنْ نفعل بكم ما فعلنا بسابقيكم من المكذبين بالرسل، ما منعنا من إذلالكم وتدميركم إلا شيء واحد هو كلمة سبقتْ من الله.
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [طه: 129].
فما هذه الكلمة التي سبقتْ من الله، ومنعتْ عنهم العذاب؟
المراد بالكلمة قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33].
فهذه الكلمة التي سبقت مني هي التي منعتْ عنكم عذابي، والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة فيقول: " بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم مَنْ يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ".
فإنْ قال قائل: الله يهدد الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنْ يُنزل بهم ما أنزل بالمكذِّبين من الأمم السابقة، وها هم كفار مكة يُكذّبون رسول الله دون أن يحدث لهم شيء.
نقول: لأن لهم أمانين من العذاب، الكلمة التي سبقتْ، والأجل المسمّى عند الله { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [طه: 129] فلكل واحد أَجَلٌ معلوم.
معنى: { لَكَانَ لِزَاماً } [طه: 129] أي: لزم لزاماً أنْ يحيق بهم ما حاقَ بالأمم السابقة.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَاصْبِرْ عَلَىا مَا يَقُولُونَ }

(/2459)


فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)


فما دام أن القوم يُكذِّبون رسول الله، وهم في مأمن من العذاب، فلابُدَّ أن يتمادوا في تكذيبهم، ويستمروا في عنادهم لرسول الله؛ لذلك يتوجه الحق ـ سبحانه وتعالى ـ إلى الناحية الأخرى فيعطي رسوله صلى الله عليه وسلم المناعة اللازمة لمواجهة هذا الموقف { فَاصْبِرْ عَلَىا مَا يَقُولُونَ } [طه: 130] لأن لك بكل صبر أجراً يتناسب مع ما تصبر عليه.
والصبر قد يكون مَيْسوراً سهلاً في بعض المواقف، وقد يكون شديداً وصَعْباً ويحتاج إلى مجاهدة، فمرَّة يقول الحق لرسوله: اصبر. ومرة يقول: اصطبر.
فما الأقوال التي يصبر عليها رسول الله؟ قولهم له: ساحر. وقولهم: شاعر وقولهم: مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن: أضغاث أحلام. وقالوا: أساطير الأولين. فاصبر يا محمد على هذا كله؛ لأن كلَّ قوله من أقوالهم تحمل معها دليل كذبهم.
فقولهم عن رسول الله: ساحر، فمَن الذي سَحَره رسول الله؟ سحر المؤمنين به، فلماذا ـ إذن ـ لم يسحرْكم أنتم أيضاً، وتنتهي المسألة. إذن: بقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التهمة.
وقولهم: شاعر، كيف وهم أمة صناعتها الكلام، وفنون القول شعره ونثره، فكيف يَخْفي عليهم أسلوب القرآن؟ والشعر عندهم كلام موزون ومُقفَى، فهل القرآن كذلك؟ ولو جاء هذا الاتهام من غيركم لكان مقبولاً، أما أنْ يأتيَ منكم أنتم يا مَنْ تجعلون للكلام أسواقاً ومعارض كمعارض الصناعات الآن، فهذا غير مقبول منكم.
وسبق أنْ قلنا: إنك إذا قرأتَ مقالاً مثلاً، ومَرَّ بك بيت من الشعر تشعر به وتحسُّ أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر. فخُذْ مثلاً قول ابن زيدون:
" هذا العَذْل محمود عواقبه، وهذه النَّبْوة غمرة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أنْ أبطأ سَيْبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدِّلاء فَيْضا أملؤها، وأثقل السحائب مشياً أحفلها. ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، له العتب في احتباله، ولا عتبَ عليه في اغتفاله.فَإنْ يكُنِ الفعلُ الذي سَاءَ واحِداً فَأفْعالُه اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ "على الفور تحس أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر.
فإذا ما قرأتَ في القرآن مثلاً قوله تعالى:{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـاذَا بَشَراً إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ }[يوسف: 30ـ32].
فهل أحسستَ بانتقال الأسلوب من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر؟ ومع ذلك لو وزنتَ

{ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ }[يوسف: 32] لوجدتَ لها وزناً شِعْرياً.
وقوله تعالى:{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }[الحجر: 49].
لو أردتها بيتاً شعرياً تقول (نبىء عبادي إني أنا الغفور الرحيم). ومع ذلك تقرأها في سياقها، فلا تشعر أنها شعر؛ لأن الأسلوب فريد من نوعه، وهذه من عظمة القرآن الكريم، كلام فَذٌّ لوحده غير كلام البشر.
أما قولهم " مجنون " فالمجنون لا يدري ما يفعل، ولا يعقل تصرفاته ولا يسأل عنها، ولا نستطيع أنْ نتهمه بشيء فنقول عنه مثلاً؛ كذاب أو قبيح؛ لأن آلة الاختيار عنده مُعطّلة، وليس لديه انسجام في التصرفات، فيمكن أن يضحك في وجهك، ثم يضربك في نفس الوقت، يمكن أن يعطيك شيئاً ثم يتفل في وجهك.
والمجنون ليس له خُلق، والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم:{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 1ـ4].
والخُلق هو المَلَكة المستقرة للخير، فكيف يكون محمد مجنوناً، وهو على خلق عظيم؟ ثم هل جرَّبْتُم عليه شيئاً مما يفعله المجانين.
أما قولهم: إن رسول الله افترى هذا القرآن، كيف وأنتم لم تسمعوا منه قبل البعثة شِعْراً أو خطباً ولم يسبق أن قال شيئاً مثل هذا؟ كيف يفتري مثل هذا الأسلوب المعجز، وليس عنده صنعة الكلام؟ وإن كان محمد قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون أنتم مثله وتعارضونه؟
{ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ }[يونس: 38].
وهكذا تقوم من نفس أقوالهم الأدلة على كذبهم وادعائهم على رسول الله.
ثم يقول تعالى } وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا { [طه: 130].
والتسبيح هو التنزيه لله تعالى، وهو صفة لله قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه ويُنزِّهه؛ لذلك يقول تعالى في استهلال سورة الإسراء:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ }[الإسراء: 1]؛ لأن العملية مخالفة لمنطق القوانين، فقال: نزّه فعل الله عن أفعالك.
إذن: فسبحان معناها أن التنزيه ثابت لله، ولو لم يوجد المنزَّه، فلما خلق الله الكون سَبَّحتْ السموات والأرض وما فيهن لله.
فإذا كان التسبيح ثابتاً لله قبل أن يوجد المسبّح، ثم سبح لله أول خلقه، ولا يزالون يُسبِّحون، فأنت أيضاً سبِّح باسم ربك الأعلى. أي: نزّهه سبحانه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً وأقوالاً عَمَّا تراه من المخلوقات.
ومعنى } بِحَمْدِ رَبِّكَ { [طه: 130] لأن من لوازم الخلق أن يكون مختلفاً في الأهواء والأغراض والمصالح، يتشاكلون ويتحاربون على عَرَضٍ زائل، فمنهم الظالم والمظلوم، والقوي والضعيف.
إذن: لا بُدَّ من وجود واحد لا توجد فيه صفة من هذه الصفات، ليضع القانون والقسطاس المستقيم الذي يُنظِّم حياة الخَلْق، فهذا التنزُّه عن مشابهة الأحداث كلها، وعن هذه النقائض نعمة يجب أن نشكر الله ونحمده على وجودها فيه، نحمده على أنه ليس كمثله شيء.

فذلك يجعل الكون كله طائعاً، إنما لو مثله شيء فلربما تأبَّى على الطاعة في " كُنْ فيكون ".
والتسبيح والتنزيه يعني المقياس الذي يضبط العالم ليس كمقياس العالم، إنما أصلح وأقوى، وهذا في صالح أنت، فساعةَ أن تُسبِّح الله اذكر أن التسبيح نعمة، فاحمد الله على أنه لا شيءَ مثلُه. سبِّح تسبيحاً مصحوباً بحمْدِ ربك؛ لأن تنزيهه إنما يعود بالخير على مَنْ خلق، وهذه نعمة تستحق أن تحمدَ الله عليها.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ ربّ الأسرة، هذا الرجل الكبير العاقل صاحب كلمة الحق والعدل بين أفرادها، وصاحب المهابة بينهم تراهم جميعاً يحمدون الله على وجوده بينهم؛ لأنه يحفظ توازن الأسرة، ويُنظِّم العلاقات بين أفرادها. ألم نَقُلْ في الأمثال (اللي ملوش كبير يشتري له كبير)؟
حتى وإن كان هذا الكبير متعالياً؛ لأن تعاليه لصالح أفراد أسرته، حيث سليزم كل واحد منهم حدوده.
لذلك من أسماء الله تعالى: المتعال المتكبر، وهذه الصفة وإنْ كانت ممقوتة بين البشر لأنها بلا رصيد، فهي محبوبة لله تعالى؛ لأنها تجعل الجميع دونه سبحانه عبداً له، فتَكبُّره سبحانه وتعاليه بحقٍّ:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].
إذن: لا يحفظ التوازن في الكون إلا قوة مغايرة للخَلْق.
وقوله: } قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىا { [طه: 130].
أي: تسبيحاً دائماً مُتوالياً، كما أن نعم الله عليك متوالية لا تنتهي، فكلُّ حركة من حركاتك نعمة، النوم نعمة، والاستيقاظ نعمة، الأكل نعمة، والشرب نعمة، البصر والسمع، كل حركة من حركات الأحداث نعمة تستحق الحمد، وكل نعمة من هذه ينطوي تحتها نِعَم.
خُذْ مثلاً حركة اليد التي تبطش بها، وتأمّل كم هي مرِنة مِطْواعة لك كما شئت دون تفكير منك، أصابعك تتجمع وتمسك الأشياء دون أن تشعر أنت بحركة العضلات وتوافقها، وربما لا يلتفت الإنسان إلى قدرة الله في حركة يده، إلا إذا أصابها شلل والعياذ بالله، ساعتها يعرف أنها عملية صعبة، ولا يقدر عليها إلا الخالق عز وجل.
لذلك؛ فالحق ـ سبحانه وتعالى ـ يعطينا زمن التسبيح، فيعيشه في كل الوقت } قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ { [طه: 130].
وآناء: جمع إنْى، وهو الجزء من الزمن، وهذا الجزء يترقَّى حسْب تنبهك لتسبيح التحميد، فمعنى التسبيح آناء الليل، يعني أجزاء الليل كله، فهل يعني هذا أن يظل الإنسانُ لا عملَ له إلا التسبيح؟
المناطقة يقولون عن الجزء من الوقت: مقول بالتشكيك، فيمكن أن تُجزّىء الليل إلى ساعات، فتُسبِّح كل ساعة، أو تترقّى فتسبح كل دقيقة، أو تترقّى فتُسبِّح كل ثانية، وهكذا حسْب مقامات المسبّح الحامد وأحواله.

فهناك من عباد الله مَنْ لا يفتر عن تسبيحه لحظة واحدة، فتراه يُسبِّح الله في كل حركة من حركاته؛ لأنه يعلم أنه لا يؤديها بذاته بدليل أنها قد تُسْلَب منه في أي وقت.
إذن: فأجزاء الوقت تختلف باختلاف المقامات والأحوال، أَلاَ تراهم في وحدة القياس يقيسون بالمتر، ثم بالسنتيمتر، ثم بالمللي متر، وفي قياس الوقت توصّل اليابانيون إلى أجهزة تُحدِّد جزءاً من سبعة آلاف جزء من الثانية.
ثم يقول: } وَأَطْرَافَ النَّهَارِ { [طه: 130] ليستوعب الزمن كله ليله ونهاره، والمقامات والأحوال كلها؛ لذلك يقول بعض العارفين في نصائحه التي تضمن سلامة حركة الحياة:
(اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك) فهذا الذي يستحق المراقبة، وعلى المرء أنْ يتنبه لهذه المسألة، فلا تُكنْ مراقبته لمن يغفل عنه، أو ينصرف، أو ينام عنه.
} واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك) فإذا شربتَ كوب ماءٍ فقُلْ: الحمد لله أن أرواك، فساعةَ تشعر بنشاطها في نفسك قل: الحمد لله. وساعةَ أنْ تُخرجها عرقاً أو بولاً قل: الحمد لله، وهكذا تكون موالاة حمد الله، والمداومة على شُكْره.
(واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه) فطالما أنك لا تستغني عنه، فهو الأَوْلَى بطاعتك.
(واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه) وإلاَّ فأين يمكنك أن تذهب؟
لكن، لماذا أطلق زمن التسبيح بالليل، فقال } آنَآءِ الْلَّيْلِ { [طه: 130] وحدده في النهار فقال } وَأَطْرَافَ النَّهَارِ { [طه: 130]؟
قالوا: لأن النهار عادة يكون محلاً للعمل والسَّعْي، فربما شغلك التسبيح عن عملك، وربنا يأمرك أن نضربَ في الأرض ونُسهِم في حركة الحياة، والعمل يُعين على التسبيح، ويُعين على الطاعة، ويُعينك أنْ تلبي نداء: الله أكبر.
ألاَ تقرأ قول الله ـ عز وجل ـ في سورة الجمعة:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الجمعة: 9ـ10].
ذلك لأن حركة الحياة هي التي تُعينك على أداء فَرْض ربك عليك، فأنت مثلاً تحتاج في الصلاة إلى سٍَتْر العورة، فانظر إلى هذا الثواب الذي تستر به عورتك: كم يَدٌ ساهمتْ فيه؟ وكم حركة من حركات الحياة تضافرتْ في إخراجه على هذه الصورة؟
أمّا في الليل فأنتم مستريح، يمكنك التفرغ فيه لتسبيح الله في أيِّ وقت من أوقاته.
ويلفتنا قوله تعالى: } قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ { [طه: 130] فأيّ طلوع؟ وأيّ غروب؟ وأيُّ ليل؟ وأيّ نهار؟ أهي لمصر أم للجزائر أم للهند أم لليابان؟ إنها ظواهر متعددة وممتدة بامتداد الزمان والمكان لا تنتهي، فالشمس في كل أوقاتها طالعة غاربة، ففي هذا إشارة إلى أن ذِكْر الله وتسبيح الله دائمٌ لا ينقطع.

ثم يذكر سبحانه الغاية من التسبيح، فيقول } لَعَلَّكَ تَرْضَىا { [طه: 130] ونلحظ أن الحق سبحانه يحثُّ على العمل بالنفعية، فلم يقُل: لعلِّي أرضى، قال: لعلك أنت ترضى، فكأن المسألة عائدة عليك ولمصلحتك.
والرضا: أنْ تصلَ فيما تحب إلى ما تؤمِّل، والإنسان لا يرضى إلا إذا بلغ ما يريد، وحقّق ما يرجو، كما تقول لصاحبك: أأنت سعيد الآن؟ يقول: يعني: يقصد أنه لم يصل بعد إلى حَدِّ الرضا، فإنْ تحقَّق له ما يريد يقول لك: سعيد والحمد لله.
فإنْ أحسنتَ إليه إحساناً يفوق ما يتوقعه منك يأخذك بالأحضان ويقول: ربنا يُديم عمرك، جزاك الله خيراً.
إذن: رضا الإنسان له مراحل؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي كما روى النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يتجلى على خَلْقه في الجنة: يا عبادي هل رضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين، قال: أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وهل يوجد أفضل من ذلك؟ قال: نعم، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبداً ".
وهكذا يكون الرضى في أعلى مستوياته. الغاية من التسبيح ـ إذن ـ الذي كلّفك ربك به أنْ ترضى أنت، وأن يعودَ عليك بالنفع، وإلا فالحق سبحانه مُسبَّح قبل أن يخلق، أنت مُسبّح قبل أن يخلق الكون كله، ولا يزيد تسبيح في ملكه تعالى شيئاً. ويتم لك هذا الرضا حين تُرضِي الله فيرضيك.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىا مَا مَتَّعْنَا {

(/2460)


وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)


بعد أن قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ فَاصْبِرْ عَلَىا مَا يَقُولُونَ }[طه: 130] حذره أن ينظر إلى هؤلاء الجبابرة والمعاندين على أنهم في نعمة تمتد عينه إليها. ومعنى مَدِّ العين ألاَّ تقتصر على مجرد النظر على قَدَر طاقتها، إنما يُوجهها باستزادة ويوسعها لترى أكثر مما ينبغي، ومَدُّ العين يأتي دائماً بعد شغل النفس بالنعمة وتطلّعها إليها، فكأن الله يقول: لا تشغل نفسك بما هم فيه من نعيم؛ لأنه زهرة الدنيا التي سرعان ما تفنى.
وقوله: { إِلَىا مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } [طه: 131] الأزواج لا يُراد بها هنا الرجل والمرأة، إنما تعني الأصناف المقترنة، كما في قوله تعالى:{ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }[فصلت: 25].
كل واحد له شيطان يلازمه لا يفارقه. هذه هي الزوجية المرادة، كذلك في قوله تعالى:{ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ }[الصافات: 51].
والزَّهْرة إشارة إلى سرعة النهاية والحياة القصيرة، وهي زَهْرة لحياة دنيا، وأيّ وصف لها أقل من كَوْنها دنيا؟ وهذا الذي أعطيناهم من متاع الدنيا الزائل فأخذوا يزهُون به، ما هو إلا فتنة واختبار { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه: 131].
والاختبار يكون بالخير كما يكون بالشر، يقول تعالى:{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً }[الأنبياء: 35].
ويقول تعالى:{ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ }[الفجر: 15].
ويشكر أنه عرفها لله{ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 16].
وهنا يُصحِّح لهم الحق سبحانه هذه الفكرة، يقول: كلاكما كاذب في هذا القول، فلا النعمةَ دليلُ الإكرام، ولا سلبها دليلُ الإهانة:{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىا طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً }[الفجر: 17ـ19].
فهَبْ أن الله أعطاك نعمة ولم تُؤَدِّ شكْرها وحقَّها، فأيُّ إكرام فيها؟
ثم يقول تعالى: { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىا } [طه: 131] أي: لا تشغل بالك بما أعطاهم الله؛ لأنه سبحانه سيعطيك أعظم من هذا، ورِزْق ربك خير من هذا النعيم الزائل وأبْقى وأخلد؛ لأنه دائم لا ينقطع في دار البقاء التي لا تفوتها ولا تفوتك، أما هؤلاء فنعيمهم موقوت، إمّا أنْ يفوتهم بالفقر، أو يفوتوه هم بالموت.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ }

(/2461)


وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)


هنا يعطينا الحق ـ تبارك وتعالى ـ منهجاً لإصلاح المجتمع وضمان انسجامه، منهج يبدأ بالوحدة الأولى وهو ربُّ الأسرة، فعليه أنْ يُصلح نفسه أولاً، ثم ينظر إلى الوحدة الثانية، وهي الخلية المباشرة له وأقرب الناس إليه وهم أهله وأسرته، فهو مركز الدائرة فإذا أصلح نفسه، فعليه أنْ يُصلح الدوائر الأخرى المباشرة له.
فقوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } [طه: 132] لتستقيم الوحدة الأولى في بناء الكون، فإذا ما صلُحَتْ الوحدة الأولى في بناء الكون، فأمَر كل واحد أهله بالصلاة، واستقام الكون كله وصَلُح حال الجميع.
والمسألة هنا لا تقتصر على مجرد الأمر وتنتهي مسئوليته عند هذا الحدِّ إنما { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } [طه: 132] لأن في الصلاة مشقة تحتاج إلى صبر، فالصلاة تحتاج إلى وقت تأخذه من حركة الحياة التي هي سبب الخير والنفْع لك، فلا بُدَّ ـ إذن ـ من صبر عليها.
وفَرْق بين اصبر واصطبر: اصبر الفعل العادي، إنما اصطبر فيها مبالغة أي: تكلَّف حتى الصبر وتعَمَّده.
ومن ذلك أن تحرص على أداء الصلاة أمام أولادك لترسخ في أذهانهم أهمية الصلاة، فمثلاً تدخل البيت فتجد الطعام قد حضر فتقول لأولادك: انتظروني دقائق حتى أُصلي، هنا يلتفت الأولاد إلى أن الصلاة أهمّ حتى من الأكل، وتغرس في نفوسهم مهابةَ التكليف، واحترامَ فريضة الصلاة، والحرص على تقديمها على أيِّ عمل مهما كان.
وكان سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ يقوم من الليل يصلي ما شاء الله له أنْ يصلي حتى يؤذن للفجر، فيُوقظ أهله للصلاة فإنْ أبَوْا رَشَّ في وجوههم الماء؛ لأن الصلاة خَيْر من النوم، فالنوم في مثل هذا الوقت فيه راحة للبدن، أمّا الصلاة فهي أفضل وأعظم، ويكفي أنك تكون فيها في حضرة الله تعالى.
وهَبْ أن رب الأسرة غاب عنها لمدة شهر أو عام، ثم فجأة قالوا: أبوكم جاء، فترى الجميع يُهرولون إليه، وهكذا لله المثل الأعلى، إذا دعاك، فلا تتخلّف عن دعوته، بل هَرْول إليه، وأسرع إلى تلبية ندائه، ولك أنْ تتصوَّر واحداً يناديك وأنتَ لا تردّ عليه ولا تجيبه، أعتقد أنه شيء غير مقبول، ولا يرضاه صاحبك.
إذن: عليك أنْ تُعوِّد أولادك احترام هذا النداء، وبمجرد أن يسمعوا " الله أكبر " يُلبُّون النداء، ولا يُقدِّمون عليه شيئاً آخر، فالله لا يبارك في عمل ألهاك عن نداء (الله أكبر)؛ لأنك انشغلتَ بالنعمة عن المنعم عز وجل.
لذلك، إنْ أردتَ أنْ تعرف خير عناصر المجتمع فانظر إلى أسبقيتهم إلى إجابة نداء (الله أكبر)، فإنْ أردتَ أن تعرف مَنْ هو أعلى منه منزلةً، فانظر إلى آخرهم خروجاً من المسجد، وليس كذلك مَنْ يأتي الصلاة دُبُراً، وبمجرد السلام يسرع إلى الانصراف.

" ويُروى أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عابَ على أحد الصحابة إسراعه في الانصراف من المسجد بعد السلام، فتعمَّد رسول الله أنْ يناديه في إحدى المرات، قال: أزهداً فيناً "؟
وهل هناك مَنْ يزهد في رؤية رسول الله والجلوس معه؟ فقال الرجل: لا يا رسول الله، ولكن لي زوجة بالبيت تنتظر ثوبي هذا لتصلي فيه، فيدعو له رسول الله، وينصرف الرجل إلى زوجته، فإذا بها تقول له: تأخرت بقدْرِ كذا تسبيحة، فقال: لقد استوقفني رسول الله وحدث كذا وكذا، فقالت له: شكوتَ ربَّك لمحمد "
ثم يقول تعالى: } لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ { [طه: 132] إذن: ما الذي يشغلك عن حَضْرة ربك، الرزق؟ } لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً { [طه: 132] فالذي لا يستطيع العمل نُوجِّه إليه من الأغنياء مَنْ يطرق بابه ويعطيه، فالغنيّ شَرْطٌ في إيمانه الفقيرُ، وليس شرطاً في إيمان الفقير الغني.
وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ضرورة البحث عن الفقير، والطَّرْق على بابه لإعطائه حقَّه في مال الغنيّ، لا ينتظره حتى يسأل، ويُريق ماء وجهه وهو يطلب حَقّاً من حقوقه في مجتمع الإيمان.
وقوله: } نَّحْنُ نَرْزُقُكَ { [طه: 132] أي: لا نسألك رزقاً ثم نتركك، إنما لا نسألك ثم نحن نرزقك، فاطمئن إلى هذه المسألة.
} وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىا { [طه: 132] لأنك إذا تأزمتْ معك أمور الحياة تلجأ إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمر قام إلى الصلاة، وتأزُّم الأمور يأتي حينما نفقد نحن الأسباب المعطاة من الله، فإذا فقدتَ الأسباب وضاقتْ بك الحِيَل لم يَبْقَ لك إلا أنْ تلجأ إلى المسبِّب سبحانه، كما يقول في آية أخرى:
{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }[الطلاق: 2ـ3].
ثم يقول الحق سبحانه: } وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ {

(/2462)


وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)


مرت بنا (لولا) في قوله تعالى:{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ }[يونس: 19] وتعني: امتناع التعذيب لوجود الكلمة، أما (لولا) هنا فتعني: هلا، للحثِّ والطلب { لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [طه: 133] كما في{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ }[الكهف: 39].
فكأن القرآن لا يعجبهم، مع أنهم أمةُ بلاغة وبيانٍ، وأمة فصاحة وكلام، والقرآن يخجلهم لفصاحته وبلاغته، فأيُّ آية تريدونها بعد هذا القرآن؟
{ وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [طه: 133] كدليل صِدْق على بلاغه عن الله كالمعجزات الحسّية التي حدثتْ لمن قبله من الرسل، كما قال تعالى:
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 90ـ93].
إذن: فالآيات من الله لا دَخْلَ لي فيها ولا أختارها، وها هو القرآن بين أيديكم يخبركم بما كان في الأمم السابقة{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43].
وقال تعالى{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىا * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىا * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىا * إِنَّ هَـاذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَىا * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا }[الأعلى: 14ـ19].
وقال تعالى{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىا نُوحٍ }[النساء: 163].
لذلك يقول تعالى بعدها: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَىا } [طه: 133].
فالقرآن جاء جامعاً ومُهيْمناً على الكتب السابقة، وفيه ذِكْر لكل ما حدث فيها من معجزات حسية، وهل شاهد هؤلاء معجزة عيسى عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص؟ هل شاهدوا عصا موسى أو ناقة صالح؟
لقد عرفوا هذه المعجزات عندما حكاها لهم القرآن، فصارت خبراً من الأخبار، وليست مَرْأىً، والمعجزة الحسِّية تقع مرة واحدة، مَنْ رآها آمن بها، ومَنْ يرهَا فهي بالنسبة له خبر، ولولا أن القرآن حكاها ما صدَّقها أحد منهم.
لكن هؤلاء يريدون معجزة حِسِّية تصاحب رسالة محمد العامة للزمان وللمكان، ولو كانت معجزَة محمد حِسِّية لكانت لمَنْ شاهدها فقط، والحق سبحانه يريدها معجزة دائمة لأمتداد الزمان والمكان، فَمنْ آمن بمحمد نقول له: هذه هي معجزته الدائمة الباقية إلى أنْ تقومَ الساعة.
لذلك، كان القرآن معجزة لكل القرون، ولو أفنى القرآن معجزته مرة واحدة للمعاصرين له فحسب لاستقبلتْه القرون الآتية بلا إعجاز، لكن شاءتْ إرادة الله أن يكون إعجاز القرآن سراً مطموراً فيه، وكل قرن يكتشف من أسراره على قدر التفاتهم إليه وتأملهم فيه، وهكذا تظل الرسالة محروسة بالمعجزة.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ }

(/2463)


وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)


يقول تعالى: أنا قطعت عليهم الحجة؛ لأنني لو أهلكتُهم على فَتْرة من الرسل لقالوا: لماذا لم تُبقِنَا ِإلى أن يأتينا رسول، فلو جاءنا رسول لآمنا به قبل أن نقع في الَذُّلِّ والخِزْي، فمعنى: ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبل أن يأتي القرآن لقالوا: ربنا لولا أرسلتَ إلينا رسولاً لآمنّا به واهتدينا.
وهذه مجرد كلمة هو قائلها، وكما قال عنهم الحق سبحانه:{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }[الأنعام: 28] إنها مجرد كلمة تنقذهم من الإشكال.
وقولهم: { مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىا } [طه: 134] الذل: ما يعتري الحييِّ مما ينشأ عنه انكساره بعد أنْ كان متعالياً، والذلّ يكون أولاً بالهزيمة، وأذلّ من الهزيمة الأَسْر، لأنه قد يُهزم ثم يفِرُّ، وأذلُّ منهما القتل. إذن: الذل يكون في الدنيا أمام المشاهدين له والمعاصرين لانكساره بعد تعاليه.
أما الخزي: نخزى يعني: يُصيبنا الخزي، وهو تخاذل النفس بعد ارتفاعها. ومن ذلك يقولون: أنت خزيت. يعني: كنت تنتظر شيئاً فوجدت خلافه.
ومنه قوله تعالى:{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىا رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[آل عمران: 194] فإنْ عُجِّل لهم الذلُّ في الدنيا، فإن الخزي مُؤخَّر للآخرة حتى تكون فضيحتهم على رؤوس الأشهاد، كما يقولون (فضيحة بجلاجل) حيث يشهد خِزْيَهم أهلُ الموقف جميعاً.
وكلمة " الخزي " هذه لها معنا موقف طريف أيام كنا صغاراً نحفظ القرآن على يد سيدنا فضيلة الشيخ حسن زغلول ـ عليه رحمة الله ـ وكان رجلاً مكفوفَ البصر، وكنا (نستلخمه) فإذا وجدنا فرصة تفلّتنا منه وهربنا من تصحيح اللوح الذي نحفظه، فالذي يحفظ بمفرده هكذا من المصحف يكون عرْضة للخطأ.
ومن ذلك ما حدث فعلاً من زميل لنا كان اسمه الشيخ محمد حسن عبد الباري، وقد حضر مدير المدرسة فجأة، وأراد أن يُسمِّع لنا، وكان الشيخ عبد الباري لم يصحح لوحه الذي سيقرأ منه فقرأ: (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) فقرأها بالراء بدلاً من الزاي، فضحك الشيخ طويلاً ـ رحمه الله ـ وقال: يا بني المعنى صحيح، لكن الرواية ليست هكذا.
فكنا نأخذها على الشيخ عبد الباري، فَمنْ أراد أنْ يغيظه قال: (إنك من تدخل النار..) ويسكتْ!!
فشاء الله تعالى أن يتعرض كُلُّ منا لموقف مشابه يُؤْخَذ عليه، وقد أُخِذ عليَّ مثلُ هذا حين قرأت دون أنْ أُصحِّح اللوح أول سورة الشورى: (حم عسق) وقد سبق لي أن عرفت (حم) لكن لم يمر بي (عسق) فقرأت: (حم عَسَقَ) بالوصل، فصار الشيخ عبد الباري كلما قلت له: (إنك من تدخل النار....) يقول: (حم).
فقلنا سبحان ا لله:مَنْ يَعِبْ يَوْماً بشَيْء لَمْ يمُتْ حتَّى يَرَاهُإذن: فقول هؤلاء: { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىا } [طه: 134] تمحُّك منهم: لو أرسلت لنا رسولاً لاتبعناه من قبل أنْ نذلّ في الدنيا هزيمةً، أو أَسْراً، أو قَتْلاً، ونخزى في الآخرة بفضيحة علنية على رؤوس الأشهاد.

(/2464)


قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)


التربُّص: التحفُّز لوقوع شيء بالغير، تقول: فلان يتربص بي يعني: يلاحظني ويتابعني، ينتظر مني هَفْوة أو خطأ، فقوله: { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } [طه: 135] فكُلٌّ مِنَّا يتربص بالآخر، لأننا أعداء، كل منا ينتظر من الآخر هفوة ويترقب ماذا يحدث له.
وقد أوضح سبحانه وتعالى توجيهات التربُّص منه ومنهم في آية أخرى:{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ }[التوبة: 52].
ماذا تنتظرون إلا إحدى الحُسْنيين: إما أن نموت في قتالكم شهداء، أو ننتصر عليكم ونُذِلكم، فأيُّ تربُّص يحدث شرف لنا، إما النصر أو الشهادة، فكلاهما حُسنْى، ونحن نتربّص بكم أنْ يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فكلاهما سوءة.
وما دام الأمر كذلك فتربَّصُوا بنا كما تحبون، ونحن نتربص بكم كما نريد؛ لأن تربصنا بكم يفرحنا، وتربصكم بنا يُؤلمكم ويُحزنكم.
ومعنى { قُلْ } [طه: 135] هنا أن القول { كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ } [طه: 135] ليست من عند محمد، فليس في يده زمام الكون ولا يعلم الغيب، فهو قَوْل الله الذي قال له (قل) يا محمد { كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } [طه: 135].
إذن: قيلتْ مِمَّن يملك أَزمّة الأمور وأعنّتها، و لايخرج شيء عن مراده تعالى، وربما لو قُلْت لكم من عندي تقولون: كلام بشر لا يملك من الأمور شيئاً. إذن: خذوها لا بمقياس كلام البشر، إنما بمقياس مَنْ يملك زمام أقْضية البشر كلها.
ثم يقول تعالى: { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَىا } [طه: 135] متى سيحدث هذا؟ ساعةَ تقوم الساعة حيث الانصراف، إما إلى جنة، وإما إلى نار، ساعتها ستعلمون مَنْ أصحاب الصراط السوي: نحن أمْ أنتم؟ لكنه سيكون عِلْماً لا ينفع ولا يُجدي، فقد جاء بعد فوات الأوان، جاء وقت الحساب لا وقت العمل وتلافي الأخطاء.
إنه عِلْم لا يترتب عليه عمل ينجيكم، فقد انتهى وقت العمل، وهكذا يكون عِلْماً يُزيد حسرتهم، ويُؤذيهم ولا ينفعهم.
والصراط: الطريق المستقيم. والسَّويّ: المستقيم الذي لا عِوَجَ فيه ولا أَمْت.
وقال بعدها { وَمَنِ اهْتَدَىا } [طه: 135] لأنه قد يوجد الصراط السويّ، ولا يوجد مَنْ يسلكه، فالمراد: الصراط السَّوي ومَن اهتدى إليه وسلَكه.
وقد يظن ظانٌّ أن مسألة التربُّص هذه قد تطول، فيقطع الحق سبحانه هذا الظن بقوله في سورة الأنبياء الآتية بَعدْ:{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }[الأنبياء: 1].
وهكذا تنسجم السُّورتان، ويتصل المعنى بين الآيات.

(/2465)


اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)


والاقتراب: إما أن يكون زمناً أو مكاناً، فإذا كانت المسألة في مسافات قلنا: اقترب للناس حسابهم يعني مكانه. وإذا كانت للزمن قلنا: اقترب زمنه. فالاقتراب: دُنُو الحدث من ظرفية زماناً أو مكاناً.
والحق سبحانه حينما يُعبِّر بالماضي { اقْتَرَبَ } [الأنبياء: 1] يدل على أن ذلك أمر لازم وسيحدث ولا بُدَّ، والبشر حينما يتحدثون عن أمر مقبل يقولون: يقترب لا اقتربَ؛ لأن اقتربَ هكذا بالجزم والحكم بأنه حدثَ فعلاً لا يقولها إلا الله الذي يملك الأحداث ويقدر عليها، أما الإنسان فلا يملك الأحداث، ولا يستطيع الحكم على شيء لا يملكه بعد أن يتلفظ بهذا اللفظ.
ومثال ذلك في قوله تعالى:{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ... }[النحل: 1] فلا يُقال لك: لا تستعجل شيئاً إلا إذا كان لم يحدث بَعْد: فكيف - إذن - جمع بين الماضي{ أَتَىا... }[النحل: 1] والمستقبل{ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ.. }[النحل: 1].
قالوا: أنت ممنوع أن تحكم بمُضيٍّ على أمر مستقبل؛ لأنك لا تملك نفسك، ولا تملك ظروف المستقبل، كما في قوله تعالى:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ... }[الكهف: 23-24].
لا بُدَّ أن تُردف هذا القول بالمشيئة؛ لأن قولك " سأفعل ذلك غداً " قضيةٌ يدعوك للفعل والقدرة التي تُعينك أن تفعل.
وهذه كلها عناصر لا تملك أنت شيئاً منها، وربما جاء غَدٌ فتغيَّر عنصر من هذه العناصر، وحال بينك وبين ما تريد، فينبغي أن تُبرِّيء نفسك من احتمال الكذب فتقول: إن شاء الله وتردُّ الأمر إلى القادر عليه الذي يملك كل هذه العناصر، وكأن ربك يُعلِّمك ألا تكون كاذباًَ.
لذلك نجد أن اللغة قد راعتْ قدرة المتكلم، ووضعتْ له الزمن المناسب، فإنْ علمتَ حدوث العفل قُلْ بالماضي: حضر فلان، انتهت القضية، فإنْ علمتَ أنه توجه للحضور واستعدَّ له قُلْ: سيحضر فلان أي قريباً، أو سوف يحضر أي: بعد ذلك.
هذا الذي يناسب قدرة البشر. أما الحق سبحانه فيملك زمام الأشياء وتوجيهها، وكلّ شيء مرهون بأمره التكويني، فإنْ قال للأمر المستقبل: أتى أو اقترب فصدِّق؛ لأنه لا شيء يُخرج الأمر عن مراده تعالى، وهو وحده الذي يملك الانفعال لكلمة كُنْ، فإنْ قالها فَقد انتهتْ المسألة.
لذلك يقول سبحانه: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... } [الأنبياء: 1] بصيغة الماضي ولم يقل: يقترب أو سيقترب؛ لأن المتكلم هو الله.
وقد ورد الماضي (قترب) أيضاً في قوله تعالى:{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ }[القمر: 1].
وفي قوله تعالى{ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب }[العلق: 19] فاقترب غير قَرُب، قرُب: يعني دنا، أما اقترب أي: دنا جداً حتى صار قريباً منك.
والحساب: كلمة تُطلَق إطلاقات عِدّة، فالحساب أنْ تحسب الشيء بالأعداد جمعاً، أو طرحاً، أو ضَرْباً، وتدير حصيلة لك أو عليك، فإنْ كانت لك فأنت دائن، وإنْ كانت عليك فأنت مدين.

أو تربط المسبِّبات بأسبابها.
وهناك أمور تأتي بغير حساب، كما قال تعالى:{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37] فهذه مسألة لا تستطيع ضبطها، والله لا يُسأل: أعطاني زيادة أم نقصاناً.
أما الحساب في } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... { [الأنبياء: 1] فيقتضي مُحَاسباً هو الله عز وجل، ومُحاسَباً هم الناس، ومُحَاسَباً عليه وهي الأعمال والأحداث التي أحدثوها في دنياهم، وهذه قسمان: قسم قبل أنْ يُكلَّفوا، وقسم بعد أن كُلِّفوا.
ما كان قبل التكليف وسِنِّ البلوغ لا يحاسبنا الله عليه، إنما تركنا نمرح ونرتع في نعمه سبحانه دون أن نسأل عن شيء، أما بعد البلوغ فقد كلَّفنا بأشياء تعود علينا بالخير، وألزمنا المنهج الذي يضمن سعادتنا " بافعل " و " لا تفعل " وهذا يقتضي أن نحاسب، فعلنا، أم لم نفعل.
إذن: المسألة حساب، ليست جُزَافاً، جماعة في الجنة وجماعة في النار، وقوله سبحانه في الحديث القدسي: " هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي " بِناءً على علمه تعالى بما يُؤدُّونه وقت الحساب، ففي علم الله ما فعلوا وما تركوا.
ولا تنْسَ أن المحاسب في هذا الموقف هو الله، فإنْ كان الحساب في الخير عاملك بالفضل والزيادة كما يشاء سبحانه؛ لذلك يضاعف الحسنات، وإنْ كان الحساب في الشر كان على قَدْره دون زيادة، كما قال تعالى:{ جَزَآءً وِفَاقاً }[النبأ: 26].
وما دام المحاسب هو الله سبحانه وتعالى، وهو لا ينتفع بما يقضيه على الخَلْق، فمن رحمته بِنَا ونعمته علينا أنْ حذَّرنا من أسباب الهلاك، ولم يأخذنا على غَفْلة، ولم يفاجئنا بالحساب على غِرّة، إنما أبان لنا التكاليف، وأوضح الحلال والحرام، وأخبرنا بيوم الحساب لسنتعدَّ له، فلا نسير في الحياة على هوانا.
فقال سبحانه:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8].
فمن رحمته تعالى بعابده أنْ وعدهم هذا الوعد، وعرفهم هذا الميزان وهم في سَعَة الدنيا، وإمكان تدارك الأخطاء، واستئناف التوبة والعمل الصالح، من رحمته بنا أنْ يعِظَنا هذه الموعظة ويكررها على أسماعنا ليلَ نهارَ.
إذن: ما أخذنا ربنا على غِرَّة، ولم تُفاجئْنا القيامة بأهوالها، فمن الآن اعلم } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... { [الأنبياء: 1] وما دام الأمر كذلك فعلى الإنسان أن يُقَدِّر قَدْر الاقتراب، ومتى سينتقل إلى يوم الحساب، ولا تظن أن عُمرك هو عمر الدنيا منذ خلقها الله، إنما عمرك ودنياك على قَدْر مُكْثك فيها، وهو مُكْث مظنون غير مُتيقَّن، فمن الخَلْق من عمَّر دهراً، ومنهم مَنْ مات في بطن أمه. إذن: لا تُؤجِّل لأنك لا تدري، أيمهلك الأجل حتى تتوب؟ أم يُعاجلك فتُؤخذ بذنبك؟
والحق سبحانه يقول: } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... { [الأنبياء: 1] مع أن الساعة مازالت بعيدة، وبيننا وبين القيامة مَا لا يعلمه إلا الله.

فكيف ذلك؟
قالوا: لأن الحساب إنما يكون على الأعمال، والأعمال لها وقت هو الدنيا، فَمنْ مات فقد انقطع عمله، واقترب وقت حسابه؛ لأن المدة التي يقضيها في القبر لا يشعر بها، فكأنها ساعة من نهار.
فإنْ قُلْت: من الناس مَنْ يعيش مائة عام، ومائة وخمسين عاماً. نقول: هذا شيء ظنيّ لا نضمنه، والإنسان عُرضة للموت في أيِّ لحظة لسبب أو دون سبب.
ونلحظ في قوله تعالى: } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... { [الأنبياء: 1] فقال (للنَّاسِ) مع أن الحساب لهم وعليهم، فهل معنى (للناس) أي: لمصلحتهم؟ لا يبدو ذلك؛ لأنه قال بعدها: } وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ { [الأنبياء: 1].
إذن: الحساب ليس في مصلحتهم إنما الحساب عليهم، إذن: كيف يكون ف مثل هذا السياق } اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ... { [الأنبياء: 1] ما دام الأمر على الكفار؟ كان المفروض أن يقول: اقترب على الناس حسابهم.
نقول: هذا إذا أخذتَ اللام للحساب، إنما اللام هنا للاقتراب، لا للحساب، أي: اقترب من الناس، إنما الحساب لهم أو عليهم، هذه مسألة أخرى.
وقوله: } وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ { [الأنبياء: 1] الغفلة معناها: زحزحة الشيء عن بال الواجب أَلاَّ يزحزح عنه، فكان الواجب أنْ يتذكره ولا يغفل عنه، والغفلة غير النسيان؛ لأن الغفلة أن تهمل مسألة كان يجب ألاَّ تهمل، وألاَّ تغيب عن بالك، أما النسيان فخارج عن إرادتك.
وغفلتهم هنا عن أصل وقمة الدين، وهو الإيمان بالألوهية، فإن آمنتَ بالألوهية فالغفلة عن الأحكام التي جاء بها الدين، وهذه هي المعاصي، والكلام هنا عن الكافرين بدليل قوله بعدها:{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ... }[الأنبياء: 2] والغفلة عن الربِّ الأعلى مثلها الغفلةَ عن حكم الرب الأعلى، وفَرْق ين غَفْلة وغَفْلة.
وقد حدَّثَ النبي صلى الله عليه وسلم صحابته عن هذه الغفلة، كما روى سيدنا حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا (أن الأمانة نزلت في جِذَرْ قلوب الرجال) والأمانة هي الإيمان الحق بالله، أي: حَلَّ الإيمان، واستقر في القلب، ونطقنا بالشهادة (ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السُّنة) ثم حدَّثنا عن رَفْع الأمانة فقال: (ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه) أي: يغفل (فيظل أثرها مثل أثر الوكت) الوكت: مثل سيجارة مثلاً تقع على الجلد فلسعته، فيتغير لونه (ثم ينام النومة) أي: مرة أخرى (فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل) والمجل: جمرة النار (فنفط فتراه منتبراً عالياً، وليس به شيء) أي: انتفخ (فيصبح الناس) أي: بعد رفع الأمانة (يتابعون فلا يكاد يوجد أحد منهم يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) لندرة الأمانة بين الناس.

ثم يقول الراوي: (وقد مر عليَّ زمان ما كنت أبالي أيكُم بايعت، فلئن كان مسلماً ليردنَّه عليَّ دينه) يعني: إنْ غشَّني في شيء أو حدث خطأ ما في البيع (ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ليردنَّه عليَّ ساعيه) أي: الناس المكلفون بمراقبة الأسواق، وهم أهل الحِسْبة، فإنْ رأَوْا عِشّاً منعوه، وردوا إلى صاحب الحق حقه (وأما الآن فأنا لا أكاد أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً) فإنْ كان هذا في أيامهم فما بال أيامنا؟
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: " الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة " أي: رَغْم كثرتها لا تجد فيها جملاً يحمل رَحْلك ويحملك.
وفي رواية أخرى: " تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عوداً " أي: كنسج الحصير، عُوداً بعد عود، حتى تتم الحصيرة، ثم يكون الرَّان على القلب.
فغفْلة هؤلاء غَفْلة عن القمة، وعن الألوهية، لا عن التكاليف؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالمكلّف سبحانه.
وقوله تعالى: } مُّعْرِضُونَ { [الأنبياء: 1] تدل على الافتعال أي: أنهم مفتعلون هذا الإعراض؟
ثم يقول الحق سبحانه: } مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ.... {.

(/2466)


مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)


أي: ذكر من القرآن { مُّحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] يعني: يسمعونه جديداً لأول مرة { إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء: 2] لا يعطونه اهتماماً، ولا يُلْقون له بالاً، وهم يتعمدون هذا، ويُوصِي بعضهم بعضاً به ويُحرّضون عليه، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى حكاية عنهم:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }[فصلت: 26].
إنهم يخافون إنْ سمعوا القرآن أنْ يتأثروا به فيؤمنوا؛ لذلك لا تسمعوه، بل شَوِّشوا عليه حتى لا يسمعه أحد في هدوء واطمئنان فيؤمن به. وهذا يعني أن هذا العمل في مصلحتهم؛ لأنهم لا يستطيعون رَدَّ حُجَج القرآن ولا الثبات أمام إعجازيته ولا بلاغته ولا تأثيره على النفوس، فهُمْ لا يملكون إلاَّ أنْ يصرفوا الناس عن سماعه، والتشويش عليه، حتى لا يتمكّن من الأسماع، وينفذ إلى القلوب، فيخالطها الإيمان.
واللعب: أن تشغل نفسك بعمل لا قَصْدَ فيه لغاية، كما يأخذ الطفل الصغير كراسة أخيه، ويعبث فيها بالقلم دون نظام ودون هدف.
وهناك أيضاً اللهو: وهو عمل مقصود لغاية، لكن هذه الغاية تضعها أنت لنفسك، أو يضعها غيرك ممَّنْ يريد أنْ يُفسِدك بها، إذن: هو عمل مقصود وله غاية، ليس مجرد (شخبطة) كمَنْ ينشغل مثلاً برسم بعض الصور للتسلية، أو ينشغل بحلِّ الكلمات المتقاطعة، فهي أعمال لا فائدة منها.
أما العمل النافع الذي ينبغي أن ينشغل الإنسان به فهو الذي يضعه لك مَنْ هو أعلى منك، وأنْ يكون حكيماً مُحباً لك، وهذه المواصفات لا تجدها إلا في الإله، لذلك كل ما يُلهِيك عَمَّا يضعه لك إلهك فهو لَهْو؛ لأنه شَغَلك عما هو أهَمّ.
لذلك يقول تعالى:{ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ... }[محمد: 36].
فاللعب في مرحلة الطفولة، بل نأتي نحن باللُّعب ونقول للطفل: العب، إنما اللهو أن تنشغلَ بعمل مقصود وله غاية لكنها تلهيك عن غاية أسمى هي التي وضعها لك الحكيم القادر الأعلى منك المحبّ لك.
إذن: منتهي اللهو واللعب أن يلعبوا عند سماع القرآن، فلم يستمعوا له، حتى على أنه لهو له غاية، إنما على أنه لَعِبٌ لا غاية له ولا فائدةَ منه؛ لأن غايته ضارّة.
واللعب وإنْ كان مُباحاً في فترة ما قبل البلوغ، إنما القلوب يجب أن تُربَّى على أنْ تلتفت إلى الله عز وجل الخالق الرازق في هذه الفترة المبكرة من حياة الإنسان، وهذه مهمة الأب، فإنْ أتى لولده بطعام أو شراب يقول أمام الولد الصغير: ربنا رزقنا به. وهكذا في كل أمور الحياة يسند الأمر إلى الله وينبه الولد الصغير: قل: بسم الله قل: الحمد لله.
وهكذا تُربِّى في الولد مواجيده على اليقين بالله القوي، وإنْ كان الولد لا يراه فإنه يرى آثاره ونِعَمه.

ويرى أباه الذي يتعهده، ويأتي له بكل شيء لا يتصيّد المجد لنٌفسه، إنما ينسب كل شيء إلى الله.
فأبوه - وهو المثل الأعلى له - يزحزح هذه المسائل عنه وينسبها لله، فيتربى وجدانُ الولد على الإيمان. فإذا لم يُرَبَّ الولد هذه التربية تسلل إلى نفسه اللَّهْو واللَّعِب.
وسبق أن قلنا: إن كُلَّ فعل من الأفعال لا بُدَّ أنْ ينشأ عن مَوْجدة من المواجيد، ولا ينشأ الفعل دون مَوجدة إلا فعل المجنون، والقلوب هي التي تُوجِّه الجوارح، ولو لم تكُنْ القلوب لاهية ما لعبت الجوارح.
لذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - حينما دخل على رجل يعبث بذقنه هو يصلي - كما يفعل الكثيرون - قال: لو خشعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحه. فحركة الجوارح دليل على انشغال القلب؟ لذلك يقول تعالى بعدها: } لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى... {.

(/2467)


لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)


ويا ليت كلاً منهم يفعل هذا الفعل في نفسه، إنما يتآمرون جميعاً على الحق ليفسدوه باللعب واللهو { وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى... } [الأنبياء: 3] أي: يتناجَوْن في الإثم، ويُسِرُّونه يعني: يجعلونه سِراً. والنَّجْوى أو التناجي: خَفْضِ الصوت، كما جاء في قوله تعالى:{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىا ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ... }[المجادلة: 7].
فلا تظنوا أنكم مستورون عن الله، أو تُخْفون عنه شيئاً. وتلاحظ في ارتقاءات العدد في هذه الآية أنها لم تذكر اثنين، فبدأت من العدد ثلاثة؛ لأنه عادةً لا تكون النجوى بين الاثنين، إنما تكون بين الثلاثة، حيث يتناجى اثنان حتى لا يسمع الثالث.
كما أنها لم تذكر الأعداد بالترتيب، فلم تَقُلْ مثلاً: ولا أربعة إلا هو خامسهم؛ ذلك لأن الآية لا تقصد الترتيب العددي، إنما تعطيك مجرد أمثلة ونماذج من الأعداد.
وكذلك في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَىا ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ... }[المجادلة: 8].
وما داموا يُخْفون كلاماً ويُسِرُّونه، فلا بُدَّ أنه مخالف للفطرة السليمة، ولو كان حقّاً لَقالُوه علانية، فالنجْوى دليلُ اتهامهم في العقل، وفي القلب، وفي كل شيء.
أما قوله تعالى في شأن النبي صلى الله عليه وسلم:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً... }[المجادلة: 12].
وهل كان الصحابة يُحدِّثون الرسول سرَّاً؟ لا بل هنا إشارة أخرى أوضحها قوله تعالى:{ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً... }[النور: 63].
فالمراد ألاّ نرفع أصواتنا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم كما يحدث مِنّا حين يُكلِّم بعضنا بعضاً، بل نُكلِّمه كلام المهيب، ونلتزم معه الأدب والخشوع.
وقوله تعالى: { وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ.. } [الأنبياء: 3] هل (الذين) هنا هي الفاعل لأسرُّوا؟ القاعدة النحوية: إذا تقدم أكلوا على الفاعل لقال: وأَسَرَّ الذين ظلموا، إنما جاء الفاعل (واو الجماعة) ثم الاسم الموصول (الذين) بعدها فليست هي الفاعل، وليست هذه من لغات العرب الصحيحة.
فكأن سائلاً سأل: ومَن الذي أسَرَّ؟ فأجاب: (الّذِينَ ظَلَمُوا) وكلمة (ظَلَمُوا) عامة في الظلم، فقد ظلموا أنفسهم أولاً؛ لأن ظلمهم عائد عليهم بالعذاب، وظُلْم نفسه ناشيء من أنه ظلم الحق الأعلى{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
ثم ظلم الناس في أمور أخرى وفي حقوق لهم، لكن جاءتْ (ظلموا) عامة؛ لأن الظلم الواحد سيشمل كل أنواع الظلم، وما دام قد وصل به الأمر إلى أنْ ظَلَم الله فلا غرابةَ أنْ يظلم ما دونه تعالى.
فما النجوى التي أسرَّهَا القوم؟ ومَنْ أخبر رسول الله بها؟
النجوى قوله تعالى:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ }[المجادلة: 8].
فكيف عرف محمد هذه المقولة، وقد قالوها في أنفسهم وأسرُّوها؟ ألم يكُن على هؤلاء أن يتنبَّهوا: كيف عرف محمد مقولتهم؟ وأن الذي أخبره بما يدور هو ربُّه الإله الأعلى، الذي لا تَخْفى عليه خافية، كان عليهم أن يلتفتوا إلى رب محمد، الله الإله الحق الذي يعلم خَبْءَ كل شيء فيرتدعوا عَمَّا هم فيه، وبدل أنْ يشغلوا عقولهم بمسائل الشرك ينتهوا بها إلى الإيمان.

ومما جاء في تناجيهم } هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ.. { [الأنبياء: 3] إذن: أنكروا أن يكون رسولاً لأنه بشر، والرسول لا بُدَّ أن يكون ملكاً } أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ { [الأنبياء: 3] فسمُّوا القرآن سحْراً، لأنهم يروْنَ السحر يُفرِّق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه } وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ { [الأنبياء: 3] أن القرآن يفعل مثل هذا.
ثم يقول الحق سبحانه: } قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ... {.

(/2468)


قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)


كأن سائلاً قال: من أين لك يا محمد بكل هذا وقد أسرّه القوم؟ { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ... } [الأنبياء: 4] فلا تَخْفى عليه خافية { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الأنبياء: 4] السميع لما يُقال ويُسر العليم بما يُفعل، فالأحداث أقوال وأفعال.
ومما قالوه أيضاً: { بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ... }.

(/2469)


بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)


(بَلْ) تعني أنهم تمادَوْا، ولم يكتفو بما قالوا، بل قالوا أيضاً { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } [الأنبياء: 5] وأضغاث: جمع ضِغْث، وهو الحزمة من الحشيش مختلفة الأشكال، كما جاء في قصة أيوب عليه السلام:{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ... }[ص: 44] أي حزمة من أعواد الحشيش.
ووردْت أيضاً في رُؤْيا عزيز مصر:{ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ }[يوسف: 44].
وقوله { بَلِ افْتَرَاهُ... } [الأنبياء: 5] أي تمادَوْا فقالوا: تعمد كذبه واختلافه { بَلْ هُوَ شَاعِرٌ... } [الأنبياء: 5] إذن: أقوالهم واتهاماتهم لرسول الله متضاربة في ماهية ما هو؟ وهذا دليل تخبطهم، فمرة ينكورن أنه من البشر، ومرة يقولون: ساحر، ومرة يقولون: مفتر، والآن يقولون: شاعر!!
وقد سبق أنْ فنَّدنا كل هذه الاتهامات وقلنا: إنها تحمل في طياتها دليل كذبهم وافترائهم على رسول الله.
ثم يقولون: { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ } [الأنبياء: 5] كأن آية القرآن ما أقنعتْهم، فلم يكتفُوا بها، ويطلبون آية أخرى مثل التي جاء بها السابقون، والقرآن يردّ عليهم في هذه المسألة: لو أنهم سيؤمنون إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لأنزلناهم عليهم، إنما السوابق تؤكد أنهم لنْ تؤمنوا مهما جاءتهم من الآيات، وهذا من أسباب العذاب.
وقد أوضح الحق سبحانه أنه لن يُعذَّبهم ما دام فيهم رسول الله؛ لذلك لم يُجِبْهم إلى ما طلبوا من الآيات؛ لأن الله تعالى لا يُخلف وعْدَه، فإنْ جاءتهم الآية فلم يؤمنوا بها لا بُدَّ أنْ يُنزِل بهم العذاب؛ لذلك يقول تعالى بعدها: { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ... }.

(/2470)


مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)


إذن: هذه التجربة مَرَّت مع غيرهم من الأمم السابقة، وهم كأمثالهم من السابقين لو أنزلنا عليهم الآية ما آمنوا، كما لم يؤمن سابقوهم{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }[الأنعام: 28] ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً... }.

(/2471)


وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)


الحق - تبارك وتعالى - يردُّ على اعتراضهم على بشرية الرسول وطلبهم أن يكون الرسول ملكاً، كما قالوا في موضع آخر:{ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا... }[التغابن: 6].
يعني: هم مثلنا، وليسوا أفضل منَّا، فكيف يهدوننا؟! وهل الرسول يهديكم ببشريته؟ أم بشيء جاءه من أعلى؟ هل منهجه من عنده؟
الرسول ليس مُصلِحاً اجتماعياً، إنما هو مُبلِّغ عن الله ربي وربكم. وقد سبقت السوابق فيمَنْ قبلكم أن يكون الرسول بشراً { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ... } [الأنبياء: 7] ولو أرسلنا إليهم مِلَكَاً لجاءكم الرسول مَلَكاً. { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الأنبياء: 7] وهم اليهود والنصارى، ماذا أرسلنا إليهم أرجالاً أم ملائكة؟
ذلك لأن المفروض في النبي أن يكون قدوة لقومه وأُسْوة، مُبلِّغَ منهج، وأُسْوةَ سلوك، منهج يحققه عن الله، ثم يُطبِّقه على نفسه، فهو لا يحمل الناس على أمر هو عنه بنَجْوة، إنما هو أُسْوتهم وقُدْوتهم، وشرط أساسي في القدوة أنْ يتحد فيها الجنس: المتأسِّي مع المتأسِّي به.
فلو رأيت مثلاً في الغابة أسداً يصول ويجول ويفترس، هل تفكر في يوم ما أن تكون أسداً؟ هل تأخذ الأسد لك أُسْوة؟! لا، لأنه يُشترط في أُسْوتك أن يكون من جنسك، فإذا رأيتَ فارساً على جواده يصول ويجول ويضرب في الأعداد يميناً وشمالاً، لا شكَّ أنك تود أن تكون مثله.
كذلك إذا جاء النبي مَلَكاً، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤْمرون، إنما نحن بشر، ولو جاءنا الرسول ملكاً لجاءنا في صورة بشرية.
يقول تعالى:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً * قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 95].
ويردُّ الحق سبحانه عليهم:{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }[الأنعام: 9]. وهكذا تظل الشبهة موجودة.
إذن: لا يمكن أن يكون الرسول للبشر إلا من البشر. ونعم، محمد بشر لكن بشر يُوحَى إليه، كما جاء في الحديث الشريف: " يرد عليَّ - يعني من الحق الأعلى - فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخَذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم ".
وقوله: { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الأنبياء: 7] أي: إنْ كنتم في شكٍّ من هذه المقولة فاسألوا أهل الذكر من السابقين: اليهود والنصارى أهل الكتاب.
وقال: { إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الأنبياء: 7] لأنها مسألة عِلْمُها مشكوك فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً... }.

(/2472)


وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)


{ جَعَلْنَاهُمْ.. } [الأنبياء: 8] أي: الرسل { جَسَداً... } [الأنبياء: 8] يعني: شيئاً مصبوباً جامداً لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك، إنما هم بشر يأكلون ويشربون كأيّ بشر، ويمشون في الأسواق، ويعيشون حياة البشر العادية { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [الأنبياء: 8] فليس الخلود من صفة البشر وقد تابعوا الرسل، وعَلِموا عنهم هذه الحقيقة، وقال تعالى:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }[الزمر: 30].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ... }.

(/2473)


ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)


وهذه سُنة من سُنَن الله في الرسل أنْ يَصْدقهم وعده، وهل رأيتم رسولاً عانده قومه وحاربوه واضطهدوه،وكانت النهاية أن انتصروا عليه؟
ألم يقل الحق تبارك وتعالى:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171-173].
وكان صِدْق الوعد أن أنجيناهم ومَنْ نشاء وأهلكنا المسرفين والمسرفون هم الذين تجاوزوا الحدَّ المعروف. فنهاية الرسل جميعاً النُّصْرة من الله، والوفاء لهم بما وعدهم. { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً... }.

(/2474)


لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)


الحق سبحانه يخاطب المكذِّبين للنبي: ما أنزلتُ إليكم آية بعيدة عن معرفتكم، إنما أرسلتُ إليكم رسولاً بآية من جنس ما نبغتُم فيه، ولما نزل فهمتموه وعرفتم مراميه، بدليل أن في القرآن ألفاظاً تُستقبل بالغرابة ولم تعترضوا أنتم عليها، ولم تُكذِّبوا محمداً فيها مع أنكم تتلمسون له خطأ، وتبحثون له عن زلة.
فمثلاً لما نزلتْ (الم) ما سمعنا أحداً منهم قال: أيها المؤمنون بمحمد، إن محمداً يدَّعي أنه أتى بكتاب مُعْجز فاسألوه: ما معنى (ألم)؟ مما يدل على أنهم فهموها وقبلوها، ولم يجدوا فيها مَغْمزاً في رسول الله؛ لأن العرب في لغتهم وأسلوبهم في الكلام يستخدمون هذه الحروف للتنبيه.
فالكلام سفارة بين المتكلَّم والسامع، المتكلِّم لا يُفَاجأ بكلامه إنما يعدّه ويُحضره قبل أن ينطق به، أمّا السامع فقد يُفَاجأ بكلام المتكلم، وقد يكون غافلاً يحتاج إلى مَنْ يُوقِظه ويُنبِّهه حتى لا يفوته شيء.
وهكذا وُضِعَتْ في اللغة أدوات للتنبيه، إنْ أردتَ الكلام في شيء مهم تخشى أنْ يفوتَ منه شيء تُنبِّه السامع، ومن ذلك قول عمرو ابن كلثوم:أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبِحينَا وقول آخر:أَلاَ أنعِمْ صَبَاحاً أُيُّها الطَّلَلُ البَالي وَهَلْ يَنْعَمَنْ مَنْ كَانَ في العَصْر الخاليإذن: (ألا) هنا أداة للتنبيه فقط يعني: اسمعوا وانتبهوا لما أقول.
وكذلك أسلوب القرآن:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[يونس: 62]{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ... }[هود: 5].
إذن: عندما نزل القرآن عليهم فهموا هذه الحروف، وربما فهموا منها أكثر من هذا، ولم يردُّوا على رسول الله شيئاً من هذه المسائل مع حرصهم الشديد على نقده والأخذ عليه.
وقوله تعالى: { فِيهِ ذِكْرُكُمْ.. } [الأنبياء: 10] الذكر: سبق أنْ أوضحنا أن الذكر يُطلق بمعنى: القرآن، أو بمعنى: الكتب المنزّلة، أو بمعنى: الصِّيت والشرف. أو بمعنى: التذكير أو التسبيح والتحميد.
والذكر هنا قد يُرَاد به تذكيرهم بالله خالقاً، وبمنهجه الحق دستوراً، ولو أنكم تنبهتم لما جاء به القرآن لعرفتُم أن الفطرة تهدي إليه وتتفق معه، ولعرفتم أن القرآن لم يتعصّب ضدكم، بدليل أنه أقرَّ بعض الأمور التي اهتديتم إليها بالفطرة السليمة ووافقكم عليها.
ومن ذلك مثلاً الدِّيَة في القتل هي نفس الدية التي حدَّدها القرآن، مسائل الخطبة والزواج والمهر كانت أموراص موجودة أقرها القرآن، كثيرون منهم كانوا يُحرِّمون الخمر ولا يشربونها، هكذا بالفطرة، وكثيرون كانوا لا يسجدون للأصنام، إذن: الفطرة السليمة قد تهتدي إلى الحق، ولا تتعارض ومنهجَ الله.
أو: يكون معنى { ذِكْرُكُمْ... } [الأنبياء: 10] شرفكم وصيْتكم ومكانتكم ونباهة شأنكم بين الأمم؛ لأن القرآن الذي نزل للدنيا كلها نزل بلغتكم، فكأن الله تعالى يثني عقول الناس جميعاً، ويثني قلوبهم للغتكم، ويحثّهم على تعلّمها ومعرفتها والحديث بها ونشرها في الناس، فمَنْ لم يستطع ذلك ترجمها، وأيُّ شرف بعد هذا؟!
وقوله تعالى: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [الأنبياء: 10] أفلا تُعملِون عقولكم وتتأملون أن خيركم في هذا القرآن، فإنْ كنتم تريدون خُلقاً وديناً ففي القرآن، وإنْ كنتم تريدون شرفاً وسُمعة وصيتاً ففي القرآن، وأيُّ شرف بعد أن يقول الناس: النبي عربي، والقرآن عربي؟
ثم يقول الحق سبحانه: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ }.

(/2475)


وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11)


قصمنا: القَصْم هو الكَسْر الذي لا جَبْرَ فيه، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يضع أمام أعينهم القُرَى المكذِّبة الظالمة، ليأخذوا منها عِبْرة وعِظَة، فليس بِدَعاً أنْ نقصم ظهور المكذِّبين، بل لها سوابق كثيرة في التاريخ.
لذلك قال: { وَكَمْ قَصَمْنَا... } [الأنبياء: 11] وكم هنا خبرية تفيد الكثرة التي لا تُعَدُّ، فأحذروا إنْ لويتُم أعناقكم أَنْ يُنزِل بكم ما نزل بهم.
وقوله: { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } [الأنبياء: 11] أي: خَلف بعدهم خَلْف آخرون. { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ... }.

(/2476)


فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)


أي: حين أحسُّوا العذاب { إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } [الأنبياء: 12] حتى لا يلحقهم العذاب. والركْضُ: الجَرْى السريع بهَرْولة، والأصل فيه: رَكْضُ الدابة. يعني: ضَرْبها برِجلْه كي تُسرع. ومنها:{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ... }[ص: 42] يعني: اضرب الأرض برِجلْك لِتُخرج الماء{ هَـاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }[ص: 42].
وفي هذه الآية مَلْمحٌ من ملامح الإعجاز القرآني، فقد أصاب أيوبَ عليه السلام مرضٌ في جلده، وأراد له ربُّه - عز وجل - الشفاء. فقال له: اضرب الأرض برِجْلك تُخرج لك ماءً بارداً، منه مُغْتَسل ومنه شراب، فالماء هنا دواء يعالج أمرين: يعالج الظاهر والباطن.
وآفةُ المعالجين أنهم إذا رأوا مثلاً البثور والدمامل في الجلد يعالجونها بالمراهم التي يندمِلُ معها الجُرْح، لكنها لا تعالج أسباب الظاهرة من الداخل، أما العلاج الإلهي فمغتسلٌ لعلاج الظاهرة، وشرابٌ لعلاج أسباب الظاهرة في الجوف.
ثم يقول الحق سبحانه: { لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ... }.

(/2477)


لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)


الحق - سبحانه وتعالى - في قصة هؤلاء المكذِّبين قدَّم الغاية من العذاب، فقال:{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ... }[الأنبياء: 11] ثم فصَّل القَصمْ بأنهم لما أحسًّوا العذاب تركوا قريتهم، وأسرعوا هاربين أنْ يلحقهم العذاب، وهنا يقول لهم: لا تركضوا وعودوا إلى مساكنكم، وإلى ما أُترِفْتم فيه.
والتُّرفُ: هو التنعُّم نقول: ترف الرجل يترف مثل: فرح يفرَح أي: تنعَّم، فإذا زِيدتْ عليها همزة فقيل: أترف الرجل فمعناها: أخذ نعيماً وأبطره.
ومنها أيضاً: أترفَهُ الله يعني: غرَّه بالنعيم؛ ليكون عقاباً له.
فقوله هنا { إِلَىا مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ.. } [الأنبياء: 13] من أترافه الله يعني: أعطاهم نعيماً لا يؤدون حقَّه، فيجرّ عليهم العذاب. لكن ما دام أن الله تعالى يريد بهم العذاب، فلماذا يُنعِّمهم؟
قالوا: فَرْق بين عذاب واحد وعذابين: العذاب أن تُوقع على إنسان شيئاً يؤلمه، أما أن تُنعِّمه وترفعه ثم تعذبه، فقد أوقعتَ به عذاباً فوق عذاب.
وقد مثَّلْنا لذلك بأن إنْ أردت أَنْ تُوقِع عدوك لا توقعه من فوق حصيرة مثلاً، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون أشدَّ عليه وآلمَ له.
ومن ذلك قَوْلُ القرآن{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ... }[الأنعام: 44] أعطيناهم الصحة والمال والجاه والأرض والدُّور والقصور{ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44] وهكذا يكون أَخذْه أليماً شديداً، فعلى قَدْر ما رفعهم الله على قَدْر ما يكون عذابهم.
ومَلْمَح آخر في قوله تعالى:{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ }[الأنعام: 44] لا لهم كما في:{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }[الفتح: 1] فليس هذا كله في صالحهم، بل هو وَبَال عليهم، فلا تغترُّوا بها، فقد أعطاها الله لهم، وهم سيَبَطْرون بها، فتكون سببَ عذابهم.
وقوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 13] أي: عودوا إلى مساكنكم وقصوركم وما كنتم فيه من النعيم، لعل أحداً يمرُّ بكم فيسألكم: أين ما كنتم فيه من النعيم؟ أين ذهب؟ لكن ما هم فيه الآن من الخزي سيُخرس ألسنتهم، ولن يقولوا شيئاً مما حدث، إنما سيكون قولهم وسلوكهم. { قَالُواْ ياوَيْلَنَآ... }.

(/2478)


قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)


لما أحسَّ المكذِّبون بأْسَ الله وعذابه حاولوا الهرب ليُفوِّتوا العذاب، فقال لهم: ارجعوا إلى ما كنتم فيه، فلن يُنجيكم من عذاب الله شيء، ولا يفوت عذاب الله فائت، فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف لم يجدوا شيئاً إلا الحسرة فتوجَّهوا إلى أنفسهم ليقرعوها، ويحكموا عليها بأنها تستحق ما نزل بها.
فقولهم: { ياوَيْلَنَآ... } [الأنبياء: 14] ينادون على العذاب، كما تقول (يا بؤسي) أو (يا شقائي) وهل أحد ينادي على العذاب أو البُؤْس أو الشقاء؟ الإنسان لا ينادي إلا على ما يُفرِح.
فالمعنى: يا ويلتي تعالى، فهذا أوانك، فلن يشفيه من الماضي إلا أنْ يتحسَّر عليه، ويندم على ما كان منه. فالآن يتحسَّرون، الآن يعلمون أنهم يستحقون العذاب ويلومون أنفسهم.
{ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [الأنبياء: 14] ظالمين لأنفسنا بظلمنا لربنا في أننا كفرنا به، كما قال في آية أُخْرى:{ أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَا عَلَىا مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ... }[الزمر: 56].

(/2479)


فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)


قوله تعالى: { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ... } [الأنبياء: 15] أي: قولهم:{ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }[الأنبياء: 14] فلم يقولوها مرة واحدة سرقة عواطف مثلاً، إنما كانت ديدنهم، وأخذوها تسبيحاً: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فلا شيءَ يشفي صدورهم إلا هذه الكلمة يُردِّدونها. كما يجلس المرجم يُعزِّي نفسه نادماً يقول: أنا مُخطيء، أنا أستحق السجن، أنا كذا وكذا.
وقوله تعالى: { حَتَّىا جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } [الأنبياء: 15] الحصيد: أي المحصود وهو الزرْع بعد جمعه { خَامِدِينَ } [الأنبياء: 15] الخمود من أوصاف النار بعد أنْ كانت مُتأجِّجة مشتعلة ملتهبة صارت خامدة، ثم تصير تراباً وتذهب حرارتها. كأن الحق - سبحانه وتعالى - يشير إلى حرارتهم في عداء الرسول وجَدَلهم وعنادهم معه صلى الله عليه وسلم، وقد خمدتْ هذه النار وصارتْ تراباً.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ... }.

(/2480)


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)


ربنا - سبحانه وتعالى - يعطينا المثل الأعلى في الخلْق؛ لأن خَلْق السماوات والأرض مسألة كبيرة:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ... }[غافر: 57] فالناس تُولَد وتموت وتتجدد، أمّا السماء والأرض وما بينهما من نجوم وكواكب فهو خلْق هائل عظيم منضبط ومنظوم طوال هذا العمر الطويل، لم يطرأ عليه خَلَل أو تعطُّل.
والحق سبحانه لا يمتنُّ بخَلْق السماء والأرض وما بينهما؛ لأنها أعجب شيء، ولكن لأنها مخلوقة للناس ومُسخَّرة لخدمتهم، فالسماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم وهواء ومطر وسحاب والأرض وما عليها من خَيْرات، بل وما تحتها أيضاً{ وَمَا تَحْتَ الثَّرَىا }[طه: 6].
الكل مخلوق لك أيها الإنسان، حتى ما تتصوره خادماً لغيرك هو في النهاية يصبُّ عندك وبين يديك، فالجماد يخدم النبات، والنبات يخدم الحيوان، وكلهم يخدمون الإنسان.
فإنْ كان الإنسان هو المخدوم الأعلى في هذا الكون فما عمله هو؟ وما وظيفته في كون الله؟ فكل ما دونك له مهمة يؤديها فما مهمتك؟ إذن: إنْ لم يكن لك مهمة في الحياة فأإنت أتفه من الحيوان، ومن النبات، حتى ومن الجماد، فلا بُدَّ أنْ تبحثَ لك عن عمل يناسب سيادتك على هذه المخلوقات.
ثم هل سخَّرْتَ هذه المخلوقات لنفسك بنفسك، أم سخَّرها الله وذلَّلها لخدمتك؟ فكان عليك أن تلتفت لمن سخَّر لك هذه المخلوقات وهي أقوى منك، ألك قدرة على السماء؟ أتطول الشمس والقمر؟
{ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً }[الإسراء: 37].
إذن: كان يجب عليك أن تبحث بعقلك فيمَنْ سخَّر لك هذا كله، كان عليك أنْ تهتدي إلى الخالق للسماء والأرض وما بينهما، لأنه سبحانه ما خلقها عبثاً، ولا خلقها للعب، إنما خلقها من أجلك أنت.
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: " يا ابن آدم، خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عمن أنت له ".
فالكون مملوك لك، وأنت مملوك لله، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك.
فما الحكمة من خَلْق السماء والأرض وما بينهما؟ الحكمة أن هذه المخلوقات لولاها ما كُنَّا نستدل على القوة القادرة وراء خَلْق هذه الأشياء، وهو الخالق سبحانه، فهي - إذن - لإثبات صفات الجلال والجمال لله عز وجل. فلو ادَّعَى أحد أنه شاعر - ولله المثل الأعلى - نقول له: أين القصيدة التي قلتها؟ فلا نعرف أنه شاعر إلا من خلال شِعْره وآثاره التي ادَّعاها. وهي دعوى دون دليل؟!
وقد خلق الله هذا الخَلْق من أجلك، وتركك تربَع فيه، وخلقه مقهوراً مُسيَّراً، فالشمس ما اعترضتْ يوماً على الشروق، والقمر والنجوم والمطر والهواء والأرض والنبات كلها تعطي المؤمن والكافر والطائع والعاصي؛ لأنها تعملبالتسخير، لا بالإرادة والاختيار.

أما الإنسان هو المخلوق صاحب الاختيار في أن يفعل أو لا يفعل.
ولو نظرتَ إلى هذا الكون لأمكنك أنْ تُقسِّمه إلى قسمين: قسم لا دَخْلَ لك فيه أبداً، وهذا تراه منسجماً في نظامه واستقامته وانضباطه، وقسم تتدخل فيه، وهذا الذي يحدث فيه الخَلَل والفساد.
قال الحق سبحانه وتعالى:{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىا عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 38-40].
فالكَوْن من حولك يسير بأمر خالقه، منضبط لا يتخلف منه شيء، فلو أخذتَ مثلاً سنة كاملة 365 يوماً، ثم حاولتَ أنْ تعيدها في عام آخر لوجدتَ أن الشمس طلعتْ في اليوم الأول من نفس المكان، وفي اليوم الثاني من نفس مكان اليوم الثاني، وهكذا بدقة متناهية، سبحان خالقها.
لذلك؛ فالذين يضعون التقويم لمعرفة الأوقات يضعون تقويم ثلاث وثلاثين سنة يُسجِّلون دورة الفلك، ثم يتكرر ما سجَّلوه بانضباط شديد، ومن ذلك مثلاً إذا حدَّد العلماء موعد الكسوف أو الخسوف أو نوعه جزئي أو حَلْقي، فإذا ما تابعته وجدته منضبطاً تماماً في نفس موعده، وهذا دليل على انضباط هذا الكون وإحكامه؛ لأنه لا تدخلُّ لنا فيه أبداً.
وفي المقابل انظر إلى أيِّ شيء للإنسان فيه تدخّل: فمثلاً نحن يكيل بعضنا لبعض، ويزن بعضنا لبعض، ويقيس بعضنا لبعض، ويخبز بعضنا لبعض، ويبيع بعضنا لبعض.. الخ انظر إلى هذه العلاقات تجدها - إلاّ ما رحم الله - فاسدة مضطربة، ما لم تَسِرْ على منهج الله، فإن سارت على منهج الله استقامت كاستقامة السماء والأرض.
إذن: كلما رأيتَ شيئاً فاسداً شيئاً قبيحاً فاعلم أن الإنسان وضع أنفه فيه.
وكأن الخلق - عز وجل - يقول للإنسان: أنت لستَ أميناً حتى على نفسك، فقد خلقتُ لك كل هذا الكون، ولم يشذ منه شيء، ولا اختلَّتْ فيه ظاهرة، أمّا أنت - لأنك مختار - فقد أخللْتَ بنفسك وأتعبتها.
فاعلم أن المسائل عندي أنا آمَنُ لك، فإذا أخذتُك من دنيا الأسباب إلى الآخرة وإلى المسبِّب، فأنا أمين عليك أُنعمك نعيماً لا تعبَ فيه ولا نصبَ ولا شقاء، وإنْ كنت تخدم نفسك في الدنيا، فأنا أخدمك في الآخرة، وأُلبِّي لك رغبتك دون أن تُحرِّك أنت ساكناً.
إذن: لو أنني شغلت نفسي بمَنْ يملكني وهو الله تعالى لاستقام لي ما أملكه.
فهذا الكون وهذا الإيجاد خلقه الله لخدمة الإنسان، فلماذا؟ كأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول: لأنِّي يكفيني من خلقي أن يشهدوا مختارين أنه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وإنْ كانت المخلوقات قد شهدتْ هذه الشهادة مضطرة، فالعظمة أن يشهد المختار الذي يملك أنْ يشهد أو لا يشهد.
كما أنني بعد أنْ أنعمتُ عليك كلَّ هذه النعم أنزلتُ إليك منهجاً بافعل كذا ولا تفعل كذا، فإنْ أطعتَ أثبتك، وإنْ عصيت عاقبتك، وهذه هي الغاية من خَلْق السماء والأرض، وأنها لم تُخلَق لعباً.
وهذا المنهج تعرفه من الرسل، والرسل يعرفونه من الكتاب. فلو كذَّبْتَ بالرسل لم تعرف هذه الأحكام ولم تعرف المنهج، وبالتالي لا نستطيع أنْ نثيب أو نعاقب، فيكون خَلْقُ السماء والأرض بدون غاية.
ثم يقول الحق سبحانه: } لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً... {.

(/2481)


لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)


فلو أردنا اللهو لفعلناه، فنحن نقدر على كل شيء، وقوله: { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ... } [الأنبياء: 17] تدل على أن ذلك لن يحدث.
فمعنى اللهو هو أن تنصرف إلى عمل لا هدف له ولا فائدة منه، فالإنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى الأمر غير المهم، فاللهو واللعب حركتان من حركات الجوارح، ولكنها حركات لا مقصد لها إلا الحركة في ذاتها، فليس لها هدف كمالي نسعي له في الحركة، ولذلك فاللهو واللعب دون هدف يسمى عَبَثاً.
وهذا يمتنع في حق الله سبحانه وتعالى: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ... }.

(/2482)


بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)


ما دام أنهم فعلوا اللهو واللعب، وخانوا نِعَم الله في السماء والأرض فليعلموا أن هذا الحال لن يستمر، فالحق سبحانه يُملي للباطل ويُوسع له حتى يزحف ويمتد، حتى إذا أخذه أخْذ عزيز مقتدر، وقذف عليه بالحق.
فقوله: { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ.. } [الأنبياء: 18] القذف: الرَّمْي بشدة مثل القذائف المدمرة { فَيَدْمَغُهُ.. } [الأنبياء: 18] يقال: دمغه أي: أصاب دماغه. والدماغ أشرف أعضاء الإنسان ففيه المخ، وهو ميزان المرء، فإنْ كان المخ سليماً أمكن إصلاح أيِّ عطل آخر، أما إنْ تعطل المخ فلا أملَ في النجاة بعده.
لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - عَظْمة الدماغ أغوى عظام الجسم لتحفظ هذا العضو الهام، والأطباء لا يحكمون على شخص بالموت - مثلاً - إذا توقف القلب؛ لأن القلب يجري له تدليك معين فيعود إلى عمله كذلك التنفس، أما إنْ توقف المخ فقد مات صاحبه، فهو الخلية الأولى والتي تحتفظ بآخر مظاهر الحياة في الجسم؛ لذلك يقولون: موت إكلينيكي.
وللمخ يصل خلاصة الغذاء، وهو المخدوم الأعلى بين الأعضاء، فالجسم يأخذ من الغذاء ما يكفي طاقته الاحتراقية في العمل، وما زاد على طاقته يُختزَن على شكل دهون يتغذّى عليها الجسم، حين لا يوجد الطعم، فإذا ما انتهى الدُّهْن تغذَّى على اللحم، ثم على العَظْمِ لِيُوفِّر للمخ ما يحتاجه، فهو السيد في الجسم، ومن بعده تتغذّى باقي الأعضاء.
إذن: كل شيء في الجسم يخدم المخ؛ لأنه أَعْلَى الأعضاء، أما النبات مثلاً فيخدم أسفله، فإذا جَفَّ الماء في التربة ولم يجد النبات الغذاءَ الكافي يتغذى على أعلاه فيذبل أولاً، ثم تتساقط الأوراق، ثم تجفّ الفروع الصغيرة، ثم الجذع، ثم الجذر.
ومن ذلك قول سيدنا زكريا عليه السلام:{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً... }[مريم: 4] فالعَظْم آخر مخزَن للغذاء في الجسم، فَوهَنُ العظم دليل على أن المسألة أوشكتْ على النهاية.
إذن: فقوله تعالى: { فَيَدْمَغُهُ... } [الأنبياء: 18] أي: يصيبه في أهم الأعضاء وسيدها والمتحكم فيها، لا عضو آخر يمكن أنْ يُجبر؛ لذلك يقول بعدها { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ... } [الأنبياء: 18] زاهق: يعني خارج بعنف.
وقوله تعالى: { وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [الأنبياء: 18] يعني: أيها الإنسان المغتَرّ بلججه وعناده في الباطل، ووقف بعقله وقلبه ليصادم الحق، سنقذف بالحق على باطلك، فنصيب دماغه فيزهق، ساعتها ستقول: يا ويلتي كما سبق أنْ قالوا:{ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }[الأنبياء: 14] حينما يباشرون العذاب.
ومعنى: { تَصِفُونَ } [الأنبياء: 18] تكذبون كذباً افترائياً، كما لو رأيت شخصاً جميلاً، فتقول: وجهه يَصِفُ الجمال، يعني: إنْ كنت تريد وَصْفاً للجمال، فانظر إلى وجهه يعطيك صورة للجمال، كما جاء في قوله تعالى:

{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ... }[النحل: 62] يعني: إنْ أردت أنْ تعرف الكذب بعينه، فاسمع كلامهم وما قالتْه ألسنتهم.
كما يقولون: حديث خرافة، وأصل هذه المقولة رجل اسمه خرافة، كان يقول: أنا عندي سهم إنْ أطلقُته على الظَّبي يسير وراءه، فإن التفت يميناً سار وراءه، فإنْ ذهب شمالاً ذهب وراءه، فإنْ صعد الجبل صعد وراءه، فإنْ نزل نزل وراءه. وكأن سهمه صاروخ مُوجَّه كالذي نراه اليوم!! فسار كلامه مثالاً يُضرب للكذب.
لذلك قال الشاعر:حَدِيثُ خُرَافَةٍ يا أُمَّ عَمْرو فإنْ أردتَ تعريفاً للكذب فأنا لا أُعرِّفه لك بأنه قوْلٌ لا يوافق الواقع، إنما اسمع إلى كلامهم، فهو أصدق وَصْف للكذب؛ لأنه كذب مكشوف مفضوح.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يَصِفُونَ }[الأنعام: 100] أي: يكذبون ويفترون على الله.
وقد يقول قائل: لماذا يُملِي الله للباطل حتى يتمرَّد ويعلو، ثم يعلو عليه الحق فيدمغه؟
نقول: الحكمة من هذا أنْ تتم الابتلاءات، والناس لا نتعشق الحق إلا إذا رأتْ بشاعة الباطل، ولا تعرف منزلة العدل إلا حين ترى بشاعة الظلم، وبضدها تتميز الأشياء، كما قال الشاعر:فَالوجْهُ مِثْلُ الصبُّحْ مُبيضٌ وَالشَّعْر مِثْلُ الليْلِ مُسْودُضِدَّان لَمَّا استْجمْعاً حَسْناً والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْنَه الضِّدُإذن: لا نعرف جمال الحق إلا بقُبْح الباطل، ولا حلاوة الإيمان إلا بمرارة الكفر. } وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... {.

(/2483)


وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)


سبق أن أخبر الحق سبحانه أنه خلق السماء والأرض وما بينهما، وهذا ظَرْف، فما المظروف فيه؟ المظروف فيه هم الخَلْق، وهم أيضاً لله: { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [الأنبياء: 19] وإنْ كان من الخَلْق مَنْ ميَّزه الله بالاختيار يؤمن أو يكفر، يطيع أو يعصي، فإنْ كان مختاراً في أمور التكليف فهو مقهورة:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا... }[الأحزاب: 72].
فاختارت التسخير على الاختيار الذي لا طاقة لها به.
أما الإنسان فقد دعاه عقله إلى حملها وفضَّل الاختيار، ورأى أنه سيُوجه هذه الأمانة التوجيه السليم{ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].
فوصفه رَبُّه بأنه كان في هذا العمل ظلوماً جهولاً؛ لأنه لا يدري عاقبة هذا التحمل. فإنْ قلتَ: فما ميزة طاعة السماوات والأرض وهي مضطرة؟ نقول: هي مضطرة باختيارها، فقد خيَّرها الله فاختارت الاضطرار.
وقوله: { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ... } [الأنبياء: 19] أي ليسوا أمثالكم يكذبون ويكفرون، بل هم في عبادة دائمة لا تنقطع، والمراد هنا الملائكة؛ لأنهم{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم: 6].
{ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء: 19] من حسر: يعني ضَعُفَ وكَلّ وتعب وأصابه الملل والإعياء.
ومنه قوله تعالى:{ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ }[الملك: 4] أي: كليل ضعيف، لا يَقْوي على مواجهة الضوء الشديد كما لو واجهت بعينيك ضوءَ الشمس أو ضوء سيارة مباشر، فإنه يمنعك من الرؤية؛ لأن الضوء الأصل فيه أن نرى به ما لا نراه.
وفي آية أخرى يقول تعالى:{ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ... }[النساء: 172] لأن عِزَّهم في هذه المسألة. { يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ... }.

(/2484)


يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)


فهؤلاء الملائكة يعبدون الله ويسبحونه، لا يصيبهم ضَعْف، ولا يصيبهم فُتُور، ولا يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه: فالملائكة لا تتكبر عن عبادته والخضوع له.
والحق سبحانه يقول:{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }[الأعراف: 206].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً.. }.

(/2485)


أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)


أي: فما لهم أعرضوا عن كل هذه الحقائق؟ ألهم آلهة غيري وأنا خالق السماء والأرض، وهي لي بمَنْ فيها من الإنس والجن والملائك
؟ فالجميع عَبْد لي يُسبِّح بحمدي، فما الذي أعجبهم في غيري فأعرضوا عني، وانصرفوا إليه؟ أهو أحسن مني، أو أقرب إليهم مني؟
كأن الحق - تبارك وتعالى - يستنكر انصرافهم عن الإله الحق الذي له كل هذا الملك، وله كل هذه الأيادي والنِّعَم.
وقوله تعالى: { هُمْ يُنشِرُونَ } [الأنبياء: 21] أي: لهم قدرة على إحياء الموتى وبَعثْهم. وشيء من هذا كله لم يحدث؛ لأنه: { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ... }.

(/2486)


لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)


فمَع انصرافكم عن الإله الحق الذي له مًُلْك السماء والأرض، وله تُسبِّح جميع المخلوقات، لا يوجد إله آخر { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا... } [الأنبياء: 22] أي: ما زال الكلام مرتبطاً بالسماء والأرض { لَفَسَدَتَا... } [الأنبياء: 22] السماء والأرض، وهما ظرفان لكلِّ شيء من خَلْق الله.
ومعنى { إِلاَّ اللَّهُ... } [الأنبياء: 22] إلا: أداة استثناء تُخرِج ما بعدها عن حكم ما قبلها كما لو قلتَ: جاء القوم إلا محمد، فقد أخرجتَ محمداً عن حكم القوم وهو المجيء، فلو أخذنا الآية على هذا المعنى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا... } [الأنبياء: 22] يعني: لو كان هناك آلهة، الله خارج عنها لفسدت السماوات والأرض.
إذن: ما الحال لو قلنا: لو كان هناك آلهة والله معهم؟ معنى ذلك أنها لا تفسد. فإلا إنْ حققت وجود الله، فلم تمنع الشَّركة مع الله، وليس هذا مقصود الآية، فالآية تقرر أنه لا إله غيره.
إذن: (إلا) هنا ليست أداةَ استثناء. إنما هي اسم بمعنى (غير) كما جاء في قوله تعالى:{ وَأُوحِيَ إِلَىا نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ... }[هود: 36].
فالمعنى: لو كان فيهما آلهة موصوفة بأنها غير الله لَفسدتَا، فامتنع أن يكون هناك شريك.
وهناك آية أخرى:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42].
الحق - سبحانه وتعالى - يعطينا القسمة العقلية في القرآن: فلنفرض جدلاً أن هناك آلهة أخرى:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً.. }[الإسراء: 42] أي: لو حدث هذا{ لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42].
السبيل: الطريق، أي طلبوا طريقاً إلى ذي العرش أي: إلى الله، لماذا؟ إما ليجادلوه ويصاولوه، كيف أنه أخذ الألوهية من خلف ظهورهم، وإمّا ليتقربوا إليه ويأخذوا ألوهية من باطنه، وقوة في ظل قوته، كما أعطى الله تعالى قوة فاعلة للنار مثلاً من باطن قوته تعالى، فالنار لا تعمل من نفسها، ولكن الفاعل الحقيقي هو الذي خلق النار، بدليل أنه لو أراد سبحانه لَسِلَبها هذه القدرة، كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى:{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[الأنبياء: 69].
وقوله:{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ... }[المؤمنون: 91] وهذه الآية الكريمة وأمثالها تثبت أنه سبحانه موجود وواحد.
أما على اعتبار أن (إلا) استثناء فهي تثبت أنه موجود، إنما معه شريك، وليس واحداً. فهي - إذن - اسم بمعنى غير، ولما كانت مبنية بناء الحروف ظهر إعرابها على ما بعدها (لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ) فيكون إعراب (غيرُ) إعرابَ (إلا) الذي ظهر على لفظ الجلالة (الله).

لكن، لماذا تفسد السماء والأرض إنْ كان فيهما آلهة غير الله؟
قالوا: لأنك في هذه المسألة أمام أمرين: إما أن تكون هذه الآلهة مستوية في صفات الكمال، أو واحد له صفات الكمال والآخر له صفة نقص. فإنْ كان لهم صفات الكمال، اتفقوا على خَلْق الأشياء أم اختلفوا؟
إنْ كانوا متفقين على خَلْق شيء، فهذا تكرار لا مُبرِّر له، فواحد سيخلق، والآخر لا عملَ له، ولا يجتمع مؤثران على أثر واحد.
فإن اختلفوا على الخَلْق: يقول أحدهم: هذه لي. ويقول الآخر: هذه لي، فقد علا بعضهم على بعض.
أما إنْ كان لأحدهم صفة الكمال، وللآخر صفة النقص، فصاحب النقص لا يصحّ أن يكونَ إلهاً. وهكذا الحق - سبحانه وتعالى - يُصرِّف لنا الأمثال ويُوضِّحها ليجلي هذه الحقيقة بالعقل وبالنقل: لا إله إلا الله، واتخاذ آلهة معه سبحانه أمر باطل.
كذلك يردُّ على الذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل مَنْ قالوا: العزيرُ ابن الله ومَنْ قالوا: المسيح ابن الله. ومَن اتخذوا الملائكة آلهة من دون الله:{ أُولَـائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىا رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ.. }[الإسراء: 57].
إن هؤلاء الذين تدعُونهم مع الله يطلبون إليه وسيلة، ويتقرّبون إليه سبحانه، وينظرون أيّهم أقرب إلى الله من الآخر، فكيف يكونون آلهة؟
ثم يقول تعالى: } فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ... { [الأنبياء: 22] أي: تنزيهاً لله عَمَّا قال هؤلاء: } عَمَّا يَصِفُونَ { [الأنبياء: 22] أي: يُلحِدون ويكذبون ويفترون.
والعرش: هو السرير الذي يجلس عليه الملك، وهو علامة الملْك والسيطرة، كما في قوله تعالى عن ملكة سبأ على لسان الهدهد:{ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }[النمل: 23] فحين يقول سبحانه } رَبِّ الْعَرْشِ { [الأنبياء: 22] ينصرف إلى عرشه تعالى، الذي لا يعلو عليه، ولا ينازعه عَرْش آخر. ثم يقول الحق سبحانه عن ذاته سبحانه: } لاَ يُسْأَلُ عَمَّا... {.

(/2487)


لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)


فالله تعالى لا يُسأل عما يفعل؛ لأن السائلَ له مراتب مع المسئول، والعادة أن يكون المسئول في مرتبة أَدْنى من السائل؛ لذلكلا احدَ يسأل الله تعالى عَمَّا يفعل، أمّا هو سبحانه فيسأل الناس.
لذلك قال بعض الظرفاء: الدليل على أن الله لا شريك له، خَلْقه لفلان، لأنه له كان له شريك كان عارضه في هذه المسألة.
إذن: لا أحدَ أعلى من الله، حتى يسأله: لِمَ فعلتَ كذا وكذا؟
ثم يقول الحق سبحانه: { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ... }.

(/2488)


أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)


طالما اتخذوا من دون الله آلهة فهاتوا البرهان على صِدْقها، كما أن الله تعالى - وهو الإله الحق - أتى بالبراهين الدامغة على وجوده، وعلى قدرته، وعلى وحدانيته، وعلى أحديته، فهاتوا أنتم أيضاً ما لديكم، أم أنها آلهة لا أدلةَ لها ولا برهانَ عليها، فلم تنزل كتاباً، ولا أرسلتْ رسولاً، ولا جاءت بمنهج.
فـأين هم إذن؟ إذا لم يكونوا على دراية بما يحدث، فهي آلهة غافلة لا يصح أنْ يحتلوا هذه المنزلة، وإنْ كانوا على دراية فلمَ لَمْ يُجابهوا الحقائق ويدافعوا عن أنفسهم؟ إذن: هم ضعفاء عن هذه المواجهة.
وقوله تعالى: { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ... } [الأنبياء: 24] أي: هاتوا الدليل على وجود آلهة غير الله، والبرهان: التدليل بإيجاد الكون على هذا النظام البديع، فهل سمعتم أن إلهاً آخر قال: أنا الذي أوجدتُ؟ هل أرسل رسولاً بآية؟
إذن: هذا كلام كذب وافتراء واختلاق من عند أنفسكم؛ لأنكم لستم أهلَ علم في شيء، ولا يعني هذا عدمَ وجود العلم، إنما العلم موجود، ولكنكم مُعرِضون عن سماعه: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء: 24].
كأن للحق سمات يعلم بها، فَمنْ أقبل على معرفة الحق وجده، أما مَنْ أعرض عن المعرفة، فمن أين له أنْ يعرف؟ إذن: فالحق موجود ولو التمسوه لوجدوه وعرفوه، وأمسكوا بالدليل عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ.... }.

(/2489)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)


إذن: فقضية التوحيد واضحة منذ بداية الرسالات إلى خاتمها، الكل جاء بقول لا إله إلا الله قضية مشتركة بين جميع رسالات السماء.
وقوله تعالى: { مِن رَّسُولٍ.. } [الأنبياء: 25] (منْ) هنا للشمول والتعميم، يعني: كل أفراد الرسل، كلّ مَنْ يُقَال له رسول. فلو قال لك شخص: ما عندي مال، لا يمنع هذا القول أن يكون عنده قليل من المال، قروش مثلاً لا يُقال لها مال، فإنْ قال لك: ما عندي من مال فقد نفى وجود جنس المال من بداية ما يقال له مال، ما عندي حتى مليم واحد.
إذن: ما جئتم به من مسألة الشرك بالله أو إنكاره عز وجل مسألة جديدة (موضة) طلعتُم علينا بها. { وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ.... }.

(/2490)


وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)


قوله: { سُبْحَانَهُ... } [الأنبياء: 26] أي: تنزيهاً له أنْ يكون له ولد، فقُلْ: إنْ كان له، فله عباد مكرمون وهم الملائكة.
ومن صفات هؤلاء العباد المكرمين الذين هم الملائكة أنهم: { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ... }.

(/2491)


لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)


ومع أنهم عباد مكرمون إنما لا يسبقونه بالقول، فلا يقولون ما لم يقُلْه ولا يتقدمون عليه بقول حتى إنْ وافق مراد الله، ولا يفعلون ما لم يأمر به، وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة لبعض آفات المجتمع، فمن آفات المجتمع أن ترى العظماء المكرمين إلا أنهم يصنعون لأنفسهم سلطة زمنية من باطنهم، فيقولون ما لم يَقُلْه ربهم عز وجل، ويفعلون ما لم يأمر به، ويُقدِّمون أوامرهم على أوامره.
وقوله تعالى: { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 27] أي: يأتمرون بأمره، فإنْ أمر فعلوا، وإنْ نَهَى تركوا.
ثم يقول الحق سبحانه: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ... }.

(/2492)


يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)


الكلام هنا عن العباد المكرمين من الملائكة، فَمَع أن الله أكرمهم وفضَّلهم، إلا أنه لم يتركهم دون متابعة ومراقبة، إنما يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولم تُترك لهم مسألة الشفاعة يُدخلون فيها مَنْ أحبوا إنما { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَىا... } [الأنبياء: 28].
أي: لمن ارتضاه الله وأحبه، فإياكم أنْ تفهموا أنكم حين تقولون: الملائكة بنات الله، أو تعبدونهم من دون الله أنهم يكونون لكم شفعاء عند الله؛ لأنهم لا يشفعون إلا لمنْ أحبّه الله، وارتضاه من أهل الإيمان، فلا تظن أنهم{ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }[الأنبياء: 26] أي: مُدلَّلُون يفعلون ما يحلو لهم، لا، إنهم مع ذلك ملتزمون بحدودهم لا يتعدونها، فما أكرمتهم كل هذا الإكرام إلا لأنهم مطيعون ملتزمون.
وهم مع هذه الطاعة { مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء: 28] فليسوا مع هذا الإكرام مطمئنين آمنين، بل مشفقون خائفون وجلون من خشية الله ولذلك يقول الحق سبحانه: { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَـاهٌ مِّن دُونِهِ... }.

(/2493)


وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)


أي: على فَرْض أنْ قال أحدهم هذا القول، إذن: هذا كلام لم يحدث، ولا يمكن أنْ يُقال منهم { فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 29] لماذا؟ لأنهم أخذوا الظُّلم في أعلى مراتبة وعنُفوانه وطغيانه، ظلم في مسألة القمة{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
لذلك يُهدّدهم، مع أنهم ملائكة ومكرمون، لكن إنْ بدر من أحدهم هذا القول فجزاؤه جهنم، وفي هذا اطمئنان للخَلْق أجمعين.
***
بعد ذلك أراد الحق - سبحانه وتعالى - أنْ يُدلِّل على هذه الوحدانية التي أكَّدها في كلامه السابق، والوحدانية في طَيِّها الأحدية، لأن هناك فَرْقاً بينهما، وليسا مترادفين كما يظن البعض، فواحد وأحد وَصفْان لله عز وجل{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1] وقال:{ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }[الرعد: 16].
فالواحد أي: الفرد الذي لا يُوجد له نظير، وهذا الواحد في ذاته أحد أي: ليس له أجزاء، فالواحدية تمنع أنْ يُوجد فَرْد مثله، والأحدية تمنع أن يكون في ذاته مُكوّناً من أجزاء؛ لأنه سبحانه لو كوّن من أجزاء لصار كل جزء محتاجاً في وجوده إلى الجزء الآخر، فلا احتياج له في وجوده ليكوِّن كله، إذنْ: فلا هو كليّ، ولا هو جزئي.
فاختار سبحانه للتدليل آيات الكون الموجودة والمشهودة التي لا يمكن أنْ ينكرها أحد؛ لأنها آيات مُرتّبة واضحة ونافعة في الوقت نفسه، فقد يكون المرئي واضحاً لكن لا حاجة لك فيه - فالإنسان يشعر بمنفعة الشمس لو غابت عنه، ويشعر بمنفعة المطر إن امتنعت السماء عن المطر.. إلخ.
فمشهودية هذه الآيات تقتضي الالتفات إليها، والنفعية فيها تقتضي أيضاً الالتفات إليها، حتى وهي غائبة عنك، فتنظر وتتطلع إلى عودتها من جديد.
فيقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ... }.

(/2494)


أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)


قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ... } [الأنبياء: 30] يعني: أعميتْ أبصارهم، فلم ينظروا إلى هذا الكون البديع الصنع المحكم الهندسة والنظام، فيكفروا بسبب أنهم عَمُوا عن رؤية آيات الله. وهكذا كما رأيت الهمزة بعد الواو والفعل المنفي.
لكن كيف يقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [الأنبياء: 30] والحديث هنا عن السماء والأرض، وقد قال تعالى:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51]؟
فهذه مسألة لم يشهدها أحد، ولم يخبرهم أحد بها، فكيف يروْنَها؟
سبق أن تكلمنا عن الرؤية في القرآن، وأن لها استعمالات مختلفة: فتارة تأتي بمعنى: نظر أي: بصرية. وتأتي بمعنى: علم، ففي قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ هذه الحادثة ولم يشهدها؛ لأنه وُلِد في نفس عامها، فالمعنى: ألم تعلم، فلماذا عَدلَ السياق عن الرؤية البصرية إلى الرؤية العلمية، مع أن رؤية العين هي آكد الرُّؤى، حتى أنهم يقولون: ليس مع العَيْن أيْن؟
قالوا: لأن الله تعالى يريد أن ينبه رسوله صلى الله عليه وسلم أنت صحيح لم ترهَا بعينيك، لكن ربك أخبرك بهان وإخبار الله أصدق من رؤية عينيك، فإذا أخبرك الله بشيء فإخبار الله أصدقُ من رؤية العين، فالعين يمكن أنْ تخدعك، أو ترى بها دون أنْ تتأمل. أما إخبار الله لك فصادقٌ لا خداعَ فيه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً }[مريم: 83].
لكن، كيف تمَّتْ الرؤية العلمية لهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض؟
قالوا: لأن الإنسان حين يرى هذا الكون البديع كان يجب عليه ولو بغريزة الفضول أنْ يتساءلَ: من أين جاء هذا الكون العجيب؟ والإنسان بطبعه يلتفت إلى الشيء العجيب، ويسأل عنه، وهو لا يعنيه ولا ينتفع به، فما بالُكَ إنْ كان شيئاً نافعاً له؟
إذن: كان عليهم أن ينظروا: مَنِ الذي نبَّأَ رسول الله بهذه المسألة؟ خاصة وقد كانوا يسألون عنها، وقد جاءهم رسول الله بمعجزة تُثبِت صدقه في البلاغ عن الله، وتُخبرهم بما كانوا يبحثون عنه، وما دام الكلام من الله فهو صدق:{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً }[النساء: 122].
وقد نزل القرآن في جزيرة العرب كفار عُبَّاد أصنام، وفيها اليهود وبعض النصارى، وهما أهل الكتاب يؤمنون بإله وبرُسُل وبكتب، حتى إنهم كانوا يجادلون الكفار الوثنيين يقولون لهم: لقد أطلّ زمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
ومع ذلك، لما جاءهم ما عرفوا من الحق كفروا به، والتحموا بالكفار، وكوَّنوا معهم جبهة واحدة، وحزباً واحداً، ما جمعهم إلا كراهية النبي، وما جاء به من الدين الحق، وما أشبهَ هذا بما يفعله الآن كُلٌّ من المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي من اتحاد ضد الإسلام.

إذن: بعد أنْ جاء الإسلام أصبح أهلُ الكتاب والكفار ضد الإسلام في خندق واحد، وكان الكفار يسمعون من أهل الكتاب، وفي التوراة كلام عن خَلْق السماء والأرض يقول: إن الله أول ما خلق الخَلْق خلق جوهرة، ثم نظر إليها نظرَ الهيبة فحصل فيها تفاعل وبخار ودخان، فالدخان صعد إلى أعلى فكوَّنَ السماء، والبقية ظلتْ فكوَّنت الأرض.
وهكذا كان لديهم طرف من العلم عن مسألة الخَلْقِ؛ لذلك قال الله عنهم: } أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا... { [الأنبياء: 30].
وقد كان للمستشرقين كلام حول قوله تعالى: } كَانَتَا رَتْقاً { [الأنبياء: 30] قالوا: السماوات جمع، والأرض كذلك جنس لها جمع، فالقاعدة تقتضي أنْ نقول: كُنَّ رتقاً بضمير الجمع. وصاحب هذا الاعتراض لم يَدْر أن الله سبحانه وتعالى نظر إلى السماء كنوع والأرض كنوع، فالمراد هنا السماوةي والأرضية وهما مُثنَّى.
وفي القرآن نظائر كثيرة لهذه المسألة؛ لأن القرآن جاء بالأسلوب العربي المبنيّ على الفِطنة والذكاء ومُرونة الفهم. فخُذْ مثلاً قوله تعالى:{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا... }[الحجرات: 9].
فلم يقُلْ حسْب الظاهر: اقتتلتَا؛ لأن الطائفة وإنْ كانت مفرداً إلا أنها تحوي جماعة، والقتال لا يكون بين طائفة وطائفة، إنما بين أفراد هذه وأفراد هذه، فالقتال ملحوظ فيه الجمع{ اقْتَتَلُواْ... }[الحجرات: 9] فإذا ما جِئْنا للصُّلْح لا يتم بين هؤلاء الأفراد، وإنما بين ممثَل عن كل طائفة، فالصُّلْح لا يتم بين هؤلاء الأفراد، وإنما بين ممثل عن كل طائفة، فالصُّلْح قائم بين طرفين؛ لذلك يعود السياق للتثنية.{ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىا الأُخْرَىا فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّىا تَفِيءَ إِلَىا أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ }[الحجرات: 9].
والرَّتْق: الشيء الملتحم الملتصق، ومعنى } فَفَتَقْنَاهُمَا.. { [الأنبياء: 30] أي: فَصلَنْاهما وأزَحْنَا هذا الالتحام، وما ذُكِر في التوراة من أن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها في هَيْبة، فحصل لها كذا وكذا في القرآن له ما يؤيده في قوله تعالى:{ ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً... }[فصلت: 11].
والعلماء ساعةَ يستقبلون الآية الكونية لهم فيها مذاهب اجتهادية مختلفة؛ لأنها تتعرَّض لحقيقة الكون، وهذا أمر قابل للخلاف، فكلُّ واحد منهم يأخذ منه على قَدْر ثقافته وعِلْمه.
فالعربي القديم لم يكُنْ يعرف كثيراً عن الظواهر الكونية، لا يعرف الجاذبية، ولا يعرف كُروية الأرض ولا حركتها، فلو أن القرآن تعرَّض لمثل هذه الأمور التي لا يتسع لها مداركه وثقافته فلربما صرفه هذا الكلام الذي لا يفهمه، ولك أنْ تتصوَّر لو قلتَ له مثلاً: إن الأرض كرة تدور بنا بما عليها من بحار وجبال الخ.

والقرآن بالدرجة الأولى كتاب منهج " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " لذلك كلُّ ما يتعلق بهذا المنهج جاء واضحاً لا غموض فيه، أمَّا الأمور الكونية التي تخضع لثقافات البشر وارتقاءاتهم الحضارية فقد جاءت مُجْملةً تنتظر العقول المفكرة التي تكشف عن هذه الظواهر واحدةً بعد الأخرى، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مجرد إشارة، وعلى العقول المتأمّلة أنْ تُكمِلَ هذه المنظومة.
وقد كان لعلماء الإسلام موقفان في هذه المسألة، كلاهما ينطلق من الحب لدين الله، والغرام بكتابه، والرغبة الصادقة في إثبات صدْق ما جاء به القرآن من آيات كونية جاء العلم الحديث ليقول بها الآن، وقد نزل بها القرآن منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان.
الموقف الأول: وكان أصحابه مُولعين بأنْ يجدوا لكل اكتشاف جديداً شاهداً من القرآن ليقولوا: إن القرآن سبق إليه وأن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق في بلاغه عن الله.
الموقف الثاني: أما أصحاب الموقف الآخر فكانوا يتهيَّبون من هذه المسألة خشية أن يقولوا بنظرية لم تثبت بَعْد، ويلتمسون لها شاهداً من كتاب الله، ثم يثبُت بطلانها بعد أنْ ربطوها بالقرآن.
والموقف الحق أن هناك فرقاً بين نظرية علمية، وحقيقة علمية، فالنظرية مسألة محلّ بحث ومحلّ دراسة لم تثبت بَعْد؛ لذلك يقولون: هذا كلام نظري أي: يحتاج إلى ما يؤيده من الواقع، أمّا الحقيقة العلمية فمسألة وقعتْ تحت التجربة، وثبت صدقها عملياً ووثقنا أنها لا تتغير.
فعلينا - إذن - أَلاَّ نربط القرآن بالنظرية التي تحتمل الصدق أو الكذب، حتى لا يتذبذب الناس في فَهْم القرآن، ويتهمونا أننا نُفسِّر القرآن حَسْب أهوائنا. أمّا الحقيقة العلمية الثابتة فإذا جاءت بحيث لا تُدفَع فلا مانعَ من ربطها بالقرآن.
من ذلك مسألة كروية الأرض، فعندما قال بها العلماء اعترض كثيرون وأثاروها ضجة وألَّفوا فيها كتباً، ومنهم مَنْ حكم بكفر مَنْ يقول بذلك؛ لأن هذه المسألة لم ينص عليها القرآن. فلما تقدم العلم، وتوفرتْ له الأدلة الكافية لإثبات هذه النظرية، فوجدوا الكواكب الأخرى مُدوَّرة كالشمس والقمر، فلماذا لا تكون الأرض كذلك؟!
كذلك إذا وقفتَ مثلاً على شاطئ البحر، ونظرتَ إلى مركب قادم من بعيد لا ترى منها إلا طرفَ شراعها، ولا ترى باقي المركب إلا إذا اقتربتْ منك، عَلامَ يدلُّ ذلك؟ هذا يدل على أن سطح الأرض ليس مستوياً، إنما فيه تقوُّس وانحناء يدل على كُرويتها.
فلما جاء عصر الفضاء، وصعد العلماء للفضاء الخارجي، وجاءوا للأرض بصور، فإذا بها كُروية فعلاً، وهكذا تحولتْ النظرية إلى حقيقة علمية لا تُدفع، ولا جدال حولها، ومَنْ خالفها حينما كانت نظرية لا يسعه الآن إلاّ قبولها والقول بها.
وما قلناه عن كُروية الأرض نقوله عن دورانها، ومَنْ كان يصدق قديماً أن الأرض هي التي تدور حول الشمس بما عليها من مياه ومَبانٍ وغيره؟ ولك أن تأخذَ كوزاً ممتلئاً بالماء، واربطه بخيط من أعلى، ثم أَدِرْه بسرعة من أسفل إلى أعلى، تلاحظ أن فوهة الكوز إلى أسفل دون أنْ ينسكب الماء، لماذا؟ لأن سرعة الدوران تفوق جاذبية الأرض التي تجذب الماء إليها، بدليل أنك إذا تهاونتَ في دوران الكوز يقع الماء من فُوهته، ولا بُد من وجود تأثير للجاذبية، فجاذبية الأرض هي التي تحتفظ بالماء عليها أثناء دورانها.

أما أن نلتقط نظرية وليدة في طََوْر البحث والدراسة، ثم نفرح بربطها بالقرآن كما حدث أوائل العصر الحديث والنهضة العلمية، حين اكتشف العلماءُ المجموعةَ الشمسية، وكانت في بدايتها سبعة كواكب فقط مُرتّبة حسب قُرْبها من الشمس في المركز: عطارد، فالزهرة، فالأرض، فالمريخ، فالمشتري، فزُحَل، فأورانوس.
وهنا أسرع بعض علمائنا الكبار - منهم الشيخ المراغي - بالقول بأنها السماوات السبع، وكتبوا في ذلك بحوثاً، وفي القرآن الذي سبق إلى هذا. ومرَّتْ الأيام، واكتشف العلماء الكواكب الثامن (نبتون)، ثم التاسع.
إذن: رَبْط النظرية التي لم تتأكد بَعْد علمياً بالقرآن خطأ كبير، ومن الممكن إذا توفَّر لهم أجهزة أحدث ومجاهر أكبر - كما يقول بعض علماء الفضاء - لاكتشفوا كواكب أخرى كثيرة، لأن مجموعتنا الشمسية هذه واحدة من مائة مليون مجموعة في المجرة التي نسميها (سكة التبَّانة)، والإغريق يسمونها (الطريق اللبني).
وهذه الكواكب التي نراها كبيرة وعظيمة، لدرجة تفوق تصورات الناس، فالشمس التي نراها هذه أكبر من الأرض بمليون وربع مليون مرة، وهناك من الكواكب ما يمكنه ابتلاع مليون شمس في جوفه. والمسافة بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، وتُحسب الدقيقة الضوئية بأن تُضرب في ستين ثانية، الثانية الواحدة السرعة فيها 186 ألف ميل يعني: ثلاثمائة ألف كيلومتر.
أما المسافة بين الأرض والمرأة المسلسلة فقد حسبوها بالسنين الضوئية لا الدقائق، فوجدوها مائة سنة ضوئية، أما الشِّعْري الذي امتنَّ الله به في قوله{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىا }[النجم: 49] فهو أبعد من ذلك. وهذه الكواكب والأفلاك كلها في السماء الدنيا فقط، فما دَخْل هذا بالسماوات السبع التي تحدثوا عنها؟!
لذلك حاول كثيرون من عُشَّاق هؤلاء العلماء أن يمحوا هذه المسألة من كتبهم، حتى لا تكون سُبَّة في حقِّهم وزلّة في طريقهم العلمي.
كذلك من النظريات التي قالوا بها وجانبتْ الصواب قولهم: إن المجموعة الشمسية ومنها الأرض تكوَّنت نتيجة دوران الشمس وهي كتلة ملتهبة، فانفصل عنها بعض (طراطيش)، وخرج منها بعض الأجزاء التي بردتْ بمرور الوقت، ومنها تكونت الأرض، ولما بردتْ الأرض أصبحتْ صالحة لحياة النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان بدليل أن باطن الأرض ما يزال ملتهباً حتى الآن. وتتفجر منه براكين كبركان (فيزوف) مثلاً.
والقياس العقلي يقتضي أن نقول: إذا كانت الأرض قطعة من الشمس وانفصلت عنها، فمن الطبيعي أن تبرد مع مرور الزمن وتقلّ حرارتها حتى تنتهي بالاستطراق الحراري، إذن: فهذه نظرية غير سلمة، وقولكم بها يقتضي أنكم عرفتم شيئاً عن خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ما أخبر الله به، وقد قال تعالى:

{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. }[الكهف: 51].
ثم يقول في آية جامعة{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].
والمضلّ هو الذي يأخذ بيدك عن الحقيقة إلى الباطل، وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ما سيكون من أقوال مُضلِّلة في هذه المسألة تقول: حدث في الخلق كيت وكيت.
والواجب علينا أن نأخذ هذه التفاصيل من الخالق - عز وجل - وأن نقف عند هذا الحد، لأن معرفتك بكيفية الشيء ليست شرطاً لانتفاعك به، فأنت تنتفع بمخلوقات الله وإن لم تفهم كيف خُلِقَتْ؟ وكيف كانت؟ انتفعنا بكروية الأرض وبالشمس وبالقمر دون أن نعرف شيئاً عنها، ووضع العلماء حسابات للكسوف وللخسوف والأوقات قبل أن تكتشف كروية الأرض.
فالرجل الأميّ الذي لا يعلم شيئاً يشتري مثلاً " التليفزيون " ويتعلم كيفية تشغيله والانتفاع به، دون أنْ يعلم شيئاً عن تكوينه أو كيفية عمله ونَقْله للصورة وللصوت.. إلخ. فخُذْ ما في الكون من جمال وانتفع به كما خلقه الله لك دون أن تخوض في أصل خَلْقه وكيفية تكوينه، كما لو قُدِّم لك طعام شهيّ أتبحثُ قبل أن تأكل: كيف طُهِي هذا الطعام؟!
وقد تباينتْ آراء العلماء حول هذه الآية ومعنى الرَّتْق والَتْق، فمنهم مَنْ قال بالرأي الذي قالتْه التوراة، وأنها كانت جوهرة نظر الله إليها نظرة المهابة، وحدث لها كذا وكذا، وتكوَّنت السماء والأرض.
ومنهم مَنْ رأى أن المعنى خاصٌّ بكل من الأرض والسماء، كل على حِدَة، وأنهما لم يكونا أبداً ملتحمتين، واعتمدوا على بعض الآيات مثل قوله تعالى:{ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىا طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً }[عبس: 24-28].
وفي موضع آخر قال:{ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَىا أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ }[القمر: 11-12].
فالمراد - إذن - أن الأرض وحدها كانت رَتْقاً، فتفجرت بالنبات، وأن السماء كانت رتْقاً فتفجرت بالمطر، فشقَّ الله السماء بالمطر، وشَقّ الأرض بالنبات الذي يصدعها:{ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ }[الطارق: 11-12].
وقال عن السماء:{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ... }[الفرقان: 25] على اعتبار أن السماء كُلُّ ما علاك فأظلّك، فيكون السحاب من السماء.
نفهم من هذا الرأي أن الفَتْق ليس فَتْقَ السماء عن الأرض، إنما فتق كل منهما على حِدَة، وعلى كل حال هو فَهْم لا يُعطي حكماً جديداً، واجتهاد على قَدْر عطاء العقول قد تُثبته الأيام، وقد تأتي بشيء آخر، المهم أن القوليْن لا يمنع أحدُهما الآخر.

وقوله تعالى: } وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... { [الأنبياء: 30] قال أصحاب التأويل الثاني: ما دام ذكر هنا الماء، فلا بُدَّ أن له صلة بالرَّتْق والفَتْق في كل من الأرض والسماء.
ونلحظ أن الآية لم تَقُلْ: كل شيء حيَّا، إنما } وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... { [الأنبياء: 30] وقد استدلوا بها على أن الحيَّ المراد به الحياة الإنسانية التي نحياها، ولم يفطنوا إلى أن الماء داخلٌ في تكوين كل شيء، فالحيوان والنبات يحيا على الماء فإنْ فَقَد الماء مات وانتهى، وكذلك الأدنى من الحيوان والنبات فيه مائية أيضاً، فكُلُّ ما فيه لمعة أو طراوة أو ليونة فيه ماء.
فالمعنى } كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.. { [الأنبياء: 30] أي: كل شيء مذكور موجود.
والتحقيق العلمي أن لكل شيء حياةً تناسبه، وكل شيء فيه ماء، بدليل قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ... }[الأنفال: 24].
والحق سبحانه يخاطبهم وهم أحياء، إذن: يحييكم أي: حياة أخرى لها قيمة؛ لأن حياتكم هذه قصاراها الدنيا، إنما استجيبوا لحياة أخرى خالدة هي حياة الآخرة.
وسمُيِّ الشيء الذي يتصل بالمادة، فتدبّ فيها الحياة روحاً، فقال:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي... }[الحجر: 29].
وسُمِّي المنهج الذي ينزل من السماء لهداية الأرض روحاً، وسُمّي الملَك الذي ينزل به روحاً؛ لأنه يعطينا حياة دائمة باقية، لا فناء لها، وهكذا يتم الإرتقاء بالحياة.
فإذا نزلنا أدنى من ذلك وجدنا للحيوان حياة، وللنبات حياة، فالحيوان يُنْفَق ويموت، والنبات إنْ منعتَه الماء جَفَّ وذَبُل وانتهى. أما الجماد فله حياة أيضاً، بدليل قوله تعالى:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88].
فوَصَف كل ما يقال له شيء بأنه هالك، والهلاك ضد الحياة، فلا بُدَّ أن تكون له حياة، ألم تقرأ قوله تعالى:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42] فالحياة ضِدُّها الهلاك.
إذن: فكل شيء في المخلوقات حتى الجماد له حياة، وفي تكوينه مائية، كما قال سبحانه: } وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ... { [الأنبياء: 30].
ويختتم سبحانه هذه الآية بقوله: } أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ { [الأنبياء: 30] يعني: أعَمُوا عن هذه الآيات التي نُبِّهوا إليها، وامتنعوا عن الإيمان؟ يعني: أعَمُوا عن هذه الآيات التي نُبِّهوا إليها، وامتنعوا عن الإيمان؟ فكان يجب عليهم أنْ يتفتوا إلى هذه الآيات العجيبة والنافعة لهم، كيف والبشر الآن يقفون أمام مخترع أو آله حديثة أو حتى لُعبة تبهرهم فيقولون: مَنْ فعل هذه؟ ويُؤرِّخون له ولحياته، وتخرَّج في كلية كذا... إلخ.
فمن الأَوْلى أنْ نلتفتَ إلى الخالق العظيم الذي أبدع لنا هذا الكون، فالانصراف - إذن - عن آيات الله والإعراض عنها حالة غير طبيعية لا تليق بأصحاب العقول.
يقول الحق سبحانه: } وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ... {.

(/2495)


وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)


الرواسي: الجبال جمع رَاس يعني: ثابت، وقد عبر عنها أيضاً بالأوتاد، فقال:{ وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً }[النبأ: 7] شبّه الجبال بالنسبة للأرض بالأوتاد بالنسبة للخيمة.
ثم يذكر عِلَّة ذلك: { أَن تَمِيدَ بِهِمْ... } [الأنبياء: 31] أي: مخافة أن تميل وتضطرب وتتحرك بهم، ولو أنها مخلوقة على هيئة الثبوت ما كانت لتميد أو تتحرك، وما احتاجت لأن يُثبِّتها بالجبال؛ لذلك قال تعالى:{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ... }[النمل: 88].
فليس غريباً الآن أن نعرف أن للجبال حركة، وأنْ كنا لا نراها؛ لأنها ثابتة بالنسبة لموقعك منها؛ لأنك تسير بنفس حركة سيرها، كما لو أنك وصاحبك في مركب، والمركب تسير بكما، فأنت لا تدرك حركة صاحبك لأنك تتحرك بنفس حركته.
وقد شبَّه الله حركة الجبال بمرِّ السحاب، فالسحاب لا يمرُّ بحركة ذاتية فيه، إنما يمرُّ بدفْع الرياح، كذلك الجبال لا تمرُّ بحركة ذاتية إنما بحركة الأرض كلها، وهذا دليل واضح على حركة الأرض.
ثم يقول تعالى: { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً... } [الأنبياء: 31] أي من حكمة الله أنْ جعل لنا في الأرض سُبُلاً نسير فيها، فلو أن الجبال كانت كتلة تملأ وجه الأرض ما صَلُحَتْ لحياة البشر وحركتهم فيها، فقال { فِجَاجاً سُبُلاً... } [الأنبياء: 31] أي: طرقاً واسعة في الوديان، والأماكن السهلة. وفي موضع آخر قال:{ لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }[نوح: 20].
ومعنى: { وَجَعَلْنَا فِيهَا... } [الأنبياء: 31] يصح في الجبال أو في الأرض، ففي كل منهما طرق يسلكها الناس، وهي في الجبال على شكل شِعَأب ووديان.
ثم يذكر سبحانه عِلَّة ذلك، فيقول: { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء: 31] والهداية هنا تحتَمل معنيين: يهتدون لخالقها ومكوِّنها، ويستدلون بها على الصانع المبدع سبحانه، أو يهتدون إلى البلاد والأماكن والاتجاهات، وقديماً كانوا يتخذون من الجبال دلائل وإشارات ويجعلونها علامات، فيصفون الأشياء بمواقعها من الجبال، فيقولون: المكان الفلاني قريب من جبل كذا، وعلى يمين جبل كذا، وقد قال شاعرهم:خُذَا بَطْنَ هِرْشَي أو قَفَاهَا فَإنَّهُ كِلاَ جَانِبَي هَرْشَي لَهُنَّ طَريقُفالهداية هنا تشمل هذا وذاك، كما في قوله تعالى:{ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }[النحل: 16] أي: يهتدون إلى الطرق والاتجاهات، وكان العربي يقول مثلاً: اجعل الثُّريَا عن يمينك أو النجم القطبي، أو سهيل أو غيرها، فكانوا على علم بمواقع هذه النجوم ويسيرون على هَدْيها.
أو: يهتدون إلى أن للنجوم علاقة بحياة الإنسان الحيِّ، وقديماً كانوا يقولون: فلان هَوَى نَجْمه، كأن لكل واحد منا نجماً في السماء له علاقة ما به، وهذه يعرفها بعض المختصين، وربما اهتدوا من خلالها إلى شيء، شريطة أن يكونوا صادقين أمناء لا يخدعون خَلْق الله.
ويُؤيِّد هذا قوله تعالى:{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }[الواقعة: 75-76] أي: لو كنتم على معرفة بها لعلمتُم أن للنجوم دوراً كبيراً وعظيماً في الخَلْق.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً... }.

(/2496)


وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)


سمَّي السماء سقفاً؛ لأن السماء كل ما علاَك فأظلّك، وفرْقٌ بين سقف من صنع البشر يعتمد على أعمدة ودعائم.. الخ، وسقف من صُنْع الخالق العظيم، سقف يغطي الأرض كلها ومحفوظ بلا أعمدة، سقف مَسْتوٍ لا نتوءَ ولا فتور.
والسماء أخذتْ دوراً تكوينياً خصَّها الله به كما خَصَّ آدم عليه السلام، فالخَلْق جميعاً خُلِقوا بكُنْ من أب وأم، أمّا آدم فقد خُلق خلقاً مباشراً بيد الله سبحانه، لذلك قال تعالى:{ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... }[ص: 75] وهذا شرف كبير لآدم.
وكذلك قال في خَلْق السماء:{ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ... }[الذاريات: 47].
وفي آية أخرى قال سبحانه:{ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ... }[الذاريات: 7] يعني: محبوكة ومحكمة، والحبكة معناها أن ذراتها التي لا تُدرَك ملتحمة مع بعضها، ليس التحاماً كلياً إنما التحام ذرات؛ لذلك ترى السماء ملساء؛ ولذلك قال عنها الخالق عز وجل:{ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا }[النازعات: 28].
ولك أن تلاحظ صنعة البشر إذا أراد أحدنا أنْ يبنيَ مثلاً، أو يصنع سقفاً، فالبناء يُبنى بمنتهى الدقة، ومع ذلك ترى طوبة بارزة عو طوبة، فيأتي عامل المحارة فيحاول تسوية الجدار، ويزنه بميزان الماء، ومع ذلك نجد في الجدار تعاريج، ثم يأتي عامل الدهانات، فيحاول إصلاح مثل هذه العيوب فيعد لها معجوناً ويكون له في الحائط دور هام.
وبعد أن يستنفد الإنسان كل وسائله في إعداد بيته كما يحب تأتي بعد عدة أيام، فترى الحق - سبحانه وتعالى - يُعدِّل على الجميع، ويُظهر لهم عيوب صنعتهم مهما بلغتْ من الدِّقة بقليل من الغبار ينزل عمودَياً فيرُيك بوضوح ما في الحائط من عيوب.
وإذا كانت صنعتة البشر تختلف باختلاف مهارة كل منهم وحَذَقة في عمله، فما بالك إنْ كان الصانع هو الله الذي يبني ويُسوِّي ويُزيِّن؟{ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىا فِي خَلْقِ الرَّحْمَـانِ مِن تَفَاوُتٍ... }[الملك: 3].
وانظر إلى أمهر الصُّناع الآن، يُسوِّي سقفاً لعدة حجرات، ويستخدم مادة واحدة ويُلوِّنها بلون واحد، لا بُدَّ أن تجد اختلافاً من واحدة للأخرى، حتى إنْ خلط العامل اللون مرة واحدة لكل الحجرات يأتي اللون مختلفاً، لماذا؟ لأنه حين يأخذ من هذا الخليط تجد ما يتبقى أكثر تركيزاً، فإذا لم يكمل العمل في نفس اليوم تجد ما تبقّى إلى الغد يفقد كمية من الماء تؤثر أيضاً في درجة اللون.
ومعنى: { مَّحْفُوظاً... } [الأنبياء: 32] أي: في بنية تكوينه؛ لأنه مُحْكَم لا اختلاف فيه، ولا يحفظ إلا الشيء النفيس، تحافظ عليه لنفاسته وأصالته. لكن من أيّ شيء يحفظه الله؟ يحفظها أن تمور، يحفظها أن تقع على الأرض إلا بإذنه.{ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }[الحج: 65].
وقال:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ... }

[الروم: 25].
إذن: في خَلْق السماء عظمة خَلْق، وعظمة تكوين، وعظمة صيانة تناسب قدرته تعالى، وإنْ كانت لا تحتاج إلى صيانة لأنها صنعتنا.
ومن المسائل التي بيَّنها لنا الحق - سبحانه وتعالى - في أمر السماء مسألة استراق السمع، فكانت الشياطين قبل الإسلام تسترق السمع، لكن بعد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم شاء الحق سبحانه ألاَّ يدلس على دعوته بسماع شيطان يُوحِي إلى أعدائه، فمنع الجن من استراق السمع بالشُّهُب، فقال سبحانه:{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ }[الحجر: 16-18].
ثم يقول سبحانه: } وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ { [الأنبياء: 32] كأن للسماء آيات خاصة بها، ففي الكون آيات كثيرة، وللسماء آياتها، فالشمس والقمر والنجوم والأفلاك من آياتها.
وبعد ذلك نسمع من رجال الأرصاد أن من كواكب السماء ما لم يَصِلْنا ضوؤه منذ خلق الله الأرض حتى الآن، مع أن سرعة الضوء ثلثمئة ألف كيلومتر في الثانية، ويمكن أن نفهم هذا في ضوء قوله تعالى:{ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }[الذاريات: 47].
لذلك يعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة تقريبية لهذه المسألة، حتى لا نُرهق أنفسنا بالتفكير فيها: " ما السماوات والأرض وما بينهما بالنسبة لملْك الله إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ".
ومع ذلك لما صعد رواد الفضاء للقمر سارع بعض علمائنا من منطلق حُبِّهم للإسلام وإخلاصهم للقرآن بالقول بأنهم صعدوا للسماء، وهذا هو المراد بقوله تعالى:{ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }[الرحمن: 33].
والمراد هنا: سلطان العلم الذي مكَّنَهم من الصعود.
لكن ما داموا نفذوا بِسلطن العلمِ، فلماذا قال بعدها:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ }[الرحمن: 35] إذن السلطان المراد ليس هو سلطان العلم كما يظنون، إنما المراد سلطان مِنِّى، بإذني وإرادتي.
ولو كان الأمر كما يقولون لقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بالمعراج: كيف تقول ذلك يا محمد وربك هو القائل:{ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }[الرحمن: 33].
إذن: المراد هنا سلطان من الله تعالى هو سبحانه الذي يأذن بهذه المسألة، فتُفتّح له أبواب السماء.
ثم ما علاقة القمر بالسماء؟ والكلام عن النفاذ من أقطار السماوات، وأين القمر من السماء؟ إن المسافة بين الأرض والقمر سنتان ضوئيتان، فالقمر - إذن - ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض، كالمعادي مثلاً بالنسبة للقاهرة، فأَيُّ سماء هذه التي يتحدثون عنها؟!
وقوله تعالى: } مُعْرِضُونَ { [الأنبياء: 33] سبق أن تحدّثنا عن الإعراض، وهو الانصارف عن الشيء مِنْ أعرض يعني: أعطاه ظهره.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ.... {.

(/2497)


وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)


الحق - سبحانه وتعالى - يمتنّ ببعض خَلْقه، ولا يمتن الله إلا بشيء عظيم ونعمة من نعمه على عباده، ومن ذلك الليل والنهار، وقد أقسم سبحانه بهما في قوله تعالى:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا }[الليل: 1-2] وقال:{ وَالضُّحَىا * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىا }[الضحى: 1-2] فالليل والنهار آيتان متكاملتان، ليستا متضادتين، فالأرض خلقها الله ليعمرها خليفته فيها:{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا... }[هود: 61].
أي: طلب منكم عمارتها بما أعطاكم الله من مُقوِّمات الحياة، فالعقل المدبر، والجوارح الفاعلة، والقوة، والمادة كلها مخلوقة لله تعالى، وما عليك إلا أنْ تستخدم نِعَم الله هذه في عمارة أرضه، فإذا ما تَمَّتْ الحركة في النهار احتاج الجسم بعدها إلى الراحة في الليل.
لذلك كان النوم آية عُظْمى من آيات الله للإنسان تدلّ على أن الخالق - عز وجل - أمين على النفس أكثر من صاحب النفس.
لذلك نرى البعض مِنّا يُرهِق نفسه في العمل، ولا يعطي لجسده راحته الطبيعية، إلى أنْ يصيرَ غير قادر على العمل والعطاء، وهنا يأتي النوم كأنه رادع ذاتيٌّ فيك يُجبرك على الراحة، ويدقُّ لك ناقسو الخطر: أنت لست صالحاً الآن للعمل، ارحم نفسك وأعطها حقَّها من الراحة، فإنْ حاولتَ أنت أنْ تنام قبل وقت النوم يتأبَّى عليك ولا يطاوعك، أما هو فإنْ جاء أخذك من أعتى المؤثرات. وغلبك على كل شيء فتنام حتى على الحصى.
وفي المثل العربي: (فراش المتعبَ وطيء، وطعام الجائع هَنِيء) أي: هين ينام الإنسان المتعَب المجهد ينام، ولو على الحصى، ولو دون أيِّ وسائل للراحة، ومع ذلك ينام نَوْمه مريحة.
وفي المثَل أيضاً: (النوم ضيف، إنْ طلبتَه أعْنَتَكَ، وإنْ طلبك أراحك) والحق سبحانه يُحدِّثن عن آية النوم في موضع آخر:{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ }[الروم: 23].
وهنا احتياط ومَلْحظ، فإنْ كان النوم بالليل للسكن وللراحة، فهناك مَنْ يعملون بالليل، فينامون بالنهار كالحرّاس ورجال الشرطة والخبازين وغيرهم، وهؤلاء لا مانعَ أن يناموا بالنهار ليسايروا حركة الحياة.
ثم يقول تعالى: { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ... } [الأنبياء: 33] نعم هناك آيات أخرى كثيرة في كَوْن الله، لكن أوضحها وأشهرها: الشمس والقمر فهما تحت المشاهدة { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] فالليل والنهار والشمس والقمر يدور كُلٌّ منهم خَلْف الآخر ويخلقه، كما قال سبحانه:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً... }[الفرقان: 62].
وكلمة { يَسْبَحُونَ } [الأنبياء: 33] تعبير قرآني دقيق للأداء الحركي، وهي مأخوذة من سبحة السمك في الماء حيث يسبح السمك في ليونة الماء بحركة انسيابية سهلة؛ لأن الحركة لقطع المسافات إما حركة إنسيابية، وإما حركة قفزية.
وتلاحظ هاتين الحركتين في عقارب الساعة، فلو لاحظت عقرب الثواني مثلاً لوجدّتَه يتحرّك حركة قفزية، يعني: ينطلق من الثبات إلى الحركة إلى الثبات، فالزمن فيه جزء للحركة وجزء للسكون.

أما عقرب الدقائق فيسير بحركة إنسيابية مستمرة، كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة، وهكذا تكون سُبْحة السمك، ومنها قوله تعالى:{ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً }[النازعات: 3].
وكذلك تكون حركة الظل:{ أَلَمْ تَرَ إِلَىا رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ... }[الفرقان: 45] وأيضاً حركة نمو الطفل، فلو أدَمَْتَ النظر إلى طفلك الصغير لا تكاد تلاحظ عليه مظاهر النمو، وكأنه لا يكبر أمام عينيك، أمّا لو غِبْتَ عنه مثلاً عدة شهور يمكن أن تلاحظ نُموه؛ ذلك لأن النمو حركة مُوزّعة على كل ثانية في الزمن؛ لا أن النمو يتجمع ثم يظهر فجأة ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ... {.

(/2498)


وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)


ذلك لأن الكفار حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بإلقاء حجر عليه من مكان عالٍ وهكذا يتخلَّصون منه صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتمنون ذلك، فيخاطبه ربه: يا محمد لست بدعاً من الرسل{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }[الزمر: 30].
وهذه سُنَّة الله في خَلْقه، بل موتك يا محمد لنسرع لك بالجزاء على ما تحمّلْته من مشاقِّ الدعوة، وعناء الحياة الدنيا.
لذلك " لما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموت قال: " بل الرفيق الأعلى " أما نحن فنتشبث بالحياة، ونطلب امتدادها.
فقوله: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ... } [الأنبياء: 34] فأنت كغيرك من البشر قبلك، أما مَنْ بعدك فلن يخلدوا بعد موت { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] فلا يفرحوا بموتك؛ لأنهم ليسوا خالدين من بعدك. { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم... }.

(/2499)


كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)


إذن: فالموت قضية كونية عامة، وهي في حقيقتها خَيْر، فإنْ كانوا أخياراً نُعجِّل لهم جزاءهم عند الله، وإنْ كانوا أشراراً فقد أراحَ اللهُ منهم البلاد والعباد.
لكن، كيف يُذَاق الموت؟ الذَّوْق هنا يعني إحساسَ الإنسان بالألم من الموت، فإنْ مات فعلاً يستحيل أن يذوق، أما قبل أن يموت فيذوق مقدمات الموت، والشاعر يقول:وَالأَسَى بَعْد فُرْقَةِ الرُّوحِ عَجْزٌ وَالأسَى لاَ يكُونُ قَبْل الفِرَاقِفعلى أيِّ شيء يحزن الإنسان بعد أن يموت؟ ولماذا الحزن قبل أن يموت؟
فالمراد - إذن - ذائقةٌ مقدمات الموت، التي يعرف بها أنه ميت، فالإنسان مهما كان صحيحاً لا بُدّ أنْ يأتي عليه وقت يدرك أنه لا محالةَ ميت، ذلك إذا بلغت الروح الحلقوم، كما قال تعالى:{ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ }[القيامة: 26-28] فالموت في هذه الحالة أمر مقطوع به.
ثم يقول سبحانه: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً... } [الأنبياء: 35] أي: نختبركم، والإبتلاء لا يُذَمُّ في ذاته، إنما تذم غية الابتلاء: أينجح فيه أم يفشل؟ كما نختبر الطلاب، فهل الاختبار في آخر العام شَرٌّ؟ لكن هل الحق سبحانه في حاجة لأنْ يختبر عباده ليعلم حالهم؟ الحق يختبر الخَلْق لا ليعلم، ولكن ليقيم عليهم الحجة.
والمخاطب في { وَنَبْلُوكُم... } [الأنبياء: 35] الجميع: الغني والفقير، والصحيح والسقيم، والحاكم والمحكوم.. إلخ.
إذن: كلنا فتنة، بعضنا لبعض: فالغنيّ فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، كيف؟ الفقير: هل يصبر على فقره ويرضى به؟ هل سيحقد على الغني ويحسده، أم يقول: بسم الله ما شاء الله، اللهم بارك له، وأعطني من خَيْرك؟ والغني: هل يسير في ماله سَيْراً حسناً، فيؤدي حقَّه وينفق منه على المحتاجين؟
وهكذا، يمكنك أنْ تُجري مثل هذه المقابلات لتعلم أن الشر والخير كلاهما فتنة واختبار، ينتهي إما بالنجاح وإما بالفشل؛ لذلك يقول بعدها: { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35] لنجازي كُلاّ على عمله، فإنْ حالفك التوفيق فَلَكَ الأجر والمكافأة، وإنْ أخفقت فَلَكَ العقوبة، فلا بُدَّ أن تنتهي المسألة بالرجوع إلى الله.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ... }.

(/2500)


وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)


هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن واقعٍ حدثَ له مع الكفار: { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً... } [الأنبياء: 36] و (إنْ) هنا ليست شرطية، إنما للنفي كما في قوله تعالى:{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ... }[المجادلة: 2] أي: ما أمهاتهم إلا اللائي ولَدْنهم.
فالمعنى: إذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا هُزُواً، أي: يهزأون بك، لكن ما وَجْه الهُزْو هنا؟
قولهم: { أَهَـاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ... } [الأنبياء: 36] أي: يعيبها ويسبُّها، ويقول عنها: إنها باطلة ومعنى { أَهَـاذَا... } [الأنبياء: 36] كأنهم يستقلّونه، ويستقلّون أنْ يقول هذا عن آلهتهم.
والذكر قد يكون بالخير، وقد يكون بالشر، فإنْ ذكرك صديق تتوقع أنْ يذكرك بخير، وإنْ ذكرك عدو تتوقع أنْ يذكرك بشرٍّ، وطالما أن محمداً سيذكر آلهتهم، فلا بُدَّ أنه سيذكرها بشرٍّ، والشر الذي ذكره محمد عن آلهتكم أنها أصنام وحجارة لا تضرُّ ولا تنفع.{ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ... }[فاطر: 14].
ثم يقول تعالى: { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ هُمْ كَافِرُونَ } [الأنبياء: 36] فكيف تتعجبون وتغضبون أنْ يسُبّ محمد آلهتكم الباطلة، وأنتم تسبُّون الإله الحق، وتكفرون به، ونلحظ أن السياق ذكر الضمير العائد عليهم مرتين: { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ هُمْ كَافِرُونَ } [الأنبياء: 36] ليؤكد أن ذلك حدث منهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ... }.

(/2501)


خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)


معنى: { مِنْ عَجَلٍ... } [الأنبياء: 37] أي: مُتعجِّلاً كأن في طينته عجلة، والعجلة أن تريد الشيء قبل نُضْجه، وقبل أوانه، وقد يتعجَّل الإنسان الخير، وهذا أمر جائز، أما أنْ يتعجّل الشر فهذا هو الحمق بعينه والغباء، ألم يقولوا لرسول الله:{ وَيَقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }[الأنبياء: 38].
ألم يقولوا:{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].
إذن: تعجَّل هؤلاء العذاب؛ لأنهم غير مؤمنين به، لا يُصدِّقون أن شيئاً من هذا سيحدث؛ لذلك يردُّ عليهم: { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } [الأنبياء: 37] وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77].
أي: سنريك فيهم آياتنا، وسترى ما وعدناهم من العذاب، فإنْ قبضناك إلينا فسترى ما ينزل بهم في الآخرة.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { وَيَقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا الْوَعْدُ... }.

(/2502)


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)


وهذا استبطاء منهم لِوَعْد الله بالآخرة والعَرْض عليه سبحانه، وأن سيُعذِّبهم بالنار التي تُنضج جلوددهم، ويُبدِّلهم الله جلوداً غيرها.. إلخ؛ لأنهم لا يُصدِّقون هذا ولا يؤمنون به، وسبق أنْ قالوا لرسول الله:{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً }[الإسراء: 92].
ثم يقول تعالى: { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ... }.

(/2503)


لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)


أي: لو يعلمون ما يحدث لهم في هذا الوقت حين لا يستطيعون دَفْع النار عن وجوههم، وذَكر الوجه بالذات لأنه أشرف أعضاء الإنسان وأكرمها؛ لذلك إذا أصابك أذىً في وجهك تحرص على إزالته بيدك، وأنت لم تفعل أكثر من أنك نقلْتَ الأذى من وجهك إلى يدك، لماذا؟ لأن الوجه عزيز عليك، لا تقبل إهانته، ولا تتحمَّل عليه أيَّ سوء.
فقوله تعالى: { لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ... } [الأنبياء: 39] دلاَلة على إهانتهم { وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ... } [الأنبياء: 39] لأنها تأتيهم من كل مكان: { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ.. } [الأنبياء: 39] أي: لا يجدون مَنْ ينقذهم، أو يأخذ بأيديهم ويدفع عنهم.
حتى الشيطان الذي أغواهم في الدنيا سيتبرّأ منهم يوم القيامة، ويقول:{ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }[إبراهيم: 22] وأصرخه: أزال سبب صراخه، والهمزة في أصرخه تسمى همزة إزالة، تقول: صرخ فلان إذا وقع عليه ما هو فوق طاقته واحتماله، فيصرخ صرخةً يستدعي بها مَنْ يغيثه ويُعينه، فإنْ أجابه وأزال ما هو فيه فقد أصرخه، يعني: أزال سبب صراخه. فالمعنى: لا أدافع عنكم، ولا تدافعون عني، ولا أنقذكم من العذاب، ولاتنقذونني.
وفي موضع آخر:{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }[الحشر: 16] فحظُّ الشيطان أنْ يُوقِعك في المعصية، ثم يتبرأ منك.
فما جواب (لو) هنا؟ المعنى: لو يعلم الذين كفروا الوقت الذي لا يكفُّون فيه النار عن وجوههم، ولا عن ظهورهم ولا يُنصرون لكفّوا عما يُؤدِّي بهم إلى ذلك، وانتهَوْت عن أسبابه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ... }.

(/2504)


بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)


أي: القيامة، والبغتة: نزول الحدث قبل توقعه لذلك { فَتَبْهَتُهُمْ... } [الأنبياء: 40] من البهت: أي: الدهشة والحيرة، فإذا ما باغتتهم القيامة يندهشون ويتحيرون ماذا يفعلون؟ وأين يفرون؟
والبغتة تمنع الاستعداد والتأهُّب، وتمنع المحافظة على النفس. ومن ذلك ما كانوا يفعلونه أوقات الحروب من صافرات الإنذار التي تُنبّه الناس إلى حدوث غارة مثلاً، فيأخذ الناس استعدادهم، ويلجئون إلى المخابئ، أمَّا إن داهمهم العدو فجأة فلن يتمكنوا من ذلك، ولن يجدوا فرصة للنجاة من الخطر.
ومن البَهْت قوله تعالى في قصة الذي حَاجَّ إبراهيم عليه السلام في ربه:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ... }[البقرة: 258].
وقوله: { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [الأنبياء: 40] أي: لا يُمهَلُون ولا يُؤخَّرون، فليست المسألة تهديداً وننصرف عنهم إلى وقت آخر، إنما هي الأَخْذة الكُبْرى التي لا تُرَدُّ عنهم ولا تُؤخَّر.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ... }.

(/2505)


وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)


سبق أنْ خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:{ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً.. }[الأنبياء: 36] لذلك يُسلِّيه هنا: لست بدعاً من الرسل، فَخُذْ هذه المسألة بصدر رَحْب، فلقد استهزئ بالرسل من قبلك فلا تحزن، فسوف يحيق بهم ما صنعوا، ويجدون عاقبة هذا الاستهزاء.
كما جاء في قصة نوح عليه السلام:{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ... }[هود: 38] فيردُّ نوح:{ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }[هود: 38] أي: انتظروا النهاية، وسوف ترون!!.
ومعنى: { فَحَاقَ... } [الأنبياء: 41] أي: حَلَّ ونزل بقسوة { بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأنبياء: 41].
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ }[المطففين: 29-31] أي: مسرورين فرحين، وهذا دليل على لُؤْمهم ورذالة طباعهم، فلم يكتفوا بالاستهزاء، وإنما يحكونه وينبجحون به.{ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 32-36].
هل استطعنا أنْ نُجازيهم بما عملوا؟ نعم يا ربّ.
ولا ننسى أن استهزاء الكفار بأهل الحق استهزاء موقوت بوقته في الدنيا، أمّا استهزاء الله بهم فاستهزاء أبديّ لا نهايةَ له. ويجب هنا أن نتنبه لهذه المسألة، فكثيراً ما يتعرض أهل الإيمان للاستهزاء وللسخرية من أهل الباطل، وهؤلاء الذين يسخرون منهم لأجلهم يصون الله لهم الحياة ويدفع عنهم العذاب، كما جاء في الحديث القدسي: " فلولا أطفال رُضَّع، وشيوخ رُكّع، وبهائم رُتَّع لصببتُ عليكم العذاب صباً ".
فحين ترى تقياً، فإذا لم تشكره على تقواه وتقتدي به فلا أقلَّ من أنْ تدعَه لحاله، لا تهزأ به، ولا تسخر منه؛ لأن في وجوده استبقاءً لحياتك وأَمْنِكَ، وأقل ما يمكنك أنْ تُقيِّم به التقى: يكفيك منه أن أمنتَ شرَّه، فلن يعتدي عليك، ولن ترى منه شيئاً يسؤوك.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ... }.

(/2506)


قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)


أي: يرعاكم ويحفظكم، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُجري مقارنة بين إنعامه سبحانه على عباده وما يقابلونه به من جحود ونكران وكفران، أنتم تكفرون بالله وتُؤذُون الصالحين من عباده وتسخرون منهم، وهو سبحانه الذي { يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ... } [الأنبياء: 42] أي: كلاءة صادرة من الله الرحمن.
كما في قوله تعالى:{ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ... }[الرعد: 11] فليس المراد أنهم يحفظونه من أمر الله الذي أراده الله فيه؛ لأن الحِفْظَ صادر من الله، والحفَظة مكلّفون من قبله تعالى بحفظكم، وليس تطوُّعاً منهم. وكلاءة الله لك وحفْظه إياك في النهار وفي الليل وأنت نائم عليك حَفَظة يحفظونك، ويدفَعون عنك الأذى.
وكثيراً ما نسمع أن بعض الناس قام من نومه فوجد ثعباناً في فراشه، ولم يُصِبْه بسوء، وربما فزع لرؤيته فأصابه مكروه بسبب هذا الخوف، وهو لا يعلم أن الثعبان لا يؤذيه طالما أنه لم يتعرَّض له، وهذا من عجائب هذه المخلوقات أنها لا تؤذيك طالما لا تؤذيها. إذن: لا أحدَ يرقبك ويحفظك في نومك مِمَّا يُؤذيك إلا الحق سبحانه.
وكلاءة الله لكم لا تقتصر على الحِفْظ من المعاطب، فمن كلاءته سبحانه أن يمدّكم بمقوّمات الحياةَ، فالشمس بضوئها، والقمر بنوره، والأرض بنباتها، والسماء بمائها. ومع هذا تكفرون به، وتسخرون من رسله وأهل طاعته؛ لذلك يقول بعدها: { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء: 42] وما كان يصحّ أنْ يغيبَ ذِكْره تعالى عنهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا... }.

(/2507)


أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)


أَلَهم آلهة أخرى تمنعهم من الإيمان بالله؛ هؤلاء الآلهة لا يستطيعون نَصْر أنفسهم، وكيف ينصرون أنفسهم، وهي أصنام من حجارة نحتَها عُبَّادها على أشكال اختاروها؟ كيف ينصرون أنفسهم، ولو أطاحت الريح بأحدهم لاحتاج لمَنْ يرفعه ويقيمه؟
وقوله تعالى: { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } [الأنبياء: 43] كانوا قديماً في البادية، إذا فعل أحدهم ذنباً، أو فعل فَعْله في إحدى القبائل، واحتاج إلى المرور عليهم في طريقه يذهب إلى واحد قويٍّ يصاحبه في مشواره، ويحميه منهم إلى أنْ يمرَّ على ديارهم، كما في قوله تعالى:{ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ }[الشعراء: 14].
فالمراد: يصحبه كي يحميه بهذه الصُّحْبة وينجو من العذاب، فهؤلاء لن نكون في صُحْبتهم لننجيهم، ولا أحدَ يستطيع أن يصحبهم لينجيهم من عذابنا، لا هذه ولا تلك.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { بَلْ مَتَّعْنَا هَـاؤُلاءِ وَآبَآءَهُمْ... }.

(/2508)


بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)


أي: أنهم مكثوا فترة طويلة من الزمن يتقلَّبون في نعَم الله، لكن انظروا ماذا حدث لهم بعد ذلك، فخذوا منهم عبرةً:{ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا.. }[الروم: 9].
ومع ذلك أُخذوا أَخْذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى:{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }[الأنعام: 6].
ثم يقول سبحانه: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ... } [الأنبياء: 44].
وفي موضع آخر:{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[الرعد: 41].
وهذه آية من الآيات التي وقف عندها بعض علماءنا من النبيين من بعمليات القرآن، فلما أعلن العلماء أن الأرض بيضاوية، لشكل، وليست كاملة الاستدارة، يعني: أقطارها مختلفة بالنسبة لمركزها، سارع بعضهم من منطلق الغَيْرة على دين الله ومحاولة إثبات صِدْق القرآن، وأنه سبق إلى ذِكْر هذه المسألة فقالوا: لقد ذكر القرآن هذا الإكتشاف في قوله تعالى: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ... } [الأنبياء: 44] يعني: من ناحية خط الاستواء، لا من ناحية القطبين.
وغفل هؤلاء أن الآية تقول: { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ.. } [الأنبياء: 44] لا من طرفها، فالنقص من جميع الأطراف، فمِثْل هذه الأقوال تفتح الباب للطعن في القرآن والخوْض فيه.
ونتساءل { أَفَلاَ يَرَوْنَ... } [الأنبياء: 44] رأي هنا علمية أم بصرية؟ لو قلنا: إنها بصرية فهذه ظاهرة لم تُعْرَف إلا في القرن العشرين، ولم ينتبه لها أحد قبل ذلك، إذن: فهي ليست بصرية. وأيضاً ليست علمية، فلم تصل هذه المعلومة إلى هؤلاء، ولم يكُنْ العرب حينذاك أمةَ علم، ولا أمة ثقافة، ولاشيء من ذلك أبداً. فإذا ما استبعدنا هذا التفسير، فما المعنى المناسب؟
نقول: إنْ كانت رأي بصرية، فقد رأوا هذه الظاهرية في الأمم السابقة، وقد كانوا يصادمون دين الله ويحاربونه؛ لأنه جاء ليقضي على سلطتهم الزمنية، ويجعل الناس سواء، ومع ذلك كان الدين ينتشر كل يوم وتزيد رقعته وتقلّ رُقعة الكفر.
فالمعنى: ننقص أرض الكفر إما من الناس، أو من العمائر التي تُهدم وتخرب بالزلازل والخسف وغيره، فننقص الأرض، وننقص الناس، وننقص مظاهر العمران في جانب الكفر، وهذا النقص هو نفسه الزيادة في أرض الإيمان. وهذه الظاهرة حدثت في جميع الرسالات.
فإنْ قال قائل: كيف نقبل هذا التفسير، وزيادة أرض الإيمان لم تحدث إلا بعد الهجرة، والآية مكية؟ تقول: كَوْن الآية مكية لا يقدح في المعنى هنا، فليس من الضروري أن يَروْا ذلك في أنفسهم، ويكفي أنْ يروها في الأمم السابقة، كما جاء في قوله تعالى:

{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }[الصافات: 137].
وقال:{ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ }[الفجر: 9-12].
وإن اعتبرنا (رأي) علمية، فقد علموا ذلك من أهل الكتاب ممَّنْ تحالفوا معهم، فما حدث للأمم السابقة سيحدث لكم.
وقوله تعالى: } أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ { [الأنبياء: 44] يعني: أفلم يشاهدوا أنَّا ننقص الأرض من أطرافها، أم أن هذا لم يحدث، وهم الغالبون؟ أيهما الغالب: رسل الله، أم الكافرون؟ الإجابة أنهم غُلِبوا واندحروا، فقال تعالى:{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173] وقال:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[غافر: 51]
ويخاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: } قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ... {.

(/2509)


قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)


أي: أن رسول الله ما أبلغكم بشيء من عند نفسه، إنما كل ما جاء به من وعد ووعيد فهو من عند الله، وأنتم أنفسكم تؤكدون على بشريته، نعم هو بشر لا يعلم شيئاً كما تقولون، وهذه تُحسَب له لا عليه، إنما ربه يوحي إليه.
فلو قال محمد: إنما أنذركم.. لكان لكم حق أنْ تتشكَّكوا، إنما القائل هو الله، وأنا مجرد مُبلِّغ عن الله الذي يملك أعِنَّة الأحداث، فإذا قال بوجود حدث فلا بُدَّ أنْ يقع.
ثم يقول تعالى: { وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء: 45]
وحاسّة السمع هي أول معلوميات الإنسان، وأول حواسه عملاً، وقبل أن يتكلم الطفل لا بُدَّ أنْ يسمع أولاً، لينطق ما سمعه؛ لأن السمع هو الإدراك الأول المصاحب لتكوين الإدراكات، والأذن - كما قلنا - تسبق العين في أداء مهمتها.
لذلك قدّمه الحق سبحانه، فقال:{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }[الإسراء: 36].
والسمع هو الآلة التي لا تتعطّل عن مهمتها، حتى ولو كان الإنسان نائماً؛ لأن به يتم الاستدعاء؛ لذلك لما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة ضرب على آذانهم، وعطّل عندهم حاسة السمع حتى لا تُزعجهم أصوات الطبيعة خارج الغار، فقال:{ فَضَرَبْنَا عَلَىا آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }[الكهف: 11].
ومعنى: { وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ... } [الأنبياء: 45] صحيح أنهم يسمعون، وآلة السمع عندهم صالحة للعمل، إلا أنه سماعٌ لا فائدة منه، ففائدة السمع أنْ تستجيب لمن يُحدِّثك، فإذا لم تستجِبْ فكأنك لم تسمع، وإذا أمرت العامل مثلاً بشيء فتغافل عنه تقول له: أأنت أطرش؟ ولذلك سماهم القرآن: صُماً.
وقوله تعالى: { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء: 45] أي: لَيْتهم يتغافلون عن نداء عادي، إنما يتغافلون وينصرفون { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء: 45] حين يُخوِّفهم عذاب الله، والإنذار والتحذير أَوْلَى ما يجب على الإنسان الاهتمام به، ففيه مصلحته، ومن الغباء ألاَّ يهتم به، كما لو أنذرتَ إنساناً وحذَّرْتَه من مخاطر طريق، وأن فيه ذئاباً أو أُسُوداً أو ثعابين أو قطاعَ طريق، فلا يهتم بكلامك، ولا يحتاط للنجاة بنفسه.
وقلنا: إن الإنذار: أنْ تخبر بشرٍّ قبل أوانه ليستعد لتلافيه، لا أنْ تنذره ساعة الحادث فلا يجد فرصة.
إذن: المسألة ليست طبيعية في التكوين، إنما توجيه إدراكات، كأنْ تكلِّم شخصاً في أمر لا يعجبه، فتجده " أذن من طين، وأذن من عجين " ينصرف عنك كأنه لم يسمع شيئاً، كأحدهم لما قال لصاحبه: فيك مَنْ يكتم السر؟ قال: نعم سِرُّك في بير، قال: أعطني عشرة جنيهات، فردَّ عليه: كأنِّي لم أسمع شيئاً!!!
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ... }.

(/2510)


وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)


الآن فقط تنبهتم ووَعَيْتُم؟ الآن بعد أن مسَّكم العذاب؟
ومعنى: { مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ... } [الأنبياء: 46] أي: مساً ولمساً خفيفاً، والنفخة: هي الريح الليئة التي تحمل إليك آثارَ الأشياء دون حقيقتها، كأن تحمل لك الريحُ رائحة الورود مثلاً، هي لا تحمل لك الوورد نفسها، إنما رائحتها، وتظل الورود كما هي.
كذلك هذه المسَّة من العذاب، إنها مجرد رائحة عذاب، كما نقول لفح النار الذي نشعر به، ونحن بعيدون عنها.
والنفحة: اسم مرَّة أي: تدل على حدوثها مرة واحدة، كما تقول: جلس جَلسة أي: مرة واحدة، وهذا أيضاً دليل على التقليل. (فمسَّتْهُمْ) تقليل و (نَفْحَة) تقليل، وكونها مرة واحدة تقليل آخر، ومع ذلك يضجُّون ويجأرون، فما بالك إنْ نزل بهم العذاب على حقيقته، وهو عذاب أبديّ؟!
وقوله تعالى: { لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [الأنبياء: 46] الآن ينطقون، الآن يقولون كلمة الحق التي طالما كتموها، الآن ظهرتْ حساسية الإدراك لديهم، فمن أقلِّ القليل ومن رائحة العذاب يجأؤون، وأين كان هذا الإدراك، وهذه الحساسية من قبل؟ إذن: المسألة - كما قلنا - ليست طبيعة تكوين، إنما توجيه إدراكات.
وقولهم: { ياويْلَنَآ... } [الأنبياء: 46] إحساس بما هم مُقبلون عليه، وهذا القول صادر عن مواجيد في النفس وفي الذِّهْن قبل أن ينطق بالكلمة، ثم يُقرُّون على أنفسهم ويعترفون: { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [الأنبياء: 46]. { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ... }.

(/2511)


وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)


نقلهم الحق سبحانه من إنكار وتكذيب وتسفيه كلام الرسول، وعدم الإيمان بالوحي، وصَمِّ آذانهم عن الخير إلى مسألة الحساب والميزان القسط، فلماذا هذه النَّقْلة؟ ليُنبههم ويلفت أنظارهم إلى أن هذا الكلام الذي قابلتموه بالتكذيب والتشكيك كان لمصلحتكم، وأن كل شيء محسوب، وسوف يُوزَن عليكم ويُحْصَى، وكأنه ينصحهم، فما تزال رحمانية الله بهم وحِرْصه على نجاتكم.
وكلمة (موازين) جمع: ميزان، وهو آلة نُقدِّر بها الأشياء من حيث كثافتها، لأن التقدير يقع على عدة أشياء: على الكثافة بالوزن، وعلى المسافات بالقياس.. الخ، وقد جعلوا لهذه المعايير ثوابت، فمثلاً: المتر صنعوه من البلاتين حتى لا يتآكل، وهو موضوع الآن - تقريباً - في باريس، وكذلك الياردة. وجعلوا للوزن معايير من الحديد: الكيلو والرطل.. إلخ.
وقديماً كانوا يَزِنُون قطعةً من الحجارة تساوي كيلو مثلاً، ويستعملونها في الوزن؛ لأن لها مرجعاً، لكن هذه القطعة تتآكل من كثرة الاستعمال، فلا بُدَّ من تغييرها.
وهنا تكلَّم عن الشيء الذي يَوزَن، ولم يذكر المعايير الأخرى، قالوا: لأن الأشياء التي لها كثافة هي الأكثر، وكاوا يختبرون الأولاد يقولون: كيلو الحديد أثقل، أم كيلو القطن؟ فالولد ينظر إلى القطن فيراه هَشَّاً مُنتفِشاً فيقول: القطن، والقطن أزيد من الحديد في الحجم، لكن كثافته يمكن أن تستطرق، فنُرقّق القطن إلى أن يتحول إلى مساحة طول وعرض. إذن: العُمْدة في التقدير: الثقل.
وفي موضع آخر قال تعالى:{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 7] فهل هي موازين متعددة، أم هو ميزان واحد
الخَلْق جميعاً سيُحاسبون مرة واحدة، فلن يقفوا طابوراً ينتظر كل منهم دَوْره، بل في وقت واحد؛ لذلك لما سُئِل الإمام على - كرَّم الله وجهه: كيف يُحاسب الله الخَلْق جميعاً في وقت واحد؟ قال: كما يرزقهم جميعاً في وقت واحد. فالمسألة صعبة بالنسبة لك، إنما سهلة ميسورة للحق سبحانه.
والقِسْط: صفة للموازين، وهي مصدر بمعنى عدل، كما تقول في مدح القاضي: هذا قاضٍ عادل. أي: موصوف بالعدل، فإذا أردتَ المبالغة تقول: هذا قاضٍ عَدْل، كأنه هو نفسه عَدْل أي (معجون بالعدل)؛ لذلك نقول في أسماء الحق سبحانه: الحكم العدل. ولا نقول: العادل.
وهذه المادة (قسط) لها دور في اللغة، فهي من الكلمات المشتركة التي تحمل المعنى وضده، مثل (الزوج) تُطلق على الرجل والمرأة، و (العَيْن) تطلق على العين: العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وعلى الذهب والفضة.
كذلك (القِسْط) نقول: القِسْط بالكسر مثل: حِمْل بمعنى العدل من قَسَط قِسْطَاً. ومنه قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[المائدة: 42] ونقول: القَسْط بالفتح يعني: الظلم من قسط قُسوطاً وقَسْطاً، ومنه قوله تعالى:{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }[الجن: 15] أي: الجائرون الظالمون.

والقِسْط بمعنى العدل إذا حكم بالعدل أولاً وبداية، لكن أقسط يعني كان هناك حكم جائر فعدَّله إلى حكم بالعدل في الاستئناف.
ومن هذه المادة أيضاً قوله تعالى:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ... }[الأحزاب: 5] فأقسط هنا: أفعل تفضيل، تدل على أن حكم محمد صلى الله عليه وسلم في مسألة زيد كان عَدْلاً وقِسْطاً، إنما حكم ربه تعالى هو أقسط وأعدل.
ومعلوم من قصة زيد بن حارثة أنه فضَّل رسول الله واختاره على أهله، وكان طبيعياً أنْ يكافئه رسول الله على محبته وإخلاصه ويُعوِّضه عن أهله الذين آثر عليهم رسولَ الله، وكانت المكافأة أن سماه زيد بن محمد.
إذن: الحق سبحانه عدل لرسوله، لكن عدل له العدل لا الجوْر، وعَدْل الله أَوْلى من عدل محمد لذلك قال:{ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ... }[الأحزاب: 5] أما عندكم أنتم فقد صنع محمد عَيْن العَدْل.
وقوله تعالى:{ ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ.. }[الأحزاب:5] جاء ليبطل التبني؛ ليكون ذلك مقدمة لتشريع جديد في الأسرة والزواج والمحارم وأمور كثيرة في شرع الله لا تستقيم في وجود هذه المسألة، وإلاّ فكيف سيكون حال الأسرة حين يكبر المتنبنّي ويبلغ مَبلْلَ الرجال؟ وما موقفه من الزوجة ومن البنت، وهو في الحقيقة غريب عن الأسرة؟
ومسألة الموازين هذه من المسائل التي وجد فيها المستشرقون تعارضاً في ظاهر الآيات، فجعلوا منها مَأخَذاً على كتاب الله، من ذلك قولهم بالتناقض بين الآيتين: } وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ... { [الأنبياء: 47] وقوله تعالى:{ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }[الكهف: 105] حيث أثبت الميزان في الأولى، ونفاه في الثانية.
وقلنا: إن هؤلاء معذورون؛ لأنهم لا يملكون الملكَة اللغوية التي تمكِّنهم من فَهْم كلام الله. ولو تأملنا اللام في{ نُقِيمُ لَهُمْ... }[الكهف: 105] لا نحلَّ هذا الإشكال، فاللام للملك والانتفاع، كما يقولون في لغة البنوك: له وعليه. والقرآن يقول:{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... }[البقرة: 286].
فالمعنى:{ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً }[الكهف: 105] أي: وزناً في صالحهم، إنما نقيم عليهم وندينهم. كذلك نجد أن كلمة الوزن تُستعمل في اللغة إمَّا لوزن الماديّ، أو لوزن المعنى، كما نقول: فلان لا وَزْنَ له في الرجال.
وعلى هذا يكون المعنى: أنهم لا وَزْنَ لذواتهم ومادتهم، إنما الوزن لأعمالهم، فلا نقول: كان من الأعيان، كان أصله كذا وكذا، وهذه المسألة واضحة في قصة ابن نوح عليه السلام:{ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... }[هود: 46].
فالنبوة هنا بُنوّة عمل وإيمان، لا بُنوة ذات.
وقد ظَنَّ الكفار والعصاة أن لهم وَزْناً عند الله، ومنزلة ستكون لهم في الآخرة، كما كانت لهم في الدنيا، كما جاء في قصة صاحب الجنتين الذي قال لأخيه متباهياً مفتخراً.{ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }

[الكهف: 34-36].
لكن هيهات أنْ يكون لهم وَزْنٌ في الآخرة، فالوزن في القيامة للأعمال، لا للأعيان.
إذن: المعنى لا نقيم لذواتهم، إنما نزن أعمالهم؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقرابته: " لا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأحسابكم ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً " فالذوات والأحساب والأنساب لا قيمة لها في هذا الموقف.
وقوله تعالى: } فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً... { [الأنبياء: 47] مع أن القاعدة:{ فَمَنِ اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ.. }[البقرة: 194] وهؤلاء قد ظلموا الحق سبحانه ظُلْماً عظيماً حين أشركوا به، وظلموا رسول الله لما قالوا عنه: ساحر، وكاذب ومجنون، ومع ذلك فلن نردّ هذا الاعتداء بمثله بظلمهم.
وقوله تعالى: } وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا... { [الأنبياء: 47] والخردل: مثال للصِّغَر، للدلالة على استقصاء كل شيء، ولا يزال الخردل هو المقياس العالمي للكيلو، فقد وجدوا حَبَّ الخردل مُتَساوياً في الوزن، فأخذوا منه وحدة الكيلو الآن، وقد أتى بها القرآن منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان.
ومعنى: } أَتَيْنَا بِهَا... { [الأنبياء: 47] أي: لهم أو عليهم، فإنْ كانت لهم علموا أنَّ الله لا يظلمهم، ويبحث لهم عن أقلِّ القليل من الخير، وإنْ كانت عليهم علموا أن الله يستقصي كل شيء في الحساب، وحَبّة الخردل تدل على صِغَرها على الجحم، وكلمة مثقال تدل على الوزن، فجمع فيها الحجم والوزن.
ثم يُعقِّب سبحانه على هذه المسألة: } وَكَفَىا بِنَا حَاسِبِينَ { [الأنبياء: 47] فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما نفعل نحن، فليست عندنا غفلة بل دِقَّة وضبَطْْ لمعايير الحساب.
ولا تظن أن مسألة الحساب والميزان مسألة سهلة يمكن أن تصل فيها إلى الدقة الكاملة مهما أخذتَ من وسائل الحيطة، فأنت بشر لا تستطيع أنْ تزِنَ الوزن المضبوط؛ لأن المعيار الحديد الذي تزن به عُرْضة في استعماله للزيادة أو النقصان.
فقد يتراكم عليه الغبار ويقع عليه مثلاً نقطة زيت، وبمرور الوقت يزيد المعيار ولو شيئاً ضيئلاً، وهذا في صالح الموزون له، وقد يحدث العكس فينقص الميزان نتيجة الملامسة للأشياء، ولك أن تنظر مثلاً إلى (أكرة) الباب تراها لامعةً على خلاف ما حولها. إذن: أي ملامسة أو احتكاك للأشياء يُنقصها.
حتى في الموازين الحديثة التي تضمن لك أقصى درجات الدقة فبشرية الإنسان لا يمكن أن تُعطى الدقة المتناهية، وهذا معنى{ وَكَفَىا بِاللَّهِ حَسِيباً }[الأحزاب: 39] } وَكَفَىا بِنَا حَاسِبِينَ { [الأنبياء: 47] لأن معياره تعالى لا يختلف، ولا ينسى شيئاً، ولا يغفل عن شيء.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا.... {.

(/2512)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)


يريد الحق - تبارك وتعالى - أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم ويُخفِّف عنه مَا لاقاه من قومه، فيذكر له نماذج من إخوانه أُولِي العزم من الرسل الذين اضطهدهم أقوامهم، وآذوهم ليُسهِّل على رسول الله مهمته، فلا يصده إيذاء قومه عن غايته نحو ربه.
فبدأ بموسى - عليه السلام - لأنه من أكثر الرسل الذين تعبوا في دعوتهم، فقد تعب موسى مع المؤمنين به فضلاً عن الكافرين به، فقال سبحانه: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ... } [الأنبياء: 48] لأن رسالتهما واحدة، وهم فيها شركاء:{ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً... }[القصص: 34] وقال:{ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي }[طه: 31-32].
والفرقان: هو الفارق القوي بين شيئين؛ لأن الزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى، كما تقول: غفر الله لفلان غفراناً، وتقول: قرأت قراءة، وقرأة قرآناً، فليست القراءة واحدة، ولا كل كتاب يُقرأ.
والفرقان من أسماء القرآن:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىا عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }[الفرقان: 1].
فالفرقان - إذن - مصدر يدلُّ على المبالغة، تقول: فرَّق تفريقاً وفرقاناً، فزيادة الألف والنون تدل على زيادة في المعنى، وأن الفَرْق في هذه المسألة فَرْق جليل وفَرْق واضح؛ لأن كونك تُفرِّق بين شيئين يترتب على ذلك خطورة في تكوين المجتمع وخطورة في حركة الحياة، فهذا فرقان؛ لذلك سَمَّي القرآن فرقاناً؛ لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل.
ومن الفرقان، قوله تعالى:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... }[الأنفال: 29] وتقوى الله لا تكون إلا بتنفيذ أوامره وتعاليمه الواردة في القرآن الذي نزل على محمد، والفرقان هنا يعني: نور تُفَرِّق به بين الأشياء وتُميِّز به بين المتشابهات.
وعلى قَدْر ما تتقي الله باتباع الفرقان الأول يجعل لكم الفرقان الثاني، وتتكوَّن لديكم فراسة المؤمن وبصيرته، وتنزل عليكم الإشراقات التي تُسعِف المؤمن عندما يقع في مأزق.
ألاَ تراهم يقولون: فلان ذكي، فلان حاضر البديهة. أي: يستحضر الأشياء البعيدة وينتفع بها في الوقت الحاضر، وهذا من توفيق الله له، ونتيجة لبصيرته وفراسته، وكانت العرب تضرب المثل في الفراسة والذكاء بإياس بن معاوية حتى قال الشاعر:إقْدامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِمِ في حِلْمِ أَحنَفَ في ذَكَاءِ إيَاسِويُرْوَى أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور لما أراد أنْ يحج بيت الله في آخر مرة، بلغه أن سفيان الثوري يتناوله ونتقده ويتهمه بالجور، فقال: سوف أحج هذا العم، وأريد أنْ أراه مصلوباً في مكة، فبلغ الخبر أهل مكة، وكان سفيان الثوري يقيم بها في جماعة من أصحابه من المتصوفة وأهل الإيمان، منهم سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض، وكانا يُدلِّلان الثوري ويعتزان به.
وفي يوم كان الثلاثة في المسجد والثوري مُسْتَلْقٍ بين صاحبيه يضع رأسه في حِجْر أحدهما، ورِجلْيهْ في حِجْر الآخر، وقد بلغهم خبر المنصور ومقالته، فتوسل ابنُ عيينة والفضيل للشيخ الثوري: يا سفيان لا تفضحنا واختفِ حتى لا يراك، فلو تمكَّن منك المنصور ونفذ فيك تهديده فسوف يَضعف اعتقاد الناس في المنسوبين إلى الله.

وهنا يقول الثوري: والذي نفسي بيده لن يدخلها، وفعلاً دخل المنصور مكة من ناحية الحجون، فعثرت به الدابة، وهو على مشارف مكة فوقع وأُصيب بكسر فمات لساعته. ودخل المنصور مكة محمولاً وأتَوْا به إلى المسجد الحرام حيث صلى عليه الثوري.
هذا هو الفرقان والنور والبصيرة وفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله، ولا يصدر في أمر من أموره إلا على هَدْيه.
ويُروى أن المهدي الخليفة العباسي أيضاً دخل الكعبة، فوجد صبياً صغيراً في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمره يلتف حوله أربعمائة شيخ كبير من أصحاب اللحي والهَيْبة والوقار، والصبي يُلْقِي عليهم درساً، فتعجب المهدي وقال: أُفٍّ لهذه السعانين يعني الذقون، أمَا كان فيهم مَنْ يتقدم؟! ثم دنا من الصبي يريد أن يُقرِّعه ويؤنِّبه فقال له: كم سِنّك يا غلام؟ فقال الصبي: سني سِنُّ أسامة بن زيد حينما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة جيش فيه أبو بكر وفيه عمر، فقال له المهدي - معترفاً بذكائه وأحقيقته لهذا الموقف: بارك الله فيك.
فالفرقان - إذن - لا تُستعمل إلا للأمور الجليلة العظيمة، سواء ما نزل على موسى، أو ما نزل على محمد، إلا أن الفرقان أصضبح عَلَماً على القرآن، فهناك بين العلم والوصف، فكل ما يُفرِّق بين حَقٍّ وباطل تصفه بأنه فرقانٌ، أمّا إنْ سُمِّي به ينصرف إلى القرآن.
والمتأمل في مادة (فَرَق) في القرآن يجد أن لها دوراً في قصة موسى عليه السلام، فأول آية من آياته:{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ... }[البقرة: 50].
والفَرْق أنْ تفصل بين شيء مُتصل مع اختلاف هذا الشيء، وفي علم الحساب يقولون: الخَلْط والمزج، ففَرْق بين أن تفصل بين أشياء مخلوطة مثل برتقال وتفاح وعنب، وبين أنْ تفصلها وهي مزيج من العصير، تداخل حتى صار شيئاً واحداً.
إذن: ففَرْق البحر لموسى - عليه السلام - ليس فَرْقاً بل فرقاناً، لأن أعظم ألوان الفروق أن تَفرِق السائل إلى فِرْقيْن، كل فِرق كالطود العظيم، ومَنْ يقدر على هذه المسألة إلا الله؟
ثم يقول تعالى: } وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ { [الأنبياء: 48] أي: نوراً يهدي الناس إلى مسالك حياتهم دون عَطَب، وإلاَّ فكيف يسيرون في دروب الحياة؟ فلو سار الإنسان على غير هدى فإمّا أنْ يصطدم بأقوى منه فيتطحم هو، وإمّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه، فالضياء - إذن - هام وضروري في مسيرة الإنسان، وبه يهتدي لحركة الحياة الآمنة ويسعي على بينة، فلا يَتْعب، ولا يُتعِب الآخرين.

} وَذِكْراً... { [الأنبياء: 48] أي: يذكِّر ويُنبِّه الغافلين، فلو تراكمتْ الغفلات تكوَّنَ الران الذي يحجب الرؤية ويُعمى البصيرة، لذلك لما شبه النبي صلى الله عليه وسلم غفلة الناس قال: " تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير عُوداً عُوداً ".
وفي رواية " عوذاً عوذاً " أي يستعيذ بالله أن يحدث هذا لمؤمن، فهل رأيتَ صانع الحصير حينما يضمُّ عُوداً إلى عُود حتى يُكوِّن الحصير؟ كذلك تُعرَض علينا الفتن، فإنْ جاء التذكير في البداية أزال ما عندك من الغفلة فلا تتراكم عليك الغفلات.
" فأيُّما قلب أُشْرِبها - يعني قَبلَها - العود تلو العود - نُكتَتْ فيه نكتة سوداء، وأيُّما قلب أنكرها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء، حتى تكون على قلبين - صدق رسول الله - على أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة، ما دامت السماوات والأرض. أو على أسود كالكوز مُجَخِّياً - يعني منكُوساً - لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً ".
قالوا: فذلك هو الرَّانُ الذي يقول الله فيه:{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىا قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[المطففين: 14] والذكر هو الذي يُجلِّي هذا الران.
} وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ { [الأنبياء: 48] ومن صفاتهم أنهم: } الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ... {

(/2513)


الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)


الخشية: الخوف بتعظيم ومهابة، فقد تخاف من شيء وأنت تكرهه أو تحتقره. فالخشية كأنْ تخاف من أبيك أو من أستاذ كأن يراك مُقصِّراً، وتخجلل منه أنْ يراك على حال تقصير. فمعنى الخوف من الله: أن تخاف أن تكون مُقصِّراً فيما طُلِب منك، وفيماً كلَّفك به؛ لأن مقاييسه تعالى عالية، وربما فاتكَ من ذَلك شيء.
وفي موضع آخر يشرح الحق سبحانه هذه المسألة، فيقول:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ... }[فاطر: 28] لماذا؟ لأنهم الأعلم بالله وبحكمته في كونه، وكلما تكشَّفَتْ لهم حقائق الكون وأسراره ازدادوا لله خشية، ومنه مهابة وإجلالاً؛ لذلك قال عنهم:{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ... }[النحل: 50] أي: أعلى منهم وعلى رؤوسهم، لكن بِحُبٍّ ومهابة.
ومعنى: { بِالْغَيْبِ... } [الأنبياء: 49] أنهم يخافون الله، مع أنهم لا يَروْنه بأعينهم، إنما يَرَوْنَه في آثار صُنْعه، أو بالغيب يعني: الأمور الغيبية التي لا يشاهدونها، لكن أخبرهم الله بها فأصبحت بَعْد إخبار الله كأنها مشهدٌ لهم يروْنَها بأعينهم.
أو يكون المعنى: يخشون ربهم في خَلَواتِهم عن الخَلْق، فمهابة الله والأدب معه تلازمهم حتى في خَلْوتهم وانفرادهم، على خلاف مَنْ يُظهِر هذا السلوك أمام الناس رياءً، وهو نمرود في خَلْوته.
وقوله تعالى: { وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء: 49] والإشفاق بمعنى الخوف أيضاً، لكنه خَوْفَ يصاحبه الحذر مما تخاف، فالخوف من الله مصحوب بالمهابة، والخوف من الساعة مصحوب بالحذر منها، مخافة أنْ تقوم عليهم قبل أنْ يُعِدوا أنفسهم لها إعداداً كاملاً يُفرحهم بجزاء الله ساعة يلقوْنَه. { وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ... }.

(/2514)


وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)


أي: كما جاءت التوراة { ذِكْراً... } [الأنبياء: 48] كذلك القرآن الذي نزل عليك يا محمد (ذكر)، لكنه { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ.. } [الأنبياء: 50] يقولون: هذا شيء مبارك يعني: فيه البركة، والبركة في الشيء أنْ يعطي من الخير فوق ما يتوقع فيه.
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسقي صحابته من قَعْب واحد من اللبن، ويُطعِم الجيش كله من الطعام اليسير القليل. وتسمعهم يقولون: فلان راتبة ضئيل، ومع ذلك يعيش هو وأولاده في كذا وكذا فنقول: لأن الله تبارك له في هذا القليل.
فمعنى { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ... } [الأنبياء: 50] أي: فيه من الخير فوق ما تظنون، فإياك أنْ تقولوا: إنه كتاب أحكام وتكاليف فحسْب، فالقرآن فيه صفة الخلود، وفيه من الأسرار ما لا ينتهي، فبركته تشمل جميع النواحي وجميع المجالات إلى أنْ تقوم الساعة. فمهما رددنا آياته نجدها جميلة مُوحِية مُعبّرة. فكل عصر يأتي بجديد، لا يخلق على كثرة الرد ولا تنقَضي عجائبه فهو مبارك لأن ما فيه من الخير يتجاوز عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وكل العصور والأعمار والقرون فيعطي كل يوم سراً جديداً من أسرار قائله سبحانه.
إذن: فالقرآن { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ... } [الأنبياء: 50] لأن ما فيه من وجوه الخير سيتجاوز العصر الذي نزل فيه، ويتجاوز كل الأعمار وكل القرون، فيعطي كل يوم لَوْناً جديداً من أسرار قائله والمتكلِّم به؛ لذلك يتعجّب بعدها من إنكار القوم له: { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [الأنبياء: 50] أَمِثْل هذا الكلام يُنكر؟
وسبق أنْ أوضحنا أقوالهم في القرآن.
منهم مَنْ قال: سحر. ومنهم من قال: شعر. ومنهم من قال كذب وأساطير الأولين، وهذا كله إفلاس في الحُجَّة، وتصيُّد لا معنى له، ودليل على تضارب أفكارهم.
ألم يقولوا هم أنفسهم:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31] إذن: هم يعرفون صِدْق القرآن ومكانته، وأنه من عند الله، ولا يعترضون عليه في شيء، إنما اعتراضهم على مَنْ جاء بالقرآن، وفي هذا دليل على أنهم ليست عندهم يقظة في تغفيلهم.
وتأمل: { وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ.. } [الأنبياء: 50] ولم يقل: هذا القرآن، كأنه لا يُشار إلا إلى القرآن. { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ... }.

(/2515)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)


نلاحظ أن الحق سبحانه بدأ تسليته لرسوله صلى الله عليه وسلم بذِكْر طرف من قصة موسى، ثم ثنَّى بقصة إبراهيم، مع أن إبراهيم عليه السلام سابقٌ لموسى، فلماذا؟ لأن موسى له صِلَة مباشرة باليهود وقريب منهم، وكان اليهود معه أهلَ جَدَل وعناد.
ومعنى { رُشْدَهُ... } [الأنبياء: 51] الرُّشْد: اهتداء العقل إلى الأكمل في الصلاح والأعلى في الخير، بحيث لا يأتي بعد الصلاح فسادٌ، ولا بعد الخير شر، ولا يُسلمك بعد العُلو إلى الهبوط، هذا هو الرُّشْد. أما أنْ يجرَّك الصلاح الظاهر إلى فساد، أو يُسلِمَك اليخر إلى شر، فليس في ذلك رُشْدٌ.
والآن نسمعهم يتحدثون عن الفنون الجميلة، ويستميلون الناس بشعارات برّاقة أعجبتْ الناس حتى وصلت بهم الجرأة إلى أنْ قالوا عن الرقص: فنٌّ راقٍ وفنّ جميل.. سبحان الله، الرقص كما قلتم لو أنه فعلاً راقٍ وجميل، وظل كذلك إلى آخر الطريق، ولم ينحدر إلى شيء قبيح وهابط، ماذا يحدث حين يجلس الرجل أمام راقصة تُبدِي من مفاتنها وحركاتها ما لا تُحسنه زوجته في البيت؟ كم بيوت خَرِبَتْ وأُسرَ تهدمت بسبب راقصة، فأيُّ رقيٍّ؟ وأيُّ جمال في هذا الفن؟!
لذلك؛ فالإمام علي - كرَّم الله وجهه - لخَّص هذه المسألة فقال: " لا شَرَّ في شَرٍّ بعده الجنة، ولا خيرَ في خير بعده النار ".
إذن: على الإنسان أن ينتبه إلى الرُّشْد الذي هو اهتداء العقل إلى الصالح الأعلى أو إلى الكمال الأعلى أو الخير الأعلى. وهذا الرُّشْد له اتجاهان: رُشْد البِنْية، ورُشْد المعنى.
رُشْد البِنْية وهو اكتمال تكوين الإنسان بحيث يُؤدِّي كل جهاز فيه وظيفته، وهذا لا يكون إلا بعد سِنِّ البلوغ، وقد جعل الخالق سبحانه استواء الأعضاء التناسلية دليلاً على اكتمال هذا الرُّشْد حين يصير المرء قادراً على إنجاب مثله.
وهذا واضح في الثمار حيث لا يحلو مذاقها إلا بعد نضجها واكتمال بذرتها لتكون صالحة للإنبات إذا زرعتها، وهذا من حكمة الخالق - سبحانه وتعالى - فنأكل الثمرة ونستبقي نوعها ببذرتها الصالحة، أما لو استوت الثمرة للأكل قبل نُضْج بذرتها لأكلنا الثمار الموجودة ولم نستبق نوعها فتنقرض.
لذلك، من حكمة الله أيضاً أن الثمرة إذا استوتْ ونضجَتْ ولم تجد مَنْ يقطفها تسقط من تلقاء نفسها، وتُجدِّد دورتها في الحياة.
ولأمر ما جعل الله التكليف بعد البلوغ، فلو كلّفك قبل البلوغ لوجدتَ في التكاليف نَهْياً عن بعض الأمور التي لا تعرفها ولا تدركها، وقد تعترض على ربك: كيف أفعل يا ربّ وقد جاءتني هذه الغريزة ففعلتْ بي كذا وكذا.
ولكل آلة وجهاز في جسم الإنسان رُشْد يناسبه، ونمو يناسب تكوينه، فمثلاً عَيْن الطفل وفمه وأصابع يده كلها تنمو نمواً مناسباً لتكوين الطفل.

أما الأسنان ففيها حكمة بالغة من الخالق عز وجل، فقد جعل للطفل في المرحلة التي لا يستطيع فيها تنظيفَ أسنانه بنفسه، ولا حتى يستطيع غيره تنظيفها جعل له (طقماً) احتياطياً من الأسنان، يصاحبه في صِغَره تُسمَّى الأسنان اللبنية، حتى إذا ما شَبَّ وكَبر واستطاع أنْ يُنَظّف أسنانه بنفسه أبدله الله (طَقْماً) آخر يصاحبه طوال عمره.
وهناك رُشْد أعلى، رُشْد فكري معنوي، رُشْد يستوي فيه العقل والتفكير ويكتمل الذِّهنْ الذي يختار ويُفَاضل بين البدائل، فقد يكتمل للمرء رُشْد البُنياني الجسماني دون أنْ يكتملَ عقله وفِكْره، وفي هذه الحالة لا نُمكِّنه من التصرف حتى نختبره، لنعلم مدى إحسانه للتصرف فيما يملك، فإنْ نجح في الاختبار فَلْنُعْطِه المال الذي له، يتصرف فيه كما جاء في قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىا حَتَّىا إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ... }[النساء: 6] أي: لا تنتظر حتى يكبر، ثم تعطيه ماله، يفعل فيه ما يشاء دون خِبْرة ودون تجربة، إنما تختبره وتَشْركه في خِضَمِّ الحياة ومعتركها، فيشبّ مُتمرِّساً قادراً على التصرف السليم.
وفي آية أخرى قال تعالى:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ... }[النساء: 5] لأنهم إن بلغوا الرشْد البدنيّ فلم يبلغوا الرُّشد العقلي، وإياك أن تقول: هو ماله يتصرف فيه كما يشاء، فليس للسفيه مال بدليل:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ... }[النساء: 5] ولم يقُلْ: أموالهم، فهو مالُكَ تحافظ عليه كأنه لك، وأنت مسئول عنه أمام الله، ولا يكون مال السَّفيه له إلا إذا أحسنَ التصرف فيه.
ومن الرُّشْد ما سماه القرآن الأشُدّ:{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىا وَالِدَيَّ... }[الأحقاف: 15].
والأشُدُّ هو: التسامي في الرُّشْد وقال هنا (أربعين سنة) مع أننا ذكرنا أن الإنسان يبلغ رُشْد البِنْية ورُشْد العقل بعد سِنَِّ البلوغ في الخامسة عشرة تقريباً، إذن: مَنْ لم يرشُدْ حتى الأربعين فلا أملَ فيه، والنار أَوْلَى به؛ لأنه حين يكفر أو ينحرف عن الطريق في عنفوانه شبابه وقوته نقول: شراسة الشباب والشهوة والمراهقة، إلى آخر هذه الأعذار فإذا ما بلغ الأربعين فما عذره؟
وإذا لم يتلقَّ مبادئ الرُّشْد في صِغَره وفي شبابه، فلا شَكَّ أنه سيجد في أحداث الحياة طوال أربعين سنة واقعاً يُرشده قَهْراً عنه، حيث يرى أعماله وعواقبها وأخطاءه وسقطاته، وينبغي أنْ يأخذ منها درساً عملياً نظرياً في الرُّشْد.
ومن ذلك ما نسمعه من مصطلحات معاصرة يقولون " الرشد السياسي " ويقولون " ترشيد الاستهلاك " ، ما معنى هذه المصطلحات؟ معناها أن أحداث الحياة وتجاربها وعدم الرُّشْد في مسيرتهم عضَّت الناس، وألجأتْهم إلى التفكير في ترشيد يُذهب هذا الفساد.
إذن: فالرُّشْد للذات والترشيد للغير كما نفعل في ترشيد استهلاك القمح مثلاً وكنا نعلف به المواشي، حتى أصبحنا لا نجده؛ لذلك بدأنا في ترشيد استهلاك رغيف الخبز وصِرْنا نقسمه أربعة أقسام، ونأكل بحساب، ولا نهدر شيئاً، وما يتبقى يتبقى نظيفاً نأكله في وَجْبة أخرى.

وقد لا يكون عند الخباز نفسه ترشيد، فيُخرج الرغيف قبل استوائه فتجده عجيناً، كله لبابة، فتأتي ربة البيت الواعية فتفتح الرغيف قبل وضعه على المائدة، وتُخرِج منه هذه البابة، وتجمعها ثم تُحمِّصها في الفرن، وتصنع منها طعاماً آخر.
وما يقال في " ترشيد الخبز " يقال في " ترشيد الماء " ، وقد أمرنا رسول الله بترشيد استهلاك الماء حتى في الوضوء الذي هو قربي إلى الله.
هذا الرُّشْد الذي وصفنا رُشْد كل عاقل غير الرسل، وهو أنه يهتدي إلى قضايا حياته، ويتصرّف فيها تصرفاً سليماً، إنما مقتضى نتيجة هذا الصلاح في الدنيا، أما الرسل فلهم رُشْد آخر، رُشْد أعلى للدنيا وللآخرة، وهذه هبة من الله للرسل.
قال تعالى في حَقٍّ إبراهيم عليه السلام: } وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ... { [الأنبياء: 51] وكأن رُشْد إبراهيم لا يخضع لهذه القواعد، ولا يرتبط ببلوغ، ولا نبوة، بل هو رُشْد سابق لأوانه منذ أنْ كان صغيراً يتأمل في النجوم ويبحث عن ربه:{ فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـاذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـاذَا رَبِّي هَـاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }[الأنعام: 77-78].
فكان - عليه السلام - مُؤهِّلاً للرسالة منذ صِغَره، ولما أُرسل ونُبِّيء ظهرتْ مواهب رُشْده حين أُلقِي في النار، وجاءه جبريل - عليه السلام - يعرض عليه المساعدة، فيقول إبراهيم: أما إليك فلا. وهذه أول بشائر الرشد الفكري والعقدي عند إبراهيم.
وفي حَقِّه قال تعالى:{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ... }[البقرة: 124] أي: اختبره في أشياء فأتمهُنَّ وأتى بِهنّ على أكمل وجه، منها: أنه طلب منه أنْ يرفعَ قواعد البيت، وكان يلفي أن يرفع إبراهيم قواعد البيت إلى ما تطول يده، إنما إبراهيم قواعد البيت إلى ما تطول يده، إنما إبراهيم عليه السلام كان حريصاً أنْ يتم الأمر على أكمل وجه، فيفكر ويحتال في أنْ يأتيَ بحجر ويقف عليه ليرفع البناء بمقدار الحجر، ويساعده ولده الصغير إسماعيل فيناوله الحجارة، لكن الولد الصغير تتزحلق قدماه حينما يرفع الحجارة لأبيه، فيحتال على هذا الأمر فيحفر في الحجر على قَدْر قدميه حتى يثبت، وهاتان القدمان نشاهدهما حتى الآن في حِجْر إسماعيل.
إذن: كان عنده عِشْق لللتكاليف وحِرْص على إتمامها.
وقوله تعالى: } وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ { [الأنبياء: 51] هذا واضح في قوله تعالى:{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ... }[الأنعام: 124]. } إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ... {.

(/2516)


إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)


أي: اذكر يا محمد، إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه { مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ... } [الأنبياء: 52].
والتماثيل: جمع تمثال، وهو مأخوذ من مِثْل أو مَثَل، ومِثْل الشيء يعني: شبيهه ونظيره، وكانوا يعمدون إلى الأشياء التي لها جِرْم ويُصورِّونها على صورة أشياء مخلوقة لله تعالى، كصورة الإنسان أو الحيوان، من الحجر أو الحديد أو الخشب أو غيرها ويُسمُّونه تمثالاً، ويُقيمونه ليعبدوه.
وكانوا يبالغون في ذلك: فهذا من الحجر، وهذا من المرمر، وهذا صغير، وهذا كبير، وقد يضعون في عينيه خرزتين ليظهر للرائي أن له نظراً، وهي ألوان من التفنن في هذه الصناعة.
فإبراهيم - عليه السلام - يقول مستنكراً لأبيه وقومه { مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء: 52].
فالاستفهام هنا على غير حقيقته، بل هو استفهام إنكاري يحمل لهجة الاستهزاء والسخرية والتقريع، ولا بد أنه ألقى عليهم هذا السؤال بشكل أدائي يُوحي بالتقريع.
وسبق أنْ تحدّثنا في معنى (أبيه) هنا وقلنا: المراد عَمُّه، بدليل قوله في موضع آخر:{ لأَبِيهِ آزَرَ... }[الأنعام: 74] فقد بدأ المسألة بأبيه أو عمه، وهو أقرَبُ الناس إليه، يريد أن يطمئنَ الناسُ إلى ما يدعو إليه، وأنه خير، وإلا ما بدأ بأبيه.
وأيضاً لأن القوم قد لا يكونُ لهم في نفسه تأثير هَيْبة أو حُبٍّ إنما الهيبة والحب موجود بالنسبة لأبيه أو لعمه، ومع ذلك لم تمنعه هذه الهيبة أنْ يُسقِّه كلامهم وأفعالهم الباطلة، كما جاء في قول الله تعالى:{ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىا يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[التوبة: 24].
وقد وقف المفسرون عند اللام في قوله تعالى: { لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء: 52] مع أن المعنى: يعكفون على عبادتها، كما جاء في آية أخرى:{ فَأَتَوْاْ عَلَىا قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىا أَصْنَامٍ لَّهُمْ... }[الأعراف: 138] وهنا جاءت باللام؛ لذلك قال بعضهم: اللام هنا بمعنى على، فلماذا عدَل عن علي إلى اللام؟
ولو تنبَّهنا لمعطيات الألفاظ { لَهَا عَاكِفُونَ } [الأنبياء: 52] نقول: الاعتكاف: هو الإقامة. فلان عاكف في المسجد يعني: على الإقامة في المسجد، فكلمة عاكفون وحدها تعطي معنى (على) أي: لصالح هذه الآلهة. أمّا اللام فلشيء آخر، اللام هنا لام الملكية والنفعية. وذكروا لها مثالاً آخر في قوله تعالى:{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ... }[الأنبياء: 104].
السِّجل هو: القرطاس والورق الذي نكتب فيه، ومنه قولهم: نُسجِّل كذا يعني: نكتبه في السِّجل أو الورق لتحفظ، ومعنى{ لِلْكُتُبِ... }[الأنبياء: 104] يعني: الشيء المكتوب، فكأن المعنى: نطوي الورق على ما كُتِب فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا... }.

(/2517)


قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)


إذن: لا حُجَّة لهم في عبادتهم لهذه التماثيل التي صنعوها وأقاموها بأنفسهم، إلا أنهم رَأَوْا آباءهم يعبدونها، فحُجَّتهم التقليد الأعمى، ولو كان عندهم حجة لذاتية العمل لَقالُوها.
وفي موضع آخر قالوا:{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىا آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }[الزخرف: 23] إذن: نعيب عليهم هذا التقليد ونعيب على آبائهم أيضاً، فكيف يكون رَدُّ إبراهيم إذن؟
وكلمة { عَابِدِينَ } [الأنبياء: 53] هنا تعبير عن أن عبادتهم لهم عبادة عن غير فَهْم، لأن العبادة طاعة عباد لأوامر معبوده، فبماذا أمرتهم الأصنام؟
ثم يقول الحق سبحانه عن إبراهيم أنه قال لقومه: { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ... }.

(/2518)


قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)


أراد أنْ يُرشِّد هذا السِّفَه فقال: أنتم في ضلال؛ لأنكم قلّدتم في الإيمان، والإيمان لا يكون بالتقليد، وآباؤكم لأنهم اخترعوا هذه المسألة وسَنُّوهَا لكم.
ومن العجيب أنْ يُقلِّدوا آباءهم في هذه المسألة بالذات دون غيرها، وإلاَّ فَمن الذي يظل على ما كان عليه أبوه، ونحن نرى كُلَّ جيل يأتي بجديد مِمَّا لم يكُنْ معروفاً للجيل السابق.
لذلك يقولون: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، فلكُل زمن وَضْعه وارتقاءاته، وأنت تتحكم في ولدك ما دام صغيراً، فيأكل الولد ويشرب ويلبس حَسْب ما تحب أنت، فإذا ما شبَّ وكَبِر صارتْ له شخصيته الخاصة وفِكْره المستقِلّ، فيختار هو مَأكله ومَلْبسه، والكلية التي يدخلها، وربما انتقدكَ في بعض الأمور.
إذن: هؤلاء قلَّدوا آباؤهم في هذه المسألة دون غيرها، فلماذا مسألة الإيمان بالذات تتمسَّكون فيها بالتقليد؟ ولو أن كُلَّ جيل جاء صورة طِبْق الأصل لسابقه لما تغيَّر وَجْه الحياة، ففي هذا دلالة على أن لكل جيل ذاتيته المستقلة وفِكْره الخاص.
لقد قلَّد هؤلاء آباءهم في هذه العبادة دون غيرها من الأمور؛ لأنها عبادة وتديُّن بلا تكليف، وآلهة بلا منهج، لا تُضيِّق عليهم في شيء، ولا تمنعهم شيئاً مما أَلِفُوه من الشهوات، فهو تديُّن بلا تَبِعة.
لذلك؛ فالحق سبحانه يردُّ عليهم في أسلوبين مختلفين، فمرة يقول تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[البقرة: 170].
وفي موضع آخر يقول:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[المائدة: 104].
ونلحظ أن عَجُزَ الآيتين مختلف، فمرة:{ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً... }[البقرة: 170] ومرة:{ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً... }[المائدة: 104] فلماذا؟
قالوا: لأن عَجُزَ كل آية مناسب لصَدْرها، وصَدْر الآيتين مختلف، ففي الأولى قالوا:{ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ... }[البقرة: 170] فيمكن أن نتبع هذا أو هذا، دون أنْ يقصروا أنفسهم على شيء واحد.
وفي الثانية قالوا:{ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ... }[المائدة: 104] يعني: يكفينا، ولا نريد زيادة عليه، فَقصَروا أنفسهم على ما وجدوا عليه آباؤهم.
لذلك قال في عَجُز الأولى:{ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً... }[البقرة: 170] وفي عَجُز الثانية{ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً... }[المائدة: 104] لأن العاقل هو الذي يهتدي إلى الأمر بذاته.
أمّا الذي يعلم فيعلم ما عَقِله هو، وما عَقِله غيره، إذن: فدائرة العلم أوسع من دائرة العقل؛ لأن العقل يهتدي للشيء بذاته، أمَّا العلم فيأخذ اهتداء الآخرين.
فكان ردُّهم: { قَالُواْ أَجِئْتَنَا... }.

(/2519)


قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)


يعني: أهذا الكلام يا إبراهيم جدٌّ؟ أم أنك تَهْزِر معنا؟ كأنهم يستبعدون أن يكون كلام إبراهيم جِدّاً؛ لأنه بعيد عن مداركهم. { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ... }.

(/2520)


قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)


يردّ إبراهيم: لقد جئتكم بالحق الذي يقول: إن هذه الأصنام لا تُعبد، بل الذي يستحق العبادة هو الله ربُّ السماوات والأرض: { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ... } [الأنبياء: 56] فـ (بل) تُضرب عما قبلها، وتُثبِت الحكم لما بعدها { الَّذِي فطَرَهُنَّ... } [الأنبياء: 56] يعني: خَلق السماوات والأرض والأصنام، وكل ما في الوجود.
{ وَأَنَاْ عَلَىا ذالِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [الأنبياء: 56] والشاهد هو الذي اهتدى إلى الحق، كأنه رَأْى العَيْن، وليس مع العين أَيْن، واهتدى إلى الدليل على هذا الحق، فقال: أنا شاهد على أن ربكم ربّ السماوات والأرض ومعي الدليل على هذه الحقيقة. { وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ... }.

(/2521)


وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)


بعد ما حدث منهم من لجج وجدال بالباطل أقسم إبراهيم عليه السلام { وَتَاللَّهِ... } [الأنبياء: 57] والتاء هنا للقسم { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ... } [الأنبياء: 57] وهل الأصنام تُكَاد؟ أم أن المراد: لأكيدنكم في أصنامكم؟ فالأصنام كمخلوق من مخلوقات الله تُسبِّح لله، وتشكر إبراهيم على هذا العمل.
وما أجمل ما قاله الشاعر في هذا المعنى حين تكلَّم بلسان الأحجار في غار حراء وغار ثور، حيث كانت الحجارة تَغَارُ وتحسد حِراء؛ لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يتعبَّد به قبل البَعْثة، فحِراء شاهدُ تعبُّد لرسول الله يزهو بهذه الصحبة، فلما نزل رسول الله بغار ثور عند الهجرة فرح ثور؛ لأنه صار في منزلة حراء:كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرَى الرُّوحَ أميناً يغزُوك بالأَنْوارِفَحِرَاءُ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً بهِمَا تشفع لدولةِ الأحْجَارِعَبَدُونَا ونحْنُ أعبَدُ لله مِنَ القائِمينَ بالأسْحَارِتخِذُوا صَمْتَنَا عليْنَا دَليلاً فَغدَوْنا لَهُمْ وقُودَ النَّارِلأن الله قال:{ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ... }[البقرة: 24].قَدْ تَجَنَّوْا جَهْلاً كما قَدْ تَجنَّوْهُ علَى ابْنِ مرْيَم والحَوارِيلِلْمُغَالِي جَزَاؤُهُ والمغالَي فِيهِ تٌنجيهِ رَحْمةُ الغَفَّارإذن: فتحطيم الأصنام ليس كَيْداً للأصنام، بل لعُبَّادها الذين يعتقدون فيها أنها تضرُّ وتنفع، وكأن إبراهيم - عليه السلام - يقيم لهؤلاء الدليل على بطلان عبادة الأصنام، الدليل العملي الذي لا يُدْفَع وكأن إبراهيم يقول بلسان الحال: حين أُكسِّر الأصنام إنْ كنتُ على باطل فليمنعُوني وليردّوا الفأْسَ من يدي، وإنْ كنتُ على حق تركوني وما أفعل.
وقوله تعالى: { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } [الأنبياء: 57] أي: بعد أنْ تنصرفوا عنها. يعني: على حين غَفْلة منهم.
ثم يقول الحق سبحانه: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً... }.

(/2522)


فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)


ونلحظ هنا أن السياق القرآني يحذف ما يُفهم من الكلام، كما في قصة سليمان - عليه السلام - والهدهد:{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }[النمل: 28] وحَذْف ما كان من الهدهد ورحلته إلى بلقيس، وإلقائه الكتابَ إليها، وأنها أخذتْه وعرضتْه على مستشاريها:{ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل: 29].
ومعنى { جُذَاذاً... } [الأنبياء: 58] أي: قطعاً متناثرة وحطاماً، بعد أنْ كانت هياكل مجتمعة { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ.. } [الأنبياء: 58] أي: أنه تركه فلم يحطمه، وقد كانوا يضعون الأصنام على هيئة خاصة و (ديكور)، بحيث يكون الكبير في الوسط، وحوله الأصنام الصغيرة يعني: كأن له سيطرةً عليهم ومنزلة بينهم، وكانوا يضعون في عينه الزبرجد، حتى يُخيَّل لمَنْ يراه أنه ينظر إليه.
وقوله: { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء: 58] فيسألونه عَمَّا حدث لأولاده الآلهة الصغار، ولماذا لم يدافع عنهم خاصةً وقد وجدوا الفأْس على كتفه؟ { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـاذَا... }.

(/2523)


قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)


أي: لما ذهبوا إلى المعبد الذي يعبدون فيه أصنامهم وجدوها مُحطمة فقالوا: { مَن فَعَلَ هَـاذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 59] لأنه اعتدى على الآلهة السليمة وكسَّرها.
إذن: هذه الآلهة لا تستطيع أنْ تدفع عن نفسها الضر، وكان عليهم أنْ يتنبّهوا إلى هذه المسألة، كيف يقبَلُون عبادتها، ولو أوقعت الريحُ أحدهم لكسرته، فيحتاج الإله إلى مَنْ يُصلِح ذراعه ويُرمِّمه ويُقيمه في مكانه، فأيُّ ألوهية هذه التي يدافعون عن حقوقها؟!

(/2524)


قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)


أي: تطوع بعضهم وقالوا هذا، وكان للقوم يوم مُحدّد يذهبون فيه إلى معبدهم ومكان أصنامهم، ويأخذون طعامهم وشرابهم، ويبدو أنه كان يَوْمَ عيد عندهم، وقد استعدّ آزر لهذا اليوم، وأراد أنْ يأخذ معه إبراهيم لعلَّ الآلهة تجذبه فيهتدي وينصرف عَمَّا هو فيه.
لكن إبراهيم عليه السلام ادّعى أنه مريض، لا يستطيع الخروج معهم، فقال{ إِنِّي سَقِيمٌ }[الصافات: 89] وعندها عزم إبراهيم على تحطيم أصنامهم وقال:{ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ }[الأنبياء: 57] سمعه بعض القوم فأخبرهم بأمره.
{ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ... } [الأنبياء: 60] والذكْر هنا يعني بالشر بالنسبة لهم، { يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء: 60] يعني: اسمه إبراهيم، أو حين نناديه نقول: يا إبراهيم.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىا أَعْيُنِ... }.

(/2525)


قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)


ومعنى { عَلَىا أَعْيُنِ النَّاسِ... } [الأنبياء: 61] يعني: على مَرْأىً منهم ليشاهدوه بأعينهم { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } [الأنبياء: 61] أي: يشهدون ما نُوقِعه به من العذاب حتى لا يجترئ أحد آخر أنْ يفعل هذه الفِعْلة، ويكون عبرةً لغيره. { قَالُواْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ... }.

(/2526)


قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)


هنا أيضاً كلام محذوف: فأتَوْا به، ثم سألوه هذا السؤال، والاستفهام { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـاذَا } [الأنبياء: 62] استفهام عن الفاعل؛ لأن الفعلَ وضاح لا يحتاج إلى استفهام؛ لذلك لم يقُلْ: أفعلتَ هذا يا إبراهيم، بل اهتم بالفاعل: { أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـاذَا.. } [الأنبياء: 62] كما تقول: أبنيتَ الدار التي كنت تنوي بناءها؟ فهذا استفهام عن الفِعْل، إنما أأنت بنيت الدار، فالمراد الفاعل. { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ... }.

(/2527)


قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)


وكأنه يريد أنْ ينتزعَ منهم الإقرار بأن هذا الكبير لا يفعل شيئاً، فيُواجههم: فلماذا - إذن - تعبدونهم؟
وقَوْل إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا... } [الأنبياء: 63] فيه توبيخ وتبكيت لهم، حيث رَدَّ الأمر إلى مَنْ لا يستطيعه ولا يتأتّى منه، وقد ضرب الزمخشري - رحمه الله - مثلاً لذلك برجل جميل الخطِّ، وآخر لا يُحسِن الكتابة، فيرى الأخيرُ لوحة جميلة، فيقول للأول: أأنت كاتب هذه اللوحة؟ فيقول: لا بل أنت الذي كتبتَها!! تبكيتاً له وتوبيخاً.
ثم يُصرِّح إبراهيم لهم بما يريد: { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [الأنبياء: 63] وهم لن يسألوهم؛ لأنهم يعرفون حقيقتهم. { فَرَجَعُواْ إِلَىا أَنفُسِهِمْ... }.

(/2528)


فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)


أي: تنبّهوا وعادوا إلى عقولهم، ونطقوا بالحق: { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ } [الأنبياء: 64] يعني: بعبادتكم هذه الأصنام، وأنتم تعلمون أنها لا تنفع ولا تضرُّ، ولا ترى ولا تتكلم.
هكذا واجهوا أنفسهم بهذه الحقيقة وكشفوا عن بطلان هذه العبادة، لكن هذه الصحوة ستكون على حسابهم، وخسارتهم بها ستكون كبيرة، هذه الصحوة ستُفقِدهم السُّلْطة الزمنية التي يعيشون في ظلها، وينتفعون من ورائها بما يُهدَي للأصنام؛ لذلك سرعان ما يتراجعون ويعودون على أعقابهم بعد أن غلبهم الواقع وتذكَّروا ما تجرُّه هذه الصحوة. { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىا رُءُوسِهِمْ... }.

(/2529)


ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)


فبعد أنْ جابهوا أنفسهم بالحق { نُكِسُواْ عَلَىا رُءُوسِهِمْ... } [الأنبياء: 65] والنكسة: أن الأعلى يأتي في الأسفل، وأنتم تعلمونها طبعاً!! ورجعوا يقولون له نفس حجته عليهم: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـاؤُلاءِ يَنطِقُونَ } [الأنبياء: 65] وهذا هو التغفيل بعينه.
ثم يقول الحق سبحانه: { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ... }.

(/2530)


قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)


يعني: لا ينفعكم بشيء إنْ عبدتموه ولا يضرّكم بشيء إنْ تركتم عبادته. { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ... }.

(/2531)


أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)


أفٍّ: اسم فعل بمعنى أتضجر، فليس اسماً، ولا فعلاً، ولا حرفاً، إنما (أف) اسمٌ مدلوله فعل، ففيه من الاسمية، وفيه من الفعلية؛ لذلك يسمونها " الخالفة " لأن كلام العرب يدور على اسم أو فعل أو حرف، مثل هيهات: اسم فعل بمعنى بَعُدَ. فإبراهيم - عليه السلام - يعبِّر بهذه الكلمة (أُفٍّ) عن ضيقه وتضجُّره ممَّا يفعل قومه من عبادة الأصنام من دون الله. { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ... }.

(/2532)


قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)


ونلحظ قولهم { حَرِّقُوهُ.. } [الأنبياء: 68] بالتضعيف الدالّ على المبالغة، ولم يقولوا مثلاً: احْرٍقوه، وقد اجتمعوا على هذا الفعل فبنَوْا بناءً وضعوا فيه النار، ومكثوا أربعين يوماً يسجرونها بكل ما يمكن أن يشتعل، وبذلك اشتدت حرارة النار، حتى إن الطير الذي يمرُّ فوق هذه النار كان يسقط مشوياً من شدة حرها.
والدليل على ذلك أنهم لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار لم يستطيعوا الاقتراب منها لشدة لَفْحها، فصنعوا له منِجنيقاً لِيُلْقُوه به في النار من بعيد.
وقولهم: { وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ... } [الأنبياء: 68] حسب اعتقادهم كأن المعركةَ بين إبراهيم والآلهة، والحقيقة أن الآلهة التي يعبدونها مع إبراهيم وليست ضده، فالمعركة - إذن - بين إبراهيم وبين عُبَّاد الأصنام.
وقولهم: { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 68] يعني: إنْ فعلتم شيئاً بإبراهيم فَحرِّقوه.
ثم يقول الحق سبحانه عن إنجائه لإبراهيم - عليه السلام - من هذه المَحْرقَة: { قُلْنَا يانَارُ كُونِي... }.

(/2533)


قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)


جاء هذا الأمر من الحق الأعلى سبحانه؛ ليخرق بالمعجزة نواميس الكون السائدة، ولا يخرق الناموسَ إلا خالقُ الناموس، كما قلنا في قصة موسى عليه السلام: الماء قانونه السيولة والاستطراق، ولا يسلبه هذه الخاصية إلا خالقه؛ لذلك فَرَقه لموسى فُرْقاناً - كما قلنا - كلُّ فِرْق كالطَّوْد العظيم، فلا يُعطّل قانون الأشياء إلا خالقها؛ لأن الأشياء لم تُخلق لتكون لها القدرة على قيُّومية نفسها، بل مخلوقة تُؤدِّي مهمة، والذي خلقها للمهمة هو القادر أنْ يسلبَها خواصّها.
وفَرْق بين فِعْل العبد وفِعْل الحق سبحانه: فلو أنَّ في يدك مسدساً، وأنت تُحسِن التصويب، وأمامك الهدف، ثم أطلقتَ تجاه الهدف رصاصة، أَلَكَ تحكُّمٌ فيها بعد ذلك؟ أيمكن أنْ تأمرها أن تميلَ يميناً أو شمالاً؟
لكن الحق سبحانه يتحكّم فيها، ويُسيِّرها كيف يشاء، فالحق سبحانه خلق النار وخلق فيها خاصية الإحراق، وهو وحده القادر على سَلْب هذه الخاصية منها، فتكون ناراً بلا إحراق، فليس للنار قيومية بذاتها.
لذلك يقول البعض: بمجرد أنْ صدر الأمر: { يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً... } [الأنبياء: 69] انطفأت كل نار في الدنيا، فلما قال: { عَلَىا إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69] أصبح الأمر خاصاً بنار إبراهيم دون غيرها، فاشتعلت نيران عدا هذه النار. ونلحظ أن الحق سبحانه قيَّد بَرْداً بسلام؛ لأن البرد المطلق يؤذي.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً... }.

(/2534)


وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)


والمراد بالكيد هنا مسألة الإحراق، ومعنى الكيد: تدبير خفيّ للعدو حتى لا يشعر بما يُدبَّر له، فيحتاط للأمر، والكيد يكون لصالح الشيء، ويكون ضده، ففي قوله تعالى:{ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ... }[يوسف: 76].
أي: لصالحه فلم يقُلْ: كِدْنا يوسف إنما كِدْنا له، وقالوا في الكيد: إنه دليل ضعف وعدم قدرة على المواجهة، فالذي يُدبِّر لغيره، ويتآمر عليه خُفْية ما فعل ذلك إلاّ لعدم قدرته على مواجهته.
لذلك يقولون: أعوذ بالله من قبضة الضعيف، فإنِّي قويٌّ على قبضة القوى. فإذا ما تمكّن الضعيف من الفرصة لا يدعها؛ لأنه لا يضمنها في كل وقت، أما القوى فواثق من قوته يستطيع أن ينال خَصْمه في أيِّ وقت، ومن هنا قال الشاعر:وَضَعِيفَةً فَإِذَا أَصَابَتْ فُرْصَة قتلتْ كَذلِكَ قْدْرَةُ الضِّعفَاءِلذلك استدلوا على ضعف النساء بقوله تعالى:{ ِإِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }[يوسف: 28] وما دام أن كيدهن عظيم، فضعفُهن أيضاً عظيم أو حتى أعظم.
ثم قول تعالى: { فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ } [الأنبياء: 70] والأخسرون جمع أخسر، على وزن أفعل؛ ليلد على المبالغة في الخُسْران، وقد كانت خسارتهم في مسألة حَرْق إبراهيم من عِدَّة وجوه: أولاً أن إبراهيم عليه السلام لم يُصِبْه سوء رغم إلقائه في النار، ثم إنهم لم يَسْلَموا من عداوته، وبعد ذلك سيجازون على فِعْلهم، هذا في الآخرة، فأيُّ خُسْران بعد هذا؟
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى... }.

(/2535)


وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)


{ وَنَجَّيْنَاهُ... } [الأنبياء: 71] يعني: كان هناك شرٌّ يصيبه، وأذىً يلحق به، فنجّاه الله منه، وهذه النجاة مستمرة، فبعد أنْ أنجاه الله من النار أنجاه أيضاً مِمَّا تعرَّض له من أَذَاهم.
{ وَلُوطاً... } [الأنبياء: 71] وكان لوط عليه السلام ابنَ أخ إبراهيم { إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 71] أي: قلنا لإبراهيم: اترك هذه الأرض - وهي أرض بابل من العراق - واذهب إلى الأرض المقدسة بالشام، وخُذْ معك ابن أخيك، فبعد أنْ نجاهما الله لم يتركهما في هذا المكان، بل اختار لهما هذا المكان المقدس.
والأرض حينما تُوصَف يُراد بها أيضاً مُحدَّدة مخصوصة، فإذا لم تُوصَف فتطلق على الأرض عامة إلا أن يعينها سياق الحال، فمثلاً لما قال أخو يوسف:{ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىا يَأْذَنَ لِي أَبِي... }[يوسف: 80] فالسياق يُوضِّح لنا أنها أرض مصر.
لكن قوله:{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ... }[الإسراء: 104] فلم تُعيَّن، فدلَّ ذلك على أنها الأرض عامة، اسكنوا كُلَّ الأرض، يعني: تبعثروا فيها، ليس لكم فيها وطن مستقل، كما قال في آية أخرى:{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً... }[الأعراف: 168].
فإذا أراد الله تجمعوا من الشتات{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ... }[الإسراء: 104] أي: المرة التي سينتصرون فيها{ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }[الإسراء: 104] وهكذا يتجمَّعون في مكان واحد، فيسْهُلُ القضاء عليهم.
ومعنى { بَارَكْنَا فِيهَا... } [الأنبياء: 71] البركة قد تكون مادية أو معنوية، وهي الزروع والثمار والأنهار والخيرات، أو بركة معنوية، وهي بركة القِيَم في الأرض المقدسة، وهي أرض الأنبياء، ومعالم النبوة والرسالات.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ... }.

(/2536)


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)


يعطينا الحق سبحانه هنا لقطةً من قصة إبراهيم لكن بعيدة عَمّا نحن بصدده من الحديث عنه، فقد وهب الله لإبراهيم إسحق لما دعا الله قال:{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ }[الصافات: 100] مع أنه كان عنده إسماعيل، لكن إسماعيل من هاجر، وقد تحركت مشاعر الغَيْرة لدى سارة، ووجدت في نفسها ما تجده النساء في مسألة الولد، وكيف يكون لإبراهيم ولد من هاجر التي زوَّجتها له دون أن يكون لها مِثْله.
لذلك ألحَّتْ سارة على إبراهيم أن يدعو الله أنْ يرزقها الولد، فدعا إبراهيم ربه، وأراد الحق سبحانه أن يجيب إبراهيم، وأن يُحقِّق له له ما ترجوه زوجته، لكن أراد أن يعطيه هذا الولد في ملحظ عقدي يُسجَّل ولا يزول عن الأذهان أبداً، ويظلُّ الولد مقترناً بالحادثة.
فبداية قصة إسحق لما أمر الله نبيه إبراهيم في الرؤيا أن يذبح ولده إسماعيل، فأخبره برؤياه:{ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَىا فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىا... }[الصافات: 102].
أراد إبراهيم أنْ يُشرك ولده معه في هذا الاختبار، وألاَّ يأخذه على غِرَّة حتى لا تتغير نفسه نحو أبيه فيكرهه وهو لا يعلم ما حدث، وأراد أيضاً ألاَّ يحرم ولده من الثواب والأجر على هذه الطاعة وهذا الصبر على البلاء.
أما إسماعيل فمن ناحيته لم يعارض، ولم يقُلْ مثلاً: يا أبت هذه مجرد رؤيا وليست وحياً، وكيف نبني عليها، بل نراه يقول:{ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ }[الصافات: 102] ولم يقُلْ: أفعل ما تقول، فما دام الأمر من الله فافعل ما أمرتَ به{ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }[الصافات: 102].
{ فَلَمَّا أَسْلَمَا... }[الصافات: 103] أي: هما معاً إبراهيم وإسماعيل{ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ... }[الصافات: 103] يقال: تله يعني جعل رأسه على التل، وهو المكان المرتفع من الأرض، و{ لِلْجَبِينِ }[الصافات: 103] يعني: جعل جبهته مباشرة للأرض، بحيث يذبحه من قفاه، وهذا هو الذَّبْح العاجل المثمر.
{ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ... }[الصافات: 104-105] وما دُمْتَ صدّقْتَ الرؤيا، فلكَ جزاء الإحسان؛ لأنك أسرعتَ بالتنفيذ مع أنها رؤيا، كان يمكنه أن يتراخى في تنفيذها، لكنه بمجرد أن جاء الأمر قام وولده بتنفيذه.
إذن: الحق سبحانه لا يريد من عبده إلا أنْ يُسلِّم بقضائه، وصدق القائل:سَلِّم لربِّكَ حُكْمَهُ فلحكمةٍ يَقْضِيـ ـه حتى تستريح وتنْعماًواذْكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْحِ ابنهِ إذ قال خالقه فلما أسلمَالذلك لا يرفع الله قضاءٌ يقضيه على خلقه إلا إذا رُضيَ به، فلا أحدَ يجبر الله على شيء، وضربنا لذلك مثلاً - ولله المثَل الأعلى - بالأب حين يدخل، فيجد ولده على أمر يكرهه، فيزجره أو يضربه ضربة خفيفة، تُعبِّر عن غضبه، فإنْ خضع الولد لأبيه واستكان عاد الوالد عطوفاً حانياً عليه وربما احتضنه وصالحه، أمّا لو عارض الولد وتبجَّح في وجه والده فإنه يشتد عليه ويُضاعِف له العقوبة، وتزداد قسوته عليه.

وهكذا الحال مع إبراهيم{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }[الصافات: 107] ففدينا له إسماعيل، ليس هذا وفقط بل{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ... }[الصافات: 112] ثم زاده بأنْ جعل إسحق أيضاً نبياً مثل إسماعيل، هذه هي مناسبة الكلام عن إسحق ويعقوب.
هنا يقول تعالى: } وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً.. { [الأنبياء: 72] والنافلة: الزيادة، وقط طلب من ربه ولداً من الصالحين، فبشَّره الله بإسحق ومن بعده يعقوب وجميعهم أنبياء؛ لذلك قال } نَافِلَةً... { [الأنبياء: 72] يعني: أمر زائد عما طلبتَ؛ فإجابة الدعاء بإسحق، والزيادة بيعقوب، وسرور الإنسان بولده كبير، وبولد ولده أكبر، كما يقولون: " أعز من الوِلْد وِلْد الولد " والإنسان يضمن بقاء ذِكْره في ولده، فإن جاء ولد الولد ضَمِن ذِكْره لجيل آخر.
والهبة جاءت من الله؛ لأن المرأة لم تكُنْ صالحة للإنجاب، بدليل قوله تعالى:{ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ }[الذاريات: 29] فردَّ عليها:{ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ... }[هود: 73] أي: أنه سبحانه قادر على كل شيء.
ويقولالحق سبحانه: } وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ { [الأنبياء: 72] فالحفيد نافلة وزيادة في عطاء الذرية، ومبالغة في الإكرام، ثم يمتن الله على الجميع بأن يجعلهم صالحين، ويجعلهم أنبياء، كما قال في آية أخرى:{ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً }[مريم: 49]. } وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا... {.

(/2537)


وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)


أئمة: ليس المقصود بالإمامة هنا السُّلْطة الزمنية من باطنهم، إنما إمامة القدوة بأمر الله { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا.. } [الأنبياء: 73] فهم لا يصدرون في شيء إلا على هُدًى من الله.
وقوله تعالى: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ... } [الأنبياء: 73] أي: يفتح لهم أبواب الخير ويُيسِّر لهم ظروفه؛ لأن الموفّق الذي يتوفر لديه الاستعداد للخير يفتح الله له مصارف الخير ويُعينه عليه.
{ وَإِقَامَ الصَّلاَة وَإِيتَآءَ الزَّكَـاةِ.. } [الأنبياء: 73] وإقامة الصلاة هي: عَيْن الخيرات كلها؛ لأن الخيرات نعمة، لكن إقامة الصلاة حضرة في جانب المنعم سبحانه، فالصلاة هي خَيْر الخَيْر.
ومع ذلك نجد مَنْ يتشاغل عن الصلاة، ويعتذر بالعمل وعدم الوقت.. الخ وكلها أعذار واهية، فكنتُ أقول لبعض هؤلاء: بالله عليك لو احتجتَ دورة المياه أتجد وقتاً أم لا؟ يقول: أجد الوقت، فلماذا - إذن - تحتال في هذه المسألة وتدبر الوقت اللازم، ولا تحتال في وقت الصلاة؟
وربك عز وجل لو علم منك أنك تُجيب نداءه لَسهَّل لك الإجابة وقد رأينا الحق سبحانه يُسخِّر لك حتى الكافر ليعينك على أمر الصلاة.
ففي إحدى سفرياتنا إلى بلجيكا رأينا أن أولاد المسلمين هناك لا يدرسون شيئاً من الدين الإسلامي في المدارس، بل يُدرِّسون لهم الدين المسيحي، فطلبنا مقابلة وزير المعارف عندهم، وتكلمنا معه في هذا الأمر، وكانت حُجَّتنا أنكم قبلتُم وجود هؤلاء المسلمين في بلادكم لحاجتكم إليهم، وإسهامهم في حركة حياتكم، ومن مصلحتكم أن يكون عند هؤلاء المسلمين دين يراقبهم قبل مراقبتكم أنتم، وأنتم أوّلُ المستفيدين من تدريس الدين الإسلامي لأولاد المسلمين.
وفعلاً في اليوم التالي أصدروا قراراً بتدريس الدين الإسلامي في مدارسهم لأولاد المسلمين؛ ذلك لأن الإسلام دين مثمر، ودين إيجابي تضمنه وتأمنه.
فلأهمية الصلاة ذكرها الحق سبحانه في أول أفعال الخيرات، وفي مقدمتها، فقمّة الخيرات أنْ تتواجد مع الإله الذي يهبُكَ هذه الخيرات.
{ وَإِيتَآءَ الزَّكَـاةِ... } [الأنبياء: 73] والزكاة تطبيق عمليٌّ للاستجابة لله حين تُخرج جزءاً من مالك لله، والصلاة دائماً ما تُقرَن بالزكاة، فالعلاقة بينهما قوية، فالزكاة تضحية بجزء من المال، والمال في الحقيقة نتيجة العمل، والعمل فرع الوقت، أما الصلاة فهي تضحية بالوقت ذاته.
وقوله تعالى: { وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } [الأنبياء: 73] أي: مطيعين لأوامرنا، مجتنبين لنواهينا، فالعبادة طاعة عباد لمعبوده.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً... }.

(/2538)


وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)


{ وَلُوطاً... } [الأنبياء: 74] جاءتْ منصوبة؛ لأنها معطوفة على قوله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ... }[الأنبياء: 51] وأيضاً: آتينا لوطاً رشده. والحُكْم: يعني الحكمة، وأصله من الحكمة التي تُوضَع في حنك الفَرَس؛ لأن الفَرس قد يشرد بصاحبه أو يتجه إلى جهة غير مرادة لراكبه؛ لذلك يوضع في حنكه اللجام أو الحَكمة، وهي قطعة من الحديد لها طرفان، يتم توجيه الفرس منهما يميناً أو شمالاً.
ومن ذلك الحِكْمة، وهي وَضْع الشيء في موضعه، ومنه الحُكْمْ، وهو: وضع الحقَ في مَوْضعه من الشاكي أو المشكو أي: الخصمين.
{ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً.. } [الأنبياء: 74] وفرْقٌ بين العلْم والحكم: العلم أن تُحقِّق وتعرف، أمَّا الحكم فسلوك وتطبيق لما تعلم،فالعلم تحقيق والحكم تطبيق.
ثم يقول تعالى: { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ... } [الأنبياء: 74] فقد نجَّى الله إبراهيم عليه السلام من النار، وكذلك نجَّى لوطاً من أهل القرية التي كانت تعمل الخبائث، والخبائث في قوم لوط معروفة.
لذلك يقول بعدها: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } [الأنبياء: 74] ورجل السَّوءْ هو الذي يسوء كل مَنْ يخالطه، لا يسوء البعض دون البعض، فكل مَنْ يخالطه أو يحتكّ به يسؤوه.
والفسْق: الخروج عن أوامر التكليف، وهذا التعبير ككُلِّ التعابير القرآنية مأخوذ من واقعيات الحياة عند العرب، فأصل الفِسْق من فَسقَتِ الرُّطبة عن قشرتها حين تستوي البلحة فتنفصل عنها القشرة حتى تظهر منها الرُّطبة، وهذه القشرة جُعلَتْ لتؤدي مهمة، وهي حِفْظ الثمرة، كذلك نقول في الفسق عن المنهج الديني الذي جاء ليؤدي مهمة في حياتنا، فمَنْ خرج عنه فهو فاسق.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ... }.

(/2539)


وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)


كيف؟ ألسنا جميعاً في رحمة الله؟ قالوا: لأن هناك رحمة عامة لجميع الخَلْق تشمل حتى الكافر، وهناك رحمة خاصة تعدي الرحمة منه إلى الغير، وهذه يعنُون بها النبوة، بدليل قول الله تعالى:{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31] فردَّ الله عليهم:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ... }[الزخرف: 32] أي: النبوة:{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. }[الزخرف: 32].
فكيف يقسمون رحمة الله التي هي النبوة، وهي قمة حياتهم، ونحن نقسم لهم أرزاقهم ومعايشهم في الدنيا؟
فمعنى { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ... } [الأنبياء: 75] أي: في رَكْب النبوة { إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [الأنبياء: 75] أي: للنبوة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، لكن قمة هذه الرحمة جاءت في النبي الخاتم والرسول الذي لا يُستْدرك عليه برسول بعده؛ لذلك خاطبه ربه بقوله:{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 107].
فالرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا رحمة لأممهم، أمّا محمد فرحمة لجميع العالمين.
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن رسول آخر من أولى العزم من الرسل: { وَنُوحاً إِذْ نَادَىا مِن قَبْلُ... }.

(/2540)


وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)


قوله تعالى: { وَنُوحاً... } [الأنبياء: 76] مثلما ثلنا في{ وَلُوطاً... }[الأنبياء: 74] أي: آتيناه هو أيضاً رُشْده { إِذْ نَادَىا مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ... } [الأنبياء: 76] والنداء في حقيقته: طلبُ إقبال، فإنْ كان من أعلى لأدنى فهو نداء، وإنْ كان من مُسَأوٍ لك فهو التماس، فإنْ كان من أدنى لأعلى فهو دعاء، فحين تقول يا رب: الياء هنا ليست للنداء بل للدعاء.
وحين تمتحن تلميذاً تقول له: أعرب: رَبِّ اغفر لي، فلو كان نبيهاً يقول: ربّ مدعو. والتقدير يا رب، ومن قال: منادى نسامحه لأنه صحيح أيضاً، فالياء في أصلها للنداء، لكنه غير دقيق في الأداء. كذلك في: اغفر لي، إنْ قال فِعْل أمر نعطيه نصف الدرجة، أما إن قال دعاء فَلَهُ الدرجة الكاملة.
فماذا قال نوح عليه السلام في ندائه؟ المراد قوله:{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }[نوح: 26] فاستجاب الله لنبيه نوح عليه السلام: { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [الأنبياء: 76] والمراد بالكرب ما لبثه نوح في دعوة قومه من عمر امتد ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما تحمَّله في سبيل دعوته من عَنَتٍ ومشقّة قال الله فيها:{ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً }[نوح: 7-9].
ثم لما أمره الله بصناعة الفُلك أخذوا يسخرون منه:{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ.. }[هود: 38]
إذن: استجاب الله دُعَاءه ونداءه { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ... } [الأنبياء: 76] وفي موضع آخر:{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ }[الصافات: 75] فوصف الحق سبحانه إجابته لنوح بـ (نِعْم) الدالة على المدح.
فهل يعني ذلك أن هناك مَنْ يكون بِئْس المجيب؟ قالوا: نعم إذا سألته شيئاً فأجابك إليه وهو شَرٌّ لك، أمَّا الحق سبحانه فهو نِعْم المجيب؛ لأنه لا يُجيبك إلا بما هو صالح ونافع لك، فإنْ كان في دعائك شَرٌّ ردَّه لعلمه سبحانه أنه لن ينفعك.
وكأن الحق الأعلى سبحانه يقول لك: أنا لستُ موظفاً عندك، أجيبك إلى كُلِّ ما تطلب، إنما أنا قيُّوم عليك، وقد تدعو بما تظنّه خيراً لك، وأعلم بأزلية عِلْمي أن ذلك شر لا خيرَ فيه، فيكون الخير لك أَلاَّ أجيبك؛ لأنني نِعْمَ المجيب.
وهَبْ أن الله تعالى يجيب كُلاً منّا إلى ما يريد، فكيف حال الأم التي تغضب مثلاً من وحيدها، وفي لحظة الغضب والثورة تدعو عليه فتقول مثلاً: (إلهي أشرب نارك)؟ فالحق - تبارك وتعالى - حين يردُّ مِثْل هذا الدعاء هو نِعْم المجيب؛ لأنه نِعْم المانع.
لذلك يقول تعالى:{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }[الإسراء: 11] أي: يدعو ويُلِحُّ في الدعاء بما يظنُّه خَيْراً، وهو ليس كذلك. { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ... }.

(/2541)


وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)


مازالت الآيات تقصُّ علينا طرفاً مُوجزاً من رَكْب النبوات، ونحن في سورة الأنبياء، وحينما نتأمل هذه الآية نجد أن الله تعالى يُعذَّب بالماء كما يُعذِّب بالنار، مع أنهما ضِدَّانِ لا يلتقيان، فلا يقدر على هذه المسألة إلا خالقهما سبحانه وتعالى.
وقصة غَرَق قوم نوح وأهل سبأ بعد انهيار سَدِّ مأرب أحدثَا عقدة عند أهل الجزيرة العربية، فصاروا حين يروْنَ الماء يخافون منه ويبتعدون عنه، حتى إذا احتاجوا الماء يذهبون إلى مكان بعيد يملأون قِرَبهم، ذلك لعلمهم بخطر الطوفان، وأنه لا يُصَدُّ ولا يردُّه عنهم شيء.
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن نبيين من أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ... }.

(/2542)


وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)


يحكمان تعني أن هناك خصومة بين طرفين، والحرْث: إثارة الأرض وتقليب التربة؛ لتكون صالحة للزراعة، وقد وردتْ كلمة الحرث أيضاً في قوله تعالى:{ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ... }[البقرة: 205].
والحرْث ذته لا يهلك، إنما يهلك ما نشأ عنه من زُروع وثمار، فسمَّى الزرع حَرْثاً؛ لأنه ناشيء عنه، كما في قوله تعالى أيضاً:{ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ... }[آل عمران: 117].
لكن، لماذا سَمَّي الحرْث زَرْعاً، مع أن الحَرْث مجرد إعداد الأرض للزراعة؟ قالوا: لُيبيِّن أنه لا يمكن الزرع إلا بحرْث؛ لأن الحرْث إهاجة تُرْبة الأرض، وهذه العملية تساعد على إدخال الهواء للتربة وتجفيفها من الماء الزائد؛ لأن الأرض بعد عملية الريِّ المتكررة يتكوَّن عليها طبقة زَبَدية تسدُّ مسَام التُّربة، وتمنع تبخُّر المياه الجوفية التي تُسبِّب عطباً في جذور النبات.
لذلك، ليس من جَوْدة التربة أن تكون طينية خالصة، أو رملية خالصة، فالأرض الطينية تُمسك الماء، والرملية يتسرَّب منها الماء، وكلاهما غير مناسب للنبات، أما التربة الجيدة، فهي التي تجمع بين هذه وهذه، فتمسح للنبات بالتهوية اللازمة، وتُعطيه من الماء على قَدْر حاجته.
لذلك سَمَّي الزرْع حَرْثاً؛ لأنه سببُ نمائه وزيادته وجَوْدته، وليُلفت أنظارنا أنه لا زَرْع بدون حَرْث، كما جاء في قوله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }[الواقعة: 63-64].
ففي هذه المسألة إشارة إلى سُنَّة من سُنَن الله في الكون، هي أنك لا بُدَّ أن تعمل لتنال، فربُّك وخالقك قدَّم لك العطاء حتى قبل أنْ تُوجد، وقبل أن يُكلِّفك بشيء، ومكثت إلى سنِّ البلوغ، تأخذ من عطاء الله دون أنْ تُحاسبَ على شيء من تصرفاتَك.
وكذلك الأمر في الآخرة سيعطيك عطاءً لا ينتهي، دون أن تتعب في طلبه، هذا كُلُّه نظير أنْ تطيعه في الأمور الاختيارية في سِنِّ التكليف.
إذن: لقد نِلْتَ قبل أن تعمل، وستنال في الآخرة كذلك بدون أنْ تعمل، فلا بُدَّ لك من العمل بين بدايتك ونهايتك لتنال الثمرة.
لذلك، في الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم: " أَعْطُوا الأجير أجره قبل أنْ يجفَّ عَرَقُه " ما دام قد عمل فقد استحق الأجر، والأمر كذلك في مسألة الحرث.
ثم يقول تعالى: { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ... } [الأنبياء: 78] هذه خصومة بين طرفين، احتكما فيها لداود عليه السلام: رجل عنده زرع، وآخر عنده غنم، فالغنم شردتْ في غفلة من صاحبها فأكلتْ الزرع، فاشتكى صاحبُ الزرع صاحبَ الغنم لداود، فحكم في هذه القضية بأن يأخذَ صاحبُ الزرع الغنَم، وربما وجد سيدنا داود أن الزرع الذي أتلفتْه الغنم يساوي ثمنها.
فحينما خرج الخَصْمان لقيهما سليمان - عليه السلام - وكان في الحادية عشرة من عمره، وعرف منهما حكومة أبيه في هذه القضية، فقال: (غير هذا أرفق بالفريقين) فسمَّي حُكْم أبيه رِفْقاً، ولم يتهمه بالجَوْر مثلاً، لكن عنده ما هو أرفق.

فلما بلغت مقالته لأبيه سأله: ما الرِّفق بالفريقين؟ قال سليمان: نعطي الغنم لصاحب الزرع يستفيد من لبنها وأصوافها، ونعطي الأرض لصاحب الغنم يُصلحها حتى تعود كما كانت، ساعتها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزرع زَرْعه.
ومعنى } نَفَشَتْ... { [الأنبياء: 78] نقول: نفش الشيء أي: أخذ حَجْماً فوق حَجْمه، كما لو أخذتَ مثلاً قطعة من الخبز أو البقسماط ووضعتَها في لبن أو ماء، تلاحظ أنها تنتفش ويزداد حجمها نقول: انتفشت، كما نقول لمن يأخذ حجماً أكثر من حجمه: " أنت نافش ريشك ".
وقوله تعالى: } وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ { [الأنبياء: 78] أي مراقبين.
يقول الحق سبحانه: } فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا... {.

(/2543)


فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)


فداود وسليمان - عليهما السلام - نبيان، لكل منهما مكانته، وقد أعطاهما الله حُكْماً وعلماً، ومع ذلك اختلف قولهما في هذه القضية، فما توصَّل إليه سليمان لا يقدح في عِلْم داود، ولا يطعن في حُكْمه.
وما أشبه حُكْم كُلٍّ من داود وسليمان بمحكمة درجة أولى، ومحكمة درجة ثانية، ومحكمة النقْض، ومحكمة الاستئناف، وإياك أن تظن أن محكمة الاستئناف حين تردُّ قضاء درجة أولى أنها تطعن فيها.
فهذا مثل قوله تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ... } [الأنبياء: 79] فجاء بحكْم غير ما حكَم به أبوه؛ لذلك فالقاضي الابتدائي قد يحكم في قضية، ويتم تأجيلها إلى أنْ يترقى إلى قاضي استئناف، فيقرأ نفس القضية لكن بنظرة أخرى، فيأتي حُكْمه غير الأول.
ثم يقول تعالى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ... } [الأنبياء: 79] حينما جمع السياق القرآني بين داود وسليمان أراد أنْ يُبيِّن لنا طَرفاً مِمَّا وهبهما الله، فقوله تعالى: { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ... } [الأنبياء: 79] مظهر من مظاهر امتيازه، وهنا يُبيِّن مَيْزةً لداود عليه السلام: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ... } [الأنبياء: 79].
والتسخير: قَهْر المسَخّرل على فعل لا يستطيع أنْ ينفكَّ عنه، وليس مختاراً فيه، ونلحظ هنا الارتقاء من الأَدْنى إلى الأعلى: أولاً: سخّر الجبال وهي جماد، ثم الطير وهي أرْقَى من الجماد، لكن إنْ تصوَّرْنا التسبيح من الطير؛ لأنه حَيٌّ، وله روح، وله حركة وصوت مُعبّر، فكيف يكون التسبيح من الجبال الصماء؟
بعض العلماء حينما يستقبلون هذه الآية يأخذونها بظواهر التفسير، لا بُعمْق ونظر في لُبِّ الأشياء، فالجبال يروْنها جامدة، ليس لها صوت مُعبّر كما للطير؛ لذلك يعجبون من القول بأن الجبال تُسبِّح، فكيف لها ذلك وهي جمادات؟
لكن؛ ما العجب في ذلك، وأنت لو قُمْتَ بمَسْح شامل لأجناس الناس الأرض، واختلاف لغاتهم وألسنتهم وأشكالهم وألوانهم بحسْب البيئات التي يعيشون فيها، فالناس مختلفون في مثل هذه الأمور متفقون فقط في الغرائز، فالجوع والعطش والخوف والضحك والعواطف كلها غرائز مشتركة بين جميع الأجناس، وهذه الغرائز المشتركة ليس فيها اختيار.
ألم تَرَ إلى قوله تعالى:{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىا }[النجم: 43] فما دام أنه سبحانه الذي يُضحِك، والذي يُبكِي، فلن نختلف في هذه الأمور.
فالكلام - إذن - من الأشياء التي يختلف فيها الناس، وهذا الاختلاف ليس في صوت الحروف، فالحروف هي هي، فمثلاً حين ننطق (شرشل) ينطقها أهل اللغات الأخرى كذلك: شين وراء وشين ولام، فنحن - إذن - متحدون في الحروف، لكن نختلف في معاني الأشياء.
وقد يعزّ على بعض الحناجر أن تنطقَ ببعض الحروف بطبيعة تكوينها، فغيْر العربي لا ينطق الضاد مثلاً، فليس عندهم إلا الدال، أما في العربية فعندنا فَرْق بين الدال المرقّقة والضاد المفخّمة، وفرْق بين السين والثاء، وبين الزاي والذال، وبين الهمزة والعَيْن، لذلك نجد غير العربي يقول في (على): ألي، فليس له قدرة على نُطْق العين، وهو إنسان ناطق بلغة ومُتكلِّم.

فإذا كنا - نحن البشر - لا يفهم بعضُنا لغاتِ بعض، فهذا عربي، وهذا إنجليزي، وهذا فرنسي.. إلخ فإذا لم تتعلم هذه اللغة لا تفهمها.
ومعلوم أن اللغة بنت المحاكاة وبنت السماع، فما سمعتْه الأذن يحكيه اللسان، والأبكم الذي لا يتكلم كان أصمَّ لا يسمع، والطفل ينطق بما سمع، فلو وُضِع الطفل الإنجليزي في بيئة عربية لنطق بالعربية.. وهكذا.
فلماذا نعجب حين لا نفهم لغة الطَّيْر أو لغة الجمادات، وهي أشياء مختلفة عنّا تماماً، فلا يعني عدم فَهْمِنا للغاتهم أنهم ليست لهم لغة فيما بينهم يتعارفون عليها ويُعبِّرون بها.
إذن: لا تستبعد أنْ يكونَ للأجناس الأَدْنى منك لغات يتفاهمون بها وأنت لا تفهمها، بدليل أن الله تعالى أعطانا صورة من لغات الطير، وهذه يعلمها مَنْ علَّمه الله، كما امتنَّ الله على سليمان وعلَّمه لغة الطير، ففهم عنها وخاطبها.
وقد حكة الحق سبحانه وتعالى عنه:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ... }[النمل: 16] ولولا أن الله علَّمه لغة الطير ما عَلِمها.
وها هو الهدهد يقول لسليمان عليه السلام لما تفقَّد الطير، ولم يجد الهدهد فتوعَّده:{ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }[النمل: 22].
ونلحظ هنا دِقَّة سليمان - عليه السلام - في استعراض مملكته، فلم يترك شيئاً حتى الهدهد، ونلحظ أدبه في قوله:{ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ }[النمل: 20] فقد اتهم نظره وشَكَّ أولاً، فربما الهدهد يكون موجوداً، ولم يَرَهُ سليمان.
وانظر إلى قَوْل الهدهد للملك:{ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ... }[النمل: 22] ثم معرفته الدقيقة بقضية التوحيد والعقائد:{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ... }[النمل: 24].
ويعترض الهدهد على هذا الشرك، ويردُّ عليه بشيء خاص به، وبظاهر تُهمه:{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }[النمل: 25].
فاختار الهدهد مسألة إخراج الخبْء؛ لأن منه طعامه، فلا يأكل من ظاهر الأرض، بل لا بُدَّ أنْ ينبشَ الأرض، ويُخرِج خبأها ليأكله.
وكذلك النمل، وهو أقلُّ من الهدهد، فقد كان للنملة مع سليمان لغة، وكلام، وفَهْم عنها:{ حَتَّىا إِذَآ أَتَوْا عَلَىا وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا... }[النمل: 19].
إذن: كان الكلام للنمل، لكنْ فَهمه سليمان؛ لذلك قال:{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ... }[النمل: 19].
ذلك لأننا لا نفهم هذه اللغات إلا إذا فَهَّمنا الله إياها.
ومع هذا حينما وقف العلماء أمام هذه الآية } وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ... { [الأنبياء: 79] قالوا: يعني تسبيح دلالة، فهي بحالها تدلُّ على الخالق سبحانه، وليس المراد التسبيح على حقيقته، وأَوْلى بهم أنْ يعترفوا لها بالتسبيح؛ لكنه تسبيح لا نفهمه نحن، كما قال تعالى:

{ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }[الإسراء: 44].
والآن نرى في طموحات العلماء السَّعْي لعمل قاموس للغة الأسماك ولغة بعض الحيوانات، ولا نستبعد في المستقبل عمل قاموس للغة الأحجار والجمادات، وإلا فكيف ستكون ارتقاءات العلم في المستقبل؟ وهذه حقيقة أثبتها القرآن تنتظر أن يكتشفها العلم الحديث.
والمزيّة التي أعطاها الله تعالى لنبيه داود - عليه السلام - ليستْ في تسبيح الجبال؛ لأن الجبال تُسبِّح معه ومع غيره، إنما الميزة في أنها تُردِّد معه، وتوافقه التسبيح، وتجاوبه، فحين يقول داود: سبحان الله تردد وراءه الجبال: سبحان الله، وكأنهم جميعاً (كورس) يردد نشيداً واحداً.
وليس معنى الجماد أنه جامد لا حياةَ فيه، فهو جماد من حيث صورة تكوينه، ولو تأمَلتَ المحاجر في طبقات الأرض لوجدت بين الأحجار حياة وتفاعلاً وحركةً منذ ملايين السنين، ونتيجة هذه الحركة يتغير لَوْنُ الحجر وتتغير طبيعته، وهذا دليل الحياة فيها، انظر مثلاً لو دهنتَ الحجرة لَوْناً معيناً تراه يتغير مع مرور الزمن، إذن: في هذه الجمادات حياة، لكن لا ندركها.
وسبق أن أشرنا إلى أن الذين يقولون في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أنه سبَّح الحصى في يده. أن هذه المقولة غير دقيقة تحتاج إلى تنقيح عقلي، فالحجر مُسبِّح في يد رسول الله، وفي يد أبي جهل، إذن: قل: إن المعجزة هي أن رسول الله سمع تسبيح الحصى في يده.
فما من شيء في كون الله إلا وله حياة تناسبه، وله لغة يُسبِّح الله بها، أدركناها أم لم ندركها؛ لأن الكلام فرع وجود حياة، وكل شيء في الوجود له حياة، فعلبة الكبريت هذه التي نستعملها يقول العلماء: إن بين ذراتها تفاعلات تكفي لإدارة قطار حول العالم. هذه التفاعلات دليل حركة وحياة.
ألم يقُلْ الحق سبحانه وتعالى:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88].
فكلُّ ما يقال له شيء - إلا وَجْه الله - هالك، والهلاك يعني أن فيه حياةً؛ لأن الهلاك ضد الحياة، كما جاء في قوله تعالى:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42].
فكُلُّ شيء في الوجود له حياة بقانونه، وليس من الضروري أن تسمع الكلام حتى تعترف بوجوده، فهناك مثلاً لغة الإشارة، وهي لغة مفهومة ومُعبِّرة، أَلاَ ترى مثلاً إلى الخادم ينظر إليه سيده مجرد نظرة يفهم منها ما يريد أنْ يُقدِّمه للضيف مثلاً.
البحارة لهم إشارات يتعارفون عليها ويتفاهمون بها. جهاز التلغراف لَوْن من ألوان الأداء ووسيلة من وسائل التفاهم، إذن: الأداء والبيان ليس من الضروري أنْ يتمّ بالكلام المسموع، إنما تتفاهم الأجناس ويُكلِّم بعضها بعضاً كلّ بلغته، فإذا أراد الله أن يفيض عليك من إشراقاته أعطاك من البصيرة والعلم ما تفهم به فقدت غيرك من الأجناس.

لذلك يقول تعالى:{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ... }[النور: 41] والتنوين هنا دالٌّ على التعميم، فلكل شيء صلاته التي تناسبه، وتسبيحه الذي يناسب طبيعته.
والحق - سبحانه وتعالى - حين يعرض قضية التسبيح والخضوع والقَهْر من المخلوقات جميعاً لله يأتي الكلام عاماً في كل الأجناس بلا استثناء، إلا في الكلام عن الإنسان، فإن التسبيح والخضوع خاصٌّ ببعض الناس.
اقرأ قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ... }[الحج: 18] هكذا بلا استثناء، أمّا في الإنسان، فقال:{ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }[الحج: 18].
ثم يقول تعالى: } وَكُنَّا فَاعِلِينَ { [الأنبياء: 79] نعم، الحق سبحانه خالق كل شيء، وفاعل كل شيء، لكن مع ذلك يؤكد هذه الحقيقة حتى لا نتعجب من تسبيح الطير والجماد، فالله هو الفاعل، وهو المانح والمحرك.
ثم يقول الحق سبحانه عن داود عليه السلام: } وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ... {.

(/2544)


وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)


{ وَعَلَّمْنَاهُ... } [الأنبياء: 80] العِلْم نقل قضية مفيدة في الوجود من عالم بها إلى جاهل بها، والإنسان دائماً في حجة إلى معرفة وتعلُّم، لأنه خليفة الله في الأرض، ولن يؤدي هذه المهمة إلا بحركة واسعة بين الناس، هذه الحركة تحتاج إلى فَهْم ومعرفة وتفاعل وتبادل معارف وثقافات، فمثلاً تشكيل الحديد يحتاج إلى تسخين حتى يصير لَيِّناً قابلاً للتشكيل، الماء لا بُدَّ أنْ نغليَه لكذا وكذا.. إلخ.
وقضايا العلم التي تحتاجها حركة الإنسان في الأرض نوعان: نوع لم يأمن الله فيه الخَلْق على أنفسهم، فجاء من الله بالوحي، حتى لا يكون للعقل مجال فيه، ولا تختلف حوله الأهواء والرغبات، وهذا هو المنهج الذي نزل يقول لك: افعل كذا، ولا تفعل كذا.
لكن الأمور التي لا تختلف فيها الأهواء، بل تحاول أن تلتقي عليها وتتسابق إليها، وربما يسرق بعضهم من بعض، هذه الأمور تركها الحق - سبحانه - لعمل العقول وطموحاتها، وقد يلهم فيها بالخاطر أو بالتعلم، ولو من الأدنى كما تعلَّم ابن آدم (قابيل) من الغراب، كيف يواري سوأة أخيه، فقال سبحانه:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ... }[المائدة: 31].
والقضية العلمية قد يكون لها مقدمات في الكون حين نُعمِل فيها العقل، ونُرتِّب بعض الظواهر على بعض، نتوصل منها إلى حقائق علمية، وقد تأتي القضية العلمية بالتجربة، أو بالخاطر يقذفه الله في قَلْب الإنسان.
فقوله تعالى: { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ... } [الأنبياء: 80] يصح أن نقول: كان هذا التعليم بالوحي، أو بالتجربة أو الإلقاء في الرَّوْع، وهذه الصنعة لم تكن معروفة قبل داود عليه السلام.
واللَّبوس: أبلغ وأحكم من اللباس، فاللباس من نفس مادة (لبس) هي الملابس التي تستر عورة الإنسان، وتقيه الحر والبرد، كما جاء في قوله تعالى:{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ... }[النحل: 81].
أما في الحرب فنحتاج إلى حماية أكبر ووقاية أكثر من العادية التي نجدها في اللباس، في الحرب نحتاج إلى ما يقينا البأس، ويحمينا من ضربات العدو في الأماكن القاتلة؛ لذلك اهتدى الناس إلى صناعة الخوذة والدرع لوقاية الأماكن الخطرة في الجسم البشري، وتتمثل هذه في الرأس والصدر، ففي الرأس المخ، وفي الصدر القلب، فإن سِلَمَتْ هذه الأعضاء فما دونها يمكن مداوته وجَبْره.
إذن: اللبوس أبلغ وأكثر حماية من اللباس؛ لأن مهمته أبلغ من مهمة اللباس، وكانت قبل داود مَلْساء يتزحلق السيف عليها، فلما صنعها داود جعلها مُركَّبة من حلقات حتى ينكسر عليها السيف؛ لذلك قال تعالى بعدها: { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ... } [الأنبياء: 80] أي: تحميكم في حَرْبكم مع عدوكم، وتمنعكم وتحوطكم.
إذن: ألهمنا داود عليه السلام، فأخذ يُفكِّر ويبتكر، وكل تفكير في ارتقاء صَنْعه إنما ينشأ من ملاحظة عيب في صَنْعة سابقة، فيحاول اللاحق تلافي أخطاء السابق، وهكذا حتى نصلَ إلى شيء لا عَيْبَ فيه، أو على الأقل يتجنب عيوب سابقة؛ لذلك يُسمُّونه (آخر موديل).

ثم يقول تعالى: } فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ { [الأنبياء: 80] شاكرون على نعمة الله الذي يرعاكم ويحفظم في المآزق والمواقف الصعبة، واختار سبحانه موقف البأس أمام العدو؛ ليعطينا إشارة إلى ضرورة إعداد المؤمن لمواجهة الكافر، والأخذ بأسباب النجاة إذا تمَّتْ المواجهة.
وفي آية أخرى يقول سبحانه:{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }[الحديد: 25].
فليست مهمة الحديد في الحياة أنه ينفع الناس فحسْب، إنما له مهمة قتالية أيضاً؛ لذلك قال:{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ... }[الحديد: 25] كما قال:{ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ... }[الإنسان: 23] فإنْ كان القرآن للهداية فالحديد يُؤيِّد هذه الهداية، حيث نضرب به على أيدي الكافرين العاصين، ونحمي به صدور المؤمنين المصدِّقين؛ لذلك قال{ وَأَنزَلْنَا... }[الحديد: 25] أي: من أعلى مع أنه خارج من الأرض.
إذن: مسألأة الحديد في الأرض نعمة كبيرة من نِعَم الله علينا، بها نحفظ أنفسنا من العدو، فالحق - سبحانه وتعالى - خلق الخَلْق ولم يتركه هكذا يُدبِّر أمره، إنما خلقه ووضع له قانون حمايته وصيانته، وهذا يستحقّ مِنّا الشكر الدائم الذي لا ينقطع.
ثم ينتقل السياق من الكلام عن داود إلى ابنه سليمان عليهما السلام، فيقول الحق سبحانه: } وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً... {.

(/2545)


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)


لا شكّ أن سليمان - عليه السلام - قد استفاد بما علَّم الله به أباه داود، وأخذ من نعمة الله على أبيه، وهنا يزيده ربه - تبارك وتعالى - أموراً يتميز بها، منها الريح العاصفة أي: القوية الشديدة { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا... } [الأنبياء: 81] وكأنها مواصلات داخلية في مملكته من العراق إلى فلسطين.
وفي موضع آخر قال:{ وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ }[ص: 35-36].
ؤُخَأء: أي: هيّنة ليّنة ناعمة، وهنا قال { عَاصِفَةً... } [الأنبياء: 81] فكأن الله تعالى جمع لهذه الريح صفة السرعة في (عاصفة) وصفة الراحة في (رخاء)، وهاتان صفتان لا يقدر على الجمع بينهما إلا الله، فنحن حين تُسْرِع بنا السيارة مثلاً لا تتوفر لنا صِفَة الراحة والاطمئنان، بل يفزع الناس ويطلبون تهدئة السرعة.
أما ريح سليمان فكانت تُسرع به إلى مراده، وهي في الوقت نفسه مريحة ناعمة هادئة لا تُؤثِّر في تكوينات جسمه، ولا تُحدث له رجَّة أو قوة اندفاع يحتاج مثلاً إلى حزام أمان، فمَنْ يقدر على الجمع بين هذه الصفات إلا الله القابض الباسط، الذي يقبض الزمن في حق قوم ويبسطه في حق آخرين.
ومعنى: { بَارَكْنَا فِيهَا... } [الأنبياء: 81] أي: بركة حِسِّية بما فيها من الزروع والثمار والخِصْب والخيرات، وبركة معنوية حيث جعل فيها مهابط الوحي والنبوات وآثار الأنبياء.
وليس تسخير الريح لسليمان أنها تحمله مثلاً، كما رأينا في (السينما) بساط الريح الذي نراه يحمل شيئاً ويسير به في الهواء، أو: أنها كانت تُسيِّر المراكب في البحار، إنما المراد بتسخيرها له أن تكون تحت مراده، وتأتمر بأمره، فتسير حيث شاء يميناً أو شمالاً، فهي لا تهٌُبُّ على مرادات الطبيعة التي خلقها الله عليها، ولكن على مراده هو.
وإنْ كانت هذه الريح الرُّخَاء تحمله في رحلة داخلية في مملكته، فهناك من الرياح ما يحمله في رحلات وأسفار خارجية، كالتي قال الله تعالى عنها:{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ... }[سبأ: 12] فيجوب بها في الكون كيف يشاء{ حَيْثُ أَصَابَ }[ص: 36].
ثم يقول تعالى: { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } [الأنبياء: 81] أي عندنا علْم نُرتِّب به الأمور على وَفْق مرادنا، ونكسر لمرادنا قانون الأشياء فَنُسيِّر الريح كما نحب، لا كما تقتضيه الطبيعة.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ... }.

(/2546)


وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)


فبعد أنْ سخَّر الله له الريح سخَّر له الشياطين { يَغُوصُونَ لَهُ... } [الأنبياء: 82] والغَوْصُ: النزول إلى أعماق البحر؛ ليأتوه بكنوزه ونفائسه وعجائبه التي ادخرها الله فيه { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ... } [الأنبياء: 82] أي: مما يُكلِّفهم به سليمان من أعمال شاقة لا يقدر عليها الإنسان، وقد شرحت هذه الآية في موضع آخر:{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ... }[سبأ: 13] فأدخل مرادات العمل في مشيئته.
والمحاريب جمع محراب، وهو مكان العبادة كالقِبْلة مثلاً، والجِفَان: جمع جَفْنة، وهي القَصْعة الكبيرة الواسعة التي تكفي لعدد كبير، والقدور الراسيات أي: الثابتة التي لا تنقل من مكان لآخر وهي مبنية.
وقد رأينا شيئاً من هذا في الرياض أيام الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان هذا القدْر من الاتساع والارتفاع بحيث إذا وقف الإنسان ماداً ذراعيه إلى أعلى لا يبلغ طولها، وفي الجاهلية أشتهرت مثل هذه القدور عند ابن جدعان، وعند مطعم بن عدي.
أما التماثيل فهي معروفة، والموقف منها واضح منذ زمن إبراهيم عليه السلام حينما كسَّرها ونهي عن عبادتها، وهذا يردُّ قول مَنْ قال بأن التماثيل كانت حلالاً، ثم فُتِن الناس فيها، فعبدوها من دون الله فَحرِّمت، إذن: كيف نخرج من هذا الموقف؟ وكيف يمتنّ الله على نبيه سليمان أن سخر له من يعملون التماثيل وهي مُحرَّمة؟
نقول: كانوا يصنعون له التماثيل لا لغرض التعظيم والعبادة، إنما على هيئة الإهانة والتحقير، كأن يجعلوها على هيئة رجل جبار، أو أسد أضخم يحمل جزءاً من القصر أو شرفه من شرفاته، أو يُصوِّرونها تحمل مائدة الطعام.. الخ. أي أنها ليست على سبيل التقديس.
ثم يقول تعالى: { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } [الأنبياء: 82] حافظين للناس المعاصرين لهذه الأعمال يروْنَ البشر، والبشر لا يرَوْنَهم، كما قال تعالى:{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ... }[الأعراف: 27].
أما سليمان عليه السلام فكان يرى الجنَّ ويراقبهم وهم يعملون له، وفي قصته:{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىا مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ... }[سبأ: 14].
وفي هذا دليل على أن الجن لا يعلمون الغيب؛ لذلك قال تعالى:{ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ }[سبأ: 14].
ويُقال: إن سليمان - عليه السلام - بعد أنْ امتنَّ الله عليه، وأعطاه مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، أخذ هؤلاء الجن وحبسهم في القماقم حتى لا يعملوا لأحد غيره.
هذه مجرد لقطة من قصة سليمان، ينتقل السياق منها إلى أيوب عليه السلام: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىا رَبَّهُ... }.

(/2547)


وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)


(نَأديَ): قلنا النداء لمثلك طلب إقبال، أما بالنسبة لله تعالى فهو بمعنى الدعاء، فمعنى { إِذْ نَادَىا رَبَّهُ... } [الأنبياء: 83] أي: دعاه وناداه بمطلوب هو: { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ... } [الأنبياء: 83] والضُّر: ابتلاء من الله في جسده بمرض أو غيره.
أما الضرَّ بفتح الضاد، فهو إيذاء وابتلاء في أي شيء آخر غير الجسد، ولا مانع أن يمرض الأنبياء لكن بمرض غير مُنفِّر.
لكن، كيف ينادي أيوب عليه السلام ربه ويتوجع { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ... } [الأنبياء: 83] أليس في علم الله أن أيوبَ مسَّه الضرُّ؟ وهل يليق بالنبي أنْ يتوجّع من ابتلاء الله؟
نعم، يجوز له التوجُّع؛ لأن العبد لا يَشْجَعُ على ربه؛ لذلك فإن الإمام علياً رضي الله عنه لما دخل عليه رجل يعوده وهو يتألم من مرضه ويتوجع، فقال له: أتتوجَّع وأنت أبو الحسن؟ فقال: أنا لا أشجع على الله يعني: أنا لست فتوة أمام الله.
ألا ترى أنه من الأدب مع مَنْ يريد أن يُثبِت لك قوته فيمسك بيدك مثلاً، ويضغط عليها لتضجّ وتتألم، أليس من الأدب أن تطاوعه فتقول: آه وتُظهِر له ولو مجاملة أنه أقوى منك؟
ومعنى: { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأنبياء: 83] ساعةَ أنْ ترى جَمْعاً في صفة من الصفات يُدخِل الله فيه نفسه مع خَلْقه، كما في: { أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } [الأنبياء: 83] و{ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14] و{ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }[آل عمران: 54] فاعلم أن الله تعالى يُثبِت نفس الصفة لعباده، ولا يبخسهم حقهم.
فالرحمة من صفات البشر، كما جاء في الحديث الشريف: " الراحمون يرحمهم الرحمن ".
وفي " ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء ".
فالرحمة تخلُّق بأخلاق الحق سبحانه، " والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " تخلَّقوا بأخلاق الله " ".
إذن: للخَلْق صفة الرحمة، لكن الله هو أرحم الراحمين جميعاً؛ لأن رحمته تعالى وسعَتْ كل شيء. كما قلنا في صفة الخَلْق: فيمكنك مثلاً أن تصنع من الرمل كوباً، وتُخرِِجه إلى الوجود، وتنتفع به، لكن أخَلْقك للكوب كخَلْق الله؟
ثم يقول الحق سبحانه: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا... }.

(/2548)


فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)


استجاب الله لأيوب فيما دعا به من كَشْف الضُّر الذي أصابه، وأعطاه زيادة عليه ونافلة لم يَدْعُ بها، حيث كان في قِلَّة من الأهل، وليس له عِزْوة.
{ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىا لِلْعَابِدِينَ... }[الأنبياء: 84] ليعلم كلُّ عابد أخلص عبادته لله تعالى، أنه إذا مسَّه ضُرٌّ أو كَرْب ولجأ إلى الله أجابه الله إلى ما يريد، وأعطاه فوق الإجابة نافلة أخرى، وكأن ما حدث لنبي الله أيوب نموذج يجب أن يُحْتَذَى. { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ... }.

(/2549)


وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)


قلنا: إن سورة الأنبياء لا تذكر قصَصاً كاملاً للأنبياء، إنما تعطينا طَرَفاً منها، وهنا تذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالاسم فقط.
ثم يقول تعالى: { كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ } [الأنبياء: 85] كأن الصبر في حَدِّ ذاته حيثية يُرسل الله من أجلها الرسول، ولنتأمل الصبر عند إسماعيل، وكيف أنه صبر على أنْ يذبحه أبوه برؤيا رآها، فأيُّ صبر أعظم من هذا؟
ثم يعيش في صِغَره - وحتى كبر - في وَادٍ غير ذي زرع، ويتحمل مشاق هذه البيئة الجافة المجْدِبة، ويخضع لقول الله تعالى:{ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ.. }[إبراهيم: 37].
وكأن في خروجه من هذه الأرض وطلبه لأرض أخرى فيها النعيم والزروع والثمار تأبّياً على إقامة الصلاة؛ لذلك نراه يُفضّل البقاء في هذا المكان، ويزهد في نعيم الدنيا الذي يتمتع به غيره امتثالاً لأمر الله.
وتكون النتيجة أنْ أعطاه الله ما هو خَيْر من الزروع والثمار، أعطاه عطاءً يفخر به بين جميع الأنبياء، هو أنه جعل من نسله النبي الخاتم محمد بن عبد الله، وأيُّ ثمرة أحسن من هذه؟
وإدريس: وهو من الجيل الخامس من أولاد آدم عليه السلام، وبعض العلماء يقولون هو " أوزوريس " ، ونحن لا نقول إلا ما قاله القرآن (إدريس) وأهل السير يقولون: إن نبي الله إدريس أول مَنْ علّمه الله غزل الصوف وخياطة الملابس، وكانوا قبلها يسترون عوراتهم بقطع الجلود.
وهو أول مَن استخدم النجوم لمعرفة الاتجاهات والأحوال، وأول مَنْ خط بالقلم، هذه يُسمُّونها أوليات إدريس.
وذا الكفل: الكِفْل هو الحظ والنصيب، فلماذا سُمِّي " ذو الكفل "؟ ذو الكفل ابن أيوب عليه السلام، ويظهر أن أولاد أيوب كانوا كثيرين، إنما اختص الله ذا الكفل بالرسالة، وكان هذا حظه دون غيره من أبناء أيوب؛ لذلك سُمِّي " ذو الكفل ".
وقد جاءت هذه المادة (كَفَل) أيضاً في قوله الحق سبحانه وتعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ... }[الحديد: 28].
جاءت هذه الآية بعد الكلام عن عيسى - عليه السلام - والذين آمنوا به واتبعوه، يقول تعالى: يا مَنْ آمنتم بالرسل السابقين، وآخرهم عيسى - عليه السلام - آمنوا بالرسول الخاتم ليكون لكم كفلان أي: نصيبان وحظَّان من رحمةَ الله، نصيبٌ لإيمانكم بعيسى، ومَنْ سبقه من الرسل، ونصيبٌ لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول تعالى في وصفهم { كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ } [الأنبياء: 85] فوصف كلّ الأنبياء بالصبر؛ لأنهم تعرَّضوا لأنواع الاضطهاد والإيذاء والأهوال في سبيل دعوتهم، وصبروا على هذا كله. { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا... }.

(/2550)


وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)


والرحمة هنا بمعنى النبوة، وهي أمر عظيم وعطاء كبير، فإنْ تحمّلوا في سبيله بعض المتاعب، فلا غضاضةَ في ذلك: { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ... }.

(/2551)


وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)


" ذو النون ": هو سيدنا يونس بن متى صاحب الحوت، والنون من أسماء الحوت، وجمعه (نينان) كحوت وحيتان؛ لذلك سُمِّيَ به، وقد أُرسل يونس عليه السلام إلى أهل(نِينَويَ) من أرض الموصل بالعراق.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعداس: " أنت من بلد النبي الصالح: يونس ابن متّى ".
والنون أيضاً اسم لحرف من حروف المعجم، لكن قد يوافق اسمُ الحرف اسماً لشيء آخر، كما في (ق) وهو اسم جبل، وكذلك السين، فهناك نهر اسمه نهر السين، وهكذا تصادف أسماء الحروف أسماء أشياء.
وقوله تعالى: { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً... } [الأنبياء: 87] مادة (غضب) نأخذ منها الوصف للمفرد. نقول: غاضب وغضبان، أمّا (مغاضب) فتعطي معنى آخر؛ لأنها تدل على المفاعلة، فلا بُدَّ أن أمامك شخصاً آخر، أنت غاضب وهو غاضب، مثل: شارك فلان فلاناً.
لكن في أصول اللغة رجحنا جانب الفاعلية في أحدهما، والمفعُولية في الآخر، كما نقول: شارك زيدٌ عَمْراً، فالمشاركة حدثتْ منهما معاً، لكن جانب الفاعلية أزيد من ناحية زيد، فكلُّ واحد منهما فاعل مرة ومفعول أخرى.
واللغة أحياناً تلحظ هذه المشاركة؛ فتُحمِّل اللفظ المعنيين معاً: الفاعل والمفعول، كما جاء في قَوْل الشاعر العربي الذي يصف السير في أرض معقربة، والتي إذا سرْت فيها دون أنْ تتعرض للعقارب فإنها تسالمك ولا تؤذيك، فيقول:قَدْ سَالَم الحياتُ مِنْه القَدَمَا الأفْعُوانَ والشُّجاعَ القَشْعَمَاأي: أنه سَالَم الحيات، فالحيات سالمتْه، فالمسالمة منهما معاً، لكن غلب جانب الحيات فجاءت فاعلاً؛ لأن إيذاءَها أقوى من إيذائه، فلما أبدل من الحيات (الأفعوان والشجاع القشعما) وهما من أسماء الحيات كان عليه أنْ يأتي بالبدل مرفوعاً تابعاً للمبدل منه، إلا أنه نصبه فقال: الأُفْعَوانَ والشجاعَ القشعمَا؛ لأنه لاحظ في جانب الحيات أنها أيضاً مفعولٌ.
فَمِمَّ غضب ذو النون؟ غضب لأن قومه كذبوه، فتوعدهم إنْ لم يتوبوا أنْ يُنزل بهم العذاب، وأتى الموعد ولم ينزل بهم ما توعدهم به، فخاف أنْ يُكذِّبوه، وأن يتجرَّأَوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً إلى مكان آخر، وهو لا يعلم أنهم تابوا فأخّر الله عذابهم، وأجّل عقوبتهم.
وفي آية أخرى يُوضِّح الحق سبحانه هذا الموقف:{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ }[يونس: 98].
أي: لم يحدث قبل ذلك أنْ آمنتْ قرية ونفعها إيمانها إلا قرية واحدة هي قوم يونس، فقد آمنوا وتابوا فأجّل الله عذابهم.
إذن: خرج يونس مُغاضِباً لا غاضباً؛ لأن قومه شاركوه، وكانوا سبب غضبه، كما حدث في مسألة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة لكنه لم يهْجرهَا، فسُمِّيَتْ هجرة؛ لأن أهل مكة هجروا رسول الله أولاً، وهجروا دعوته وألجئوه أيضاً إلى الهجرة وتَرْك مكة، فهم طرف في الهجرة وسببٌ لها.

لذلك قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة: " والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إليَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منكِ ما خرجْتُ ".
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى، وعبَّر عنه بقوله:إذَا ترحلْتَ عَنْ قَوْمٍ وقَدْ قَدَرُوا ألاَّ تُفارِقَهُمْ فالراحِلُون هُمُوقوله تعالى: } فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ... { [الأنبياء: 87] البعض ينظر في الآية نظرةً سطحية، فيقولون: كيف يظن يونس أن الله لن يقدر عليه؟ وهذا الفَهْم ناشيء عن جَهْل باستعمالات اللغة، فليس المعنى هنا من القدرة على الشيء والسيطرة، ولو استوعبتَ هذه المادة في القرآن (قَدَرَ) لوجدت لها معنى آخر، كما في قوله تعالى:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ... }[الطلاق: 7] معنى قُدِر عليه رزقه يعني: ضُيِّق عليه.
ومنها قوله تعالى:{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ... }[الإسراء: 30]
وقوله سبحانه تعالى:{ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15-16].
إذن: فقوله: } فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ... { [الأنبياء: 87] أي: أن يونس لما خرج من بلده مُغاضباً لقومه ظنَّ أن الله لن يُضيِّق عليه، بل سيُوسِّع عليه ويُبدله مكاناً أفضل منها، بدليل أنه قال بعدها } فَنَادَىا فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ { [الأنبياء: 87] يريد منه سبحانه تنفيس كربته، وتنفيس الكربة لا يكون إلا بصفة القدرة له.
فكيف يستقيم المعنى لو قلنا: لن يقدر عليه بمعنى: أن الله لا يقدر على يونس؟
إذن: المعنى: لن يُضيِّق عليه؛ لأنه يعلم أنه رسول من الله، وأن ربه لن يُسلْمه، ولن يخذله، ولن يتركه في هذا الكرب.
وقد وُجدَتْ شبهة في قصة يونس - عليه السلام - في قوله تعالى:{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ }[الصافات: 143-144].
فكيف يلبث في بطن الحوت إلى يوم يُبعثون، مع أن يونس سيموت، وسيأتي أجَل الحوت ويموت هو أيضاً، أم أن الحوت سيظل إلى يوم القيامة يحمل يونس في بطنه؟
وفات هؤلاء نظرية الاحتواء في المزيجات، كما لو أذبتَ قالباً من السكر في كوب ماء، فسوف تحتوي جزئيات الماء جزئيات السكر، والأكثر يحتوي الأقل، فقالب السكر لا يحتوي الماء، إنما الماء يحتوي السكر.
فلو مات الحوت، ومات في بطنه يونس - عليه السلام - وتفاعلت ذراتهما وتداخلتْ، فقد احتوى الحوتُ يونسَ إلى أن تقوم الساعة، وعلى هذا يظل المعنى صحيحاً، فهو في بطنه رغم تناثر ذراتهما. } فَاسْتَجَبْنَا لَهُ... {.

(/2552)


فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)


استجاب الله نداء يونس - عليه السلام - ونجَّاه من الكرب { وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء: 88] إذن: فهذه ليست خاصة بيونس، بل بكل مؤمن يدعو الله بهذا الدعاء { وَكَذالِكَ... } [الأنبياء: 88] أي: مثل هذا الإنجاء نُنْجي المؤمنين الذين يفزعون إلى الله بهذه الكلمة:{ لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }[الأنبياء: 87] فيُذهِب الله غَمَّه، ويُفرِّج كَرْبه.
لذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه: " ثوِّروا القرآن " يعني: أثيروه ونقِّبوا في آياته لتستخرجوا كنوزه وأسراره.
وكان سيدنا جعفر الصادق من المثوِّرين للقرآن المتأملين فيه، وكان يُخرِج من آياته الدواء لكل داء، ويكون كما نقول (روشتة) لكل أحوال المؤمن.
والمؤمن يتقلّب بين أحوال عدة منها: الخوف سواء الخوف أنْ يفوته نعيم الدنيا، أو الخوف من جبار يهدده، وقد يشعر بانقباض وضيق في الصدر لا يردي سببه وهذا هو الغَمُّ، وقد يتعرض لمكر الماكرين، وكَيْد الكائدين، وتدبير أهل الشر.
هذه كلها أحوال تعتري الإنسان، ويحتاج فيها لمَنْ يسانده ويُخرجه مما يعانيه، فليس له حَوْل ولا قوة، ولا يستطيع الاحتياط لكل هذه المسائل.
وقد تراوده بهجة الدنيا وزُخْرفها، فينظر إلى أعلى مِمّا هو فيه، ويطلب المزيد، ولا نهايةَ لطموحات الإنسان في هذه المسألة، كما قال الشاعر:تَمُوتُ مع المرْءِ حَاجَاتُه وتَبْقَى لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِيوالناس تحرص دائماً على أن تستوعب نِعَم الحياة وراحتها، وهم في ذلك مُخْطِئون؛ لأن تمام الشيء بداية زواله، كما قال الشاعر:إذَا تَمَّ شَيءٌ بَدَا نَقْصُه تَرقَّبْ زَوَالاً إذَا قيلَ تَملأن الإنسان ابنُ أغيار، ولا يدوم له حال من صحة أو مرض، أو غِنيً أو فقر، أو حزن أو سرور، فالتغيُّر سِمَة البشر، وسبحان مَنْ لا يتغير، إذن: فماذا بعد أنْ تصل إلى القمةَ، وأنت ابنُ أغيار؟
ونرى الناس يغضبون ويتذمرون إنْ فاتهم شيء من راحة الدنيا ونعيمها، أو انتقصتهم الحياة شيئاً؟ وهم لا يدرون أن هذا النقص هو الذي يحفظ عليك النعمة، ويدفع عنك عيون الحاسدين فيُسلِّم لك ما عندك.
فتجد مثلاً أسرة طيبة حازتْ اهتمام الناس واحترامهم، غير أن بها شخصاً شريراً سِّيئاً، يعيب الأسرة، فهذا الشخص هو الذي يدفع عنها عُيون الناسِ وحَسَدهم.
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى، وعبَّر عنه في مدحه لسيف الدولة، فقال:شَخَصَ الأنَامُ إِلَى كَمَالِكَ فَاستْعِذ مِنْ شَرِّ أعيُنهم بِعَيْبٍ وَاحِدٍنعود إلى (روشته) سيدنا جعفر الصادق التي استخلصها لنا من كتاب الله، كما يستخلص الأطباء الدواءَ والعقاقير من كتب الحكماء:
يقول: عجبتُ لمن خاف ولم يفزع إلى قول الله تعالى:{ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }[آل عمران: 173] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول:{ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ.. }[آل عمران: 174].

وعجبتُ لمَنْ اغتمَّ، ولم يفزع إلى قوله تعالى:{ لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }[الأنبياء: 87] فإنِّي سمعت الله بعقبها يقول: } فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ { [الأنبياء: 88].
وعجبتُ لمن مُكِرَ به، ولم يفزع إلى قوله تعالى:{ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ }[غافر: 44] فإني سمعت الله بعقبها يقول:{ فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ... }[غافر: 45].
وعجبتُ لمن طلب الدنيا وزينتها، ولم يفزع إلى قوله تعالى:{ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ... }[الكهف: 39] فإنِّ سمعت الله بعقبها يقول:{ فعسَىا رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ... }[الكهف: 40].
وهكذا يجب على المؤمن أن يكون مُطْمئناً واثقاً من معيّة الله، ويضع كما نقول (في بطنه بطيخة صيفي)؛ لأنه يفزع إلى ربه بالدعاء المناسب في كل حال من هذه الأحوال، وحين يراك ربك تلجأ إليه وتتضرع، وتعزو كل نعمة في ذاتك أو في أهلك أو في مالك وتنسبها إلى الله، وتعترف بالمنعِم سبحانه فيعطيك أحسنَ منها.
ثم يُحدِّثنا الحق سبحانه عن نبي آخر من أنبيائه، فيقول تعالى: } وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىا رَبَّهُ... {.

(/2553)


وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)


لقد بلغ زكريا - عليه السلام - من الكبر عتياً، ولم يرزقه الله الولد، فتوجه إلى الله:{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً }[مريم: 4-5].
فلما بشَّره الله بالولد تعجَّب؛ لأنه نظر إلى مُعْطيات الأسباب، كيف يرزقه الله الولد، وقد بلغ من الكِبَر عتياً وامرأته عاقر، فأراد أن يُؤكّد هذه البُشْرى:{ قَالَ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً * قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }[مريم: 8-9].
يُطمئنُ الله تعالى نبيَّه زكريا: اطرح الأسباب الكونية للخَلْق؛ لأن الذي يُبشِّرك هو الخالق.
وقد تعلَّم زكريا من كفالته لمريم أن الله يُعطي بالأسباب، ويعطي إن عزَّتْ الأسباب، وقد تباري أهل مريم في كفالتها، وتسابقوا في القيام بهذه الخدمة؛ لأنهم يعلمون شرفها ومكانتها؛ لذلك أجروا القرعة على مَنْ يكفلها فأتوا بالأقلام ورموْها في البحر فخرج قلم زكريا، ففاز بكفالة مريم:{ ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }[آل عمران: 44].
وإجراء القرعة لأهمية هذه المسألة، وعِظَم شأنها، والقرعة إجراء للمسائل على القَدَر، حتى لا تتدخّل فيها الأهواء.
فلما كفَل زكريا مريم كان يُوفِّر لها ما تحتاج إليه، ويرعى شئونها، وفي أحد الأيام دخل عليها، فوجد عندها طعاماً لم يأْتِ به:{ قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وهنا مَلْخظ وإشارة إلى ضرورة متابعة ربِّ الأسرة لأسرته، فإذا ما رأى في البيت شيئاً لم يأْتِ به فليسأل عن مصدره، فربما امتدت يد الأولاد إلى ما ليس لهم، إنه أصل لقانون " من أين لك هذا؟ " الذي نحتاج إلى تطبيقه حين نشكّ.
التقط زكريا إجابة مريم التي جاءتْ سريعة واثقة، تدل على الحق الواضح الذي لا يتلجلج:{ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
نعم، هذه مسألة يعرفها زكريا، لكنها لم تكُنْ في بُؤْرة شعوره، فقد ذكَّرْته بها مريم:{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ }[آل عمران: 38].
أي: ما دام الأمر كذلك، فَهَبْ لي ولداً يرثُ النوبة من بعدي. ثم يذكر حيثيات ضَعْفه وكِبَر سِنَّه، وكوْنَ امرأته عاقراً، وهي حيثيات المنع لا حيثيات الإنجاب؛ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب وبغير أسباب.
وهكذا، استفاد زكريا من هذه الكلمة، واستفادتْ منها مريم كذلك فيما بعد، وحينما جاءها الحَمْل في المسيح بدون الأسباب الكونية.
وهنا يدعو زكريا ربه، فيقول: { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } [الأنبياء: 89] أي: لا أطلب الولد ليرث مُلْكي من بعدي، فأنت خير الوارثين ترِثُ الأرضَ والسماء، ولك كل شيء. { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا... }.

(/2554)


فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)


فلم تكُنْ استجابة الله لزكريا أنْ يهبه الولد حال كِبَره وكوْن امرأته عاقراً، إنما أيضاً سماه، ولله تعالى سِرٌّ في هذه التسمية؛ لأن الناس أحرار في وَضْع الأسماء للمُسمّيات كما قلنا فلا مانع أن نسمي فتاة زنجية (قمر)؛ لأن الاسم يخرج عن معناه الأصلي، ليصير عَلَماً على هذا المسمى. إذن: هناك فَرْق بين الاسم وبين المسمَّى.
وقد نُسمِّي الأسماء تفاؤلاً أن يكونوا كذلك، كالذي سمَّي ولده يحيى، ويظهر أنه كان يعاني من موت الأولاد؛ لذلك قال:فَسمَّيْتُه يَحيى ليحيى فَلَم يكُنْ لِرَدِّ قَضَاءِ اللهِ فيه سَبيلُأي: سمَّيْته يحي أَملاً في أن يحيا، لكن هذا لم يردّ عنه قضاء الله.
وكذلك لما سمَّي عبد المطلب محمداً قال: سمَّيته محمداً ليُحمد في الأرض وفي السماء.
لكن، حين يُسمِّى يحيى مَنْ يملك الحياة ويملك الموت، فلا بُدَّ أن يكون اسماً على مُسمَّى، ولا بُدَّ له أن يحيا، حتى إنْ مات يموت شهيداً، لتتحقق له الحياة حتى بعد الموت.
ومعنى: { وَوَهَبْنَا.. } [الأنبياء: 90] أي: أعطيناه بدون قانون التكوين الإنساني، وبدون أسباب.
ثم يقول سبحانه: { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ... } [الأنبياء: 90] فبعَد أنْ كانت عاقراً لا تلد أجرينا لها عملية ربانية أعادتْ لها مسألة الإنجاب؛لأن المرأة تلد طالما فيها البويضات التي تكوِّن الجنين، فإذا ما انتهتْ هذه البويضات قد أصبحت عقيماً، وهذه البويضات في عنقود، ولها عدد مُحدَّد أشبه بعنقود البيض في الدجاجة؛ لذلك يسمون آخر الأولاد " آخر العنقود ".
إذن: وُجِد يحيى من غير الأسباب الكونية للميلاد؛ لأن المكوِّن سبحانه أراد ذلك.
لكن، لماذا لم يقُلْ لزكريا أصلحناك؟ قالوا: لأن الرجل صالح للإنجاب ما دام قادراً على العملية الجنسية، مهما بلغ من الكِبَر على خلاف المرأة المستقبِلة، فهي التي يحدث منها التوقُّف.
وأصحاب العُقْم وعدم الإنجاب نرى فيهم آيات من آيات الله، فنرى الزوجين صحيحين، أجهزتُهما صالحة للإنجاب، ومع ذلك لا ينجبان، فإذا ما تزوج كل منهما بزوج آخر ينجب؛ لأن المسألة ليست (آليّة)، بيل وراء الأسباب الظاهرة إرادة الله ومشيئته.
لذلك يقول تعالى:{ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً... }[الشورى: 49 - 50].
ثم تُوضِّح الآيات سبب وعِلَّة إكرام الله واستجابته لنبيه زكريا - عليه السلام: { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } [الأنبياء: 90]
هذه صفات ثلاث أهَّلَتْ زكريا وزوجته لهذا العطاء الإلهي، وعلينا أن نقف أمام هذه التجربة لسيدنا زكريا، فهي أيضاً ليستْ خاصة به إنما بكل مؤمن يُقدِّم من نفسه هذه الصفات.
لذلك، أقول لمن يُعاني من العقم وعدم الإنجاب وضاقتْ به أسباب الدنيا، وطرق باب الأطباء أن يلجأ إلى الله بما لجأ به زكريا - عليه السلام - وأهله { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } [الأنبياء: 90] خذوها (روشتة) ربانية، ولن تتخلف عنكم الاستجابة بإذن الله.

لكن، لماذا هذه الصفة بالذات: } إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.. { [الأنبياء: 90]؟
قالوا: لأنك تلاحظ أن أصحاب العُقْم وعدم الإنجاب غالباً ما يكونون بُخَلاء مُمْسِكين، فليس عندهم ما يُشجِّعهم على الإنفاق، فيستكثرون أن يُخرجوا شيئاً لفقير؛ لأنه ليس ولده.
فإذا ما سارع إلى الإنفاق وسارع في الخيرات بشتى أنواعها، فقد تحدَّى الطبيعة وسار ضدها في هذه المسألة، وربما يميل هؤلاء الذين ابتلاهم الله بالعُقْم إلى الحقد على الآخرين، أو يحملون ضغينة لمن ينجب، فإذا طرحوا هذا الحقد ونظروا لأولاد الآخرين على أنهم أولادهم، فعطفوا عليهم وسارعوا في الخيرات، ثم توجَّهوا إلى الله بالدعاء رَغَباً ورَهَباً، فإن الله تعالى وهو المكوِّن الأعلى يخرق لهم النواميس والقوانين، ويرزقهم الولد من حيث لا يحتسبون.
ومعنى: } وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ { [الأنبياء: 90] يعني: راضين بقدرنا فيهم، راضين بالعُقْم على أنه ابتلاء وقضاء، ولا يُرفع القضاء عن العبد حتى يرضى به، فلا ينبغي للمؤمن أنْ يتمرَّد على قدر الله، ومن الخشوع التطامن لمقادير الخَلْق في الناس.

(/2555)


وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)


ولك أن تسأل: لماذا يأتي ذِكْر السيدة مريم ضمن مواكب النبوة؟ نقول: لأن النبوة اصطفاء الله لنبي من دون خَلْق الله، وكوْنه يصطفي مريم من دون نساء العالمين لتلد بدون ذكورة، فهذا نوع من الاصطفاء، وهو اصطفاء خاص بمريم وحدها من بين نساء العالمين؛ لأن اصطفاء الأنبياء تكرَّر، أمّا اصطفاء مريم لهذه المسألة فلم يتكرر في غيرها أبداً.
وقوله تعالى: { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا.. } [الأنبياء: 91] يعني: عَفَّتْ وحفظتْ فَرْجها، فلم تمكِّن منها أحداً.
ومعنى: { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا.. } [الأنبياء: 91] يعني: مسألة خاصة به، خارجة على قانون الطبيعة، فليس في الأمر ذكورة أو انتقاء، إنما النفخة التي نفخها الله في آدم، فجاءت منها كل هذه الأرواح، هي التي نفخها في مريم، فجاءت منها روح واحدة. فالروح هي نفسها التي قال الله فيها:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي.. }[الحجر: 29].
ثم يقول تعالى: { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 91] يعني: شيئاً عجيباً في الكون، والعجيبة فيها أن تلدَ بدون ذكورة، والعجيبة فيه أن يُولَد بلا أب، فكلاهما آية لله ومعجزة.
ثم يقول الحق سبحانه بعد سَرْد لقطات من موكب الأنبياء:
{ إِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.. }.

(/2556)


إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)


الأمة: الجماعة يجمعها رباط واحد من أرض أو مُلك مَلِك أو دين، كما جاء في قوله تعالى:{ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا أُمَّةٍ.. }[الزخرف: 22] يعني: على دين.
فالمراد: هذه أمتكم أمةٌ حال كَوْنها أمةً واحدة، لا اختلافَ فيها والرسل جميعاً إنما جاءوا ليتمموا بناءً واحداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاّ وُضِعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين ".
والمعنى أن به صلى الله عليه وسلم تتم النبوة وتختم.
وتُطلَق الأمة على الرجل الذي يجمع خصال الخير كلها؛ لأن الله تعالى بعثر خصال الخير في الخَلْق، فليس هناك مَنْ هو مَجْمع مواهب وفضائل، إنما في كل منا ميزةٌ وفضيلةٌ في جانب من الجوانب؛ ليتكامل الناس ويحتاج بعضهم إلى بعض، ويحدث الترابط بين عناصر المجتمع، هذا الترابط يتم إمَّا بحاجات تطوُّعية، أو حاجات اضطرارية.
فلو تعلَّم الناس جميعاً وتخرجوا في الجامعة فَمنْ للمِهَن والحِرَف الأخرى؟ مَنْ سيكنس الشوارع، ويقضي مثل هذه الأمور؟ لو تعطلتْ مجاري الصرف الصحي، أيجتمع هؤلاء الدكاترة والأساتذة لإصلاحها، ولو أصلحوها مرة فهذا تطوُّع.
أمّا المصالح العامة فلا تقوم على التطوع إنما تقوم على الحاجة والاضطرار، ولولا هذه الحاجة لما خرجَ عامل الصرف الصحي في الصباح إلى هذا العمل الشاقّ المنفّر، لكن كيف وفي رقبته مسئولية أُسْرة وأولاد ونفقات؟
وسبق أنْ قُلْنا: ينبغي ألاَّ يغترَّ المرء بما عنده من مواهب ومميزات، ولا يتعالى بها على خَلْق الله، وعليه أنْ يسأل عَمَّا عند الآخرين من مواهب يحتاج هو إليها، ولا يؤديها بنفسه.
إذن: الحاجة هي الرابطة في المجتمع، ولو كانَ التطوّع والتفضّل فلن نحقق شيئاً، فلو قلنا للعامل: تفضل بكنس الشارع لوجدَ ألْفَ عذر يعتذر به، أما إنْ كان أولاده سيموتون جوعاً إن لم يعمل فلا شكَّ أنه سيُسرع ويُبادر.
فالحقيقة أن كل فرد في المجتمع لا يخدم إلا نفسه، فكما تنفع الآخرين تنتفع بهم؛ لذلك إياك أنْ تحسد صاحب التفوق على تفوّقه في أمر من الأمور؛ لأن تفوقه في النهاية عائد عليك.
وكما نقول هذه المسائل في أمور الدنيا نقولها في أمور الآخرة، حين نرى صاحب التديُّن، وصاحب الخُلق والالتزام لا نهزأ به ولا نسخر منه، كما يحلو للبعض؛ لأن صلاحه سيعود عليك، وسوف تنتفع بتديُّنه واستقامته ولعلنا نُرزَق بسبب هؤلاء.
وقد يكون في البيت الواحد فُتوات وأذكياء ومتعلمون وفيهم مُعوَّق أو مجنون أو مجذوب، فترى الجميع يحتقرونه، ويُهوِّنون من شأنه، أو تراه منبوذاً بين هؤلاء مُبْعَداً، لا يشرُف بمعرفته أحد، وربما يعيشون جميعاً في ظِلِّه ويُرزَقون كرامة له.

وكثيراً ما نرى الناس يغضبون وينقمون على قضاء الله إن رزقهم بمولود فيه عيب أو إعاقة، ووالله لو رضيتَ به وتقبلْتَ قضاء الله فيه، لكان هو الظل الظليل لك.
فهؤلاء خُلِقوا هكذا لحكمة، حتى لا نتمرد على صَنْعة الله في كَوْنه، وحتى يشعر أهل النعمة والسلامة والصحة بفضل عليهم، ولنعلم أن الله تعالى لا يسلب شيئاً من عبده إلاّ وقد أعطاه عِوَضاً عنه.
ولك أن تلاحظ مثلاً أحوال الناس المجاذيب الذين تراهم في أيِّ مكان مُهملين يستقلهم الناس، وينفرون من هيئتهم الرثّة، ومع ذلك ترى أصحاب الجاه والسلطان إذا نزلتْ بهم ضائقة وأعيَتْهم الأسباب يلجئون لمثل هؤلاء المجاذيب يلتمسون منهم البركة والدعاء، وهذا في حَدِّ ذاته أسمى ما يمكن أن يتطلع إليه أهل الجاه وأهل السلطان والنفوذ، أن تكون كلمتهم مسموعةً وأمرهم مُطاعاً، وأن يلجأ الناس إليهم كما لجئوا إلى هذا المجذوب المسكين.
فإذا ما أجرى الله الخير على يد هذا الشيخ المجذوب ترى السيد العظيم يتمحك فيه، ويدعوه إلى طعامه، ويدفع عنه أذى الناس ويحتضنه، لأنه جرَّب وعلم أن لديه فيضاً من فيض الله وكرامة يختص الله بها مَنْ يشاء من عباده، ونحن جميعاً عباد الله ليس فينا مَنْ هو ابن لله، أو بينه وبين الله قرابة.
وإنْ كان العقل هو أعزّ ما يعتز به الإنسان، وهو زينته وحليته، فلك أن تنظر إلى المجنون الذي فقد العقل، وحُرِم هذه الآلة الغالية، وترى الناس يشيرون إليه: هذا مجنون، نعم هو مجنون، لكن انظر إلى سلوكه: هل رأيتم مجنوناً يسرق؟ هل رأيتم مجنوناً يزني؟ هل رأيتم مجنوناً انتحر؟
إذن: مع كونه مجنوناً إلا أنه مدرك لنفسه تماماً؛ لأن خالقه عز وجل وإنْ سلبه العقل إلا أنه أعطاه غريزة تحكمه كما تحكم الغريزة الحيوان، وهل رأيتم حماراً ألقى بنفسه مثلاً أمام القطار؟
إذن: علينا ألاَّ نُحقِّر هؤلاء، وألاَّ نستقل بهم فقد عوَّضهم الله عما سلبه منهم، ومنّا مَنْ يسعى ليصل إلى ما وصلوا هم إليه ولا يستطيع، ومَنْ مِنّا لا يتمنى أن يكون مثل هذا المجذوب الذي يتمسَّح الناس فيه، ويطلبون منه البركة والدعاء؟ وأيُّ عظمة يطلبها الإنسان فوق هذا؟ ويكفي هذا أنه لا يُسأَلُ عَمّا يفعل في الدنيا، ولا يُسْأَل كذلك في الآخرة.
نعود إلى قول الله تعالى: } إِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.. { [الأنبياء: 92] فمن معاني أمة: الرجل الذي جمع خصال الخير كلها؛ لذلك وصف الله نبيه إبراهيم بأنه أمة، فقال:{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً.. }[النحل: 120].
يعني: جمع من خصال الخير مَا لا يوجد إلا في أمة كاملة.
والأمة لا تكون واحدة، إلا إذا صدر تكوينها المنهجي عن إله واحد، فلو كان تكوينها من متعدد لذهب كُلُّ إله بما خلق، ولعلاَ بعضهم على بعض، ولفسد الحال.

إذن: كما قال سبحانه:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.. }[المؤمنون: 71].
فلا تكون الأمة واحدة إلا إذا استقبلت أوامرها من إله واحد وخضعت لمعبود واحد، فإنْ نسيتْ هذا الإله الواحد تضاربتْ وتشتتتْ.
وكأن الحق سبحانه يقول: أنتم ستجربون أمة واحدة، تسودون بها الدنيا وتنطلق دعوتكم من أمة أمية لا تعرف ثقافة، ولا تعرف علماً، ولم تتمرس بحكم الأمم؛ لأنها كانت أمة قبلية، لكل قبيلة قانونها وسيادتها وقيادتها.
ثم ينزل لكم نظام يجمع الدنيا كلها بحضاراتها، نظام يطوي تحت جناحه حضارة فارس وحضارة الروم ويُطوِّعها، ولو أنكم أمة مثقفة لقالوا قفزة حضارية، إنما هذه أمة أمية، ونبيها أيضاً أُمِّي إذن: فلا بُدَّ أن يكون المنهج الذي جاء به ليسلب هذه الحضارات عِزَّها ومجدَها منهجاً أعلى من كل هذه المناهج والحضارات.
ثم يقول تعالى: } وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ { [الأنبياء: 92] أي: التزموا بمنهجي لتظلوا أمة واحدة، واختار صفة الربوبية فلم يقُلْ: إلهكم؛ لأن الرب هو الذي خلق ورزق وربى، أمّا الإله فهو الذي يطلب التكاليف.
فالمعنى: ما دُمْتُ أنا ربكم الذي خلقكم من عَدَم، وأمدكم من عُدْم، وأنا القيوم على مصالحكم، أكلؤكم بالليل والنهار، وأرزق حتى العاصي والكافر بي، فأنا أوْلَى بالعبادة، ولا يليق بكم أن أصنع معكم هذا كله وتذهبون إلى إله غيري، هذا منطق العقل السليم، وكما يقولون (اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي).
ومن العبادة أن تطيع الله في أمره ونَهيْه؛ لأن ثمرة هذه الطاعة عائدة عليك بالنفع، فلله تعالى صفات الكمال الأزليّ قبل أنْ يخلق مَنْ يطيعه، فطاعتك لن تزيد شيئاً في مُلْك الله، ومعصيتك لن تنتقص منه شيئاً. إذن: فالأمر راجع إليك، وربك يُثيبك على فعل هو في الحقيقة لصالحك.
لكن، هل سمع الناس هذا النداء وعملوا بمقتضاه، فكانوا أمة واحدة كهذه الأمة التي أدخلتْ الدنيا في رحاب الإسلام في نصف قرن؟ هذه الأمة التي ما زلنا نرى أثرها في البلاد التي تمردتْ على العروبة، وعلى لغة القرآن، ومع ذلك هم مسلمون على لغاتهم وعلى حضارتهم، إن الدين الذي يصنع هذا ، والأمة الواحدة التي تحمَّلتْ هذه المسئولية ما كان ينبغي أن نتخلى عنها.
والسؤال: هل بقيت الأمة الواحدة؟ تجيب الآيات: } وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ.. {.

(/2557)


وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)


أي: صاروا شيعاً وأحزاباً وجماعات وطوائف، كما قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.. }[الأنعام: 159].
لماذا، لست منهم في شيء؟ لأنهم يقضون على واحدية الأمة، ولا يقضون على واحدية الأمة إلا إذا اختلفتْ، ولا تختلف الأمة إلا إذا تعددتْ مناهجها، هنا ينشأ الخلاف، أمَّا إنْ صدروا جميعاً عن منهج واحد فلن يختلفوا.
وما داموا قد تقطعوا أمرهم بينهم، فصاروا قِطَعاً مختلفة، لكل قطعة منهج وقانون، ولكل قطعة تكاليف، ولكل قطعة راية، وكأن آلهتهم متعددة، فهل سيُتركون على هذا الحال، أم سيعودون إلينا في النهاية؟
{ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [الأنبياء: 93] إذن: أنتم أمة واحدة في الخَلْق من البداية، وأمة واحدة في المرجع وفي النهاية، فلماذا تختلفون في وسط الطريق؟
إذن: الاختلاف ناشىء من اختلاف المنهج، وكان ينبغي أن يكون واضع المنهج واحداً. وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم خَاتَماً للرسالات، وجاءت شريعته جامعة لمزايا الشرائع السابقة، بل وتزيد عليها المزايا التي تتطلبها العصور التي تلي بعثته.
فكان المفروض أن تجتمع الأمة المؤمنة على ذلك المنهج الجامع المانع الشامل، الذي لا يمكن أن يستدرك عليه، وبذلك تتحقق وحدة الأمة، وتصدر في تكليفاتها عن إله واحد، فلا يكون فيها مَدْخَل للأهواء ولا للسلطات الزمنية أو الأغراض الدنيئة.
لذلك، إذا تعددت الجماعات التي تقول بالإسلام وتفرقت نقول لهم: كونوا جماعة واحدة، وإلا فالحق مع أيِّ جماعة منكم؟! لأن الله تعالى خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }[ الأنعام: 159].
ولا يتفرق الداعون لدعوة واحدة إلا باتباع الأهواء والأغراض، أما الدين الحق فهو الذي يأتي على هوى السماء، موافقاً لما ارتضاه الله تعالى لخَلْقه.
لقد انفضَّ المؤمنون عن الجامع الذي يجمعهم بأمر الله، فانفضت عنهم الوحدة، وتدابروا حتى لم يَعُدْ يجمعهم إلا قَوْلُ " لا إله إلا الله محمد رسول الله " أما مناهجهم وقوانينهم فقد أخذوها من هنا أو من هناك، وسوف تعضهم هذه القوانين، وسوف تخذلهم هذه الحضارات، ويرون أثرها السيء، ثم يعودون في النهاية إلى الإسلام فهو مرجعهم الوحيد، كما نسمع الآن نداء لا حَلَّ إلا الإسلام.
نعم، الإسلام حَلٌّ للمشاكل والأزمات والخلافات والزعامات، حَلٌّ للتعددية التي أضعفتْ المسلمين وقوَّضَتْ أُخوَّتهم التي قال الله فيها:{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً.. }[آل عمران: 103].
ووالله، لو عُدْنا إلى حبل الله الواحد فتمسَّكنا به، ولم تلعب بنا الأهواء لَعُدْنا إلى الأمة الواحدة التي سادتْ الدنيا كلها.
إذن: { إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [الأنبياء: 93] أي: في الآخرة للحساب، وأنا أقول يا رب.. لعل هذا الرجوع يكون في الدنيا بأنْ تعضَّنا قوانين البشر، فنفزع إلى الله ونعود إليه من جديد، فيعود لنا مجدنا، ويصْدُق فينا قَوْل الرسول صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء ".
ويُعزِّز هذا الفهم ويُقوِّي هذا الرجاء قول الله تعالى بعدها: { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ.. }.

(/2558)


فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)


الحق -سبحانه وتعالى- يستأنف معنا العظة بالعمل الصالح ليعطينا الأمل لو رجعنا إلى الله، والدنيا كلها تَشهد أن أيَّ مبدأ باطل، أو شعار زائف زائل يُزخرفون به أهواءهم لا يلبث أنْ ينهار ولو بَعْد حين، ويتبين أصحابه أنه خطأ ويعدلون عنه.
ومثال ذلك الفكر الشيوعي الذي ساد روسيا منذ عام 1917 وانتهكت في سبيله الحرمات، وسفكتْ الدماء، وهدمتْ البيوت، وأخذت الثروات، وبعد أن كانت أمة تصدر الغذاء لدول العالم أصبحت الآن تتسول من دول العالم، وهم أول مَنْ ضَجَّ من هذا الفكر وعانى من هذه القوانين.
وقوله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. } [الأنبياء: 94] ربط العمل الصالح بالإيمان، لأنه مُنطلَق المؤمن في كُلِّ ما يأتي وفي كُلِّ ما يدع؛ لينال بعمله سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
أمّا مَنْ يعمل الصالح لذات الصلاح ومن منطلق الإنسانية والمروءة، ولا يخلو هذا كله في النهاية عن أهواء وأغراض، فليأخذ نصيبه في الدنيا، ويحظى فيها بالتكريم والسيادة والسُّمْعة، وليس له نصيب في ثواب الآخرة؛ لأنه فَعَل الخير وليس في باله الله.
والحق سبحانه يعطينا مثالاً لذلك في قوله تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ.. }[ النور: 39].
يعني: فوجئ بوجود إله يحاسبه ويجازيه، وهذه مسألة لم تكُنْ على باله، فيقول له: عملتَ ليقال وقد قيل. وانتهت المسألة؛ لذلك يقول تعالى:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ.. }[الشورى: 20] أي: نعطيه أجره في عالم آخر لا نهاية له{ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
لأنه عَمِلَ للناس، فليأخذ أجره منهم، يُخلِّدون ذكراه، ويُقيمون له المعارض والتماثيل.. الخ.
وقوله تعالى: { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ.. } [الأنبياء: 94] يعني: لا نبخسه حَقَّه ولا نجحد سَعْيه أبداً { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } [الأنبياء: 94] نسجِّل له أعماله ونحفظها، والمفروض أن الإنسان هو الذي يُسجِّل لنفسه، فإنْ سجَّل لك عملَك ربُّك الذي يُثيبك عليه، وسجَّله على نفسه، فلا شكَّ أنه تسجيل دقيق لا يبخسك مثقال ذرة من عملك.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَحَرَامٌ عَلَىا قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ.. }.

(/2559)


وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)


{ حَرَامٌ.. } [الأنبياء: 95] يعني: ممتنع: لا يجب أن يكون، والقرية: أي قرية أهلكناها؛ لأنها كذَّبَتْ الرسل، ووقفتْ منهم موقف اللَّدَد والعناد والمعارضة، فأهلكها الله بذنوبها في الدنيا، أيُعقَلُ بعد هذا أن نتركها في الآخرة من غير أنْ نأخذها بذنوبها؟
لا بُدَّ - إذن - أن ترجع إلينا في الآخرة لنحاسبها الحساب الدائم الخالد، فلا نكتفي بحساب الدنيا المنتهي.
ثم يقول الحق سبحانه: { حَتَّىا إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ.. }.

(/2560)


حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)


وردتْ قصة يأجوج ومأجوج في آخر سورة الكهف، حينما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الجوَّال الذي طاف الأرض، فنزلت:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً }[الكهف: 83].
وقد تكلم العلماء في ذي القرنين، منهم مَنْ قال: هو قورش ومنهم مَنْ قال هو: الإسكندر الأكبر. والقرآن لا يعنيه الشخص وإلاَّ لَذكره باسمه، فالقرآن لا يُؤرِّخ له، لا يقيم له تمثالاً، إنما يريد التركيز على الأوصاف التي تعني الحق وتعني الخَلْق.
فيكفي أن نعلم أنه إنسان مكَّنَه الله في الأرض. يعني: أعطاه من أسباب القوة وأسباب المهابة والسيطرة، وأعطاه من كُلِّ مُقوِّمات القوة: أعطاه المال والعلم والجيوش، فلم يكتف بذلك كله، بل{ فَأَتْبَعَ سَبَباً }[الكهف: 85] يعني: أخذ بالأسباب التي تؤدِّي إلى الخير.
وسبق أنْ تحدثنا عن تشخيص البطل في قصص القرآن؛ لأن القرآن لا يُؤرِّخ للشخصية، ولا يُعطى لها خصوصية، وإنما يريدها عامة لتكون مثلاً يُحتذَى، ويتم بها الاعتبار، وتُحدِث الأثر المراد من القصة.
فما يعنينا في قصة ذي القرنين أنه رجل مُكِّن في الأرض، وكان من صفاته كذا وكذا، وما يعنينا من أهل الكهف أنهم فتية آمنوا بربهم وتمسَّكوا بدينهم وعقيدتهم وضَحَّوْا في سبيلها، لا يهمنا الأشخاص ولا الزمان ولا المكان ولا العدد.
لذلك؛ أبهم القرآن كل هذه المسائل، فأيّ فتية، في أيّ زمان، وفي أيِّ مكان، وبأيِّ أسماء يمكن أن يقفوا هذا الموقف الإيماني، ولو شخَّصناهم وعيَّناهم لَقالَ الناس: إنها حادثة خاصة بهؤلاء، أو أنهم نماذج لا تتكرر؛ لذلك أبهمهم القرآن ليكونوا عبرة وأُسْوة تسير في الزمان كله.
كذلك، لما أراد القرآن أنْ يضرب مثلاً للذين كفروا ذكر امرأة نوح وامرأة لوط ولم يُعيِّنهما، وكذلك ضرب مثلاً للذين آمنوا بامرأة فرعون ولم يذكر مَنْ هي، فالغرض من ضَرْب هذه الأمثال ليس الأشخاص، إنما لنعلم أن للمرأة حريةَ العقيدة واستقلاليةَ الرأي، فليست هي تابعة لأحد، بدليل أن نوحاً ولوطاً لم يتمكَّن كل منهما من هداية امرأته.
وفرعون الكافر الذى ادَّعَى الألوهية، لم يستطع أن يمنع زوجته من الإيمان، وهي قالت:{ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }[التحريم: 11].
إذن: ما يعنينا في قصة " ذي القرنين " أن الله مكَّن له في الأرض وأعطاه كُلَّ أسباب القوة والسيطرة؛ لذلك ائتمنه أنْ يكونَ ميزاناً للخير وللحق، وفوَّضَهُ أن يقضي في الخَلْق بما يراه من الحق والعدل.{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً }[الكهف: 86].
لأننا مكَّنَّاه وفوَّضناه، فاستعمل التمكين في موضعه، وأخذ الأمانة بحقَِّها، فقال:

{ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً }[الكهف: 87] أي: نُعذِّبه على قَدْر مقدرتنا، ثم يُرَدُّ إلى ربه فيُعذِّبه على قَدْر قدرته تعالى.{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }[الكهف: 88]
وهكذا يكون دستور الحياة من الحاكم الممكَّن في الخَلْق، دستور الثواب والعقاب الذي تستقيم به أمور البلاد والعباد، فحين يرى تقصيراً لا بُدَّ أنْ يأخذ على يد صاحبه مهما تكُنْ منزلته، لا يخافه ولا ينافقه ولا يخشى في الله لومة لائم، وإنْ رأى المحسن المجتهد يُثيبه ويكافئه.
وهذا القانون نراه في مجتمعنا يكاد يكون مُعطّلاً بين العاملين، فاختلط الحابل بالنابل، وتدهورتْ الأمور، ودخلت بيننا مقاييس أخرى للثواب وللعقاب ما أنزل الله بها من سلطان، فانقلبتْ الموازين، حيث تبجح الكسالى، وأُحْبِط المجدُّون المحسنون.{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىا قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً }[الكهف: 90].
هذا كُلُّ ما أخُبر الله به، ويبدو أنه وصل في تجواله العام إلى بلاد تظل الشمس بها مشرقة ثلاثة أو ستةَ أشهر لا تغرب؛ لذلك لم يجد لهم من دون الشمس ستْراً يسترها أيْ ظلمة{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }[الكهف: 93].
ومع ذلك احتال أن يفهم منهم، ويخاطبهم؛ لحرصه على نفعهم وما يصلحهم، وهذه صفة الحاكم المؤمن حين يُمكَّن في الأرض، وتُعطَى له أسباب القيادة، ويُفوَّض في خَلْق الله، ولو لم يكُنْ حريصاً على نفعهم لوجد العذر في كونه لا يفهم منهم ولا يفهمون منه.
فلما توصلوا إلى لغة مشتركة، ربما هي لغة الإشارة التي نتفاهم بها مع الأخرس مثلاً:{ قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىا أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً }[الكهف: 94].
ثم أمرهم أن يأتوا بقطَع الحديد، فأشعل فيها النار حتى احمرَّت فقال{ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }[الكهف: 96] وهكذا صنع لهم السدَّ الذي يحميهم من هؤلاء القوم، فلم يَقصُر نفعه لهم على هذه القضية ذاتها، إنما نفعهم نَفْعاً يعطيهم الخير والقوة في ألاَّ يتعرضوا لمثلها بعد ذلك، عملاً بالحكمة التي تقول: لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف أصطاد.
ذلك لأنه أشركهم في العمل؛ ليشعروا بأهميته ويتمسكوا بالمحافظة عليه وصيانته، وإذا ما تعرضوا لمثل هذا الموقف لا ينتظرون مَنْ يصنع لهم.
هذا هو النموذج الذي تُقدِّمه قصة " ذي القرنين " وهو نموذج صالح لكل الزمان ولكل المكان ولكل حاكم مكَّنه الله في الأرض، وألقى بين يديه أزِمّة الأمور، وفي حديث أفضل العمل يقول صلى الله عليه وسلم: " تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق ".
وقد تضاربتْ الأقوال حول: مَنْ هم يأجوج ومأجوج، فمنْ قائل: هم التتار.

وآخر قال: المغول. وآخر قال: هم الحتيت، أو السرديال، أو قبائل الهُونْ.
ولو كان في تحديدهم فائدة لعيَّنهم القرآن، إنما المهم من قصتهم أنهم قوْمٌ مفسدون في الأرض لا يتركون الصالح على صلاحه، فإذا ما تصدَّى لهم الممكَّن في الأرض فعليه أن يحول بينهم وبين هذا الإفساد في غيرهم، وعلينا نحن ألاَّ نُفسِد الصالح كهؤلاء، إنما نترك الصالح على صلاحه، بل ونزيده صلاحاً.
وفي بناء ذي القرنين للسد دروس يجب أنْ يعيها أولو الأمر الذين يتوَّلْون مصالح الخَلْق، من هذه الدروس أنه لم يقف عند طلبهم في بناء سدٍّ يمنع عنهم أذى عدوهم، إنما اجتهد وترقَّى بالمسألة إلى ما هو أفضل لهم، فالسدُّ الأصمّ المتماسك كقطعة واحدة يسهل هَدْمه أو النفاذ منه؛ لذلك قال:{ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً }[الكهف: 95].
لقد طلبوا سداً وهو يقول: رَدْماً، لقد رقّى لهم الفكرة، وأراد أن يصنع لهم سداً على هيئة خاصة تمتصّ الصدمات، ولا تؤثر في بنائه؛ لأنه جعل بين الجانبين رَدْماً كأنه سوسته تُعطِي السدّ نوعاً من المرونة. وهكذا يجب أن يكون المؤمن عند تحمُّل مسئولية الخَلْق.
ولما عرضوا عليه المال نظير عمله أبى، وقال:{ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ.. }[الكهف: 95] أي: عندي المال الكثير من عطاء الله لكن أعينوني بما لديكم من قوة. إذن: زكاة القوة أنْ تمنع الفساد من الغير.
نعود إلى قوله تعالى: } حَتَّىا إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ.. { [الأنبياء: 96] فلها علاقة بقوله تعالى:{ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ.. }[الأنبياء: 93] فتقطّع أهل الخير وتفرُّقهم يُجرِّئ عليهم أصحاب الفساد، وأقل ما يقولونه في حقِّهم أنهم لو كانوا على خير لنفعوا أنفسهم، فدعُوكم من كلامهم، وهكذا يفُتُّ أهل الباطل في عَضُدِ أهل الحق، ويصرفون الناس عنهم.
} حَتَّىا إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ.. { [الأنبياء: 96] يعني: جاءت عناصر الفساد والفتنة في الكون، وعناصر الفساد والفتنة لا تتمكن ولا تجد الفرصة والسلطة الزمنية إلا إذا غفل أهل الحق وتفرقوا فلم يردوهم، ويأخذوا على أيديهم.
ويأجوج ومأجوج هم أهل الفساد في كل زمان ومكان، فجنكيزخان الذي هدم أول ولاية إسلامية في خوارزم، وكان عليها الملك قطب أرسلان، ثم جاء من ذريته الثالثة هولاكو الذي دخل بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية وخربَّها وقتل أهلها حتى سالتْ الدماء، وألقى بالكتب الإسلامية في النهر حتى كانت قنطرة يعبرون عليها. هؤلاء الذين نُسمِّيهم التتار.
إذن: فالقرآن قَصَّ علينا من التاريخ القديم قصة يأجوج ومأجوج أيام ذي القرنين، ثم رأيناهم في حياتنا الإسلامية، وشاء الله أن يستفيد المسلمون من هجمات هؤلاء البرابرة، وأن تتجمع ولاياتهم ويصدُّوا هجمات التتار على أرض مصر بقيادة قطز والظاهر بيبرس، وهما مثالان للممكَّنين في الأرض، مع أنهما من المماليك.
هذه الهجمات التترية للمفسدين في الأرض كانت هجمات همجية وحشية، وقد تجمَّع أحفاد هؤلاء من يأجوج ومأجوج العصر الحديث في هجمات مدنية تغزونا بحضارتها، إنهم الصليبيون الذين انهزموا أمام وحدة المسلمين بقيادة صلاح الدين.

وهكذا على مرِّ التاريخ ننتصر إذا كنا أمة واحدة، ونُهزَم إذا تفرّقنا وتقطّعنا أمماً وأحزاباً، وهذه حقائق تُثبِت صِدْق القرآن فيما وجَّهنا إليه من الوحدة وعدم التفرق.
ثم يقول تعالى: } وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ { [الأنبياء: 96].
الحدب: المكان المرتفع، نقول: فلان أحدب الظهر يعني: في ظهره منطقة مرتفعة، وكذلك هؤلاء المفسدون أتوْا من أماكن مرتفعة في هضبة شمال الصين. ومعنى } يَنسِلُونَ { [الأنبياء: 96] يعني: يسرعون، ومنه نقول: انسلَّ القماش؛ لأن القماش مُكوَّن من سُدى ولُحمة، يعني خيوط طولية وخيوط عرضية، تتداخل فتكوِّن القماش، فنسل القماش أن تنزع خيوط العرض وتفكّ تداخلها مع خيوط الطول، ولا تُنزع خيوط الطول لأنها دائماً مُحكَمة بثَنْى السُّدَى على اللحمة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. {.

(/2561)


وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)


فكوْنُ أهل الفساد يأتون مُسْرِعين من كل حَدب وصَوْب إلا أن فسادهم لن يطول، فقد اقتربت القيامة، قال تعالى:{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ }[القمر: 1].
وقال:{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ.. }[النحل: 1].
وهذا تنبيه للغافل، وتحذير للباغي من أهل الفساد، وتطمين ورجاء للمظلومين المستضعفين المعتدَى عليهم: اطمئنوا فقد قرب وقت الجزاء.
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.. } [الأنبياء: 97] والوعد الحق أي: الصادق الذي يملك صاحبه أن يُنفّذه، فقد تَعِد وعداً ولا تملك تنفيذه فهو وَعْد، لكنه وَعْد باطل، فالوعد يختلف حَسْب مروءة الواعد وإمكانياته وقدرته على إنفاذ ما وعد به.
لكن مهما كانت عندك من إمكانيات، ومهما ملكتَ من أسباب التنفيذ، أتضمن أن تُمكِّنك الظروف والأحوال من التنفيذ؟ ولا يملك هذا كله إلا الله عز وجل، فإذا وعد حقق ما وعد به، فالوعد الحق - إذن - هو وعد الله.
وحين يقول الحق سبحانه: { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.. } [الأنبياء: 97] فتنبه ولا تَقِسْ الدنيا بعمرها الأساسي، إنما قِسْ الدنيا بعمرك فيها، فهذه هي الدنيا بالنسبة لك، ولا دَخْلَ لك بدنيا غيرك، فإذا كنتَ لا تعلم متى تفارق دنياك فلا شَكَّ أن عمرك قريب، واقترب الوعد الحق بالنسبة لك.
وكذلك مدة مُكْثِك في قبرك إلى أن تقوم الساعة ستمر عليكِ كساعة من نهار، كما قال سبحانه:{ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ.. }[يونس: 45].
ولو تنَّبه كل مِنّا إلى إخفاء الله لأجله، لعلم أن في هذا الإخفاء أعظمَ البيان، فحين أخفاه ترقبناه في كل طَرْفة عَيْن، وتنفُّس نَفَسٍ؛ لذلك يقولون: " مَنْ مات قامت قيامته " ، لأن القيامة تعنى الحساب والجزاء على الأعمال، ومَنْ مات انقطع عمله، وطُويَتْ صحيفته.
وقوله تعالى: { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [الأنبياء: 97] وَعْد الله هنا هو القيامة، وهي تفاجئنا وتأتينا بغتة؛ لذلك نقول في (فَإذَا) أنها الفجائية، كما تقول: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب، يعني: فوجئت به، وهكذا ساعةَ تقوم الساعة سوف تُفَاجِئ الجميع، لا يدري أحد ماذا يفعل.
لذلك يقول سبحانه: { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [الأنبياء: 97] وشخوص البصر يأتي حين ترى شيئاً لا تتوقعه، ولم تحسب حسابه، فتنظر مُنْدهِشاً يجمد جفنُك الأعلى الذي يتحرك على العين، فلا تستطيع حتى أنْ ترمش أو تطرف.
وفي آية أخرى يقول تعالى:{ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }[إبراهيم: 42].
وإذا أردتَ أن ترى شُخوص البصر فانظر إلى شخص يُفَاجأ بشئ لم يكُنْ في باله، فتراه - بلا شعور وبغريزته التكوينية - شاخصَ البصر، لا ينزل جفنه.
ثم يقولون: { ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا.. } [الأنبياء: 97] فلم يقتصر الموقف على شخوص البصر إنما تتحرك أيضاً أدوات الإدراك فيقول اللسان: { ياوَيْلَنَا } وهذا نداء للويل أي: جاء وقتُك فلم يَعُدْ أمامهم إلا أنْ يقولوا: يا عذاب هذا أوانك فاحضر.

والويل: هو الهلاك السريع ينادونه، فهل يطلب الإنسان الهلاكَ، ويدعو به لنفسه؟ نقول: نعم، حين يفعل الإنسان الفعلَ ويجد عواقبه السيئة، وتواجهه الحقيقة المرّة يميل إلى تعذيب نفسه، أَلاَ تسمع مثل هؤلاء يقولون: أنا أستحق.. أنا أستاهل الضرب..؟ إنه لَوْم النفس وتأنيبها على ما كان منها، فهي التي أوقعتْه في هذه الورطة.
لذلك يقول سبحانه:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67].
فلماذا لا يُؤنِّب نفسه، ويطلب لها العذاب، وهي التي أردتْه في التهلكة، ففي هذا الموقف تنقلب موازينهم التي اعتادوها في الدنيا، فالأصدقاء في الشر وفي المعصية هم الآن الأعداء.
} قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا.. { [الأنبياء: 97] لم يكن هذا الموقف في بالنا، ولم نعمل له حساباً، والغفلة: أنْ تدرأ عن بالك ما يجب أن يكون على بالك دائماً.
لكن، أيّ غفلة هذه والله - عز وجل - يُذكِّرنا بهذا الموقف في كل وقت من ليل أو نهار، ألاَ ترى أنه سبحانه سَمَّى القرآن ذِكْراً ليزيح عنّا هذه الغفلة، فكلما غفلتَ ذكّرك، وهزَّ مواجدك، وأثار عواطفك.
إذن: المسألة ليست غفلة؛ لذلك نراهم يستدركون على كلامهم، فيقولون: } بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ { [الأنبياء: 97] لأنهم تذكَّروا أن الله تعالى طالما هَزَّ عواطفهم، وحرَّك مواجيدهم ناحية الإيمان، فلم يستجيبوا.
لذلك اعترفوا هنا بظلمهم، ولم يستطيعوا إنكاره في مثل هذا الموقف، فلم يعُدْ الكذب مُجْدِياً، ولعلّهم يلتمسون بصدقهم هذا نوعاً من الرحمة، ويظنون أن الصدق نافعهم، لكن هيهات.
وكأن الحق سبحانه يحكي عنهم هذه المواجهة حين تفاجئهم القيامة بأهوالها، فتشخص لها أبصارهم، ويقول بعضهم } ياوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا.. { [الأنبياء: 97] فيردّ عليهم إخوانهم: أيّ غفلة هذه، وقد كان الله يُذكِّرنا بالقيامة وبهذا الموقف في كل وقت } بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ { [الأنبياء: 97].
و (بَلْ) حرف إضراب عن الكلام السابق، وإثبات للكلام اللاحق، وهكذا يُراجِعون أنفسهم، ويُواجِه بعضهم بعضاً، لكن بعد فوات الأوان.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ.. {.

(/2562)


إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)


فالذين اتخذتموهم آلهة من دون الله من الأصنام والأوثان والشمس والقمر والأشجار سيسبقونكم إلى جهنم لنقطع عليكم أيَّ أمل في النجاة؛ لأنهم حين يروْنَ العذاب ربما تذكّروا هؤلاء، وفكَّروا في اللجوء إليهم والاستنجاد بهم، لعلّهم يُخرِجِونهم من هذا المأزق، وقد سبق أنْ قالوا عنهم:{ هَـاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ.. }[يونس: 18] وقالوا:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.. }[الزمر: 3].
لذلك، يجمعهم الله جميعاً في جهنم ليقطع عنهم الآمال، ويبدو خجل المعبود وخيبة العابد؛ لأنه جاء النارَ فوجد معبوده قد سبقه إليها.. لكن، هل هذا الكلام على إطلاقه فقد عبد الكفارُ الأصنامَ، ومنهم مَنْ عبدوا عيسى عليه السلام، ومنهم مَنْ عبدوا عُزَيْراً، ومنهم مَنْ عبدوا الملائكة، فهل سيُجمع هؤلاء أيضاً مع عابديهم في النار؟
لو قُلْنا بهذا الرأي فدخولهم النار مثلما دخلها إبراهيم، فجمع الله له النار والسلامة في وقت واحد، ويكون وجودهم لمجرد أنْ يراهم عابدوهم، ويعلموا أنهم لا ينفعونهم.
ومعنى { حَصَبُ جَهَنَّمَ.. } [الأنبياء: 98] الحصب مثل: الحطب، وهو كل ما تُوقَد به النار أياً كان خشباً أو قَشاً أو بترولاً أو كهرباء، وفي آية أخرى:{ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.. }[التحريم: 6] لذلك فإن النار نفسها تشتاق للكفار، وتنتظرهم، وتتلهّف عليهم كما يقول تعالى:{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30] وقوله تعالى:{ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ.. }[الملك: 7 - 8] وقوله تعالى: { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء: 98] الورود هنا بمعنى: الدخول والمباشرة، لا كالورود في الآية الأخرى:{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا.. }[مريم: 71].
ثم يقول الحق سبحانه: { لَوْ كَانَ هَـاؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا.. }.

(/2563)


لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)


لأنهم سيدخلون فيجدون آلهتهم أمامهم؛ لينْقطِع أملهم في شفاعتهم التي يظنونها، كما قال تعالى في شأن فرعون:{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ.. }[هود: 98] فرئيسهم وفُتوتهم يتقدمهم، ويسبقهم إلى النار، فلو لم يكُنْ أمامهم لظنوا أنه ينقذهم من هذا المأزق. ولو كان هؤلاء آلهة - كما تدَّعون - ما وردوا النار.
ومعنى: { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } [الأنبياء: 99] لأن المعروف عن النار أنها تأكل ما فيها، ثم تنتهي، أما هذه النار فلا نهايةَ لها، فكلما نضجَتْ جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، وهكذا تظل النار مُتوقِّدة لا تنطفئ. ومعنى { كُلٌّ.. } [الأنبياء: 99] أي: العابد والمعبود.

(/2564)


لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)


معلوم أن الزفير هو الخارج من عملية التنفس، فالإنسان يأخذ في الشهيق الأكسجين، ويُخرِج في الزفير ثاني أكسيد الكربون، فنلحظ أن التعبير هنا اقتصر على الزفير دون الشهيق؛ لأن الزفير هو الهواء الساخن الخارج، وليس في النار هواء للشهيق، فكأنه لا شهيقَ لهم، أعاذنا الله من العذاب.
{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } [الأنبياء: 100].
وهذه من الآيات التي توقف عندها المستشرقون، لأن هناك آياتٍ أخرى تُثبت لهم في النار سَمْعاً وكلاماً. كما في قوله سبحانه:{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }[الأعراف: 44]
نعم، هم يسمعون، لكن لا يسمعون كلاماً يَسُرُّ، إنما يسمعون تبكيتاً وتأنيباً، كما في قوله تعالى:{ وَنَادَىا أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }[الأعراف: 50].

(/2565)


إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)


بعد أن ذكر سبحانه جزاء الكافرين في النار ذكر المقابل، وذِكْر المقابل يوضح المعنى، اقرأ قوله تعالى:{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 13 - 14].
ويقول:{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً.. }[التوبة: 82] لذلك تظل المقارنة حيَّة في الذِّهْن.
ومعنى: { سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَىا.. } [الأنبياء: 101] الحُسْنى: مؤنث الأحسن، تقول: هذا حَسَن، وهذه حسنة، فإنْ أردتَ المبالغة تقول: هذا أحسن، وهذه حُسْنى. مثل: أكبر وكُبْرى. ومعنى: { سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَىا.. } [الأنبياء: 101] أنهم من أهل الطاعة، ومن أهل الجنة، فهكذا حُكْم الله لهم، وقد أخذ الله تعالى جزءاً من خَلْقه وقال: " هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي ".
ولا تقُلْ: ما ذنب هؤلاء؟ لأنه سبحانه حكم بسابق عِلْمه بطاعة هؤلاء، ومعصية هؤلاء.
وقوله: { أُوْلَـائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء: 101] أي: مبعدون عن النار.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ.. }.

(/2566)


لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)


حسيس النار: أزيزها، وما ينبعث منها من أصوات أول ما تشتعل { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } [الأنبياء: 102] فلم يقُلْ مثلاً: وهم بما اشتهتْ أنفسهم، إنما { فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ.. } [الأنبياء: 102] كأنهم غارقون في النعيم ممَّا اشتهتْ أنفسهم، كأن شهوات أنفسهم ظرف يحتويهم ويشملهم. وهذا يُشوِّق أهل الخير والصلاح للجنة ونعيمها، حتى نعمل لها، ونُعِد العُدَّة لهذا النعيم.
وسبق أن قلنا: إن الإنسان يتعب في أول حياته، ويتعلم صنعة، أو يأخذ شهادة لينتفع بها فيما بعد ويرتاح في مستقبل حياته، وعلى قَدْر تعبك ومجهودك تكون راحتك، فكل ثمرة لا بُدَّ لها من حَرْث ومجهود، والله عز وجل لا يُضيع أجرَ مَنْ أحسن عملاً.
وكنا نرى بعض الفلاحين يقضي يومه في حقله، مهملَ الثياب، رثَّ الهيئة، لا يشغله إلا العمل في زرعه، وآخر تراه مُهنْدماً نظيفاً يجلس على المقهى سعيداً بهذه الراحة، وربما يتندر على صاحبه الذي يُشقِى نفسه في العمل، حتى إذا ما جاء وقت الحصاد وجد العامل ثمرة تعبه، ولم يجد الكسول غير الحسرة والندم.
إذن: ربك - عز وجل - أعطاك الطاقة والجوارح، ويريد منك الحركة، وفي الحركة بركة، فلو أن الفلاح جلس يُقلِّب في أرضه ويُثير تربتها دون أنْ يزرعها لَعوَّضه الله وأثمر تعبه، ولو أن يجد شيئاً في الأرض ينتفع به مثل خاتم ذهب أو غيره.
وترف الإنسان وراحته بحسب تَعبه في بداية حياته، فالذي يتعب ويعرق مثلاً عَشْر سنين يرتاح طوال عمره، فإنٍْ تعب عشرين سنة يرتاح ويرتاح أولاده من بعده، وإنْ تعِب ثلاثين سنة يرتاح أحفاده وهكذا.
وترَف المتعلم يكون بحسب شهادته: فهذا شهادة متوسطة، وهذا عُلْيا، وهذا أخذ الدكتوراة، ليكون له مركز ومكانة في مجتمعه.
لكن مهما أعدَّ الإنسان لنفسه من نعيم الحياة وترفها فإنه نعيم بقّدْر إمكانياته وطاقاته؛ لذلك ذكرنا أننا حين سافرنا إلى سان فرانسيسكو رأينا أحد الفنادق الفخمة وقالوا: إن الملك فيصل - رحمه الله - كان ينزل فيه، فأردنا أنْ نتجوّل فيه، وفعلاً أخذنا بما فيه مظاهر الترف والأُبهة وروعة الهندسة، وكان معي ناس من عِلْية القوم فقلتُ لهم: هذا ما أعدّه العباد للعباد، فما بالكم بما أعدَّه رب العباد للعباد؟
فإذا ما رأيتَ أهل النعيم والترف في الدنيا فلا تحقد عليهم؛ لأن نعيمهم يُذكِّرك ويُشوِّقك لنعيم الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: { لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ.. }.

(/2567)


لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)


ذلك لأنهم في نعيم دائم لا ينقطع، وعطاء غير مجذوذ، لا يفوتك بالفقر ولا تفوته بالموت؛ لذلك: { لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ.. } [الأنبياء: 103] وأيُّ فزع مع هذه النعمة الباقية؟ أو: لا يحزنهم فزع القيامة وأهوالها.
وقوله: { وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَـاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 103] فقد صَدَقكم الله وَعْده، وأنجزَ لكم ما وعدكم به من نعيم الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ.. }.

(/2568)


يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)


أي: ما يحدث من عذاب الكفار وتنعيم المؤمنين سيكون { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.. } [الأنبياء: 104] و (يَوْمَ): زمن وظَرْف للأحداث، فكأن ما يحدث للكافرين من العذاب والتنكيل، وما يحدث للمؤمنين من الخلود في النعيم يتم في هذا اليوم.
والسجل: هو القرطاس، والورق الذي نكتب فيه يُسمَّى سجلاً؛ ولذلك الناس يقولون: نسجل كذا، أي: نكتبه في ورقة حتى يكون محفوظاً، والكتاب: هو المكتوب.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى:{ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.. }[الزمر: 67] يطويها بقدرته؛ لأن اليمين عندنا هي الفاعلة في الأشياء، ولكن لا نأخذ الطي أنه الطي المعروف، بل نأخذه في إطار{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. }[الشورى: 11].
وقوله تعالى: { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ.. } [الأنبياء: 104] يدلنا على أن الحق سبحانه يتكلم عن الخَلْق الأول و { نُّعِيدُهُ.. } تدل على وجود خَلْق ثَان.
إذن: فقوله تعالى في موضع آخر:{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[إبراهيم: 48] دليل على أن الخَلْق الأول خَلْق فيه الأسباب وفيه المسبّب، فالحق سبحانه أعطاك في الدنيا مُقوِّمات الحياة من: الشمس والقمر والمطر والأرض والماء.... الخ، وهذه أمور لا دَخْل لك فيها، وكل ما عليك أنْ تستخدمَ عقلك الذي خلقه الله في الترقي بهذه الأشياء والترف بها.
أما في الخلق الثاني فأنت فقط تستقبل النعيم من الله دون أَخْذ بالأسباب التي تعرفها في الدنيا؛ لأن الآخرة لا تقوم بالأسباب إنما بالمسبِّب سبحانه، وحين ترى في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر تعلم أن فِعْل ربك لك أعظم من فِعْلك لنفسك.
ومهما ارتقتْ أسباب الترف في الدنيا، ومهما تفنَّن الخَلْق في أسباب الراحة والخدمة الراقية، فقصارى ما عندهم أن تضغط على زِرٍّ يفتح لك الباب، أو يُحضِر لك الطعام أو القهوة، لكن أتحدَّى العالم بما لدية من تقدُّم وتكنولوجيا أنْ يُقدم لي ما يخطر ببالي من طعام أو شراب، فأراه أمامي دون أنْ أتكلم؛ لأن هذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
فقوله: { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ.. } [الأنبياء: 103] فالمعنى ليستْ مجرد إعادته كما كان، إنما نعيده على أَرْقى وأفضل مما كان بحيث يصل بك النعيم أنْ يخطرَ الشئ ببالك فتجده بين يديك، بل إنَّ المؤمن في الجنة يتناول الصنف من الفاكهة فيقول: لقد أكلْتُ مثل هذا من قبل فيُقال له: ليس كذلك بل هو أفضل مما أكلْتَ، وأهنأ مما تذوقتَ. فلو تناولتَ مثلاً تفاح الدنيا تراه خاضعاً لنوعية التُّرْبة والماء والجو المحيط به والمبيدات التي لا يستغني عنها الزرع هذه الأيام... إلخ. أمّا تفاح الآخرة فهو شيء آخر تماماً، إنه صَنْعة ربانية وإعداد إلهيّ.
وكأن الحق سبحانه يلفت عباده إلى أن عنايته بهم أفضل من عنايتهم بأنفسهم؛ لأنه سبحانه أوْلَى بنا من أنفسنا، ولكي نعلم الفرق بين الشيء في أيدينا والشيء في يده عز وجل.
ثم يقول تعالى: { وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 104] أي: لا يُخرِجنا شيء عمَّا وعدنا به، ولا يخالفنا أحد.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ.. }.

(/2569)


وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)


والكَتْب: التسجيل، لكن علم الله أزليٌّ لا يحتاج إلى تسجيل، إنما التسجيل من أجلنا نحن حتى نطمئن، كما لو أخذتَ من صاحبك قَرْضاً وبينكما ثقة، ويأمن بعضكم بعضاَ، لكن مع هذا نكتب القَرْض ونُسجِّله حتى تطمئن النفس.
ومعنى: { كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ.. } [الأنبياء: 105] الزبور: الكتاب الذي أُنزِل على نبي الله داود، ومعنى الزبور: الشيء المكتوب، فإنْ أطلقتَها على عمومها تُطلَق على كل كتاب أنزله الله، ومعنى: { مِن بَعْدِ الذِّكْرِ.. } [الأنبياء: 105] الذِكْر: يُطلَق مرة على القرآن، ومرة على الكتب السابقة. وما دام الزَبور يُطلَق على كل كتاب أنزله الله فلا بُدَّ أن للذكر معنى أوسع؛ لذلك يُطلَق الذكر على اللوح المحفوظ، لأنه ذكْر الذكْر، وفيه كل شيء.
فمعنى: { كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ.. } [الأنبياء: 105] أي: في الكتب التي أُنزلَتْ على الأنبياء ما كتبناه في اللوح المحفوظ، أو ما كتبناه في الزبور، لا أنّ سيدنا داود أعطاه الله فوق ما أعطى الآخرين.
ومعنى: { مِن بَعْدِ الذِّكْرِ.. } [الأنبياء: 105] هذه تدل على أن واحداً أسبق من الآخر، نقول: القرآن هو كلام الله القديم، ليس في الكتب السماوية أقدم منه، والمراد هنا { مِن بَعْدِ الذِّكْرِ.. } [الأنبياء: 105] بعدية ذِكْرية، لا بعدية زمنية.
فما الذي كتبه الله لداود في الزبور؟ كتب له { أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105] كلمة الأرض إذا أُطلقَتْ عموماً يُراد بها الكرة الأرضية كلها.
وقد تُقيَّد بوصف معين. كما في:{ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ.. }[المائدة: 21].
وفي:{ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ.. }[يوسف:80] أي: التي كان بها.
وهنا يقول تعالى: { أَنَّ الأَرْضَ.. } [الأنبياء: 105] أي: الأرض عموماً { يَرِثُهَا.. } أي: تكون حقاً رسمياً لعبادي الصالحين. فأيُّ أرض هذه؟ أهي الأرض التي نحن عليها الآن؟ أم الأرض المبدلة؟
ما دُمْنَا نتكلّم عن بَدْء الخَلْق وإعادته، فيكون المراد الأرض المبدلَة المعادة في الآخرة، والتي يرثها عباد الله الصالحون، والإرْث هنا كما في قوله تعالى:{ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[الأعراف: 43].
فعن مَنْ ورثوا هذه الأرض؟
الحق سبحانه وتعالى حينما خلق الخَلْق أعدَّ الجنة لِتسعَ كلَّ بني آدم إنْ آمنوا، وأعدَّ النار لتسع كُلَّ بني آدم إنْ كفروا، فليس في المسألة زحام على أيِّ حال. فإذا ما دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، ودخل أهلُ النارِ النارَ ظلَّتْ أماكن أهل النار في الجنة خالية فيُورثها الله لأهل الجنة ويُقسِّمها بينهم، ويُفسح لهم أماكنهم التي حُرِم منها أهل الكفر.
أو نقول: الأرض يُراد بها أرض الدنيا. ويكون المعنى أن الله يُمكِّن الصالح من الأرض، الصالح الذي يَعْمُرها ولو كان كافراً؛ لأن الله تعالى لا يحرم الإنسان ثمار عمله، حتى وإنْ كان كافراً، يقول تعالى{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }

[الشورى: 20].
لكن عمارة الكفار للأرض وتمكينهم للحضارة سَرْعان ما تنزل بهم النكبات، وتنقلب عليهم حضارتهم، وها نحن نرى نكبات الأمم المرتقية والمتقدمة وما تعانيه من أمراض اجتماعية مستعصية، فليست عمارة الأرض اقتصاداً وطعاماً وشراباً وترفاً. ففي السويد - مثلاً - وهي من أعلى دول العالم دَخْلاً ومع ذلك بها أعلى نسبة انتحار، وأعلى نسبة شذوذ، وهذه هي المعيشة الضَّنْك التي تحدَّث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىا }[ طه: 124]
فالضَّنْك لا يعني فقط الفقر والحاجة، إنما له صور أخرى كثيرة.
إذن: لا تَقِسْ مستوى التحضُّر بالماديات فحسب، إنما خُذْ في حُسبانك كُلَّ النواحي الأخرى، فمَنْ أتقن النواحي المادية الدنيوية أخذها وترف بها في الدينا، أمّا الصلاح الديني والخُلقي والقِيَمي فهو سبيل لترف الدنيا ونعيم الآخرة.
وهكذا تشمل الآية: } يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ { [الأنبياء: 105] الصلاح المادي الدنيوي، والصلاح المعنوي الأخروي، فإنْ أخذتَ الصلاح مُطلقاً بلا إيمان، فإنك ستجد ثمرته إلى حين، ثم ينقلب عليك، فأين أصحاب الحضارات القديمة من عاد وثمود والفراعنة؟
إن كُلَّ هذه الحضارات مع ما وصلتْ إليه ما أمكنها أن تحتفظ لنفسها بالدوام، فزالتْ وبادتْ.
يقول تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ }[الفجر: 6 - 10].
إنها حضارات راقية دُفِنَتْ تحت أطباق التراب، لا نعرف حتى أماكنها. أمّا إنْ أخذت الصلاح المعنوي، الصلاح المنهجي من الله عز وجل فسوف تحوز به الدنيا والآخرة؛ ذلك لأن حركة الحياة تحتاج إلى منهج يُنظِّمها: افعل كذا ولا تفعل كذا. وهذا لا يقوم به البشر أمّا ربُّ البشر فهو الذي يعلم ما يُصلحهم ويُشرِّع لهم ما يُسعدهم.
إن منهج الله وحده هو الذي يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بالحلال والحرام، وعلينا نحن التنفيذ، وعلى الحكام وأولياء الأمر الممسكين بميزان العدل أنْ يراقبوا مسألة التنفيذ هذه، فيُولُّوا مَنْ يصلُح للمهمة، ويقوم بها على أكمل وجه، وإلا فسد حال المجتمع، الحاكم يُشرف ويُراقِب، يُشجِّع العامل ويُعاقب الخامل، ويضع الرجل المناسب في مكانه المناسب.
فعناصر الصلاح في المجتمع: علماء يُخططون، وحكام يُنفّذون، ويديرون الأمور، وكلمة حاكم مأخوذة من الحكَمة (بالفتح) وهي: اللجام الذي يكبح الفَرس ويُوجِّهها.
لذلك جاء في الحديث الشريف: " مَنْ ولَّى أحداً على جماعة، وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة ".
لماذا؟ لأن ذلك يُشيع الفساد في الأرض، ويُثبِّط العزائم العالية والهمم القوية حين ترى مَنْ هو أقلّ منك كفاءة يتولّى الأمر، وتُستبعد أنت.

أما حين تعتد كِفَة الميزان فسوف يجتهد كُلٌّ مِنّا ليصل إلى مكانه المناسب.
إذن: مهمة الحكام وولاة الأمر ترقية المجتمع، فلا نقول لحاكم مثلاً يُعِدُّ لنا طعاماً، أو يصنع لنا آلة، فليستْ هذه مهمته، ولقد رأينا أحد الأمراء وكان له أرض يزرعها، يتولاها أحد الموظفين يقولون له (الخُولي) ومهمة الخولي الإشراف والمراقبة.
وفي يوم جاء الأمير ليباشر أرضه ويتفقد أحوالها في صُحْبة الخولي، وفي أثناء جولتهما بالأرض رأى الخولي قناةً ينسابُ منها الماء حتى أغرق الزرع فنزل وسَدَّ القناة بنفسه.
وعندها غضب الأمير وفصله من عمله؛ لأنه عمل بيده في حين أن مهمته الإشراف ولديه من العمال مَنْ يقوم بمثل هذا العمل.
لكن لماذا هذه النظرة في إدارة الأعمال؟ قالوا: لإنك إنْ عملتَ بيدك فأنت واحد، لكن إنْ أشرفتَ فيمكن أنْ تُشرِف على آلاف من العمال. ومن هنا جاءت مسألة التخصُّص في الأعمال.
وعلى الحاكم ووليّ الأمر أنْ يحافظ على منهج الله، ويتابع تطبيق الناس له، فيقف أمام أي فساد، ويأخذ على يد صاحبه، ويثيب المجتهد العامل، كما جاءَ في قوله تعالى في قصة القرنين:{ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }[الكهف: 87 - 88].
ذلك، لأن الله تعالى يزَعُ بالسلطان مَا لا يزع بالقرآن، ولو تركنا أهل الفساد والمنحرفين لجزاء القيامة لفسد المجتمع، لا بُدَّ من قوة تصون صلاح المجتمع، وتضرب على أيدي المفسدين، لا بُدَّ من قوة تمنع مَنْ يتجرؤون علينا ويطالبون بتغيير نظامنا الإسلامي.
لذلك يقول تعالى:{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }[الأنفال: 60] لا بُدَّ أن يعلم العدو أن لديك الرادعَ الذي يَردعه إنِ اعتدى عليك أو حاول إفساد صلاح المجتمع.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث إن السهم الذي يُرمى في سبيل الله، لكل مَنْ شارك في إعداده ورمية جزء من الثواب، فالذي قطعه من الشجرة والذي براه، والذي وضعه في القوس ورمى به؛ لأن في ذلك صيانةً للحق وصيانة للصلاح حتى يدوم، ولا يفسده أحد.
والمسئولية هنا لا تقتصر على الحكام وولاة الأمر، إنما هي مسئولية كل فرد فيمن ولي أمراً من أمور المسلمين، كما جاء في الحديث: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته: فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بَعْلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ".
وعلى العامل ألاّ ينظرَ إلى مراقبة صاحب العمل، وليكُنْ هو رقيباً على نفسه، والله عز وجل يراقب الجميع، وقد جاء في الحديث القدسي

" " إن كنتم تعتقدون أَنِّي لا أراكم فالخَلل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أَنِّي أراكم فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ ".
والمتأمل في حركة الحياة يجدها متداخلة، فمثلاً لو أردتَ بناء بيت، فالهندسة حركة، والبناء حركة، والكهرباء حركة، والنجارة حركة، وهكذا..، فلو قلنا: إن هذا العمل يتكون من مائة حركة مثلاً، فإنك لا تملك منها إلا حركة واحدة هي عملك الذي تتقنه، والباقي حركات لغيرك، فإنْ أخلصتَ فيما للناس عندك ألهمهم الله أنْ يخلصوا لك ولو عن غير قصد، فأنت أخلصتَ وأتقنتَ حركة واحدة، وأخلص الناس لك في تسع وتسعين حركة.
واعلم أن الخواطر والأفكار بيد الله سبحانه، فإنْ راقبتَ الله فيما للناس عندك راقبهم الله لك فيما لك عندهم، وكفاك مُؤْنة المراقبة، فقد يصنع لك الصانع شيئاً، ويريد أنْ يغشَّك فيه فيحول الله بينه وبين هذا؛ ربما يجلس معه أحد معارفه فيستحي أن يغش أمامه، أو لا يجد الشيء الذي يغشك به، أو غير ذلك من الأسباب التي يُسخِّرها الله لك، فيتقن لك الصانع صَنْعته، ولو رَغْماً عن إرادته.
إذن: إن أردتَ صلاحَ أمرك فأصلح أمور الآخرين.
ومن الأساسيات التي نُصلح بها ونرث الأرض أن ننظر إلى الناس جميعاً على أنهم سواسية، لا فضلَ لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، فليس فينا مَنْ هو ابن لله عز وجل، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة، قال تعالى:{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.. }[الحجرات: 13].
والإسلام لا يعرف الطبقية إلا في إتقان العمل، فقيمة كل امرئ ما يُحسِنه، وقد ضربنا لذلك مثلاً، وما نزال نذكره مع أنه لرجل غير مسلم، إنه رجل فرنسي كان نقيباً للعمال، وكان يدافع عن حقوقهم، ويطلب لهم زيادة الدَّخْل من ميزانية الوزارة، فلما تولى منصب الوزارة وتولى المسئولية عدلَ عَمَّا كان يطالب به، فضجَّ العمال، وأراد أحدهم أنْ يغيظه فقال له: اذكر يا معالي الوزير أنك كنت في يوم من الأيام ماسح أحذية، فما كان من الرجل إلا أن قال: نعم.. لكني كنت أجيدها.
وسبق أن ذكرنا أن الله تعالى وزَّعَ المواهب والقدرات بين خَلْقه، فساعة ترى نفسك مُميزاً على غيرك في شيء فلا تغتر به، وابحثْ فيما مُيّز به عنك غيرُك؛ لأننا جميعاً عند الله سواء، لا يحابي أحداً على أحد، فأنت مُميز بعلمك أو قوتك، وغيرك أيضاً مُميز في سعادته مع أهله أو في أمانته وثقة الناس به، أو في رضاه بما قسم له أو في مقدرته على نفسه ورضاه بالقليل، وقد يُميَّز الواحد مِنَّا بالولد الصالح الذي يكون مِطْواعاً لأبيه، وقُرة عَيْن له.

إذن: هذه مسألة مُقدّرة محسوبة؛ لأن ربك سبحانه قيُّوم عليك، لا تخفى عليه منك خافية، وحين يُميّز بعضنا على بعض إنما ليدكّ فينا الغرور والكبرياء، وينزع من قلوبنا الحِقْد والغلَّ، وهكذا يتوازن المجتمع، ولا يكون التميز مثار حقدٍ؛ لأن تميزَ غيرك لصالحك، وسيعود عليك.
والحق - سبحانه وتعالى - يُحدِّثنا عن يوم القيامة، وكيف أن الشمس ستدنو من الرؤوس، ويشتدّ بالناس الكرب، إلا هؤلاء الذين يُظلُّهم الله يوم لا ظل إلا ظله، ذلك لأنهم كانوا مظلة أمان في الدنيا، فأظلهم الله في الآخرة.
كما جاء في الحديث الشريف: " سبعة يُظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه مُعلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ".
نعم، لقد صنع هؤلاء بسلوكهم القويم مظلَّة أمانٍ في الكون، فاستحقوا مظلَّة الله في الآخرة. وبمثل هؤلاء يتوازن المجتمع المسلم ويَرْقَى إلى القمة، هذا المجتمع الذي نريده هو مجتمع غنيّه متواضع، وفقيره كريم شريف، وشابُّه طائع.
يقول رب العزة سبحانه في الحديث القدسي: " " أحب ثلاثة وحُبِّي لثلاثة أشدُّ - فهؤلاء ستة نقسمهم إلى قسمين - أحب الفقير المتواضع، وحُبِّي للغني المتواضع أشد - لأن عنده أسبابَ الكبر ومع ذلك يتواضع - وأحب الغنيِّ الكريم وحُبِّي للفقير الكريم أشدّ، وأحب الشيخ الطائع وحبي للشاب الطائع أشدُّ "
. " وأكره ثلاثة وكُرْهي لثلاثة أشد: أكره الغني المتكبر، وكُرْهي للفقير المتكبر أشدّ، وأكره الفقير البخيل، وكُرْهي للغني البخيل أشد، وأكره الشاب العاصي وكرهي للشيخ العاصي أشد ".
هؤلاء اثنا عشر نوعاً: ستة في المحبوبية، وستة في المكروهية، وكلما التزمنا بتطبيق هذا المنهج وجدنا مجتمعاً راقياً من الدرجة الأولى.

(/2570)


إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)


البلاغ: الشيء المهم الذي يجب أن يعلمه الناس؛ لذلك حين ينشغل الناس بالحرب، وينتظرون أخبارها تأتيهم على صورة بلاغات، يقولون: بلاغ رقم واحد، لأنه أمر مهم.
فقوله تعالى: { إِنَّ فِي هَـاذَا لَبَلاَغاً.. } [الأنبياء: 106] أي: أن ما جاء به القرآن هو البلاغ الحق، والبلاغ الأعلى الذي لم يترك لكم عذراً، ولا لغفلتكم مجالاً، ولا لمستدرك أنْ يستدرك عليه في شيء. فهو مُنتْهى ما يمكن أنْ أخبركم به.
وهو بلاغ لمن؟ { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } [الأنبياء: 106] أي: يتلقفون مُرادَ الله لينفذوه، سواء أكان أمراً أمْ نَهياً.

(/2571)


وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)


وما دام صلى الله عليه وسلم خاتَم الرسل، وبعثتُه للناس كافة، وللزمن كله إلى أنْ تقوم الساعة. وقد جاء الرسل السابقون عليه لفترة زمنية محددة، ولقوم بعينهم، أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فجاءتْ رحمةً للعالمين جميعاً؛ لذلك لا بُدَّ لها أنْ تتسعَ لك أقضية الحياة التي تعاصرها أنت، والتي يعاصرها خَلَفُك، وإلى يوم القيامة.
ومعنى: العالمين، كُلُّ ما سوى الله عز وجل: عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجماد، وعالم الحيوان، وعالم النبات. لكن كيف تكون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم جميعاً؟
قالوا: نعم، رحمة للملائكة، فجبريل - عليه السلام - كان يخشى العاقبة حتى نزل على محمد قوله تعالى:{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }[التكوير: 20] فاطمأن جبريل عليه السلام وأَمِن.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للجماد؛ لأنه أمرنا بإماطة الأذى عن الطريق. وهو رحمة بالحيوان. وفي الحديث الشريف: " ما من مسلم يزرع زَرْعاً، أو يغرس غَرْساً فيأكلَ منه طيْرٌ أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة ".
وحديث المرأة التي دخلتْ النار في هِرَّة حبستْها، فلا هي أطعمتْها وسقتْها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاش الأرض.
وحديث الرجل الذي دخل الجنة؛ لأنه سقى كلباً كان يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فنزل الرجل البئر وملأ خُفَّه فسقى الكلب، فشكر الله له وغفر له، لأنه نزل البئر وليس معه إناء يملأ به الماء، فاحتال للأمر، واجتهد ليسقي الكلب.
وهكذا نالتْ رحمة الإسلام الحيوان والطير والإنسان، ففي الدين مبدأ ومنهج يُنظِّم كل شيء ولا يترك صغيرة ولا كبيرة في حياة الناس؛ لذلك فهو رحمة للعالمين.
فقوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107] يعني أن كل ما يجيء به الإسلام داخل في عناصر الرحمة.
ثم يقول سبحانه: { قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىا إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ... }.

(/2572)


قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)


فالوحدانية هي أول رحمة بنا، أن نكون كلنا سواء، ليس لنا إلا إله واحد، هذه من أعظم رحمات الله أن نعبده وحده لا شريكَ له، فعبادته تُغنينا عن عبادة غيره، ولو كانت آلهةً متعددة لأصابتنا الحيرة بين إله يأمر، وإله ينهى.
لذلك؛ فالحق - سبحانه وتعالى - يطلب منا أنْ نعتزّ وأنْ نفخَر بهذه الوحدانية، وبهذه الألوهية، وفي هذا يقول الشاعر الإسلامي محمد إقبال:والسُّجود الذِي تَجْتويِه مِنْ أُلُوفِ السُّجودِ فِيهِ نَجَاةُفسجودك لله وتعفير وجهك له سبحانه يحميك من السجود لغيره، ولولا سجودك لله لَسجدت لكل مَنْ هو أقوى منك، فعليك - إذن - أن تعتز بعبوديتك لله؛ لأنها تحميك من العبودية لغيرك من البشر، وحتى لا يقول لك شخص أنت عبد، نعم أنا عبد لكن لستُ عبداً لك، فعبد غيرك حُرٌّ مثلك.
وقد ضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في هذه المسألة في قوله تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً }[الزمر: 29] فهل يستوي عبد لعدة أسياد يتجاذبونه في وقت واحد، وهم مع ذلك مختلفون بعضهم مع بعض، وعبد سَلَمَاً لسيد واحد؟
وهكذا، نحن جميعاً عبيد لله - عز وجل - حين نخضع لا نخضع إلا له سبحانه، فلا أخضع لك ولا تخضع أنت لي؛ لذلك يقولون " اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم " لأنه أمر من أعلى، من السماء، لا دَخْلَ لأحد فيه.
لذلك؛ فالعبودية تُكره حين تكون عبوديةً للبشر، لأن عبودية البشر للبشر يأخذ السيد خير عبده، أما العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده.
والشاعر يقول:حَسْبُ نفسي عِزاً بأنِّي عَبْدٌ يحتفي بي بلاَ مواعيدَ رَبُّهُوَ في قُدْسِه الأعزِّ ولكِنْ أنا أَلْقَى متى وأيْنَ أُحِبُّولك أنْ تقارن بين مقابلة عظيم من عظماء الدنيا، ومقابلة ربك عز وجل. فإنْ أردتَ الدخولَ على أحد هؤلاء لا بُدَّ أن تطلب المقابلة، ويا ترى تقبل أم ترفض، وإنْ قبلت فلا تملك من عناصرها شيئاً، فالزمان، والمكان، وموضوع الكلام. كلها أمور يحددها غيرك.
أما إن أردتَ مقابلة ربك - عز وجل - فما عليك إلا أنْ تتوضأ وترفع يديك قائلاً: الله أكبر بعدها ستكون في معية الله، وقد اخترتَ أنت الزمان، والمكان، وموضوع الحديث، وإنهاء اللقاء.
أَلاَ ترى كيف امتنَّ الله تعالى على رسوله في رحلة " الإسراء والمعراج " بأنْ وصفه بالعبودية له سبحانه، فقال:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ }[الإسراء: 1] إذن: جاء قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىا إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ.. } [الأنبياء: 108] بعد قوله:{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 107] ليدلنا: أن دعوة الله لنا إلى عبادة إله واحد ترحمنا من عبوديتنا بعضنا لبعض.
ثم يُرغِّبنا الحق سبحانه في هذه العبودية، فيقول: { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } [الأنبياء: 108] كما تحث ولدك المتكاسل أن يكون مثلَ زميله الذي تفوَّق، وأخذ المركز الأول، فتقول له: ألا تذاكر وتجتهد حتى تكون مثله؟
وهكذا في { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } [الأنبياء: 108] أي: مسلمون لله؛ لأن مصلحتكم في الإسلام وعزّكم في عبوديتكم لله.

(/2573)


فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)


{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } [الأنبياء: 109] يعني: أعرضوا وانصرفوا { فَقُلْ آذَنتُكُمْ.. } [الأنبياء: 109] مادة: أذن ومنها الأذان تعني الإعلام بالشيء، والأصل في الإعلام كان في الأًذُن بالكلام، حيث لم يكُنْ عندهم قراءة وكتابة، فاعتمد الإعلام على الكلام، والسماع بالأذن، فمعنى: { آذَنتُكُمْ.. } [الأنبياء: 109] أعلمتُكم وأخبرتُكم.
وقوله تعالى: { عَلَىا سَوَآءٍ.. } [الأنبياء: 109] يعني: جاء الإعلام لكم جميعاً لم أخصّ أحداً دون الآخر، فأنتم في الإعلام سواء، لا يتميز منكم أحد على أحد؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إبلاغ الجميع، فيقول: " نضَّر الله امْراً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ لم يسمعها، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع " وهكذا يشيع الخيْر ويتداول بين الجميع.
{ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىا سَوَآءٍ.. } [الأنبياء: 109] فلم أُعْلِم قوماً دون قوم، ولم أُسْمِع أُذناً دون أُذن، وجعلت من كمال الإيمان أن يخبر السامع مَنْ لم يسمع؛ لأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ثم يُنبِّههم إلى أمر الساعة: { وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 109] فانتبهوا وخُذوا بالكم، واحتاطوا، فلا أدري لعلَّ الساعةَ تكون قريباً، ولعلها تفاجئكم من قبل أنْ أُنهي كلامي معكم.
لذلك؛ لما سألوا أحد الصالحين: فِيمَ أفنيتَ عمرك؟ قال: " أفنيت عمري في أربعة أشياء: علمت أني لا أخلو من نظر الله طَرْفة عين فاستحييتُ أنْ أعصيه، وعلمتُ أن لي رزْقاً لا يتجاوزني قد ضمنه الله لي فقنعتُ به، وعلمتُ أن عليَّ دَيْناً لا يؤديه عني غيري فاشتغلتُ به، وعلمتُ أن لي أَجَلاً يبادرني فبادرتُه ".
إذن: فالمراد: استعدوا لهذه المسألة قبل أن تفاجئكم.
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ.. }.

(/2574)


إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)


وما دام ربك - عز وجل - يعلم الجهر ويعلم السرَّ وأخْفى، فإياك أنْ تنافق؛ لأننا ننهاك عن النفاق مع البشر، فمن باب أَوْلى أن ننهاك عن نفاق ربك سبحانه الذي يعلم سِرَّك كما يعلم علانيتك، وقصارى أمر البشر أنْ يُراقبوا علانيتك. لذلك، فإن كل احتياطات أهل الإجرام التخفِّي عن أعين الدولة، والهرب من مراقبة الشرطة، لكن كيف التخفي عن نظر الله وعلمه؟
وقوله تعالى: { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء: 110] يُعلّمنا الأدب حتى فيما نكتم، فالأدب في الجهر من باب أَوْلَى، ونحن مؤمنون بأن الله سبحانه غَيْب غير مشهد، وهَبْ أنك في بيتك تعلم كل شيء فيه؛ لأنه مشهد لك، أمّا ما كان خارج البيت فهو غَيْب عنك لا تعلمه، أمّا الحق سبحانه فهو غَيْب يعلم كل مَشْهد وكل غيب.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ.. }.

(/2575)


وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)


أي: لعل الإمهال وبقاءكم دون عذاب وتباطؤ الساعة عنكم فتنةٌ واختبار، يا ترى أتُوفَّقون وتفوزون في هذا الاختبار، كما قال سبحانه في موضع آخر:{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }[التوبة: 55].
وقال تعالى:{ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }[آل عمران: 178].
وقوله تعالى: { وَمَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ } [الأنبياء: 111] أي: لن يدوم هذا النعيم وهذا المتاع؛ لأن له مدة موقوتة.
ثم يقول الحق سبحانه في ختام سورة الأنبياء: { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَـانُ.. }.

(/2576)


قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)


قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ.. } [الأنبياء: 112] كما دعا بذلك الرسل السابقون:{ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ }[الأعراف: 89].
وهل يحكم الله سبحانه إلا بالحق؟ قالوا: الحق سبحانه يُبيِّن لنا؛ لأننا عِشْنا في الدنيا ورأينا كثيراُ من الباطل، فكأننا لأول مرة نسمع الحكم بالحق.
ثم يقول سبحانه: { وَرَبُّنَا الرَّحْمَـانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىا مَا تَصِفُونَ } [الأنبياء: 112] أي: المستعان على تُجرمون فيه من نسبتنا إلى الجنون، أو إلى السحر.. الخ.
وتلاحظ أن الحق سبحانه في آيات سورة الأنبياء تكلم عن طَيِّ السماء كطيِّ السجل للكتب، ثم قال:{ لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ.. }[الأنبياء: 111]{ وَمَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ }[الأنبياء: 111]، ثم قال: { رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ.. } [الأنبياء: 112] هذا كله ليُقرِّب لنا مسألة الساعة وقيامها، ويُعِدُّنا لاستقبال " سورة الحج ".

(/2577)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)


الخطاب هنا عام للناس جميعاً، وعادةً ما يأتي الخطاب الذي يطلب الإيمان عاماً لكل الناس، إنما ساعة يطلب تنفيذ حكم شرعي يقول: يا أيها الذين آمنوا.
لذلك يقول هنا: { ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ.. } [الحج: 1] يريد أنْ يلفتهم إلى قوة الإيمان. وكلمة { اتَّقُواْ رَبَّكُمْ.. } [الحج: 1] التقوى: أنْ تجعل بينك وبين ما أحدِّثك عنه وقايةً، أي: شيئاً يقيك العذاب الذي لا طاقةَ لك به.
ونلحظ أن الله تعالى يقول مرة:{ واتَّقُواْ اللَّهَ.. }[البقرة: 194] ومرة يقول:{ فَاتَّقُواْ النَّارَ.. }[البقرة: 24] نعم، لأن المعنى ينتهي إلى شيء واحد. معنى:{ فَاتَّقُواْ النَّارَ.. }[البقرة: 24] أي: اجعل بينك وبينها وقاية تحميك منها، ويكون هذا بفِعْل الأمر وتَرْك النهي.
وقوله:{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ.. }[البقرة: 194] لأن الله تعالى صفات جمال، وصفات جلال، صفات الجمال كالرحمن، والرحيم، والباسط، والستار، وصفات الجلال كالقهار والجبار وغيرها مما نخاف منه.
فاجعل بينك وبين صفات الجلال وقايةً، فليستْ بك طاقة لقاهريته، وبطشه سبحانه، والنار من جنود الله، ومن مظاهر قَهْره. فكما نقول: اتقِّ الله نقول: اتقِّ النار.
واختار في هذا الأمر صفة الربوبية، فقال: { اتَّقُواْ رَبَّكُمْ.. } [الحج: 1] ولم يقُلْ: اتقوا الله؛ لأن الرب هو المتولِّي للرعاية وللتربية، فالذي يُحذّرك هو الذي يُحبك ويُعطيك، وهو الذي خلقك وربَّاك ورعاك.
فالربوبية عطاء: إيجاد من عَدم وإمداد من عُدم، فأولْى بك أن تتقيه، لأنه قدَّم لك الجميل.
أما صفة الألوهية فتعني التكاليف والعبادة بافْعل ولا تفعل، الله معبود ومُطَاع فيما أمر وفيما نَهَى.
ثم يقول تعالى: { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1] الزلزلة: هي الحركة العنيفة الشديدة التي تُخرِج الأشياء عن ثباتها، كما لو أردتَ أنْ تخلعَ وتداً من الأرض، فعليك أولاً أنْ تهزْه وتخلخله من مكانه، حتى تجعل له مجالاً في الأرض يخرج منه، إنما لو حاولت جذْبه بدايةً فسوف تجد مجهوداً ومشقة في خَلْعه، وكذلك يفعل الطبيب في خلع الضِّرس.
فمعنى الزلزلة: الحركة الشديدة التي تزيل الأشياء عن أماكنها، والحق سبحانه وتعالى تكلم عن هذه الحركة كثيراً فقال:{ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً }[الواقعة: 4 - 6]
ويقول:{ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىا لَهَا }[الزلزلة: 1 - 5].
فالزلزال هنا ليس زلزالاً كالذي نراه من هزّات أرضية تهدم بعض البيوت، أو حتى تبتلع بعض القرى، فهذه مجرد آيات كونية تثبت صدْق البلاغ عن الله، وتنبهك إلى الزلزال الكبير في الآخرة، إنه صورة مصغرة لما سيحدث في الآخرة، حتى لا نغتر بسيادتنا في الدنيا فإن السيادة هبة لنا من الله.
وعندما حدث زلزال " أغادير " لاحظوا أن الحيوانات ثارتْ وهاجتْ قبل الزلزال بدقائق، ومنها ما خرج إلى الخلاء، فأيُّ إعلام هذا؟ وأيُّ استشعار لديها وهي بهائم في نظرنا لا تفهم ولا تعي؟
إن في ذلك إشارة للإنسان الذي يعتبر نفسه سيد هذا الكون: تنّبه، فلولا أن الله سَيَّدَك لوكزتْكَ هذه البهائم فقضت عليك.

نقول: ليس هذا زلزالاً عاماً، إنما هو زلزال مخصوص منسوب إلى الأرض بوحي من الله، وبأمر منه سبحانه أن تتزلزل.
لذلك وُصِف هذا الزلزال بأنه شيء عظيم: } إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ { [الحج: 1] فحين تقول أنت أيها الإنسان: هذا شيء عظيم فهو عظيم بمقياسك أنت، أما العظيم هنا فعظيم بمقاييس الحق سبحانه، فلكَ أن تتصوَّر فظاعة زلزال وصفه الله سبحانه بأنه عظيم.
لقد افتُتحَتْ هذه السورة بزلزلة القيامة؛ لأن الحق سبحانه سبق أنْ قال:{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ.. }[الأنبياء: 97] فلا بُدَّ أنْ يعطينا هنا صورة لهذا الوعد، ونُبْذة عما سيحدث فيه، وصورة مُصغَّرة تدل على قدرته تعالى على زلزال الآخرة، وأن الأرض ليس لها قوام بذاتها، إنما قوامها بأمر الله وقدرته، فإذا أراد لها أنْ تزول زالتْ.
وكذلك في قوله تعالى:{ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا }[الزلزلة: 2].
فَمَا نراه من البراكين ومن الثروات في باطن الأرض وعجائب يقع تحت هذه الآية؛ لذلك قال تعالى:{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىا }[طه: 6].
ما دام الحق سبحانه يمتنُّ بملكية ما تحت الثَّرى فلا بُدَّ أن تحت الثرى ثروات وأشياءَ نفيسة، ونحن الآن نُخرِج معظم الثروات من باطن الأرض، ومعظم الأمم الغنية تعتمد على الثروات المدفونة من بترول ومعادن ومناجم وذهب.. إلخ.
وسبق أن ذكرنا أن الحق - سبحانه وتعالى - بعثَر الخيرات في كونه، وجعل لكل منها وقته المناسب، فالرزق له ميلاد يظهر فيه:{ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }[الحجر: 21].
ثم يقول الحق سبحانه: } يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا.. {.

(/2578)


يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)


والرؤية: قلنا قد تكون رؤية علمية أو رؤية بصرية، والشيء الذي نعلمه إما: علمَ اليقين، وإما عين اليقين، وإما حقيقة اليقين. علم اليقين: أنْ يخبر مَنْ تثق به بشيء، كما تواترت الأخبارعن الرحالة بوجود قارة أسموها فيما بعد أمريكا، وبها كذا وكذا، فهذا نسميه " علم يقين " ، فإذا ركبت الطائرة إلى أمريكا فرأيتها وشاهدت ما بها فهذا " عين اليقين " فإذا نزلتَ بها وتجولتَ بين شوارعها ومبانيها فهذا نسميه " حقيقة اليقين ".
لذلك؛ حين يخبر الله تعالى الكافرين بأن هناك عذاباً في النار فهذا الإخبار صادق من الله فعِلْمنا به " علم يقين " ، فإذا رأيناها فهذا " عين اليقين " كما قال سبحانه:{ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ }[التكاثر: 7]
فإذا ما باشرها أهلها، وذاقوا حرّها ولظاها - وهذا مقصور على أهل النار - فقد علموها حَقَّ اليقين، لذلك يقول تعالى:{ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }[الواقعة: 90 - 96]
ومعنى: { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ.. } [الحج: 2] الذهول: هو انصراف حاجة عن مهمتها الحقيقية لهوْلٍ رأتْه فتنشغل بما رأته عن تأديةِ وظيفتها، كما يذهل الخادم حين يرى شخصاً مهيباً أو عظيماً، فيسقط ما بيده مثلاُ، فالذهول - إذن - سلوك لا إرادي قد يكون ذهولاً عن شيء تفرضه العاطفة، أو عن شيء تفرضه الغريزة.
العاطفة كالأم التي تذهَلُ عن ولدها، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد، ففي مرحلة الحمل مثلاً تجد الأم تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفاً على الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد، وإلاَّ تعرض لما يؤذيه أو يُودِي بحياته.
لذلك، لما سألوا المرأة العربية عن أحب أبنائها ، قالت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يُشْفَى، فحسب الحاجة يعطي الله العاطفة، فالحامل عاطفتها نحو ولدها قوية، وهي كذلك في مرحلة الرضاعة.
فانظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأيُّ هول هذا الذي يشغلها، ويُعطِّل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويُعطِّل حتى الغريزة.
وقد أعطانا القرآن صورة أخرى في قوله تعالى:{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ }[عبس: 34 - 36].
ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يذكر هنا الأخ قبل الأب والأم، قالوا: لأن الوالدين قد يُوجدان في وقت لا يرى أنهما في حاجة إليه، ولا هو في حاجة إليهما لأنه كبر، أمَّا الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة.

وقوله تعالى: } كُلُّ مُرْضِعَةٍ.. { [الحج: 2]
والمرضعة تأتي بفتح الضاد وكَسْرها: مُرضَعة بالفتح هي التي من شأنها أن ترضع وصالحة لهذه العملية، أما مُرضِعة بالكسر فهي التي تُرضع فعلاً، وتضع الآن ثديها في فَم ولدها، فهي مرضِعة فانظر - إذن - إلى مدى الذهول والانشغال في مثل هذه الحالة.
وقوله تعالى: } وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا.. { [الحج: 2] بعد أنْ تكلَّم عن المرضع رقَّى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني، فالرحم بمجرد أنْ تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى:{ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى.. }[الحج: 5].
فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله، فهذه - إذن - مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها. إذن: وَضْع هذا الحمل دليل هَوْل كبير وأمر عظيم يحدث.
والحَمْل نوعان: ثقَل تحمله وهو غيرك، وثقل تحمله في ذاتك، ومنه قوله تعالى:{ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }[طه: 101] والحِمْل (بكسر الحاء): هو الشيء الثقيل الذي لا يُطيقه ظهرك، أمّا الحَمْل بالفتح فهو: الشيء اليسير تحمله في نفسك. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:لَيْسَ بِحِمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهْرُ مَا الحِمْلُ إلاَّ مَا وَعَاهُ الصَّدْرأي: أن الشيء الذي تطيق حَمْله ويَقْوى عليه ظهرك ليس بحمل، إنما الحمل هو الهمّ الذي يحتويه الصدر.
ثم يقول سبحانه: } وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىا وَمَا هُم بِسُكَارَىا وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ { [الحج: 2] سكارى: أي يتمايلون مضطربين، مثل السكارى حين تلعب بهم الخمر، (وتطوحهم) يميناً وشمالاً، وتُلقِي بهم على الأرض، وكلما زاد سُكْرهم وخروجهم عن طبيعتهم كان النوع شديداً!!
وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سُكْرِ ولكن من خوف وهَوْل وفزع } وَمَا هُم بِسُكَارَىا وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ { [الحج: 2].
لكن، من أين يأتي اضطراب الحركة هذا؟
قالوا: لأن الله تعالى خلق الجوارح، وخلق في كل جارحة غريزة الانضباط والتوازن، وعلماء التشريح يُحدِّدون في الجسم أعضاء ومناطق معينة مسئولة عن حِفْظ التوازن للجسم، فإذا ما تأثرتْ هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان بالدُّوار، ويفقد توازنه، كأنْ تنظر من مكان مرتفع، أو تسافر في البحر مثلاً.
فهذا الاضطراب لا من سُكْر، ولكن من هَوْل ما يرونه، فيُحدث لديهم تغييراً في الغُدد والخلايا المسئولة عن التوازن، فيتمايلون، كمن اغتالتْه الخمر.
وقوله تعالى: } وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ { [الحج: 2] إنهم لم يَرَوْا العذاب بَعْد، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم؛ لأن الذي يَصْدُق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يَصْدُق في أن بعدها عذاباً في جهنم، إذن: انتهت المسألة وما كنا نكذب به، ها هو ماثل أمام أعيننا.
ثم يقول سبحانه: } وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ.. {
.

(/2579)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)


الجدل: هو المحاورة بين اثنين، يريد كل منهما أنْ يؤيد رأيه ويدحضَ رأْيَ الآخر، ومنه: جَدْل الخوص أو الحبل أي: فَتْله واحدة على الأخرى.
ولو تأملتَ عملية غَزْل الصوف أو القطن لوجدته عبارة عن شعيرات قصيرة لا تتجاوز عدة سنتيمترات، ومع ذلك يصنعون منه حَبْلاً طويلاً، لأنهم يداخلون هذه الشعيرات بعضها في بعض، بحيث يكون طرف الشعرة في منتصف الأخرى، وهكذا يتم فَتْله وغَزْله، فإذا أردتَ تقوية هذه الفَتْلة تجدِلُها مع فتلة أخرى، وهكذا يكون الجدل في الأفكار، فكل صاحب فكرة يحاول انْ يُقوِّي رأيه وحجته؛ ليدحض حجة الآخرين.
فقوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ.. } [الحج: 3] فكيف يكون الجدل في الله تعالى؟
يكون الجدل في الله وجوداً، كالملحد الذي لا يعترف بوجود إله، أو يكون الجدل في الوحدانية، كمن يشرك بالله إلهاً آخر، أو يكون الجدل في إعلام الله بشيء غيبي، كأمر الساعة الذي ينكره البعض ولا يُصدِّقون به، هذا كله جدل في الله.
وقوله: { بِغَيْرِ عِلْمٍ.. } [الحج: 3] إذن: فالجدل في ذاته مُبَاح مشروع، شريطة أن يصدر عن علم وفقه، كما جاء في قوله تعالى:{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. }[النحل: 125].
فالحق سبحانه لا يمنع الجدل، لكن يريده بالطريقة الحسنة والأسلوب اللين، وكما يقولون: النصح ثقيل، فلا تجعله جَدَلاً، ولا ترسله جبلاً، ولا تُخرِج الإنسان مما يألف بما يكره، واقرأ قوله تعالى:{ ادْعُ إِلَىا سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.. }[النحل: 125].
وقال سبحانه:{ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. }[العنكبوت: 46].
لذلك؛ فالقرآن الكريم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم لَوْناً من الجدل في قوله تعالى:{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[سبأ: 25].
فانظر إلى هذا الجدَل الراقي والأسلوب العالي: ففي خطابهم يقول:{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا.. }[سبأ: 25] وينسب الإجرام إلى نفسه، وحين يتكلم عن نفسه يقول:{ وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[سبأ: 25] ولم يقُلْ هنا: تجرمون لتكون مقابلة بين الحالين. وفي هذا الأسلوب ما فيه من جذب القلوب وتحنينها لتقبُّل الحق.
ولما اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون ردَّ عليهم القرآن بالعقل وبالمنطق، فسألهم: ما الجنون؟ الجنون أنْ تصدر الأفعال الحركية عن غير بدائل اختيارية من المخ، فهل جرَّبْتُم على محمد شيئاً من هذا؟ وما هو الخُلق؟ الخُلق: استقامة المنهج والسلوك على طريق الكمال والخير، فهل رأيتُم على محمد خلاف هذا؟
لذلك يقول تعالى في الرد عليهم:{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىا وَفُرَادَىا ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ.. }[سبأ: 46].
وكيف يكون صاحب هذا الخلُق القويم والسلوك المنضبط في الخير مجنوناً؟
ولما قالوا: كذاب ، جادلهم القرآن:

{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16].
لقد أتتْه الرسالة بعد الأربعين، فهل سمعتم عنه خطيباً أو شاعراً؟ فهل قال خطبة أو قصيدة تحتفظون بها كما تحتفظون بقصائد شعرائكم؟
وقالوا: إنها عبقرية كانت عند محمد، فأيُّ عبقرية هذه التي تتفجَّر بعد الأربعين، ومَنْ يضمن له الحياة وهو يرى الناس يتساقطون من حوله: أبوه مات قبل أنْ يوُلد، وأمه ماتت وهو رضيع، وجدُّه مات وهو ما يزال صغيراً.
وهكذا، يعطينا القرآن مثالاً للجدل بالحكمة والموعظة الحسنة، للجدل الصادر عن عِلْم بما تقول، وإدراك لحقائق الأمور.
لذلك؛ لما ذهب الشَّعْبي لملك الروم قال له الملك: عندكم في الإسلام أمور لا يُصدِّقها العقل، فقال الشَّعْبيّ: ما الذي في الإسلام يخالف العقل؟ قال: تقولون إن في الجنة طعاماً لا ينفد أبداً، ونحن نعلم أن كل ما أُخذ منه مرة بعد مرة لابُدَّ أنْ ينفد. انظر إلى الجدل في هذه المسألة كيف يكون.
قال الشَّعْبي: أرأيتَ لو أن عندك مصباحاً، وجاءت الدنيا كلها فقبستْ من ضوئه، أينقص من ضوء المصباح شيء؟ هذا - إذن - جدل راقٍ وعلى أعلى مستوى.
ويستمر ملك الروم فيقول: كيف نأكل في الجنة كُلَّ ما نشتهي دون أوْ نتغوّط أو تكون لنا فضلات؟ نقول: أرأيتم الجنين في بطن الأم: أينمو أم لا؟ إنه ينمو يوماً بعد يوم، وهذا دليل على أنه يتغذَّى، فهل له فضلات؟ لو كان للجنين فضلات ولو تغوَّط في مشيمته لمات، إذن: يتغذى الجنين غذاءً على قَدْر حاجة نموه، بحيث لا يتبقى من غذائه شيء.
ثم قال: أين تذهب الأرواح بعد أنْ تفارق الأجساد؟ أجاب الرجل إجمالاً: تذهب حيث كانت قبل أنْ تحلَّ فيك، وأمامك المصباح وفيه ضوء، ثم نفخ المصباح فانطفأ، فقال له: أين ذهب الضوء؟
ومن الجدل الذي جاء عن عِلْم ودراية ما حدث من الإمام علي رضي الله عنه، حيث قتلَ أصحابُ معاوية عمارَ بن ياسر، فغضب الصحابة في صفوف معاوية وتذكَّروا " قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمار: " تقتله الفئة الباغية " " وأخذوا يتركون جيش معاوية واحداً بعد الآخر، فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال: لقد فشَتْ في الجيش فاشية، إنْ هي استمرتْ فلن يبقى معنا رجل واحد، فقال معاوية: وما هي؟ قال: يقولون: إننا قتلنا عماراً والنبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: " تقتله الفئة الباغية ".
فاحتار معاوية ثم قال: قُلْ لهم قتله مَنْ أخرجه للقتال - يعني: علي بن أبي طالب، فلما بلغ الكلامُ سيدنا علياً، قال: قولوا لهم: فمَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟ أي: إن كان الأمر كما تقولون فالنبي صلى الله عليه وسلم هو قاتل حمزة؛ لأنه هو الذي أخرجه للقتال.

هذا هو الجدل عن علم، والعلم قد يكون علماً بدهياً وهو العلم الذي تؤمن به ولا تستطيع أن تدلل عليه. أو علماً عقلياً استدلالياً، وقد يكون العلم بالوحي من الله لا دَخْلَ لأحد فيه، وسبق أنْ ضربنا مثلاً للبدهيات بالولد الصغير حينما يرى أخاه يجلس بجوار أبيه على المقعد مثلاً، فيأتي الصغير يريد أنْ يجلس هو بجوار الأب، فيحاول أولاً أنْ يقيم أخاه من المكان فيشدُّه ويجذبه ليخلى له المكان.
وهنا نتساءل: كيف عرف الطفل الصغير أن الحيِّز لا يسع اثنين؟ ولا يمكن أنْ يحلَّ بالمكان شيء إلا إذا خرج ما فيه أولاً؟
هذه أمور لم نعلمها إلا في دراستنا الثانوية، فعرفنا معنى الحيِّز وعدم تداخل الأشياء، هذه المسألة يعرفها الطفل بديهة.
ولو تأملتَ النظريات الهندسية لوجدتَ أن كل نظرية تُبنَى على نظرية سابقة، فلو أردت أنْ تبرهن على النظرية المائة تستخدم النظرية تسعين مثلاً، وهكذا إلى أنْ تصلَ إلى نظرية بدهية لا برهانَ عليها.
وهكذا تستطيع أن تقول: إن كل شيء علمي في الكون مبنيٌّ على البدهيات التي لا تحتاج إلى برهان، ولا تستطيع أن تضع لها تعريفاً، فالسماء مثلاً، يقولون هي كل ما علاك فأظَّلك، فالسقف سماء، والغيم سماء، والسحاب سماء، والسماء سماء، مع أن السماء لا تحتاج إلى مثل هذا التعريف؛ لأنك حين تسمع هذه الكلمة (السماء) تعرف معناها بديهة دون تعريف.
وهذه الأمور البدهية لا جدلَ فيها؛ لأنها واضحة، فلو قلتَ لهذا الطفل: اجلس على أخيك، فهذا ليس جدلاً؛ لأنه لا يصح.
أما العلم الاستدلالي فأنْ تستدل بشيء على شيء، كأنْ تدخل بيتك فتجد (عقب سيجارة) مثلاً في (طفاية السجائر) فتسأل: مَنْ جاءكم اليوم؟ ومثل الرجل العربي حين سار في الصحراء، فوجد على الأرض آثاراً لخفِّ البعير وبَعْره، فقال: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.
أما عِلْم الوحي فيأتي من أعلى، يلقيه الله سبحانه على مَنْ يشاء من عباده.
فعلى المجادل أن يستخدم واحداً من هذه الثلاثة ليجادل به، فإن جادل بغير علم فهي سفسطة لا طائل من ورائها.
وقد نزلت هذه الآية: } وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. { [الحج: 3] في النضر بن الحارث، وكان يجادل عن غير علم في الوجود، وفي الوحدانية، وفي البعث.. إلخ.
والآية لا تخص النضر وحده، وإنما تخص كل مَنْ فعل فِعْله، ولَفَّ لفَّه من الجدل.
ثم يقول تعالى: } وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ { [الحج: 3] أي: أن هذا الجدل قد يكون ذاتياً من عنده، أو بوسوسة الشيطان له بما يخالف منهج الله، سواء أكان شيطانَ الإنس أو شيطانَ الجن.
إذن: فالسيئات والانحرافات والخروج عن منهج الله لا يكون بوسوسة، إما من النفس التي لا تنتهي عن مخالفة، وإما من الشيطان الذي يُلِحُّ عليك إلى أنْ يوقِع بك في شِرَاكه.

لكن، لا نجعل الشيطان (شماعة) نعلق عليها كل سيئاتنا وخطايانا، فليست كل الذنوب من الشيطان، فمن الذنوب ما يكون من النفس ذاتها، وسبق أنْ قُلْنا: إذا كان الشيطان هو الذي يوسوس بالشر، فمَنِ الذي وسوس له أولاً؟ وكما قال الشاعر:إِبْلِيسُ لَمَّا غَوَى مَنْ كَانَ إبليسُه؟ وفَرْق بين المعصية من طريق النفس، والمعصية من طريق الشيطان، الشيطان يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه، أمّا النفس فتريدك عاصياً من وجه واحد لا تحيد عنه، فإذا صرفتَها إلى غيره لا تنصرف وتأبى عليك، إلاَّ أنْ تُوقعك في هذا الشيء بالذات.
وهذا بخلاف الشيطان إذا تأبيْتَ عليه ولم تُطِعْهُ في معصية صرفكَ إلى معصية أخرى، أياً كانت، المهم أن تعصي، وهكذا يمكنك أنْ تُفرِّق بين المعصية من نفسك، أو من الشيطان.
ولما سُئل أحد العلماء: كيف أعرف: أأنا من أهل الدنيا أمْ من أهل الآخرة؟ قال: هذه مسألة ليستْ عند العلماء إنما عندك أنت، قال: كيف؟ قال: انظر في نفسك، فإنْ كان الذي يأخذ منك الصدقة أحبّ إليك ممَّنْ يعطيك هدية، فاعلم أنك من أهل الآخرة، وإنْ كانت الهدية أحبَّ إليك من الصدقة فأنت من أهل الدنيا.
ذلك لأن الإنسان يحب من عمَّر له ما يحب، فالذي يعطيك يعمر لك الدنيا التي تحبها فأنت تحبه، وكذلك الذي يأخذ منك يعمر لك الآخرة التي تحبها فأنت تحبه. فهذه مسألة لا دَخْل للشيطان فيها.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ }[لقمان: 20] فهذه الآية تُجمل أنواع العلم الثلاثة التي تحدثنا عنها: فالعلم يُرَاد به البدهيات، والهدى أي: الاستدلال، والكتاب المنير يُراد به ما جاء وَحيْاً من الله ، وبهذه الثلاثة يجب أن يكون الجدال وبالتي هي أحسن.
ومعنى: } مَّرِيدٍ { [الحج: 3] من مَرَدَ أو مَرُدَ يمرد كنثر ينثُر، والمرود: العُتوُّ وبلوغ الغاية من الفساد، ومنها مارد ومريد ومتمرد، والمارد: هو المستعلى أعلى منك.

==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمل مكتبة الإمام ابن أبي الدنيا - الإصدار الأول

من مشكاة مكتبة الإمام ابن أبي الدنيا - الإصدار الأول المؤلف ابن أبي الدنيا     وصف الكتاب برنامج موسوعي يعتني بجمع مؤلفات الإمام أبو بكر عب...