12.
تفسير الشعراوي 12. |
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِ نُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
وحين تقول: أنا أقلب السلعة فهذا يعني أنك تفحصها. والحق يبلغنا هنا: أنا قلبت
قلوبهم على كل لون ولن آخذ بظاهر الفؤاد، بل بلطفي وعظيم خبرتي أعلم الباطن منهم
فاطمئنوا إلى أن حكمي هو الحكم الحق الناتج من تقليب لطيف خبير.
وقد يكون هنا معنى آخر، أي أن يكون التقليب لونا من التغيير؛ فمن الجائز أنهم
حينما أقسموا بالله جهد أيمانهم كانوا في هذا الوقت قد اقتربوا من الإيمان ولكن
قلوبهم لا تثبت على عقيدة. بل تتقلب دائما. ومادامت قلوبهم لا تثبت فأنَّى لنا
بتصديقهم لحظة أن أقسموا بالله جهد أيمانهم على إعلان الإيمان إن جاءت آية؟ وهل
فيهم من يملك نفسه بعد مجيء الآية أيظل أمره أم يتغير؟. لأن ربنا مقلب القلوب وما
كنت تستحسنه أولا قد لا تستحسنه ثانيا. حين { ونُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ } أي أن الحكم قد جاء عن خبرة وإحاطة علم { وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ }.
إن الإيمان يحتاج إلى استقبال آيات كونية بالبصر، وبعد أن تستقبل الآيات الدالة
على عظمة الإِله تؤمن به ويستقر الإيمان في فؤادك. وسبحانه يوضح لنا أنه يقلب
أفئدتهم وأبصارهم، هل يبصرون باعتبار واقتناع؟ أو هي رؤية سطحية لا فهم لهم فيها
ولا قدرة منهم على الاستنباط؟ وهل أفئدتهم قد استقرت على الإيمان أو أن أبصارهم
قاصرة وقلوبهم قاصرة؟
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110]
إذن فهم لا يؤمنون ويسيرون إلى ضلالهم. فإن جاءت آية فلن يؤمنوا، وفي هذا عذر
للمؤمنين في أنهم يرجون ويأملون أن تنزل آية تجعل من أقسموا جهد الإيمان أن
يؤمنوا.
لماذا؟ لأن الحق قال: { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، أي أنهم
لم يتغيروا ولذلك يصدر ضدهم الحكم { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
والطغيان هو تجاوز الحد، وهم قد تجاوزوا الحد هنا في استقبال الآيات، فقد جاءتهم
آيات القرآن وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها، وعجزوا عن أن يأتوا بعشر سور، وعجزوا عن
أن يأتوا بسورة، وكان يجب ألا يطغوا، وألا يتجاوزوا الحد في طلب الاقتناع بصدق
الرسول.
{ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } و " العمه " هو التردد
والحيرة، وهم في طغيانهم يترددون، لأن فيهم فطرة تستيقظ، وكفرا يلح؛ يقولون
لأنفسهم: أنؤمن أو لا نؤمن؟ والفطرة التي تستيقظ فيهم تلمع كومضات البرق، وكان يجب
ألا يترددوا: أو { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } في النار؛ لأن
البصر لم يؤد مهمته في الاعتبار، والقلب لم يؤد في الفقه عن الله، فيجازيهم الله
من جنس ما عملوا بأن يقلب أبصارهم وقلوبهم في النار.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ... }
(/890)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
هنا يوسع الحق المسألة. فلم يقل: إنهم سوف يؤمنون، بل قال: { وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ } مثلما اقترحوا، أو حتى لو كلمهم الموتى،
كما قالوا من قبل:{ فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }[سورة الدخان:
36]
ويأتي القول: { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ } و " الحشر " يدل
على سوق بضغط مثلما نضع بعضا من الكتب في صندوق من الورق ونضطر إلى أن نحشر كتابا
لا مكان له، إذن: الحشر هو سوق فيه ضغط، وهنا يوضح الحق: لو أنني أحضرت لهم الآيات
يزاحم بعضها بعضا وقدرتي صالحة أن آتي بالآيات التي طلبوها جميعا لوجدت قلوبهم مع
هذا الحشر والحشد تضن بالإيمان.
{ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً } و " قبلا " هي جمع
" قبيل " ، مثل سرير وسرر.
{ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً }. وهذا يعني أن الحق إن جاء لهم
بكل ما طلبوا من آيات، وكأن كل آية تمثل قبيلة والآية الأخرى تمثل قبيلة ثانية،
وهكذا. فلن يؤمنوا، أو " قبلا " تعني معاينة أي أنهم يرونها بأعينهم،
لأن في كل شيء دبرا وقبلا؛ والقبل هو الذي أمام عينيك، والدبر هو من خلفك. فإن
حشرنا عليهم كل شيء مقابلا. ومعاينا لهم فلن يؤمنوا. وإن اخذتها على المعنى الأول
أي أنه سبحانه إن حشد الآيات حشدا وصار المعطي أكثر من المطلوب فلن يؤمنوا. وإن
أردت أن تجعلها مواجهة، أي أنهم لو رأوا بعيونهم مواجهة من أمامهم فلن يؤمنوا.
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىا
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ
أَن يَشَآءَ اللَّهُ } [الأنعام: 111]
وجاء الحق هنا بمشيئته لأن له طلاقة القدرة التي إن رغب أن يرغمهم على الإيمان فلن
يستطيعوا رد ذلك، ولكن الإرغام على الإيمان لا يعطي الاختيار في التكليف ولذلك قال
سبحانه:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3-4]
والله لا يريد أعناقا تخضع، وإنما يريد قلوبا تخشع. لذلك يذيل الحق الآية بقوله: {
وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }. والجهل يختلف عن عدم العلم، بل الجهل هو
علم المخالف، أي أن هناك قضية والجاهل يعلم ما يخالفها، أما إن كان لا يعلم القضية
فهذه أمية ويكفي أن نقولها حتى يفهمها فورا. لكن مع الجاهل هناك مسألتان: الأولى
أن نزيل من ادراكه هذا الجهل الكاذب، والأخرى أن نضع في إدراكه القضية الصحيحة،
وما دام أكثرهم يجهلون. فهذا يعني أنهم قد اتبعوا الضلال.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً
شَيَاطِينَ... }
(/891)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{ وَكَذَلِكَ } إشارة من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسل والأنبياء ليعطي الأسوة
للرسول بإخوانه السابقين له في موكب الرسالات، فلست بدعا - يا محمد - في أنك رسول
يُواجَه بأعداء، فكل رسول من الرسل ووجه وقوبل بهؤلاء الأعداء.
وهل فَتّ أعداء الرسل في عضد مَن أرسل إليهم وأضعفوا قوتهم وأوهنوا عزائمهم
وأثنوهم عن دعوتهم؟ أو ظل الرسل أيضا صامدين؟.. إنهم صمدوا وأيدهم الله ونصرهم
وإذا كنت أنت خاتم الرسل، وسيد المرسلين، والمعقب على رسالات سبقتك ولا معقب على
رسالتك فلابد أن يكون الأعداء الذين يواجهونك مناسبين للمهمة التي تؤديها. وإياك
أن تظن أن المقصد في هذه العداوة أننا تركناهم أعداء لمجرد العداء، لا، بل نحن قد
أردنا هذه العداوة لصالح الدعوة؛ لأن الإنسان إذا ما كان في منهج خير وأهاجه الشر
يتحمس لمزيد من الخير. ولذلك لا تجد الصحوات الإيمانية إلا حين يجد المؤمنون تحديا
من خصومهم، هنا تجد الصحوة الإيمانية قد استيقظت لأن هناك خصوما يتحدونها، ولو لم
يكن هناك خصوم لبقيت الصحوة فاترة. وهذا ما نراه حين يوجد من خصوم الإسلام من أي
لون من ألوانهم مَن يتحدى أي قضية من قضايا الدين. في هذه الحالة نجد حتى غير
الملتزم بمنهج الإسلام يغار على الدين.
إذن فالعداوة لها فائدة، وإياك أن تظن أن في أي مظهر في الوجود يُغلب الله على
مراداته في كونه، والشر له رسالة لأنه لولا أن الشر موجود ويصاب الناس من أذاه لما
تحمس الناس للخير، فالذي يجعلنا نتحمس للخير هو وجود الشر، وأوضحنا من قبل أن
الباطل جندي من جنود الحق: لأن الباطل حين يعض ويعربد في الناس يتساءل الناس متى
يأتي الحق لينقذنا، وأنك ساعة ترى مريضا يتألم إياك أن تظن أن الألم قد جاءه دون
سبب، بل الألم جندي من جند الشفاء. وكأن الألم يقول لمن يصيبه: يا إنسان تنبه أن
عطبا في هذا المكان فسارع إلى علاجه. ولذلك نجد أعنف الأمراض وأشرسها وأخبثها، هي
الأمراض التي تأتي بلا ألم يسبقها، ولا تظهر أعراضها إلا أن يستعصي شفاؤها، وهكذا
نرى أن الألم جندي من جنود العافية.
وحين يكون لك عدو في الحارة أو في البلدة وعيونه مركزة عليك فأنت تخاف أن تقع منك
هَنة وعيب حتى لا يشنّع عليك؛ لذلك تسير على الصراط المستقيم لأنك لا تريد أن
تنصره على نفسك.
والشاعر القديم، الذي أعجبه الشعر فشطره. يقول لك:عداي لهم فضل عليّ ومنة فعندي
لهم شكر على نفعهم ليافهم كدواء والشفاء بمرّه فلا أبعد الرحمن عني الأعادياهمُ
بحثوا عن زلَّتي فاجتنبتها فأصبحت مِمَّا دنس العرض خالياوهم أججوا جهدي ولكن
ببغضهم وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
لذلك لابد أن تنظر إلى كل شيء بحكمة إيجاد الحكيم له فقد شاء الحق أن يوجد الأعداء
للدعوة الإسلامية حتى تنتصر وتقوى.
} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ
رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ { [الأنعام: 112]
وجعل الحق سبحانه وتعالى الأعداء للأنبياء، مهيَّجين ومثيرين للنبي ولأتباعه؛ لأن
الأمر إذا حصلت فيه معارضة من مخالف أججت في نفس المقابل قوة حتى لا يهزم أمامه
ولا يغلب أمام منطقه. ولذلك قال الحق: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا { لأي أنهم لم
يتطوعوا بالعداوة إنما هو تسخير للعداوة } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ
عَدُوّاً {.
وكيف يجعل الله لكل نبي عدوا؟ إنه يفعل ذلك بما أودع في الناس من الاختيار، وما
داموا مختارين فالذي اختار الهدى يكون نصيراً للنبي، والذي اختار الضلال يكون عدوا
للنبي.
إذن فهم لم يكونوا أعداء بطبيعتهم، وإنما بما أودع الله فيهم من الاختيار.
وإذا كان الله هو الذي أودع الاختيار فقد أراد أن يحقق مشيئته في قوله:{
لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ..
}[الأنفال: 42]
ولو شاء الله الا يكون للنبوة أعداء لفعل ذلك؛ لأن له طلاقة القدرة، ولكن ذلك
سيكون بالقهر، والله لا يريد قهراً للعقلاء، وإنما يريد أن يذهبوا إليه بمحض
اختيارهم؛ اي وهم قادرون على الا يذهبوا. وكلمة " عدو " في ظاهرها أنها
مفرد، ولكنها تطلق على الواحد، وتطلق على الاثنين، وتطلق على الجماعة، فتقول:
" هذا عدو لي "؛ و " هذه عدو لي "؛ ولا تقل " عدوة
" ، وتقول: وهذان عدو لي، وهاتان عدو لي، لأن كلمة " عدو " تطلق
على الذكر والأنثى وتقال للمفرد وللمثنى، وللجمع.
اقرأ قول الحق:{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء:
77]
واقرأوا قول الحق:{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ
وَلاَ يَشْقَىا }[طه: 123]
ولم يقل أعداء، إذن فكلمة " عدو " تطلق على المفرد والمفردة، والمثنى
والمثناة، وعلى جمع المذكر والجمع المؤنث. لكن بعض الذين يحبون أن يكونوا مستدركين
على كلام الله. يقول الواحد منهم: كيف يقول: " فإنهم عدو لي " ، أو
" اهبطو بعضكم لبعض عدو "؟! ويقول سبحانه وتعالى:{ أَلَمْ أَنْهَكُمَا
عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ
مُّبِينٌ.. }[الأعراف: 22]
والشيطان عدو، وهم عدو. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً.. }[آل عمران: 103]
ونقول له: أنت قد فاتك أن الذي يتكلم هو الرب الأعلى. والعداوة نوعان، فإذا تعدد
العدو، وجمعته مصلحة واحدة في معاداة المعادي يكونون وحدة في العداوة فهم عدو واحد
لاجتماعهم على سبب واحد في العداوة.
لكن إذا تعددت أسباب العداوة فالأمر يختلف، فقد يكون لك عدو لأن مظهرك أحسن منه،
وعدو آخر لأنك أذكى منه، وعدو ثالث لأنك أغنى منه. فلتعدد الأسباب صار كل واحد
منهم عدوًا برأسه وجمع على أعداء لتعدد سبب العداوة.{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَىا بَعْضٍ.. }[سورة الأنعام: 112]
وشياطين الإنس والجن كما يقول النجاة بدل من عدو و " شياطين " جمع شيطان
وهو اللعين المطرود، البغيض، سواء أكان من الإنس أم من الجن.
} يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً { والوحي - كما
نعرف - هم إعلام بخفاء، ولماذا يوحي بعضهم إلى بعض؟ لن غلبة الحق لا تجعلهم قادرين
على أن يتجاهروا؛ لذلك يتآمرون مع بعضهم البعض، لكن الناس المحقين في قضية يتحركون
في علانية. ولا يستخفون من الناس.
} يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ { ومن الذي يوحي؟ ومن الذي يوحى إليه؟ ليس لنا
دخل بهذا الموضوع، إنما الوحي: هو إعلام بخفاء، إن كان إلهاماً في النفس، أو إن
كان بالإشارة أو بالدس، أو إن كان بالوسوسة، أو إن كان بواسطة رسول نحن لا نراه،
كل ذلك أساليب الوحي الشامل للخير والشر.
وإذا كان الوحي من شياطين الجن فهل يوحون إلا بِشَرً؟ نعم. وكذلك هناك شياطين من
الإنس يوحون أيضاً بشرّ. مصداقاً لقوله الحق: } يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ
زُخْرُفَ الْقَوْلِ { وزخرف القول، المقصود به أنهم يدخلون على المسائل بالتزيين،
فيزينون للناس الشهوة، ولذلك سماها ربنا " وسوسة " ، ونعلم أن المعاني
حين يؤخذ لها ألفاظ تؤخذ من الأشياء الحسيّة، والوسوسة هي صوت الحلى، وقد اختار
الله لما يفعله الشياطين من الإنس والجن للفظ الموحى بالمعنى المراد لأن وسوسة
الحلى تغري بالنفاسة وعظم القيمة، والوسوسة طريقها هو الخفاء.
} يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ { وهم شياطين من الإنس
والجن، إنس يوحي لإنس بأن يزين له المعصية والشهوة، وكثيراً ما يقع ذلك.
وجنّي يوحي لجنّي؛ لأن الجن مكلَّف أيضاً. وكذلك يوحي الجن للإنس.
} يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ { الزخرف. هو الشيء لمزين
ظاهره لكن باطنه فاسد، ولذلك قال عز وجل:{ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا
مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. }[الزخرف: 35]
أي أموراً مزخرفة ظاهراً، لكن ليس لها عمق أو عمر أو نفاسة.
} يوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً.. { [الأنعام: 112]
وذلك ليغروهم ويخدعوهم ليفعلوا ويقترفوا المعصية، وإن لم يأتوا للمعصية بكلمات
تزخرفها وتزينها فلن يستطيعوا أن يدخلوا بها على الناس؛ لذلك يعرضون ويبدون محاسن
المعصية في ظاهر الأمر، مثال ذلك أنك لا تجد من يقول لآخر: اشرب الخمر لتصاب بتليف
الكبد مثلا!! ولكن هناك من يقول: احتس الخمر ليذهب همك وتنشط نفسك ويكثر فرحك.
} زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً { أي ليغروهم؛ بإظهار فائدة موهومة فيه، ويسترون عن
الناس مضرّة هذا الشيء ومهالكه.
ويتابع سبحانه: } وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ { إنّ الحق سبحانه وتعالى هو
الذي أعطى خلقه اختياراً في أن يكونوا مؤمنين أو أن يكونوا كافرين، مهديين أو ضالين،
في نور أو في ظلمة. ويأتي الوقت الذي يثيب فيه سبحانه أو يعاقب؛ لذلك فهو - جل
شأنه - لا يرغمهم على فعل ثم يعاقبهم عليه؛ لأنه هو العدل. ولذلك نجد من يقول:
لماذا العقاب ولا شيء في الكون يقع على غير مشيئة الله؟ ونقول: نعم كل شيء من فعل
الله؛ لأن سبب الاختيار من الله. وسبحانه هو الذي خلق الاختيار. فالكافر لا يقدر
أن يؤمن إلا أن شاء الله, لكن المطلوب منه أن يؤمن لأن طبيعته صالحة للكفر وصالحة
للإيمان.
إذن خلق الله الإنسان مختاراً في أن يفعل أو لا يفعل في بعض الأمور، فالذي ينظر
إلى أن كل فعل من الله أي ليس بطاقة من عبد، نقول له: صح رأيك. ومن يقول: إن هذا
الأمر من العباد نقول له أيضاً: صح موقفك؛ لأن ربنا خلق الإنسان صالحاً لأن يحصل
منه كذا. فإن أردت الحقيقة تجد كل فعل يأتي من الله، فأنت - على سبيل المثال - لم
تخلق القوة التي لليد لترتفع، ولا خلقت القوة للأصابع لتنقبض. وإذا أردت أن تقبض
يدك. فما هي العضلات التي تتحرك لتفعل الانقباض؟ أنت لا تعرف. إنّك تقبض يدك بمجرد
إرادة منك أن تقبضها، والذي خلق لك هذه القوة يأمرك ألا تستعملها في قهر
الآخرين،ولكن عليك أن تستعملها فيما يفيد الناس. واليد صالحة للضرب وللعمل الطيب وأنت
لم تخلق الطاقة التي في اليد، ولا خلقت الانفعال فيها لإرادتك.
} وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ { أي لو شاء عدم فعله لفعل؛ لأن له طلاقة
القدرة فلا يقدر أحد أن يخرج عن مراده أبداً. ونحن نرى السماء والأرض وكل ما دون
الإنسان مسخراً، ثم لماذا نأخذ أمثلة من السماء والأرض والنبات والجماد والحيوان؟
خذ المثال من نفسك. أنت فيك أشياء ليس لك سيطرة عليها، واختيار لك عليها، ألك
اختيار أن تمرض؟. لا.
ألك اختيار أن يقع عليك حجر وأنت تمشي؟. لا.
ألك اختيار في أن يصيبك سائق سكران؟. لا.
ألك اختيار في أن تموت او لا تموت؟. لا. لقد جعل الله فيك الأمرين الأثنين:
قهرك في أمور. والقهرية تثبت له - سبحانه - القدرة وطلاقتها، وجعلك مختارا في
أشياء، والاختيار يثبت صحة التكليف.
ويتابع الحق مذيلاً الآية: } فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ { لأن افتراءهم وكذبهم
وزعمهم الباطل لن يغير من حقيقة الأمر شيئاً، وهم يرون أن افتراءهم يعوق الدعوة،
لا، فقد صار افتراؤهم وكيدهم وعداوتهم للنبي وقوداً مهيّجاً للدعوة؛ لأن يخلص
الدعوة من الشوائب ويصهر المؤمنين بها ويخرج منهم خصال الشر ويملأهم بخلال الخير.
{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.. }[الرعد: 17]
ولو لم يكن هناك مهيّجات لهذه المسائل لدخل الدعوة العاطل والباطل ولاندس فينا من
لا يعرف قيمة الإيمان؛ لذلك يمحص الله بالأعداء وبالقوم الذين يقفون أمامها حتى لا
يكون في حملة الدعوة احد من ضعاف العقائد وضعاف الإيمان، وهم الذين يخرجون هرباً
من مسئوليات الإيمان ولا يبقى إلا أصحاب الرسالة الذين يخلصون الصدق مع الله
وينقيهم الله بواسطة الأعداء. ولذلك قال:{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ
إِلاَّ خَبَالاً }[التوبة: 47]
فمن الحكمة أنه - سبحانه - ثبط عزيمتهم وضعف رغبتهم في الانبعاث والخروج معكم.{
وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ
انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ }[التوبة: 46]
وهنا يقول الحق: } يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ { وزخرف
القول هو لون من الأداء له سُمَّاع، ومن يسمعونه قد لا يؤثر في قلوبهم ولا في
نفوسهم، ومرة أخرى يسمعونه ويكون عندهم ميل وليس عندهم عقيدة ثابتة راسخة إلى هذا
القول.
وكيف يسلك هؤلاء الناس: } وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ..
{
(/892)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
كأن من يؤمن بالآخرة لا يقرب منه الزخرف أبداً ولا يميل إليه. وإن زُينت له معصية
فإنه يتساءل: كم ستدوم لذة هذه المعصية؟ دقيقتين، ساعة، شهراً؛ وماذا أفعل يوم
القيامة الذي يكون فيه الإنسان إمّا إلى دخول الجنة وإمّا إلى دخول النار. إذن فمن
يؤمن بالآخرة لا تتقبل أذنه ولا فؤاده هذا الزخرف من القول، ولا يتقبله إلا من لا
يؤمن بالآخرة، وهو لا يعرف إلا الدنيا، فيقول لنفسه: فلتتمتع في الدنيا فقط، ولذلك
لو استحضرَ كل مؤمن العقوبة على المعصية ما فعلها، وهو لا يفعلها، وهو لا يفعلها
إلا حين يغفل عن العقوبة. وإذا كنا في هذه الدنيا نخاف من عقوبة بعضنا بعضاً،
وقدراتنا في العقوبة محدودة، فما بالنا بقدرة الرب القاهرة في العقوبة؟! ولذلك نجد
الذين يجعلون الآخرة على ذكر من أنفسهم وبالهم إذا عرضت لهم أي معصية، يقارنونها
بالعقاب، فلا يقتربون منها. { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
}.
والإصغاء هو ميل الأذن إلى المتكلم؛ لأنك قد لا تسمع من يتكلم بغير إصغاء، وحين
يسير الإنسان منا في الطريق فهو يسمع الكثير، لكن أذنه لا تتوقف عند كل ما يسمع،
بل قد تقف الأذن عندما يظن الإِنسان أنه كلام مهم. ولذلك يسمونه التسمع لا السمع،
وهذا هو الإصغاء. ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: من تسمع غانية - أي امرأة
تغني بخلاعة - ولم يقل: " من سمع " ، والإنسان منا قد يسير ويذهب إلى أي
مكان والمذياع يذيع الأغاني، ويسمعها الإنسان، وآلة إدراك السمع منطقة وليست
مفتوحة؛ فهو لا يتصنت، وآلة إدراك الانطباقية أو الانفتاحية مثل العين؛ فالعين لا
ترى وهي مغمضة، إنها ترى وهي مفتوحة، والعين تغمض بالجفون أما الأذن فليس لها جفون
يقول لها: لا تسمعي هذه، وهذه اسمعيها.
إذن فالسمع ليس للإنسان فيه اختيار، لكن التسمع هو الذي له فيه اختيار.
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } [الأنعام: 113]
كأن فيه شيئا ينبع طلب السمع فيه من الفؤاد، أي يوافق ما في الأعماق، وشيئا آخر
يمر عليه الإنسان مر الكرام غير ملتفت إليه. والأفئدة هي القلوب، صحيح أن الآذان
هي التي تصغي، لكن القلوب قد تتسمع ما يقال، وكأن النفس مستعدة لهذه العملية؛
لأنها لا تؤمن بأن هناك آخرة وعندما استعداد لأن تأخذ لذة الدنيا دون التفات
للآخرة. ولذلك ينقل الحق سبحانه الإصغاء من الأذن إلى الفؤاد وهذا إدراك.
{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ.. }
[الأنعام: 113]
ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة:
{ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } [الأنعام: 113]
وقد يصغي إنسان، ثم تتنبه نفسه اللوامة، ويمتنع عن الاستجابة.
لكن هناك من يصغي ويرضى وجدانه ويستريح لما يسمع، ثم ينزع للعمل ليقترف الإثم.
وهذه ثلاث مراحل: الأولى هي: } وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ {. ثم المرحلة الثانية: } وَلِيَرْضَوْهُ { ، ثم المرحلة
الأخيرة: } وَلِيَقْتَرِفُواْ { أي يرتكبوا الإثم، وهذه المسألة حددت لنا المظاهر
الشعورية التي درسها علماء النفس فالإدراك؛ " لتصغى " ، والوجدان؛
" ليرضوه " ، والنزوع؛ " ليقترفوا ".
وقبل أن يولد علم النفس جاء القرآن بوصف الطبيعة البشرية بمراحلها المختلفة من
إدراك ووجدان، ونزوع والشرع لا يتدخل عند أي مظهر من مظاهر شعور المرء إلا عند
النزوع إلا في حالة واحدة حيث لا يمكن فصل النزوع عن الوجدان وعن الإدراك؛ لذلك
يتدخل الشرع من أول الأمر، وهو ما يكون في عملية نظر الرجل إلى المرأة؛ لأنك حين
تنظر تجد نفسك: تحبها وتعشقها تفتن بها، ومحرم عليك النزوع، فحين تتقدم ناحيتها يقول
لك الشرع: لا. ولأن هذا أمر شاق على النفس البشرية، ولا يمكن فصل هذه العمليات؛
لأنه إن أدرك وَجِد، وإن وَجِد نزع، فأمر الحق بالامتناع من أول الأمر:{ قُلْ
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ.. }[النور: 30]{ وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ.. }[النور: 31]
إذن فقد منع الإدراك من بدايته ولم ينتظر حتى النزوع، لماذا؟ لأن الإدراك الجمالي
في كل شيء يختلف عن الإدراك الجمالي في المرأة. الإدراك الجمالي في المرأة يُحدث
عملية كيماوية في الجسم تسبب النزوع، ولا يمكن فصلها أبداً. } وَلِتَصْغَى
إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ
وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ {.
وساعة ما نقول: " ما " ويأتي الإبهام فهذا دليل على أن هناك أموراً
كثيرة جدًا.
ولذلك يقول الحق:{ ..فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ }[طه: 78]
أي أنه أمر لا يمكن أن تحدده الألفاظ، مثله مثل قوله: } وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم
مُّقْتَرِفُونَ {.
أي أن كل واحد يقترف ويكتسب ويعمل ويرتكب ما يميل إليه؛ فهناك من يغتاب أو يحسد أو
يسرق وغير ذلك من شهوات النفس التي لا تحدد؛ لذلك جاء لها باللفظ الذي يعطي على
العموم.
وما دامت المسألة في نبوّة واتباع نبوّة، وفي أعداء شياطين من الإنس والجن ويوحي
بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً إذن فهذه معركة، وحتى يتم الفصل فيها لابد من
حاكم يحكم. فأوضح الحق: يا محمد أنا أرسلتك، ولك أعداء وسيكيدون لك بكذا وكذا ويبذلون
قصارى جهدهم في إيذائك ومن اتبعك، فإياك أن تبتغي حكما غيري؛ لأني أنا المشرع وأنا
من أحكم، وأنا الذي سوف أجازي.
لماذا؟ لأن الخلاف على ما شرع الله، ولا يستقيم ولا يصح أن يأتي من يقول مراد
المقنن كذا، أو المفسر الفرنسي قال كذا، والمفسر الإِنجليزي قال كذا، لا، إن الذي
يحكم هو من وضع القانون، ومراداته هو أعلم بها، والحق الواضح هو أعلم به، وسبحانه
هو من يحكم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
" إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض
فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها
أو ليتركها. "
أي إياك أن يقول واحد: إن النبي قد حكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم
بظاهر الحجة، وقد يكون واحد من المختصمين قوي الحجة، والآخر لا يجيد التعبير عن
نفسه. إذن فالحكم هو الله لأنه هو الذي قنن، ومادام هو الذي قنن وهو الذي يحكم
بينكم، فليطمئن كل إنسان يتخاصم مع غيره؛ لأن القضية يفصل فيها أعدل العادلين
وأحكم الحاكمين.
ولذلك يقول الحق سبحانه: } أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي... {
(/893)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
فسبحانه هو من يحكم وهو من قنن، وهو من يعلم القانون ويعلم من يتبع القانون، ومن
يخالف القانون. وساعة تقول: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً }. فهذا دليل
على أنك واثق أن مجيبك لن يقول لك إلا: لا تبتغي حكما إلا الله، ولذلك يطرح
المسألة في صيغة استفهام، ويقول صلى الله عليه وسلم: مبلغا عن ربه: { وَهُوَ
الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } ، ولم يقل رسول الله: وهو
الذي أنزل عليّ الكتاب، بل قال مبلغاًَ عن رب العزة: { وهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ
إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ } كأن العداوة ليست لمحمد وحده، لكنها العداوة لأمة الإيمان
كلها، والحكم لأمة الإيمان كلها. ومع أن القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أولاً، ولكن مهمته البلاغ إلى الناس والغاية منه للمؤمنين كلهم، وهكذا تكون
العداوة للنبي عداوة للمؤمنين كلهم، ولذلك أنزل عليه الحق هذا التساؤل: {
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } كما أنزل عليه من قبل القول الحق:{
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ
}[الأنعام: 112]
إذن فعدو النبي هو عدو المؤمنين به والمتبعين له، لكن قمة العداوة تكون للنبي
المرسل من الحق:
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن
رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [الأنعام: 114]
وكلمة { مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } فيها إغراء للمؤمنين بأن كل الأمر يعود عليكم
أنتم بالفائدة؛ لأن غاية إنزال الكتاب لكم أنتم، والكتاب جاء بهذا المنهج لصالحكم
ولن يزيد في صفات الله صفة، ولن يزيد في ملك الله ملكا. بل الغاية أنتم.
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ
الْكِتَابَ } [الأنعام: 114]
وسبحانه لم ينزل الكتاب إلا بتفصيل لا تلتبس فيه مسألة بأخرى:
{ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن
رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [الأنعام: 114]
والمقصود هنا بالذين آتيناهم الكتاب اليهود والنصارى؛ لأنهم يعلمون صفاتك يا رسول
الله ويعلمون نعتك ويعلمون الكثير من كتابك فكل ما يتعلق بك موجود عندهم لكن الآفة
أنهم اعتنقوا دينين: دينا يعلن يبدونه ويظهرونه، ودينا يُسَرّ به، فما يسر به لا
يعلنونه ويُحرِّمون السؤال فيه، ولا يقبلون فيه نقاشاً، وعندما تصل إلى الحقيقة
وتعرضها عليهم لا يقبلونها، وما الذي جعلهم يلتوون هكذا؟ لأن لهم حالين اثنتين:
حال أيام أن كانوا يعاديهم من لا يؤمن بالسماء ومنهج السماء كعبدة الأوثان
والمشركين. وقال فيه الحق:{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُواْ }[البقرة: 89]
لقد كانوا من قبل أعداء للذين كفروا وأشركوا فكان همهم وشغلهم الشاغل أن ينتصروا
على هؤلاء الكافرين، وقالوا:
(أظل زمان نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم)
وحينما جاءهم ما عرفوا كفروا به لأنهم:{ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً
قَلِيلاً... }
[التوبة: 9]
وكان الثمن هو بقاء السلطة في أيديهم، وعندما تأتي النبوة تنزع منهم السلطة، فليس
في الإِسلام سيطرة لرجال الدين ولا كهنوت. وكانوا يريدون أن تستمر سيادتهم،
فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا.
} وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن
رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ { [الأنعام: 114]
وهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، وهم يعلمون أن الذي يشيعونه هو باطل. إذن فهناك
علم بينهم وبين نفوسهم؛ وعلم آخر يقولونه للآخرين. وقوله الحق: } فَلاَ تَكُونَنَّ
مِنَ الْمُمْتَرِينَ { أي الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند
ربك بالحق. هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه إذا طلب المتكلم من المخاطب
أمرا هو فيه فالمراد المداومة عليه والزيادة؛ لأن هناك أموراً قد تزلزل الإيمان؛
لذلك يأتي الأمر بالثبات، أو هو إهاجة له، أو هو تسلية للمؤمنين إذ قال لهم لا
تمتروا ولا تشكوا.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً.. {
(/894)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وكلمة " تمت " تدل على أن المسألة لها بداية ولها خاتمة، فما المراد
بالكلمة التي تمت؟. أهي كلمة الله العليا بنصر الإسلام وانتهاء الأمر إليه؟ أو هو
تمام أمر الرسالة حيث قال الحق:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً..
}[المائدة: 3]
أو " كلمة ربك " المقصود بها قرآنه؟. ونرى أن معنى " تمت "
استوعبت كل أقضية الحياة إلى أن تقوم الساعة، فليس لأحد أن يستدرك على ما جاء في
كتاب الله حكماً من الأحكام؛ لأن الأحكام غطت كل الأقضية. ولفظ " كلمة "
مفردة لكنها تعطي معنى الجمع. وأنت تسمع في الحياة اليومية من يقول: وألقى فلان
كلمة طيبة قوبلت بالاستحسان والتصفيق. هو قال كلمات لكن التعبير عنها جاء بـ
" كلمة " إذن { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } المقصود بها المنهج الذي
يشمل كل الحياة، واقرأ قوله الحق:{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ.. }[الكهف: 5]
أهي كلمة أو كلمات؟ أنها كلمة ولكن فيها كلمات. إذن لفظ " كلمة " تطلق
ويراد بها اللفظ المفرد، وتطلق ويراد بها الكلام. والكلمة في الأصل لفظ مفرد، أي
لا يكون معها لفظ آخر، ولكنها تدل على معنى، فإذا كان المعنى غير مستقل بالفهم؛
ويحتاج إلى ضميمة شيء إليه لنفهمه فهذا حرف، وأنت تقول: " في " وهو لفظ
يدل على الظرفية، إلا أنه غير مستقل بالفهم؛ لأن الظرف يقتضي مظروفاً ومظروفاً
فيه، فتقول: " الماء في الكوب " لتؤدي المعنى المستقل بالفهم. وكذلك
ساعة تسمع كلمة " من " تفهم أن هناك ابتداء، وساعة تسمع كلمة " إلى
" تعلم أن هناك انتهاء. وإن كان يدل على معنى في نفسه وهو غير مرتبط بزمن فهو
الاسم. وإن كان الزمن جزءاً منه فهو " الفعل ". أما " الكلام
" فهو الألفاظ المفيدة.
وحين تسمع " سماء " تفهم المعنى، وكذلك حين تسمع كلمة " أرض "
وهو معنى مستقل بالفهم. وحين تسمع كلمة " كتب " فهي تدل على معنى مستقل
بالفهم، والزمن جزء من الفعل، فكتب تدل على الزمن الماضي و " يكتب " تدل
على الحاضر و " سيكتب " تدل على الكتابة في المستقبل. إذن فـ "
الكلمة " لفظ يدل على معنى فإن كان غير مستقل بالفهم فهو حرف. و "
الكلمة " قد يقصد بها الكلام.
وقوله الحق: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } تعني الكثير. فإن أردت بها القرآن
فالمقصود هو كلمة الله. وكلام الله نسميه " كلمة " لأن مدلوله كلمة
واحدة. انتهت وليس فيها تضارب، هذا إن أردنا بها القرآن، ولتفهم أن القرآن قد
استوعب كل شيء، وكل قضية في الوجود وأيضاً لم ينس أو بدّل فيه حرف؛ بل بقى وسيبقى
كما أنزل؛ لأن الآفة في الكتب التي نزلت أنهم كتموا بعضها ونسوا بعضها، وحرفوا
بعضها، وكان حفظها موكولاً إلى المكلفين، ومن طبيعة الأمر التكليفي أنه يطاع مرة،
ويعصى مرة أخرى.
وإن أطاعوا حافظوا على الكتب، وإن عصوا حرفوها بدليل قوله تعالى الحق:{ إِنَّآ
أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ
بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ.. }[المائدة: 44]
و " استحفظوا ": أي طلب منهم أن يحافظوا عليه، وهذا أمر تكليفي عرضة أن
يطاع، وعرضة أن يعصى، لكن الأمر اختلف بالنسبة للقرآن فقد قال الحق:{ إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9]
فسبحانه هو من يحافظ على القرآن، وليس ذلك للبشر لأن القرآن معجزة، والمعجزة لا
يكون للمكلَّف عمل فيها أبداً.
إذن فقوله الحق: } وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ { المقصود بها أن تَطْمَئِن على أن
القرآن الذي بين يديك إلى أن تقوم الساعة هو هو لن تتغير فيه كلمة، بدليل أنك
تتعجب في بعض نصوص القرآن، فتجد نصًا مساويا لنص، ثم يختلف السياق، فيقول الحق:{
كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ }[المدثر: 54-55]
ومرة أخرى يقول سبحانه:{ كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
}[عبس: 11-12]
ومرة أخرى يقول:{ إِنَّ هَـاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَىا رَبِّهِ
سَبِيلاً }[الإنسان: 29]
فهذا لون ونوع من المتشابه من الآيات ليقول لنا الحق:{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة: 18]
والحق يقول:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ
خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ
عَلَىا أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىا وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْعَادُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ
عَلَىا صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ }[المؤمنون: 1-9]
وفي آية أخرى يقول:{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىا صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ }[المعارج:
34]
وكل ذلك يدلك على أن كل كلمة وصلتك كما أنزلت، وبذلك تكون كلمة ربك قد تمت. أو قول
الله: } وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ { ليدل على أن كلمة الله هي العليا، ولذلك
تلاحظ أن " كلمة الله هي العليا " لم يجعلها الحق جعلاً، وإنما جاءت
ثبوتاً، وسبحانه القائل:{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى..
}[التوبة: 40]
هذا السياق الإعرابي حصل فيه كسر مقصود، والسياق في غير القرآن أن يقول: وجعل كلمة
الله هي العليا، ولكنه سبحانه يقول: } وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
السُّفْلَىا وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا {
وسبحانه أراد بذلك أن نفهم أن كلمة الله هي العليا دائماَ وليست جعلاً. وهذا دليل
على أن كلمته قد تمت.
ونلحظ أن قول الحق: } وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ { تأتي بعد } أَفَغَيْرَ اللَّهِ
أَبْتَغِي حَكَماً { ، واستقرىء موكب الرسالات من لدن آدم، وانظر إلى حكم الله بين
المبطلين والمحقين، وبين المهتدين والضالين: إنه الحق القائل:
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً
}[العنكبوت: 40]
والحاصب هو الريح التي تهب محملة بالحصى وكانت عقوبة لقوم عاد.{ وَمِنْهُمْ مَّنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ }[العنكبوت: 40]
وهم قوم ثمود، يسميها مرة الصيحة، وأخرى يسميها الطاغية:{ فَأَمَّا ثَمُودُ
فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ }[الحاقة: 5]
ومرة يخسف بهم الأرض مثلما فعل مع قارون: } فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ
{ وكذلك: } وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا {.
وقد أغرق الله قوم فرعون وكذلك أغرق - من قبلهم - المكذبين لنوح. إذن كل قوم أخذوا
حكم الله عليهم، لكنك يا محمد مختلف عنهم وكذلك أمة محمد التي أصبحت مأمونة على
الوصية، وعلى المنهج، ولذلك قال الحق:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا
نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15] وبعد أن بعث الحق رسوله صلى الله عليه وسلم
قال:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }[الأنفال: 33]
إذن } تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ { ، وهي الفصل النهائي:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ *
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171-173]
وأنتم المنصورون لأنكم منسوبون إلى منهج غالب، والنصر للمنهج الغالب يقتضي
الإخلاص، فإن تنصروا المنهج باتباعه ينصركم من أنزل المنهج، فهو القائل:{
لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي.. }[المجادلة: 21]
وما قاله كان هو الواقع وما جاء به الواقع كان مطابقاً للكلام. } وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً.. { [الأنعام: 115]
أي وافق الواقع الكوني ما قال الله به, وكيف كان الواقع صادقاً وعادلاً في آن
واحد؟ لنفرض أنك أحضرت مدرساً خصوصيًّا لولدك، وصادف أنه هو الذي يدرس في المدرسة
وهو الذي يدرس لابنك ثم قلت له: أريد أن ينجح الولد في الامتحان. ووعد المدرس بذلك
ثم جاء الامتحان ونجح الولد، فتكون كلمة المدرس قد صدقت. لكن هل هذا عدل؟ قد يكون
المدرس هو واضع الأسئلة ولّمح للولد بالأسئلة، ويكون النجاح حينئذٍ غير عادل، لكن
كلمة الله تجيء مطابقة لما قال، موقعها مطابق لما قال، وهي كذلك عدل؛ لأنه سبحانه
أوضح الثواب والعقاب: } وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً {. لأنه لا
مبدل لكلمات الله، ولا يوجد إله آخر يعارضه فله سبحانه طلاقة القدرة.
أما بالنسبة للبشر فقد علَّم الله عباده احتياط الصدق في كلامهم؛ فأوصاهم:{ وَلاَ
تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ..
}[الكهف: 23-24]
لأن فعل ذلك غداً والإتيان به وإحداثه هو أمر يتعلق بالمستقبل الذي لا نتحكم فيه،
فاحم نفسك وقل: " إن شاء الله " ، فإن لم يحدث يمكنك أن تقول: لم يشأ
ربنا حدوث ما وعدت به، وبذلك يحمي الإنسان نفسه من أن يكون كاذباًَ ويجعل نفسه
صادقاً فلا يتكلم إلاَّ على وفق ما عنده من قوانين الفعل وعدم الفعل؛ لأنه عندما
تقول: " أفعل ذلك غداً ". ماذا ستفعل غداً وأنت لا تضمن نفسك وحياتك
وظروفك؟! لكن الله إذا قال: " سأفعل " فله طلاقة القدرة.
} وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [الأنعام: 115]
ومادامت الكلمات ستتحقق والحكم سيصدر فهذا دليل على أنه سبحانه سميع لما قالوه في
عدواتهم، وعليهم بما دبروه من مكائدهم، وهو القائل من قبل:{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ
لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ.. }[الأنعام: 121]
أي ليعلموهم بخفاء، فإن كان كلامهم ظاهراً فهو مسموع، وإن كان بخفاء فهو معلوم.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ... {
(/895)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
و { مَن فِي الأَرْضِ } المقصود بهم المكلفون؛ لأنهم هم من يتميزون بالاختيار ولهم
أوامر ونواه، فما دون الإنسان لا أمر له، و " أكثر " لا يقابلها
بالضرورة كلمة " قليل " أو " أقل " ، وما دام القول هو:
" أكثر ". فقد يكون الباقون كثيراً أيضاً، وأمّا كثير فإنها، تعطي له
كميته في ذاته وليست منسوبة إلى غيره، ولذلك كنا نسمع من يقول: مكتوب على محطة مصر
أو على " المطار " أو على " الميناء " ، يا داخل مصر منك
كثير، أي إن كنت رجلاً طيباً فستجد مثلك الكثير، وإن كنت شريراً فستجد مثلك الكثير
أيضاً.
ويقول الحق:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذَابُ.. }[الحج: 18]
فكل الكائنات مقهورة مسخرة، وعند الناس انقسم الأمر؛ لأن لهم اختياراً، فراح أناس
للطاعة وذهب أناس للمعصية، فلم يقل الحق: والناس. بل قال " وكثير من الناس
" ، ولم يقل الحق: وقليل حق عليه العذاب، لكنه قال: { وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَاب } فهؤلاء كثير وهؤلاء كثير، وإن نظرت إليهم في ذاتهم فهم كثير،
والآخرون أيضاً إذا نظرت إليهم تجدهم كثيراً. ولماذا يقول الحق: { وَإِن تُطِعْ
أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }؟
" الطاعة " - كما نعرف- استجابة للأمر في " افعل " ، والنهي
في " لا تفعل " إذا قال الحق للإنسان افعل كذا؛ فالإنسان صالح لأن يفعل،
وأن لا يفعل، وإن كان هناك شيء لا تقدر عليه فلن يقول لك: افعله. والإنسان عادة
حين يؤمر أو يُنهي إنما يؤمر وينهي لمصلحته، فإن لم يوجد أمام مصلحةٍ معارض من
منهج إلهي فهذا من مصلحته أيضاً؛ لأن الله أجاز له حرية الفعل والتّرك. ويوضح
الحق: من رحمتي أن جعلت لكم تشريعاً؛ لأننا لو تركنا الناس إلى أهوائهم فسيأمر كل
واحد من الذين لهم السيطرة على الناس بما يوافق هواه، وسينهي كل واحد من الناس بما
يخالف هواه؛ لذلك نعصم هذا الأمر بالمنهج. حتى لا يتضارب الخلق ولا يتعاكس هواك مع
هوى أخيك. ومن المصلحة أن يوجد مطاع واحد لا هوى له، ويوجد منهج يقول للجميع
" افعلوا كذا " و " لا تفعلوا كذا " وبذلك يأتي الاستطراق
لنفعهم جميعاً. ولذلك يقول الحق: { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ
يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ.. } [الأنعام: 116]
فهناك أناس مؤمنون وهم أصحاب الفطرة السليمة بطبيعتهم؛ لأن الخير هو الفطرة في
الإنسان، وقد جاء التشريع لينمي في صاحب الفطرة السليمة فطرته أو يؤكدها له، ويعدل
في صاحب النزعة السيئة ليعود به إلى الفطرة الحسنة.
والذين يضلون عن سبيل الله ماذا يتبعون؟ يقول الحق: } إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ {.
كل واحد منهم يظن أن هذا الضلال ينفعه الآن، ويغيب عنه ما يجر عليه من الوبال فيما
بعد ذلك.
و " الظن " - كما نعلم- هو إدراك الطرف الراجح ويقابله الوهم وهو إدراك
الطرف المرجوح والظن هنا، هو ما يرجحه الهوي: } إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ
وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَْ { [الأنعام: 116]
و " إن " - كما نعرف- تأتي مرة جازمة: إن تفعلْ كذا تجدْ كذا، وتأتي مرة
نافية، مثل قوله الحق:{ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ
اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ.. }[المجادلة: 2]
أي: ما أماتهم؛ فـ " إن " هنا نافية. وقوله الحق: } إِن يَتَّبِعُونَ
إِلاَّ الظَّنَّ { أي ما يتبعون إلا الظن. هم إما أن يتبعوا الظن وإمّا أن يخرصوا.
(فالخارص) هو من يتكلم بغير الحقيقة، بل يخمن تخميناً، كأن ينظر إنسان إلى آخر في
سوق الغلال ويسأله: كم يبلغ مقدار هذا الكوم من القمح؟. فيرد: حوالي عشرة أرداب أو
اثنى عشر أردباً، وهو يخمن تخميناً بلا دليل يقيني أو بلا مقاييس ثابتة، أو يقول
كلاماً ليس له معنى دقيق.
فإذا اتبعت الناس فسوف يضلونك. لأنهم لا يملكون دليلاً علمياً، ولاحقًا يقينيًا،
بل يتبعون الظن إن كان الأمر راجحاً، ويخرصون ويخمنون حتى ولو كان الأمر مرجوحاً.
ويقول سبحانه بعد ذلك: } إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ..
{
(/896)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
وساعة ترى " هو " هذه فاعرف أنها تَرُدّ وتجيب على ما يمكن أن يقال،
فهناك من يقول: أنا سوف أرى تصرفات فلان، ولأنك من البشر فمهما علمت عنه فأنت
محدود الإداراك؛ لأنك سترى تصرفات فقط، ولن ترى انفعالات قلبه وتقلبات عقله، ولكن
الحق سبحانه وتعالى هو الأعلم؛ لأن الميزان كله عنده، إنه يدرك الظاهر والباطن،
وهو سبحانه يقول هنا: " أعلم " وهناك " عليم " ، و "
العليم " هو من يرى ظاهر الأمر ويحيط به، لا الخافي منه، أما الذي يرى الظاهر
والخفي فهو أعلم.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل كثيرة يعامل الناس بعلانيتهم، ويترك
سرائرهم إلى الله. " وعندما قتل مسلم رجلاً أعلن الإسلام، سأله صلى الله عليه
وسلم لماذا؟، قال: لأنه أعلن الإسلام نفاقاً. فقال صلى الله عليه وسلم: أشققت عن
قلبه؟! "
وسبحانه وتعالى " أعلم "؛ لأنه يعلم الظاهر والباطن، ويعلم خائنة الأعين
وما تخفي الصدور.
ويقول الحق:
{ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ
مُؤْمِنِينَ * وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ }
ما الذي أدخل هذه المسألة في هذا السياق؟ لقد تكلم الحق عن أن هناك أعداء لكل نبي
يلتمسون ثغرة في منهجه ليتكلموا فيها، وهذه هي مهمتهم التي هيأها الله لهم، فحين
يقولون الاعتراضات نجد المنهج يرد عليهم وبذلك تنتفع الدعوة إلى أن تقوم الساعة.
مثال ذلك نجد الجماعة الذين عارضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء
والمعراج، فحين قال لهم: أنني أسرى بي إلى المسجد الأقصى وعرج بي إلى السماء في
ليلة واحدة، التمسوا له ثغرة لينفذوا منها ويضللوا غيرهم وقالوا له: أتدّعي أنك
أتيتنا في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟!! لكنْ أبو بكر الصديق قال: إن
كان قال فقد صدق، وهذا هو الإيمان الذي يحسن استقبال الأمر المخالف للنواميس.
ويجادلون أبا بكر، فيقول: أنا صدقته في خبر السماء فكيف أكذبه في ذلك، مادام قال
فقد صدق، وهذا كلام منطقي.
لكنَّ المعارضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: أتدّعي أنك أتيتها في ليلة،
ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً! فأعطى صلى الله عليه وسلم لهم الأمارات ووصف
لهم العير التي في الطريق، وغير ذلك من العلامات التي تجعل من الأمر حجة إلى يوم
القيامة، ولو مرّت مسألة الإسراء والمعراج من غير أن يعترض أحد من الأعداء، لما
وجدنا الحرارة في تصديقها.
إننا نجد حالياً من يقول: وهل من المعقول أنه صلى الله عليه وسلم راح إلى بيت
المقدس وجاء في ليلة؟ لابد أن ذلك كان حلماً. لو لم يقولوا هم هذا ما كنا عرفنا
الرد؛ إنما هم قالوها حتى نعرف الرد ويظل الرد رادعاً إلى أن تقوم الساعة، وهذه هي
المهمة التي جعلها الله للأعداء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لو قال لهم: إنني حلمت
أني رحت بيت المقدس. أكان هناك من يعترض على أن يحلم النبي حتى ولو قال: إنه ذهب
إلى آخر المعمورة إنه لا يجرؤ واحد أن يكذبه، لكنهم ما داموا قد كذبوه، ورفضوا
تصديق الإسراء فهذا دليل على أنهم فهموا من الذهاب أنه ليس ذهاب رؤيا وإنما ذهاب
قالب، لقد فهموا عنه أنه انتقل بجسده من مكة إلى بيت المقدس، ولذلك كذبوه، وهذا
التكذيب منهم ينفعنا الآن، لنردَّ به على المكذبين المعاصرين.
إذن فوجد الأعداء يهيج القرائح التي يمكن أن نرد على أية شُبَهٍ يثيرها أي إنسان
سواء أكان ماضياً أم معاصراً.
والحق هنا يقول: } فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ
بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ { [الأنعام 118]
هذه الآية لها قصة توضح كيف يحاول الأعداء اصطياد الثغرات لينفذوا منها، وقالوا:
يقول النبي لكم: إن الميتة لا يحل أن تأكلوا منها، وما تذبحونه بأيديكم كلوا منه،
والذبح لون من الموت، هذه هي الشبهة التي قالوها، وهي أولاً مغالطة في الأساليب؛
لأن الميتة غير المذبوحة وغير المقتولة. فالمذبوحة إنما ذبحناها لنطهرها من الدم؛
لذلك فالمناقشة الفقهية أو العلمية تهزم قولهم؛ لأن هناك فرقاً بين الموت والقتل.
فالموت هو أخذ للحياة بدون سلب للبنية، إنما القتل هو سلب للبنية أولاً فتزهق
الروح ويبقى الدم في الجسم. ثم هل يأخذ المشرع وهو الرب الأعلى الحكمة منّا أو أن
الحكمة عنده هو وحده؟.
وقد تبين لنا في عصرنا أن غير المؤمنين بدأوا في الاهتداء إلى أن الميتة فيها كل
الفضلات الضارة، واهتدوا إلى إزالة كل الفضلات الضارة من الحيوانات التي يريدون
أكلها؛ لأن تكوين جسم الحيوان يتشابه مع تكوين جسم الإنسان، فهو يأكل ويهضم ويمتص
العناصر الغذائية ليتكون الدم والطاقة، وفي الجسد أجهزة تصفي وتنقي الجسم من
السموم الضارة، فَالكُلْية مثلاً تصفّي الدم من البولينا وغيرها، ويسير الدم ليمر
على الرئة ليأخذ الأوكسيجين، وكل ذلك لتخليص الجسد من الفضلات الضارة، وأوعية الدم
في الإنسان والحيوان فيها الدم الصالح والدم الفاسد، والدم الفاسد هو الذي لم تتم
تنقيته، وعندما نذبح الذبيحة ينزل منها الدم الفاسد وغيره، أي أننا ضحينا بالدم
الصالح في سبيل وقايتنا من الدم الفاسد. لكنها إن ماتت دون ذبح؛ فآثار الدمين
الاثنين موجودة. وكذلك آثار الفضلات التي كان يجب أن يتخلص منها، وهذا ما نفعله في
هذا الأمر، لكن هل لنا مع الحق سبحانه وتعالى تعقل في شيء إلا في توثيق الحكم
والاطمئنان إلى مجيئه منه جلت قدرته؟
كان جدلهم انهم قالوا: أنتم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، فأنتم تظنون
أنفسكم أحسن من الله، وهذا افتراء منهم.
ثم إن الحيوان حين يموت لم يذكر عليه اسم الله، لكن الذبيحة التي نذبحها نذكر
عليها اسم الله، فكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه. أي
غير الميتة وغير ما يذبح للأصنام. } فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ { [الأنعام 118]
إنَّ تلقي أي حكم من الحق، لا يصح أبداً أن نبحث عن علته أولاً ثم نؤمن به، بل
علينا بعد أن نثق بأنه من الله الذي آمنا به. علينا إذن أن نأخذ الحكم الذي أمر به
الله.
} وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ
وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ { [الأنعام: 119]
وللآيتين- كما علمنا- سبب نزلتا من أجله وهو أن بعض المعارضين لرسول الله الذين
يقفون من الدعوة موقف التكذيب والعمل على إبطالها والقضاء عليها, كانوا يُشيعون
عند المؤمنين إشاعات قد تفت في عضدهم العقدي فعرضوا هذه المسألة وهي في ظاهرها
تشكيك. وهم قد عرضوا القضية بهذا الشكل غير المتسق؛ لأن من الذي قتل؟ لقد قالوا:
إن الميتة قتلها الله، فهل الله هو الذي قطع رقبتها؟ وهل ضربها الله على رأسها
فأمات أصل إدارة الحياة وهو المخ؟ هل صوّب شيئاً إلى قلبها؟ سبحانه جل وعلا منزه
عن مثل هذه الأفعال البشرية، فكيف يسمون الموت قتلاً؟ إن تسمية الموت قتلاَ هو
الخطأ، فقولهم: كيف تبيحون لأنفسكم ما قتلتموه أي بالذبح. ولا تبيحون ما قتله الله
أي أماته، فيه مغالطة في عرض القضية، ويريد الله سبحانه وتعالى أن يضع عند
المؤمنين مناعة من هذه الهواجس التي يثيرونها؛ فقال: } فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ { [الأنعام 118]
وما معنى الذكر؟ إنّ عدم تحديد العلماء المعنى المقصود بالذكر، هو الذي أوجد بينهم
خلافاً كبيراً. فسيدنا الإمام مالك يرى أنك إذا ذبحت ولم تذكر اسم الله سواء أكنت
ناسياً أم عامداً فلا يصح لك ان تأكل من الذبيحة. ويرى الإمام أبو حنيفة: إذا كنت
لم تسم ناسياً فكل مما ذبحت، لكن إن كنت عامداً فلا تأكل، والإمام الشافعي- رضي
الله عنه- يرى: ما دمت مؤمناً ومقبلاً على الذبح وأنت مؤمن فَكُلْ مما لم تذكر اسم
الله ناسياً أو عامداً لأن إيمانك ذكر لله.
ونقول: ما هو الذكر؟ هل الذكر أن تقول باللسان؟ أو الذكر أن يمر الشيء بالخاطر؟ إن
كنتم تقولون إنّ الذكر باللسان فلنبحث في الحديث القدسي الذي قاله الله تعالى:
" أنا عند ظن عبدي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي،
وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم. "
إذن فقد سمّي ربنا الخاطر في النفس ذكراً وبذلك يصبح من حق الإمام الشافعي أن يقول
ما قال.
لذلك أقول: يجب أن نحدد معنى الذكر أولاً حتى ننهي الخلاف حول هذه المسألة، فليس
من المقبول أن نقيم معركة حول معنى " الذكر "؛ لأن الذكر وهو خطور الأمر
على البال قد يصحبه أن يخطر الأمر على اللسان مع الخطور على البال، وقد يظل خطوراً
على البال فقط، بدليل ما جاء في الحديث السابق.
والمؤمن حين يجد أمامه أشياء كثيرة، قد يوجد شيء جميل وآخر ليس له من الجمال شيء؛
فالجاموسة أقل في الجمال من بعض الحيوانات التي حرم الله أكلها، وأقبل المؤمنون
على ذبح الجاموسة ليأكلوا منها. ولم نسمع عن مسلم تقدم إلى حيوان حرم الله أكله
ليذبحه، لماذا؟ لأن المؤمن يقبل على ما أحل الله، وهذا الإقبال دليل على أنه ذكر
في نفسه المحلل والمحرم وهو الله، إذن اختياره حيواناً للذبح دليل على أنه ذكر
الله في النفس أو في القول، وبهذا نتفق على أن ذكر المؤمن يكون في قلبه قال أو لم
يقل، وينتهي الخلاف في هذه المسألة. إذن الإمام الشافعي أخذ بهذه المسألة؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أكل المسلم من ذبيحة لا يعرف من ذبحها وهل
سمّى أو لم يسمّ، أوضح لمن سأله: سمّ وَكُلْ.
فالإنسان منا لا يحضر وقت الذبح دائماً، ويكفيه أن يستحضر المحلل والمحرم ساعة
الأكل. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا: اذكروا اسم الله، وسبحانه يعلم أنك تقبل على
أشياء لتفعلها. وهذه الأشياء تنقسم إلى قسمين: قسم يمر على بالك قبل أن تفعله،
وقسم لا يمر على بالك، بل تفعله تلقائياً بدون ما يمر على البال، ومثال ذلك
الأفعال العكسية كلها التي يفعلها الإنسان إنها لا تمر على باله. فلو حدث أن حاول
واحد أن يضع إصبعه في عين آخر، فهذا الآخر يغمض عينيه تلقائياً. ويختلف ذلك عن
الفعل الذي تفكر فيه قبل أن تفعله. فالذي يفعل الفعل بعد أن يمر بخاطره هو فعل ذو
بال. ولذلك أراد الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يكلفنا عناء أو مشقة؛ فقال:
" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع. "
والأمر ذو بال هو الأمر الذي يكون قد خطر على بالك أن تفعله أو لا تفعله.
إذن فالله سبحانه وتعالى لا يكلفنا إلا عند الأمر الذي يمر على الخاطر؛ لأنك حين
تقبل على أي فعل فينفعل لك كما تريد، إن هذا من عطاء الله لك، وأنت حين تذبح
عجلاً، أو خروفاً، وتتأمل أنت كيف يُقدرك الله على هذا الكائن الحي. وإنك لم تفعل
ذلك إلا لتسخير الله كٌلَّ الكائنات لك. فباسم الله تذبحه.
إذن هناك أمور كثيرة وأفعال ذات بال تمر عليك ومن حسن الأدب والإيمان أن تقبل
عليها باسم الله. ولذلك يخطئ بعض الناس حين يظنون أن الإنسان عندما يذبح حيواناً
فهو يؤذيه. لا، بل ذبح هذا الحيوان هو تكملة لمهمته في الحياة؛ لأنه مخلوق لهذا
الهدف ومذلل له.
لقد قلنا سابقاً: إن هناك عجيبة من عجائب المزاولات الفعلية، هذه العجيبة أنك حين
تأتي إلى الحيوانات التي لم يحلها الله للإِنسان، كالحمار مثلا إذا ما تعرضت هذه
الحيوانات إلى ما يميتها، كأن التف حول عنقه حبل، واختنق فهو يموت دون أن يمد
رقبته إلى الأمام، لكن الحيوان الذي أحله الله للأكل؛ مثل الجاموسة أو الخروف أو
العجل، نجد الحيوان من هذه الحيوانات إن اختنق يمد رأسه إلى الإمام، فيقول أهل
الريف في مصر: إنه يطلب الحلال، أي الذبح. فلا يسمى ذبح الحيوان اعتداء عليه؛ لأن
الحيوان مخلوق لهذه المهمة.
إذن فمعنى كلمة " باسم الله " أي أنني لم أجترئ على هذا العمل إلا في
إطار اسم الله الذي أحل لي هذا.
بعد ذلك يقول الحق للمؤمنين: لا تسمعوا كلام الكافرين، ويأتي السؤال الاستنكاري: }
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ { والمعنى:
أي سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وقد فصل لكم ما حرم عليكم، فما
ذكر اسم الله عليه ليس من ضمن المحرمات التي نص الله عليها، فربنا سبحانه هو من
حلل وحرم. وإن قيل: ما دام قد حرم علينا بعض الأشياء فلماذا خلقت هذه الأشياء؟
ونقول: إن من يفكر بمثل هذا الأسلوب يتناسى أن كل مخلوق من الحيوانات ليس مخلوقاً
للأكل، بل لكلٍ حيوان مهمة. وإن ذبحت محرماً، فقد يناقص هذا الفعل مهمته فالخنزير
- مثلاً - حرّمه ربنا؛ إن ذبحته فستذهب به بعيداً عن مهمته؛ لأنه مخلوق كي يلم
جراثيم الأشياء التي لا تراها العين، فأنت حين تذبحه تخرجه عن مهمته. والحق سبحانه
وتعالى هو الذي خلق الإِنسان، ويعلم ما يناسبه من غذاء يولد الطاقة ولا يهدر
الصحة؛ لذلك حرم وحلل له، وإياك أن تقول: إن الله سبحانه وتعالى لم يحرم إلا الشيء
الضار؛ فقد حرم شيئاً غير ضار لأنه يريد بذلك الأدب في: " افعل هذا " و
" لا تفعل هذا ".
ولذلك قال الحق سبحانه:{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }[النساء: 160]
وفي حياتنا اليومية هل تقول: إن الذين يربون أبناءنا في الجيش بالشدة، يقسون على
الأبناء؟ لا، بل إنهم يعدّونهم لمواجهة المهام الشاقة. وأن يتعوّدوا التزام الأدب
والطاعة والانضباط، فكذلك حلل الحق ما أراد وحرم ما شاء ليجعل الكون منضبطاً بقدرة
الحكيم القادر، فسبحانه يحرم أشياء مثل المخدرات، ونحن في بعض الأحيان نتناولها
لنداوي بها الأمراض، فلو أخذها الإِنسان من غير مرض أو داعٍ فإنّها تسرق الصحة من
بنية الإِنسان، وإن أخذها من بعد ذلك للعلاج لا تأتي بالمفعول المطلوب منها. ولذلك
نجد من الأطباء من يسأل الإِنسان قبل إجراء الجراحات الدقيقة إن كان المريض قد
تناول المخدرات أو لا، وذلك حتى يتعرف الأطباء على حقيقة ما يصلح له من ألوان
التخدير.
وسبحانه وتعالى قد منع عنا تلك الألوان من مغيبات العقول، لعلنا نحتاج إليها في
لحظة الشدة والمرض.
إذن فالحق سبحانه وتعالى قد ربط كل حكم من الأحكام التحليلية والتحريمية بـ "
إن كنتم مؤمنين " ، ومعنى " إن كنتم مؤمنين " أي يا من آمنتم
بالإِله الحكيم الذي لا يأمر إلا بما فيه مصلحتكم، امتنعوا عن مثل تلك الأفعال،
وإذا أقبلت على أي شيء مما أحله الله لك فأقبل عليه باسم الله، وسبحانه وتعالى له
أسماء علمها لنا، وأنزلها في كتابه، وأسماء علمها لأحد من خلقه، وأسماء استأثر بها
في علم الغيب عنده، وهذه الأسماء هي صفات الكمال لله، التي لا توجد في غيره. وحين
نستحضر الاسم الجامع لكل صفات الكمال نقول: باسم الله. وتنهي المسألة. وحين ناقش
العلماء مسألة التحريم والتحليل، قال بعضهم: إن الحق سبحانه وتعالى قال في أول
سورة المائدة:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ }[المائدة: 3]
وهنا في سورة الأنعام يقول: } وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ {
[الأنعام: 119]
والمتنبهون من العلماء قالوا: إن سورة المائدة مدنية، ومعنى كونها مدنية أنها نزلت
بعد السورة المكية، وسورة الأنعام مكية، وهل يقول الحق في السورة المكية } وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ { في السورة المدنية؟ وبعض العلماء الذين
أعطاهم ربنا نور بصيرة قال: لقد فصل لكم في سورة المائدة وجاء أيضاً في سورة
الأنعام فقال:{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىا
طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ
لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
}[الأنعام: 145]
أي فصل لك في هذه السورة المكية. وقد يأتي واحد من المولعين بالاعتراض أو من خصوم
الإسلام ويقول: لم تذكر الآية كل الأشياء المحرمة لماذا؟
ونقول: القرآن هو الخطوط الأساسية في المنهج، وتأتي السنة بالتفصيل في إطار:
{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ..
}[الحشر: 7]
والحق يقول هنا: } وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ.. { [الأنعام: 119]
واضطرار هو أمر ملجئ إلى شيء غير الأسباب الكونية المشروعة. ومعنى كونه مضطراً أنه
يلجأ إلى شيء فقد أسبابه المشروعة كالذي يريد أن يأكل ليستبقي الحياة، فإذا لم يجد
من الحل ما يستبقي به الحياة فهو مضطر. ونقول له: خذ من غير ما أحل الله بالقدر
الذي يدفع عنك الضرورة, فكل من الميتة بقدر الضرورة ولا تشبع.
والحق يقول:{ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ.. }[المائدة: 3]
والمخمصة هي المجاعة. إذن فالاضطرار هو شيء فوق الأسباب المشروعة للعمل. والله
سبحانه وتعالى يعطي الإنسان الرخصة في أن يتناول ما حرمه إذا كان مضطراً. } إِلاَّ
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم
بِغَيْرِ عِلْمٍ.. { [الأنعام: 119]
والذين يضلون بأهوائهم بغير علم هم من أرادوا زراعة الشك في نفوس المسلمين, ومعنى
الضلال بالهوى أي أن تكون عالما بالقضية، ولكن هواك يعدل بك عن مراد الحق من
القضية. ولذلك يصف الحق رسوله صلى الله عليه وسلم:{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىا
}[النجم: 3]
وحين يقول الحق: } وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِ { فمعنى ذلك أنه
يوجد ضلال بغير هوى، وهو عدم وصول الإنسان إلى الحقيقة؛ لأنه لا يعرف الطريق
إليها، والضلال بالهوى أي أن تكون عندك الحقيقة وأنت عارف بدورها ولكنك تعدل عنها:
} وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ.. { [الأنعام:
119]
وساعة ترى مجيء متعلق بعد " يضلون " وهو قوله: } بِأَهْوَائِهِم { تقول
كأن هناك ضلالاً بغير علم، وهو غير مذموم؛ لأن صاحبه لا يعرف الحكم في القضية،
وهذا يختلف عن الذي يضل وهو يعرف الحكم، فهذا ضلال بالهوى، وهذا الفهم يحل لنا
إشكالات كثيرة أيضاً. و } بِغَيْرِ عِلْمٍ { أي ليس عندهم علم بالقضية وأحكامها.
ويذيل الحق الآية بقوله: }..إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ {
[الأنعام: 119]
وقد أفسح الله في النص القرآني لبعض خلقه الذين يعرفون المهتدى من غير المهتدى،
والكثير من الناس لا يعلمون المهتدى من غير المهتدى ولكن إن علموا فالله أعلم.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ.. {
(/897)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
هذه تقنينات السماء التي تحمي المجتمع من بعضه وذلك في ألا تقع عين أحد على مخالفة
من أحد، وإذا وقعت عينك على مخالفة من غيرك تكون المخالفة مما يدرك لكنها ليست كل
الفساد في المجتمع؛ ففساد المجتمع يأتي من أشياء كثيرة لا تقع تحت دائرة
الإِدراكات. وهناك أشياء تكون في منابع النفس البشرية التي تصدر عنها عوامل
النزوع؛ فقبل أن يوجد إثم ظاهر يوجد إثم باطن، والإِِثم الباطن سابق على الإِثم
الظاهر. والتقنينات البشرية كلها تحمينا من ظاهر الإِثم، ولكن منهج السماء يحمينا
من فساد ظاهر الإِثم وباطن الإثِم.
ويوضح لنا الحق الفرق بين تقنين البشر للبشر وتقنين الإِله، فسبحانه رقيب على
مواجيدكم ووجداناتكم وسرائركم، فإياكم أن تفعلوا باطن الإِثم، ولا يكفي أن تحمي
نفسك من أن يراك القانون؛ لأن قصارى ما يعمل القانون أن يمنع الناس من أن يتظاهروا
بالجريمة ويقترفوها علانية، والفرق بين تشريع السماء وتشريع الأرض أن تشريع الأرض
يحمي الناس من ظاهر الإِثم، ولكن تشريع السماء يحمي الناس من ظاهر الإِثم وباطن
الإِثم، وباطن الإِثم هو أعنف أنواع الإِثم في الأرض.
وبعض أهل الاكتساب في الشر برياضتهم على الشر يسهل عليهم فعل الشر وكأنهم يفعلون
أمراً قد تعودوا عليه بلا افتعال.
و " كسب " - كما نعلم- تأتي بالاستعمال العام للخير، و " اكتسب
" تأتي للشّر لأن الخير يكون فيه الفعل العملي رتيباً مع كل الملكات، ولا
افتعال فيها، فمن يريد- مثلاً- أن يشتري من محل ما فهو يذهب إلى المحل في وضح
النهار ويشتري. لكن من يريد أن يسرق فهو يرتب للسرقة ترتيباً آخر، وهذا افتعال،
لكن الافتعال قد يصبح بكثرة المران والدربة عليه لا يتطلب انفعالاً، لأنه قد أضحى
لوناً من الكسب. و " يكسبون " تدل على الربح؛ لأن " كسب " تدل
على أنك أخذت الأصل والزيادة على الأصل، والإنسان حين يصنع الخير إنما يعطي لنفسه
مقومات الحياة ويأخذ أجر الآخرة زائداً، وهذا هو قمة الكسب.
ويريد الحق سبحانه وتعالى من العبد في حركته أن يحقق لذاته نفعاً هو بصدد الحاجة
إليه، ولكن الإنسان قد يحقق ما ينفعه وهو بصدد الحاجة إليه، ثم ينشأ من ذلك الفعل
ضرر بعد ذلك؛ لذلك يحمي الله الإنسان المؤمن بالمنهج حتى يمييز بين ما يحقق له
الغرض الحالي ويحقق نفعاً ممتداً ولا يأتي له بالشر وما يحقق له نفعاً عاجلاً ولكن
عاقبته وخيمة ونهايته أليمة، إننا نجد الذين يصنعون السيئات ويميلون للشهوات -
مثلاً - يحققون لأنفسهم نفعاً مؤقتاً، مثل التلميذ الذي لا يلتقفت إلى دروسه،
والذي ينام ولا يستيقظ، والذي إن أيقظوه وأخرجوه من البيت ذهب ليتسكع في الشوارع،
هي في ظاهر الأمر يحقق لنفسه راحة، لكن مآله إلى الفشل.
بينما نجد أن من اجتهد وجدَّ وتعب قد حقق لنفسه النفع المستمر الذي لا تعقبه
ندامة. } إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ
يَقْتَرِفُونَ { [الأنعام: 120]
ففي الدنيا نجد أن الجزاء من بشر لبشر، ولكن ماذا عن لحظة العرض أمام الله وهو
العليم بظاهر الإثم وباطن الإثم؟
فالذي يصون المجتمع- إذن- هو التقنين السماوي، فالمنهج لا يحمي الإنسان ممن حوله
فحسب ولكنه يقنن لحركة الإنسان لتكون صحيحة.
ويعود الحق بعد ذلك إلى قضية الطعام فيقول: } وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ
يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ.. {
(/898)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
وهنا يسمى الحق ما لم يذكر اسم الله عليه بـ " الفسق " وهو ما تشرحه
الآية الأخرى وتبرزه باسم مخصوص:{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلَىا طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ }[الأنعام: 145]
إذن فـ " فسقاً " معطوفة على الميتة والدم المسفوح ولحم خنزير، لكنه
سبحانه فصل بين المعطوف وهو " فسقاً "؛ والمعطوف عليه بحكم يختص
بالمعطوف عليه، وهذا الحكم هو الرجس وهكذا أخذت الثلاثة المحرمات حكم الرجس. وعطف
عليها ما ذبح عليه اسم غير الله كالأصنام وهو قد جمع بين الرجس والفسق.
ويقول الحق: { وإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ } وسبحانه
يريد أن يبين لنا أن الفطرة السليمة التي لا يميلها هوى تصل إلى حقائق الخير،
ولذلك نجد أن الذين يحثون ويحض بعضهم بعضا على الشر ويعلم بعضهم بخفاء إنما يأخذون
مقام الشيطان بالوسوسة والتحريض على العصيان والكفر؛ لأن المسألة الفطرية تأبى
هذا، وحين يرتكب إنسان موبقة من الموبقات، إنما يلف لها وبتحايل ليصل إلى ارتكاب
الموبقة، وقد يوحي بذلك إلى غيره، فيدله على الفساد. ويكون بذلك في مقام الشياطين
الذين يوحون إلى أوليائهم بإعلام خفي؛ لأن الفطرة السليمة تأبى الأشياء الشريرة
وتقف أيضاً فيها، ولا يجعلها تتقدم إلى الشر إلى الهوى، فإذا ما أراد شيطان من
الإنس أو شيطان من الجن أن يزيّن للناس فعلاً فهو لا يعلن ذلك مباشرة. إنما يلف
ويدور بكلام ملفوف مزين.
{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وفي ذلك إشارة إلى قول
المشركين: تأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتل الله وأنتم أولى أن تأكلوا مما
قتل الله.
{..وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121]
وكأن مجرد الطاعة لهؤلاء المشركين لون من الشرك؛ لأن معنى العبادة امتثال وائتمار
عابد لمعبود أمراً ونهياً، فإذا أخذت أمراً من غير الله فإنه يخرج بك عن صلب وقلب
منهجه سبحانه وبذلك تكون قد أشركت به.
ويقول الحق بعد ذلك: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ..
}
(/899)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
والحق سبحانه وتعالى- كما عرفنا- يعرض بعض القضايا لا عرضاً إخبارياً منه، ولكن
يعرضها باستفهام؛ لأنه- جل وعلا- عليم بأنه حين يأتي لك الاستفهام، ثم تدير ذهنك
لتجيب فلن تجد إلا جواباً واحداً هو ما يريده الحق. إذن فالأسلوب أحياناً يكون
أسلوباً خبرياً أو يكون استفهاماً بالإثبات أو استفهاماً بالنفي. وأقواها
الاستفهام بالنفي. وحين يعرض سبحانه القضية التي نحن بصددها يوضح وهو العليم أنك
إن أحببت أن تجيب فلن تجد إلا الجواب الذي يريده الحق.
إننا نجد في الآية الكريمة موتاً وحياة، وظلاماً ونوراً.
وما هي الحياة؟. الحياة هي وجود الكائن على حالة تمكنه من أداء مهمته المطلوبة
منه، وما دام الشيء يكون على حالة يؤدي بها مهمته ففيه حياة، وأرقى مستوى للحياة
هو ما تجتمع فيه الحركة والحس والفكر، وهذه الأمور توجد كلها في الإنسان. أمّا
الحيوان ففيه حس وحركة وليس عنده فكر. غير أن الحيوان له غريزة أقوى من فكر
الإنسان، فهو محكوم بالغريزة في أشياء وبالاختيار في أشياء، وليس لك في الغريزة
عمل. لكن في مجال الاختيار لك عمل، تستطيع أن تعمله وتستطيع ألا تعمله.
إذن فالحياة هي أن يكون الكائن على حال يؤدي به مهمته المطلوبة منه. وعلى هذا
الاعتبار ففي الإنسان حياة، وفي الحياة حياة، وفي النبات حياة، وفي الجماد حياة،
وكلما تقدم العلم يثبت لنا حيوات أشياء كثيرة جداً كنا نظن ألا حياة فيها، وإن ظهر
لنا في التفاعلات أن بعض الأشياء تتحول إلى أشياء أخرى، فعلى سبيل المثال الحيوان
فيه حياة فإذا ذبحناه وأكلناه، ورمينا عظامه، كانت فيها حياة من نوع ثم صارت
أجزاؤه إلى جمادية لها حياة من نوعها، بدليل أنه حين يمر بعض من الزمن يتفتت
العظم.
وكنا قديماً في الريف نحلب اللبن في أوعية من الفخار وتوضع في مراقد، ويستمر اللبن
أسبوعاً في المرقد، ويكون أحلى في يومه عن أمسه. ويزداد اللبن حلاوة كل يوم، ثم
تأخذ زوجة الفلاح قطعة القشطة الأخيرة وتصنع منها الجبن الجميل الطعم. أو الزُّبد
لكن بعد أن غلينا اللبن نجده يفسد بعد عدة ساعات؛ لأنك حين وضعته في المرقد، أخذته
بالحياة فيه فظلت فيه حيوية حياته، لكن حين غليته فقد قتلت ما فيه من الحياة، فإن
لم تضعه في ثلاجة لابد من أن يتعفن، ومعنى التعفن أنه لم يعد يؤدي مهمته كلبن،
وإنما انتقل إلى حياة أخرى بفعل البكتريا وغيرها، ولا يُذهب الحياة إلا الهلاك وهو
ما قاله الحق:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ.. }[القصص: 88]
إذن، لا تأخذ الميت على أنه شيء ليس فيه حياة، ولكنه انتقل إلى حياة ثانية.
} أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ.. { [الأنعام: 122]
كأن للإنسان حياة في ذاته، ثم جعل الحق له نوراً يمشي به. كأن الحياة متنقلة في
أشياء، ويحتاج الإنسان إلى حياة، ويحتاج إلى نور تتضح به مرائي الأشياء. وكانوا
قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى حين ينتقل شعاع من عينه إلى المرئي فيراه، إلى أن
جاء العربي المسلم ابن الهيثم. وقال هذا رأي جانبه الصواب في قانون الضوء، وقال:
إن الإنسان يرى؛ لأن شعاعاً من المرئي يصل إلى عين الرائي. بدليل أن المرئي إن كان
في ضوء يدركه الإنسان، وإن كان في ظلمة لا يدركه الإنسان، ولو كانت الأشعة تخرج من
عين الإنسان لرأى الأشياء سواء أكانت في نور أم في ظلمة، وتعدلت كل النظريات في الضوء
على يد العالم المسلم، وجاءت من بعد ذلك الصور الفوتوغرافية والسينما. إذن فالنور
وسيلة إلى المرئيات.
ويترك الحق سبحانه وتعالى في أقضية الكون الحسية أدلة على الأقضية المعنوية؛
فالنور الحسيب الذي نراه إما ضوء الشمس وإما ضوء القمر، وإما ضوء المصباح، وإما غير
ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان يرى الأشياء، ومعنى رؤية الإنسان للأشياء أن يتعامل
معها تعاملاً نفعياً غير ضار. ونحن نضيء المصباح بالكهرباء حين يغيب النور
الطبيعي- نور الشمس- وعندما نضيء مصابيحنا نرى الأشياء ونتفاعل معها ولا نحطمها
ولا تحطمنا، وكل واحد منا يأخذ من النور على قدر إمكاناته. إذن كل واحد يضيء
المكان المظلم الذي اضطر إليه بغيبة المنير الطبيعي على حسب استطاعته، فإذا ظهرت
الشمس أطفأنا جميعاً مصابيحنا؛ هذا دليل من أدلة الكون الحسيّة الملموسة لنأخذ
منها دليلاً على أن الله إن فعل لقيمنا نورا فلا نأتي بقيم من عندنا، مادامت
قيمُهُ موجودة.
ويوضح الله أن الإنسان بدون قيم هو ميت متحرك، ويأتيه المنهج ليحيا حياة راقية.
ويوضح سبحانه لكل إنسان: احرص على الحياة الثانية الخالدة التي لا تنتهي وذلك لا
يتأتى الا اتباع المنهج، وإياك أن تظن أن الحياة فقط هي ما تراه في هذا الوجود
لأنه إن كانت هذه هي غاية الحياة لما أحس الإنسان بالسعادة؛ لأنه لو كانت الدنيا
هي غايتنا للزم أن يكون حظنا من الدنيا جميعاً واحداً وأعمارنا واحدة، وحالاتنا
واحدة، والاختلاف فيها طولاً وقصراً وحالاً دليل على أنها ليست الغاية؛ لأن غاية
المتساوي لا بد أن تكون متساوية.
إذن فقول الله هو القول الفصل:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ..
}[العنكبوت: 64]
فهذه هي الحياة التي لا تضيع منك ولا تضيع منها، ولا يفوتك خيرها ولا تفوته. إذن
فالذي يحيا الحياة الحسية الأولى وهي الحركة بالنفخ في الروح هو ميت متحرك. } أَوَ
مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ {
[الأنعام: 122]
أي أنه سبحانه قد أعطى لمثل هذا العبد حياة خالدة ونوراً يمشي به، ولا يحطِّم ولا
يتحطم.
أما من يقول: إن الحياة بمعناها الدنيوي، لا تختلف عن الحياة في ضوء الإِيمان،
لمثل هذا نقول: لا، ليس بينهما تساوٍ فهما مختلفان بدليل ان الحق يقول:{
اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }[الأنفال
24]
فسبحانه يخاطبهم، وما دام يخاطبهم فهم أحياء بالقانون العادي، لكنه سبحانه أنزل
لرسوله المنهج الذي يحيا به المؤمن حياة راقية، وافطنوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى
أعطى ومنح الروح الأولى التي ينفخها في المادة فتتحرك وتحس بالحياة الدنيا، إنّه
أعطاها المؤمن والكافر. ثم يأتي بروح ثانية تعطي حياة أبدية. ولذلك سمّي منهج الله
لخلقه روحاً:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا }[الشورى:
52]
فالمنهج يعطي حياة خالدة.
إذن فقوله الحق: } أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ { أي أَوَ من كان ضالاً
فهديناه، أو من كان كافراً فجعلناه مؤمناً. ولنلحظ أن فيه " ميْتاً "
بالتخفيف، وفيه ميّت بالتشديد. والميّت هو من يكون مآله الموت وإن كان حيًّا، فكل
منا ميّت وإن كان حيَّا. ولكن الميْت هو من مات بالفعل وسلبت وأزهقت روحه. ولذلك
يخاطب الحق نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول له: (إنك ميّت).
أي تؤول إلى الموت وإن كنت حيًّا الآن. لأن كٌلاًّ من مستمر في الحياة إلى أن يتلبس
بصفة الفناء، ويقول الحق: " فأحييناه " أي بالمنهج الذي يعطيه حياة
ثانية، ولذلك سمّي القرآن روحاً، وسمّي من نزل بالقرآن روحاً أيضاً.
} وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ { ولماذا يمشي به في الناس
فقط، وليس بين كل الأشياء؟؛ لأن الأشياء الأخرى من الممكن أن تحتاط أنت منها، ولكن
كلمة الناس تعبر عن التفاعل الصعب لأنهم أصحاب أغيار. ويتابع الحق: } كَمَن
مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا { وهذا تساؤل جوابه: لا، أي
ليس كل منهما مساويا للآخر، مثلما نقول: هل يستوي الأعمى والبصير؟. والفطرة هنا
تقول: لا، مثلما تؤكد الفطرة عدم استواء الظلمات والنور، أو الظل والحرور، وهنا
يَأْمَنُنَا الله على الجواب؛ لأنه سبحانه - يعلم الأمر إذا طرح السؤال كسؤال
وكاستفهام فلن نجد إلا جواباً واحداً هو ما يريد الحق أن يقوله خبراً.
ويذيل الحق الآية: } كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {
[الأنعام: 122]
والمعنى هنا أي تركناهم عرضة لأن ينفعلوا للتزيين، ولم يحمهم الحق بالعصمة في
اختيارهم؛ لأنه سبحانه قد ترك الاختيار حرًّا للإنسان:{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29]
ويقول الحق من بعد ذلك: } وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي.. {
(/900)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
وقول الحق سبحانه: { وَكَذالِكَ } تدل على أن شيئاً شبِّه بشيء، فكما وُجد في مكة
من يناصبك العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى الله، ويصدّ عن سبيل الحق؛ إن
تلك قضية لست فيها بدعاً من الرسل؛ لأن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب
الإيمان، و " كذلك " أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل
قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة، فلم تكن بدعاً من الرسل. وحيث إنك لم تكن
بدعاً من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو العزم من الرسل. وأنت أولى منهم
بالصبر؛ لأن مشقاتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله، فكل رسول إنما جاء لأمة
محدودة ليعالج داءً محدوداً في زمان محدود. وأنت قد جئت للأمر العام زماناً
ومكاناً إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك
التي خصك الله بها. { وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ
مُجَرِمِيهَا } [الأنعام: 123]
والإجرام هو مأخوذ من مادة " الجيم " و " الراء " و "
الميم " ، الجرْم والجُرْم والجريمة. فيها معنى القطع. و " مجرميها
" جمع مجرم، ومجرم من أجرم، وأجرم أي ارتكب الجُرم والجريمة، ومعنى ذلك أنه
قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه، فهو يعزل نفسه لا لمصلحة لأحد إلا
لمصلحته هو، فكأنه قام بعملية انعزال اجتماعي، وجعل كل شيء لنفسه، ولم يجعل نفسه
لأحد؛ لأنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك.
إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح اقداماً يجعل الإنسان عازلاً نفسه عن خير
مجتمعه؛ لأنه يريد كل شيء لنفسه. ومادام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه،
ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه
الرذائل؛ لكي لا يشعر أن هناك واحداً أحسن منه. {..لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا
يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام: 123]
والمكر- كما نعرف- مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافاً بحيث لا تستطيع
إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع؛ لأن الأغصان والفروع
ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك لأنه يريد أن يلف تبييته
حتى لا يُكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو
لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول
الشاعر:وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت كذلك قدرة الضعفاءوالضعيف عندما يملك فهو يحدث
لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من الا تأتي له فرصة أخرى،
لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم
حماقة جديدة فيعاقبه.
إذن فلا يمكر الا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين
من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن
يقف في مواجهتهم. وهناك كثير من الآيات تتعلق بهذه المسألة، وبعضها وقع فيه الجدل
والخلاف، ومن العجيب أن الخلاف لم يُصفَّ، وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم.
وهذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق:{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ
أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ
عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }[الإسراء: 16]
وهذه الآية فيها اشكال، وقامت بسببها معركة بين العلماء؛ فنجد منهم من يقول: وكيف
يأمر الله أناساً بالفسق؟. وحاولوا أن يجدوا تأويلا لذلك فقالوا: إن الحق قد قسر
وأجبر أكابر هؤلاء الناس على الفسق. والجانب الثاني من العلماء قالوا: لا، إن الحق
لا يقسر البشر على الفسق، بل على الإنسان حين يقرأ كلمة أمر الله في المنهج فلابد
أن يعرف أن هذا الأمر عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى؛ لأن المأمور- وهو المكلف-
صالح أن يفعل، وصالح الا يفعل، وأن الآمر قد أمر بشيء، والمأمور له حق الاختيار؛
وبذلك تجد أكابر القوم إنما استقبلوا أمر الله بالعصيان؛ لأن الحق هو القائل:{
وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ.. }[البينة:5]
والفسق- إذن- مترتب على اختيار المأمور.
وحين نتأمل نحن بالخواطر معنى: " أمر الله " نجد أن أمر الله يتمثل في
التكوينات الطبيعية الكونية ولا يوجد لأحد قدرة على مخالفة الله في ذلك، فهو
القائل: } إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ {.
ويتمثل أيضاً أمر الله في التشريعات، وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن
يختاروا بين الطاعة أو العصيان، وسبحانه القائل عن الأمر بالتشريع: } وَمَآ
أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ {.
وحين يقول الحق: } وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا
فَفَسَقُواْ فِيهَا {.
فسبحانه لا يهلك هذه القرية ظلماً، وإنما يرسل إليها المنهج، فإن أطاعوا فأهلاً
وسهلاً، وإن عصوا فلابد لهم من العقاب بالدمار.
وهكذا نرى أن العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على الأمر من الله لم يلتفتوا إلى
أن ورود الأمر في القرآن الكريم جاء على لونين: أولا: أمر التكوين بالقهريات فلا
يستطيع المأمور أن يتخلف عنه، ويمثل الأمر القهري قوله الحق:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ
إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82]
فالأمر جاهز في عالم الأزل ليبرز حين يشاء الحق. والأمر الثاني: هو الأمر التشريعي
وهو صالح لأن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصي، وفي هذا الإِطار نفهم قوله الحق:{
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }
[الإسراء: 16]
فلا تقل: إن الله يأمر بالفسق؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لأنه سبحانه لا يأمر
بالفحشاء. بل جاء الأمر لكل البشر أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، لكن كبار أهل
هذه القرية أخذوا البديل للطاعة وهو الفسق والمعصية، فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع
بهم؟، هو سبحانه يدمرهم تدميرا, فإن كان في الكونيات فلا أحد من خلق الله مكلف في
الكونيات، إنما أمره الثاني في اتباع المنهج فلنا أن نفهم أنه الاختيار.
وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الآية لتلتقي مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: أي
وإذا أردنا أن نهلك قرية أنزلنا منهجاً فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم
إطاعة منهج الله فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وكذلك - أيضاً - نفهم قوله
الحق: } وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ { لأن المكر
إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئاً من طريق ملتوٍ لأنه ضعيف لا يمكن أن يواجه
الحقائق، وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة، وهو يريد تزييف المسألة على هذه
الفطرة لذلك يلتوي. ولمثل هذا الماكر نقول: أنت تريد أن تحقق لنفسك خيراً عاجلاً
وشهوة موقوتة، ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا الأمر بالنسبة لك. وكذلك
عقوبتك على أنك أضللت الآخرين لرأيت كيف يأتي الشر. } وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ
بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ { [الأنعام: 123]
أي لا يعلمون، لأنهم لا يوازنون الأمور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ... {
(/901)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
وكأن الآية التي أرسلها الله مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلاغ عن
الله لم تقنعهم، ولم يكتفوا بها، بل طالبوا بآيات أخرى، فهم قد قالوا:{ وَقَالُواْ
لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا
تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً }[الإسراء: 90-92]
هم لا يريدون أن يؤمنوا بل إنهم يدخلون في اللجاج، والتماس سبل الفرار من الإيمان؛
لذلك تجد أن كل الحجج التي وقفوا بها أمام دعوة الرسول هي أكاذيب؛ فقالوا إنه ساحر
يفرق بين المرء وزوجه، وبين الولد وأبيه، ويدخل بما جاء به- ويزعم أنه من عند
الله- الفتنة في الأسرة الواحدة.
لكن لماذا لم يتساءلوا: مادام قد سحر غيرنا فلماذا لم يسحرنا؟. وهل تأبوا هم على
السحر؟. وهل للمسحور رغبة أو خيار مع الساحر؟. إنهم في ذلك كاذبون.
ثم قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم شاعر. ولو أن أحداً غيرهم قال مثل هذا
الكلام لكان مقبولاً لأنه يجهل رسول الله، ولأنه ليس من قوم هم أهل فصاحة وأهل
بلاغة وأهل بيان، إنهم يعرفون الشعر، والنثر، والخطابة والكتابة. فلو كان هذا
الأمر من غيرهم لكان القول مقبولاً، ولذلك نجد منهم من تصفو نفسه يقول: والله ما
هو بقول كاهن ولا بقول شاعر. ويطلب الحق منهم ألا يقولوا رأيا جماهيريا؛ ففي الرأي
الجماهيري يختلط ويلتبس الحق بالباطل. بل كان يطلب منهم أن يكون الكلام محدداً
بحيث تنسب كل كلمة إلى قائلها فيقول الحق:{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ
أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىا وَفُرَادَىا ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا
بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ.. }[سبأ: 46]
أي لا تأتوا في أثناء هياج الناس وتتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون؛ لأن
قولكم في الهياج الجماهيري غير محسوب على أحد لكن المطلوب أن تقوموا لله مثنى أي
اثنين اثنين، وكل اثنين يقولان: هيا بنا نستعرض أمر هذا الرسول ونرى قضاياه: أهو
كاهن؟. أهو ساحر؟. أهوشاعر؟ فبين الاثنين لا يضيع الحق أبداً لأن كلاًّ منهما
يناقش الآخر، وحين يجلس اثنان للنقاش، إذا انهزم منهما واحد أمام الآخر لا يُفضح
أمام الغير، لكن حين يتناقش ثلاثة أو أربعة فكل منهم يخاف أن ينهزم أمام غيره،
ونجد كل واحد يدافع عن نفسه. ولذلك حين يجلس اثنان معاً ليتناقشا، ويبحثا أي أمر
لا يخشى أحدهما الهزيمة؛ لذلك يأتي الأمر من الله أن يقوموا لله مثنى أو فرادى،
ويتذكر كل واحد منهم أمر هذا الرسول: أهو مجنون؟.
إن أفعال المجنون وأعماله تكون متقطعة غير مستقيمة.
ومحمد على خلق عظيم، وهل يقال للمجنون: إنه على خلق عظيم؟؛ لأن الإِنسان منا لا
يعرف كيف سيقابله المجنون، أيضربه، أيشتمه، أيقطع له ملابسه؟. أمّا الخلق العظيم
فمعناه الخلق المضبوط بالقيم، وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مضبوط بالقيم حتى
صار ملكة وليس أمرًا افتعاليًّا. وحين يقول الناس عن إنسان إن خلقه الكرم أي تأصلت
فيه صفة الكرم تأصلاً بحيث أصبحت تصدر عنه أفعال البذل بيسر وسهولة، وفي أعمال
المعاني نسميها خلقاً، وفي أعمال المادة نسميها آلية.
وكلنا يعرف أن الإِنسان إن أراد أن يتعلم قيادة سيارة فهو يتعلم قيادة الأفعال
التي تؤدي إلى سير السيارة حتى يكتسب المهارة ويؤديها بيسر وبدون صعوبة، وكذلك
الشأن في الخلق حين تصدر وعنه الأفعال بدُربة ومهارة، ونجد- على سبيل المثال- من
يتعلم الفقه، فيسأله إنسان عن الحكم في الأمر المعين، فيستعرض الأمر من أوجهه في
وقت طويل، لكن من يتدرب يصبح الفقه بالنسبة إليه ملكة، فلا يتعب في استنباط الحكم.
كذلك الخلق.
ويوضح لهم الحق: أنتم تقولون عن الرسول: إنه مجنون، فاجلسوا مثنى مثنى أو فرادى
وادرسوا تصرفاته ستجدون أنها تصرفات منطقية مبنية على خلق كامل مكتمل، وهو سلوك
يختلف بالتأكيد عن سلوك المجنون؛ لأن المجنون لا ضابط له في حركاته ولا في سكناته
ولا فيما يدع. وكذلك لا يمكن أن يكون شاعراً؛ لأنكم أنتم أهل شعر، وكذلك ليس
بكاهن؛ فالكهنة قد يستبدلون بآيات الله ثمنا قليلا، وهو الذي أعلن لكم رفض الملك
والثروة والجاه. لكنهم قالوا: } وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ
حَتَّىا نُؤْتَىا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.. { [الأنعام: 124]
وقد حدث الوليد بن المغيرة نفسه بذلك، وكان من ناحية السن أسنّ من رسول الله، ومن
ناحية المال كان غنّيا، ومن ناحية الأولاد عنده العزوة والولد، وقال: لو كانت
الرسالة بكل هذه الأمور لكنت أنا أولى بهذا لأنني أسنّ ولأنني أكثر مالاً ولأنني
أكثر ولداً. وهو قد قاسها بمقاييس البشر، وكأن الوليد لم يكن يعلم أن الرسالة ليست
رئاسة، فإذا كنت أنت دون غيرك عندك المال وعندك الأولاد وعندك الزروع وغير ذلك
لكنك لست على خلق محمد صلى الله عليه وسلم، الذي فطره الله عليه وأعده واصطفاه
ليكون رسولا، ولكن مع هذا قال بعضهم:{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا
الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31]
ولنسمع رد القرآن:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ.. }[الزخرف: 32]
ويوضح لهم الحق: نحن قسمنا بينهم الأمور الحياتية، لكنكم تريدون تقسيم رحمة الله،
وفرق بين الرحمة في الرسالات وبين امتداد الحياة بالأقوات والمال؛ لأن هذه عطاءات
ربوبية. لكن الرحمة هي عطاءات ألوهية، انكم تميزتهم في دنياكم بالمال والبنين
والبساتين لا لخصوصية فيكم ولكن لأن نظام الكون كله إنما يحتاج إلى مواهب متكاملة
لا إلى مواهب متكررة، ولو امتلك كل الناس مثل ما عندك يا وليد من أرض ومال لما
وجدت من يفلح لك الأرض، ولما كان عندك من يسرج لك الفرس.
ولهذا جعل الحق مسألة الثروة دولاً، أي يقلب سبحانه هذه الأمور لتكون متداولة بين
الناس؛ تكون لهذا في زمن ولآخر في وقت وزمن آخر ولا تدوم لأحد.
وحين جاء الناس إلى أبي جهل يحدثونه في الرسالة قال: زاحمنا بني عبد مناف في
الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، كسوا فكسونا، ذبحوا فذبحنا. حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا:
منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً الا أن يأتينا بوحي كما
يأتيه، ومعنى كفرسي رهان، أي فحين تنطلق الخيل في السباق في وقت واحد كانوا يدقون
عوداً في الأرض عند نهاية السباق ومن يجذبه من الأرض يقال له: حاز قصب السبق، وعود
القصبة هو غاية المشوار، حتى لا يقولن أحد لقد سبقني بخطوة أو غير ذلك.
وهنا يقول الحق: } وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ {.
وانظر إلى كلمة } جَآءَتْهُمْ آيَةٌ { ، فمرة يقول:{ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن
رَّبِّكَ }[طه: 47]، ومرة يقول: } جَآءَتْهُمْ آيَةٌ { ، فكأن الآية بلغت من
وضوحها ومن استقلالها ومن ذاتيتها وخصوصيتها أنها تجيء. } قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ
حَتَّىا نُؤْتَىا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.. { [الأنعام: 124]
ويقول الله لهم رداً عليهم: لا تقترحوا ذلك على الله؛ لأن } اللَّهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ {؛ لأن الرسالة إنما تجيء لتنشر خيراً في الجميع،
ولكنها تعف نفسها عن آثار الانتفاع من ذلك الخير. والغير يريد أن تأتي له الخير ثم
يترك بعضاً من الخير للناس. والرسول قد جاء لينشر خيره للآخرين، وهو نفسه لا ينال
من هذا الخير إلا البلاغ به. ويأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن
يموت ألا يأخذ أهله الزكاة، أمّا ما تركه فقد صار صدقة للناس، أي أنه لم ينتفع به
في الدنيا؛ لذلك هو مأمون على الرسالة، ولم يردُ أن يأخذ الدنيا ليرثها أهله من
بعده. وقد أراده الله كذلك ليكون خيره لكل الناس. فالرسالة تكليف، والنبوة ليس
جزاؤها هنا، بل من عظمة الجزاء أنه في الآخرة، " ولذلك حينما جاء الرسول صلى
الله عليه وسلم في بيعة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك. قال: تمنعوني مما تمنعون منه
أنفسكم وتعملون كذا وتعملون كذا. "
قالوا له: فما لنا؟ أنت اشترطت لنفسك، فما لنا إن نحن وفينا؟. ماذا قال الرسول صلى
الله عليه وسلم؟. قال: لكم الجنة. هذا هو الثمن الذي عنده، فمن يريد الجنة يأتي
إلى الإيمان، ومن يريد ما هو دون الجنة فليس مكانه مع أهل الإيمان. مع أنه قال لهم
فيما بعد ستركبون السفن وتفرشون الزرابي والوسائد وتجلسون عليها، وبشرهم بالكثير،
لكنه لم يقل لهم ذلك من البداية لأن من هؤلاء من لا يدرك خيراً في الدنيا مع
الإسلام؛ بل يموت والإسلام ضعيف واتباعه في قلة، لذلك أعطاهم الجزاء المضمون لهم
جميعاً حين قالوا له: ماذا إن نحن وَفَّيْنا؟.
قال: لكم الجنة. وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الدنيا أهون من أن تكون جزاءً
على العمل الصالح، فجزاء العمل الصالح خالد لا يفوتك ولا تفوته. } وَإِذَا
جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ.. { [الأنعام: 124]
وحين نتأمل قولهم: } لَن نُّؤْمِنَ { نجد أن في هذا القول إصراراً على عدم
الإيمان، أي لن نؤمن حتى في المستقبل إنهم تحكموا في المستقبل. ثم يفضحهم الله
فيموت بعضهم على الكفر، ومن بقي منهم يأتون مؤمنين بعد الفتح. ومن العجيب أن
العبارة التي ينطقون بها هي عبارة مهزوزة لا تستقيم مع منطق الكفر منهم، قالوا: لن
نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، كأنهم قد عرفوا أن هناك رسلا من الله، والأصل
في الآية أن يؤمنوا برسل الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وهذا
القول يدل على مجرد المعارضة المقترنة بالغباء، فما دمتم تعرفون أن لله رسلاً
يصطفيهم، فكيف تحاولون أنتم تحديد إرادة الله في الاختيار؟.
إن رسل الله كانت لهم آيات كونية، حسية مرئية، وهي وإن كانت فيها قوة المشهد
الملزم، إلا إنه لا ديمومة لها، فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب
هذه الآية الكونية، إلا أنها أصبحت خبراً والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى، كذلك
رسالة عيسى عليه السلام حيث أبرأ الأكمة والأبرص بإذن الله. وهذه الرسالات لزمن
محدود وفي قوم محدودين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ومعه المنهج المعجزة
الباقي إلى قيام الساعة، فإن كانت المعجزة حسيّة فلن يراها إلى أن تقوم الساعة.
فلا بد له من آية باقية إلى قيام الساعة؛ لذلك كانت الآية في المعنويات والعقليات
التي لا تختلف فيها الأمم ولا تختلف فيها الأزمان، لكنهم أرادوا معجزة حسية، وأخرى
عقلية، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية، فحسم الحق الأمر وقال: } اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه {.
ولو نظروا إلى كلمة } اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ { ، فكلمة }
أَعْلَمُ { تدل على أنه قد يمكّن الله بعضاً من خلقه ليعلموا لماذا اختار الله
محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذين واجههم صلى الله عليه وسلم بأمر الدعوة، هل
انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة، أو آمنوا به بمجرد الإخبار؟. لقد آمنوا
بمجرد الإخبار؛ لأن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الأرض، ولابد أن يكون
مأموناً على خبر السماء؛ لأنه لم يكذب عليهم في أمر الأرض، فكيف يكذب في أمر
السماء؟
إننا نجد أن سيدنا أبا بكر، بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال: صدقت، وسيدتنا خديجة
صدقته من فور أن قال، وأخذت صدق بلاغه من مقدمات حياته، وقالت أول استنباط فقهي في
الإسلام.
وكذا ذلك لسيدتنا أم المؤمنين خديجة قبل أن يعرف الفقه بمعناه الإصطلاحي الحديث،
مما يدل على أن الاستنباطات للأدلة هي استنباطات للعقل الفطري السليم البعيد عن
الأهواء. إنه يقدر أن يستقرئ الأمر ولابد أن يهتدي، فحين أعلن لها أنه خائف أن
يكون الذي أصابه مرض أو مسٌ من الجن رفضت ذلك لأنه يصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويعين
على نوائب الدهر، وقال له: والله لا يخزيك الله أبداً.
إذن فقد جاءت بالمقدمات التي ترشح أن ربنا لا يمكن أن يخذله، وكل المقدمات مفاخر،
كلها خلق عظيم، وكلها التقاءات إنسانية قبل أن يأتي منهج السماء، التقاءات إنسانية
بالفطرة دون تقدير أو تدبير، وكان هذا أول استنباط فقهي في الإسلام. ولذلك نعرف
السر لماذا جعل الله لرسوله أم المؤمنين خديجة أو زوجة له؟ لأنه ستمر به فترة لا
يحتاج فيها إلى زوجة فقط. بل إلى ناضجة، ذلك النضج الكامل الذي تستقبل به مسائل
النبوة، ولذلك حين يخرج إلى الغار تأتي له حكمة خديجة في الاستنباط قبل أن يوجد
فقه الإسلام؟
} اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه {؟، وهم قد أصروا على ألا يعلموا
على الرغم من أنهم وجدوا منه خصالاً وأشياءً حكموا بوجودها فيه وأنها صفات رسول. }
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ { [الأنعام: 124]
هنا نجد فجوة انتقالية في الأداء، فمن قبل يتحدث سبحانه عمن يظنون أنهم كبار،
فيأتي ليقول: إن الصِّغار سيصيبهم، وليس معنى الصغار الذل والهوان لدى الناس، لا،
بل صغار وذل وهوان عند نفس كل منهم ذاتيًّا، فكل منهم سيشعر بالذل أمام نفسه
ويستصغر نفسه. كأن الصغار منسوباً إلى عندية الله فهو لا يزول أبداً؛ لأنه لا توجد
قوة ثانية تقول لله إن قدرك لن يتحقق. فالصغار والذل والهوان سينزل بهم هم مع
كونهم أكابر المجرمين فلن يستطيعوا دفعه عن أنفسهم، وسيصيبهم مع ذلك عذاب شديد.
لماذا العذاب الشديد؟
لقد قلنا من قبل: إن العذاب يوصف مرة بأنه أليم، ويوصف مرة أخرى بأنه مهين، ويوصف
هنا بأنه شديد. والعذاب المهين الذي تكون فيه ذلة النفس. والعذاب الأليم الذي يكون
في البنية؛ لأن الإِنسان له بنية وله معنويات قيمية، فمن ناحية البنية يصيبه
العذاب، ومن ناحية المعاني النفسية تصيبه الإِهانة، فهناك من يتعذب لكنك لا تملك
أن تهينه ويتحمل المشقة برجولة، ومهما تلقى من الإِهانة فلا تزال نفسه كريمة عليه،
مصدقاً لقول الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضعُلذلك ينزل قدر الله بالعذاب على
نوعين: عذاب بنية وعذاب قيم، وهذا هو الصغار، والعذاب الشديد، وهو الذي لا يقوى
الإِنسان على تحمله، ولم يُنزل الحق العذاب بهؤلاء جزافاً، لكنه بسبب ما كانوا
يمكرون، فسبحانه هو القائل:
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[النحل: 118]
والحق سبحانه وتعالى حينما عرض هذه القضية عرضها ليبين لنا أنه لم يرغم بقدره
خلقاً من خلقه على مسائل الاختيار في التكليف بل أوجد ذلك في إطار:{ فَمَن شَآءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ.. }[الكهف: 29]
ولكن الإرغام من الحق جاء للأمور القهرية القدرية الكونية الخارجة عن نطاق
التكليف، أما أمر التكليف فالله سبحانه وتعالى قال فيمن يرفضون الطاعة: }
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ {
وسبحانه قد أوضح لنا: نحن لم نجعل ذلك قهراً منا لهم دون عمل عملوه باختياره بل إن
العذاب والصغار كانا جزاءً لمكرهم.
ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى لنا بقضية يقع فيها الجدل التبريري لبعض الناس الذين
أسرفوا على أنفسهم، ويريدون أن يجعلوا إسرافهم على أنفسهم في الذنوب خاضعا لأن
الله أراد منهم ذلك؛ فيقول سبحانه: } فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ.. {
(/902)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
نجد من يقول إن ربنا حين يريد لإنسان أن يشرح صدره للإسلام فذلك من إرادة الله وما
ذنب المكلف إذن؟.
وللرد على هذا نقول: لقد عرفنا من قبل أن الهداية لها معنيان: المعنى الأول:
الدلالة وهي أمر وارد وواجب حتى للكافر. فإن هُدى الله للكافر أن يدلّه إلى طريق
الخير، ولكن هناك هداية من نوع آخر وهي للذي آمن، ويصبح أهلاً لمعونة الله بأن
يخفف عنه أعباء التكاليف وييسرها له ويجعله يعشق كل الأوامر ويعشق البغض والتجافي
عن كل النواهي.
يقول بعض الصالحين: " اللهم إني أخاف ألا تثيبني على طاعة، لأني أصبحت
أشتهيها " كأنه عشق الطاعة بحيث لم يعد فيها مشقة أو تكليقاً، لذلك فهو خائف،
وكأنه قد فهم أنه لابد ان توجد مشقة، ولمثل هذا لإنسان الصالح نقول: لقد فقدت
الإحساس بمشقة التكليف لأنك عشقته فألفت العبادة كما ألفتك وعشقتك، وحدث الانجذاب
بينك وبين الطاعة، وجعلت رسول الله مثلاً لك وقدوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم
يرى أنه إذا نودي إلى الصلاة يقوم الناس إليها كسالى لكنه " صلى الله عليه
وسلم يقول لبلال حينما يأتي وقت الصلاة:أرحنا بها يا بلال ".
وهذا غير ما يقوله بعض ممن يؤدون الصلاة الآن حيث يقول الواحد منهم: هيا نصل
لنزيحها من على ظهورنا، وهؤلاء يؤدونها بالتكليف لا بالمحبة والعشق. أما الذين
ألفوا الراحة بالصلاة حينما يحزبهم ويشتد عليهم أمر خارج عن نطاق أسبابهم، ويقول
الواحد منهم: مادامت الصلاة تريح القلب، فلأذهب إليها وألقى ربي زائداً على أمر
تكليفه لى متقربا إليه بالنوافل، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه
أمر قام إلى الصلاة. ومعنى حزبه أن الأسباب البشرية لا تنهض به. فيقوم إلى الصلاة،
وهذا أمر منطقي، لله المثل الأعلى.
كان الإنسان منا وهو طفل إذا ما ضايقه أمر يذهب إلى أبيه، فما بالنا إذا ما ضايقنا
أمر فوق الأسباب المعطاة لنا من الله فلمن نروح؟ إننا نلجأ لربنا ولقد كان صلى
الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة.
إذن فعشق التكليف شيء يدل على أنك ذقت حلاوة الطاعة، وقد يجوز أنه شاق عليك؛ لأنه
يخرجك أولاً عما ألفت من الاعتياد. فعندما يأتيك أمر فيه مشقة تقول: إن هذه المشقة
إنما يريد بها لي حسن الجزاء، فإذا ما عشقت الصلاة صارت حبًا لك، وكان واحد من
الصالحين - كما قلت - يخاف ألا يثاب على الصلاة لأنها أصبحت شهوة نفس،ـ والإنسان
مطالب بأن يحارب نفسه في شهواتها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لنا المثل
فقال:
" لا يؤمن أحدكم حتى يصبح هواه تبعاً لما جئت به " أي يصبح ما يشتهيه
موافقاً لمنهج الله، فإذا وصل وانتهى المؤمن إلى هذه المنزلة فهو نعم العبد السوي.
وهكذا عرفنا أن الهداية قسمان: هداية بمعنى الدلالة، وهداية بمعنى المعونة.
فإذا ما اقتعنت بهداية الدلالة وآمنت بالحق فسبحانه يخفف عليك أمور التكليف ويجعلك
عاشقاً لها، ولذلك يقول أهل الصلاح: ربنا قد فرض علينا خمس صلوات، وسبحانه يستحق
منا الوقوف بين يديه أكثر من خمس مرات، وفرض علينا ربنا نصاب الزكاة وهو اثنان
ونصف بالمائة، وسبحانه يستحق منا أكثر من ذلك لأنه واهب كل شيء، وهذا عشق التكليف،
وهذا هو معنى قوله: } فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلاَمِ {.
} فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ { أي يدلّه سبحانه كما دل كل العباد إلى
المنهج، لكن الذي اقتنع بالدلالة وآمن يسهل عليه تبعات التكليف مصداقاً لقوله
الحق:{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً }[مريم: 76]
فهذه هداية المعونة، وفيه فرق هنا بين الإِسلام والإِيمان لأن الإِيمان لا يحتاج
فقط إلى الاعتقاد؛ إنما هو حمل النفس على مطلوبات الإِيمان. ولذلك نجد أن كبار
رجال قريش رفضوا أن يقولوا: " لا إله إلا الله "؛ لأنهم علموا أنها ليست
مجرد كلمة تقال، ولكن لها مطلوبات تتعب في التكاليف الناتجة عنها بـ " افعل
" و " لا تفعل ". فالتكليف يقول لك: " افعل " لشيء هو
صعب عليك، ويقول لك: " لا تفعل " في شيء من الصعب أن تتركه، لذلك يقول
سبحانه: } فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ {
[الأنعام: 125]
وسبحانه يشرح صدره للإِسلام بعد أن علم أنه قد اعتقد شريعة التوحيد ورضيها واطمأن
بها، فيأتي إلى فهم التكاليف؛ لأن صحيح الإِسلام يقتضي الانقياد لأمور التكاليف،
فمن أخذ الهداية الأولى وآمن بربه، يوضح له سبحانه: آمنت بي وجئتني؛ لذلك أخفف عنك
تبعات العمل، ويشرح صدره للإِسلام، وشرح الصدر قد يكون جزاءً. فسبحانه هو القائل:{
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }[الشرح: 1]
فقد جازاه ربنا بذلك؛ لأنه أدّى ما عليه وصمد. كأن الله يريد بالإِيمان من المؤمن
أن يقبل على الحق، وحينما يقبل على الحق، يبحث العبد ليتعرف على المراد والمطلوب
منه فيعلم أنها التكاليف، فإذا رأى الله منك الاستعداد المتميز لقبول التكاليف،
فإنّه يخففها عنك لا بالتقليل منها، ولكن بأن يجعلك تشتهيها، وقد تلزم نفسك بأشياء
فوق ما كلفك الله؛ لتكون من أهل المودة ومن أهل التجليات ومن الذين يدخلون مع الله
في ود، وتلتفت لنفسك وأنت تقول: لقد كلفني الله بالقليل وسبحانه يستحق الكثير.
فتزيد من طاعتك وتجد أمامك دائماً الحديث القدسي.
" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما
افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه
الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.
"
أي بالأمور التي تزيد على ما كلفه في الصلاة والزكاة والصيام والحج.
إذن فمعنى } فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ
{ أي يجعل الأمور التي يظن بعض من الناس أنها متعبة فإنه بإقباله عليها وعشقه لها
يجدها مريحة ويقبل عليها بشوق وخشوع. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يترك في خلقه
مُثُلاً للناس. فنجد المال عزيزاً على النفس حريصة عليه لأنه إن كان المال قد جاء
بطريق شرعه الله وأحله فهو يأتي بتعب وبكدّ؛ لذلك يحرص عليه الإِنسان، فيحنن الله
العبد من أجل البذل والعطاء.
إننا نجد المؤمن يعطي للسائل لأن السائل هو الجسر الذي يسير عليه المسلم إلى
الثواب من الله، فيقول العبد المؤمن للسائل: مرحباً بمن جاء ليحمل زادي إلى الآخرة
بغير أجرة، ولذلك عندما جاء مسلم إلى الإِمام عليّ- رضي الله عنه وكرّم الله
وجهه-، قال المسلم: أنا أريد أن أعرف أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ واختار
الإمام عليّ مقياساً للإِيمان في نفس كل مؤمن، وقال له: إن جاءك من يطلب منك، وجاء
من يعطيك، فإن كنت تهش لمن يعطيك فأنت من أهل الدنيا، وإن كنت تهش لمن يأخذ منك
فأنت من أهل الآخرة؛ لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب.
إذن فـ " يشرح صدره للإسلام " أي يخفف عنه متاعب التكليف بحيث لا توجد
مشقة، ثم يرتقي بعد ذلك ارتقاءًَ آخر بأن يعشقه في التكليف. ويهديه الله إلى طريق
الجنة، لأن هناك هداية إلى المنهج وهداية إلى الجزاء على المنهج، ولذلك نجد القرآن
يقول؛ عمن ضلوا:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ
خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }[النساء:
168-169]
كأن هناك هداية إلى العمل وهداية إلى الجزاء، ونجد الحق يقول:{ وَالَّذِينَ
قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ
وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }[محمد: 4-6]
وقد يتساءل إنسان: كيف يهدي الله من قتل، وهل هناك تكليف بعد القتل؟. نقول: انظر
إلى الهداية، إنها هداية الجزاء " سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها
لهم ".
وهكذا نعرف أن هناك هداية الجزاء، من يحسن العمل يُجزِه الله الجنة، أما من يسيء
فله عذاب في الدنيا والآخرة. } وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ
الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ { [الأنعام: 125]
وهل هذا تجن من الله على خلقه؟ لا، لأنه مادام دعاهم للإيمان فآمن بعضهم وصاروا
أهلاً للتجليات، وكفر بعضهم فلم يؤمنوا، فصاروا أهلاً للحرج وضيق الصدر.
ومعنى الضيق أن الشيء يكون حجمه أقل مما يؤدي به مهمته، فحين يقال: ضاق البيت بي
وبعيالي، فهذا يعني أن الرجل وزوجه في البداية عاشا في غرفتين، وكان البيت متسعاً.
ثم انجبا عيالاً كثيرة فضاق بهم البيت. وهكذا نعلم أنه لم يطرأ شيء على الجدران
ومساحة البيت، لكن حين زاد عدد الأفراد شعر رب الأسرة بضيق المنزل. ويقال: صدره
ضيّق أوضيْق فقد ورد في القرآن لفظ ضيق على لغتين: فالحق يقول:{ ..وَلاَ تَكُ فِي
ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ }[النحل: 127]
وهناك في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجد كلمة ضَيّق، والحق يقول:{
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىا إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ..
}[هود: 12]
فما المراد من " ضائق " ، و " ضيَق " ، و " ضيْق "؟.
نعرف أن الصدر هو مكان الجارحتين الأساسيتين في التكوين: القلب والرئة، والرئة هي
الجارحة التي لا تستمر الحياة الا بعملها؛ فقد تبطئ الأمعاء مثلا، أو تتوقف قليلا
عن عملها، ويتغذى الإنسان على خزينته من الدهن أو اللحم ولذلك يصبر الإنسان على
الجوع مدة طويلة، ويصبر على الماء مدة أقل، لكنه لا يصبر على افتقاد الهواء
لدقائق، ولا صبر لأحد على ترك الشهيق والزفير.
ولقد قلنا من قبل: إن الحق سبحانه وتعالى قد يملكّ بعضاً قوت بعض. وأقل منه أن
يملِّك بعضا ماء بعض، لكن أيملّك أحداً هواء أحد؟ لا؛ لأن الرضا والغضب أغيار في
النفس البشرية. فإذا غضب إنسان على إنسان، وكان يملك الهواء وحبسه عنه فالإنسان
يموت قبل أن يرضى عنه هذا الآخر، ولذلك لم يملّك الله الهواء لأحد من خلقه أبداً.
إذن كل المسألة المتعلقة بقوله: } يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً { نعلم عنها
أن الصدر هو محل التنفس، والرئة تأخذ الأوكسجين وتطرد ثاني أوكسيد الكربون، وعندما
يصاب الإنسان بنوبة برد نراه وهو يجد صعوبة في التنفس، كأن حيّز الصدر صار ضيقاً،
فلا يدخل الهواء الكافي لتشغيل الرئتين، ويحاول الإنسان أن يعوض بالحركة ما فاته
فينهج. ويشخص الأطباء ذلك بأن المريض يريد أن يأخذ ما يحتاجه إليه من الهواء
فينهج؛ لأن الحيّز قد ضاق، وكذلك عندما يصعد الإنسان سلماً، ينهج أيضاً؛ لأن
الصعود يحتاج إلى مجهود، لمعاندة جاذبية الأرض، فالأرض لها جاذبية تشد الإنسان،
ومن يصعد إنما يحتاج إلى قوة ليتحرك إلى أعلى ويقاوم الجاذبية.
إننا نجد نزول السلم مريحاً؛ لأن في النزول مساعدة للجاذبية، لكن الصعود يحتاج إلى
جهد أكثر، فإذا ضاق الصدر فمعنى ذلك أن حيز الصدر لم يعد قادراً على أن يأخذ
الهواء بالتنفس بطريقة تريح الجسم، ولذلك يقال: " فلان صدره ضيق " أي أن
التنفس يجهده إجهاداً بحيث يحتاج إلى هواء أكثر من الحجم الذي يسعه صدره.
} ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً { والحرج معناه
الحجز عن الفعل، كأن نقول حرًَّجت على فلان أن يفعل كذا، أي ضيقت عليه ومنعته من
أن يؤدي هذا العمل. " كأنما يصعّد في السماء ".
وعلمنا أن الصعود لأعلى هو امتداد لفعل الجسم إلى جهة من جهاته. فالجهات التي تحيط
بأي شيء ست: هي فوق وتحت، ويمين، شمال، وأمام، وخلف، وعرفنا أن الهبوط سهل؛ لأن
الجاذبية تساعد عليه، والمشي ماذا يعني؟ المشي إلى يمين أو إلى شمال أو إلى أمام
أو إلى خلف، فهو فعل في الاستواء العادي الظاهر، والذي يتعب هو أن يصعد الإنسان،
لأنه سيعاند الجاذبية، وهو بذلك يحتاج إلى قوتين: قوة للفعل في ذاته، والقوة
الثانية لمعاندة الجاذبية.
} وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا
يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ { وذلك بسبب مشقات التكليف؛ لأنه لم يدخلها بعشق، فلا
يدخل إلى مشقات التكليف بعشق إلا المؤمن فهو الذي يستقبل هذه التكاليف بشرح صدر
وانبساط نفس وتذكر بما يكون له من الجزاء على هذا العمل، والذي يسهل مشقة الأعمال
حلاوة تصور الجزاء عليها؛ فالذي يجتهد في دروسه إنما يستحضر في ذهنه لذة النجاح
وآثار هذا النجاح في نفسه مستقبلاً وفي أهله. أما الذي لا يستحضر نتائج ما يفعل
فيكون العمل شاقاً عليه. } ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً
حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ.. { [الأنعام: 125]
والسماء هي كل ما علاك فأظلك، فالجو الذي يعلوك هو سماء، وكذلك السحابة، وأوضح لنا
ربنا أنه أقام السماوات السبع، وهنا أراد بعض العلماء الذين يحبون أن يظهروا آيات
القرآن كمعجزات كونية إلى أن تقوم الساعة، أرادوا أن يأخذوا من هذا القول دليلاً
جديداً على صدق القرآن، وتساءلوا: من الذي كان يدرك أن الذي يصعد في الجو يتعب
ويحتاج إلى مجهودين: الأول للعمل والثاني لمناهضة الجاذبية ولذلك يضيق صدره لأنه
لا يجد الهواء الكافي لإمداده بطاقة تولد وقوداً.
ونقول لهؤلاء العلماء: لا يوجد ما يمنع استنباط ما يتفق في القضية الكونية مع
القضية القرآنية بصدق، ولكن لنحبس شهوتنا في أن نربط القرآن بكل أحداث الكون حتى
لا نتهافت فنجعل من تفسيرنا لآية من آيات القرآن دليلاً على تصديق نظرية قائمة،
وقد نجد من بعد ذلك من يثبت خطأ النظرية.
إنه يجب على المخلصين الذي يريدون أن يربطوا بين القرآن لما فيه من معجزات قرأنية
مع معجزات الكون أن يمتلكوا اليقظة فلا يربطوا آيات القرآن إلا بالحقائق العلمية،
وهناك فرق بين النظرية وبين الحقيقة؛ فالنظرية افتراضية وقد تخيب.
لذلك نقول: أنبعد القرآن عن هذه حتى لا تعرضه للذبذبة. ولا تربطوا القرآن إلا
بالحقائق العلمية التي أثبتت التجارب صدقها.
وقائل القرآن هو خالق الكون، لذلك لا تتناقض الحقيقة القرآنية مع الحقيقة الكونية؛
لذلك لا تحدد أنت الحقيقة القرآنية وتحصرها في شيء وهي غير محصورة فيه. وتنبه
جيداً إلى أن تكون الحقيقة القرآنية حقيقة قرآنية صافية، وكذلك الحقيقة الكونية.
}..كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ
عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ { [الأنعام: 125]
والرجس وهو العذاب، إنما يأتيهم بسبب كفرهم وعدم إقبالهم على التكليف.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَهَـاذَا صِرَاطُ.. {
(/903)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
و " هذا " مقصود به ما تقدم من آيات. من كتاب الإِسلام وهو القرآن، وذلك
ما يشرح الصدر القابل للإِيمان، والقرآن هو الحامل لمنهج الإِسلام؛ فمرة تعود
الإِشارة إلى القرآن أو إلى الإِسلام. وليس هناك خلاف بين القرآن والإِسلام.
{ وَهَـاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً }. و " الصراط " هو الطريق
السَّوي، والطريق السَّوي قد يكون مع استوائه معوجاً لكن هذا الطريق مستوٍ
ومستقيم، ونعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للغاية. وعلى هذا فصراط
لا تغني عن مستقيم، ومستقيم لا يغني عن صراط، بل لابد من صراط معبد ومستقيم ليكون
أقصر طريق إلى الغاية وبلا متاعب، إننا- نحن البشر- نرى المهندسين وهم يقيسون
الأبعاد والمسافات والغايات والبدايات والنهايات، وبعد ذلك يربطون البدايات
بالغايات.
إنهم يحضرون آلات معينة ليرصدوا استقامة الطريق وكيفية تمهيده. وقد يعترض استقامة
الطريق عقبات صبعة شديدة كَأْدَاء كجبل مثلاً، فيقوم المهندسون إما بنحت نفق في
الجبل ليضمنوا له الاستقامة، وإما بأن يحني الطريق ليضمنوا جودة تعبيد الطريق. فإن
جاء المهندسون وقالوا نمشي من هنا لنضمن استقامة الطريق فإننا نفعل ذلك. وإلاّ
جعلوا الطريق متعرجاً أو حلزونيًّا؛ وذلك ليتفادى السائر العقبات التي ليس له قدرة
عليها.
لكن إذا كان الصراط قد مهده رب، أتوجد له عقبة؟ طبعاً لا، إذن فهو طريق مستقيم.
ولنلحظ أنه سبحانه قال: " صراط ربك " أي أنه جاء بها من ناحية الربوبية،
والربوبية عطاء الرب، إنه سيد، ومربٍ، وخالق الخلق ويضمن لهم ما يعينهم على مهمتهم
في الوجود معونة ميسرة سهلةً. وهكذا نعرف أن طريق الحق هو الصراط المعبد المستقيم،
أي الذي يصل بين البداية والنهاية. فإن كان الطريق الذي نتبعه مستقيماً ومعبداً،
وسهلاً، فلماذا لا نتبعه؟
" هذا صراط ربك ". ونلحظ أنه سبحانه قد أسند الرب لمحمد، أي من أجل
خاطره جعل الصراط مستقيماً؛ لأنه سبحانه هو المتولي لربوبيتك يا محمد، وسبحانه رب
الكون كله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عين أعيان الكون. { وَهَـاذَا صِرَاطُ
رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }
[الأنعام: 126]
" فصّلنا " أي أنّ كل شيء في هذا الكون مخلوق لما يناسبه، وكل قضية من
قضايا الكون خلقها ربنا لتحقق الفائدة منها بدون مشقة، وبدون عنت. والمنهج الذي
أنزله الله إنما يصلح الكون ويجعل كل شيء فيه مناسباً لمهمته؛ لأن الله إله كل
الناس وهم بالنسبة إليه سواء لأنه لم يتخذ لا صاحبة ولا ولداً. ولا يعطي سبحانه
الحياة لمخلوق ويوجده في الكون، ثم يعرّيه من أسلحة الحركة في الحياة، ولكل إنسان
سلاح من موهبة أو قدرة وبذلك تتعدد الأسلحة والمواهب والقدرات، فمن يريد أن يبني بيتاً،
أنقول له: اذهب إلى كلية الهندسة لتتعلم كيف ترسم البيت وتخططه؟ أنقول له: تعلم
كيف تكون فنيًّا وكهربيًّا ونقاشاً؟ إن الفرد الواحد لا يمكن أن يتعلم كل هذه
التخصصات، لذلك وزّع الله المواهب على خلقه؛ هذا عنده موهبة ليعمل لنفسه، ويعمل
لغيره.
وبعد ذلك يأتي غيره ليؤدي له عملاً ليس له فيه موهبة بحيث يتكامل المجتمع كله ولا
يتكرر أفراده.
ولو كنا تخرجنا جميعاً كأطباء أو مهندسين لما نفعت الدنيا، ومن نقول عليهم: إنهم
فشلوا في التعليم يقومون بأعمال في الحياة ما كنا نستطيع الحياة بدونها؛ فقد خلقهم
الله بقدرات عقلية محدودة ليهبهم قدرات أخرى تصلح في مهمات أخرى. وإن تعلم المجتمع
كله تعليماً عالياً لصار الهرم مقلوباً. وإن انقلب الهرم فمعنى هذا أن أجراءً منه
ستكون بغير دعائم في الأرض. لذلك نجد أن هناك إعداداً عقليا أراده الحق لكل واحد
من الخلق، ولا نستطيع أن نقول لكل إنسان: تعلم وتخرج في الجامعة ثم اكنس الشارع.
وكن في الغد حداداً. لذلك ربط الحق كل عمل بالحاجة إليه، ومن يحسن استقبال قدر
الله في نفسه يُعطِ الله له من العمل كل الخير.
ونلحظ الآن أن من يعمل موظفاً في الدولة يحيا في راتب محدود، بينما تجد السباك
يقدر عمله بأجر يحدده هو، ويبقى الويل والتعب لمن كان تقدير عمله في يد غيره }
وَهَـاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَذَّكَّرُونَ {.
وانظر كل قضية في الكون، لم يُدخل ابن آدم فيها أنفه تجدها مستقيمة، ولا يأتي
الفساد إلا في القضايا التي أدخل ابن آدم أنفه فيها بدون منهج الله. فإن دخلت في
كل مسألة بمنهج الله يستقيم الكون تماماً. ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى
النظام الأعلى في كونه والذي لا تدخل لنا فيه. ولا سيطرة عليه؛ السموات، والكواكب،
والشمس، والقمر، وحركة الأرض، كل تلك الكائنات نجد أمورها تسير بانتظام، ولذلك
يقول لنا الحق سبحانه:{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ
تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ }[الرحمن: 7-8]
فإن أردتم أن تستقيم أموركم في شئونكم وأحوالكم الاختيارية فادخلوا فيها بمنهج
الله؛ لأن الأشياء التي تدار بمنهج الله بدون أن يتدخل فيها البشر تؤدي مهمتها كما
ينبغي.
فعلى الإِنسان - إذن - أن يتذكر كيف يأخذ من المقدمات التي أمامه ما يوصل إلى
النتائج، ولابد أن يأخذ المقدمات السليمة ليصل إلى الغايات الفطرية. وأقصر الأمور
أن تسأل نفسك: أنت صنعة من؟ صنعة نفسك؟ لا، هل أنت من صنعة واحد مثلك؟ لا. وهل
ادّعى واحد في كون الله - وما أكثر ما يُدَّعى - أنه خلقك أو خلق نفسه؟ لا. بل أنت
وهو وكل الكون من صنعة الله، فدعوا الله يقرر قانون صيانتكم، وسيظل الناس متعبين
إلى أن يسلموا الصنعة إلى خالقها. } وَهَـاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ
فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ {.
ولم يقل فصلنا الآيات لواحد، بل قال " لقوم " حتى إذا ما مال أو غفل
واحد في الفكر بعدله غيره. وكلنا متكافلون في التذكير، وهذا التكافل في التذكير
يعصم كل مؤمن من نفسه؛ فإن حصل عندي قصور من سهو أو من غفلة أو من هوى يعدله غيري.
وهذه قضية كونية لو استقرأت الوجود كله وجدتها لا تتخلف أبدا، ولا بد من تذكر
الغاية التي جاء بها قوله الحق: } لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ.. {
(/904)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
أي أن لهؤلاء المتقدمين الذين صبروا وصابروا ورابطوا، لهم دار السلام، وهو أسلوب
مكون- كما يقال- من مبتدأ وخبر، الا أن المبتدأ أُخرِّ هنا، والخبر تقدّم، وكان
المنطق أن يقال: " دار السلام لهؤلاء " ولكن الأسلوب القرآني جاء ليقدم
الخبر المكون من الجار والمجرور ومتعلقه، ويؤخر المبتدأ وذلك لخصوصية أرادها الحق،
وهي أن هذه الدار لهم وحدهم دون غيرهم فهي خالصة لهم يوم القيامة و " دار
السلام " مكونة من كلمتين، " دار " ومعناها ما يستقر فيه الإنسان،
ويجمع هذا المكان كل ما تتطلبه حياة الإنسان، وهي أوسع قليلاً من كلمة " بيت "؛
لأن البيت مكان يعد للبيتوتة، لكن كلمة " دار " تعد للحياة ولما يتعلق
بالحياة من مقوماتها.
و " دار " هنا مضافة إلى السلام، وهو- كما نعلم- اسم من أسماء الله، إذن
فالحق هنا يوضح: لهم دار منسوبة للسلام وهو الله، وهم مستحقون لها جزاءً منه، فإذا
كانت الدار التي وعدها الله هي دار السلام وهو الله، فلابد أن فيها متعاً وامكانات
على قدر فضل المضاف إليه وهو الله، ولماذا لم يقل الله: " دار الله "؛
لأن الله أراد أن يأتي بوصف آخر من أوصافه؛ ليعطيهم السلام والأمن والاطمئنان.
وهناك فرق بين دور الدنيا، وهذه الدار؛ فدور الدنيا فيها متع، ولكنك فيها بين
أمرين: إما أن تفوت أنت ما هي فيه، وإما أن يفوتك ما فيها، ولذلك لا يوجد في
الدنيا أمن؛ لأن غيرك قد يناوئك فيها ويعاديك، وقد تأتي لك مكدرات المرض، وقد تأتي
لك معكرات الأعداء، كل ذلك ينغص عليك الأمن والسلام في الدنيا. ولذلك أراد الحق ان
تكون لك الآخرة دار السلام مادمت قد آمنت، وأن تأمن فيها من كل الآفات التي كانت
في دار الدنيا. { لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ } [الأنعام: 127]
وكأن دار السلام ليست وعداً من الله بأن تكون، ولكنها جاهزة معدة عند الله ومحفوظة
لديه تنتظر المؤمنين، وسبحانه قد خلق جناناً تتسع لكل خلقه على فرض أنهم آمنوا،
وجعل من النار مثل ذلك على قدر خلقه، على فرض وتقدير أنهم كفروا. وسيأخذ المؤمنون
ما أعد لهم من دور الإيمان ويرثون ما أعد للكافرين من دور الإيمان على فرض أنهم
آمنوا في الدنيا.{ أُوْلَـائِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون: 10-11]
فلم يخلق الحق جناناً محدودة، لا، بل أعد وهيأ من الجنان ما يتسع لكل الخلق إن
امنوا، ومن النيران ما يتسع لكل الخلق إن كفروا. ومادامت العندية منسوبة إلى الله
فهي عندية مأمونة.
وبعد ذلك أيتخلّى الله عنهم ويكلهم إلى ما أعدّه لهم؟. لا، بل قال: }.. وَهُوَ
وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [الأنعام: 127]
فهناك إعداد، ثم قيومة ولاية الله، وهذه القيومة لله، هي للمؤمنين في الدنيا، لكن
فلنلاحظ أن الولاية في الدنيا قد تكون فيها أسباب مخلوقة لله، لكن في الآخرة هناك
الجزاء الذي لا يكله الله للأسباب، فتكون الولاية مباشرة له؛ لأنه سيعطيك فوراً،
وإذا خطر أي شيء بباللك تجده حاضراً: فهي متعة على غير ما ألف الناس؛ لأن الناس
يتمتعون في الدنيا بواسطة الأسباب المخلوقة لله. ولكن في الآخرة فلا ملكية لأحد
حتى في الأسباب، لذلك يقول سبحانه:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ.. }[غافر: 16]
وستجد الإِجابة هي قوله - سبحانه -:{ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16]
والحق هو الولي الذي يليك، قرباً تنتفع به، فلا تضطر حتى أن تنادي عليه ليأتي لك
بالمنافع ويدفع عنك المضار كما عمل لك في الدنيا ووفقك للعمل وهو وليك في الآخرة
بحسن الجزاء لك بسبب ما كنت تعمل؛ فالعمل في الدنيا هو الزرع وهو الحرث لثمرة
الآخرة. ولكن أيعطينا الله على قدر أعمالنا؟ لا، بل يعطينا على قدر صبرنا؛ لأنه إن
كان العطاء على قدر الأعمال، إننا لو حسبناها لما أدينا ثمن عشر معشار نعم الله
علينا في الدنيا. فكأننا نعمل في الدنيا لنؤدي شكر ما أفاء علينا وأعطانا من
النعم، فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأعطانا بعد ذلك ثواباً فهو الفضل منه، ولذلك
يوضح الحق لنا: إياكم حين توفقون في العمل أن تفتتنوا بأعمالكم، بل عليكم أن
تتذكروا ان ذلك فضل من الله:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَالِكَ
فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58]
وقد شرح النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأمر وقال: " لن يُدْخِل أحداً منكم
عملُه الجنة، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه
بفضل ورحمة. "
إذن المسألة كلها بالفضل من الله، ولكن فضل الله شرطه العمل الصالح؛ فأنت تعمل
العمل الصالح، ويعطيك ربنا أضعافه، وبطبيعة الحال فعملك لن ينفع جلاله أو جماله أو
كماله أو يزيده صفة أو يزيده ملكاً، لكنه يعطيك على ما عملته لنفعك ولنفع بني
جنسك.
ولذلك نجد الإِمام الرازي - رضي الله عنه - يقول: إن العمل في ذاته يورث الذات
شيئا من الصفاء الذي ترتاح له وتسعد به، حتى تجد الجزاء في الراحة، والراحة
النفسية هي الأمر المعنوي الذي يوجد في بنية مادية هي قالبك. فساعة يوجد شيء في
النفس فهو يؤثر في القالب أغياراً، فإذا غضب الإنسان فهذا الغضب يظهر أثره في
البينة نفسها فيحمر الوجه، ويرتعش الإِنسان للانفعال بالغضب، والغضب أمر معنوي
لكنه أثّر في البينة، وكذلك إذا ما حدث ما يسرّك، يظهر ذلك في البينة أيضاً؛ فتشرق
وتهلل أساريرك. إذن فالعمل يؤثر في البينة، والبينة تؤثر في العمل.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ... {
(/905)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
وساعة تسمع " يوم " اعرف أنها " ظرف زمان " ، أي أن هناك
حدثاً، وقوله الحق: " ويوم يحشرهم جميعاً " أي اليوم الذي يقف فيه
الجميع ويحشدون، وحين ننظر إلى ما بعدها نجد أن الحدث لم يأت، ولكن جاء " يا
معشر الجن " وهذا " نداء ". فكأن الحدث هو النداء نفسه، والنداء
يقتضي مناديًّا، وهو الحق سبحانه، ومنادى وهو معشر الجن والإِنس، وقولاً يبرز صورة
النداء. فكأن العبارة هي: يوم يحشرهم جميعاً فيقول يا معشر الجن والإِنس، و "
الحشر " هو الجمع، و " المعشر " هم الجماعة المختلطة اختلاط تعايش،
بمعنى أن يكون فيهم كل عناصر ومقومات الحياة، وقد يضاف المعشر إلى أهل حرفة
بخصوصها؛ يا معشر التجار، يا معشر العلماء، يا معشر الوزراء. لكن إن قلت: يا معشر
المصريين فهي جماعة مختلطة اختلاط تعايش ومعاشرة. { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ
اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ[الأنعام: 128]
و " استكثر " أي أخذ منه كثيراً، كمن استكثر من جمع المال، أو استكثر من
الأصدقاء؛ فمادة " استكثر " تدل على أنه أخذ كثرة. وماذا يعني استكثارهم
من الإنس؟. نحن نعلم أن من الجن طائعين، ومنهم عاصون، والأصل في العصيان في الجن
" إبليس " الذي أقسم:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ }[ص: 82]
فكأن الحق يوضح: أنكم معشر الجن قد حاولتم جاهدين أن تأخذوا الإنس إلى جانبكم
واستكثرتم بهم، فبعد أن كان العاصون فقط من شياطين الجن وجد عصاة من الإنس أيضاً،
واستكثرتم منهم، بأن ظننتم ان لكم غلبة وكثرة وعزاً، لأنهم إذا أطاعوكم في الوسوسة
أصبحت لكم السيادة، وذلك ما كان يحدث، فكان الإنسان إذا ما نزل وادياً مثلاً قال:
أعوذ بسيد هذا الوادي- من الجن- ويطلب أن يحفظه ويحفظ متاعه، وحينما يوسوس له شيء
يسارع إلى تنفيذه، وهذا استكثار. { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } [الأنعام: 128]
وكذلك لم يستمتع الجن والإنس فقط، بل استمتع أيضاً بالجن، وهكذا نجد تبادل استمتاع
من خلف منهج الله، لهؤلاء إغواءٍ وسيادة، يأمرونهم بعمل الأشياء المخالفة لمنهج
الله، وهؤلاء يستمتعون بهم يحققون لهم شهواتهم في صور تدين، فيقولون لهم: اعبدوا
الأصنام، واعبدوا الشمس، واعبدوا القمر، فيفعلون. وذلك يرضي فيهم غريزة الانقياد
التديني؛ لأن كل نفس مفطورة على أن ترتبط بقوة أعلى منها؛ لأن الإنسان إذا نظر
لنفسه وإلى أقرنائه وجدهم أبناء أغيار؛ الواحد منهم يكون اليوم صحيحاً وغداً
مريضاً، ويكون اليوم غنياً وغداً فقيراً، فمال الذي يضمن للنفس البشرية حماية من
هذه الأغيار؟.
إن الإنسان يحبّ أن يلجأ ويرتبط بقَويّ؛ حتى إذا جاءت هذه الأغيار كانت سنداً له.
إلا أن هناك من يصعدهُا في التدين وهؤلاء هم الذين يركنون إلى الإيمانية لله
ويعتمدون عليه سبحانه ويقبلون على الإيمان بالله بمطلوبات هذا الإيمان في "
افعل " و " ولا تفعل ". لكن الأشياء التي يعبدونها من دون الله ليس
لها مطلوبات أو تكاليف إلا أن تكون موافقة لأهواء النفس، وهذا الإِكذاب للنفس أي
حمل النفس على الكذب لا يدوم طويلاً؛ لأن الإنسان لا يغش نفسه؛ فالإيمان يحمي
النفس إذا جاء أمر فوق أسبابك، وليس هناك من يقول: يا شمس أو يا قمر، يا شيطان أو
يا صخر! لا يمكن؛ لأنك لن تكذب على نفسك أبداً. ومثال ذلك قول الحق:{ وَإِذَا
مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ
مَّسَّهُ.. }[يونس: 12]
وهنا يقول الحق عن الإنس: } وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا
اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا..
{ [الأنعام: 128]
أي أن هذا الاستمتاع أمداً، هو أمد الأجل أي ساعة تنقضي وتنتهي الحياة، ثم يبدأ
الحساب فيسمعون قول الحق: }.. قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ
إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ { [الأنعام: 128]
و " الثواء " هو الإقامة، و " مثواكم " أي إقامتكم، "
إلا ما شاء الله " وهذا الاستثناء كان محل نقاش بين العلماء، دار فيه كلام
طويل؛ فهناك من قال: إن الحق سبحانه وتعالى قال: " إلا ما شاء الله " أي
أن له طلاقة القدرة والمشيئة؛ فيفعل ما يريد لكنه حسم الأمر وحدد هو " ما شاء
" فقال:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ.. }[النساء: 48]
وهنا حدد " ما شاء " ، أي أن ما شاء يكون في غير الشرك به فإن الشرك لا
يكون محل غفران منه سبحانه. أو يجوز " إلا ما شاء الله " أن بعضاً يفهم
أنه بمجرد البعث والحشر ستكون النار مثواهم، ولكن المثوى في النار لن يكون إلا بعد
الحساب، وهذا استثناء من الزمن الخلودي، فلن يحدث دخول للجنة أو للنار إلا بعد
الحساب. فزمن الحساب والحشر مستثنى وخارج عن زمن الخلود في الجنة أو النار.
ونحن نجد أيضاً } إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ { في سورة هود حيث يقول الحق:{
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ
إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا
شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }[هود: 106-108]
إذن فهناك الاستثناء في النار والاستثناء في الجنة، فقول الحق: } خَالِدِينَ
فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ { فمجيء
الاستثناء بعد الوصف بالخلود، يدل على أن الخلود ينقطع مع أنه قد ثبت خلود أهل
الجنة في الجنة وخلود أهل النار في النار للأبد من غير استثناء فكيف ذلك؟
والرد على هذا أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار، وحده بل يعذبون بالزمهرير
وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار بما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم
ولعنهم وطردهم وإهانته إياهم.
وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما أكبر منها واجل موقعا، وهو رضوان الله كما قال:
} وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ { فلهم ما يتفضل الله به عليهم سوى ثواب الجنة
مما لا يعرف كنهه إلا هو، فهذا هو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: "
عطاء غير مجذوذ " ومعنى قوله في مقابلته } إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا
يُرِيدُ { أن ربك يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب، كما يعطي اهل الجنة الذي لا
انقطاع له.
ويذيل الحق الآية بقوله: } إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ {. حكيم في أن يعذب، عليم
بمن يستحق أن يعذّب، ومقدار عذابه، وعليم بمن يستحق ان يثاب وينعم، وبمقدار ثوابه
ونعيمه، وحكيم في أن يرحم. ويقول الحق بعد ذلك: } وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ.. {
(/906)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
و " كذلك تشير إلى ما حدث من الجن والإنس من الجدل، فقال الحق على ألسنة
الإنس:{ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ... }[الأنعام: 128]
ولم يأت بكلام الجن؛ لأن كلامهم جاء في آيات أخرى؛ فالحق هو القائل:{ وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ
إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ
أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.. }[إبراهيم:
22]
وكذلك أورد الله ما يجيء عل لسان الشيطان في سورة أخرى:{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ
إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ...
}[الحشر: 16]
وكذلك جاء الحق في آيات أخرى بأقوال الإنس الذين ضلوا: { رَبَّنَآ أَرِنَا
الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ
أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ } [فصلت: 29]
وقوله الحق هنا في سورة الأنعام: { وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ
بَعْضا } [الأنعام: 129]
أي كما صنعنا مع الجن والإِنس، باستكثار الجن من الإِنس واستمتاع بعضهم ببعض
إضلالا وإغواء، وطاعة وانقيادا، نجعل من بينهم ولاية ظالم على ظالم، ولا نولى
عليهم واحداً من أهل الخير؛ لأن أهل الخير قلوبهم مملوءة بالرحمة، لا يقوون على أن
يؤدبوا الظالم؛ فهم قد ورثوا النبوة المحمدية في قوله يوم فتح مكة: " اذهبوا
فأنتم الطلقاء " ، ولذلك إذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحد من
أهل الخير ليؤدبه، إنه- سبحانه- بتكريمه لأهل الخير لم يجعل منهم من يكون في مقام
من يؤدب الظالم. إنه- سبحانه- يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين
بعضهم بعضا.
والتاريخ أرانا ذلك. فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير، بينما لو تمكن منهم
أعداؤهم الحقيقيون لرحموهم؛ لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة.
ولذلك بلغنا عن سيدنا مالك بن دينار وهو من أهل الخير. يقول: قرأت في بعض الآثار
حديثاً قدسيا يقول فيه الحق: " أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي,. "
فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته، بل
جاء به الحق ليؤدب به الظلمة، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة فهو
بجلاله ينزع المهابة من قلوب حرّاسه وبدلاً من أن يدفع عنه البندقية، يصوّب
البندقية إليه.
فإياكم أن تظنوا أن ملكا يأخذ الملك قهراً عن الله، ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا
يسلط الحق عليهم من يظلمهم، ولذلك يقال: " الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به
وينتقم منه ". { وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا
كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [الأنعام: 129]
فكأن ما سلّط على الناس من شرّ عاتٍ هو نتيجة لأعمالهم؛ ولذلك كان أحد الصالحين
يقول: أنا اعرف منزلتي من ربي من خُلُق دابتي؛ إن جمحت بي أقول ماذا صَنَعْتُ حتى
جمحت بي الدابة؟! وكأن المسألة محسوبة.
وهذه معاملة للأخيار، عندما يرتكب ذنباً يؤاخذ به على الفور حتى تصير صفحته نظيفة
دائماً. قال عليه الصلاة والسلام: " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كَفّر الله
بها عنه، حتى الشوكة يُشاكها. "
فإذا فعل العبد من أهل الخير بعضاً من السيئات، يوفيّه الحق جزاءه من مرض في جسمه
أو خسارة في ماله، كذلك المسيء الذي لا يريد له الله النكال في الآخرة. يقول
الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا حط
الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها. "
} وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {
هم اعتقدوا أنهم أخذوا شيئاً من وراء الله وخلصوا به. نقول: لا، فربك سيحاسبك
ثواباً أو عقاباً وذلك بما قدمت يداك من سيئات أو حسنات.
ويقول الحق بعد ذلك: } يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ.. {
(/907)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
ونلاحظ أنه قال هنا: { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ } لأنه يريد أن يقيم عليهم
الحُجة بأنه سبحانه لم يجرم أعمالهم ولم يضع لهم العقوبات إلا بعد بلغهم بواسطة
الرسل؛ فقد أعطاهم بلاغاً بواسطة الرسل عما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك. فلم
يأخذهم - سبحانه - ظلماً.
وهنا وقفة؛ فالخطاب للجن والإنس { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } فقال بعض
العلماء: إن الجن لهم رسل، والإنس لهم رسل، وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة؛ لأن
القرآن جاء فيه على لسانهم: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ
مُوسَىٰ }.
إذن فقد احتج الجن بكتاب أنزل من بعد موسى عليه السلام وعندهم خبر عن الكتاب الذي
جاء بعده، كأن الجن يأخذون رسالتهم من الإنس؛ فكأن الله قد ارسل رسلاً من الإنس
فقط وبلغ الجن ما قاله الرسول، وهو هنا يقول سبحانه: { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ.. } [الأنعام: 130]
وأنت حين تأتي إلى اثنين: أولهما معه مائه جنيه، والثاني يسير معه وليس معه شيء
وتقول: " هذان معهما مائه جنيه " فهذا قول صحيح. فقوله سبحانه: { أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } أي من مجموعكم. أو أن الرسل تأتي للإنس، وبعد ذلك
من الجن من يأخذ عن الرسول ليكون رسولاً مبلغاً إلى أخوانه من الجن:{ وَإِذْ
صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا
حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىا قَوْمِهِم
مُّنذِرِينَ }[الأحقاف: 29]
فكأن المنذرين من الجن يأخذون من الرسل من الأنس وبعد ذلك يتوجهون إلى الجن. {
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي.. } [الأنعام:
130]
والآيات تطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسل، وما يكون من شرح الأدلة الكونية
الدالة على صدق الرسل. وكلمة { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } أي يروون لهم
الموكب الرسالي من أول " آدم " إلى أن انتهى إلى " محمد " صلى
الله عليه وسلم. و { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } قول يدل على دقة الأداء
التاريخي؛ لأن " قص " مأخوذ من قص الأثر، ومعناها تتبع القدم بدون
انحراف عن كذا وكذا، وهكذا نجد أن المفروض في القصة أن تكون مستلهمة واقع التاريخ.
{ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا.. }
[الأنعام: 130]
وهو اليوم المخزي حيث سيقفون أمام الله ويذكرهم الحق أنه قد نبههم وقد أعذر من
أنذر. {... قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىا أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىا أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ }
[الأنعام: 130]
وقولهم: { شَهِدْنَا عَلَىا أَنْفُسِنَا } إقرار منهم على أنفسهم؛ فقد شهدوا على
أنفسهم، ولكن ما الذي منعهم أن ينضموا إلى الإيمان بمواكب النبوة؟. تأتي الإجابة
من الحق: { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا }.
والذي يغرّ هو الشيء الذي يكون له تأثير، وهو موصوف بأنه " دنيا "!!
لذلك فالغرور الذي يأتي بالدنيا هو قلة تبصّر.
} وَشَهِدُواْ عَلَىا أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ {. ومن يستقرئ
آيات القرآن يجد آية تقول:{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }[الأنعام:
23]
فمرة ينفون عن أنفسهم أنهم كفروا، ومرة يثبتون أنهم كافرون، وهذا لاضظراب المواقف
أو اختلافها. أو أنهم } وَشَهِدُواْ عَلَىا أَنْفُسِهِمْ {؛ بمعنى أن أبعاضهم شهدت
عليهم؛ لأن الإنسان في الدنيا له إرادة، وهذه الإِرادة مسيطرة على ما له من جوارح
وطاقات مخلوقة لله؛ لأن الله جعل للإِرادة في الإِنسان ولاية على الأبعاض التي تقوم
بالأعمال الاختيارية. لكن الأعمال الاضطرارية القهرية ليس للإِنسان إرادة فيها؛
فلا أحد يملك أن يقول للقلب انبض كذا دقة في الساعة، ولا أن يقول للأمعاء: تحركي
الحركة الدّودية هكذا. لكنه يقدر أن يمشي برجليه إلى المسجد، أو يمشي إلى
الخّمارة. ويستطيع أن يقرأ القرآن أو يقرأ في كتاب يضر ولا يفيد.
إذن فإرادة الإِنسان مسيطرة على الأبعاض لتحقق الاختيار المصحح للتكليف. لكن يوم
القيامة تسلب الإِرداة التي للإِنسان على أبعاضه، وتبقى الأبعاض كلها حُرّة، وحين
تصير الأبعاض جُرّة فالأشياء التي كانت تقبلها في الدنيا بقانون تسخيرها لإِرادتك
قد زالت وانتهت، فهي في الآخرة تشهد على صاحبها؛ تشهد الجلود والأيدي والأرجل:{
وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ
الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... }[فصلت: 21]
وحين يقولون لربنا: ما كنا مشركين، فهذا كلامهم هم، لكن جوارحهم تقول لهم: يا
كذابون، أنتم عملتم كذا.
ويقول الحق بعد ذلك: } ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ... {
(/908)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ ذالِكَ } إشارة إلى ما تقدم، وهو إرسال الرسل مبلغين عن الله؛ حتى لا يكون لأحد
حُجة بعد الرسل، وقد أقروا بأن الله أرسل إليهم رسلاً، وشهدوا على أنفسهم،
وماداموا قد أقرّوا على أنفسهم بأن الله أرسل لهم رسلاً وشهدوا على أنفسهم بذلك،
إذن فهذا إقرار جديد بأن الله لم يكن مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون؛ لأن الحق
سبحانه وتعالى قبل أن يعاقب على جُُرم، وقبل أن يجرّم ينزل النص بواسطة الرسل. أي
أن الله لا يهلكهم بسبب ظلم وقع منهم إلا بعد ذلك البلاغ.
{ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } ، و " الغفلة " ضد اليقظة، فاليقظة، هي
تنبّه الذهن الدائم، و " الغفلة " أن تغيب بعض الحقائق عن الذهن، ومعنى
أن ربنا لا يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي غير يقظين؛ فلو أنهم كانوا يقظين
ومتنبهين لما احتاجوا إلى الرسل؛ لأن الله عندما خلق الخلق أرسل آدم إلى ذريته،
وكان المفروض كما يلقن الآباء الأبناء وسائل حياتهم أن يلقنوهم مع ذلك قيم دينهم. فكما
أن الآباء يعلمون ذريتهم وسائل حياتهم، ثم ينقلونها ويزيدون عليها بابتكاراتهم،
كان من الواجب على الآباء أن يقوموا بهذا العمل بالنسبة للقيم فتعيش القيم في
الناس كما عاشت وسائل حياتهم.
ولماذا - إذن - عاشت وسائل حياتهم وتوارثوها وزادوا عليها أشياء؟! لأن زاوية الدين
هي التي يغفل الناس عنها، بسبب أنها تقيد حركتهم في " افعل " و "
لا تفعل " ، ولكنهم يريدون الترف في وسائل حياتهم. لماذا إذن أيها الإِنسان
تحرص على الترقي في ترف الحياة ولا تحرص على الترقي في القيم؟. لقد كنت- على سبيل
المثال- تشرب من الماء أو النبع بيدك ثم صنعت كوباً لتشرب منه، ونقيت الماء من
الشوائب ونقلته من المنابع في صهاريج. أنت ترفه حياتك المادية والمعيشية فأين إذن
الاهتمام بقيم الدين؟!!
ولو كانوا متيقظين لكان كل أب قد علم ابنه ما ورثه من آبائه من القيم، وعلى الرغم
من ذلك رحم الحق سبحانه وتعالى هذه الغفلة، وكرّر التنبيه بواسطة الرسل. وكلما
انطمست معالم القيم التي يحملها المنهج فهو - جل وعلا - يرسل رسولاً رحمة منه
وفضلاً وعدالة، ولم يكن يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، والغفلة ضد اليقظة.
إذن لو كانوا متيقظين لما كانت هناك ضرورة للرسل؛ لأن الآباء كانوا سينقلون
لأبنائهم القيم كما ينقلون إليهم وسائل حياتهم، وهذا الأمر مستمر معنا حتى الآن؛
إن الأب- مثلاً- إن غاب ابنه عن المدرسة يوماً يلوم الابن، وإن أهمل في دروسه أو
رسب فهو يعاقب الابن، وهذه هي الغيرة على المستقبل المادي للابن، ولا غيرة على
أدائه لفروض الدين، لماذا؟. إن الناس لو عنوا بمسائل قيمهم كما يعنون دائماً
بمسائل حياتهم لاستقام منهج الخير في الناس وأصبح أمراً رتيباً.
وعرفنا أن الغفلة ضدها اليقظة، كما أن السهو ضده التذكر، والغروب ضده الشروق،
والغياب ضده الحضور.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ.. }
(/909)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{ وَلِكُلٍّ } ، وجاءت بالتنوين أي لكلٍّ من الإِنس والجن درجات مما عملوا، فكأن
الأعمال تتفاوت؛ فقد تكون في ظاهرها قوالب متحدة، لكن التفاوت إنما ينشأ بكثرة
العمل، أو بإخلاص المقارف للعمل والمكتسب والفاعل له، فهناك من يخلص بكل طاقته،
وهناك من يؤدي عمله بنصف إخلاص، ومسألة الإِخلاص هذه لا تحددها لوائح ولا قوانين
إنما يحددها الحق سبحانه وتعالى، ولذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم مبلغاً عن رب
العزة هذا الحديث القدسي: " الإِخلاصُ سر من سري استودعته قلب من أحببت من
عبادي. "
إذن فمقاييس الإِخلاص لا يعرفها إلا ربنا سبحانه وتعالى، وعلى مقدار ذلك تكون
الدرجات. وتكون الدرجات على مقدار ما يزيده العبد من جنس ما فرضه الله عليه؛ فالحق
قد فرض صلوات خمساً، فيزيد العبد عشر ركعات في الليلة مثلاً. والله قد فرض الصيام
شهراً، فيصوم العبد يومي الاثنين والخميس.
والذي يقف عند ما فرض الله يجازيه الله على إخلاصه في أداء ما عليه، وحينما سأل
أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقف الذي لا يؤدي إلا الفروض فقط، قال
له: " أفلح إن صدق، " فالذي يزيد عما فرض الله من جنس ما فرض الله أشد
فلاحاً. ولا يصل الإِنسان إلى المرتبة التي هي أشد فلاحاً إلا إذا كان في درجة
أعلى، وكلمة { دَرَجَاتٌ } تفيد العُلّو، وكلمة " دركات " تفيد الهبوط،
والحق لا يغفل عن ظاهر وباطن كل عمل لأي عبد.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.. }
(/910)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133)
وهنا يحنننا الله سبحانه وتعالى إلى عبادته، وإلى تكاليفه؛ يحنننا إلى فضيلة
الطاعة، وكل ذلك لمصلحتنا وهذا مطلق الربوبية الرحيمة، فيحسن لنا الجزاء، ويفخم
لنا فيه لنعمل لصالحنا نحن؛ لأن كل أعمالنا- كما قلنا- لا تزيد في ملك الله قدر
جناح بعوضة، وكل معصياتنا لا تنتقص من ملك الله قدر جناح بعوضة؛ لأن الله بكل صفات
الكمال خلقنا، ولم نزده نحن شيئاً. لقد أوجد الدنيا من عدم، وفرق بين الصفة
القائمة بذات الله، وإيجاد متعلق الصفة. فالله خالق؛ والله رحمن، والله رحيم،
والله قهار، وسبحانه رحمن ورحيم وقهار وخالق حتى قبل أن يبرز ويظهر ما يخلقه؛ لأنه
بصفة الخالق فيه خلق، وهو رزاق قبل أن يخلق المرزوق، فالصفة موجودة فيه قائمة به،
وبهذه الصفة رزق، وبوجود هذه الصفات فيه يقول للشيء كن فيكون، وله هذا الكون كله،
وهو غني عن العباد وله كل الملك، وكذلك خلق التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم
يقول: " لَلَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض
فلاة. " { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ
وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ
قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام: 133]
إذن فالخلق مستمر الإيجاد من العدميات وهو دليل على أن صفة الخالقية موجودة.وما
آدم في منطق العقل واحد ولكنه عند القياس أو ادمفالكون كله من أول آدم موجود، وكل
الكون المسخر لآدم كخليفة في الأرض خاضع لله، فإن شاء اذهب الخلق وأتى بخلق جديد.
ويقول الحق بعد ذلك: { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ.. }
(/911)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
والحق سبحانه وتعالى لأنه لا إله إلا هو، إذا وعد فلابد أن يتحقق وعده، وإذا أوعد
فلابد أن يأتي وعبده. والوعد إذا أطلق فهو في الخير، والوعيد يكون في الشر. والذي
يخلف الوعد أو الوعيد من الخلق فهذا أمر متوقع لأنه من الأغيار، فيتغير رأيه فلم
يعد أهلاً لهذا الوعد؛ لأنه ربما يكون قد وعد بشيء كان يظن أنه في مكنته، وبعد ذلك
خرج عن مكنته، فليس له سيطرة على الأشياء، لكن إذا كان من وعد قادراً، ولا يوجد
إله آخر يناقضه فيما وعد أو أوعد به فلابد أن يتحقق الوعد أو يأتي الوعيد.. ولذلك
حينما يحكم الله حكماً فالمؤمن يأخذ هذا الحكم قضية مسلمة؛ لأنه لا إله مع الله
سيغير الحكم، وسبحانه ليس من الأغيار، والمثال أنه قال:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً
ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن
مَّسَدٍ }[المسد: 1-5]
وهذا وعيد في أمر لهم فيه اختيار، ومع ذلك لم يسلموا. وجاء بعدها ما يؤكد لكل
مسلم: إياك أن تأخذ هذه القضية مأخذ الشك،وتقول: قد يتوب أبو لهب هذا وزوجه
ويسلمان، ألم تتب هند؟! ألم يسلم أبو سفيان؟!. لكنه سبحانه عالم بما يصير إليه
اختيار أبي لهب واختيار زوجه، وإن كان كل منهما مختاراً، ولا يوجد إله سواه ليغير
الأمر عما قال.{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ... }[الإخلاص: 1]
أي لا يوجد إله أخر ليعدل هذا الأمر. { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم
بِمُعْجِزِينَ } [الأنعام: 134]
قد يظن بعض الناس أن الله قد يأتي بما وعد به لكنهم قد يهربون منه، ولكن ليس الأمر
كما يظنون؛ فالوعد آت وأنتم لا تستطيعون الهرب منه، ولا أحد بقادر على أن يمنع
الله عن تحقيق ما وعد أو أوعد، ولن تفروا من وعده أو وعيده، ولن تغلبوا الله أو
تفوتوه وتعجزوه؛ فالله غالب على أمره.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: { قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىا.. }
(/912)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
والقوم هم الجماعة، وعادة يطلق على الرجال لأنهم أهل القيام للمهمات؛ لأن الشأن
والأصل في المرأة الستر والبيتوتة والاستقرار في البيت للقيام على أمره ورعايته.
وحين تقرأ القرآن تجد كلمة " قوم " وتفهم أن المقصود منها الجماعة التي
تجمعهم رابطة، وأنها للرجال خاصة، والمثال هو قول الحق:{ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن
قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ
عَسَىا أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ... }[الحجرات: 11]
وما دام قد جاء بمقابل { قَوْمٌ }: { وَلاَ نِسَآءٌ } ، فـ { قَوْمٌ } هذه للرجال
ومأخوذ منها " القيام للمهمات " ، ومأخوذ منها " القيامة ".
ولذلك الشاعر يقول:ولا أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساءيعني أرجال أم
نساء. { قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىا مَكَانَتِكُمْ } [الأنعام: 135]
و " المكان " هو الحيز الذي يأخذه جسم الإِنسان؛ فكل كائن له مكان، إن
وقف له مكان، إن قعد له مكان، والمكان هو المملوك والمخصص لك من الأرض، فحين تقف
في مكان لا يقدر آخر أن يقف فيه وأنت واقف، بل يجب أن يزحزحك عنه، وحين تزحزح من
هو واقف، فهو يروح إلى مكان ثانٍ، ويمتنع التداخل بين اثنين في حيز لا يسع إلا
واحداً، وهذا أمر فطري؛ فتجد الولد الصغير الذي لم يدرك أي شيء ويقدر أن يقف فقط،
ثم يريد أن يقعد على الكرسي الذي تجلس عليه أخته أو أخوه، فقبل أن يقعد على الكرسي
يشد من يجلس عليه؛ لأنه يعرف بالفطرة أن اثنين لا يوجدان في حيز واحد.
وترى ذلك أيضاً في غير الجرم المرئي، فأنت حين تأتي قارورة وتضعها في ماء لتمتلئ
تسمع صوت الهواء الخارج منها في بقبقة؛ لأن الماء لا يمكن أن يدخل إلا أن خرج
الهواء، ولأن المياه أكثف فهي تضغط ليخرج الهواء، وهذا ما يؤكد عدم التداخل. أي لا
يوجد شيئان اثنان في حيز واحد. ومكانتك هي الموقع الذي تستولي عليه، ولذلك حتى في
الجيوش وفي الحرب توضع الخطط من أسلحة مختلفة، لتستولي على الأماكن.
و { اعْمَلُواْ عَلَىا مَكَانَتِكُمْ } هو قول موجه إلى الجماعة الذين عارضوا
النبوة ووقفوا منها هذه المواقف، فيقول لهم الحق تهديدا لهم وتيئيسا من أنهم لن
يصلوا إلى النيل من رسول الله: اعملوا على قدر استطاعتكم من التمكن، أو أثبتوا على
ما أنتم عليه من الخلاف والمناهضة، لماذا؟؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عامل أيضاً:
فلن يكون ثباتكم مانعاً لي من العمل؛ أنتم تعملون وأنا أعمل، أنتم تعملون على
طاقاتكم، وأنا أعمل على طاقاتي الإِيمانية ومدد ربي الأعلى من الطاقة. { قُلْ
يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَىا مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }
[الأنعام: 135]
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } و " له "
تعطي دلالة إلى أن الإِيمان ستكون عاقبة الدار لصالحه؛ لأن الآخرين لن تكون لهم بل
عليهم، وساعة ترى " اللام " اعرف أن الأمر لهم لا عليهم. فكأن الظالمين
إن تنلهم عاقبة فهي ليست لهم، وإنما عاقبتهم عليهم، ولن يفلح الظالمون.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ.. }
(/913)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
وهنا رجوع إلى كلام عن الذين يناهضون منهج الله.
و " ذرأ " أي خلق، وبث، وبشر، والحرث يراد به الزرع، وسمى الزرع حرثاً؛
لأنه يأتي بالحرث، و " الأنعام " وهي تتمثل في ثمانية أزواج في آية تأتي
بعد ذلك، وهي الأبل، والبقر، والضأن والمعز.
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً } أي
مما خلق، وهم قد حرثوا فقط؛ لأن الذي يزرع هو الله، فسبحانه الذي أعطى للبذرة
قوتها لتربي لها جذراً، وتمتص عناصر الغذاء من الأرض، وهو الذي جاء بعناصر الأرض
كلها، وهو الذي جعل البذرة تتوجه إلى العناصر الصالحة لها، وتترك غير صالح بقانون
{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىا * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىا }. والذي صنعه الله الحرث
وفي الأنعام تتخيلون أنكم تتصرفون فيه على رغم أنه هو الذي ذرأ وخلق. إنه - سبحانه
- هو المتصرف.
هم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا: هذا لله " بزعمهم
" وهذا لشركائنا، أي جاءوا بالحرث وقسموه قسمين. وقالوا: هذا لله، وهذا
للأصنام. وكذلك قسموا الأنعام وجعلوا منها قسماً لله، وقسماً لهم، ألم يكن من
العدل أن يقسم الذي خلق بدلاً من هذا الزعم منكم لأنكم أخذتم غير حقكم، وياليتكم
أنصفتم فنرضى بقسمتكم فيذهب القسم الذي لله للصدقات على الفقراء، والذي للشركاء
يذهب للأصنام وللسدنة الحجاب عليها والخادمين والذين يضربون لكم الأقداح، ويا
ليتكم عرفتم العدل في القسمة بل أن ما صنعتموه هي قسمة ضيزى جائرة وظالمة، لماذا؟.
تأتي الإجابة من الحق: { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىا اللَّهِ
وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىا شُرَكَآئِهِمْ.. } [الأنعام: 136]
أنتم قسمتم وقلتم: هذا لله وهذا لشركائنا. فاصدقوا مع أنفسكم في هذه النسبة، لكنهم
كانوا يسرقون حق الله، وكان لهم في الهلاك تقسيم معين، وفي الزيادة لهم تقسيم آخر.
فإذا ما جاءت آفة للزرع وأهلكته أخذوا ما خصصوه لله وأعطوه للشركاء وقالوا: إن
ربنا غني! وبرغم أنكم قسمتم ولكنكم لم توفوا بالقسمة التي فرضتموها ورضيتم بها.
وكذلك في الأنعام يقدرون عدداً من الأنعام ويقولون: هذه لله، وتلك للشركاء، فإن
ماتت بهيمة من النذور لله لم يعوضوها، وإن ماتت بهيمة منذورة للأصنام يعوضونها
ويأخذوا بدلاً منها من القسم الذي نذروه لله. وأيضاًَ لنفترض أن عيناً جارية ساحت
فيها المياه لتروي الزرع المقسوم لله، فيأخذوا منها للأرض المزروعة للأصنام. إذن
هي قسمة ضيزى من البداية، وليتهم وفوا بهذه القسمة، وهكذا ساء حكمهم وفسد.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ.. }
(/914)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
وأيضاً نقلوا تلك القسمة الضيزى إلى ما يتعلق بذواتهم في الإنجاب والإنسال؛
فشركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم، و " التزيين " هو إدخال عنصر التحسين
على التزيين أمراً عرضياً طارئاً، ووجه التزيين أنهم كانوا إما أغنياء، وإما
فقراء، فإن كانوا فقراء يقل الواحد منهم لماذا أجلب لنفسي هِّما على همّ، وإن
كانوا أغنياء يقل الواحد منهم: إن الأبناء سيأخذون منك ويفقرونك. إذن ففيه أمران:
إما فقر موجود بالفعل، وإما فقر مخوَّف منه، ولذلك تجد الآيات التي تعرضت لهذا
المعنى، تأتي على أسلوبين اثنين؛ فالعَجُز مختلف باختلاف الصدر، والذين يحبون أن
يستدركوا على أساليب القرآن لأنه مرة يقول:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ
خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... }[الإسراء: 31]
ومرة ثانية يقول:{ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... }[الأنعام: 151]
فما الفرق بين العبارتين؟
ونقول لمثل هذا القائل: أنت تقارن بين التذييل { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ } ، و { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم }. هذا تذييل لآية، وهذه
تذييل لآية ثانية. هات ذيل الآية مع صدرها نجد أن ذيل كل آية مناسب لصدرها. ومادام
قد اختلف في الصدر فلابد أن يختلف في الختام، ففي الآية الأولى يقول الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } فالإملاق وهو الفقر واقع
موجود. إذن فشغل الإنسان برزقه أولى من شغله برزق من يعوله من الأولاد، فيقول الحق
لهؤلاء:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ... }[الأنعام: 151]
فالإملاق موجود، وشغلهم برزق أنفسهم يملأ نفوسهم. لذلك يقول لهم: { نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ } فيطمئنهم سبحانه نحن نرزقكم ثم نرزقهم. أما إن كان الإملاق غير
موجود فالحق يقول:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... }[الإسراء: 31]
أي لا تقتلوا أولادكم خوفاً من فقر، فأنتم تملكون رزقكم، وحين يأتي الأولاد نرزقهم
ونرزقكم معهم. وهكذا نرى أن الصدر مختلف في الآيتين، وكذلك العجز، والشركاء كانوا
يزينون قتل الأولاد، وهذه مسألة تحتاج إلى تزيين قاس؛ لأن حب الأبناء غريزة في النفس
البشرية، والنفس تحب أن يكون لها ذرية؛ لأن الإنسان يفهم أنه مهما طال عمره فسوف
يموت فيحب أن يظل اسمه في الأجيال المتتابعة. ونجد الإنسان وهو ممتلئ بالسعادة حين
يأتيه حفيد، ويقول: لقد ضمنت ذكري لجيلين قادمين، وينسى أن الذكر الحقيقي هو الذي
يقدمه الإنسان من عمل، لا ذكرى الأبناء وحب امتداد الذات. وقتل الأبناء يحتاج إلى
تزيين شديد، كأن يقال: إن أنجبت أبناء فسيفقرونك ويذلونك، فأنتم أمة غارات وأمة
حروب وكل يوم يدخلك أبناؤك في قتال ونزال فتكون بين فقد لأبنائك أو انتهاب لمالك،
وإن كانوا بنات فسيتم سبيهن من بعدك، وهكذا تكون المبالغة في الإغراء لعملية تناقض
الفطرة السليمة في امتداد النسل. { وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ
الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ.
. { [الأنعام: 137]
و } لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ { تفيد أن بعضهم كان يرفض قتل الأولاد، و
" يردوهم " من الردى، وهو الهلاك، والموت. } ولِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ
دِينَهُمْ.. { [الأنعام: 137]
أي يخلطوا عليهم الدين، فهل كان عندهم دين؟, لقد ورث هؤلاء من أمر قيم الدين ما
كان سابقاً وهو ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى مالوا وزالوا عنه
إلى الشرك، إنهم زينوا لهم أعمالا ليوردوهم موارد الهلكة. وحاولوا أن يخلطوا عليهم
ما بقي لهم من دين. }... وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا
يَفْتَرُونَ { [الأنعام: 137]
لأن وأد الأولاد وقتلهم إنما ينافي فكرة خلق الله، فهل يخلق الله لتقتل أنت؟!
كأنهم يصادمون إرادة الإِيجاد من الحق سبحانه وتعالى، لكنّه- سبحانه- لو شاء ما
فعلوا ذلك، فهو قد أعطاهم الاختيار، ومن باب الاختيار ينفذون إلى كل مراد لهم، ولو
لم يخلق الله فيهم اختياراً ما فعلوا ذلك؛ لأنه لو أراد ألا يضلوا لما فعلوا، وقد
أراد الله أن يوجد خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم الملائكة.
إذن فهذه المسألة ليست عزيزة على الله، وسبحانه ساعة يقهر على مراد له، إنما يكون
ذلك لمصلحة المخلوق، وساعة يتركه مختاراً فمن إمداد الخالق له بالاختيار ولا يفعل
المختار شيئاً غصباً عن الله؛ لأن الألوهية تقتضي أمرين اثنين: تقتضي قدرة تتجلى
في الأشياء القهرية التي لا يستطيع العباد أن يقفوا أمامها، والإِنسان هو الكائن
الوحيد الذي له حق الاختيار بين البديلات في مراداته، أما بقية الكون فسائر بقانون
التسخير وليس له اختيار.
والكائنات المسخرة أثبتت لله طلاقة القدرة، ولكنها لا تثبت لله محبوبية المخلوق؛
لأن المحبوبية تنشأ من أنك تكون حرًّا في أن تفعل، ولكنك تؤثر فعلاً مراد لله على
مرادك. } وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {.
و " الافتراء " هو الاختلاق والكذب المتعمد، وهم مفترون، لأنهم أرادوا
أن يغيروا صدق الواقع في الإِنجاب، فقد خلق الله الزوجين- الذكر والأنثى- من أجل
الإِنجاب.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: } وَقَالُواْ هَـاذِهِ أَنْعَامٌ... {
(/915)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
وهذا تمادٍ في الشرك؛ لأنهم قسموا الحيوانات والحرث وحجزوا قسماً للأصنام، وهذه
الأنعام المرصودة للأصنام لا يتصرف فيها أحد، فلا يؤخذ لبنها ولا يستخدمها أحد
كمطايا، ولا يتعدى نفعها للناس. ولم يتنبهوا إلى أن هذه الأنعام نعمة من الله،
ولابد من الانتفاع بها، وليس من حسن التعقل أن تترك حيواناً تستطيع أن تستفيد من
تسخيره لك ولا تفعل، هم قد فعلوا ذلك وحكى الحق عنهم فقال: { وَقَالُواْ هَـاذِهِ
أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ.. }
[الأنعام: 138]
أي هي أنعام محرم استخدامها، وحرموا أيضاً ركوبها. { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ
ظُهُورُهَا.. } [الأنعام: 138]
وتمادوا في الكفر فذكروا أسماء الأصنام عليها: { وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ.. } [الأنعام: 138]
وهذا لون من الافتراءات قد فعلوه ونسبوه إلى أنه متلقَّى من الله، ومأمور به منه-
سبحانه- ولو قالوا: إن هذه الأمور من عندهم لكان وقع الافتراء أقل حدة، لكنه
افتراء شديد لأنهم جاءوا بهذه الأشياء ونسبوها إلى الله، وهم قد انحلوا عن الدين
وقالوا على بعض من سلوكهم إنه من الدين، ولذلك يجازيهم الله بما افتروا مصداقاً
لقوله: { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [الأنعام: 138]
ويقول الحق بعد ذلك: { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ.. }
(/916)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
ويقودهم الباطل إلى باطل آخر فادعوا أن ما في بطون هذه الأنعام من اللبن ومن
الأجنة إذا نزلت حيّة فهي للذكور منهم فقط، ولا تأكل النساء من ذلك شيئاً، وإن مات
منها شيء أكله الرجال والنساء وهذا يدل على التشقيق في القسمة.
ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: {..سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ
عَلِيمٌ } [الأنعام: 139]
أي سيجزيهم على كذبهم وافترائهم بما يليق عقاباً للكاذبين؛ لأنه- سبحانه- (حكيم)
في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره (عليم) بما يفعلونه من خير وشر، وإنه سيجازيهم على
ما فعلوه أتم الجزاء وأكمله.
ويقول الحق من بعد ذلك: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ... }
(/917)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
وجْه الخسران أنهم لم يلتفتوا إلى أن الله يرزقهم ويرزق أبناءهم أيضاً، ولعلك أيها
الأب قتلت ولداً، كنت ستعيش أنت في رحاب رزقه، وكثيراً ما يكون البعض من الأولاد
صاحب رزق وفير، ويقال عن مثل هذا الابن: إن وجهه وجه الخير والسعد والبركة، فمن
يوم أن وُلد ولد معه الخير، وذلك حتى لا يتأبى الإنسان على عطاء الله؛ لأنك حين
تتأبى على عطاء الله تحرم نفسك العطاء فيما تظنه غير عطاء، وهذا خسران كبير.
إننا نلحظ أن العرب كانوا في بيئة تستجيب وتلبي الصريخ، فساعد يصرخ من في شدة نزلت
به واستنجد، يجد من ينقذه، والأولى بالنجدة أهل الرجل وأولاده. والمثال على ذلك ما
حدث من جد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذهب ليحفر البئر، وجاءت قريش ووقفت
له حتى لا يحفر. فقال: لو أن لي عشرة أبناء سأضحي بواحد منهم. إذن فكثرة الأولاد
في هذه المسائل تعطي العزوة وتكثر الصريخ، ولا يفعل ذلك إلا المفطور على النجدة.
وإن قتلت ابناً خوفاً من الفقر فقد تخسر رزقاً قد يكون في طي من تقتل من الذرية،
وفوق ذلك تفقد مباهج الشأن أو العزوة أو الآل. أو على الأقل أنهم قد خسروا الا
أنهم عاكسوا مرادات الله في الإيجاد بالإنجاب. { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ
أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ.. } [الأنعام: 140]
و { سَفَهاً } تعني طيشاً، وحمقاً، وجهلاً. {..وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ
اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }
[الأنعام: 140]
وهم حين يحرمون على أنفسهم ما رزقهم الله من الأنعام، فهم أهل حمق وضلال وخسران
فلو تركوها لانتفعوا منها في حمل أثقالهم أو فيما تدره من لبن، أو في أكل لحمها.
إنهم بحمقهم وجهلهم قد خسروا كثيراً، وهم مع ذلك فعلوا ما فعلوا بكذب متعمد على
الله، وهم قد ضلوا ولم يكونوا أهلاً للهداية، وكان يكفي أن يصفهم بقوله: { قَدْ
ضَلُّواْ }؛ لكنه أضاف: { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } لأن الضلال هو عدم الذهاب
إلى المقصد الموصل للغاية، وقد يكون ذلك عن جهل بالطريق، لكن الحق سبحانه رسم لهم
طريق الحق فآثروا الذهاب إلى الضلال مع وجود طريق الحق.
ويقول سبحانه بعد ذلك: { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ.. }
(/918)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
وقول الحق: { أَنشَأَ } أي أوجد على إبداع لم يسبق له مثيل فلم يكن هناك نماذج
توضيحية تدل الله سبحانه، وإنما ابتدأها على غير مثال سابق؛ لأنه لا يوجد خالق
سواه. والخالق إذا لم يكن هناك سواه من شريك أو ندٍ فإنه حين يخلق إنما ينشىء
خلقاً على غير نظام أو مثالٍ كان قد سبقه.
وكلمة { جَنَّاتٍ } تؤدي ما نعرفه من المكان المحدد الذي يجمع صنوف الزروع والثمار
مما نقتات، ومما نتفكه به، وتسمى جَنَّة وتسمى جَنَّات؛ لأن المادة كلها تدل على
الستر وعلى التغطية، ومنه الجُنون لأن فيه ستراً للعقل، ومنها الجنِّ لأنهم
مستورون عن رؤية العين، وكذلك " المِجَنّ " لأنه الذي يستر عن الإِنسان
طعنات الخصم.
والجَنَّة هي المكان الممتلئ بالزرع والثمار وتعلو الأشجار فيه وتكثف وتلتف
أغصانها وفروعها بحيث تستر من يكون بداخلها وتستره أيضاً عن بقية الأمكنة؛ لأنه لا
حاجة له إلى الأمكنة الأخرى؛ ففي الجنة كل مقومات الحياة من غذاء وفاكهة ومرعى،
وماء وخضرة ومتعة، وفيها كل شيء. كما تسمى البيت العظيم المكتمل الذي يضم ويشتمل
على كل المرافق " قصراً " لأنَّه قَصَرَك على أي مكان سواه؛ لأن فيه
الأشياء التي تحتاج إليها كلها، فلا تحتاج إلى شيء بعده. { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ
جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ.. } [الأنعام: 141]
ومادة العرش تدل على العلو، ومنه قيل للسقف " عرش " ويطلق العرش أيضاًَ
على السرير؛ مثل قوله الحق " { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ }.
ويطلق العرش على الملك مثل قوله الحق: { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }.
كل ذلك يدل على " العلو " وقوله الحق هنا: { مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ
مَعْرُوشَاتٍ } ، أي أن الزرع من نوع العنب، حين نعني به نجعل له القوائم والقواعد
التي يقوم عليها؛ لأن امتداد أغصانه اللينة لا تنهض أن تقوم وحدها، ولكن هناك نوع
أيضاً يقوم وحده نسميه العنب الأرضي، وكأن الكلام فيما يختص بالكَرْم. أي: أنك إذا
ما نظرت إلى الزرع الذي لا ساق له كالبطيخ، والشمام، وكالكوسة، وكل الزروع التي
ليس لها ساق تجدها مفروشة في الأرض أي غير قائمة على قواعد وقوائم وعروش. وإن كنا
الآن نحاول أن نرفعها لنعطي لها قوة الإنتاج. والكلام جاء على ما كان موجوداً عند
العرب أيام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ
مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ }. والزرع يطلق
ويراد به ما نقتات به من الحبوب.
{ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ
مُتَشَابِهٍ.. } [الأنعام: 141 }
وحين ننظر إلى هذه الآية نجد أنه قد سبقتها آية فيها كل هذه المعاني يقول سبحانه:{
وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ
شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً
وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِىا
ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ }
[الأنعام: 99]
وبعض الناس يحاولون نقد القرآن فيقولون: إنه يكرر المعاني الواحدة؛ لأنهم لا
يمتلكون فطنة أن المتكلم هو الله، وسبحانه يتكلم في كل شيء لأمر حكيم، فهو هنا
يتكلم عن هذه الأشياء كدليل على الخالق ووحدانيته بدليل أنه ذيل الآية بقوله: }
إِنَّ فِي ذالِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { ، ولكن الكلام في الآية التي
نحن بصدد خواطرنا عنها قد جاء بقصد الحديث عن الانتفاع بها فيقول: } كُلُواْ مِن
ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ... { [الأنعام: 141]
ولا شك أن استقامة العقيدة بالإيمان بالإِله الواحد تحتاج إلى الدليل أولاً؛ لأن
فائدتها أشمل، وأعم، وأعمق، وأخلد من الأكل، لأن الأكل قصارى ما فيه أنه يقوتنا
هذه الحياة، ولكن الأدلة الأولى تعطينا الثواب الباقي والنعيم المقيم؛ لذلك فالآية
الأولى متعلقة بالدليل، وهذه الآية متعلقة بالانتفاع، وهنا نلاحظ أنه قال: }
كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ { ، وفي هذه إباحة لتناول الأشياء منه قبل أن
تنضج دون أن يترتب على ذلك لون من الضرر وإلا عالجناها بما يزيل وينفي عنا الضرر،
فإذا ما وجدت ثماراً لم تنضج لك أن تأكل منها، ولم يجعل الحق لنا حرجاً فيما نحرث
ونبذر ونروي ولكن الله سبحانه هو الذي يزرع ونحن نأكل منه، ونجد أهل الريف يشوون
الذرة قبل أن تنضج ويقول سبحانه: } وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ {.
لقد قالوا إن الآية مختصة بما يُحصَد وهي الزروع، أما الأشياء التي لا يقال فيها:
حصد فهي خارجة عن ذلك مثل الفواكه، لكن الإِمام أبا حنيفة يرفض ذلك ويرى: أن كل ما
تنبته الأرض ينطبق عليه هذا النص؛ لأنه لا يصح أن تأخذ معنى الحصاد على العرف،
ولكن بفهم اللغة.
ما معنى الحصاد في اللغة؟. الحصاد في اللغة القطع، فحينما تفصل الثمرة المطلوبة
فهذا هو الحصاد. ولكن يوم الحصاد للحبوب؛ تكون الغلال في السنابل، ويرى الإِمام
أبو حنيفة أن تعطي من البداية لمن حضر القسمة، وكذلك حينما تدرسه وتذريه تعطي،
وعندما تغربل الحبوب أعط أيضاً، ويبتدئ الحصاد من ساعة أن تُكيل، وما تقدم غير
محسوب، ما تأتيه من الحق يوم حصاده هو غير المفروض؛ لأنه لم يقل الحق المعلوم، وفي
هذا اتساع لدائرة امتداد الخير إلى غير الزارعين. }... وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ { [الأنعام: 141]
والإسراف هو مجاوزة الحد، والبعض قد فسّر الإِسراف بالزيادة فقط، ولكن الحقيقة أن
أي تجاوز للحد زيادة أو نقصاً يسمى إسرافا؛ لأنه مأخوذ من " سرف الماء "
، وهو أن يُطلق الماء ويذهب في غير نفعٍ، وسيدنا مجاهد يقول: لو أن للإِنسان مثل
جبل أبي قبيس ذهباً ثم أنفقه في حلّ ما عُدَّ سرفاً، ولو صرف درهماً واحداً في
معصية يعد سرفاً.
إذن فمعنى: " ولا تسرفوا " أمران اثنان بمعنى لا تتجاوزوا الحدود التي
شرعها الحق فتستعملوا هذا في معصية، أو لا تسوفوا في أن تعطوا للفقير أقل مما
يستحق.
وكان حاتم الطائي كريماً جداً، وقعدوا يلومونه على هذا الكرم، فقال واحد له: لا
خير في السرف. رد عليه فقال له: ولا سرف في الخير. أي أنه مادام في الخير فلا يكون
سرفاً.
وإذا كنا سنأخذ الأمر على المعنيين الاثنين: النقص والزيادة، فما المانع أن نعطي
للفقير أكثر؟. ويحكي الأثر أن أناساً قد تأخذهم الأريحية والنشاط للبذل والعطاء
ساعة يرون كثرة غلتهم، وما أفاء الله عليهم من ريع أرضهم. إنهم يعطون الكثير مثلما
عمل ثابت بن قيس، وكان عنده خمسون نخلة وجزها وأعطاها كلها للفقراء، ولم يترك
لأولاده شيئاً. فلما رُفِع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أعط
ولا تسرف، لماذا؟ مخافة أن تحتاج بعد ذلك إلى ما أعطيت فتندم على أنك أعطيت.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً.. {
(/919)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
وبعد أن تكلم سبحانه عن نعمه علينا في الزراعة ونعمه علينا في الماشية قال: {
وَمِنَ الأَنْعَامِ } وهي الإبل والبقر والغنم، { حَمُولَةً } والحمولة هي التي
تحمل، فيقال: " فلان حَمول " أي يتحمل كثيراً. والحق يقول:{ وَتَحْمِلُ
أَثْقَالَكُمْ إِلَىا بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ
الأَنفُسِ... }[النحل: 7]
والذي تحمله فوق ظهرها يسمى " حُمُولة ". ولذلك نقول عن السيارة التي
تنتقل " حمولة كذا طن ". " ومن الأنعام حمولة وفرشاً ".
والإبل نحمل عليها الرحال، وكل متطلباتنا، و " فرشا " معناها: مقابل
الحمولة. فالحمولة هي المشتدة التي تقوى على أن تحمل. وكل ما لا يستطيع الحمل
لصغره، أو لأنه لم يعد لذلك، إذا ما نظرت إليه نظرة سطحية تجده وكأنه فارش للأرض.
أو " ومن الأنعام حمولة "؛ وهي التي تحمل متاعكم إلى بلد لم تكونوا
بالغيه إلا بشق الأنفس. " وفرشا " أي ومن ما تتخذون منه فرشاً بأن ننسج
من وبره وصوفه وشعره ما نفرشه. { وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ
مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [الأنعام: 142]
وفي الحديث عن الأنعام، جاء بالحمولة والفرش ويأتي أيضاً بسيرة الأكل؛ لأننا نأكل
لحمها وألبانها ومشتقات الألبان كلها، وهكذا تتعدد المنافع، فهي تحملنا ونأخذ من
أصوافها وأوبارها وشعورها الفرش، والوبر وهو شعر الجمال، والصوف وهو شعر الغنم،
وشعر الماعز يتميز بلمعة وانفصالية بين شعيراته.
ونلحظ أنه سبحانه قال في الآية الأولى: " كلوا " وفي الثانية: "
كلوا "؛ لأن ذلك جاء بعد الكلام عما حرموه على أنفسهم من أرزاق الله في
الأرض. فكان ولابد أن يؤكد هذا المعنى، ويوضح: إن الذي خلق هو الله، والذي كلف هو
الله، فلا تأخذوا تحليلاً لشيء ولا تحريماً لشيء إلا ممن خلق وممن كلف.
{... كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }.
الشيطان هو الذي يوسوس لهم بالمخالفة لمنهج الله، وعداوة الشيطان ظاهرة. فإذا
ماكنت العداوة سابقة، فقد أنزل آدم وحواء من رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية وجرأهما
على المخالفة فخرجا من الجنة، كان من الواجب أن نحتاطُ في قبول هذه الوسوسة.
ثم يفصل الحق لنا الأنعام التي نتخذها حمولة، أو نأخذ منها فرشاً فقال: {
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ.. }
(/920)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
وكلمة { أَزْوَاجٍ } ، جمع زوج، و " الزوج " يطلق على الشيء معه ما
يقارنه مثل " زوج النعل " ، ونحن في أعرافنا نأخذها على الاثنين، لكنها
في الأصل تطلق على الواحد ومعه ما يقارنه، إلا أنه إذا لم يكن هناك فارق بين
الاثنين بحيث لا يتم الانتفاع بأحدهما إلا مع الآخر ولكن لا تميز لأحدهما على
الآخر كالجورب مثلا، ففي مثل هذا نستسمح اللغة في أن نسمي الاثنين زوجا، لكن إذا
كان هناك خلاف بين الاثنين لا نقول على الاثنين: زوج.
والذكر والأنثى من البشر، صحيح أنهما يقترنان في أن كل واحد منهما إنسان، لكن
للذكر مهمة وللأنثى مهمة مختلفة. أما الجوارب فكل " فردة " منها نضعها
في أي قدم لأنه فارق بينهما، إذن كلمة " زوج " تطلق ويراد بها الشيء
الواحد الذي معه ما يقارنه. والحق يقول:{ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ...
}[البقرة: 35]
وكلمة " زوج " هنا أطلقت على حواء؛ فآدم زوج وحواء زوج، والحق هو
القائل:{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا }[النجم: 45]
ولم يقل عن الاثنين: إنهما " زوج " و إلا لقال: خلق الزوج الذكر
والأنثى. إذن فكلمة " زوج " تطلق على واحد معه ما يقارنه، مثلها كمثل
كلمة " توأم " وهي لا تقال للاثنين، بل تقال لواحد معه آخر. لكن الاثنين
يقال لهما: توأمان. { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ
الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } [الأنعام: 143]
و " من الضأن اثنين " أي ذكرها وأنثاها فتسمى الذكر كبشا والأنثى "
نعجة ". ومن المعز اثنين، والذكر نسميه " تيساً " ، والأنثى نسميها
" عنزة " ، وبذلك يكون معنا أربعة، ومن هنا نفهم أن الزوج مدلوله فرد
ومعه ما يقارنه.
{... قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
[الأنعام: 143]
ومادمتم أنتم تحرمون وتحللون، وتقولون: إن هذا من عند الله فقولوا لنا أحرّم
الذكرين أم حرّم الأنثيين؟ ولا يجدون جواباً؛ لأنه سبحانه لا حرّم هذا ولا حرّم
ذاك، ولذلك أبرزت المسألة إبراز الاستفهام، والشيء إذا أبرز الاستفهام فمعناه أنه
أمر مقرر بحيث إذا سألت الخصم لا يقول إلا ما تتوقعه، واسمه السؤال أو الاستفهام
التقريري. ويقول الحق: { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي
أخبروني بعلم ذلك في التحريم إن كنتم أهل صدق؛ لأنكم لستم أهلاً للتحريم، إنما
يحرم ويحلل من خلق وشرع. فإن كان عندكم علم قولوا لنا هذا العلم.
ثم يأتي الحق بخبر الأربعة الباقية من الأنعام فيقول: { وَمِنَ الإِبْلِ
اثْنَيْنِ... }
(/921)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
ومن البقر اثنين: ذكر وأنثى أيضاً، والذكر من البقر نسميه ثوراً، ويخطئ بعض الناس
في تسمية الأنثى من البقر " بقرة " ، إن البقرة اسم لكل واحد منهما:
للذكر والأنثى، والتاء في بقرة للواحدة، واسم الأنثى " ثورة " { وَمِنَ
الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الأُنْثَيَيْنِ } أنتم تقولون: إنكم لم تتبعوا رسولاً، وكنتم على فترةٍ من الرُّسل،
ولم يأت لكم رسول، إذن فلا تحريم إلا من الله، ولا يبلغكم تحريم الله إلا عن طريق
رسول. بل أكنتم شهداء مسألة التحريم، أي أشاهدتم ربكم ورأيتموه حين أمركم بهذا
التحريم، أم أنتم الأنبياء؟. إنكم تتعمدون الكذب على الله لإِضلال الناس. إذن،
فالحق لا يهدي من يظلم نفسه ويظلم الناس.
ويقول سبحانه بعد ذلك: { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً.. }
(/922)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
والحق سبحانه وتعالى قد تكلم عن التحريم في آيات كثيرة؛ فهناك الآية التي قال
فيها:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ
وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ... }[المائدة: 3]
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحصر في أربعة فقط، فيقول سبحانه:
{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىا طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ
إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ
فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.. } [الأنعام: 145]
فكيف يتفق هذا النص مع النص الآخر؟!
من يقول ذلك نقول له: أنت لا تفرق بين إيجاز وإطناب، ولا تفرق بين إجمال وتفصيل؛
فالذي تُرِك في هذه الآية داخل في الميتة؛ لأن المنخقة والمتردية والنطيحة وما أكل
السبع، والذي ذُبح على النصب وما أهلّ به لغير الله موجود وداخل في كلمة "
الميتة ".
ثم: من قال: إن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع؟ التشريع أيضاً لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، بتفويض من الله في قوله تعالى:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ... }[الحشر: 7]
فلا تقل إن المحرمات فقط محصورة في هذه الآية لأن فيه محرمات كثيرة، بدليل أن الله
مرّة يُجْملها، فيحرّم علينا الخبائث؛ فكل خبيث مُحرّم. وقلنا من قبل: إن الدم
المسفوح مُحرّم، والدم المسفوح هو السائل الذي ينهال ويجري وينصب ساعة الذبح، وهل
هناك دم غير مسفوح؟ نعم، وهو الدم الذي بلغ من قوة تماسكه أن كون عضواً في الجسم
كالكبد أو الطحال. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أحلت لنا ميتتان
ودمان: فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال " وفي
رواية أخرى: السمك والجراد.
وعلى منطق التحريم للميتة والدم كان لابد ألا نأكل الميتة من السمك. ولا الكبد
والطحال، ولكن الله أحل السمك والجراد والكبد والطحال لأنها لا تضر الجسم، فالسمك
والجراد ليس لهما نفسٌ سائلة أي دم يجري؛ فإذا ما ذبحنا أحدهما لا يسيل له دم، أما
الكبد والطحال فهما من دم وصل من الصلاحية أنه يكوّن عضواً في الجسم، ولا يتكوّن
عضو في الجسم يؤدي مهمة من دم فاسد، بل لا بد أن يكون من دمٍ نقي.
والحق الذي شرّع يقدر الظروف المواتية للمكلَّفين، وقد تمر بهم ظروف وحالات لا
يجدون فيها إلا الميتة، وهنا يأكلون أكل ضرورة على قدر دفع الضر والجوع. لكن على
المسلم ألا يملأ بطنه من تلك الأشياء. {.. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ
عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام: 145]
وأنواع الإضطرار: ألا تجد ما يؤكل من الحلال، أو أن يكون ما يؤكل من الحلال
موجوداً إلا أن هناك من يكرهك على أن تأكل هذا المحرم، فالإكراه داخل في الاضطرار،
والاضطرار يحملك ويدفعك إلى أن تمنع عن نفسك الهلاك؛ فتأخذ من طعام حتى تقتات فلا
تموت من الجوع، فإذا كان الله قد أباح لك أن تأكل من الميتة في حال مظنة أن تموت
من الجوع فمالك من الإِكراه بالموت العاجل؛ إنه أولى بذلك؛ لأنه سبحانه هو الذي
رخّص، وهو الذي شرع الرخصة، ومعنى ذلك أنها دخلت التكليف؛ لأن الله يحب أن تؤتى
رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه، ومادامت قد دخلت في دائرة التكليف فهنا يكون الغفران
والرحمة.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ.. {
(/923)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
هنا يأتي الحق بالتحريم الثاني، وهو التحريم للتهذيب والتأديب، مثلما قال من قبل:{
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ
لَهُمْ... }[النساء: 160]
فـ " الظُفُر " هو ما يظهر عندما ننظر إلى أقدام بعض الحيوانات أو
الطيور، فهناك حيوانات نجد تشقق إصبعها ظاهراً والأصابع مفصلة ومنفرجة بعضها عن
بعض، فهذه ليست حراما عليهم، ونوع آخر نجد أصابعها غير مفصولة وغير منفرجة مثل
الإبل، والنعام، والبط، والأوز وهي ذو الظفر. فكل ذي ظُفُر حرم على اليهود، وقد
حرم عليهم لا لخبث وضرر في المأكول، ولكن تأديبا لهم لأنهم ظلموا في أخذ غير
حقوقهم؛ لذلك يحرمهم الله من بعض ما كان حلالا لهم؛ فالأب يعاقب ابنه الذي أخذ
حاجة أخيه اعتداء؛ فيمنع عنه المصروف، والمصروف في ذاته ليس حراماً، ولكن المنع
هنا للتأديب. والحق هو القائل:{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ... }[النساء: 160-161]
ولأنهم فعلوا كل ذلك يأتي لهم التحريم عقاباً وتأديباً { وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ }
[الأنعام: 146]
وأنت حينما تذبح الذبيحة تجد بعضاً من الدهن على الكلى، ونجد في داخلها ما يسمونه
" منديل الدهن " وكذلك " ألية الخروف " ، وحين تقطع الرأس تجد
فيها نوعاً من الدهون، وقد حرّم الحق عليهم في البقر والغنم شحومهما. وكذلك {
كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } محرم كله. وهناك استثناء في البقر والغنم هو: { إِلاَّ مَا
حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ }.
أي أحل لهم ما هو فوق الظهر من الشحم، وأحل لهم ما حملته الحوايا من الشحوم و
" الحوايا " جمع حوية أو حاوية أو حاوياء أو حاوياء وهي ما تحوّي من
الأمعاء أي تجمع واستدار، وفي الريف تقول المرأة عن قطعة القماش التي تبرمها
وتلفها وتصنع منها دائرة مستديرة تضعها على رأسها لتحميه عندما تحمل فوقه الأشياء؛
تقول: صنعت " حواية " والحواية هنا هي الأمعاء الغليظة، وطولها كذا متر،
ومن حكمة تكوينها الربانية نجدها تلتف على بعضها، ولذلك اسمها " الحوايا
" ، وهي ما نسميه " الممبار ". وكذلك حلل لهم ما اختلط بعظم في
القوائم والجنب والرأس والعين، وكذلك أحل لهم شحما اختلط بعظم منه الألية، لأن
الألية تمسك بعَجْب الذنب. أي أصله، وهو الجُزَيْء في أصل الذّنب عند رأس
العُصْعُص. ولأنه رحيم فهو ينزل عقوبة فيها الرحمة فيبيح له شيئا ويحرم شيئا آخر.
ويذيل الحق الآية بقوله: } ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا
لَصَادِقُونَ {.
وليس هذا التحريم تعدًّيا عليهم، أو تعنتاً في معاملتهم، بل لأنهم بَغَوْا،
والباغي يجب أن يأخذ حظه من الجزاء؛ حتى يفكر ماذا يحقق له البغي من النفع، وماذا
يمنع عنه من النفع أيضاً، وحين يقارن بين الاثنين قد يعدل عن بغيه، وهم قد صدّوا
عن سبيل الله، وأخذوا ربا لينمّوا أموالهم وأكلوا أموال الناس بالباطل، لذلك حرّم
عليهم الحق بعض الحلال. وسبحانه صادق في كل بلاغ عنه، ونعرف بذلك أن علة التحريم
لبعض الحلال كانت بسبب ظلمهم وما بدر منهم من المعاصي فكان التحريم عقوبة لهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ... {
(/924)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
وكان مقتضى أنهم يكذبونك فيما أخبرت به عن الله، أن يجعل الله لهم بالعذاب؛ لكن
الحق لم يعجل لهم بالعذاب لأنه ذو رحمة واسعة. { فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ
وَاسِعَةٍ } [الأنعام: 147]
ولكن إياكم أن تطمعوا في الرحمة الدائمة؛ إنها تأجيل فقط. ولن يفوتكم عذابه، وهنا
يحننهم ايضاً فيقول سبحانه: { رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } وكأنه يقول
لهم: راجعوا أنفسكم واستحوا من الله ولا يغرنّكم انه ربّ، خلق من عَدَم وأمدَّ من
عُدْم، وتولّى التربية، لكنه لن يرد ويمنع بأسه وعذابه عن القوم المجرمين منكم.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ... }
(/925)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
وكلمة تقرأ آية فيها " سيقول " فاعلم أنها تنطوي على سرّ إعجازي للقرآن،
والذي يعطي هذا السرّ هو الخصم حتى تعرف كيف يؤدي عدوّ الله الدليل على صدق الله،
مما يدل على أنه في غفلة. ومن قبل قال الحق سبحانه:{ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ
النَّاسِ }[البقرة: 142]
و " سيقول " معناها أنهم لم يقولوا الآن، ويخبر القرآن أنهم سيقولون،
ولم يخبئ ويستر القرآن هذه الآية، بل قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآناً
يُقرأ ويُصلى به. ولو أن عندهم شيئاً من الفكر لكانوا يسترون القول حتى يُظهروا
المتكلم بالقرآن بمظهر أنه لا يقول الكلام الصحيح، أو على الأقل يقولون إنه يقول:
" سيقول السفهاء " ، ونحن لسنا بسفهاء فلا نقول هذا القول. لكنهم يقولون
القول السفيه برغم أن الآية قد سبقتهم بالتنبؤ بما سوف يقولون؛ لأن الذي أخبر هو
الله، ولا يمكن أن يجيء احتياط من خلق الله ليستدرك به على صدق الله. هم سمعوا
الكلمة، ومع ذلك لم يسكتوا بل سبقتهم ألسنتهم إليها ليؤيدوا القرآن.
وكل مسرف على نفسه في عدم اتباع منهج الله يقول: إن ربنا هو الذي يهدي وهو الذي
يضلّ، ويقول ذلك بتبجح ووقاحة لتبرير ما يفعل من سفه. وسيظل المسرفون على أنفسهم
وكذلك المشركون يقولون ذلك وسيحاولون تحليل ما حرّم الله. وقد جاء المشركون
بقضيتين: قضية في العقيدة، وقضية في التكليف؛ قالوا في قضية العقيدة: { لَوْ شَآءَ
اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا } ، وكأنهم أشركوا بمشيئة الله. وجاءوا إلى ما حرموا من
حلال الله وقالوا إنهم قد فعلوا ذلك بمشيئة الله أيضاً؛ ليوجدوا لأنفسهم مبرراً،
وهذا القول ليس قضية عقلية؛ لأنها لو كانت وقفة عقلية لكانت في الملحظين: الخير
والشر، فالواحد منهم يقول: كتب ربنا علينا- والعياذ بالله- الشر، لماذا يعذبني
إذن؟! ولا يقول هذ الإنسان " وكتب الله لي الخير ". هذا ما كان يفرضه
ويقتضيه المنطق لكنهم تحدثوا عن الشر وسكتوا عمَّا يعطى لهم من خير.
وقولهم { لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا } صحيح المعنى؛ لأنه سبحانه لو شاء
أن يجعل الناس كلهم مهديين لفعل، لكنه شاء أن يوجد لنا اختياراً، وفي إطار هذا
الاختيار لا يخرج أمر عن مشيئته الكونية. بل يخرج الكفر والشر عن مراده الشرعي.
وعلمنا من قبل أن هناك فرقاً بين الكونية والشرعية؛ فكفر الكافر ليس غصباً عن الله
أو قهراً عنه سبحانه، إنما حصل وحدث بما أعطاه الله لكل إنسان من اختيار، فالإنسان
صالح للاختيار بين البديلات:{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ
فَلْيَكْفُرْ... }[الكهف: 29]
فالإنسان قادر على توجيه الطاقة الموهوبة له من الله الصالحة للخير أو الشر.
إذن فأختيار الإنسان إما ان يدخله إلى الإيمان وإما أن يتجه به إلى الكفر، لذلك
يقول الحق عن الذين يدعون أن كفرهم كان بمشيئة الله: } كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِم حَتَّىا ذَاقُواْ بَأْسَنَا.. { [الأنعام: 148]
والسابقون لهم قالوا ذلك وفعلوا مثل ما يفعل هؤلاء من التكذيب؛ وجاءهم بأس وعذاب
من الله شديد، ولذلك يأمر الحق محمداً صلى الله عليه وسلم: }... قُلْ هَلْ
عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ
وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ { [ الأنعام: 148]
ويسألهم محمدُ صلى الله عليه وسلم عن علم يؤكدون به صحة ما يدعونه.. ويزعمونه أي
هل عندكم بلاغ من الله، والحق أنهم لا علم لديهم ولا دليل، إنهم يتبعون الظن،
ويخرصون، أي ان كلامهم غير واضح الدلالة على المراد منه، إنه تخمين وظن وكذب.
لذلك يقول سبحانه: } قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ... {
(/926)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
نعم فلو شاء سبحانه لقسرهم على الهداية وما استطاع واحد منهم أن يخرج عن الهداية،
ولكنه لم يشأ ذلك، بل أراد أن يكون الإقبال على الإيمان به، واتباع التكاليف أمراً
داخلاً في اختيارهم. ألم يخلق سبحانه خلقاً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون؟ ألم يخلق الكون كله مؤتمراً بأمره؟! { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبَالِغَةُ.. } [الأنعام: 149]
و " الحجة " هي الدليل الذي تقيمه لتأييد قولك في الجدل، ولذلك نسمى
عقودنا حجة على الملكية. أو " الحجة البالغة " أي التي لا ينفذ منها شيء
أبداً يعطل المراد منها.
ويقول الحق بعد ذلك: { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ... }
(/927)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
ومادمتم لا تملكون العلم فمن المحتمل انكم تملكون شهوداً على ما تقولون. والخطاب:
{ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } هو خطاب للجماعة، و " هلم " يستوي فيها
المفرد والمفردة والمثنى مذكراً كان أم مؤنثاً. والجمع مذكراً أو مؤنثاً، فتقول:
هلم يا زيد إليّ، وهلم يا هند إليّ، وهلم أيضاً لجماعة الذكور ولجماعة الإناث،
وهذه لغة الحجازيين. وتختلف عن لغة بني تميم التي يزيدون علها فيقال: " هلم
يا رجل " ، و " هلمي يا امرأة " ، و " هلما، وهلموا، وهلممن
". والقرآن نزل بلغة قريش " الحجازيين " ، والحق يقول: { هَلُمَّ
شُهَدَآءَكُمُ }. أي هاتوا وأحضروا شهداءكم أن الله حرّم هذا، لإنكم بلا علم،
وكذلك لا شهود عندكم على المدعي؛ فإن كان عندكم شهود هاتوا هؤلاء الشهود.
وماذا إن أحضروا شهود زور؟ إنه- سبحانه- يحذر رسوله ويوضح له أنهم حتى ولو أحضروا
شهداء إياك أن تصدقهم فهم كذابون:
وكأن الله يريد أن يفضح الشهود أيضاً أمام المشهود أمامهم، ويعطي أيضاً قضيتين
اثنتين؛ فسبحانه يدحض ويبطل حجتهم، ويفضح الشهود الذين جاءوا بهم. فكأنه قال:
هاتوا هؤلاء الذين قالوا لكم هذا الكلام، وفي ذلك فضيحة لمن لقنهم هذه الأوامر.
ويأمر الحق رسوله ألا يتبع الذين كذبوا بآياته سبحانه. وكلمة " أهواء "
، جمع هوى، وهو ما يختمر في الذهن ليلوي الإِنسان عن الحق؛ فهو شهوة ترد على الذهن
فتجعله يعدل عن الحق: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } [الأنعام: 150]
وهم لا يكذبون بآيات الله فقط بل لا يؤمنون بالآخرة أيضاً؛ لأنهم لو كانوا يؤمنون
بالآخرة لعلموا أنهم مجازون على هذا جزاء يناسب جرائمهم، ولو أنهم قدروا هذه المسألة
لامتنعوا عن اتباع أهوائهم.
ويذيل الحق الآية بقوله الكريم: {... وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام:
150]
ونفهم من كلمة " يعدل " أنها من العدل بمعنى القِسط؛ إذا قيل: عدل في
كذا، أو عدل بين فلان وفلان؛ أو عدل في الحكم، أما عدل بكذا فيكون المراد منها أنه
جعله عديلا ومساويًّا. وجاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله الحق:{ الْحَمْدُ
للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }[الأنعام: 1]
أي يجعلون ما لا يصح أن يكون مساويًّا لله؛ ومساويًّا وعدلا لله. وهذا فعل من
جعلوا لله شركاء، وكذلك من لا يؤمنون بالله؛ فالواحد منهم يعدل عن ربه عدولاً
ويميل ويعرض عنه ويشرك به ويسوِّي به غيره. ويجب أن نلحظ عند النطق بكلمة "
التوحيد " وهي: (لا إله إلا الله) ألا نقف عند قول: (لا إله) لأن ذلك يعني
إنكار ونفي وجود إله وهذا والعياذ بالله كفر. إذن يجب علينا أن نصلها بما بعدها
فنقول: (لا إله إلا الله) أو نكون عند نطقنا بلفظ (لا إله) قد انعقدت قلوبنا على
وحدانيته وما يجب له- تعالت عظمته- من صفات الجلال والكمال، ومعنى (لا إله إلا
الله) أنه لا معبود بحق إلا الله، لأن المعبودين بباطل كثيرون كالأصنام والنجوم
والجن وبعض الإِنس والملائكة وغير ذلك.
وكلمة { بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } تفيد أنهم أهل شرك، وكذلك من ينكر وجود الله
إنه عن ربنا يعدل ويميل ويحيد عن الاعتراف به إلها.
ويقول الحق بعد ذلك: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ... }
(/928)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
ننظر في هذه الآية فلا نجد شيئاً من المحرمات من الأطعمة التي بها قوام الحياة،
ولكن نجد فيها محرمات التي إن اتبعناها نهدر القيم المعنوية التي هي مقومات الحياة
الروحية، إنها مقومات الحياة من القيم { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }.
والأداء القرآني هنا يأخذ لفظ " تعال " بفهم أعمق من مجرد الإِقبال،
فكأن الحق يقول: أقبل عليّ إقبال من يريد التعالي في تلقي الأوامر. فأنت تقبل على
أوامر الله لتعلوا وترتفع عن حضيض تشريع البشرية؛ فلا تأخذ قوانينك من حضيض تشريع
البشر؛ لأن الشرط الواجب في المشرع ألاّ يكون مساويًّا لمن شرَّع له، وألاّ يكون
منتفعاً ببعض ما شرَّع، وأن يكون مستوعباً فلا تغيب عنه قضية ولا يغفل عن شيء
والمشرع من الخلق لا يشرع إلا بعد اكتمال عقله ونضجه. ولا يقدر أن يمنع نفسه من
الانتفاع بالتشريع.
الرأسمالي - مثلاً - يشرع ليستفيد، والماركسي يشرِّع ليستفيد. وكل واحد يشرع وفي
نفسه هوى، ومن بعد ذلك تعدّل التشريعات عندما نستبين أنها أصبحت لا تفي ولا تغطي
أمور الحياة، فكأن المشرع الأول لقصور علمه غابت عنه حقائق فضحها المجتمع حين برزت
القضايا، فنظر في قانونه فلم يجد شيئاً يغطي هذه القضايا، فيقول: نعدل القانون،
ونستدرك. ومعنى استدراك القانون اي أن هناك ما جهله ساعة قنن.
إذن يشترط في المقنن ألاّ يكون مساويًّا للمُقَنن له، وألاّ تغيب عنه قضية من
القضايا حتى لا يُسْتَدّرَك عليه، وألاّ يكون منتفعاً بالتشريع، ولا يوجد ذلك في
بشر أبداً، فأوضح الحق: اتركوا حضيض التشريع البشري وارتفعوا إلى السماء لتأخذوا
تقنينكم منها؛ فحين ينادي الله " تعالوْا " فمعناها ارتفعوا عن حضيض
تقنين بشريتكم إلى الأعلى لتأخذوا منه تقنيانكم التي تحكم حركة حياتكم، فهو لا
ينتفع بما شرع، بل أنتم الذين تنتفعون، ولأنه لا يغيب عنه شيء سبحانه، وهو خالق،
هو أولى ان يشرع لكم. { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
} [الأنعام: 151]
" أتل " من التلاوة وهي القراءة { مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }
اي ما جعله حراما.. أي يمتنع عليهم فعله، وسأقول لكم كل البلاغات بلاغاً بعد بلاغ.
{ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [الأنعام: 151]
لقد جاء سبحانه بتحريم الشرك من خلال تركيب لغوي يؤكد علينا ألا نشرك به؛ فأنت
ساعة تأتي لتلقى أوامر لمن ترأسه تقول له: استمع إلى ما أمنعك منه فاتبعه. ثم تبدأ
في التفصيل، والحق هنا جاء بأول بند من المحرمات والمحظورات هو ألا نشرك به شيئاً.
أي أتلو عليكم تحريم الشرك، فأول المحرمات الشرك، وعلينا أن نوحد الله، فكل نهى عن
شيء أمر بمقابله وكل أمر بشيء نهى عن مقابله.
وعلى ذلك فكل أمر يستلزم نهيًّا، وكل نهي يستلزم أمراً. فلا تلتبس عليكم الأوامر
والنواهي. أو تكون " عليكم " منطقعة عما قبلها، أي عليكم ترك الشرك،
وعليكم إحسانا بالوالدين، وألا تقتلوا أولادكم، وألاّ تقربوا الفواحش.. أي ألزموا
ذلك.
ثم يقول سبحانه: } وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً { وسبحانه يأمر هنا بتأكيد
الإحسان إلى الوالدين؛ فهو أمر بإيجاب ويستلزم نهيا عن مقابله وهو عقوق الوالدين،
أي لا تعقوهم. فعدم الإحسان إلى الوالدين يدخل فيما حرم الله. ثم يقول سبحانه: }
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ.. { [الأنعام: 151]
أي استبقوا حياة أولادكم، فإن أدرتها من قبيل النهي فقل هو نهي عن قتل الأولاد،
وإن أردتها من قبيل الإيجاب فقل: استبقوا الحياة. وقول: } مِّنْ إمْلاَقٍ { أي من
فقر، فكأنهم كانوا فقراء، ومادام الإملاق موجوداً فشغل الإنسان برزق نفسه يسبق
الانشغال برزق من يأتي بعده؛ فيا أهل الإملاق تذكروا أن الله يرزقكم ويرزق من
سيأتي زيادة وهم الأولاد. ويقول سبحانه: } وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.. { [الأنعام: 151]
وهذا نهي عن القرب، أي نهي عن الملابسات التي قد تؤدي إلى الفعل لا نهي عن الفعل
فقط؛ فحينما أراد الله يحرم على آدم وعلى زوجه الشجرة قال:{ وَلاَ تَقْرَبَا
هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ... }[الأعراف: 19]
لأن القرب قد يغري بالأكل، وكذلك: } وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ { أي لا تأتي
إلى مقدمات الفواحش بأن تلقي نظرة أو تحدق النظر إلى محرمات غيرك، وكذلك المرأة
التي تتبرج؛ إنها تقوم بالإقبال على مقدمات الفواحش، فإذا امتنعت عن المقدمات أمنت
الفتنة والزلل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلال بين والحرام
بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ
لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن
يواقعه، ألا لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه، ألا وإن في الجسد مضغة
إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
ويمنعك الحق: ألاّ تقرب، أي أبعد نفسك عن مظنة أن تستهويك الأشياء، مثلها مثل
" اجتنب " تماماً، وسبحانه وتعالى يقول: } فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ
مِنَ الأَوْثَانِ.. { [الحج: 30] ويقول:{ ...وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ
}[الحج: 30] وهنا يقول تعالى: } وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ {.
وكل ما ظهر من الفواحش هو من أفعال الجوارح التي ترتكب الموبقات و } وَمَا بَطَنَ
{ هو من أفعال السرائر مثل الحقد، والغل، والحسد.
ويتابع سبحانه: } وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ.. { [الأنعام: 151]
وكلمة " النفس " يختلف الناس في معناها، ولا تطلق النفس إلا على التقاء
الروح بالمادة، والروح في ذاتها خيّرة، والمادة في ذاتها خيرة مسبحة عابدة.
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ... }[الإسراء: 44]
وإذا التقت الروح بالمادة تقوم الحياة، فمعنى قتل النفس أن نفصل الروح عن المادة
بهدم البنية وهذا غير الموت؛ لأن الله هو الذي يميت النفس، أما الإنسان به في
الآية فستجد التعقل يعطيك التوازن في القرار، وقد ختم الحق الخمسة الأشياء فهو
يقتل النفس إن هدم بنيتها. والذي وهب الحياة هو الله، فلا يسلب الحياة إلا هو.
وبعد ذلك يشرع الله لنا أن نسلب الحياة قصاصاً، أو للزنا من الثيب المحصن رجلا أو
امرأة، أو للردّة، فهذا قتل بحق، لكن سبحانه وتعالى يلعن من يهدم بنيان الله بغير
الحق، والإِنسان بنيان الله فلا تعتدي عليه. ولذلك أمرنا الله بالقصاص من إنسان
قتل إنساناً؛ حتى يحافظ كل واحد على حياة نفسه، وحين يحفظ الإِنسان كل نفس، فإنّه
ينجو بنفسه ويسلم.
هكذا يأمر الحق بأن نقتل الثّيب، والثيب الزاني يطلق على الذكر والأنثى وهو من
تزوج ودخل على زوجه وذاق كل منهما عسيلة الآخر وأفضى إليه، وكذلك المرتد، فنحن
نحرص عى حرية الاعتقاد؛ بدليل أننا لا نقتل الكافر الأصلي لكفره، ولكن يجب على
الإِنسان أن يفهم أن الدخول إلى الإيمان بالإسلام يقتضي أن يدرسه دراسة مستوفية
مقنعة، وأن يعلم أن حياته رهن بأن يرجع عن هذا الدين فإذا علم أن حياته رهن بأن
يرجع عن هذا الدين، فلن يدخله إلا وهو مقتنع تمام الاقتناع. ونحن نحمي بالاختيار،
فنعلن لكل من يقبل على الإِسلام ونحذره: إياك أن تدخل بظاهر القول دون فهم لمعنى
الإِسلام لأنك لو دخلت ثم بعد ذلك ارتددت فسوف تقتل، ومادام الشيء ثمنه الحياة،
فالواجب أن يحتاط الإِنسان الاحتياط الشديد. وفي ذلك أيضاً ثقة من أن الإِنسان إذا
ما بحث في الأدلة فسيقتنع بأن له إلهاً حقا، ولكننا لا نقتل الكافر الأصلي.
إذن فقتل المرتد حماية لحزم الاختيار، فإِياك أن تدخل بدون روية؛ لأنك لو دخلت ثم
ارتددت فسوف تقتل، وبذلك يصفي الحق المسألة تصفية لازمة بأن يعرض من يقبل على
الإِسلام جميع الحجج على نفسه، ولا يدخل إلا بنية على هذا، ففي أي عقد يحاول
الإِنسان أن يعرف التزاماته وأن تتضح أمامه هذه الالتزامات. ولا يدخل إلى الدين
الدخول الأهوج، أو الدخول الأرعن، أو الدخول المتعجل. بل يلزمه أن يدخل بتؤدة
وروية.
وفي الزواج يدخل الإِنسان بكلمة ويخرج بكلمة أيضا هي: " أنت طالق " ،
ولذلك تحتاط المرأة، فمادامت قد عرفت أن بقاء زواجها رهن بكلمة فعليها أن تحرص ألا
تضع هذا الحق إلا في يد أمينة عليه. وساعة أن يقول لها أبوها: اسمعي، إن لك أن
تختاري الزوج الذي إن أحبك أكرمك، وإن كرهك لا يظلمك؛ لأن بكلمة منه تنتهي الحياة
الزوجية.
إذن فعلى المرأة أن تفكر في الإِنسان الأمين على هذه الكلمة.
ومع ذلك فهناك احتياط للغفلة؛ فالرجل يتزوج بكلمة واحدة، من مرة واحدة لكن في
الطلاق هناك ثلاث مراحل؛ كرصيد للغفلة. فالرجل يتزوج المرأة بكلمة " زوّجتك
نفسي أو يزوجها وليها ويكون القبول من الزوج وبهذا يتم الزواج ". لكن في
الطلاق أباح الله لغفلة الرجل ولرعونته أن يطلق مرة، ثم يراجع هو من غير دخول أحد
بينهما، ثم يطلق ثانية، ويراجعها، ولكن بعد الطلاق الثالث يجد التنبيه من الحق:
لقد احتطنا لك برصيد من غفلتك. ولكن عندما تريدها زوجاً لك فلا يتم ذلك إلاّ أن
تتزوج غيرك، وبعدها قد تعود أو تبقى مع من تزوجها. فاحتط جيداً للأمر الذي تدخل
عليه، وللتعاقد الذي التزمت به. فإذا كان هذا هو الشأن في تعاقد الزواج، فما بالنا
بالردّة؟ إنّنا نقتل المرتد، ولا نفعل به ذلك قبل أن يؤمن وقبل أن يعلن إيمانه
وقبل الدخول في حيز المؤمنين، ليعلم أنه إن رجع عن الإِسلام فسيقتل, وهكذا يصعِّب
الإِسلام الدخول إليه، ويحمي الاختيار في الوقت نفسه.
ويتابع سبحانه: } ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ { [الأنعام:
151]
و " الوصية " لا تكون إلا للأمور المهمة التي لا تستقيم كالحياة إلا
بالقيام بها، إنها في أمهات المسائل التي لا يصح أن نغفلها. ولذلك حين تنظر إلى
النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقد ظل ثلاثة وعشرين عاماً يستقبل من السماء ويناول أهل
الأرض، ثم جاء في حجة الوداع وركّز كل مبادئ الدين في قوله تعالى: } ذالِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {.
و " وصاكم " غير شرّع؛ فشرّع تأتي بكل التشريعات وما فيها من تفاصيل
صغيرة، والوصية تضم أمهات المسائل في التشريع. والعقل يجب أن يسع المسألة من أولها
إلى آخرها؛ فلو استعملت عقلك في كل منهي عنه، أو في كل مأمور به في الآية فستجد
التعقيل يعطيك التوازن في القرار، وقد ختم الحق الخمسة الأشياء التي ذكرها في هذه
الآية بـ } ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {. وهذه الأوامر
متفق عليها في جميع الرسالات وفي جميع الأديان، ويسمونها: " الوصايا العشر
".
والأشياء الخمسة التي أوصى بها سبحانه هي:
* ألا تشركوا به شيئاً.
* وبالوالدين إحساناً.
* ولا تقتلوا أولادكم من إملاق.
* ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
* ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق.
فكان يجب أن يقول: ذلكم وصاكم بها، لكنه قال: } وَصَّاكُمْ بِهِ { ، فكأن أوامر
الله ونواهيه أمر واحد متلازم تتمثل كلها في: التزام ما أمر الله به، واجتنب ما
نهى الله عنه.
وقوله سبحانه: } لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ { فكأن العقل لو خُليِّ ليبحث هذه
الأشياء بحثاً مستقلاً عن منهج السماء لوجد أن ضرورة العيش على الأرض تتطلب وجود
هذه الأشياء.
إذن، كيف نُعْصم من أهوائنا المتضاربة بعضها مع بعض؟. لابد أن يكون الإله واحداً
حتى لا يتبع كل واحد منا هواه. إننا نعرف أن الأصل في الإنسان هو الأب والأم. لذلك
وصى بالأصل في } وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً { ، ووصى أننا لا نقتل الأولاد
خشية الفقر؛ لأن الحياة تستمر بهم، وبعد ذلك لابد أن تكون الحياة نظيفة، طاهرة
لجميع الأفراد، ولا تشوبها شائبة الدنس أبداً، ولا يتأتى ذلك إلا إذا تركنا
الفواحش: ما ظهر منها وما بطن؛ لأننا نلاحظ أن كل الأولاد غير الشرعيين يُهْمَلون؛
فالحق سبحانه وتعالى يريد طهارة الأنسال في الحياة؛ حتى يتحمل كل واحد مسئولية
نسله. ويكون محسوباً عليه أمام المجتمع، ويحذرنا سبحانه من أن نقتل النفس إلا
بالحق؛ لأن النفس أصل استبقاء الحياة.
ثم يجيء الحق بعد ذلك في الآية التالية ليكمل الوصايا فيقول: } وَلاَ تَقْرَبُواْ
مَالَ... {
(/929)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
ونعلم أن اليتيم هو من فقد أباه، ولم يبلغ مبلغ الرجال، هذا في الإنسان، أما
اليتيم في الحيوان فهو من فقد أمه. وقوله الحق: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ
الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىا يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.. }
[الأنعام: 152]
هنا يفرض سبحانه أن اليتيم له مال، فلم يقل: لا تأكل مال اليتيم. بل أمرك ألا
تقترب منه ولو بالخاطر، ولو بالتفكير، وعليك أن تبتعد عن هذه المسألة. وإذا كان قد
قال: { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ } فهل هذا الأمر على إطلاقه؟. لا؛ لأنه
اضاف وقال بعد ذلك: { إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي بأن نُثَمِّرَ له ماله
تثمراً يسع عيشه، ويبقى له الأصل وزيادة، ولذلك قال في موضع آخر:{ وَارْزُقُوهُمْ
فِيهَا... }[النساء: 5]
فلا يأخذ أحد مال اليتيم ويدخره، ثم يعطيه منه كل شهر جزءاً حتى إذا بلغ الرشد يجد
المال قد نقص أو ضاع، لذلك لم يقل: ارزقوهم منها، بل قال: { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا
} أي ارزقوهم رزقاً ناشئاً منها. فَمَالُهم ظرفية للرزق، ولا يتأتىّ هذا إلا بأن
نثموها لليتيم، ولا نحرم الوصاية على اليتيم لرعاية ماله من أصحاب الكفاءات في
إدارة الأعمال والأمناء، وقد يوجد الكفء في إدارة العمل، والأمين فيه لكن حاله لا
ينهض بأن يتحمل تبعات ومؤنة حياته وقيامة بإدارة أموال اليتيم؛ فقال- سبحانه- في
ذلك:{ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ... }[النساء: 6]
أي أن يهب الوصيّ تلك الرعاية الله، وحين يهب تلك الرعاية لله ولا يأخذ نظير
القيام بها أجراً؛ يضمن أنه إن وُجِدَ في ذريته إلى يوم القيامة يتيم فسيجد من
يعوله حسبة لله وتطوعاً منه مدخرا أجره عند الله. والحق هو القائل:{ وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }[النساء: 9]
وحينما يجد اليتيم من يرعاه، وحين يتعاطف المجتمع مع كل يتيم فيه، ويتولى أمور
اليتامى أناس أمناء قادرون على إدارة أمورهم فسوف يقل جزع الإنسان من أن يموت
ويترك صغاره؛ لأنه سيجد كرامة ورعاية لليتيم، فالناس تخاف من الموت لأن لهم عيالاً
صغارا، ويرون أن المجتمع لا يقوم برعاية اليتامى، لكن الإنسان إن وجد اليتيم
مكرما، ووجده آباء من الأمة الإسلامية متعددين، فإن جاءه الموت فسوف يطمئن على
أولاده لأنهم في رعاية المجتمع، ولكن لا تنتظر حتى يصلح شأن المجتمع بل أصلح من
نفسك وعملك تجاه أي يتيم، ويمكنك بذلك أن تطمئن على أولادك فستجد من يرعاهم بعد
مماتك، وحين يرعى المجتمع الإيماني كل يتيم ستجد الناس لا تضيق ذرعا بقدر الله في
خلقه بأن يموت الواحد منهم ويترك أولادا. والمثل واضح في سورة الكهف بين العبد
الصالح وسيدنا موسى حينما مرّا على قرية:
{ حَتَّىا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا... }[الكهف: 77]
فلم طلبا نقوداً ليدخراها، ولكنهما طلبا طعاماً لسد الجوع، وهذه حاجة مُلحّة. ومع
أنهما استطعما أهل القرية أبى أهل القرية أن يضيفوهما. ومعنى ذلك أنها قرية لئيمة
الأهل. وعلى الرغم من العبد الصالح وجد ردّهم علية وامتناعهم عن إطعامهما، ولكنه
عندما وجد جداًر، وبفراسته علم أن الجدار يريد أن ينقض، وكأن الجدار له إدارة،
فأقام الجدار، ولأمه سيدنا موسى عليه السلام، وكان سيدنا موسى منطقيا مع نفسه، فقد
طلب هو وشيخه من أهل القرية مجرد الطعام فرفضوا، فكيف ترد عليهم بأن تبنى لهم
الجدار، وكان يجب أن تأخذ على البناء أجرة، فهم قوم لئام، هذا كلام موسى. لكن
العبد الصالح جازاهم بما يستحقون؛ لأنه ببنائه الجدار قد حال بينهم وبين أخذ
الكنز، لأنه لو ترك الجدار ينهار لظهر الكنز الذي تحته وهو ليتمين، وهكذا عرف
العبد الصالح كيف يربيهم. وبعد ذلك أراد الله أن يشرح لنا أن الجدار لغلامين يتمين
في المدينة.{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنزَهُمَا... }[الكهف: 82]
فكأن استخراج الكنز مقارن ببلوغ الرشد، وكأن العبد الصالح قد بنى الجدار بناء
مؤقوتا، بحيث لا ينهار إلا حين يبلغ الغلامان مبلغ الرشد، لقد بنى العبد الصالح
البناء وكأنه يضبط الميقات فلا يتماسك الجدار إلا لساعة بلوغ الغلامين أشدهما،
وعندئذ يستخرج الغلامان كنزهما. وبعد ذلك جاء لنا بالحثيثة لكل ذلك، فقال سبحانه:{
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً... }[الكهف: 82]
فكأن صلاح الأب هو الذي أراد به الحق أن يظهر لنا كيف حمى كنز الأبناء، فيأتي
العبد الصالح وموسى لأهل القرية اللئام، ويطلبان طعاماً، فلا يطعمونهما، فيبي
العبد الصالح الجدار الموقوت الذي يصون الكنز من اللئام. والحق يقول هنا: } وَلاَ
تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. { [الأنعام: 152]
من لا يقدر على قرب مال اليتيم بالتي هي أحسن فليبتعد عنه.
وحتى لا يتحرز ويتوقى الناس من رعايتهم مال اليتيم، قال سبحانه:{ وَمَن كَانَ
غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
}[النساء: 6]
وكلمة } فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ { أي لا يكنز ولا يدخر منه أبداً، بل يأكل
بما يدفع الجوع فقط ويكتسي ما يستر جسمه. ونعرف أن اليتيم لم ينضج عقله بعد، وكذلك
الكبير السفيه هو أيضاً لا يقدر على التصرف؛ لذلك قال الحق في أدائه البياني حيث
يؤدي اللفظ ما يوحي بالمعاني الواسعة:{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ
أَمْوَالَكُمُ }[النساء: 5]
وجعل الحق مال السفيه في مرتبة مال الولي؛ لأن السفيه لا يحترم ملكيته وقد يبددها.
ولكن المال يعود لهذا الإِنسان حين يذهب عنه السفه فيقول الحق:{ فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ }[النساء: 6]
إنه أداء قرآني عجيب، يشجع الناس ألا يتركوا السفيه يبدد ماله فتكون خسارة للمجتمع
كله، فمادام هو في سفه فانظر إلى المال كأنه مالك، ولتكن أميناً عليه أمانتك على
مالك.
وعندما ترى وتجد رشده وتطمئن على ذلك، فإن الحق يأمرك أن تعيد له ماله. ونعود إلى
اليتيم، هنا يقول الحق: } وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ {.
هذا إن كان له مال، فماذا عن اليتيم الذي لا مال له؟. هنا تكون الوصية أقوى، عن
سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل
اليتيم في الجنة هكذا " " وأشار بالسّبابة والوسطى وفرّج بينهما ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الساعي
على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل
".
وخذوا بالكم واجعلوا مسح رأس اليتيم لله، فمن الجائز أن تكون لليتيم أم جميلة،
ويريد الولي أن يتقرب منها عن طريق الولد، احذروا ذلك، فإنه فضلا على أنه يسخط
الله ويغضبه فهو خسة ولؤم ونذالة. } وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىا يَبْلُغَ أَشُدَّهُ { [الأنعام: 152]
لم يقل الله - سبحانه - بالتي هي حسنة ولكنه قال: } بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {
لتشديد الحرص على مال اليتيم حتى يبلغ أشده لأن بلوغ الأشد، يعني أن اليتيم صارت
له ذاتية مستقلة، وما المعيار في الذاتية المستقلة؟؛ أن يصبح قادراً على إنجاب
مثله، وهذا معيار النضج، مثله مثل الثمرة حين تنضج؛ أي صارت البذرة التي فيها
صالحة لأن نضعها في الأرض لتكون شجرة. وأنت إن قطفت الثمرة قبل أن تنضج لا تجد
طعمها حلوا، ولا تستسيغ مذاقها إلا حين تستوي البذرة وتنضج.
و " الأشد " أي أن الإِنسان يصير قادراً على إنجاب مثله وهو ما نسميه
البلوغ، ويصبح أيضاً قادراً على حسن التصرف في المال وفي كل شيء. ويتابع سبحانه: }
وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ { [الأنعام: 152]
والكيل هي المعايير لما يكال حجماً، والموازين هي المعايير لما يُقَدِّر كثافة،
فهناك معيار للحجم ومعيار للكثافة. معيار الحجم الكيل، ومعيار الكثافة هو الوزن،
وهناك أيضاً التقديرات العادلة في القياس، للأقمشة مثلاً، المقياس فيها هو المتر،
إذن كل شيء بحسبه، وإذا أردت الموزون فلابد أن يكن بالقسط، أي بالعدل.
وهذه المسألة من الصعب تحقيقها، ولذلك تختلف الموازين باختلاف نفاسة الأشياء، فحين
نزن الفول أو العدس أو البطاطس أو القلقاس، فنحن نزنه بميزان كبير؛ لأن فرق
الميزان يكون حول الكيلو جرام، فالأمر حينئذ يكون مقبولاً. وحين نزن أشياء أثمن
قليلاً، نأتي بالميزان الدقيق. فإن كان الشيء الموزون ذهباً نحيط الميزان بجدران
زجاجية لأن لفحة الهواء قد تقلل أو تزيد الوزن.
إننا نحاول أن نمنع تأثير تيارات الهواء عليها. وحين نزن المواد الكيماوية نأتي
بميزان يعمل بالذرة.
إذن موزون يأخذ درجة ميزانه بمقدار نفاسته وتأثيره؛ لأن تحقيق العدالة في الميزان
مسألة صعبة، وكذلك الأمر في الكيل. فحين يكيل الإنسان كيلاً يمسك إناء الكيلة
ويهزه؛ حتى يأتي الميكال دقيقاً محرراً، وإن أراد أن يلغي ضميره ويأخذ أكثر من حقه
فهو يملأ المكيال بأكثر مما يحتمل ويسند الزيادة بيده حتى لاتقع. وربنا يقول:{
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }[المطففين:
1-3]
فحين يكتال يستوفى ويطفف أي يزيد ما سوف يأخذه شراء، وحين يبيع يقلل الكيل أو
الوزن ليأخذ ثمناً أكثر من ثمن ما يزن أو يكيل. وأصل المبادلات غالباً بين طرفين،
وبعض المتنطعين يقول: كيف يقول الحق: } وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ { والتطفيف في أي
مسألة يكون بالزيادة، لا بالنقص. ونقول: انتبه إلى أن المتحدث هو الله، والتطفيف
يزيد طرفاً وينقص من طرف، وكل صفقة بين اثنين فيها بيع وشراء. فإن أراد واحد أن
يجعل الخسران على طرف وأن يستوفي لنفسه فهو مطفف.
ولذلك تأتي دقة الأداء القرآني من ربنا: } وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا.. { [الأنعام: 152]
وقال الحق ذلك لأنه يعلم أن الكيل والميزان بالعدل أمر متعذر؛ لأن الحق سبحانه
وتعالى لواسع رحمته في التشريع لنا لم يجعل مجتال الاستطاعة أمراً يمكن أن تتحكم
فيه أشياء لا تدخل في الاستطاعة؛ ففي ضبط المكيال والميزان قال: } لاَ نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا { لأن المكيال والميزان أداتان تتحكم فيهما ظروف لا تدخل
في نطاق الإنسان. ولذلك قلنا: إن وزن الأشياء التي نعلمها إن كانت من الأشياء التي
ليست فيها نفاسة فوزنها له آلة. وإن كانت في المتوسط فوزنها له آلة، وإن كان في
الأشياء النفيسة الدقيقة التي للقدر الصغير فيها قيمة مؤثرة، فإن لها آلة مضبوطة
مصونة من عوامل الجو حتى لا تتأثر بهبّة الهواء، فقول الحق: } لاَ نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا { إباحة للأشياء الزائدة او الناقصة التي لا تدخل في الاستطاعة،
ثم قال سبحانه: } وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا.. {
[الأنعام: 152]
نعلم أن القول نسبة كلامية ينطق بها المتكلم ليسمعها مخاطب، ينفعل للمطلوب فيها
خبراً أو إنشاءً، والقول مقابله الفعل، وكلاهما عمل، فالقول عمل والفعل عمل؛ قل أو
افعل، فافهم أن القول متعلق بجارحة اللسان، والفعل متعلق بكل الجوارح ما عدا
اللسان، فإذا رأيت، وإذا سمعت، وإذا شممت، وإذا لمست كل ذلك يطلق عليه أنه فعل،
ولكن إذا ما تحرك اللسان فذلك قول: } وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ
ذَا قُرْبَىا {.
وهل العدل مقصور على القول؟ أو العدل أيضاً يكون في الفعل؟ إن العدل قد يكون في
خلاف بين اثنين، وهذا لا يتأتى بفعلك، وإنما يتأتى الحكم والفصل فيه بقولك، وإذا
ما تعودت العدل في قولك، ألفته وأنست به وأحببته حتى في أعمالك الخاصة الأخرى.
والقول منه الإقرار، وإن تقر على شيء في نفسك فقله بالعدل وبالحق، والشهادة. قلها
بالحق، والحكم. قله بالحق. والوصية. قلها بالحق. والفتوى. قلها بالحق. إذن فالحق
في القول أمر دائر في كثير من التصرفات؛ لأنك إذا قلت بالحق أمكنك أن تعدل ميزان
حركة الحياة؛ فميزان حركة الحياة لا يختل إلا إن رجح باطل على حق؛ لأنك إذا حكمت
لواحد بشيء لا يستحقه فقد أعطيته ما ليس له، وإنك بعملك هذا تجعل المتحرك في
الحياة يزهد في الحركة, لكن إذا ما حافظت على حركة كل متحرك، وأخذ كل واحد حظه من
الحياة بقدر ما يعمل اتزنت كل الأمور، ولم يعد هناك قوم يعيشون على جهد غيرهم وعرق
سواهم، إذن فقول العدل هو مناط حركة الحياة الثابتة المستقيمة الرتيبة الرشيدة: }
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا {.
والذي يؤثر في العدل هو الهوى، وحين يوجد الهوى فهو يحاول أن أن يميلك إلى ناحية
ليس فيها الحق، وأولى النواحي أن يكون الأمر متعلقاً بك أو بقرابة لك، وقد تريد إن
حكمت- والعياذ بالله- باطلاً، أن تسعد ذا قرباك، وأنت بذلك لم تؤد حق القرابة؛ لأن
حق القرابة كان يقتضي أن تمنع عنه كل شيء محرّم وتحمي عرضه، وتحمي دينه قبل أن
تحمي مصلحته في النفعية الزائلة. ولذلك يأمرك الحق بأن تقول الكلمة بالعدل ولو كان
المحكوم له أو عليه ذا قربى؛ لأنك حين تحكم بالباطل فأنت في الواقع حكمت عليه لا
له. } وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ { [الأنعام: 152]
ونحن نعلم أن عهد الله هو ما عاهدنا الله عليه، وأول عهد وقمة العهود هو الإيمان
به سبحانه، وترتب على ذلك أن نتلقى منه التكليف، فكل تكليف من تكاليف الله لخلقه
يُعتبر عهداً داخلاً في إطار الإِيمان؛ لأن الله لا يحكم حكماً أو يبينه لمكلَّف
إلا بعد أن يقول:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... }[المائدة: 1]
أي يا من آمنت بالعهد الأصيل في القيم وهو العقيدة، وآمنت بي إلهاً: خذ التكليف
مني؛ لأنك قد دخلت معي في عهد هو الإِيمان.
ولذلك لا يكلف الله بالأحكام كافراً به، إنما يقول: } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ { ولذلك يجب أن نأخذ كل حكم بدليله من الإِيمان بمن حكم به، فلا تبحث عن
في كل حكم، وإنما علة كل حكم أن تؤمن بالذي أمرك ان تفعل كذا، فَعِلَّة كل هي
الحكم.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله تعالى: } ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ { [الأنعام: 152]
و " ذلكم " إشارة إلى ما تقدم، من أول قوله سبحانه:{ قُلْ تَعَالَوْاْ
أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }[الأنعام: 151]
إلى أن انتهينا إلى قوله سبحانه: } وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ { [الأنعام: 152]
والتوصية تخصيص للتشريع؛ لأن التشريع يعم احكاماً كثيرة جدَّا، ولكن الوصية التي
يوصي الله بها تكون هي عيون التشريع.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه عن هذه الآيات: " إنها محكمات لم ينسخهن شيء
من جميع الكتب، وقيل إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار
".
ولم يوجد شرع جاء لينسخ واحدة من هذه الوصايا، ولذلك يقول اليهودي الذي أسلم وهو
كعب الأحبار: " والذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة: }
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ {. ثم نجد أن هذه
الوصية الأخيرة هي جامعة لكل شيء؛ نجد تسع وصايا قد مرّت؛ خمسا منها قال فيها: }
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ { ، وأربعاً قال فيها: } لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { ،
والعاشرة يقول: } لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { ، وهذه الوصية العاشرة هي الجامعة لكل
أنواع الفضائل التكليفية إنّها قوله الحق: } وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي... {
(/930)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
أي أنه ختم الوصايا التسع بهذا القول؛ لأن الصراط المستقيم يشمل الوصايا التسع
السابقة ويشمل كل ما لم يذكر هنا. وقلت: إننا نلاحظ أن الخمس الأول ذيلها الحق
بقوله: { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ، والأربع التي بعدها ذيلها الحق بقوله: {
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } والواحدة الجامعة لكل شيء قال تذييلاً لها: {
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
فما الفرق بين التعقل والتذكر والتقوى؟
إن الأشياء الخمسة الأولى التي قال الحق فيها:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا
حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }[الأنعام: 151]
هذه الأشياء كانت موجودة في بيئة نزول القرآن، إنهم كانوا يشركون بالله ويعقون
والديهم ويقتلون الأولاد ويقارفون الفواحش ويقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا
بالحق، فأوضح لهم: تَعَقَّلُوها، فإذا ما تعقلتموها تجدون أن تكليف الله بمنعكم من
هذه الأفعال، إنه أمر يقتضيه العقل السليم الذي يبحث عن الأشياء بمقدمات سليمة
ونتائج سليمة، لكن " الأربع " الأخرى، هم كانوا يفعلونها ويتفاخرون بها.
ففي التي كانوا يعملونها من القيام على أمر مال اليتيم والوفاء في الكيل والميزان
والعدل في القول والوفاء بالعهد قال: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي إياكم أن
تغفلوها؛ فإذا كنتم تفعلونها وأنتم على جاهلية؛ فافعلوها من باب أولى وأنتم على
إسلامية. ثم جاء بالوصية الجامعة: { وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ
ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام: 153]
ونظراً لأن هذه الوصية تستوعب كل الأحكام إيجابًّا وسلبًّا، نهيًّا وأمراً، فوضح
لهم أنه يجب عليكم أن تتبعوا الصراط المستقيم: لتقوا أنفسكم آثار صفات القهر من
الحق سبحانه وتعالى، وأول جنودها النار.
والصراط: هو الطريق المعبّد، ويأخذون منه صراط الآخرة، وهو- كما يقال- " أدق
من الشعرة، وأحدّ من السيف " ، ما معنى هذا الكلام؟. معناه أن يُمشى عليه
بيقظة تامة واعتدال؛ لأنه لو راح يمنة يهوي في النار، ولو راح يسرة يسقط فيها، فهو
صراط معمول بدقة وليس طريقاً واسعاً، بل- كما قلنا- " أدقّ من الشعرة وأحدّ
من السيف " فلتمش على صراط الله ومنهجه معتدلاً، فلا تنحرف يمنة أو يسرة؛ لأن
الميل- كما قلنا- يبعدك عن الغاية، إنك إذا بدأت من مكان ثم اختل توازنك فيه قدر
ملليمتر فكلما سرت يتسع الخلل، وأي انحراف قليل في نقطة البداية يؤدي إلى زيادة
الهوة والمسافة.
كذلك الدين، كلما نلتقي فيه ويقرب بعضنا من بعض، نسير في الطريق المستقيم، وكلما
ابتعدنا عن التشريع تتفرق بنا السبل.
} وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ { [الأنعام: 153]
" ورسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جلِّي بالحركة الفعلية منطوق النسبة
الكلامية، حينما جلس بين أصحابه وخطّ خطًّا. وقال: هذا سبيل الله
. ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطاً عن يساره، ثم قال: هذه سبل وعلى كل سبيل منها
شيطان؛ يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية: } وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...
{. "
ولذلك فكل أهل الحق، وأهل الخير كلما اقتربوا من المركز كان الالتقاء، وهذا
الالتقاء يظل يقرب ويقرب إلى أن يتلاشى ويصير الكل إلى نقطة واحدة.
وانظر إلى جلال الحق حينما يجعل الصراط المستقيم إليه في دينه، منسوباً إلى رسوله:
} وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً { فالرسول يسير على هذا الصراط وهو لا
يغش نفسه، والذي يفعله ويمشي فيه يأمركم بأن تمشوا فيه، وهو لم يأمركم أمراً وهو
بنجوة وبعدٍ عنه، ولو غشكم جميعاً لا يغش نفسه، وهذا هو صراطه الذي يسير فيه.
والسبيل هنا معروف أنّه إلى الله فكأن سبيل الله هو طريق محمد صلى الله عليه وسلم.
ونسب الفعل والحدث لله وحده؛ ففي البداية قال: } وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً { ، ثم قال: " سبيله " فالصراط لم يعمله محمد لنفسه، ولكن
أراده الله للمؤمنين جميعاً، ورسول الله هو الذي يأخذ بأيديهم إليه.
وحين ننظر إلى كل الخلافات التي تأتي بين الديانات بعضها مع بعض، بين اليهودية
والنصرانية على سبيل المثال:{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىا عَلَىا
شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىا لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىا شَيْءٍ... }[البقرة:
113]
والمشركون قالوا: لا هؤلاء على شيء، ولا هؤلاء على شيء:{ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ
لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ... }[البقرة: 113]
أي أننا أمام ثلاثة أقوال: اليهود قالوا: ليست النصارى على شيء، والنصارى قالوا:
ليست اليهود على شيء، وقال الذين لا يعلمون- وهم أهل مكة- مثل قولهم، ثم نجد الدين
الواحد منهما ينقسم إلى طوائف متعددة، وكل طائفة لها شيء تتعصب له، وترى أن الذي
تقول له هو الحق، والذي يقول به غيرها هو الباطل، وكيف ينشأ هذا مع أن المصدر
واحد، والتنزيلات الإلهية على الرسل واحدة؟! إن آفة كل هذا تنشأ من شهوة السلطة
الزمنية، وكل إنسان يريد أن يكون له مكانة ونفوذ وخلافة. وهذا يريد أن يتزعم
فريقاً، وذاك يريد أن يتزعم فريقاً، ولو أنهم جُمعوا على الطريق الواحد لما كانوا
فرقاء.
ونجده صلى الله عليه وسلم يقول: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة،
وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ".
وفي رواية: " كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة "
والجماعة: هم أهل السنة والجماعة، وفي رواية: " ما أنا عليه وأصحابي ".
ونلاحظ دقة هذا القول في عدد المذاهب والفرق، وإن كنتم لا تسمعون عن بعضها لأنها
ماتت بموت الذين كانوا يتعصبون لها، والذين كانوا يريدون أن يعيشوا في جلالها.
إذن الآفة تأتي خير ننظر حين إلى حكم من الأحكام، يرى فيه واحد رأيا، ويأتي الآخر
فيرى فيه رأيا آخر، لا لشيء إلا للاختلاف. ونقول لهم: انتبهوا إلى الفرق بين حكم
مُحْكَم، وحكم تركه الله مناطاً للاجتهاد فيه، فالحكم الذي أراده الله محكماً جاء
فيه بنص لا يحتمل الخلاف، وهذا النص يحسم كل خلاف. والحكم الذي يحبه الله من
المكلَّفين تخفيفاً عنهم على وجه من الوجوه يأتي بالنص فيه محتملاً للاجتهاد،
ومجيء النص من المشرع في حكم محتمل للاجتهاد، هو إذن بالاجتهاد فيه؛ لأنه لو أراده
حُكما لا نختلف فيه لجاء به محكماً.
والمثال المستمر ما تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة،
فحينما أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يضع السلاح قبل أن يؤدب بني قريظة، وهم من
شايعوا مشركي مكة في الحرب. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يُصَلَّيَنَّ أحد
العصر إلا في بني قريظة ".
فذهب الصحابة في طريقهم إلى بني قريظة، وآذنت الشمس بالمغيب وهم في الطريق فانقسم
صحابة رسول الله إلى قسمين: قسم قال: نصلي العصر قبل أن تغيب الشمس، وقال قسم آخر:
قال رسول الله لا نصلين العصر إلا في بني قريظة. فصلى قوم العصر قبل مغيب الشمس،
ولم يصل الآخرون حتى وصلوا إلى بني قريظة، ورفعوا أمرهم إلى المشرع وهو رسول الله،
فأقرّ هذا، وأقرّ هذا، لأن النص محتمل.
لماذا؟. لأن كل حدث من الأحداث يتطلب ظرفاً له زمان ومكان؛ فالذين قالوا إن الشمس
كادت تغرب ولابد أن نصلي العصر قبل مغيبها نظروا إلى الزمان. والذين قالوا لا نصلي
إلاّ في بني قريظة نظروا إلى المكان. وحينما رُفِعَ الأمر إلى المشرع الأعلم أقرّ
هؤلاء وأقرّ هؤلاء.
إذن فالحكم إن كان فيه نص محكم فلا احتمال للخلاف فيه, وإن كان الله قد تركه
موضعاً للاجتهاد فيه فهو يأتي لنا بالنص غير المحكم. ومَن ذهب إليه لا يصح أن
نخطِّئه، ولذلك بقي لنا من أدب الأئمة الذين بقيت مذاهبهم إلى الآن بعضهم مع بعض.
نجد الواحد منهم يقول: الذي ذهبت إليه صواب يحتمل الخطأ، والذي ذهب إليه مقابلي
خطأ يحتمل الصواب، وجميل أدبهم هو الذي أبقى مذاهبهم إلى الآن، وعدم أدب الآخرين
جعل مذاهبهم تندثر وتختفي ولا تدرون بها، الحمد لله أنكم لا تدرون بها.
ثم يقول الحق بعد ذلك: } ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ... {
(/931)
ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
ونحن إذا سمعنا بكلمة " ثم " نعلم انها من حروف العطف، وحروف العطف
كثيرة، وكل حرف له معنى يؤديه، وهنا { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } ،
وإيتاء موسى الكتاب كان قبل أن يأتي قوله: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } فالتوارة جاءت ثم الإِنجيل، ثم جاء القرآن ككتاب خاتم.
فكيف جاءت العبارة هنا بـ " ثم "؟. مع أن إتيان موسى الكتاب جاء قبل
مجيء قوله الحق: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }؟
ونقول لأصحاب هذا الفهم: أنت أخذت " ثم " لترتيب أفعال وأحداث، ونسيت أن
" ثم " قد تأتي لترتيب أخبار. فقد يأتي مَن يقول لك: لماذا لا تسأل عن
فلان ولا تؤدي الحق الواجب عليك له؛ كحق القرابة مثلا، فتقول: كيف، لقد فعلت معه
كذا، ثم أنا فعلت مع أبيه كذا، ثم أنا فعلت مع جدّه كذا.
إذن، فأنت تقوم بترتيب أخبار. وتتصاعد فيها، وتترقى، ولذلك قال الشاعر العربي:إن
من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّهفالسيادة جاءت أولاً للجد، ثم جاءت
للأب، ثم انتقلت للابن. و " ثم " في هذه الحالة ليست لترتيب الأحداث
وإنما جاءت للترتيب الإِخباري أي يكون وقوع المعطوف بها بعد المعطوف عليه بحسب
التحدث عنهما لا بحسب زمان وقوع الحدث على أحدهما فالمراد الترقي في الإِخبار
بالأحداث.
وانظر إلى القرآن بكمال أدائه يقول:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ
ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ... }[الأعراف: 11]
ونعلم أن الأمر من الله للملائكة بالسجود لآدم كان من البداية. فسبحانه في هذا
القول الكريم يريد أن يرتب حالنا، إنه- سبحانه- خلقنا بعد أن صورنا، وصورنا، بعد
أن قال للملائكة اسجدوا لآدم.
ولله المثل الأعلى، تجد من يقول لابنه: لقد اعتنيت بك في التعليم العالي، ثم لا
تنس أني قد اعتنيت بك في التعليم العالي، ثم لا تنس أنني قد اعتنيت بك في التعليم
الثانوي، ثم لا تنسى أنني قد اعتنيت بك في التعليم الإعدادية؛ ثم لا تنسى أنني قد
اعتنيت بك من قبل كل ذلك التعليم الابتدائي. وأنت بذلك ترتقي إخبارياً لا
أحداثياً. فقد يكون الحدث بعد ولكن ترتيب الخبر فيه يكون قبل. { ثُمَّ آتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ... } [الأنعام: 154]
طبعاً مادام جاء بسيرة موسى فالكتاب هو التوارة وإذا أطلق الكتاب من غير تحديد؛
فإنه ينصرف إلى القرآن، لأنه هو الكتاب الجامع لكل ما في الكتب، والمهيمن على كل
ما في الكتب. أما لو قيل مثلاً: أنزلنا على موسى الكتاب، فيكون الكتاب هو التوارة،
أو أنزلنا على عيسى الكتاب، فيكون الكتاب هو الإنجيل. { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 154]
والتمام هو استيعاب صفات الخير، ولذلك يقول الحق:
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي...
}[المائدة: 3]
و " أكملت " فلا نقصان، وأتممتها فلا استدراك. ولماذا جاء بالتمام على
الذي أحسن في أمر موسى عليه السلام؟. جاء ذلك لأن الذين تصدوا للجاج والجدل معه
صلى الله عليه وسلم هم اليهود.
وأنتم تعلمون أنهم صوروا في مصر هنا فيلماً سينمائياً اسمه " الوصايا العشر
" عن قصة سيدنا موسى عليه السلام. والوصايا العشر هي التي أقر " كعب
الأحبار " أنها موجودة في التوراة وجاءت في الآيات السابقة التي تناولناها
وشرحناها. فمن المناسب أن يأتي هنا ذكر موسى عليه السلام.
وحينما جاء موسى عليه السلام بالتوراة كما أنزلها الله عليه عاصره أناس آمنوا بما
في التوراة، وكانوا من الناجين، وقد ماتوا. أما الذين استمرت حياتهم إلى أن جاء
رسول الله، فكان من المطلوب منهم أن يؤمنوا به؛ لأن الحق أوضح لهم في التوراة أن
هناك رسولاً قادماً، ولابد أن تؤمنوا حتى تتم نعمة الإحسان عليكم، لأنكم وإن كنتم
مؤمنين بموسى، وعاملين بمنهجيه فلابد من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
والسابقون لكم أحسنوا في زمن بعثة رسالة موسى عليه السلام، وجاء محمد بالرسالة
الخاتمة فإن أردتم أن يتم الله عليكم الحسن والكرامة والنعمة، فلابد أن تعلنوا
الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، منكم من أحسن الاقتداء بموسى عليه السلام
وآمنوا بمحمد فتم لهم الحسن: } وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {.
} وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ { أي أنّه مناسب لزمنه، ولله المثل الأعلى، عندما
يكون لك ولد صغير السن فتقول: أنا فصلت له ملابسه، أي فصلت له الملابس التي
تناسبه. وحين يكبر لن تظل ملابسه القديمة صالحة لأن يرتديها. } وَتَفْصِيلاً
لِّكُلِّ شَيْءٍ { أي القيم التي تناسب الوقت الذي يعيشونه، فإذا ما جئنا بتفصيل
جديد في القرآن فهو مناسب لوقته، ولقائل أن يقول: هنا تفصيل، وهنا تفصيل، فما
الفرق بين تفصيل وتفصيل؟. نقول: إن كل تفصيل مناسب لزمنه، وآيات القرآن مفصلة
جاهزة ومعدة لكل زمن وللناس جميعا إلى أن تقوم الساعة.
والآفة- دائماً- في القائمين على أمر التشريع، فحينما تأتيهم حالة لذي جاه وسلطان
يحاولون إعداد وتفصيل حكم يناسبه، فنقول لمثل هذا الرجل: أنت تفصل الحكم برغم أن
الأحكام جاهزة ومعدة ظاهرة، إننا نجد القوالب البدنية تختلف فيها التفصيلات
للملابس بينما القوالب المعنوية نجد فيها التساوي بين الناس كلها، فالصدق عند
الطفل مثل الصدق عند اليافع، مثل الصدق عند الرجل، مثل الصدق عند المرأة، مثل
الصدق عند العالم، مثل الصدق عند التاجر. وليس لكل منهم صدق خاص، وكذلك الأمانة.
ورحمنا الإسلام بالقضية العقدية وكذلك بالقضية الحكيمة الجاهزة. المناسبة لكل بشر،
وليست هناك آية على مقاس واحد تطبق عليه وحده، لا، فالآيات تسع الجميع }
وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً... { [الأنعام: 154].
والهُدَى هو ما يدل على الغايات، لأن دين الفطرة قد انطمس بعدم تبليغ الآباء إلى
الأولاد منهج السماء في أمور الحياة ومتعلقاتها والقيم التي يجب أن تسود. والآفة
أن الأب يعلم ولده كيف يأكل ويشرب، وينسى أن يعلمه أمور القيم، لكن الحق سبحانه
وتعالى رحم غفلتنا، ورحم نسياننا؛ فشرع وأرسل لكل زمان رسولاً جديداً، وهدْيا
جديداً ليذكرنا. }...لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ { [الأنعام:
154]
إن كل آفة تنبع من العزوف عن تشريعات الله، وهم ينسون أن يضعوا في أذهانهم لقاء
الله، لكن لو أن لقاء الله متضح في أذهانهم لاستعدوا لذلك؛ لأن الغايات هي التي
تجعل الإنسان يقبل على الوسائل. والشاعر يقول:ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ومن
أين والغايات هي بعد المذاهبونقول لهذا الشاعر: قولك: ألا من يريني غايتي قبل
مذهبي كلام صحيح، أما قولك: ومن أين والغايات بعد المذاهب، هذا كلام غير دقيق،
فالغاية هي التي تحدد المذهب، وكذلك شرع الله الغاية أولاً، بعد ذلك جعل لهذا
السبيل. وقد شرع الله لكل شيء ما تقضيه ظروف البشر الحياتية، ولذلك لا استدراك
عليه لأن فيه تفصيلا لكل شيء. ويقول الحق بعد ذلك: } وَهَـاذَا كِتَابٌ... {
(/932)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
{ وَهَـاذَا } إشارة وعادة ما تأتي وترد على متقدم، ولكن إذا لم يكن لاسم الإشارة
متقدم أو حاضرة يشار إليه فهذا دليل على أنك إن أشرت لا ينصرف إلا إليه لأنه متعين
ينصرف إليه الذهن بدون تفكير لوضوحه. وكلمة { كِتَابٌ } تدل على أنه بلغ من نفاسته
أنه يجب أن يُكتَب ويسجل؛ لأن الإنسان لا يُسجل ولا يكتب إلا الشيء النافع، إنما
اللغو لا يسأل عنه، وقال ربنا عن القرآن: إنه " كتاب " ، ومرة قال فيه:
" قرآن " فهو " قرآن " يتلى من الصدور، و " كتاب "
يحفظ في السطور. ولذلك حينما جاءوا ليجمعوه اتوا بالمسطور ليطابقوه على ما في
الصدور. { وَهَـاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ... } [الأنعام: 155]
و " أنزلناه " أي أمَرْنا بإنزاله، ونزل به الروح الأمين، وكلمة مبارك
مأخوذة من " البركة: أي أنه يعطي من الخير والثمرة فوق ما يُظَنّ فيه، وقد
تقول: فلان راتبه مائتا جنيه، ويربي أولاده جيداً ويشعر بالرضا، وتجد من يقول لك:
هذه هي البركة. كأن الراتب لا يؤدي هذه المسئوليات أبداً. وكلمة " البركة
" تدل على أن يد الله ممدودة في الأسباب، ونعلم أن الناس ينظرون دائماً إلى
رزق الإيجاب، ولا ينظرون إلى الرزق الأوسع من الإيجاب وهو رزق السلب، فرزق الإيجاب
يأتي لك بمائتي جنيه، ورزق السلب يسلب عنك مصارف لا تعرف قدرها. فنجد من يبلغ
مرتبه ألفاً من الجنيهات، لكن بعض والده يمرض، ويحتاج ولد آخر إلى دروس خصوصية
فتتبدد الألف جنيه ويحتاج إلى ما فوقها.
إذن فحين يسلب الحق المصارف وإنفاق المال في المعصية أو المرض فهذه هي بركة الرزق،
ونجد الرجل الذي يأتي ماله من حلال ويعرق فيه يوفقه الله إلى شراء كل شيء يحتاج
إليه، ويخلع الله على المال القليل صفة القبول، ونجد آخر يأتي ماله حرام فيخلع
الله على ماله صفة الغضب فينفقه في المصائب والبلايا ويحتاج إلى ما هو أكثر منه.
وأنت حين تقارن القرآن بالتوراة في الحجم تجده أصغر منها ولكن لو رأيت البركة التي
فيه فستجدها بركة لا تنتهي؛ فكل يوم يعطي القرآن عطاءه الجديد ولا تنقضي عجائبه،
ويقرأه واحد فيفهم منه معنى، ويقرأه آخر فيفهم منه معنى جديداً. وهذا دليل على أن
قائله حكيم، وضع في الشيء القليل الفائدة الكثيرة، وهذا هو معنى { كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ }؛ فكل كتاب له زمن محدود وعصر محدود وأمة محدودة، أما
القرآن فهو يواجه من يوم أن أنزله الله إلى أن تقوم الساعة قضايا متجددة يضع لها
حلولاً. والمهم أن القرآن قد جاء على ميعاد مع طموح البشريات، وحضارتها
وارتقاءاتها في العقول؛ لذلك كان لابد أن يواجه كل هذه المسائل مواجهة تجعل له
السبق دائماً ولا يكون ذلك إلا إذا كانت فيه البركة.
وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل على رجل أمّي، وفي أمة أميّة، ولذلك حكمة بالغة لأن
معنى " أمّي " أي أنه لم يأخذ علماً من البشر، بل هو كما والدته أمه،
وجاءت ثقافته وعلمه من السماء.
إذن فالأمية فيه شرف وارتقاء بمصادر العلم له. ونزل القرآن في أمة أمية؛ لأن هذا
الدين وتلك التشريعات، إنما نزلت في هذ الأمة المتبديّة المتنقلة من مكان إلى آخر
وليس لها قانون بل يتحكم فيها رب القبيلة فقط، وحين تنزل إليها هذه القيم الروحية
والأحكام التشريعية ففي ذلك الدليل على أن الكتاب الذي يحمل هذه القيم والأحكام
قادم من السماء. فلو نزل القرآن على أمة متحضرة لقيل نقلة حضارية، لكنه نزل على أمة
لا تملك قوانين مثل التي كانت تُحكم بها الفرس أو الروم.
ومادام الكتاب له هذه الأوصاف التي تريح الخلق من عناء التشريع لأنفسهم ويضم كل
الخير، لذلك يأتي الأمر من الله: } فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ { [الأنعام: 155]
وساعة تأتي بـ " لعل " فاعلم أن فيها رجاء، وقد ترجو أنت من واحد وتقول:
لعل فلاناً يعطيك كذا، والرجاء هنا من واحد، ومَن يفعل العمل المرجو إنسان آخر،
وقد يفعل الآخر هذا العمل، وقد يغضب فلا يفعله؛ لأن الإنسان ابن أغيار، بل ومن
يدري أنه ساعة يريد أن يفعل فلا يقدر. وإذا قلت: " لعلي أفعل لك كذا " ،
وهنا تكون أنت الراجي والمرجوّ في آن واحد، ولكنك أيضاً ابن للأغيار، فأنت تتوقع
قدرتك على الفعل وعند إرادتك الفعل قد لا تتيسر لك مثل هذه القدرة.
ولماذا أنزل الحق هذا الكتاب؟. يأتي الحق هنا بالتمييز للأمة التي أراد لها أن
ينزل فيها القرآن فيقول: } أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ... {
(/933)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
فالكتاب يصفي العقائد السابقة التي نزلت على الطائفتين من اليهود والنصارى، وإذا كنتم
قد غفلتم عن دراسة التوراة والإِنجيل؛ لأنكم أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة؛
لذلك أنزلنا إليكم الكتاب الكامل مخافة أن تصطادوا عذراً وتقولوا: إن أميتنا
منعتنا من دراسة الكتاب الذي أنزل على طائفتين من قبلنا من اليهود والنصارى. وكأن
الله أنزل ذلك الكتاب قطعاً لاعتذارهم.
(/934)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
قد يحتج المشركون من أن التوراة والإِنجيل لو نزلت عليهم لكانوا أهدى من اليهود
والنصارى، وفي هذا القول ما يعني أن أذهانهم مستعدة لتقبل الإيمان، وقد قطع الله
عليهم كل عذر فجاء لهم بالقرآن، ويقول الحق: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ
بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا... } [الأنعام: 157]
و " صدف " من الأفعال التي تُستعمل متعدية وتُستعمل لازمة، ومعنى "
لازمة " أنها تكتفي بالفاعل ولا تتطلب مفعولاً، فمثلاً إذا قيل لك: جلس فلان.
تفهم أن فلاناً قد جلس ويتم لك المعنى ولا تتطلب شيئاً آخر. لكنك إن قيل لك: ضَربَ
زيد، فلا بد أنك تنتظر من محدثك أن يبين لك من الذي ضُرَب، أي أنك جئت بفعل يطلب
شئياً بعد الفاعل ليقع عليه الفعل. وهذا اسمه فعل " متعد " أي يتعدى به
الفاعل إلى مفعول به.
و " صدف " فيها الخاصتان. وجاء الحق بهذه الصيغة المحتملة لأن تكون
لازمة وأن تكون متعدية ليصيب الأسلوب غرضين؛ الغرض الأول: أن تكون " صدف
" بمعنى انصرف وأعرض فكانت لازمة أي ضل في ذاته، والأمر الثاني: أن تكون صدف
متعدية فهي تدل على أنه يصرف غيره عن الإيمان، أي يضل غيره، ويقع عليه الوزر؛
لضلال نفسه أولاً ثم عليه وزر من أضل ثانياً، ولذلك جاء سبحانه باللفظ الذي يصلح
للاثنتين " صدف عنها " أي انصرف، ضلالاً لنفسه، وصدف غيره أي جعل غيره
يصدف ويعرض فأضل غيره، وبذلك يعذبه الله عذابين، فيقول سبحانه: {... سَنَجْزِي
الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ
يَصْدِفُونَ } [الأنعام: 157]
فكأن المسألة يرتكبها: الذين صدفوا أنفسهم، وصرفوها عن الإيمان ويصدفون كل من
يحاول أن يؤمن. وهؤلاء هم القوم الذين أعرضوا وانصرفوا عن منهج الهدى، أو تغالوا
في ذلك فصرفوا غيرهم عن منهج الهدى، ولو أنهم استقرأوا الوجود الذي يعايشونه
لوجدوا الموت يختطف كل يوم قوماً على غير طريقة رتيبة، فلا السن يحكم ويحدد وقت
وزمن انقضاء الأجل، ولا الأسباب تحكمه، ولا المرض أو العافية تحكمه، فالموت أمر
شائع في الوجود، ومعنى ذلك أن على كل إنسان أن يترقب نهايته، فكأنه يتساءل: لماذا
إذن يصدفون؟. وماذا ينتظرون من الكون؟. أرأوا خلوداً في الكون لموجود معهم؟.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ... }
(/935)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
فهل ينتظرون من عطاءات الوجود المحيط بهم إلا أن تأتيهم الملائكة التي تقبض الروح؟
والملائكة تأتي هنا مجملة. وفي آيات أخرى يقول:{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ... }[النحل: 28]
ولن يتأبى أحد على الملائكة؛ لذلك يلقون لهم السلم وتنتهي المسألة.
ويتابع سبحانه: { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ
تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ
انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [الأنعام: 158]
ووقف العلماء عند هذا القول الكريم لأنهم أرادوا أن يفسروا الإتيان من الرب على
ضوء الأتيان منا، والأتيان منا يقتضي انخلاعاً من مكان كان الإنسان فيه إلى مكان
يكون فيه، وهذا الأمر لا يصلح مع الله, ونقول: أفسرت كل مجيء على ضوء المجيء
بالنسبة لك؟ بالله قل لي: ما رأيك في قوله تعالى:{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ
بِالْحَقِّ... }[ق: 19]
كيف جاءت سكرة الموت وهي المخلوقة لله؟ إننا لا نعرف كيف يجيء الموت وهو مخلوق؟
فكيف تريدون أن نعرف كيف يجيء الله؟. عليكم أن تفسروا كل شيء بالنسبة لله بما يليق
بذات الله في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ولنتأذب ونعط العقول مقدارها من
الفهم، ولنجعل كل شيء منسوباً لله بما يناسب ذات الله؛ لأن المجيء يختلف بأقدار
الجائين، فمجيء الطفل غير مجيء الشاب، غير مجيء الرجل العجوز، غير مجيء الفارس،
فما بالنا بمجيء الله سبحانه؟!! إياك - إذن - أن تفهم المجيء على ضوء مجيء البشر.
وأكررها دائماً: عليك أن تأخذ كل شيء بالنسبة له سبحانه لا بقانونك أنت، ولكن
بقانون الذات الأعلى، واجعل كل ما يخصه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ،
ولذلك قل: له سمْع ليس كسمعنا، وبصر ليس كبصرنا، ويد ليست كايدينا، في إطار {
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }. وإياكم أن تسمعوا مناقشة في قوله: { يَأْتِيَ رَبُّكَ
}. وقل إن إتيان الله ومجيئه ليس كفعل البشر، بل سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ } { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ
يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ }.
و { بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } ، هي العلامات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "
بَادِرُوا بالأعمال سِتًّا: طلوعَ الشمس من مغربها، والدُّخَان، ودابَّةَ الأرض،
والدَّجَّالَ، وخُوَيْصَةً أحَدِكُمْ وأمْرَ العامّة ".
و " خُويْصَةُ أحدكم " تصغير: خاصة، والمراد حادثة الموت التي تخص
الإنسان، وصغّرت لاستصغارها في جنب سائر العظائم من بعث وحساب وغيرهما وقيل: هي ما
يخص الإِنسان من الشواغل المقلقة من نفسه وماله وما يهتم به.
و " أمر العامّة ": أي القيامة؛ لأنها تعم الخلائق، أو الفتنة التي تعمي
وتصم، أو الأمر الذي يستبد به العوام ويكون من قبلهم دون الخواص.
} أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي
بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن
قَبْلُ { [الأنعام: 158]
لأن الإيمان لا يكون إلا بأمر غيبي؛ فكل أمر مشهدي مدرك بالحواس لا يسمى إيماناً؛
فأنت لا تقول: انا أؤمن بأني أقرأ الآن في كتاب خواطر الشيخ الشعراوي حول آيات
القرآن الكريم؛ لأنك بالفعل تقرأ هذه الخواطر الآن. وأنت لا تقول: أنا أؤمن بأن
النور يضيء الحجرة؛ لأن هذا أمر مشهدي، وليس أمراً غيبيًّا. والإِيمان يكون دائماً
بأمر غيبي، ولكن إذا جاءت الآيات فإننا ننتقل من الإِيمان بالأمر الغيبي إلى
الإِيمان بالأمر الحسي، وحينئذ لا ينفع الإِيمان من الكافر، ولا تقبل الطاعة من
صدقة أو غيرها من أنواع البر والخير بعد أن تبلغ الروح الحلقوم وتقول: لفلان كذا
ولفلان كذا، وقد كان لفلان. هذا لا ينفع؛ لأن المال لم يعد مَالَك، بل صار مال
الورثة، كذلك الذي لم يؤمن وبعد ذلك رأى الآيات الستة التي قال الشارع عنها: إنها
ستحدث بين يدي الساعة أو قبل مجيء الساعة. وساعة ترى هذه الآيات لن يُقبل منك أن
تقول: آمنت؛ لأن الإِيمان إنما يكون بالأمر الغيبي، وظهور الآيات هو أمر مشهدي فلن
يُقبل بعده إعلان الإِيمان. والحق هو القائل: } أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ
يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ
نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمَانِهَا خَيْراً { [الأنعام: 158]
أي أن الإِيمان يجب أن يكون سابقاً لظهور هذه الآيات، وألا يكون المانع له من
العمل القصور، كأن يكون الإِنسان- والعياذ بالله- مجنوناً ولم يفق إلا بعد مجيء
العلامة، أو لم يَبْلُغ إلا بعد وجود العلامة فهذا هو من ينفعه الإِيمان.
وقد عرض الحق لنا من هذه الصور ما حدث في التاريخ السابق، فهو القائل:{
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ
وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّىا إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ
أَنَّهُ لا إِلِـاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[يونس: 90]
وماذا كان رد الله عليه؟ لقد قال سبحانه:{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ...
}[يونس: 91]
إذن: إذا بلغت الروح الحلقوم، وهذه مقدمات الموت فلا ينفع حينئذ إعلانك الإيمان.
ويذيل الحق الآية بقوله: }...انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ { [الأنعام: 158]
هم منتظرون الخيبة ونحن منتظرون الفلاح.
ويقول الحق بعد ذلك: } إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ... {
(/936)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
هذه الآية تشرح الآية التي سبقت خواطرنا عنها، وهي قوله الحق:{ وَأَنَّ هَـاذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[الأنعام:
153]
والذين فرقوا دينهم نسوا أن الدين إنما جاء ليجمع لا ليفرق، والدين جاء ليوحد مصدر
الأمر والنهي في الأفعال الأساسية فلا يحدث بيننا وبين بعضنا أي خلاف، بل الخلاف
يكون في المباحات فقط؛ إن فعلتها فأهلاً وسهلاً، وإن لم تفعلها فأهلاً وسهلاً،
ومالم يرد فيه أفعل ولا تفعل؛ فهو مباح.
إذن الذين يفرقون في الدين إنما يناقضون منهج السماء الذي جاء ليجمع الناس على شيء
واحد؛ لتتساند حركات الحياة في الناس ولا تتعاند، وإذا كان لك هوى، وهذا له هوى،
وذلك له هوى فسوف تتعاند الطاقات، والمطلوب والمفروض أن الطاقات تتساند وتتعاضد.
والشيع هم الجماعة التي تتبع أمراً، هذا الأمر يجمعهم ولو كان ضلالا.
وهناك تشيع لمعنى نافع وخير، وهناك تشيع لعكس ذلك، والتشيع على إطلاقه هو أن تجنمع
جماعة على أمر، سواء أكان هذا الأمر خيراً أم شرا. { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ
دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ... } [الأنعام: 159]
إذن هم بعيدون عن منهجك يا محمد، ولا يصح أن ينسبوا إلى دينك؛ لأن الإسلام جاء
لإثبات القيم للوجود مثل الماء لإثبات حياة الوجود. ونعرف أن الماء لا يأخذ لوناً
ولا طعماً ولا رائحة، فإن أخذ لوناً أو طعماً أو رائحة فهو يفقد قيمته كماء صاف.
وكذلك الإسلام إن أخذ لوناً، وصار المسلمون طوائف؛ فهذا أمر يضر الدين، وعلينا أن
نعلم أن الإسلام لون واحد. {...إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [الأنعام: 159]
إن شاء سبحانه عاجلهم بالهزيمة أو بالعذاب، وإن شاء آجلهم إلى يوم القيامة.
ويقول الحق بعد ذلك: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ... }
(/937)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
هناك " حسن " ، و " حسنة " ولا تقل: إن حسنة هي مؤنث حسن، لأن
فيها تاء. كأنها تاء التأنيث، ولكن اسمها " تاء المبالغة " تأتي على
اللفظ الذي للذكر، مثلما تقول: " فلان علاّمة " ، " فلان راوية
للشعر " وفلان نسَّابة. هذه هي تاء المبالغة.
والحسنة هي الخير الذي يورث ثواباً، وكلما كان الثواب أخلد وأعمق كانت الحسنة
كذلك. وإذا قال الحق سبحانه وتعالى: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا }.
فـ " أمثالها " جمع " مثل " ، والمثل مذكر، والقاعدة تقول:
حين يكون المعدود مذكراً نأتي له بالتاء، وحين يكون مؤنثاً نحذف التاء لأن أصل
الأعداد مبني على التاء، لأنك عندما تعد تقول واحد، اثنان ثلاثة إلى عشرة فأصل
الأعداد مبنيٌّ على التاء، وإذا استعملته مع المؤنث تخالف بحذف التاء فيه، وإن
استعملت العدد مع الأصل وهو المذكر، تستعمله على طبيعته فتقول: " ثلاثة رجال
". وإذا أردت أن تتكلم عن الأنثى، تقول: " ثلاثة نسوة " ، والحق
هنا يقول: { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } ، و " مثل " - كما قلنا -
مذكر. والحق لم يجعل الأصل في العطاء هو " المثل " ، بل جعل الأصل هو
الحسنة: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ
بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا... } [الأنعام: 160]
وهذا هو مطلق الرحمة والفضل، ولذلك ورد الحديث القدسي.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- فيما يروى عن ربه
تبارك وتعالى- " إن ربكم عز وجل رحيم. من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة،
فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها
كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له واحدة او يمحوها الله عز وجل ولا يهلك على الله
إلا هالك ".
ونعرف أن الحق يجزي الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف، لأن كل فعل
تلازمه طاقة من الإِخلاص في نفاذه، فكأن الحق قد وضع نظاماً بأن الحسنة بعشر
أمثالها، ثم بالنية المخلصة تبلغ الأضعاف إلى ما شاء الله. وقد وضع الحق هذا
النظام؛ لأنه جل وعلا يريد للحسنة أن تُفعل، وينتفع الغير بها، فإن كان فاعلها
حريصاً على الأجر الزائد فهو يقدمها بنية مخلصة، ويقول الحق لنا:{ مَّن ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ }[الحديد: 11]
ويقول أيضاً:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ
لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ... }[البقرة: 245]
ويحدد هنا جزاء الحسنة بأن ثوابها عشر أمثالها، ونية معطي الحسنة هي التي يمكنها
أن تضاعفها إلى سبعمائة أو أزيد.
والحق سبحانه وتعالى يعطي مثلاً لذلك في قوله تعالى:{ مَّثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ
سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ... }[البقرة:261] وإذا كانت
الأرض وهي مخلوقة لله تعطيها أنت حبة فتعطيك سبعمائة فماذا يعطي خالق الأرض؟ إن
عطاءه غير محدود ولا ينفد، ولذلك يقول سبحانه:{ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ
}[البقرة: 261]
ويتابع الحق سبحانه: }...وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ
مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ { [الأنعام: 160]
مادام لا يجزي إلا مثلها فهم لا يظلمون أبداً.
ويقول الحق بعد ذلك: } قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي... {
(/938)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
و " ديناً قيماً " أي تقوم عليه مسائل الحياة، وهو قائم بها، و "
قيماً " مأخوذة من " القيمة " أو من " القيام " على
الأمر، وقام على الأمر أي باشره مباشرة من يصلحه، كذلك جاء الدين ليصلح للناس حركة
حياتهم بأن أعطاهم القيم، وهو قائم عليهم أيضاً: { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً }.
وفي كل أمر مهم له خطره ومنزلته يأتي لنا الحق بلمحة من سيرة سيدنا إبراهيم عليه
السلام، لأنه صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه فيه القدر المشترك الذي يجمع كفار
مكة، وأهل الكتاب الذين يتمحكون فيه. فقالت اليهود: إبراهيم كان يهوديًّا، وقالت
النصارى: إن إبراهيم كان نصرانيًّا، وربنا يقول لهم ولنا:{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ
يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً... }[آل
عمران: 67]
واليهودية والنصرانية جاءتا من بعده. أما بالنسبة للجماعة الأخرى ففي بيئتهم، وكل
حركات حياتهم، وتجاربهم ونفعهم من آثار إبراهيم عليه السلام ما هو ظاهر وواضح.
يقول الحق:{ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... }[إبراهيم: 37]
فسيدنا إبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت الحرام، وهو الذي عمل لهم مهابة جعلت
تجاربهم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب ولا يتعرض لها أحد، وجاءت لهم بالرزق الوفير.
وحين يقول الحق: { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام: 161]
المقصود هو الدين الذي تعيشون في كنف خيرات آثاره، و " الحنف " هو
اعوجاج في القدم. وبطبيعة الحال لم يكن دين إبراهيم مائلاً عن الحق والصواب بل هو
مائل عن الانحراف دائم الاستقامة. ونعرف أن الرسل إنما يجيئون عند طغيان الانحراف،
فإذا جاء إبراهيم مائلاً عن المنحرف؛ فهو معتدل.
ويقول الحق بعد ذلك: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي... }
(/939)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
و " صلاتي " مقصود بها العبادة والركن الثاني في الإِسلام الذي يتكرر كل
يوم خمس مرات، وهي الركن الذي لا يسقط أبداً؛ لأن شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمداً رسول الله- كما قلنا سابقاً- يكفي أن تقولها مرة في العمر، وقد يسقط عنك
الصوم إن كنت لا تستطيع، وقد لا تزكي لأنه ليس لك مال، وقد لا تستطيع الحج، وتبقى
الصلاة التي لا تسقط أبداً عن العبد. وهي- كما نعلم- قد أخذت من التكليف حظها من
الركينة.
إن كل تكليف من التكاليف جاء بواسطة الوحي إلا الصلاة فإنها جاءت بالمباشرة،
وتلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه دون واسطة. وحين يقول الحق: { إِنَّ
صَلاَتِي } ، فهو يذكر لنا عمدة الأركان والتي اشتملت على كل الأركان كما أوضحنا
سابقاً. حتى إن الإِنسان إذا كان راقداً في مرض ولا يستطيع القيام فعليه أن يحرك
رأسه بالصلاة أو يخطر أعمال الصلاة على قلبه. ويقول الحق { وَنُسُكِي }. و "
النسك " يطلق ويراد به كل عبادة، والحق يقول:{ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا
مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ... }[الحج: 67]
" النسك " إذن هو عبادة ويطلق بالأخص على أفعال كثيرة في الحج، مثل نسك
الطواف ونسك السعي، ونسك الوقوف بعرفة، ونسك الرمي، ونسك الجمار، وكل هذه اسمها
مناسك، والأصل فيها أنها مأخوذة من مادة " النسيكة " وهي السبيكة من الفضة
التي تصهر صهراً يُخرج منها كل المعادن المختلطة بها حتى تصير غاية في النقاء.
فسميت العبادة نسكاً لهذا، أي يجب أن تصفى العبادة لله كما تصفى سبيكة الفضة من كل
المعادن التي تخالطها: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي }.
وهنا أمران اختياريان، وأمران لا اختيار للإِِنسان فيهما، الصلاة والمناسك كلاهما
داخل في قانون الاختيار، لكن المحيا والممات لا يدخل أي منهما في قانون الاختيار؛
إنهما في يد الله، والصلاة والنسك أيضاً لله، ولكن باختيارك، وأنت لا تصلي إلا
لأنك آمنت بالآمر بالصلاة، أو أن الجوارح ما فعلت كذا إلا لله. إذن فأنت لم تفعل
شيئاً من عندك أنت، بل وجهت الطاقات المخلوقة لله لتأدية المنهج الذي أنزله الله
إذن إن أردت نسبة كل فعل فانسبه إلى الله.
ولماذا جاء بالصلاة والنسك وكلاهما أمر اختياري؟؛ لأنه إن كان في ظاهر الأمر لكم
اختيار، فكل هذا اختيار، فكل هذا الاختيار نابع من إيجاد الله لكم مختارين. وهو
الذي وضع المنهج فجعلكم تصلون، أو: إن صلاتي لله ونسكي لله، أي أن تخلص فيها، ولا
تشرك فيها، ولا تصلي مرائياً، ولا تصنع نسكاً مرائياً، ولا تذهب إلى الحج من أجل
أن يقولوا لك: " الحاج فلان " أبداً، بل اجعلها كلها لله؛ لأنك إن
جعلتها لغيره فليس لغيره من القدرة على الجزاء ما يجازيك الله به؛ إن جعلتها لغيره
فقد اخترت الخيبة في الصفقة؛ لذلك اجعل الصلاة والنسك للذي يعطيك الأجر. { قُلْ
إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
[الأنعام: 162]
والحياة هبة الله، وإياك أن تصرف قدرة الحياة ومظاهر الحياة في غير ما يرضي الله.
فينبغي أن يكون حياتك لله لا لشهوتك، ومماتك لله لا لورثتك، وتذكر جيداً لأن الحق
يقول بعد ذلك: { لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ... }
(/940)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
وهذا القول يدل على أن بعض الخلق قد يجعل لله شريكاً في العبادة فيجعل صلاته
ظاهرية رياء، ومناسكه ظاهرية رياء، وحياته يجعلها لغير واهب الحياة. ويعمل حركاته
لغير واهب الحياة، ويجعل مماته للورثة وللذرية؛ لذلك عليك أن تتذكر أن الله لا
شريك له. {...وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:
163]
وهذا أمر من الله لرسوله، وكل أمر للرسول هو أمر لكل مؤمن برسالته صلى الله عليه
وسلم، والأوامر التي صدرت عن الرب هي لصالحك أنت. فسبحانه أهل لأن يُحب، وكل عبادة
له فيها الخير والنفع لنا، وأنا لا أدعيه لنفسي بل هو عطاء من ربكم وربي الذي أمر.
ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حينما رأى أن رسوله صلى الله عليه وسلم مشغول بأمر أمته
أبلغنا:{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة: 128]
وفي كل شيء كان صلى الله عليه وسلم يقول: أمّتي أمتي أمتي أمتي، وأراد الحق سبحانه
وتعالى أن يطمئن رسوله على محبوبية أمته فقال له: " إنا سنرضيك في أمتك ولا
نسؤوك ".
والحديث بتمامه كالآتي:
" عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ
النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي... } الآية.
وقال عيسى عليه السلام: { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
فرفع يديه وقال: " اللهم أمتي أمتي " وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل
اذهب إلى محمد وربك أعلم فسلْه ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله
وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو اعلم، فقال عز وجل: يا جبريل اذهب
إلى محمد فقل: إنا سَنُرضيك في أمتك ولا نسوؤك ".
ونزل قوله الحق:{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا }[الضحى: 5]
روي عن علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " إذن لا أرضى وواحد
من أمتي في النار ".
ويذيل الحق الآية بقوله: { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }
وحين يقول صلى الله عليه وسلم: وأنا أول المسلمين في أمته فهذا قول صحيح صادق لأنه
قبل أن يأمر غيره بالإسلام آمن هو بالإسلام، وكل رسول أول المسلمين في أمته، لكن
هناك أناس يقولون: لنأخذ العبارة هكذا، ونقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم له منزلة
بين رسل الله أجمعين تتجلى في أنه أخذ العهد على غيره له، ولم يؤخذ العهد علية
لأحد. فإن أول المسلمين في أمته، فهو أول المسلمين بين الرسل أيضآ، وإن لم تأخذها
حدثاً خذها للمكانة. وأضرب هذا المثل: هب أن كلية الحقوق أنشئت مثلا سنة كذا
وعشرين، لكل سنة لها أول من التلاميذ ثم جاء واحد وحصل على 100% هذا العام فنقول
عنة: إنة الأول على كلية الحقوق من يوم أن أنشئت.
ويقول الحق بعد ذلك: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ... }
(/941)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
معنى الرب هو الذي تولى التربية، وله السيادة، وكل شيء في الوجود مربوب لله، فكيف
أخذ شيئا من الأشياء التي هو ربها ليكون شريكا له؟!! إن ذلك لا يصح أبدآ. { قُلْ
أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً... }
وهذا إنكار يأتي في صورة استفهام من كل سامع. وكأن الحق يقول لكل منا: أعرض هذا
على ذهنك عرضاً غير متحيّز، وأنا سأئتمنك على الجواب. ولا تقال ذلك إلا وقد تأكد
أن الجواب يكون: لا، فلو كان الجواب يحتمل هذه أو تلك لما آمنك على الجواب. وكأنه
يقول: إن أي عاقل يجيب على هذا السؤال سيوافقني في أنه لا ينبغي أن يتخذ غير الله
ربًّا. { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا... } [الأنعام: 164]
و " أبغى " أي أطلب، و " تكسب " مأخوذة من مادة " كسب
" و " اكتسب " ، و " كسب " دائماً تأتي في الخير- كما
علمنا من قبل-، و " اكتسب " تأتي في الشر. لكنْ هناك أناس يعتادون على
فعل السيئات ولم تعد تكلفهم شيئاً، فكأنها لسهولة ذلك عليهم تعتبر كسباً. ومن
الحمق أن تقول هذا كسب، وهو عليك وليس لك؛ لأنك حين تنظر إلى التسمية نفسها تفهم
أنها ليست رصيداً لك بل عليك. { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا
وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىا... } [الأنعام: 164]
والوزر هو الحمل الشاق، وإن اشتق منه شيء فإن المشقة والصعوبة تلازمه؛ ككلمة
" وزير " ، والحق هو القائل:{ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي *
هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي }[طه: 29-31]
كأن موسى عليه السلام عرف أن حمل الرسالة إلى اليهود عملية شاقة فقال لله: أعطني
أخي يساعدني في هذه المشقة.
والحق هو القائل:{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ *
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ }[الشرح: 1-3]
وكان النبي عليه الصلاة والسلام في أول استقباله للوحي قد عانى من وقع هذه العملية
وكان أمرها شاقاً عليه؛ لأن المسألة تقتضي التقاءات مَلَكية ببشرية، ولابد أن يحدث
تفاعل، وهذا التفاعل الذي كان يظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحمر وجهه،
ويتصبب منه العرق، وبعد ذلك يقول: زملوني زملوني ودثروني، وإن كان قاعداً وركبته
على ركبة أحد بجانبه فيشعر جاره بالثقل، وإن كان على دابة تئط وتئن تعباً، لأن
التقاء الوحي برسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أمرين: إما أن يتحول الوحي
وهو حامل الرسالة إلى بشرية مماثلة لبشرية الرسول، وإما أن الرسول ينتقل إلى
ملائكية تتناسب مع استقباله للملك. وهكذا كان التقاؤه بالملكية يتطلب انفعالاً
وتفاعلاً.
لكن لما أنس صلى الله عليه وسلم بالوحي عرف حلاوة استقباله نسي المتاعب، ولذلك
عندما فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتاق إليه. وكان الوحي من قبل
ذلك يتعبه، ويجهده، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبقى في نفسه حلاوة ما أوحي به
إليه، وتهدأ نفسه وترتاح ويشتاق إلى الوحي، فإذا ما استقبل الوحي بشوق فلن يتذكر
المتاعب. }...وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىا ثُمَّ إِلَىا رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ { [الأنعام: 164]
إذن مادة الوزر هي الثقل بمشقة، أي لا يحمل إنسان مشقة ثقيلة عن آخر؛ فالمسئولية
لا تتعدى إلا إذا تعدى الفعل، وعرفنا من قبل الفارق بين من ضل في ذاته، ومن أضل
غيره ليحمل أوزاره مع أوزارهم لتعديه بإضلالهم. وسنعود جميعاً إلى ربنا لينبئنا
بما كنا فيه نختلف.
ويقول جل وعلا بعد ذلك: } وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ... {
(/942)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
وهناك قول كريم في آية أخرى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ...
}[فاطر: 39]
وهنا يقول الحق: { جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ }.
ومعنى " خليفة " أي الذي يخلف غيره؛ فإما أن يخلفه زماناً، وإما أن
يخلفه مكاناً. وخلفه الزمان أن يأتي عصره بعد عصره، ويومه بعد يومه، وخلفة المكان
أي أن يكون جالساً ثم يرحل ليأتي آخر ليستقر مكانه، وانظر إلى كل قواعد الحياة
بالنسبة للإِنسان تجده في شبابه قويًّا، ثم يرحل عنه الشباب ليأخذه آخره، ويذهب
إلى الشيخوخة. وكذلك نجد إنساناً يملك مكاناً ثم يتركه ويأتي واحد آخر يملكه. أو
أن الحق سبحانه وتعالى أراد من الخلافة، لا خلافة بعضنا لبعض ولكن خلافة الإِنسان
لرب الإِنسان في الأرض؛ لأن كل شيء منفعل لله قهراً، والحق سبحانه وتعالى منح بسعة
عطائه؛ فجعل بعض الأشياء تنفعل لبعضها هبةً منه سبحانه، فإذا أوقدت النار- على
سبيل المثال- تنفعل لك، وإذا حرثت في الأرض ووضعت فيها البذور تنفعل لك، وإذا شربت
ترتوي، وإذا أكلت تشبع. من أين أخذت كل ذلك؟.
إنك قد أخذته من أن الحق الذي سخّر لك ما في الكون، وجعل أسباباً ومسببات، فكأنك
أنت خليفة إرادات؛ لكي يثبت لنا سبحانه أنه يفعل ما يريد، فعلينا أن نأخذ هذه
القضية قضية مسلمة، وإن أردت أن تختبر ذلك فانظر إلى أي إنسان ولو كان كافراً
ويريد أن يقوم من مكانه، وتنفعل له جوارحه فيقوم، فأي جارحة أمرها أن تفعل ذلك؟.
إنه لا يعرف إلا أنه بمجرد أنه أراد أن يقوم قد قام. وحتى لا تفهم أنك أخذت كل ذلك
بشطارتك فهو يجعل بعضاً من الأمور مشاعاً عالمياً، مثل الموت والحياة إنهما أمران،
لا يختلف فيهما الإنجليزي عن الفرنسي، عن العربي، وكذلك الضحك والبكاء، وهل هناك
فرق بين ضحكة إنجليزية، أو ضحكة شيوعية أو ضحكة رأسمالية؟. طبعاً لا، فكلها ضحك
وهو لغة عالمية، ولذلك قال:{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىا }[النجم: 43]
وسبحانه جاء بأمر مشترك موجود في الناس كلها، فأنت تتكلم وتعمل على الصورة
والكيفية التي تريدها، لكنك ساعة تضحك فهو سبحانه الذي يضحك. وأنت حين تود مجاملة
أحد وتضحك له فتفاجأ بأن ضحكتك صناعية.
والحق يوضح لك: إن زمام كوني في يدي، أجعل القوم مختارين في أشياء، وأجعلهم مرغمين
ومتحدين على رغم أنوفهم في أشياء؛ فأنا الذي أضحك وأبكي. ولا يوجد بكاء إنجليزي أو
بكاء فرنساوي أو بكاء ألماني، وكل البشر شركاء في مثل هذه الأمور. { وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ... } [الأنعام: 165]
إن إرادتك على أبعاضك، وعلى جوارحك- أيها الإنسان- موهوبة لك من الواهب الأعلى
والمريد الأعلى، وسبحانه يسلب ذلك من بعض الأفراد، فيأمر المخ: إياك أن ترسل إشارة
لتلك الجارحة لتنفعل.
فيصاب هذا الإنسان بالشلل.
ولو كان الأمر شطارة من الإنسان لقاوم ذلك.
أنتم- إذن- خلائف الأرض؛ تنفعل لكم الأشياء بقدر ما أراد الله أن تنفعل لكم، فإذا
سلب انفعلها عنكم فلكي يثبت أنكم لم تسخروها بقدراتكم، بل به هو، إن شاء أطلق
الخلافة، وإن شاء قيد الخلافة، وإن شاء قيد الخلافة. } رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ {
كأن من الخلافة أننا لا نكون متماثلين متطابقين، بل أراد سبحانه أن نكون متكاملين
في المواهب، وفي الكماليات؛ لأن الناس لو كانوا صورة مكررة في المواهب، لفسدت
الحياة، فلابد أن تختلف مواهبنا، لأن مطلوبات الحياة متعددة، فلو أصبحنا كلنا
أطباء فالأمر لا يصلح، ولو كنا قضاة لفسد الأمر، وكذلك لو كنا مهندسين أو فلاحين.
إذن فلابد من أن تتحقق إرادة الله في قوله سبحانه: } وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ... { [الأنعام: 165]
أي أن البعض قد رُفِعَ، والبعض الآخر رُفِعَ عليه، فمن هو البعض المرفوع؟
ومن هو البعض المرفوع عليه؟. إن كل واحد فيكم مرفوع في جهة مواهبه، ومرفوع عليه
فيما لا مواهب له فيه؛ لأن الحق يريد أن يتكاتف المخلوقون، ولا ينشأ التكاتف
تفضلاً، وإنما ينشأ لحاجة، فلابد أن تكون إدارة المصالح في الكون اضطراراً، وهذه
هي هندسة المكون الأعلى سبحانه التي تتجلى في أنك وضعت خريطة لمن دخلوا معك في
مرحلة التعليم الابتدائي. ومن ترك منهم الدراسة ومن استمر ليدخل الدراسة
الإعدادية. إنك تجدهم أقل، ومن درس في المرحلة الثانوية أقل، ومن تعلم التعليم
العالي أقل، ومن نال الدكتوراه أقل.
وهكذا نجد أن البعض يتساقط من التعليم لأن هناك أكثر من مهمة في الكون لا تحتاج
إلا إلى حامل الابتدائية فقط، أو حامل الإعدادية، أو إلى حامل شهادة إتمام الدراسة
الثانوية، ولو ظل كل واحد منهم في التعليم العالي، فلن نجد لتلك المهام أحداً.
لذلك جعل الله التكاتف في الكون احتياجاً لا تفضلاً.
والحظوا جيداً: أن الإنسان إذا عضّه جوع بطنه أو جوع عياله فهو يقبل أي عمل، وإن
رضي بقدر الله فيما وضعه فيه، ولم يحقد على سواه فسيتقن هذا العمل، وسيتفوق فيه
وسيرزقه الله الرزق الحلال الطيب. ولذلك قال الإمام علي: قيمة كل امرئ ما يحسنه،
فإن أحسن الإنسان عمله، فهو إنسان ناجح في الوجود.
وهكذا أراد الحق سبحانه وتعالى ألا يجلنا أشخاصاً مكررين، ولكن جعلنا متفاضلين
متفاوتين، فرفع بعضاً على بعض، وكل منا مرفوع فيما يجيد، ومرفوع عليه فيما لا
يجيد، حتى يحتاج الإنسان منا إلى غيره ليؤدي له العمل الذي لا يجيده وبذلك يرتبط
العالم ارتباط مصلحة وحاجة لا ارتباط تفضل. } وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ.
.. { [الأنعام: 165]
كأن هذا الرفع هو اختبار للبشر فيما أعطاهم الله من الواهب. ليعلم علم الإلزام
للعبد؛ فسبحانه يعلم أزلاً كل ما يصدر عن العبد، ولكنه يترك للعبد فرصة أن يؤدي
العمل ليكون ملتزماً بم فعل. وتكون حجة على العبد. وحينما يقول الحق: }
لِّيَبْلُوَكُمْ { فالمقصود ليختبركم اختبار إقرار على نفوسكم، لا إخباراً له.
}... لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ { [الأنعام: 165]
وسبحانه " سريع العقاب " ، وإياك أن تستبطئ الآخرة، فالثواب والعقاب
سيأتي بعد أن ننتهي ونموت. وليس الموت سبب؛ فكل إنسان عرضة لأن يموت، وبذلك تكون
قيامته قد قامت، وإن قامت قيامة الإنسان فلن يقوم بأي عمل آخر. إذن فسبحانه سريع
العقاب. ولكن البعض من القوم يغريهم حلم الله ويستبطئون الآخرة. لذلك يقول أحد
العارفين: اجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل
خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
إذن فكل صفة من صفات الحق يتجلى ويظهر أثرها في المخلوق هبة من الله له، فأنت إذا
أردت أن تقف، مثلاً، لا تعرف ما هي العضلات التي تحركها لتقف، ولكنك بمجرد إرادتك
ان تقف تقف، وذلك مظهر لإرادة الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وما دمنا خلائف فلابد أن نتكامل ولا نتكرر، بمعنى أن كل واحد فيه موهبة تنقص من
الآخر، وفي الأخر موهبة تنقص في غيره، ليضطر كل مخلوق في الأرض أن يتعاون مع آخر،
ليأخذ ثمرة مواهب غيره، ويعطي هو ثمرة مواهبه. ولا يريد الحق منا أن نعطي ثمرات
المواهب تفضلاً، وإنما يريد أن يجعلها حاجة. فأنت تحتاج إلى موهبة من لا موهبة لك
فيه، إنك تحتاج إلى الغير، وهو كذلك أيضاً يحتاج إلى عملك.
وحين يستخلفنا الله تبارك وتعالى بهذه الصورة فبعضنا في ظاهر الأمر يكون أعلى من
بعض، لذلك يوضح سبحانه: أنا فضلت بعضكم على بعض، لكني لم أفضل طائفة لأجعل طائفة
مفضولاً عليها، ولكن كلْ مفضل في شيء لأن له فيه مواهب، ويكون مفضلا عليه في شيء
آخر لا مواهب له فيه، وهكذا يتساوى الناس جميعا.
إننا جميعاً عيال الله، وليس أحد منا أولى بالله من أحد؛ لأنه سبحانه لم يتخذ
صاحبة ولا ولداً؛ ولذلك إن حاولنا إحصاء المواهب في البشر وتوزيعها على الخلق
جميعاً لوجدنا أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان آخر، ولكن أنت تأخذ في
موهبة ما تفوقاً، وفي الموهبة الأخرى لا تجد نفسك قادراً عليها، وفي موهبة ثالثة
قد تقدر عليها لكنك لا تحبها، واجمع الدرجات كلها في جميع المواهب ستجد أن كل
إنسان يساوي الآخر، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ
الْعِقَابِ... { [الأنعام: 165]
إذن فكل واحد منا يقدر أن يقول: أنا مرفوع، ولكن عليه ألاّ يغتر؛ لأنه مرفوع عليه
أيضاً. والتوازن يأتي من هذه الناحية، فلا غرور برفعتك في درجة، ولا مذلة بانخفاضك
في درجة؛ لأن هذا مراد الله وذلك مراد له - سبحانه - والذي يحترم قدر الله في
توزيع مواهبه على الخلق يعطيه الله خير موهبته، فلا يتميز ذو موهبة أخرى عليه
أبداً.
ولكن أينجح الناس جميعاً في هذا؟. لا، فهناك أناس يتساقطون، وهناك من يرى واحداً
أغنى منه وهو فقير، فيبدأ في الغل والحقد والحسد، ونقول له: انظر إلى قوتك فقد
تكون أقوى منه، وقد تكون أسعد منه في أمور كثيرة. خذ الموهبة التي أعطاها الله لك،
والموهبة التي أعطاها لغيرك وستجد مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، فالذي
ينجح في هذه المعادلات التفاضلية يكون له من الله ثواب. فيتجاوز له سبحانه عن بعض
سيئاته، ويغفر له. والذي لا يحترم قدر الله في خلق الله يعاقبه الله؛ لذلك أوضح
سبحانه: أنا أبلوكم وأختبركم، فمن ينجح فله غفران ورحمة، ومن لا ينجح فله عقاب،
ولا تظنوا أن عقابي بعيد؛ لأن ما بين الإنسان والعقاب أن يموت، وليس هناك سبب
معروف للموت؛ فمن الممكن أن يموت الإنسان لوقته، فيبدأ عقابه. }... إِنَّ رَبَّكَ
سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ { [الانعام: 165]
وبذلك ختمت سورة الأنعام، التي استهلها الله بقوله سبحانه: } الْحَمْدُ للَّهِ {.
وختمها بقوله: } وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ {.
فالحمد لله في الأولى.
والحمد لله في الآخرة.
(/943)
المص (1)
قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة الأعراف لابد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة في كتاب الله،
الله يقول:{ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
}[الانعام: 165]
ونقرأ الكلمة الأخيرة في سورة الأنعام { رَّحيِمٌ } ، ونجدها مبنية على الوصل؛ لأن
آيات القرآن كلها موصولة، وإن كانت توجد فواصل آيات، إلا أنها مبنية على الوصل،
ولذلك تجد { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة؛ لأن التنوين إذا
جاء بعده باء، يقلب التنوين ميماً، فالميم الصغيرة موجودة على رحيم، قبل أن تقرأ {
بسم الله الرَّحْمانِ الرَّحِيـمِ } ، وتصبح القراءة: " غفور رحيم "
" بسم الله ".
وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل، فكأن القرآن ليس أبعاضاً. وكان من الممكن
أن يجعلها سكوناً، وأن يجعل كل آية لها وقف، لا، إنّه سبحانه أراد القرآن موصولاً،
وإن كان في بعض الآيات إقلاب، وفي بعضها إدغام، وهذا بغُنَّة، وهذا بغير غُنَّة،
ويقول الحق:
بسم الله الرَّحْمانِ الرَّحِيـمِ
{ المص }
وفي هذه الآية فصل بين كل حرف، فنقرأها: " ألف " ثم نسكت لنقرأ "
لام " ثم نسكت لنقرأ " ميم " ثم نسكت لنقرأ " صاد ".
وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة؛ لأن هذه حروف مقطعة، مثل " الم، حم، طه، يس،
ص، ق، وكلها مبنية على السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن الحروف وإن خيل لك
أنها كلمة واحدة، لكن لكل حرف منها معنى مستقل عند الله، وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا
أقول ألم حرف، ولكن أَلِفٌ حرف، ولامٌ حرف، وَمِيمٌ حرف ".
والرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقلالية، ولا تكون
كذلك إلا إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها، فهمها من فهمها، وتعبد
بها من تعبد بها، وكل قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف، فلو أن قارئاً قال: "
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ونطق بعد ذلك بحرف أو بأكثر، فهو قد أخذ بكل
حرف حسنة، وحين نقرأ بعضاً من فواتح السور، نجد أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق:{
الم }[البقرة: 1]
ونقرأ هنا في أول سورة الأعراف: { المص } [الأعراف: 1]
وهي حروف مقطعة. نطقت بالإِسكان، وبالفصل بين كل حرف وحرف. ويلاحظ فيها أيضاً أنها
لم تقرأ مسميات، وإنما قُرئت أسماء، ما معنى مسميات؟ وما معنى أسماء؟. أنت حين
تقول: كتب، لا تقول " كاف " " تاء " " باء " ، بل
تنطق مسمى الكاف كَ، واسمها كاف مفتوحة، أما مسماها فهو " كَ ".
إذن فكل حرف له مسمى، أي الصوت الذي يقوله الإِنسان، وله اسم، والأمي ينطق
المسميات، وإن لم يعرف أسماءها. أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول:
" كتب " أنها مكونة من كاف مفتوحة، وتاء مفتوحة، وباء مفتوحة، أما الأمي
فهو لا يعرف هذا التفصيل.
وإذا كان رسول الله قد تلقى ذلك وقال: ألف لام ميم، وهو أمي لم يتعلم. فمن قال له
انطق مسميات الحروف بهذه الأسماء؟.
لابد أنه قد عُلَّمَهَا وتلقاها، والحق هو القائل:{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة: 18]
فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه، ولذلك تجد عجائب؛ فأنت تجد " ألم " في
أول البقرة، وفي أول سورة آل عمران، ولكنك تقرأ الآية الأولى من سورة الفيل:{
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1]
ما الفرق بين الألف واللام والميم في أول سورة البقرة، وسورة آل عمران وغيرهما،
والحروف نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشَّرْح؟ أنت تقرأها في أول سورة
البقرة وآل عمران أسماء. وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات. والذي جعلك تفرق بين
هذه وتلك أنك سمعتها تقرأ في أول البقرة وآل عمران هكذا، وسمعتها تقرأ في أول سورة
الفيل هكذا. إذن فالقراءة توقيف، وليس لأحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من
معلم. لا، لابد أن يسمعه أولاً حتى يعرف كيف يقرأ.
ونقرأ } المص { في أول سورة الأعراف، وهي حروف مقطعة، ونعرف أن الحروف المقطعة
ثمانية وعشرون حرفاً، ونجد نصفها أربعة عشر حرفاً في فواتح السور، وقد يوجد منها
في أول السورة حرف واحد مثل:{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ }[ق: 1]
وكذلك قوله الحق:{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ }[ص: 1]
وكذلك قوله الحق:{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }[القلم: 1]
ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان، مثل قوله الحق:{ حـم }[الأحقاف: 1]
ومرة تأتي ثلاثة حروف مقطعة مثل:{ الم }[البقرة: 1]
ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق: } المص { [الأعراف: 1]
ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق:{ كهيعص }[مريم: 1]
وإذا نظرت إلى الأربعة عشر حرفاً وجدتها تمثل نصف الحروف الأبجدية، وهذا النصف فيه
نصف أحكام الحروف، فبعضها منشور، أو مهموس، أو مخفي، أو مستعلٍ، ومن كل نوع تجد
النصف، مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق، ومع أن توصيف الحروف، من مستعل، أو
مفخم، أو مرقق، أو منشور، أو مهموس، هذا التوصيف جاء متأخراً عن نزول القرآن، ولكن
الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة، وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم أميَّا، ولم يجلس إلى معلم، فكيف نطق بأسماء الحروف،
وأسماء الحروف لا يعرفها إلا من تعلم؟! فهو إذن قد تلقنها، وإننا نعلم أن القرآن
جاء متحديَّا العرب؛ ليكون معجزة لسيد الخلق، ولا يُتَحَدَّى إلا من كان بارعاً في
هذه الصنعة.
وكان العرب مشهورين بالبلاغة، والخطابة والشعر، والسجع وبالأمثال؛ فهم أمة كلام،
وفصاحة، وبلاغة، فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم، وحين يتحدى الله العرب بأنه أرسل
قرآناً لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فالمادة الخام- وهي اللغة- واحدة، ومن حروف
اللغة نفسها التي برع العرب فيها. وبالكلمات نفسها التي يستعملونها، لكنهم عجزوا
أن يأتوا بمثله؛ لأنه جاء من رب قادر، وكلام العرب وبلاغتهم هي من صنعة الإنسان
المخلوق العاجز.
وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تلقى القرآن من الملأ الأعلى لأنه أمي لم يتعلم شيئاً، لكنه عرف أسماء الحروف،
ومعرفة أسماء الحروف لا يعرفها - كما قلت - إلا المتعلم، وقد علمه الذي علم بالقلم
وعلم الإنسان ما لم يعلم، ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول هذه الآيات، وفي هذه
الحروف معان كثيرة، ونجد أن الكثير من المفكرين والمتدبرين لكلام الله وجدوا في
مجال جلال وجمال القرآن الكثير، فتجد متصوفاً يقول إن " المص " جاءت هنا
لحكمة، فأنت تنطق أو كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق، واللام تنطقها من اللسان،
والميم تنطقها من الشفة، وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان والشفة.
قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءاً للخلق من
آدم. إشارة إلى أولية خلق الإنسان، ووسطاً وهو المعاش، ونهاية وهو الموت والحساب
ثم الحياة في الدار الأخرة، وجاءت " الصاد " لأن في هذه السورة قصص أغلب
الأنبياء.
هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع بها، أنردها عليه؟ لا نردها بطبيعة الحال، ولكن
نقول له: أذلك هو كل علم الله فيها؟. لا؛ لأن علينا أن نتعرف على المعاني التي
فيها وأن نأخذها على قدر بشريتنا، ولكن إذا قرأناها على قدر مراد الله فيها فلن
نستوعب كل آفاق مرادات الله؛ لأن أفهامنا قاصرة.
ونحن البشر نضع كلمات لا معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة، فمثلا نجد في
الجيوش من يضع " كلمة سر " لكل معسكر فلا يدخل إلا من يعرف الكلمة. من
يعرف " كلمة السر " يمكنه أن يدخل. وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها،
وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من معسكر الجيش ولا يعرفها. } المص {
[الأعراف: 1]
ونجد بعد هذه الحروف المقطعة حديثاً عن الكتاب، فيقول سبحانه: } كِتَابٌ أُنزِلَ
إِلَيْكَ... {
(/944)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
وساعة تسمع " أنزل " فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى.
وقال بعض العلماء: وهل يوجد في صدر رسول الله حرج؟. لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من
ربنا ويوضح فيه { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } ، فالنهي ليس لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه
يقول: يا حرج لا تنزل قلب محمد.
لكن بعض العلماء قال: لقد جاء الحق بقوله سبحانه: { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ
حَرَجٌ }؛ لأن الحق يعلم أم محمداً قد يضيق صدره ببشريته، ويحزن؛ لأنهم يقولون
عليه ساحر، وكذاب، ومجنون, وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافاً أنت أعلم منه بعدم
وجودها فيك فهو الكاذب؛ لأنك لم تكذب ولم تسحر، وتريد هداية القوم، وقوله سبحانه:
{ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } قد جاء لأمر من اثنين: إما أن يكون الأمر
للحرج ألا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا
تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآناً ليصبح منهج خلقه وصراطاً
مستقيماً لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تماماً. {...فَلاَ
يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىا لِلْمُؤْمِنِينَ }
[الأعراف: 2]
والإِنذار لا يكون إلا لمخالف؛ لأن الإِنذار يكون إخباراً بشر ينتظر من تخاطبه.
وهو أيضاً تذكير للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة: {...هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ }
وهنا نلاحظ ان الرسالات تقتضي مُرْسِلاً أعلى وهو الله، ومُرَسَلاً وهو الرسول،
ومُرْسَلاً إليه وهم الأمة، والمرسَل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما لا، وجاءت
الآية لتقول: { كِتَابٌ أُنزِلَ } من الله وهو المرسِل، و " إليك " لأنك
رسول والمرسَل إليهم هم الأمة، إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن تذكرهم وتهديهم
وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.
ويقول الحق بعد ذلك: { اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ... }
(/945)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
وما دام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل
الهداية، ومن يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم: { اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ
إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [الأعراف: 3]
وينهاهم عن الشرك وعدم الاستهداء أي طلب الهداية فيقول: { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن
دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 3]
وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه الآيات ويقول: " وذكرى ". أو "
وذكِّر " إنما يلفتنا إلى أن الفطرة المطبوع عليها الإِنسان مؤمنة، والرسالات
كلها لم تأت لتنشئ إيماناً جديداً، وإنما جاءت لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام
كنا في عالم الذر، وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن
بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ... }[الأعراف: 172]
هذا هو الإقرار في عالم الذر، إذن فحين يقول الحق: { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
فنحن نلتفت إلى ما نسي الآباء أن يبلغوه للأبناء؛ فالآباء يعلمون الأبناء متطلبات
حياتهم، وكان من الواجب أن يعلموهم مع ذلك قيم هذه الحياة التي تلقوها؛ لأن آدم
وحواء ما نزلا إلى الأرض قال لهما الحق:{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ... }[طه: 123]
وهكذا نعلم أن هناك " هدى " قد نزل على آدم، وكان من الواجب على آدم أن
يعلمه للأبناء، ويعلمه الأبناء للأحفاد، وكان يجب أن يظل هذا " الهدى "
منقولاً في سلسلة الحياة كما وصلت كل أقضية الحياة. ويأتي سبحانه لنا بحيثيات
الاتباع. { اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ... } [الأعراف: 3]
فالمنهج الذي يأتي من الرب الأعلى هو الذي يصلح الحياة، ولا غضاضة على أحد منكم في
أن يتبع ما أنزل إليه من الإله المربي القادر. الذي ربّى، وخلق من عدم، وأمد من
عدم، وهو المتولي للتربية، ولا يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ولا
يربي قيمنا بالأخلاق. { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ }.
ومادام قد أوضح: اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى، فلا يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ
منه، مثلما يفعل العالم الآن حين يأخذ قوانينه من دون الله ومن هوى البشر. فها يحب
الرأسمالية فيفرضها بالسيف، وآخر يحب الاشتراكية فيفرضها البشر. بالسيف. وكل واحد
يفرض بسيفه القوانين التي تلائمه. وكلها دون منهج الله لأنها أفكار بشر، وتتصادم
بأفكار بشر، والأولى من هذا وذاك أن نأخذ مما لا نستنكف أن نكون عبيداً له.
{...وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
[الأعراف: 3]
وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في اتباع منهج الله تتجلّى في أنك لا تخضع لمساوٍ لك،
وهذه ميزة الدين الذي يجعل الإنسان يحيا في الكون وكرامته محفوظةً، وإن جاءته
مسألة فوق أسبابه يقابلها بالمتاح له من الأسباب مؤمناً بأن رب الأسباب سيقدم له
العون، ويقدم الحق له العون فعلاً فيسجد لله شاكراً، أما الذي ليس له رب فساعة أن
تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد ينتحر.
ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالات سائر من لدن آدم، وكلما طرأت الغفلة على
البشر أرسل الله رسولاً ينبههم. ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات،
بحيث إذا مالت الذات إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول: لماذا فعلت هكذا؟.
وهذه هي النفس اللوامة. فإذا ما سكتت النفس اللوامة واستمرأ الإنسان الخطأ، وصارت
نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت؛ فالمجتمع الذي حوله يعدله.
وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر، فكل واحد يوصَّى في ظرف، ويوصِّي في ظرف آخر؛
فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح الإنسان،
ويتبادل الإنسان النصح مع غيره، هذا هو معنى التواصي؛ فالوصية لا تأتي من جماعة
تحترف توصية الناس، بل يكون كل إنسان موصياً فيما هو فيه قوي، ويوصي فيما هو فيه
ضعيف، فإذا فسد المجتمع، تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، ومنهج جديد، لكن
الله أمن أمة محمد على هذا الأمر فلم يجيء رسول بعده لأننا خير أمة أخرجت للناس.
والخيرية تتجلى في أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فالتواصي باقٍ إلى أن تقوم
الساعة.{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... }[آل عمران: 110]
وهذه خاصية لن تنتهي أبداً، فإن رأيت منكراً فلابد من خلية خير تنكره وتقول: لا،
وإذا كان الحق قد جعل محمداً خاتم الرسل، فذلك شهادة لأمته أنها أصبحت مأمونة، وأن
المناعة الذاتية فيها لا تمتنع وتنقطع، وكذلك لا تمتنع منها أبداً المناعة
الاجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَكَم مِّن قَرْيَةٍ... {
(/946)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
وساعة تسمع " كم " فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم
عنها، وهذا يدل على أمر كثير فوق العدد، لكن عندما يكون العدد قليلاً فلا يستفهم
عنه، بل يعرف. والقرية اسم للمكان المعد إعداداً خاصاً لمعيشة الناس فيه. وهل
القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها؟. أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان
والمكين: أو يكون المراد بالقرية أهلها، مثال ذلك قوله الحق في سورة يوسف:{
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ... }[يوسف: 82]
وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني، بل يسأل أهل القرية، ولم يقل
الحق: اسأل أهل القرية؛ لأن المسئول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع
المكين، ومرة أخرى يوضح الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيها. { وَكَم مِّن
قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا }.
وأيهما يأتي أولاً: الإهلاك أم يأتي البأس أولاً فيهلك؟. الذي يأتي أولاً هو البأس
فيهلك، فمظاهر الكونيات في الأحداث لا يأتي أمرها ارتجالاً، وإنما أمرها مسبق
أزلاً، وكأن الحق يقول هنا: وكم من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما
قلناه أزلاً، أي أن تأتي الأحداث على وفق المرادات؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي
يتكلم عنه الحق.
ونعلم أن القرية هي المكان، وعلى ذلك فليس لها اختيار. وإن كان لمن يتحدث عنه الله
حق الاختيار، فسبحانه يعلم أزلاً أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه. ويأتي به في قرآن
يتلى؛ ليأتي السلوك موافقاً ما أخبر به الله. { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف:
4]
والبأس هو القوة التي ترد ولا تقهر، و " بيتاً " أي بالليل، { أَوْ هُمْ
قَآئِلُونَ } أي في القيلولة. ولماذا يأتي البأس في البيات أو في القيلولة؟. ونجد
في خبر عمّن أَهْلِكُوا مثل قوم لوط أنّه حدث لهم الهلاك بالليل، وقوم شعيب حدث
لهم الهلاك في القيلولة، والبيات والقيلولة هما وقت الاسترخاء ووقت الراحة
وتفاجئهم الأحداث فلا يستطيعون أن يستعدوا.{ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ
صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ }[الصافات: 177]
أي يأتيهم الدمار في وقت هم نائمون فيه، ولا قوة لهم لمواجهة البأس.
{...فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [الأعراف: 4]
وإذا قال سبحانه: { بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } فيصح أن لهذه القرية
امتدادات، ووقت القيلولة عند جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية، فيكون
الوقت عندهم ليلاً، والقيلولة هي الوقت الذي ينامون فيه ظهراً للاسترخاء والراحة.
ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي سيهلكهم؟.
ويقول الحق سبحانه: { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ... }
(/947)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
بهذا القول اتضحت المسألة، ومن قوله { دَعْوَاهُمْ } نفهم أن المسألة ادعاء. ونحن
نقول: فلان ادّعى دعوى على فلان، فإما أن يقيم بينة ليثبت دعواه، وإما ألاّ يقيم.
والدعوى تطلق أيضاً على الدعاء:{ ...وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ }[يونس: 10]
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ
بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } [الأعراف: 5]
ويشرح ربنا هذا الأمر في آيات كثيرة، إنه اعتراف منهم باقترافهم الظلم وقيامهم
عليه، فسبحانه القائل:{ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ
السَّعِيرِ }[الملك: 10-11]
ويقول الحق بعد ذلك: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ... }
(/948)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق أقوامهم لهم، والسؤال إنما يأتي
للإِِقرار، ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب ظاهر أمرها أنها متعارضة،
والحقيقة أن جهاتها منفكة، وهذا ما جعل خصوم القرآن يدعون أن القرآن فيه تضارب.
فالحق سبحانه يقول:{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ
وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ }[المؤمنون: 101]
ويقول سبحانه أيضاً{ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً }[المعارج: 10]
ويقول جل وعلا:{ ...وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ }[القصص: 78]
ويقول سبحانه وتعالى:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ
}[الرحمن: 39]
ثم يقول هنا: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ
الْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6]
وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة إظهار أن بالقرآن- والعياذ بالله-
متناقضات. ونقول لكل منهم: أنت تأخذ القرآن بغير ملكة البيان في اللغة، ولو أنك
نظرت إلى أن القرآن قد استقبله قوم لسانهم عربي، وهم باقون على كفرهم فلا يمكن أن
يقال إنهم كانوا يجاملون، ولو أنهم وجدوا هذا التناقض، أما كانوا يستطيعون أن
يردوا دعوى محمد فيقولوا: أيكون القرآن معجزا وهو متعارض؟! لكن الكفار لم يقولوها،
مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت القرآن بما يريده قائل القرآن. وفي أعرافنا نورد
السؤال مرتين؛ فمرة يسأل التلميذ أستاذه ليعلم، ومرة يسأل الأستاذ تلميذه ليقرر.
إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين: إما أن تسأل لتتعلم، وهذا هو الاستفهام، وإما أن
تسأل لتقرر حتى تصبح الحجة ألزم للمسئول، فإذا كان الله سيسأله، أي يسأله سؤال
إقرار ليكون أبلغ في الاحتجاج عليه، وبعد ذلك يقولون:{ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ
بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ }[الملك: 10-11]
وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الأدلة؛ لأن كلام المقابل إنما يكون شهادة،
ولكن كلام المقر هو إقرار اعتراف.
إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من الله لتكون شهادة منهم على أنفسهم،
وهذا دليل أبلغ للحجة وقطع للسبل على الإِنكار. فإما أن يقر الإِنسان، وإن لم يقر
فستقول أبعاضه؛ لأن الإِرادة انفكت عنها، ولم يعد للإِنسان قهر عليها، مصداقاً
لقوله الحق:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ
أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... }[فصلت: 21]
والحق هنا يقول: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ
الْمُرْسَلِينَ }.
وهو سؤال للإِقرار. قال الله عنه:{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ
مَاذَآ أُجِبْتُمْ... }[المائدة: 109]
وحين يسأل الحق المرسلين، وهم قد أدوا رسالتهم فيكون ذلك تقريعاً للمرسَل إليهم.
ويقول الحق بعد ذلك: { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ... }
(/949)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب؛ لأنه سبحانه لم يغب يوماً عن أي من خلقه؛
لذلك قال: { وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } ، ونعلم أن الخلق متكرر الذوات، متكرر
الأحداث، متكرر المواقع، هم ذوات كثيرة، وكل ذات لها حدث، وكل ذات لها مكان. فإذا
قال الحق للجميع: { وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } أي أنه مع الجميع، ومادام ليس بغائب
عن حدث، ولا عن فاعل حدث، ولا عن مكان حدث، وهؤلاء متعددون. إذن هو في كل زمان وفي
كل مكان.
وإن قلت كيف يكون هنا وهناك؟ أقول: خذ ذلك في إطار قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ } ، ومثل هذه المعاني في الغيبيات لا يمكن أن تحكمها هذه الصور. والأمر سبق
أن قلناه حين تحدثنا عن مجيء الله؛ فله طلاقة القدرة وليس كمثله شيء، وما كان
غائباً في حدث أو مكان.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ... }
(/950)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
في هذه الآيات نجد الحديث عن الوزن للأعمال، وهذا كله تأكيد للحجة عليهم؛ فالله لا
يظلم أحداً، وفي وزن الأعمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار، ولم يؤدوا حقوق
الله في الدنيا، وكل ذلك ليؤكد الحجة، ويظهر الإنصاف ويقطع العذر، وهنا قول كريم
يقول فيه الحق سبحانه:{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ...
}[الأنبياء: 47]
هذه الموازين هي عين العدل، وليست مجرد موازين عادلة، بل تبلغ دقة موازين اليوم
الآخر أنها هي عدل في ذاتها. وهنا يقول الحق: { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
}. نعم، الميزان في هذا اليوم حق ودقيق، لنذكر انه قال من قبل:{ مَن جَآءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ
يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }[الأنعام: 160]
والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله، وكل شيء فيه موزون، وسبحانه هو
الذي يضع المقادير على قدر الحكمة والإِتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن
المطلوبَ منه، ولذلك يقوله سبحانه:{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
}[الرحمن: 7]
ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثاً غير متوقعة منها، فالكون له نظام دقيق.
والوزن في يوم القيامة هو مطلق الحق، ففي هذا اليوم تبطل موازين الأرض التي كانت
تعاني إما خللاً في الآلة التي يوزن بها، وإمّا خللاً في الوزن، وإمّا أن تتأثر
بأحداث الكون، وما يجري فيه من تفاعلات، أما ميزان السماء فلا دخل لأحد به ولا
يتأثر إلا بقيمة ما عمل الإِنسان، وساعة يقول سبحانه: { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
}.
فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل، وكذلك المِلْك أيضاً؛ لأنه سبحانه
أعطى أسباباً للملك المناسب لكل إنسان، فهذا يملك كذا، والثاني يملك كذا، والثالث
يملك كذا، وبعد ذلك يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلاً، وإن ظلماً على ضوء
الاختيار. لكن حين يأتي اليوم الآخر فلا ملك لأحد:{ ...لِّمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16]
فالأمر حينئذ يكون كله لله وحده، فإن كان الملك في الدينا قد استخلف فيه الحق
عباده، فهذه الولاية تنتهي في اليوم الآخر: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
وسبحانه هو القائل:{ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَآ
أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ }[القارعة: 6-11]
إذن فالميزان يثقل بالحسنات، ويخف بالسيئات، ونلحظ أن القسمة العقلية لإِيجاد
ميزان ووزان وموزون تقتضي ثلاثة أشياء: أن تثقل كفة، وتخف الأخرى، أو أن يتساويا،
ولكن هذه الحال غير موجودة هنا. ويتحدث الحق عن الذين تخف موازينهم فيقول سبحانه
وتعالى: { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ... }
(/951)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين، وفي هذه السورة أيضاً جاء بالحالتين، ومن
العجيب أن هذا الكلام عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي
الكفتين يأتي في أول سورة الأعراف، ولكنه- سبحانه يقول بعد ذلك في سورة الأعراف: {
وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ }.
وهؤلاء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد جعل لهم ربنا مكاناً يشبه عرف الفرس،
وعرف الفرس يعتبر أعلى شيء فيه، فحينا يأتي شعر الفرس يميناً، وحينا يأتي شعر
الفرس يساراً، وليس هناك جهة أولى بالشعر من الأخرى. وقد أعد الحق لأصحاب الأعراف
مكاناً يسمعون فيه أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة، وأصحاب الجنة وهم ينادون
أصحاب النار، وأصحاب الأعراف يجلسون؛ لا هم في الجنة ولا هم في النار، فهم الذين
تساوت حسناتهم وسيئاتهم، وبذلك صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى:{
وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ }[الأعراف: 46]
فلا الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة، ولا السيئات خفت ليدخلوا النار، فميزانهم تساوت
فيه الكفتان. وقال بعض العلماء عن الميزان؛ إن هناك ميزاناً بالفعل. وقال البعض إن
المراد بالميزان هو العدالة المطلقة التي أقامها العادل الأعلى، والأعجب أن الحق
قال: إن هناك موازين، فهل لكل واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان:
ميزان العقائد، وميزان الأحكام.. إلخ، وهل سيحاسبنا ربنا تباعاً. أو أن هناك
موازين متعددة، بدليل أن سيدنا الإِمام عليًّا عندما سألوه: أيحاسب الله خلقه
جميعاً في وقت واحد؟ فقال: وأي عجب في هذا؟ أليس هو رازقهم في وقت واحد؟ إذن
فالميزان بالنسبة لله مسألة سهلة جدًّا. وهيّنة فسبحانه لا يتأبى عليه شيء. {
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم بِمَا
كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } [الأعراف: 9]
نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه، ويأتي
اليوم الآخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء، وكما يقول المثل العام: خسر الجلد والسقط.
لماذا؟ تأتي الإِجابة من الحق: {...بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ }.
ويقول سبحانه بعد ذلك: { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي... }
(/952)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
المُمَكَّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة؛ فيقال مكّنتك من كذا. أي أعطيتك
المكان ولا ينازعك أحد فيه. وقد مكننا سبحانه في الأرض وجعل لنا فيها وسائل
استبقاء الحياة، وترف الحياة، وزينة الحياة، ورياش الحياة، ولم تبخل الأرض حين
حرثناها، بل أخرجت لنا الزرع، ولم تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحراراتها. ما في
الدنيا يؤدي مهمته، ولم نُمكَّن في الأرض بقدراتنا بل بقدرة الله. وكان يجب ألا
يغيب ذلك عن أنظارنا أبداً. فلا أحد منا مسيطر على الشمس أو القمر أو الريح أو
الأرض، ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة، هو ربك وربها؛ فأنت مُمَكَّن، وكل شيء
مستجيب لك. بتسخير الله له. { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا
لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف: 10]
و " معايش " جمع معيشة، والمعيشة هي الحياة، فالعيش هو مقومات الحياة،
ولذلك سموا الخبز في القرى عيشاً لأن عندهم دقة بالغة؛ لأنهم عرفوا أنه مقوّم
أساسي في الحياة.
وقول الحق: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } دل على أن هناك من يشكر، ومن الناس من
يشكر نعم الله شكراً عاماً على مجموع النعم، أو يشكره شكراً خاصًّا عند كل نعمة،
ومنهم من يشكر شكراً خاصًّا لا عند كل نعمة، ولكن عند جزئيات النعمة الواحدة،
فعندما يبدأ في الأكل يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ويقول بعد
الأكل: " الحمد لله "؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة: " بسم
الله " وعندما يمضغها ويبلعها يقول: " الحمد لله " لأنها لم تقف في
حلقه، وأيضاً حين نشرب علينا أن نشرب على ثلاث دفعات: أول دفعة نقول: " بسم
الله ". وننتهي منها فنقول: " الحمد لله " وكذلك في الدفعة الثانية
والدفعة الثالثة. ومن يفعل ذلك فلا تتأتَّى منه معصية، مادامت آثار شربة الماء هذه
في جسمه؛ لأنها كلها " بسم الله ". فتحرسه من الخطيئة؛ لأن النعمة
الواحدة لو استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين لا تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من الله؛ لأنكم لو شكرتموه على
النعم لزادت النعم عليكم، { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } ومن الحمق ألا
نشكر.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ... }
(/953)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة: خلق آدم، والشيطان، والقضية تتوزع على
سبع سور، في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة الحج، وسورة
الإسراء، وسورة الكهف، وسورة طه، وسورة ص، إلا أن القصة في في كل موضع لها لقطات
متعددة، فهنا لقطة، وهناك لقطة ثانية، وتلك لقطة ثالثة، وهكذا؛ لأن هذه نعمة لابد
أن يكررها الله؛ لتستقر في أذهان عباده، ولو أنه ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى، لذلك
يعيد الله التذكير بها أكثر من مرة. وإذا أراد الله استحضار النعم والتنبيه عليها
في أشياء، فهو يكررها كما كررها في استحضار النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه: {
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
إنه يذكر هذه النعم من بدايتها، فيقول:{ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ
كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ *
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ *
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
* يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ *
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *
وَيَبْقَىا وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 14-28]
وكل نعمة يقول بعدها: { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الآذان لتستقر في القلوب حتى في
الآذان الصماء؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة، مثل قوله:{ يُرْسَلُ
عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 35-36]
وجاء الحق بذكر كل ذلك؛ لأنه ساعة يجلي لنا الأمور على حقائقها ونحن في دار
التكليف فهذه رحمة ونعمة منه علينا؛ لأن ذلك يدعونا إلى اتقاء المحظورات والبعد
والتنحي عن المخالفات.
ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فحين يدخل الابن إلى المدرسة نقول له: إن قصرت
في كذا فسوف ترسب، وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة، فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب
الأمور، وأيضا ساعة ترى شراً يحيق بالكافرين، فإن هذا الأمر يسرك، لأنه لو تساوى
الكافرون مع المؤمنين لما كان للإيمان فضل أو ميزة، فالعذاب نقمة على الكافر،
ونعمة على المقابل وهو المؤمن.
وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع مرات؛ لأنها قصة بدء الخلق، وهي
التي تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته الإنسان؛ لأنه تلفت ليجد نفسه في كون معد
له على أحسن ما يكون. ولم يجيء الكون من بعد الإنسان، بل طرأ الإنسان على الكون،
وظل السؤال وارداً عن كيفية الخلق، والسؤال مهم أهمية وجود الإنسان في الكون، فأنت
تستقرئ أجناساً في الكون، وكل جنس له مهمة، ومهمته متعلقة بك، جماد له مهمة، ونبات
له مهمة، وحيوان له مهمة، وكلها تصب في خدمتك أنت؛ لأن الجماد ينفع النبات، ويتغذى
منه لكي يغذي الحيوان، والحيوان ينفعك ويغذيك، إذن فكل الأجناس تصب في خدمتك.
أمّا أنت أيها الإِنسان فما عملك في هذا الكون؟؛ لذلك كان لابد أن يتعرف الإِنسان
على مهمته. وأراد الحق سبحانه أن يُعرِّف الإِنسان مهمته؛ لأنه جل وعلا هو
الصانع،وحين يبحث الإِنسان عن صانعه تتجلى له قدرة الله في كل ما صنع. وكان لابد
أيضاً أن يستقبل الإِنسان خبراً من الخالق. إنه- سبحانه- يُنزل لنا المنهج من
السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول، وأنزل الحق عليه المنهج وأوكل له
مهمة البلاغ. فالرسول يخبر، ثم نستدل بالمعجزة على صدق خبره. فكان من اللازم أن
نصدق الرسول، لأنه قادم بآية ومعجزة من الله.
والرسول عليه الصلاة والسلام جاء بالرسالة في سن الأربعين ومعه المنهج المعجزة،
وأبلغنا أنه رسول من الله. وكان لابد أن نبحث لنتثبت من صدق البلاغ عن الله
بالتعقل في دعواه؛ فهذا الرسول جاء بعد أربعين سنة من ميلاده ومعه معجزة من جنس ما
نبغ فيه قومه، وليس من جنس ما نبغ فيه هو، إن معجزته ليست من عنده، بل هي من عند
الله؛ لأن الرسول جاء بالمعجزة بعد أربعين سنة من ميلاده، ومن غير المعقول أن
تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من الميلاد؛ لأننا نعلم أن العبقريات تأتي في آخر
العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من عمر الإِنسان، ونلتفت فنجده يتكلم كل الكلام
البلاغي المعجز. وليس من المعقول ان يأتي بأخبار الكون وهو الأمي الذي مات أبوه
وهو في بطن أمه، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، وكذلك مات جده. ورأى الناس يتساقطون
من حوله، فمن الذي أدراه- إذن- انه سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الأربعين
ليبلغنا بمعجزته؟.
ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه، فيقول:{ وَإِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا
بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ
هَـاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }[يونس: 15]
وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صلى الله عليه وسلم مكلف بالبلاغ بما يُوحَى
إليه، ويتأكد ذلك مرة ثانية في قوله الحق:{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا
تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً
مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16]
وهنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى الأمر من الله بأن يبيّن لهم: هل
علمتم عني خلال عمري أني قلت شعراً أو حكمة أو جئتكم بمثل؟ إذن إن نحن عقلنا الأمر
وتبصرنا وتأملنا دعواه لصدقنا أنه رسول الله، وأن المعجزة نزلت عليه من السماء.
} وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ
{ [الأعراف: 11]
وهكذا نرى أن مسألة الخلق والإِيجاد، كان يجب على العقل البشري أن يبحث فيها،
ليعلم مهمته في الوجود. وحين يبحث فيها ليعلم مهمته في الوجود. يجب عليه أن يترك
كل تخمين وظنٍ؛ لأن هذه المسألة لا يمكن أن تأتي فيها بمقدمات موجودة لتدلنا على
كيفية خلقنا ولا لأي شيء ومهمة خلقنا! فكيفية الخلق كانت أمراً غيبيًّا وليس
أمامنا ما نستقرئه لنصل إلى ذلك. وقد حكم الله في قضية الخلق، سواء أكان الأمر
بالنسبة للسموات والأرض وما بينهما أم للإِنسان، وقد حكم سبحانه في هاتين
القضيتين، ولا مصدر لعلم الأمر فيهما إلا من الله سبحانه، وأغلق باب الاجتهاد
فيها، وكذلك باب التخمين، وسمى القائمين بكل بحث بشري في هذا المجال بأنهم ضالون
مضللون، ولذلك قال ليحكم هذه القضية ويحسمها، ويريح العقول من أن تبحث فيها؛ قال:{
مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ
وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51]
فكأن الذي يقول: كيف خلقت السموات والأرض وكيف خلق الإِنسان هو مضل؛ لأن الله لم
يشهده، ولم يكن القائل عضداً لله ولا سنداً ولا شريكا له.
وقص سبحانه علينا قصة خلق السموات والأرض وخلق الإِنسان، وهذه الآية تتعرض لخلق
الإِنسان. ومن يبحث بحثاً استقرائيّاً ويرجع إلى الوراء فلابد أن يجد أن الأمر
منطقي؛ لأن العالم يتكاثر، وتكاثره أمر مرئي، وليس التكاثر في البشر فقط، بل فيمن
يخدمون البشر من الأجناس الأخرى، نجد فيهم ظاهرة التكاثر نباتاً وحيواناً، وإذا ما
نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد يقل عن التعداد الحالي وهو خمسة آلاف مليون،
وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل التعداد إلى أن نصل إلى اثنين؛ لأن الخلق
إنما يأتي من اثنين، وحلّ الله لنا اللغز فقال:{ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا... }[النساء: 1]
وهذا كلام صحيح يثبته الإِحصاء وييقنه؛ لأن العالم يتكاثر مع مرور الزمن مستقبلا.{
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً... }[النساء: 1]
وهذا كلام صادق. وسبحانه القائل:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ...
}[الذاريات: 49]
وأبلغنا سبحانه بقصة خلق آدم، وكيفية خلق حوّاء فهل أخذ جزءًا من آدم وخلق منه
حوّاء؟ قد يصح ذلك، أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به أنه خلقها من الجنس نفسه
وبالطريقة نفسها؟ وذلك يصح أيضا، فسبحانه قد اكتفى بذكر خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء،
وأعطانا النموذج في واحد، وقال: } وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا {.
و } مِنْهَا { في هذه الآية يحتمل أن تكون غير تبعيضية، مثلها مثل قوله الحق:
" رسول من أنفسكم ".
فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال: إنها " محمد " ، بل جعل محمدًّا
صلى الله عليه وسلم من الجنس نفسه خلقاً وإيجاداً، وسبحانه حين يتكلم هنا يقول
للملائكة:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... }[البقرة: 30]
وهذا أول بلاغ، ثم اتبع ذلك:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }[الحجر: 29]
إذن فقبل النفخ في الروح ستوجد تسوية، فلمن تحدث التسوية، ومن هو " المسوّى
منه "؟. إن التسوية لآدم. وجاء القول بأنه من صلصال، ومن حمأ مسنون، ومن
تراب، ومن طين؛ إنّها مراحل متعددة، فإن قال سبحانه عن آدم: إنه تراب، نقول: نعم،
وإن قال: " من ماء " نقول: نعم، وإن قال " من طين " فهذا قول
حق؛ لأن الماء حين يختلط بالتراب يصير طيناً. وإن قال: } مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ
{ ، فهذا جائز؛ لأن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالاً. إذن فهي
مراحل متعددة للخلق، ثم قال الحق: } وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي {.
وهكذا تكتمل فصول الخلق، ثم قال: } فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ {.
ويقول العلماء: إن المراد من السجود هو الخضوع والتعظيم، وليس السجود كما نعرفه،
وقال البعض الآخر: المراد بالسجود هو السجود الذي نعرفه، وأن آدم كان كالقبلة مثل
الكعبة التي نتجه إليها عند الصلاة. ولكنْ لنا هنا ملاحظة، ونقول: إننا لا نسجد
إلا الله، ومادام ربنا قد قال: اسجدوا فالسجود هنا هو امتثال لأمر خالق آدم.
والنية إذن لم تكن عبادة لآدم، ولكنها طاعة لأمر الله الأول. والأمر بالسجود لآدم
قد أراده الله؛ لأنه سبحانه سخر الكون كله لخدمة آدم، ومن الملائكة مدبرات أمر،
ومنهم حفظة، ومنهم من هو بين يدي الله، فلم يكن السجود للملائكة خضوعاً من
الملائكة لآدم، بل هو طاعة لأمر الله، ولذلك سجد من الملائكة الموكلون بالأرض
وخدمة الإنسان، لكنْ الملائكة المقربون لا يدرون شيئاُ عن أمر آدم، ولذلك يقول
الحق لإِبليس:{ ...أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }[ص: 75 {
والمقصود بالعالين الملائكة الذين لم يشهدوا أمر السجود لآدم، فليس للملائكة
العالين عمل مع آدم؛ لأن الأمر بالسجود قد صدر لمن لهم عمل مع آدم وذريته والذين
يقول فيهم الحق سبحانه:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ... }[الرعد: 11]
وهناك الرقيب، والعتيد والقعيد. وفي كل ظاهرة من ظواهر الكون هناك ملك مخصوص بها،
ويبلغنا الحق بمسألة الخلق، والخطاب لنا } وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ { وهذا ترتيب
اخباري، وليس ترتيباً للأحداث. أو أن الحق سبحانه وتعالى طمر الخلق جميعاً في خلق
آدم، والعلم الحديث يعطينا أيضاً مؤشرات على ذلك، حين يأتون ببذرة ويكتشفون فيها
كل مقومات الثمرة، وكذلك الحيوان المنوي توجد فيه كل صفات الإنسان.
ولذلك نجدهم حين يدرسون قانون الوراثة يقولون: إن حياة كل منا تتسلسل عن آخر، فأنت
من ميكروب أبيك، وقد نزل من والدك وهو حي، ولو أنه نزل ميتاً لما اتصل الوجود.
ووالدك جاء من ميكروب جده وهو حي، وعلى ذلك فكل مكائن الآن فيه كائن الآن فيه جزئ
حي من لدن آدم، لم يطرأ عليه موت في أي حلقة من الحلقات.
إذن فكلنا كنا مطمورين في جزيئات آدم، وقال ربنا سبحانه:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ
مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا
أَنفُسِهِمْ... }[الأعراف: 172]
ونقول: صدق الحق فهو الخالق القادر على أن يخرجنا من ظهر آدم، وهكذا كان الخلق
أولاً والتصوير أولاً، وكل ذلك في ترتيب طبيعي، وهو سبحانه له أمور يبديها ولا
يبتديها، أي أنه سبحانه يظهرها فقط، فإذا خاطب آدم وخاطب ذريته فكأنه يخاطبنا
جميعاً. } وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ
مِّنَ السَّاجِدِينَ { [الأعراف: 11]
وعرفنا من هم الملائكة من قبل، وما هي علة السجود. } فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ
لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ {.
والحق سبحانه يستثنيه بأنه لم يكن من الساجدين. وهذا دليل على أنه دخل في الأمر
بالسجود، ولكن هل إبليس من الملائكة؟ لا؛ لأنك إذا جئت في القرآن ووجدت نصَّا يدل
بالالتزام، ونصَّا يدل بالمطابقة والقطع فاحمل نص الالتزام على النص المحكم الذي
يقطع بالحكم. وقد قال الحق في ذلك:{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ
لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهِ... }[الكهف: 50]
وفي هذا إخراج لإبليس من جنس الملائكية، وتقرير أنه من الجن، والجن كالإنس مخلوق
على الاختيار، يمكنه أن يعصي يمكنه أن يطبع أو أن يعصي، إذن فقوله الحق: }
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ {.
يعني أن هذا الفسوق أمر يجوز منه؛ لكن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون، وإن تساءل أحد: ولماذا جاء الحديث عن إبليس ضمن الحديث عن الملائكة؟.
نقول: هب أن فرداً مختاراً من الإِنس أو من الجن التزم بمنهج الله كما يريده الله،
فأطاع الله كما يجب ولم يعص.. أليست منزلته مثل الملك بل أكثر من الملك، لأنه يملك
الاختيار. ولذلك كانوا يسمون إبليس طاووس الملائكة، أي الذي يزهو في محضر الملائكة
لأنه ألزم نفسه بمنهج الله، وترك اختياره، وأخذ مرادات الله فنفذها، فصار لا يعصي
الله ما أمره ويفعل ما يؤمر، وصار يزهو على الملائكة لأنهم مجبورون على الطاعة،
لكنه كان صالحاً لأن يطيع، وصالحاً- أيضاً- لأن يعصي، ومع ذلك التزم، فأخذ منزلة
متميزة من بين الملائكة، وبلغ من تميزه أنه يحضر حضور الملائكة. فلما حضر مع
الملائكة جاء البلاغ الأول عن آدم في أثناء حضوره، وقال ربنا للملائكة: }
اسْجُدُواْ لأَدَمَ {.
وكان أولى به أن يسارع بالامتثال للأمر الطاعة، لكنه استنكف ذلك. وهب أنه دون
الملائكة ومادام قد جاء الأمر للأعلى منه وهم الملائكة، ألم يكن من الأجدر به وهو
الأدنى أن يلتزم بالأمر؟ لكنه لم يفعل. ولأنه من الجن فقد غلبت عليه طبيعة
الاختيار.
ويقول الحق بعد ذلك: } قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ... {
(/954)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
ثم قال كما يحكي القرآن الكريم:{ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً }[الإسراء:
61]
وهكذا كان الموقف استكباراً واستلاءً. وقوله الحق:{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ
}[ص: 75]
ونحن حين نحلل هذا النص، نجد قوله: { مَا مَنَعَكَ } أي ما حجزك، وقد أورد القرآن
هذه المسألة بأسلوبين، فقال الحق مرة: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }. وقال مرة
أخرى: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }. وهذا يعني أن الأسلوب الأول جاء بـ "
لا " النافية، والأسلوب الثاني جاء على عدم وجود " لا " النافية.
وقوله { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } كلام سليم واضح؛ يعني: ما حجزك عن السجود.
لكن { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } هي التي تحتاج لوقفة. لذلك قال العلماء: إن
" لا " هنا زائدة، ومَنْ أَحْسَن الأدب منهم قال: إن " لا "
صلة. لكن كلا القولين لا ينفع ولا يناسب؛ لأن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة "
منع " ولأي أمر تأتي، وأنت تقول: " منعت فلاناً أن يفعل " ، كأنه
كان يهم أن يفعل فمنعته.
إذن { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود، فجاءت قوة أقوى
منه ومنعته وحجزته وحالت بينه وبين أن يسجد. لكن ذلك لم يحدث. وتأتي " منع
" للامتناع بأن يمتنع هو عن الفعل وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع
ويمتنع، وهناك فرق بين ممنوع، وممتنع؛ فممنوع هي في { مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } ،
وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه. وإن كان المنع من
الامتناع فالأسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود. وهذا هو السبب
في وجود التكرار في القرآن. ولذلك قال الحق سبحانه: { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف: 12]
وسبحانه قد أمر الملائكة وكان موجوداً معهم إما بطريق العلو، لأنه فاق الملائكة
وأطاع الله وهو مختار فكانت منزلته عالية، وإما بطريق الدنو؛ لأن الملائكة أرفع من
إبليس بأصل الخلقة والجبلة، وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد،
ولكنه قال في الرد على ربّه: {...أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف: 12]
وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم، ولكن سأله وهو يعلم أزلاً أنّ
إبليس قد امتنع باقتناع لا بقهر، ولذلك قال إبليس: أنا خير منه، فكأن المسألة دارت
في ذهنه ليوجد حيثية لعدم السجود. ولا يصح في عرفه الإبليسي أن يسجد الأعلى
للأدنى، فما دام إبليس يعتقد أنه خير من آدم ويظن أنه أعلى منه، فلا يصح أن يسجد
له. وأعلى منه لماذا؟ لأنه قال: { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
} فكأن النار لها علو، وهو في ذلك مخطئ تماماً لأن الأجناس حين تختلف؛ فذلك لأن
لكل جنس دوره، ولا يوجد جنس أفضل من جنس، النار لها مهمة، والطين له مهمة، والنار
لا تقدر أن تؤدي مهمة الطين، قلا يمكن أن نزرع في النار.
إذن فالخيرية تتأتى في الأمرين معا مادام كل منهما يؤدي مهمته، ولذلك لا تقل: إن
هذا خير من هذا، إنما قل: عمل هذا أحسن من عمل هذا، فكل شيء في الوجود حين يوضع في
منزلته المرادة منه يكون خيراً، ولذلك أقول: لا تقل عن عود الحديد إنه عود مستقيم،
وتقول عن الخطاف: إن هذا عود أعوج، لأن مهمة الخطاف تقتضي أن يكون أعوج، وعوجه هو
الذي جعله يؤدي مهمته، لأن الخيرية إنما تتأتى في متساوي المهمة، ولكن لإبليس قال:
} أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ... { [الأعراف: 12]
قالها للمعاندة، للكبر، للكفر حين أعرض عن أمر الله وأراد أن يعدل مراد الله في
أمره، وكأنه يخطِّئ الحق في أمره، ويردّ الأمر على الآمر. فما كان جزاء الحق
سبحانه وتعالى لإبليس إلا أن قال له: } قَالَ فَاهْبِطْ... {
(/955)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل، وهذا ما جعل العلماء
يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية في هي السماء، ونقول: لا، فالهبوط لا
يستدعي أن يكون هبوطاً مكانياً، بل قد يكون هبوط مكانة، وهناك فرق بين هبوط
المكان، وهبوط المكانة، وقد قال الحق لنوح عليه السلام:{ قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ
بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىا أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ... }[هود:
48]
أي اهبط من السفينة، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى،
إنما نقول من مكان أو من مكانة. { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا }.
وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلاً لأن يكون في محضر الملائكة؛ فقد كان في
محضر الملائكة؛ لأنه الزم نفسه بالطاعة، وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو
أن يعصي، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلاً لأن يكون في هذا المقام، وذلك أن
الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا
فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ... } [الأعراف: 13]
أي ما ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على
الآمر، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فما دامت أنت
أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلاً لها، فكأن العمل هو الذي أهله أن
يكون في العلو، فلما زايله وفارقه كان أهلاً لأن يكون في الدنو، وهكذا لم يكن
الأمر متعلقاً بالذاتية، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين؛ لأن
المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل، ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ
صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس، مثل السرعة، واختراق الحواجز، والتغلب
على بعض الأسباب، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم، وكما قال الرسول صلى الله
عليه وسلم: " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم. "
وهو ذلك مثل الميكروب، لأنه هذه طبيعة النار، وهي المادة التي خُلق منها. وهي
تتعدى الحواجز. والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء،
لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا
التمييز، وإنما هي إرادة المُعَنْصر، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان، إنه-
سبحانه- يجعل إنسياً مثل سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجنى، إنه يسخرك ويجعلك
تخدمه. وأنه في مجلس سليمان، جعل الذي عنده علم من الكتاب، يأتي بقوة أعلى من قوة
" عفريت " من الجن.
فالحق هو القائل:{ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ... }[النمل: 39]
وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضاً. وجاء الذي عنده علم من
الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن، فقد قال هذا العفريت:{ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ... }[النمل: 39]
والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه، فماذا قال الذي عنده
علم من الكتاب- وهو إنسان-؟{ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ
أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ... }[النمل: 40]
كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينته سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئاً،
إن سليمان رأى العرش بين يديه، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة:{ فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرّاً عِندَهُ... }[النمل: 40]
كأن المسألة لا تتحمل. بل تم تنفيذها فوراً. إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر:
إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن اجعل الأدنى يتحكم
في الأعلى؛ لأنها إرادة من عَنْصَرَ العناصر. } قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا
يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ {
[الأعراف: 13]
وكلمة } فَاهْبِطْ { تشير على أن الهبوط أمر معنوي، أي أنك لست أهلاً لهذه المنزلة
ولا لتلك المكانة. هذا ما تدل عليه كلمة } فَاهْبِطْ { ، ثم جاء الأمر بعد ذلك
بالخروج من المكان.
والصَّغَار هو الذل والهوان؛ لأنه قََابَل الأمر باستكبار، فلابد أن يجازى
بالصَّغار. وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب
والتهذيب والتعليم؛ مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلاً يحرم من ميراثه، لأنه قد
قتله ليجعل الإرث منه، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث؛ فبارتكابه القتل صار
محجوباً عن الميراث.
ويقول الحق بعد ذلك: } قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى... {
(/956)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
ومعنى { أَنظِرْنِي } أمهلني أي لا تمتني بسرعة، ولا تجعل أجلي قريباً، بدليل قوله
سبحانه: { قَالَ إِنَّكَ مِنَ... }
(/957)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
فالإِنظار طلب الإِمهال، وعدم التعجيل بالموت، وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من
بني آدم وآدم؛ انه جاء له بالصَّغَار والذلة والطرد والهبوط، ولذلك أصر على أن
يجتهد في أن يغري أولاد آدم ليكونوا عاصين أيضاً. وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن
يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيًّا إلى يوم البعث الذي يبعث فيه كل من مات. وكأنه
يريد أن يقفز على قول الحق:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... }[آل عمران:
185]
فأوضح الحق: أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك؛ لأن
الأجل لو عرف فقد يعصي من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الأجل،
ولكن الله أراد بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت. وفي آية أخرى يقول
الحق سبحانه:{ إِلَىا يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ }[الحجر: 38]
والوقت المعلوم هو النفخة الأولى:{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرَىا فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر: 68]
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية، لكن ربنا أوضح أنه
باق إلى وقت معلوم، وآخر الوقت المعلوم هذا لابد أن يكون قبل النفخة الأولى.
ويقول الحق بعد ذلك: { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي... }
(/958)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
والإغواء. إغراء بالمعصية، ومن الإغواء الَغّي وهو: الإهلاك، ويقول الحق سبحانه
وتعالى:{ ...فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً }[مريم: 59]
وحين نقرأ { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } أي فبإغوائك يا الله لي سأفعل كذا وكذا،
وبذلك يكون قد نسب الإغواء لله, لكن هل يغوي ربنا أو يهدي؟. إن الله يهدي دلالة
وتمكيناً، وسبق أن تكلمنا كثيراً عن هداية الدلالة ودلالة التمكين، وسبحانه خلق
الشيطان مختاراً، ولم يخلقه مرغماً ومسخراً كالملائكة، ولأنه قد خلق مختاراً فقد
أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصي، وكأن الشيطان بقوله هذا يتمنى لو أنه قد خلق
مقهوراً. ويقول إن الله هو الذي أعطاه سبب العصيان. ولم يلتفت إلى أن الاختيار
إنما هو فرصة لا للغواية فقط، ولكنه فرصة للهداية أيضاً. وأنت أيها الشيطان الذي
اخترت الغواية.
إذن فقول الشيطان: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } إنما يريد به الشيطان: أن يدخل
بمعصيته على الله، ونقول له: لا، إن ربنا لم يغو؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لا يغوي
وإنما يهدي؛ لأن الله لو خلقه مرغماً مقهوراً ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار
كذا؛ فقد خلقه على هيئة " افعل " و " لا تفعل " ، واختار هو
ألاّ يفعل إلا المعصية. { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف: 16]
والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم، والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل؛ لأن
المتحرك إما أن يكون قائماً، وإما أن يكون قاعداً، وإما أن يكون مضجعاً نائماً.
وأريح الحالات أن يكون نائماً مضجعاً؛ لأن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحاً بفعل
الجاذبية الأرضية، وحين يكون الإنسان قاعداً تقاومه الجاذبية قليلاً، وحين يكون
واقفاً فهو يحمل جسمه على قدميه، ولذلك نقول لمن وقف طويلاً على قدميه: "
اقعد حتى ترتاح " ولو قعد وكان متعباً فيقال له: " مضجع قليلاً لترتاح
".
ولماذا اختار الشيطان أن يقول: { لأَقْعُدَنَّ }؟ حتى يكون مطمئناً، فقد يتعب من
الوقفة، أيضاً وهو في حالة القعود يكون منتبها متيقظاً، والحق يقول:{ وَاقْعُدُواْ
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ... }[التوبة: 5]
ولم يقل: " قفوا " حتى لا يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل، ولكن ساعة
يواجهون الأمر فعليهم بالنهوض. والقعود أقرب إلى الوقوف، لأن الاضجع أقرب إلى
التراخي والنوم، وقد اختار الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته، ويبقى له انتباهه: {
لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }.
ومادام الشيطان سيغوي، وسيضل الغير، فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية.
إنما من غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ولا يريده، وتلك
ظاهرة تحدث للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول
الشيطان أن يخايله ليصرفه عن الصلاة والطاعة؛ لأن الشيطان يتلصص على دين الإنسان،
فهو كاللص، واللص لا يحوم حول بيت خرب.
إنما يحوم اللص حول بيت عامر بالخير.
إننا نلاحظ هذه المسألة في كل الناس حينما يأتون للصلاة فيقول الواحد منهم: حينما
أصلي يأتي له الوسواس، ويشككني في الصلاة، نقول له: نعم هذا صحيح، وحين يأتي لك
هذا الوسواس فاعتبره ظاهرة صحية في الإيمان؛ لأن معناه أن الشيطان عارف أن عملك
مقبول، ولذلك يحاول أن يفسد عليك الطاعة؛ لأنك لو كنت فاسداً من البداية، ووقفت
للصلاة دون وضوء لما جاءك الوسواس. لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك
يقول الله:{ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ... }[الأعراف: 200]
لماذا؟. لأن الله خلقك وخلقه، وإن كنت لا تستطيع دفعه لأنه يجري منك مجري الدم في
العروق وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي لا تضبطها؛ ويأتي إليك بمهام الأشياء
في وقت الصلاة؛ فتتذكر الأشياء التي لم تكن تتذكرها، ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت
تصلي؛ وكل ذلك لأنه قال: } لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ { ، ولم يقل
إنه سيقعد على الطريق المنحرف، ولن يجلس الشيطان في مجلس خمر، لكنه يقعد على أبواب
المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة. فماذا نفعل في هذه الحال؟.
يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ: } وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ {
فمعنى } فَاسْتَعِذْ { أي فالتجئ منه إلى الله؛ لإن الله الذي أعطاه الخاصية في أن
يتغلغل فيك، وفي دمك، وفي خواطرك، هو القادرعلى منعه، وحين تقول: " أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم " بفزع والتجاء إليه- سبحانه- فإنه- جل شأنه- ينقذك
منه. وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من الشيطان فقل: " أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم " فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين جاءت هذه
النزغة: مرة واثنتين وثلاثاً، فيقول الشيطان لنفسه: إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر
لا أستطيع غوايته، ولأبحث عن غيره.
ولذلك رأينا الإمام أبا حنيفة، وقد شهرَ عنه الفتيا، وذهب إليه سائل يقول: ضاع مني
مال في أرض كنت قد دفنته فيها، ولا أعرف الآن مكانه. دلني عليه أيها الشيخ؟.
وبطبيعة الحال كان هذا السؤال في غير العلم، فقال أبو حنيفة: يا بني ليس في ذلك
شيء من العلم، ولكني احتال لك؛ إذا جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة،
لعل الله سبحانه وتعالى يبعث لك جنداً من جنوده يقول لك عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلاة الفجر، وإذا بالرجل يقبل ضاحكاً مبتسماً قائلا: يا
إمام لقد وجدت المال، فضحك أبو حنيفة، وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لا يدعك
تتم ليلتك مع ربك، وسيأتي ليُخبرك، فهلاّ أتممتها شكراً لله، هيا قم إلى الصلاة.
إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد: وكيف يقسم، لأنه في آية أخرى يقول:{ قَالَ
فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82]
لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته؛ فقال: } فَبِعِزَّتِكَ
لأُغْوِيَنَّهُمْ { أي بامتناعك عن خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي لا
يقهر؛ لأنك إن أردتهم ما استطعتُ أن آخذهم، لكنك شئت لكل إنسان أن يختار:{ فَمَن
شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29]
فأقسم، ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الإِنسان: } فَبِعِزَّتِكَ
لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {.
واستدرك على نفسه أيضاً وقال:{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 83]
لأن الذي يريده الله مهديًّا لا يستطيع الشيطان أن يغويه؛ لأنه لا يناهض ربنا ولا
يقاومه، إنما يناهض خلق الله، ولا يدخل مع ربنا في معركة، إنما يدخل مع خلقه في
معركة ليس له فيه حجة ولا قوة؛ لأن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل،
وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون إرغام. وهل يملك إبليس واحدة من هذه؟. لا، ولذلك
سيأتي في الآخرة يقول:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي... }[إبراهيم: 22]
والسلطان قسمان: سلطان يقهر، وسلطان يقنع. والشيطان يدخل على الإِنسان من هذه
الأبواب.
ويقول الحق بعد ذلك على لسان إبليس: } ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن... {
(/959)
ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
فالذي بين اليد هو ما كان إلى الإمام، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي من الوراء، {
وعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أي من جهة اليمين، { وعَن شَمَآئِلِهِمْ } أي من جهة
اليسار. والشيء الذي أمام العالم كله، ونسير إليه جميعاً هو { الدَّارُ الآخِرَةُ
} وحين يأتي الشيطان من الأمام فهو يشككهم في حكاية الآخرة ويشككهم في البعث.
ويحاول أن يجعل الإِنسان غير مقبل على منهج الله، فيصير من الذين لا يؤمنون بلقاء
الله، ويشكّون في وجود دار أخرى سيُجَازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله:{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ
}[الصافات: 16-17]
ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضاً لا يجعل للشيطان منفذاً فيها، فيوضح لنا أنه
سبحانه لم يعجز عن خلقنا أولاً؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا، والإِعادة بالتأكيد أهون
من البداية؛ لأنّه سيعيدهم من موجود، لكن البداية كانت من عدم، إنه- سبحانه- عندما
يبيّن للناس أن الإِعادة أهون من البداية فهو يخاطبهم بما لا يجدون سبيلاً إلى
إنكاره، وإلاّ فالله- جل شأنه- تستوي لدى طلاقة قدرته كل الأعمال فليس لديه شيء
سهل وهيّن وآخر صعب وشاق ويبلغنا- سبحانه- بتمام إحاطة علمه فيقول:{ قَدْ
عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }[ق: 4]
أي أن لكل واحدٍ كتاباً مكتوباً فيه كل عناصره وأجزائه.
والشيطان- أيضاً- يأتي من الخلف، وخلف كل واحد منا ذريته، يخاف ضيعتهم، فيوسوس
الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل الأبناء، وفساد أناس
كثيرين يأتي من هذه الناحية، ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبًّا
كبيراً، وقد كبرت سنّه، ويقبل على الله بشرّ، ويظن أنه يترك عياله بخير. لكن إن
كنت تخاف عليهم حقًّا فأمِّن عليهم في يد ربهم، ولا تؤمِّن حياتهم في جهة ثانية.{
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً
خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
}[النساء: 9]
ولماذا لم يأت الشيطان للإِنسان من فوق ومن تحت لأن الفوقية هي الجهة التي يلجأ
إليها مستغيثا ومستجيرا بربه، والتحتية هي جهة العبودية الخاصة. فالعبد أقرب ما
يكون من ربه وهو ساجد، فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه؛ لأن
الله تعالى يقول: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }.
ويقول تعالى: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
[الأعراف: 17]
ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة. واليمين رمز
العمل الحسن؛ لأن كاتب الحسنات على اليمين، وكاتب السيئات على الشمال، ويأتي عن
شمائلهم ليغريهم بشهوات المعصية. ونلحظ أن الحق استخدم لفظ { عَنْ أَيْمَانِهِمْ }
و { عَن شَمَآئِلِهِمْ } ولم يأت بـ " على " لأن " على " فيها
استعلاء، والشيطان ليس له استعلاء أبداً؛ لأنه لا يملك قوة القهر فيمنع، ولا قوة
الحجة فيقنع. ولأن أكثر الناس لا تتذكر شكر المنعم عليهم، فيجيد الشيطان غوايتهم.
ولذلك يقول الحق تذييلاً للآية: {...وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
[الأعراف: 17]
ويقول الحق بعد ذلك: { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا... }
(/960)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
لقد بلغ الغرور بالشيطان أن تخيّل أنه ذكي، فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن
حكم الله فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفاً، فسبحانه القائل:{ ...إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }[النساء: 76]
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره، والناصح هو من يحتاط، ويأخذ المناعة ضد النزغ
الشيطاني. وهنا يقول الحق: { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً... }
[الأعراف: 18]
وقال له الحق من قبل:{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن
تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }[الأعراف: 13]
إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان، ثم هنا أيضاً تأكيد بأنه في حالة
الخروج سيكون مصاحباً للذم والصغار والطرد واللعن. ويقول الحق سبحانه: {...لَّمَن
تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأعراف: 18]
وفي هذا اخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم، ولم يعدَّها سبحانه لتسع
الكافرين فقط، لكنه أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه، كما أعدّ
الجنة على أساس أن الخلق جميعاً يؤمنون به؛ فليس عنده ضيق مكان، وإن آمن الخلق
جميعاً؛ فإنه- جل شأنه- قد أعد الجنة لاستقبالهم جميعاً، وإن كفروا جميعاً فقد
أعدّ النار لهم جميعاً؛ تأكيداً لقوله الحق:{ أُوْلَـائِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون: 10-11]
وقوله الحق:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }[الأنبياء: 98]
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر الآمر الأعلى بالسجود
لآدم.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَيَآءَادَمُ اسْكُنْ... }
(/961)
وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد تناول مسألة إبليس فيقول: { وَيَآءَادَمُ اسْكُنْ
أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ }.
كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الآخرة والخلود، واعترض
البعض متسائلين: كيف يدخل إبليس جنة الخلود؟. وكيف يخرج منها؟. وهل الذي يدخل
الجنة يخرج منها؟. وهؤلاء العلماء الذي قالوا: إن الجنة هي جنة الآخرة، لم يفطنوا
إلى مدلول كلمة " جنة "؛ فساعة تطلق كلمة جنة، تأخذ ما يسمى في اللغة
" غلبة الاستعمال " ، أي تأخذ اللفظ من معانيه المتعددة إلى معنى واحد
يستقل به عرفاً، بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه، فأنت إذا سمعت يا مؤمن كلمة
الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الآخرة؛ لأنها هي التي تُعتبر جنة بحق، لكن حينما يأتي
اللفظ في القرآن والمتكلم هو الله، فلابد أولاً أن ندرس اللفظ واستعمالاته في
اللغة؛ لأن القرآن جاء بلسان عربي مبين، فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله
معانٍ متعددة. وعندما يتعلق الأمر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه
اللغوي، ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي الاصطلاحي.
مثال ذلك كلمة " الحج " فأنت ساعة تسمع كلمة " الحج " تقول:
هو قصد بيت الله الحرام للنسك والعبادة في أشهر معلومة، على الرغم من أن "
الحج " في اللغة هو القصد، فإذا قصدت أي شيء تقول: حججت إليه. فلما جاء
الإِسلام أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى الشرعي، وهو قصد البيت
الحرام للنسك، وكذلك كلمة " الصلاة " إنها في اللغة الدعاء، فقوله
تعالى: { وصلِّ عليهم } أي ادع لهم، ولما جاء الإِسلام أخذ الكلمة من اللغة،
وجعلها تطلق على معنى اصطلاحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه، وهي الأقوال
والأفعال المخصوصة، المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنىً اصطلاحيًّا أن هذا
يكون تركاً لمعناه الأصلي؟. لا؛ لأنك إن أردت أن تستعمله في معناه الأصلي فلك ذلك،
ولكنك تحتاج إلى قرينة تدل على أنك لا تريد الصلاة الشرعية لأن كلمة " صلاة
" أصبحت هي الصلوات الخمس المعروفة لنا، مع أن معناها الأصلي كان الدعاء،
وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة " الجنة " ساعة تُطلق ينصرف
الذهن إلى جنة الخلود. ونقول: المعنى اللغوي للجنة أنها المكان الذي فيه أشجار
غزيرة ومتنوعة، أما غزارتها وعلوها فتستر الإِنسان وتُجِنّه عن كل ما حوله، وأما
ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلأنها تستر الإِنسان عن خارجها ويكتفي
بأن يكون فيها، والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط، بل يقول أيضاً:
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
}[البقرة: 266]
وكذلك يقول سبحانه:{ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا
جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا
زَرْعاً }[الكهف: 32]
وقوله الحق:{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ
وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ
وَرَبٌّ غَفُورٌ }[سبأ: 15]
وأقول: إن علينا أن نبحث في آفاق مرادات الله حين يُعْلمنا من لدنه ويقفنا على
المعنى المراد، إننا نعلم أن أول بلاغ نزل من الله بخصوص آدم أخبرنا فيه أنه قد
خلق آدم خليفة في الأرض:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... }[البقرة: 30]
إذن فآدم مخلوق للأرض، ولا تظلموا آدم وتقولوا إنه مخلوق للجنة، وكنا سنعيش فيها
لكنه عصى وأنزلنا إلى الأرض. لذلك نقول: لا، وعلينا أن نتذكر أن أول بلاغ من الله
عن آدم أنه جعله في الأرض خليفة. والذي كان يجب أن نسأل عنه: ما دام قد جعله الله
خلفية في الأرض فما الذي جاء بحكاية الجنة هذه؟!
لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف
محصورة في " افعل " و " لا تفعل "؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر
الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحاً؛ لذلك فكل ما
لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " لا يفسد به المجتمع. إذن
فـ " افعل " و " لا تفعل " هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.
وهل خلق الله الإِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله؟. لا، فمادام الشيطان
قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في " افعل " ، و
" لا تفعل " ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك
الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال "
افعل " إلى مجال " لا تفعل " ، وكذلك يحاول أن يزين لك " أن
تفعل " ما هو في مجال " لا تفعل " فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجاً يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي
مهمتها أداءً يسعد الإِنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة؛ لذلك كان لابد أن
يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا يتلقى المنهج تلقيًّا
نظريًّا، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألاّ يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد
أن يعطيه تدريباً على المهمة في " افعل " و " لا تفعل ".
وحذره من العقبات التي تعترض " افعل "؛ حتى لا تجيء في منطقة " لا
تفعل " ، وكذلك من العقبات في منطقة " لا تفعل " حتى لا تجيء في
منطقة " افعل " ، واختار له مكاناً فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا
يتعب في أي شيء أبداً في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه هي الجنة وهي بستان جميل
وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره: كُلْ من كل شيء فيها، ولكن لا تقرب هذه الشجرة.
" كل " هذا هو الأمر، و " لا تقرب " هذا هو النهي. وأوضح
سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنّه
" إبليس "؛ لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم
وقال:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82]
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله-
سبحانه- وإعداده، وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم فلا فضلات تتعبه، ولا ينفخ
ولا يعاني من متاعب في الصحة... إلخ؛ لأنه سبحانه يعطي لآدم القدر المقوم. وسبحانه
قادر على كل شيء بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه، والجنين ينمو، والنمو معناه
أنه يتلقى الغذاء، ولا يخرج منه فضلات؛ لأن الغذاء الذي يدخله الله له على قدر
النمو فقط، وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة التدريب بالغذاء، فهو قادر على كامل
الإِعداد.
إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء؛ لأن جنة الجزاء لابد أن
تأتي بعد التكليف. ولا يمكن أن يكون فيها تكليف، ومن يسكنها لا يخرج منها. وآدم-
كما علمنا- مخلوق للأرض، إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في
الخلافة أمراً متمثلاً في } فَكُلاَ { ، ونهياً متمثلاً في } وَلاَ تَقْرَبَا { ،
لم يقل لهما: لا تأكلا، بل قال: } وَلاَ تَقْرَبَا { لأن القِربان مظنة أنه يؤدي
إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان
قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين: الرمز الأول: لـ " افعل
" ، والرمز الثاني: لـ " لا تفعل " ، ونجد أن الذي نهى الله عنه
قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر
به، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه
إليه، ولذلك قال: } وَلاَ تَقْرَبَا { فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما
بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما
يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل:
{ ...فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ
}[الحج: 30]
ولم يقل: " لا تعبدوا الأوثان " ، بل قال: " فاجتنبوا " ،
والشأن في " الخمر " أيضاً جاء بالاجتناب. لكنّ بعضاً من السطحيين
يقولون: لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول: الاجتناب أقوى من المنع
ومن التحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا
تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها.
}...وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {
[الأعراف: 19]
والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه: أنا لم أجعل لكما حقا
في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، }
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ { اي لا تدخلا في اطار من يظلمون أنفسهم لأن الله
لا يظلم أحداً، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي نفسك شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك
تأخذ عقابها عذاباً أليماً في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل
على أنك غير مأمون عليها.
ويقول الحق بعد ذلك: } فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ... {
(/962)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
كلمة " وسوس " تدل على الهمس في الإغواء، ونعرف أن الذي يتكلم في خير لا
يهمه أن يسمعه الناس. لكن من يتكلم في شرّ فيهمس خوفاً من أن يفضحه أحد، وكأن كل
شر لابد أن يأتي همساً، وصاحبه يعرف أن هذا الكلام لا يصح أن يحدث، ويستحي منه،
ولا يحب أن يعرف المجتمع عنه هذا الشيء، و " وسوس " مأخوذة من الصوت
المغري، لأن الوسوسة هي صوت رنين الذهب والحلي، إذن فما قاله الشيطان لآدم وزوجه
هو كلام مغرٍ ليلفتهما عن أوامر رب حكيم.
وقوله الحق: { فَوَسْوَسَ لَهُمَا } يعطينا حيثيات البراءة لحواء؛ لأن الشائع أن
حواء هي التي ألحت على آدم ليأكلا من الشجرة، وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن
القرآن يؤكد أن الوسوسة كانت لآدم وحواء معاً. { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا }. [الأعراف: 20]
وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما ووري من سوءاتهما، أو وسوس ليعصيا الله؟. لقد
وسوس ليعصيا الله، وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية، ويعلم أنهما حين يأكلان
من الشيء الذي حرمه ربنا ستظهر سواءتهما، و " السوءة " هي ما يسوء النظر
إليه، ونطلقها على العورة، والفطرة تستنكف أن يرى الإِنسان المكتمل الإِنسانية
السوءة. وكأنهما في البداية لم ير أحدهما سوءة الآخر أو سوءة نفسه لأن الحق يقول:
{ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا }.
والسوءات أربع: اثنتان للرجل واثنتان للمرأة، فكأن كل إنسان منهما لا يرى سوءتيه،
وكذلك لا يرى سوءتي الآخر، لأن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية، وهذا كلام
معقول جداً. ألم تقل سيدتنا أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: " ما رأيت
ولا أرى مني " ، وفي هذا القول تتجلّى قمة الأدب لأنها لم تجيء حتى باللفظ،
لأن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر. وذلك حين حدَّث رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: " " يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما
بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ، تعجبت السيدة عائشة فقال
لها: " الأمر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد. " { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا
وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } [الأعراف: 20]
وبماذا ووري؟. لا بد أن هناك لباساً كان على كل منهما، وقال العلماء الكثير عن هذا
اللباس، فمن قائل: إن أظافر الإِنسان هي بقية اللباس الذي كان موجوداً عند آدم
وحواء، وهو ما كان يواري السوءات، ويقال: إنّ أيّ إنسان يكون في غاية الضحك
والانبساط، ويريد أن يكتم نَفْسه، ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك
لو نظر إلى أظافره، عندئذ لا يمكنه أن يضحك لأنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة.
وجرّبها في نفسك، تجد نفسك قد منعت من الضحك، وهذا من عمل الإِله.
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الإِلهي الذي كان يلفهما، والنور
الساطع جداً حين يلف لا يبين، صحيح أنك بالنور ترى الأشياء، لكنه إن اشتد عمَّى
على الأشياء فأخفاها فلا تراها؛ لأن أي أمر إذا زاد على حدّه انقلب إلى ضده، فإما
أن يكون الثوب الأظافر، وإما أن يكون النور الإِلهي الذي كان يغشاهما ويواري
السوءة، وقد سميت " سوءة " و " عورة " ، لأنها تسوء، فلماذا
تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين: فتحة في الفم، وفتحة في العورة؟.
إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها. وحينما كانا يأكلان من إعداد ربنا لم
يكونا- كما قلنا- في حاجة إلى إخراج فضلات؛ لأن إعداد الله يعطي كُلاًّ منهما على
القدر الكافي للحركة والفعل، وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها. لكن حينما
يخرجان عن مرادات الله في الطعام، ويأكلان غير ما أمر الله به، ويمارسان اختيار
الطعام بدأت الفضلات في الخروج بما لها من رائحة غير مقبولة، فهل ظهور السوءة لهما
هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج الله سواء أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في
الأمور المادية؟
نعم؛ لأن كل شيء يُخَالَف فيه منهج الله لابد أن تبدو فيه العورة، وإن رأيت أي
عورة في المجتمع فاعلم أن منهجاً من مناهج الله قد عطل. وينقل القرآن ما قاله لهما
الشيطان من وسوسة: } وقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ
إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ { [الأعراف: 20]
لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق: أراد ألا تقربا هذه الشجرة لأن من يأكل منها
يصير مَلَكاً، أو خالداً. ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان
ضعيفاً واهياً وغبياً؛ لأنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكاً أو
يبقى من الخالدين فلماذا لم يخطف منها ما يجعله مَلَكاً أو خالداً؟ وفي هذا درس
يبين لنا أن مَن يُزَيّن له ويتصدى له أحد بالإِغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي
غواية يسير، وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.
وإذا كان الشيطان قد قال:{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }[الأعراف:
14]
فلماذا لم ينقذ نفسه بالأكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة؟. إذن كان ما يقوله
الشيطان كذباً.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا... {
(/963)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
" قاسم " مادة فاعل، تأتي للمشاركة، أي أن هناك طرفين اثنين، كل منهما
فاعل في ناحية ومفعول في ناحية أخرى، مثل شارك زيد عمراً، وهي تعني أيضاً أن عمراً
شارك زيداً، وهكذا تكون مادة فاعل وتفاعل، فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة.
وفي المعنى نجد الاثنين فاعلاً ومفعولا، إذن " قاسم " تحتاج إلى عمليتين
اثنتين.. فهل جلس إبليس يقسم لآدم ولزوجته، وهما يقسمان؟. ونقول: لا؛ لأنها تأتي
مرة لغير المفاعلة، أو للمفاعلة اللزومية، والمفاعلة اللزومية تتضح في قوله الحق:{
وَوَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ...
}[الأعراف: 142]
وواعدنا، مثلها مثل فاعل، من الذي واعد؟. إنه الله الذي وعد موسى عليه السلام،
ودخل موسى في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به.
إذن " قاسمهما " أي قبلا القسم ودخلا فيه. { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي
لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [الأعراف: 21]
و " قاسم " ، أي أقسم، ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه:
أنا قلت إنه عدو لك ولزوجك، ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى، فقال آدم: يا
ربي ما كنت أعتقد أن خلقاً من خلقك يقسم بك على الباطل. ولم يأتي على البال أن
خلقاً يقسم بالله على الباطل. وكانت هذه أول خديعة في الخلق. ولذلك نجد قتادة- رضي
الله عنه- يقول: " المؤمن بالله يُخدع ".
" والنبي عليه الصلاة والسلام عقد على امرأة ودخلت به، ومن كيد النساء وهن
زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وقد خفن أن يشغف بها حُبًّا، فقلن لها: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، يحب هذه الكلمة، فإذا دخل عليك فقوليها!، قولي: "
أعوذ بالله منك " ، ولحظة أن دخل عليها سيدنا رسول الله، قالت له: "
أعوذ بالله منك ". فقال لها: استعذت بمعاذ. ولم يقربها الرسول " ، وهذا
ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بالله. وها هو ذا سيدنا عبد الله بن عمر كان يعتق من
العبيد من يحسن الصلاة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها، ويقف فيها خاشعاً، وحين عرف
العبيد ذلك احترفوا إقامة الصلاة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع،
وكان رضي الله عنه يعتقهم، وذهب له من يقول: إن العبيد يخدعونك، فيقول: من خدعنا
بالله، انخدعنا له.
والنصح هنا: إغراء بمخالفة أمر الله، وكان يجب ألا تكون هناك غفلة من آدم، وكان
لابد أن يقارن بين الأمرين، بين غواية الشيطان له بالأكل، وبين أمر الحق سبحانه
الذي قال له ولزوجه: لا تقربا. لكنه لم يفعل.
ويقول الحق بعد ذلك: { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا... }
(/964)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب
مما غرهما وخدعهما من القسم. و " دلاّ " مأخوذة من دلّى رجليه في البئر
كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلَّى جبل الدلو لينزله في البئر، ومعناها: أنه
يفعل الشيء مرة فمرة، و " بغرور " أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة،
فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الاصطراع بين الحق والباطل في النفس، { فَلَمَّا ذَاقَا
الشَّجَرَةَ } هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما
يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه كلاهما إلى جسامة
الأمر. { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } [الأعراف: 22]
و " الخصف " أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئاً. وقديماً حينما
كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإِسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع
من الخرق حتى تتمكن منه.
وهكذا فعل آدم وحواء؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة.
وقوله الحق: { وَطَفِقَا } يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات.
وهنا يقول الحق: {...وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا
الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ }
[الأعراف: 22]
لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإِباحة في أمور متعددة، وسبحانه لم يكلفهما
إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان كثيراً؛ لذلك لم يكن من
اللائق أن يتولى عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة،
ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق:{
...وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا }[طه: 121]
ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما: {...أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا
الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ }
[الأعراف: 22]
وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ
الشَّجَرَةَ } وأوضح: أن هناك عنصراً إغوائياً هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه
امتنع عن السجود، وقد طرده الحق لهذا السبب. إذن إنْ آخذهما وعاقبهما الله بهذا
الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب: نعم يا رب
نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم قد يأتي
بالإِخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإِيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي.
{...إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } [الأعراف: 22]
ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك، و " مبين
" أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه
سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيَّن العداوة وشديد
الخصومة.
ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ... }
(/965)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
وتلك هي الكلمات التي قال الله عنها في سياق آخر:{ فَتَلَقَّىا ءَادَمُ مِن
رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
}[البقرة: 37]
فكأن الحق سبحانه وتعالى قدَّر غفلة خلقه عن المنهج؛ فشرّع لهم وسائل التوبة إليه،
ووسائل التوبة ثلاث مراحل: تشريعها رحمة، ثم الإقبال عليها من المذنب اعترافا
وإنابة، وقبولها منه سبحانه رحمة، فالتشريع يطلب منك أن تفعل، وحين تتوب يتوب الله
عليك.
تشريع التوبة- إذن رحمة، لا بالمذنب فقط، بل وبغيره أيضاً؛ لأن الله لو لم يشرع
التوبة، كان الذي يعمل معصية، ولايجد مغفرة، يستشري في المعاصي، وإذا استشرى في
المعاصي تعب المجتمع كله. { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23]
وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته، وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب؛
فإبليس أراد أن يبرر المخالفة:{ ...قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
}[الإسراء: 61]
فماذا قال آدم وحواء؟: {...رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23]
ولذلك كان جزاء إبليس - وهو المتأبي على أوامر الله وحكمه - أن يطرد من رحمته. وجزاء
المعترف بأنه أذنب، وأنه ظلم نفسه أن تُقبل توبته. إذن لا يصح للناس الذين يقيمون
على معصية أن يقول الواحد منهم: " هذه هي ظروفي " ، ويبرر ويحلل ما
يفعله من المعاصي، بل على الواحد منهم ألا يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة، وعليه
أن يقول: " ما أفعله، حرام، لكن لا أقدر على نفسي " وبذلك لا يكون قد
ردّ الحكم، بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب، فصار أهلاً للمغفرة وأهلاً
للتوبة.
وهنا نسأل: ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟. نقول: إبليس عصى وجاء بحيثية
رفض الأمر، لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
وحين قال آدم وزوجته حواء: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } معاً وفي نَفَس
واحد، ونغمة حزينة نادمة، ألا يدل ذلك على أنهما قد تعلماها؟. إن كلا منهما لو
اعتذر لله بمفرده لاختلفا في أسلوب الاعتذار.
وهذا دليل على أنها ملقنة، ولهذا قال ربنا.{ فَتَلَقَّىا ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ... }[البقرة: 37]
وهما قد قالا: { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } ، وأنفسنا جمع نَفْس، ولم يقولا
" نفسينا " ، بل قالا { أَنفُسَنَا } أي أن قلبيهما أيضاً قد صفيا وخلصا
من أثر تلك المعصية، وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس ذريتهما.
ويقول الحق بعد ذلك: { قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ... }
(/966)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
ونلتفت لنجد أن هناك أمراً قد يسبق لإِبليس بالهبوط، وهنا أمر آخر بالهبوط، وبالله
لو كانت جنة الخلود هي محل إقامتهما، وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها
أبداً. لكنه سبحانه أمر آدم بأن يهبط إلى الأرض التي جعله خليفة فيها، ليباشر مهمة
الخلافة في إطار التجربة التي وقعت له، وعليه أن يحترم أمر الله في كل تكليف، وأن
يحترم نهي الله في كل تكليف، وليحذر عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له. وقد جرب ذلك
بنفسه، فلينزل مزوداً بالتجربة، وليس له عذر من بعد ذلك. { قَالَ اهْبِطُواْ
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }.
والأمر هنا للجماعة؛ ولم يقل لهما اهبطا. وفي آية ثانية قال:{ قَالَ اهْبِطَا
مِنْهَا جَمِيعاً... }[طه: 123]
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة. والأمر هنا جاء
بقوله: { اهْبِطُواْ } لأن الهبوط اشترك فيه الثلاثة؛ آدم وحواء، وإبليس..
والعداوة مسبقة ولا ندعيها. العداوة بين طرفين: اثنان في طرف هما آدم وحواء، وواحد
في طرف هو إبليس. ويريد الحق لنا بيان الحقائق وأن المتكلم إله، إنّ كل حرف عنده
بميزان؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لنا:{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ...
}[النساء: 82]
أي إياك أن تأخذ واجهة النص، ولكن ابحث في خلفيات النص، ولا تأخذ واجهة اللفظ، بل
انظر إلى ما وراء الألفاظ. { قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ } [الأعراف: 24]
وكلمة " عدو " تعني وجود صراع، ومعارك سوف تقوم بين أولاد آدم بعضهم مع
بعض، أو تقع العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الأرض من جن وغيرهم، لكنها لمدة
محدودة، ولذلك قال: { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ
}.
أي أن لكم استقراراً في الأرض ومتاعاً إلى حين. وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن
يأخذه على أنه متاع في الدنيا ولا يأخذه على أنه معركة بلا جزاء، لا، فأنت تجاهد
وتأخذ جزاء كبيراً على الجهاد وهذا متاع.
ويقول الحق بعد ذلك: { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا... }
(/967)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
كأنه قال: { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ } فأحب أن
يعطينا الصور لرحلة الحياة، ويرسم لنا علاقتنا بالأرض التي قال فيها:{ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... }[البقرة: 30]
فقد ربطنا بالأرض. إيجاداً من طينها، ومتعة بما فيها من ميزات، وخيرات وثمرات، ثم
نموت لنعود لها ونبعث من بعد ذلك. فالإِنسان منا من الأرض، منها يحيا وفيها يموت،
ويذهب إلى أصله ومرجعه، إلى الأم الأرض، فهي تكفته وتضمه وتأخذه في حضنها فهي
الحانية عليه وبخاصة في وقت ضعفه. وساعة ما يكون الإِنسان في حالته الطيبة، وله أخ
حالته عكس ذلك فإن قلب الأم إنما يكون مع الضعيف، ومع المريض، ومع الصغير.
والأرض هي التي تأخذ كل البشر، تأخذ الإِنسان وتمص منه الأذى، وتداري رائحته، أمّا
أحبابه في الدنيا وإخوانه، فقد سارعوا بمواراته التراب تفادياً لرحلة التحلل.
وبمجرد أن يموت الإنسان، أول ما يُنْسىَ هو اسمه؛ فيقولون: " أين الجثة
" ، ولا يقولون: " أين فلان ". وبعد الكفن يوضع الجثمان في النعش،
ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه.
وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول: { يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ
أَنزَلْنَا... }
(/968)
يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وكلمة { يَابَنِي ءَادَمَ } لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين،
إبليس، أنتم أولاد آدم، والشيطان موجود، فانتبهوا. لقد أنزل الحق عليكم لباسا
يواري سوءاتكم؛ لأن أول مخالفة حدثت كشفت السوءة، والإنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن
كل خير في الأرض يهبط مدده من السماء، وسبحانه هو من أنزل اللباس لأنه هو الذي
أنزل المطر، والمطر روى بذور النبات فخرجت النباتات التي غزلناها فصارت ملابس،
وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء. ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على
عباده فيقول:{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ...
}[الزمر: 6]
نعم هو الذي أنزل من الأنعام أيضاً لأن السببية في النبات من مرحلة أولى، والسببية
في الحيوان من مرحلة ثانية، فهو الذي جعل النبات يخرج من الأرض ليتغذى عليه
الحيوان، ويقول سبحانه أيضاً:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ
وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... }[الحديد:
25]
نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضاً؛ لأننا نأخذه من الأرض التي خلقها الله، وهذا
دليل على أن التنزيلات إنما أراد الله أن يحمي بها كل منهج. { يَابَنِي ءَادَمَ
قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ... } [الأعراف: 26]
فإذا كنا قد أنزلنا اللباس يواري سوءات الحس وسوءات المادة، كذلك أنزلنا اللباس
الذي يواري سوءات القيم. فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري
السوءة المادية الحسية فيجب أن تعلموا أيضاً أن اللباس الذي ينزله الله من القيم
إنما يواري ويستر به سواءتكم المعنوية. ولباس الحياة المادية لم يقف عند موارة
السوءات فقط، بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة أيضاً. لذلك قال الحق: {...قَدْ
أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ
التَّقْوَىا ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
} [الأعراف: 26]
والريش كساء الطير، وقديماً كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملابس. وكانوا
يضعون الريش على التيجان، وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا: فلان مريش أي لا يملك
مقومات الحياة فقط، بل عنده ترف الحياة أيضاً، فكأن هذا القول الكريم قد جاء
بمشروعية الترف شريطة أن يكون ذلك في حل. وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى
مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة، فقال سبحانه:{ وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً... }[النحل: 8]
والركوب لتجنب المشقة، والزينة من أجل الجَمَال.
وكذلك يقول الحق سبحانه:{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ
لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ... }[الأعراف: 32]
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول:{ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ
زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ... }[الأعراف: 31]
إذن فهذا أمر بالزينة، وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {
وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىا ذالِكَ خَيْرٌ.
.. { [الأعراف: 26]
نعم إن لباس التقوى خير من ذلك كله؛ لأن اللباس المادي يستر العورة المادية،
وقصاراه أن يكون فيه مواراة وستر لفضوح الدنيا، لكن لباس التقوى يواري عنا فضوح
الآخرة.
أو لباس التقوى هو الذي تتقون به أهوال الحروب؛ إنّه خير من لباس الزينة والرياش
لأنكم تحمون به أنفسكم من القتل، أو ذلك اللباس- لباس التقوى- خير من اللباس
المادي وهو من آيات الله، أي من عجائبه، وهو من الأشياء اللافتة؛ فالإِنسان منكم
مكون من مادة لها احتياجات مادية وعورات مادية، وهناك أمور قيمية لا تنتظم الحياة
إلا بها، وقد أعطاك الحق مقومات الحياة المادية، وزينة الحياة المادية، وأعطاك ما
تحيا به في السلم والحرب، ومنهج التقوى يحقق لك كل هذه المزايا. فخذ الآيات مما
تعلم ومما تحس لتستنبط منها ما يغيب عنك مما لا تحس.
ويقول الحق بعد ذلك: } يَابَنِي ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ... {
(/969)
يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
قبل أن يطلب منا سبحانه ألا نفتتن بالشيطان، أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات
الحياة، وعلينا أن نتذكر موقف الشيطان، من أبينا آدم وإِغواءه له.
والفتنة في الأصل هي الاختبار، وتُطلق - أحياناً - على الأثر السيء حيث تكون أشد
من القتل، لكن هل يسقط الإِنسان في كل فتنة؟ لا؛ لأن الفتنة هي الاختبار، وفي
الاختبار إما أن ينجح الإِنسان، وإمّا أن يرسب، فإن نجح أعطته الفتنة خيراً وإن
رسب تعطه شرًّا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم، وأعلمنا أنه خلقه للخلافة في الأرض،
وأن موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلافة؛ لأنه إذا ما أصبح خليفة في الأرض؛
فلله منهج يحكمه في كل حركاته، ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم
ينزل الله للأرض ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج، فجعل الجنة
مرحلة من مراحل ما قبل الاستخلاف في الأرض، وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له،
وأراد منه أن يأخذ التجربة في التكليف. وكل تكليف محصور في " افعل كذا "
و " لا تفعل كذا "؛ لذلك شاء الله أن يجعل له في الجنة فترة تدريب على
المهمة؛ لينزل إلى الأرض مباشراً مهمة الخلافة بعد أن زود بالتجربة الفعلية
الواقعية، وأوضح له: أَنْ كُلْ مِنْ كُلِّ ما في الجنة، ولكن لا تقرب هذه الشجرة.
و " كُلْ " أَمْرٌ، و " ولا تقرب " نَهْيٌّ. وكل تكليف شرعي
هو بين " لا تفعل " وبين " افعل ".
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج الله، فلما قرب
آدم وحواء وأكلا منها؛ خالفا أمر الله في { وَلاَ تَقْرَبَا } ، وأراد الله أن
يبين لهما بالتجربة الواقعية أن مخالفة أمر الله لابد أن ينشأ عنها عورة تظهر في
الحياة، فبدت له ولزوجته سواءتهما، فلما بدت لهما سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة
أمر الله تُظهر عورات الأرض وعورات المجتمع، فأمره الله: أن اهبط إلى الأرض مزوداً
بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الأرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة، وأراد أن يبين
لنا أنه عصى أمر ربه في قوله: { وَلاَ تَقْرَبَا } ، وتلقى من ربه كلمات فتاب
عليه، وأراد سبحانه أن يبين لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ، وتدركه
الغفلة، وقد يخالف منهج الله في شيء، ثم يستيقظ من غفلته فيتوب، وبعد أن كلفه أن
يبلغ رسالة الله وصار نبيًّا؛ جاءت له العصمة فلا يغفل ولا ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني:
{ ...وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا }[طه: 121]
إنّ هذه طبيعة البشر أن يعصي ثم يتوب إذا أراد التوبة، ولابد أن نفطن أيضاً إلى
قوله الحق: } ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ {
إذن فالاصطفاء جاء بعد المعصية؛ لأن عصيانه كان أمراً طبيعيًّا لأنه بشر، يخطئ
ويصيب، ويسهو ويغفل. ولكن بعد أن خرج من الجنة اجتباه الله ليكون نبيًّا ورسولاً،
ومادام قد صار نبيًّا ورسولاً فالعصمة تأتي له:{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ
عَلَيْهِ وَهَدَىا }[طه: 122]
إذن لا يصح لنا أن نقول: كيف يعصي آدم وهو نبي؟! نقول: تنبه إلى أن النبوة لم تأته
إلا بعد أن عصى وتاب؛ فهو يمثل مرحلة البشرية لأنه أبو البشرية كلها، والبشرية
منقسمة إلى قسمين: بشر مبلغون عن الله، وأنبياء يبلغون عن الله، فله في البشرية
أنه عصى، وله في النبوة أن ربه قد اجتباه فتاب عليه وهداه. والذين يقولون: إن آدم
كان مخلوقاً للجنة، نقول لهم: لا. افهموا عن الله، لأنه يقول: } إِنِّي جَاعِلٌ
فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً {.
إن أمر الجنة كان مرحلة من المراحل التي سبقت الخلافة في الأرض. إنها كانت تدريباً
على المهمة التي سيقوم بها في الأرض، والا فلو أن آدم قد خلقه الله للجنة وأن
المعصية أخرجته، إلا أن الله قد قبل منه توبته، وما دام قبل توبته فكان يجب أن
يبقيه في الجنة، ومن هنا نقول ونؤكد أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت
الخلافة في الأرض. وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يخلع علينا التجربة لآدم
حتى نتعظ بها، وأن نعرف عداوة الشيطان لنا، وألا نقع في الفتنة كما وقع آدم. }
يَابَنِي ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ
مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ...
{ [الأعراف: 27]
وهذا نهي لبني آدم وليس نهيا للشيطان، وهذا في مُكنة الإنسان أن يفعل أو لا يفعل،
فسبحانه لا ينهى الإنسان عن شيء ليس في مكنته، بل ينهاه عما في مكنته، والشيطان قد
أقسم أن يفتنه وسيفعل ذلك لأنه أقسم وقال: } فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ {. فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان؛ لأن أمره مع أبيكم واضح، ويجب أن
تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فلا يفتننكم كما أخرج أبويكم من الجنة، ويتساءل
البعض: لماذا لم يقل الله: لا يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم، وقال: } لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ {؟. ونقول هذا هو
السمو والافتنان الراقي في الأداء البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى لا يخرجنا من جنة التكليف. كما فتن أبوينا
فأخرجهما من جنة التجربة. ويقال عن هذا الأسلوب إنه أسلوب احتباك، وهو أن تجعل
الكلام شطرين وتحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر قصد الاختصار. وهذا هو
الأسلوب الذي يؤدي المعنى بمنتهى الإيجاز؛ لينبه ذهن السامع لكلام الله.
فيلتقط من الأداء حكمة الأداء وإيجاز الأداء، وعدم الفضول في الأساليب. } لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ... { [الأعراف: 27]
والفتنة- كما علمنا- هي في الأصل الاختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط
به، فإذا كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر، وحين
نريد أن نأخذ الذهب خالصاً نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به. كذلك
الفتنة بالنسبة للناس، إنها تأتي اختباراً للإنسان لينقي نفسه من شوائب هذه
المسألة، وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء. فإذا ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن؛ لأن
الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم وأمك حواء. والشيطان هو المتمرد
على منهج الله من الجن، والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر. فقد قال الحق سبحانه:{
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ... }[الجن: 11]
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج الله ليس واحداً، واقرأ قول الحق سبحانه:{
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ
عَدُوٌّ... }[الكهف: 50]
وهنا يقول الحق سبحانه: } إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ
تَرَوْنَهُمْ... { [الأعراف: 27]
و " قبيله " هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق قَسَمَه:{
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82]
إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق الله عن منهج الله، وحينما عصى إبليس ربّه
عزّ عليه ذلك، فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيًّا لأمر الله معصية أَدَّته
وأوصلته إلى الكفر؛ لأنه ردّ الحكم على الله. إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه، وجعله
يوغل ويسرف في عداوة الإِنسان لأنه عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته. }
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ... { [الأعراف:
27]
وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان، فلو كان المراد شياطين الإِنس معهم لما قال:
} إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ {.
وعلى ذلك فهذه الآية خاصة بالذرية، ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن
الشيطان لن يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا
شياطين الإِنس كما وُجد شياطين الجن، وهم من قال فيهم سبحانه:{ وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي
بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً... }[الأنعام: 112]
وكلمة } زُخْرُفَ الْقَوْلِ { تعني الاستمالة التي تجعل الإِنسان يرتكب المعصية
وينفعل لها، ويتأثر بزخارف القول. وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول،
فللباطل دعاته، ومروجوه، ومعلنوه، إنهم يزينون للإِنسان بعض شهواته التي تصرفه عن
منهج الله، ونلاحظ أن أعداء الله، وأعداء منهج الله يترصدون مواسم الإِيمان في
البشر، فإذا ما جاء موسم الإِيمان خاف أعداء الله أن يمر الموسم تاركاً هبة في
نفوس الناس، فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة الموسم، فإذا ما
حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للإِسلام.
} إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ {.
إن الشيطان يراكم أيها المكلفون هو وقبيله. والقبيل تدل على جماعة أقلها ثلاثة من
أجناس مختلفة أو جماعة ينتسبون إلى أب وأم واحدة. واختلف العلماء حول المراد من
هذا القول الكريم؛ فقال قوم: " إنهم جنوده وذريته ". ويقصدون جنوده من
البشر، ولم يلتفتوا إلى قول الحق: } مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ { فلا بد أن
يكون المراد بالقبيل هنا الذرية؛ لأننا نرى البشر، وفي قوله الحق تغليظ لشدة الحذر
والتنبه؛ لأن العدو الذي تراه تستطيع أن تدفع ضرره، ولكن العدو الذي يراك ولا تراه
عداوته شديدة وكيده أشد، والجن يرانا ولا نراه، وبعض من العلماء علل ذلك لأننا
مخلوقون من طين وهو كثيف، وهم مخلوقون من نار وهي شفيفة.
فالشفيف يستطيع أن يؤثر في الكثيف، بدليل أننا نحس حرارة النار وبيننا وبينها
جدار، ولكن الكثيف لا يستطيع أن يؤثر في الشفيف ولا ينفذ منه. إذن فنفوذ الجن وشفافيته
أكثر من شفافية الإِنسان، ولذلك أخذ خفة حركته. ونحن لا نراه.
إذن معنى ذلك أن الشيطان لا يُرى، ولكن إذا كان ثبت في الآثار الصحيحة أن الشيطان
قد رُئى وهو من نار، والملائكة من نور، والاثنان كل منهما جنس خفي مستور، وقد تشكل
المَلك بهيئة إنسان، وجاء لرسول الله وقال لنا صلى الله عليه وسلم: " هذا
جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ".
وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا على صورة
ملائكيّته، ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر، فيتمثل لهم مادة. " وقد ثبت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الشيطان وقال: " إن عفريتا من الجن جعل
يفتك عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة، وإن الله أمكنني منه فَذَعَتّهُ فلقد هممت
أن أربطه إلى جنب سارية من سوراي المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون ".
وذلك من أدب النبوة. إذن فالشيطان يتمثل وأنت لا تراه على حقيقته، فإذا ما أرادك
أن تراه.. فهو يظهر على صورة مادية. وقد ناقش العلماء هذا الأمر نقاشاً يدل على
حرصهم على فهم كتاب الله، ويدل على حرصهم على تجلية مراداته وأسراره، فقال بعضهم:
حين يقول الله إن الشيطان يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، لابد أن نقول: إننا
لن نراه.
وأقول: إن الإنسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته، بل على صورة مادية يتشكل بها،
وهذه الصورة تتسق وتتفق مع بشرية الإنسان؛ لأن الجني لو تصور بصورة مادية كإنسان
أو حيوان أو شيء آخر يمكن أن يراه الإنسان، وحينئذ لفقدنا الوثوق بشخص من نراه، هل
هو الشيء الذي نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به؟
إن الوثوق من معرفة الأشخاص أمر ضروري لحركة الحياة، وحركة المجتمع؛ لأنك لا تعطف
على ابنك إلا لأنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك، ولا تثق في صديقك إلا إذا عرفت أنه
صديقك.
ولا تأخذ علماً إلا من عالم تثق به. وهب أن الشيطان يتمثل بصورة شخص تعرفه، وهنا
سيشكك هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي يتمثل في صورته. وأيضاً أعدى
أعداء الشيطان هم الذين يبصرون بمنهج الله وهم العلماء، فما الذي يمنع أن يتشكل
الشيطان بصورة عالم موثوق في علمه، ثم يقول كلاماً مناقضاً لمنهج الله؟.
إذن فالشيطان لا يتمثل، هكذا قال بعض العلماء، ونقول لهم: أنتم فهمتم أن الشيطان
حين يتمثل، يتمثل تمثلاً استمرارياً، لا. هو يتمثل تمثل الومضة؛ لأن الشيطان يعلم
أنه لو تشكل بصورة إنسان أو لصورة مادية لحكمته الصورة التي انتقل إليها، وإذا
حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله من يملك سلاحاً، إنه يخاف منا أكثر مما
نخاف منه، ويخاف أن يظهر ظهوراً استمرارياً؛ لذلك يختار التمثل كومضة، ثم يختفي،
والإنسان إذا تأمل الجني المشكل. سيجد فيه شيئاً مخالفاً، كأن يتمثل- مثلا- في
هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي؛ أنه يخاف أن تكون قد عرفت أن
الصورة التي يتشكل بها تحكمه. وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه.
ويتابع الحق سبحانه: }...إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ { [الأعراف: 27]
والشياطين من جَعْل الله، وسبحانه خلّى بينهم وبين الذين يريدون أن يفتنوهم والا لو
أراد الله منعهم من أن يفتنوهم. لفعل.. إذن فكل شيء في الوجود، أو كل حدث في
الوجود يحتاج إلى أمرين: طاقة تفعل الفعل، وداع لفعل الفعل. فإذا ما كانت عند
الإنسان الطاقة للفعل، والداعي إلى الفعل، فإبراز الفعل في الصورة النهائية
نستمدها من عطاء الله من الطاقة التي منحها الله للإنسان. فأنت تقول: العامل
النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة، ونقول: إن العامل لم ينسج، وإنما الآلة،
والآلة لم تنسج، لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك، والصانع لم يصممها الا
بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها.
إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن تعمل، واعتمد على طاقة المهندس
الذي صنعها في المصنع، والمهندس اعتمد على طاقة الابتكار وعلى العالم الذي ابتكر
قانون الحركة، والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه الله، وفي مادة خلقها الله.
إذن فكل شيء يعود إلى الله فعلاً؛ لأنه خالق الطاقة، وخالق من يستعمل الطاقة،
والإنسان يوجه الطاقة فقط، فإذا قلت: العامل نسج يصح قولك، وإذا قلت: الآلة نسجت،
صح قولك، وإذا قلت: إن المصنع هو الذي نسج صح قولك.
إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى الله، وأنت وجهت الطاقة المخلوقة لله
بالقدرة المخلوقة لله في فعل أمر من الأمور. فإذا قال الله } إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّيَاطِينَ { أي خلّينا بينهم وبينهم المفتونين بهم، غير أننا لو أردنا الا
يفتنوا أحداً لما فتنوه. وهذا ما فهمه إبليس.{ ...لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *
إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83]
إذن من يريده الله معصوماً لا يستطيع الشيطان أن يغويه، وتعلم الشياطين أن الله
خلّى بينهم في الاختيار، هذه اسمها تخلية؛ ولذلك لا معركة بين العلماء. فمنهجهم أن
الطاقة مخلوقة لله، ونسب كل فعل إلى الله، ومنهم من رأى أنَّ موجّه الطاقة من
البشر فينسب الفعل للبشر، ومنهم من رأى طلاقة قدرة الله في أنه الفاعل لكل شيء،
ومنهم من قال: إن الإنسان هو الذي فعل المعصية.. أي أنه وجه الطاقة إلى عمل
والطاقة صالحة له، فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار ولا خلاف بينهم
جميعاً. }...إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ { [الأعراف: 27]
إذن جعل الله الشياطين أولياء لمن لم يؤمن، ولكن الذي آمن لا يتخذه الشيطان وليًا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا...
{
(/970)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزايد في القبح، ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون
خاص من الذنوب، وهو الزنا، لأن هذا تزيد في القبح، فكل معصية يرتكبها الإنسان
تنتهي بأثرها، لكن الزنا يخلف آثاراً.. فإمّا أن يوأد المولود، وإما أن تجهض
المرأة، وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيداً، ويعيش طريداً في المجتمع لا يجد مسئولاً
عنه، وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتداداً أكثر من أي معصية أخرى. وتصنع هذه المعصية
الشك في المجتمع. ولنا أن نتصور إن إنساناً يشك في أن من ينسبون إليه ويحملون اسمه
ليسوا من صلبه، وهذه بلوى كبيرة للغاية. والذين قالوا: إن الفاحشة المقصود بها
الزنا نظروا إلى قول الله سبحانه:{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَىا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَسَآءَ سَبِيلاً }[الإسراء: 32]
أو الفاحشة هي ما فيه حد، أو الفاحشة هي الكبائر، ونحن نأخذها على أنها التزيد في
القبح على أي لون من الألوان.
فما هي الفاحشة المقصودة هنا؟. إنها الفواحش التي تقدمت في قوله:{ مَا جَعَلَ
اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ... }[المائدة: 103]
وكذلك ما جاء في قوله تعالى:{ وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ
قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ... }[الأنعام: 137]
وكذلك في قوله الحق سبحانه:{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا
لِشُرَكَآئِنَا... }[الأنعام: 136]
أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، فيطوف الرجال نهاراً، والنساء يطفن
ليلاً، لماذا؟. لأنهم ادَّعَوْا الورع. وقالوا: نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما
ولدتنا أمهاتنا، وأن نتجرد من متاع الدنيا، ولا نطوف ببيت الله في ثياب عصينا الله
فيها.
وقولهم: { وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا } تقليد، والتقليد لا يعطي حكماً
تكليفياً، وإن أعطى علماً تدريبيا، بأن ندرب الأولاد على مطلوب الله من المكلف
ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن التكليف. ومما يدل على أن
التقليد لا يعطي حقيقة، أنك تجد المذهبين المتناقضين- الشيوعية والرأسمالية مثلاً-
مقلدين؛ لهذا المذهب مقلدون، ولهذا المذهب مقلدون. فلو أن التقليد معترف به حقيقة
لكان التقليدان المتضادان حقيقة، والمتضادان لا يصبحان حقيقة؛ لأنهم - كما يقولون
- الضدان لا يجتمعان، هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد. ولذلك نلاحظ في
أسلوب الأداء القرآني أنه أداء دقيق جداً؛ فالذي يتكلم إله. { وَإِذَا فَعَلُواْ
فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا }
[الأعراف: 28]
والرد من الله عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لأنه بداهة لا يؤدي
إلى حقيقة، بل قال: {...قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 28]
وهذا رد على قولهم: والله أمرنا بها. وأين الرد على قولهم: { وَجَدْنَا عَلَيْهَآ
آبَاءَنَا }؟.
نقول إنه أمر لا يحتاج إلى رد؛ لأنه أمر يرفضه العقل الفطري، ولذلك ترك الله الرد
عليه؛ لوضوح بطلانه عند العقل الفطري، وجاء بالرد على ادعائهم أن الله يأمر
بالفحشاء، فالله لا يأمر بالفحشاء. ثم كيف كان أمر الله لكم؟. أهو أمر مباشر..
بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن يرتكب فاحشة؟ ألم تنتبهوا إلى قول الحق سبحانه:{
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ
حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً... }[الشورى: 51]
أم بلغكم الأمر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول؟. وهكذا
يكون قولكم مردوداً من جهتين: الجهة الأولى: إنه لا طريق إلى معرفة أمر الله إلا
بأن يخاطبكم مباشرة أو يخاطبكم بواسطة رسل؛ لأنكم لستم أهلاً للخطاب المباشر،
والجهة الثانية: أنكم تنكرون مسألة الأنبياء والرسل. فأنتم لم يخاطبكم الله
بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إلا أن يقال لكم: }...أَتَقُولُونَ عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { [الأعراف: 28]
ولا جواب على السؤال إلا بأمرين: إما أن يقولوا: " لا " فقد كذبوا
أنفسهم، وإما أن يقولوا: " نعم "؛ فإذا قالوا: نعم نقول على الله ما لا
نعلم؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن الله لم يأمر بالفاحشة، بل أمر الله بالقسط،
لذلك يقول سبحانه بعد ذلك: } قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ... {
(/971)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
والقسط هو العدل من قسط قِسطاً، وأمّا قاسط فهي اسم فاعل من قسط قَسْطاً وقَسُوطاً
أي جار وعدل عن الحق، والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون، كلمة
العدل هي التسوية، فإن ملت إلى الحق، فذلك العدل المحبوب. وإن ملت إلى الباطل،
فذلك أكره مكروه { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ }.
وهذه جملة خبرية. { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف:
29]
وهذا فعل أمر، وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا من عطف الأمر على الخبر، ولكن لنلتفت
أن الحق يعطفها على " قل " ، فكأن المقصود هو أن يقول: { قُلْ أَمَرَ
رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ }.
والوجه هو السمة المعينة للشخص؛ لأن الإنسان إن أخفى وجهه لن تعرفه إلا أن كان له
لباس مميز لا يرتديه الا هو. والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي، ولذلك كان السجود
هو وضع الوجه في الأرض، وهذا منتهى الخضوع لأمر الله بالسجود؛ لأن السجود من
الفاعل المختار وهو الإنسان يكون بوضع الجبهة على الأرض. وكل شيء خاضع لحكم الله
نقول عنه: إنه ساجد.{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ
وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ... }[الحج: 18]
والشجر يسجد وهو نبات، والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان، والشمس والقمر والنجوم
والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة، لكن حين جاء الحديث عن الإنسان قسمها سبحانه
وقال:{ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ... }[الحج:
18]
لأن الإنسان له خاصية الاختيار، وبقية الكائنات ليس له اختيار. إذن فالسجود قد
يكون لغير ذي وجه، والمراد منه مجرد الخضوع، أما الإنسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف
أنه مستخلف وكل الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا، فإذا كان السيد
الذي تخدمه كل هذه الأجناس حيواناً، ونباتاً، وجماداً قد وضع وجهه على الأرض فهو
خاضع من أول الأمر حين نقول عنه إنه ساجد. { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ
مَسْجِدٍ... } [الأعراف: 29]
والإقامة أن تضع الشيء فيما هيىء له وخُلق وطُلب منه، وإن وجهته لناحية ثانية تكون
قد ثنيته وأملته وحنيته، وعَوِّجته. إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود؛ لأن الذي سخر
لك هذا الوجود وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الأرض من أجله، وإن لم تفعل
فأنت تختار الاعوجاج لوجهك، واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود لله لن يعطيك فقط
السيادة على الأجناس الأخرى التي تعطيك خير الدنيا، ولكن وضع جبهتك ووجهك على
الأرض يعطيك البركة في العمل ويعطيك خير الآخرة أيضاً. والعاقل هو من يعرف أنه أخذ
السيادة على الأجناس فيتقن العبودية لله، فيأخذ خيري الدنيا والآخرة حيث لا يفوته
فيها النعيم ولا يفوت هو النعيم، أما في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلاف وتعلم
أنك قد يفوتك النعيم، أو تفوت أنت النعيم، وحين تتذكر الله وتكون خاضعاً لله فأنت
تنال البركة في حركة الاستخلاف.
} وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ... { [الأعراف: 29]
والمسجد مكان السجود، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " فضلت على الأنبياء
بست: أعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً
ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون ".
إذن فكل موضع في الأرض مسجد؛ فإن دخلت معبداً لتصلي فهذا مسجد. والأرض كلها مسجد
لك. يصح أن تسجد وتصلي فيها. وتزاول فيها عملك أيضا، ففي المصنع تزاول صنعتك فيه،
وحين يأتي وقت الصلاة تصلي، وكذلك الحقل تصلي فيه، لكن المسجد الاصطلاحي هو المكان
الذي حُبس على المسجدية وقصر عليها، ولا يزاول فيه شيء آخر. فإن أخذت المسجد على
أن الأرض مسجد كلها تكن } وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ { في جميع أنحاء الأرض. وإن
أخذتها على المسجد، فالمقصود إقامة الصلاة في المكان المخصوص، وله متجه وهو
الكعبة. وكذلك يكون اتجاهك وأنت تصلي في أي مكان. والمساجد نسميها بيوت الله ولكن
باختيار خلق الله، فبعضنا يبني مسجداً هنا أو هناك. ويتجهون إلى بيت باختيار الله
وهو الكعبة. ولذلك كانت كعبة ومتوجهاً لجميع بيوت الله.
وقصارى الأمر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها، أي على
الوجه الذي تستقيم فيه العبادة. وهو أن تتجهوا وأنتم في صلاتكم إلى الكعبة فهي بيت
الله باختيار الله.
وساعة ما تصادفك الصلاة صل في أي مسجد، أو } أَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ
مَسْجِدٍ { يقصد بها التوجه للصلاة في المسجد، وهنا اختلف العلماء، هل أداء الصلاة
وإقامتها في المسجد ندباً أو حتماً؟. والأكثرية منهم قالوا ندباً، والأقلية قالوا
حتماً. ونقول: الحتمية لا دليل عليها.
من قال بحتمية الصلاة في المسجد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: " والذي
نفسِ بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم
الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم ".
ونقول: هل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أو لم يفعل؟ لم يفعل رسول الله
ذلك، إنما أراد بالأمر التغليظ ليشجعنا على الصلاة في المساجد عند أي أذان للصلاة.
ويقول الحق سبحانه: } وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... { [الأعراف: 29]
والدعاء: طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي. وحين تدعو ربك ادعه
مخلصاً له الدين بحيث لا يكون في بالك الأسباب؛ لأن الأسباب إن كانت في بالك فأنت
لم تخلص الدين، لأن معنى الإِخلاص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه، والشوائب
في العقائد وفي الأعمال تفسد الإِتقان والإِخلاص، وإياكم أن تفهموا أن أحداً لا
تأتي له هذه المسألة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" أنّي لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة ".
إذن فالإِخلاص عملية قلبية، وأنت حين تدعوا الله ادعه دائماً عن اضطرار، ومعنى
اضطرار. أن ينقطع رجاؤك وأملك بالأسباب كلها. فذهبت للمسبب، وما دمت مضطراً سيجيب
ربنا دعوتك؛ لأنك استنفدت الأسباب، وبعض الناس يدعون الله عن ترف، فالإِنسان قد
يملك طعام يومه ويقول: ارزقني، ويكون له سكن طيب ويقول: أريد بيتاً أملكه. إذن
فبعضنا يدعو بأشياء لله فيها أسباب، فيجب أن نأخذ بها، وغالبية دعائنا عن غير
اضطرار. وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به أمر إلى الاضطرار ولا يجيبه الله.
ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: }...كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ { [الأعراف: 29]
والله سبحانه يخاطب الإِنسان، ويحننه، مذكراً إياه بـ " افعل كذا " و
" لا تفعل كذا ". وسبحانه قادر أن يخلقه مرغماً على أن يفعل، لكنه - جل
وعلا - شاء أن يجعل الإِنسان سيدا وجعله مختاراً، وقهر الأجناس كلها أن تكون مسخرة
وفاعلة لما يريد، وأثبت لنفسه - سبحانه - صفة القدرة، ولا شيء يخرج عن قدرته؛ فأنت
أيها العبد تكون قادراً على أن تعصي ولكنك تطيع، وهذه هي عظمة الإِيمان إنّها تثبت
صفة المحبوبية لله، فإذا ما غُر الإِنسان بالأسباب وبخدمة الكون كله، وبما فيه من
عافية، وبما فيه من قوة، وبما فيه من مال، تجد الحق يلفته: لاحظ أنك لن تنفلت مني:
أنا أعطيت لك الاختيار في الدنيا، لكنك ترجع لي في الآخرة ولن تكون هناك أسباب،
ولن تجد إلا المسبب، ولذلك اقرأ:{ ...لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16]
كأن المُلْكَ- قبل ذلك - أي في الدنيا - كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم الأسباب هذا
يملك، وذلك يملك، وآخر يوظف، لكن في الآخرة لا مالك، ولا مَلِكٌ إلا الله، فإياكم
أن تغتروا بالأسباب، وأنها دانت لكم، وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها؛ لأن مرجعكم
إلى الله.
ويقول الحق بعد ذلك: } فَرِيقاً هَدَىا وَفَرِيقاً... {
(/972)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
اذكروا أننا قلنا من قبل: إن الله هدى الكل.. بمعنى أنه قد بلَّغهم بمنهجه عبر
موكب الرسل، وحين يقول سبحانه: { فَرِيقاً هَدَىا وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ
الضَّلاَلَةُ } فالمقصود هنا ليس هداية الدلالة، لكن دلالة المعونة. وقد فرقنا بين
هداية الدلالة وهداية المعونة.
وقوله الحق { فَرِيقاً هَدَىا } أي هداية المعونة؛ لأن هذا الفريق أقبل على الله
بإِيمان فخفف الله عليه مؤونة الطاعة، وبغّضه في المعصية، وأعانه على مهمته. أما
الذي تأبّى على الله، ولم يستجب لهداية الدلالة أيعينه الله؟ لا. إنه يتركه في
غيِّه ويخلي بينه وبين الضلالة، ولو أراده مهديًّا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك.
وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه، ولكن الذين حق عليهم الضلالة حصل لهم ذلك
بسبب ما فعلوا. {... إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ
اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الأعراف: 30]
إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية، أمّا من يقول إنها هداية
فهذا تبجح وكفر؛ لأنه يرد الحكم على الله. وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا:
حكم الله صحيح ولكننا لم نقدر على أنفسنا، أما أن يرد العاصي حكم الله ويقول: إنه
الهداية، فهذا أمره عسير؛ لأنه ينتقل من مرتبة عاصٍ إلى مرتبة كافر والعياذ بالله.
{...وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الأعراف: 30]
لأنهم يفعلون ما حرم الله، وليتهم فعلوه على أنه محرّم، وأنهم لم يقدروا على
أنفسهم، ولكنهم فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل. وهذا الأمر يشيع في معاصٍ كثيرة
مثل الربا، فنجد من يقول: إنه حلال، ونقول: قل هو حرام ولكن لم أقدر على نفسي،
فتدخل في زمرة المعصية، ولا تدخل في زمرة الكفر والعياذ بالله، ويمكنك أن تستغفر
فيغفر لك ربنا، ويتوب عليك، ولكن أن ترد الحكم على الله وتقول إنه حلال!! فهذا هو
الخطر؛ لأنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى وتقع في الكفر، اربأ بنفسك عن أن
تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء، وما شرع الله التوبة لعباده إلا لأنه قدَّر
أن عبيده يخطئون ويصيبون، ومن رحمته أنه شرع التوبة، ومن رحمته كذلك أنه يقبل هذه
التوبة، فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك لا تستطيع أن تخرج
منه؟.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ... }
(/973)
يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء، وقوله سبحانه وتعالى: { خُذُواْ
زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف: 31]
هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملابس، وكذلك يمكن أن يكون
المقصود بـ { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } هو رد على حالة خاصة وهو
أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة. أو المراد
بالزينة ما فوق ضروريات الستر، أو إذا كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف،
فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد الله، وهم متنوعون في مهمات حياتهم، وكل
مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها؛ فالذي يجلس على مكتب لمقابلة الناس له
ملابس، ومن يعمل في " الحِدَادَة " له زي خاص مناسب للعمل، ولكن إذا
ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعاً في لقاء الله أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل
المسجد؟ لا، فليجعل للمسجد لباساً لا يُضَايق غيره، فإن كانت ملابس العمل في مصنع
أو غير ذلك لا تليق، فاجعل للمسجد ملابس نظيفة حتى لا يُؤذَي أحد بالوجود بجانبك؛
لأننا نذهب إلى المسجد لعمل مشترك يحكم الجميع وهو لقاء الله في بيت الله، فلابد
أن تحتفي بهذا اللقاء. {...وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف: 31]
والمأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة، وكل واشرب على قدر
مقومات الحياة ولا تسرف، فقد أحل الله لك الأكثر وحرّم عليك الأقل، فلا تتجاوز
الأكثر الذي أُحلِّ لك إلى ما حرم الله؛ لأن هذا إسراف على النفس، بدليل أنه لو لم
تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط ألا تُسرف. ولا يصح أن تنقل الأشياء من تحليل
إلى تحريم؛ لأن الله جعل لك في الحلال ما يغنيك عن الحرام، فإذا لم يوجد ما يغنيك،
فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك، والمسرفون هم المتجاوزون
الحدود. ولا سرف في حل، إنما السرف يكون في الشيء المحرم، ولذلك جاء في الأثر:
" لو أنفقت مثل أحد ذهباً في حِلِّ ما اعتبرت مسرفاً، ولو أنفقت درهماً
واحداً في محرم لاعتبرت مسرفاً ". " ولذلك يطلب منك رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن تعطي كل نعمة حقها بشرط ألا يؤدي بك ذلك إلى البطر، وحينما ذهب إليه
سيدنا عثمان بن مظعون، وقد أراد أن يترهب، ويتنسك، ويسيح في الكون، وقال لرسول
الله: يا رسول الله، إنني أردت أن اختصي؛ أي يقطع خصيتيه؛ كي لا تبقى له غريزة
جنسية، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عثمان خصاء أمتي الصوم "
لذلك قال صلى الله عليه وسلم في شأن من لم يستطع الزواج: " " يا معشر
الشباب من استطاع منك الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع
فعليه بالصوم فإنه له وجاء ".
" وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من
الصحابة وهم: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد
وسليمان وعبدالله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا
على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم ولا
يقربوا النساء ويجبّوا مذاكيرهم ". فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صلى
الله عليه وسلم ربه وأثنى عليه وقال: " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني
أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
ويتابع الحق سبحانه بعد ذلك: } قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ... {
(/974)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
وما دام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم، وما ينفع منها للإناث جعلتها السنة
للإِناث، وما يصح منها للذكور أحلتها السنّة لهم، وكذلك الطيب من الرزق حلال
للمؤمنين والمؤمنات. ولنلحظ دقة الأسلوب هنا في قوله تعالى: { قُلْ هِي لِلَّذِينَ
آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... } [الأعراف: 32]
ثم يتابع سبحانه: { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ... } [الأعراف: 32]
فكأننا أمام حالتين اثنتين: حالة في الدنيا، وأخرى في يوم القيامة، معنى ذلك أن
الزينة في الحياة الدنيا غير خالصة؛ لأن الكفار يشاركونهم فيها، فهي من عطاء
الربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن وللكافر، وربما كان الكافر أكثر حظًّا في الدنيا
من المؤمن، ولكن في الآخرة تكون الزينة خالصة للمؤمنين لا يشاركهم فيها الكافرون.
وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الإِيمانية في المؤمن بوجود الأغيار
فيه، ومعنى وجود الأغيار أنه قد يتعرض الإِنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى
والفقر والقوة والضعف. وهكذا يكون الإٍنسان في الدنيا؛ فهي دار الأغيار، ويصيب
الإِنسان فيها أشياء قد يكرهها؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار
تأتيك فتسوؤك. إنها تسوؤك عند غيبة شحنة الإِيمان منك؛ لأنك إن استصحبت شحنة
الإِيمان عند كل حدث أجراه الله عليك لَلَفَتَكَ الله إلى حكمته. { قُلْ هِي
لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ...
} [الأعراف: 32]
ويمكن أن نقرأ كلمة " خالصة " منصوبة على أنها حال، ويمكن أن نقرأها في
قراءة أخرى مرفوعة على أنها خبر بعد خبر، والمعنى: أنها غير خالصة للمؤمنين في
الدنيا لمشاركة الكفار لهم فيها، وغير خالصة أيضاً من شوائب الأغيار ولكنها وفي
الآخرة خالصة للمؤمنين فلا يشاركهم الكفار ولا تأتي لهم فيها الأغيار.
ويذيل الحق الآية بقوله: {...كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
[الأعراف: 32]
معنى { نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي لا نأتي بالآيات مجملة بل نفصل الآيات لكل مؤمن،
فلا نترك خللاً، ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة، بتفصيل يُفهمنا قضايانا
فهماً لا لبس فيه.
ويقول الحق بعد ذلك: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ... }
(/975)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
والحق سبحانه - قد بدأ الآية بـ " إنما " التي هي للحصر: أي ما حرم ربي
إلا هذه الأشياء، الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإِثم، والبغي بغير الحق، والشرك
بالله، والقول على الله ما لا نعلم، فلا تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراماً، لأنها
لا تدخل في هذه، وقول الله في الآية السابقة: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ
} هوعلى صيغة استفهام لكي يجيبوا هم. ولن يجدوا سبباً لتحريم زينة الله لأن الحق
قد وضح وبينّ ما حرم فقال: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن
تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 33]
ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالآية؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلافة في
الأرض ليبقى الإِنسان خليفة فيها نرى أنه لابد من صيانة أشياء ضرورية لسلامة هذه
الخلافة وأداء مهمتها، وأول شيء أن يسلم للمجتمع طهر أنسابه. وسلامة طهر الأنساب
أي الإِنجاب والأنسال ضرورية للمجتمع؛ لأن الإِنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو
يحرص عليه لأنه منسوب إليه، ويرعاه ويربيه. أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه
يهمله ويلفظه، كذلك يهمله المجتمع، ولا أحد يربيه ولا يلتفت إليه ولا يعنى به.
إذن فسلامة الأنساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعاً سليماً، بحيث لا يوجد فرد من
الأفراد إلا وهو محسوب على أبيه، بحيث يقوم له بكل تبعات حياته، ولذلك يجب أن
تعلموا أن الأطفال المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكاً طرأ على الأب في أن هذا
ليس ابنه. ولذلك ماتت فيه غريزة الحنان عليه، فلا يبالي إن رآه أم لم يره، ولا
يبالي أهو في البيت أم شرد، لا يبالي أكل أم جاع، لا يبالي تعرى أم لا.
إذن فطهارة الأنساب ضمان لسلامة المجتمع؛ لأن المجتمع سيكون بين مربٍّ يقوم على
شأن وصغير مرَّبى، المربي قادر على أن يعمل، والمربَّى صغير يحتاج إلى التربية.
ولذلك حرم الله الفواحش. والفحش- كما قلنا- ما زاد قبحه، وانتهوا على أنه هو
الزنا؛ لأن أثره لا يتوقف فقط عند الذنب والاستمتاع. بل يتعدى إلى الأنسال. وما
تعدى إلى الأنسال فهو تعد إلى المجتمع، ويصير مجتمعاً مهملاً لا راعي له.
والإِثم: أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد؟. لقد انتهى العلماء على أن الإِثم
هو الخمر والميسر؛ لأن الله قال بالنص:{ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن
نَّفْعِهِمَا... }[البقرة: 219]
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الإِنسان وهو العقل وأن الخمر
تغيب العقل، والإِنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى
الصالح على صلاحه أو تزيده صلاحاً ولا تتعدى على الإِنسان, فإذا ما ستر العقل
بالخمر فسد واختل، ويختل بذلك التخطيط لحركة الحياة.
والذين يأتون ويشربون ويقولون: نريد أن ننسى همومنا نقول لهم: ليس مراد الشارع أن
ينسى كل واحد ما أهمه؛ لأنه إن نسي كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على
تقدير الأمور التي تضمن السلامة.
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها. أما أن تستر
العقل فأنت قد هربت من المشكلة، إذن يجب عليك أن تواجه مشكلات الحياة بعقلك
وبتفكيرك. فإن كانت المشكلة، قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد
قصرت في الأخذ بها فأنت الملوم. وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك، أي
هبطت عليك قضاء وقدراً؛ فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة.
وقد يكون البلاء ليحيمك الله من عيون الناس فيحسدوك عليها، لأن كل ذي نعمة محسود،
وحتى لا تتم النعمة عليك؛ لأن تمام النعمة على الإنسان يؤذن بزوالها، وأنت ابن
الأغيار وفي دنيا الأغيار، وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان.
إذن فالتفكير في ملافاة الأسباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل، والتفكير في
الأشياء التي ليس لها سبب يأتي من الإيمان، والإيمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى
حكمة الحكيم. إذن فأنت تحتاج إلى العقل فلا تستره بشرب الخمر؛ لأن العقل يدير حركة
الحياة.
البغي نعرف انه مجاوزة الحد ظلماً أو أكبر، أو بخلاً. والظلم أن تأخذ حق غيرك
وتحرمه من ثمرة عمله فيزهد في العمل؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد. لا في
عرضه، ولا في نفسه، ولا في ماله. ويجب أن نصون العرض من الفواحش؛ لأن كل فاحشة قد
تأتي بأولاد من حرام. وإن لم تأت فهي تهدر العرض، والمطلوب صيانته، كذلك لا يبغى
أحد على محارم أحد، وكذلك لا يبغى أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل.
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فلا يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدواناً
وظلماً، ومظاهر البغي كثيرة. ومن البغي أن تأخذ سلطة قسراً بغير حق ولكن هناك من
يأخذ سلطة قسراً وقهراً بحق، فإن كنت- على سبيل المثال- تركب سفينة، ثم قامت
الرياح والزوابع، وأنت أمهر في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرفت بمن فيها
أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها لتنقذها ومن فيها، إنك في هذه الحالة تكون
قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس، وهذا بغي بحق، وهو يختلف عن البغي بغير
الحق. وحتى تفرق بين البغي البغي بحق والبغي بغير الحق نقول. إن هذا يظهر ويتضح
عندما نأخذ مال السفيه منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له، فنكون قد أخذنا من
صاحبه رعاية لهذا الحق، فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إلا أنه كان
لصالحه وللصالح العام فهذا بغي بحق أو أنه سمي بغيا؛ لأنه جاء على ذكر الشيء بلفظ
غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير، ونقرأ أيضاً قول الله:
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... }[الشورى: 40]
فهل جزاء السيئة يكون سيئة؟ لا. وإنما هي سيئة بالنسبة لمن وقعت عليه؛ لأنه لما
عمل سيئة واختلس مالا- مثلا- وضربت على يده وأخذت منه المال فقد أتعبته ولذلك
فالحق يقول:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }[النحل: 126]
ومن بغى بغير حق علينا أن نذكره بأن هناك من هو أقوى منه، أن يتوقع أن يناله بغي
ممن هو أكثر قدرة منه.
وينبهنا الحق إلى العمل الذي لا غفران له: } وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً {.
ومحال أن ينزل الحق الذي نعبده شريكاً له ويؤيده بالبرهان والسلطان والحجة على أنه
شريك له- تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً؛ لأن من خصائص الإِيمان أنه سبحانه ينفي
هذا الشرك بأدلته العقلية وأدلته النقلية.
وإذا كان الحق قد قال لنا في هذه الآية: } قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { [الأعراف: 33]
فبعض من الآيات الأخرى جمعت هذه الأشياء، في إطار إيجازي ومع المقابل أيضاً، يقول
الحق:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي
الْقُرْبَىا وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ... }[النحل:
90]
لقد جاء بالفحشاء في هذه الآية ليؤكد طهارة الأنسال، وجاء أيضاً بتحريم المنكر
والبغي، وزاد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الإِثم فقط. وكأن الإثم في آية
الأمر بالعدل والإِحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، مطمور في " المنكر
" ، والمنكر ليس محرماً بالشرع فقط، بل هو ما ينكره الطبع السليم؛ وأيضاً
فصاحب الطبع غير السليم يحكم أنه منكر إذا كانت المعاصي تعود عليه بالضرر، هنا
يقول: أعوذ بالله منها. وإن كان هو يوقعها على الغير فهو يعتقد أنها غير منكر،
وعلى سبيل المثال نجد رجلاً يبيح لنفسه أن يفتح أعينه على عورات الناس ويتلذذ بهذه
المسألة. لكنه ساعة يرى إنساناً آخر يفتح عينيه على عورته أو على ابنته مثلا إنّه
يرى في ذلك أبشع المنكرات؛ لذلك لابد أن تجعل للمنكر حدًّا يشملك ويشمل غيرك ولا
تنظر إلى الأمر الذي تكلف به أنت وحدك، وإنما انظر إلى الأمر المكلف به الآخرون..
وإياك أن تقول: إنه حدد بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي، إنه- سبحانه- كما حرم
نظرك إلى ذلك، حرم أنظار الناس جميعاً أن ينظروا إلى محارمك؛ وفي هذا صيانة لك.
وبعد أن حلل هذه الطيبات والزينة، وحرم الفواحش والمنكر والبغي والإِثم يقول
سبحانه: } وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ... {
(/976)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي؛ فالذين سفكوا، وظلموا،
وانتهكوا الأعراض، وأخذوا الأموال. لم يدم لهم ذلك، بل أمد الله لهم في طغيانهم،
وأخذهم به أخذ عزيز مقتدر. ولو أراد خصومهم الانتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى
درجات انتقام السماء. ويجري الحق هذا الانتقام من الطغاة لصيانة سلامة المجتمع.
فإن رأيت فساداً أو طغياناً إياك أن تيأس؛ لأن الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة
أجلاً، بداية ونهاية، ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة جاء أجلها. إذن فكل طاغية
يجب أن يتمثل هذه الآية: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف: 34]
والأجل لكل أمة معروف عند الله؛ لأن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم
يصرخون فهم لا يستشرفون إلى الحق ولا يتطلعون إليه، والألم وسيلة العافية لأنه
يؤكد لك أن وضعك غير طبيعي، وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه الأمم التي
تظلم. وتضطهد. ولها جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم. فإياك أن تيأس،
ولكن عليك أن تستشرف إلى الحق. وإلى جناب الله فتلوذ به وحده، ولذلك نجد أكثر
الناس الذين حدثت لهم هذه الأحداث لم يجدوا إلا واحة الإِيمان بالله؛ ففروا إلى
بيته حجاجاً وإلى مساجده عمارًّا وإلى قراءة قرآنه ذكراً. وننظر إلى هذه الأمور
ونقول: إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلابد أن يسخره الله لخدمة دينه، وهناك أناس
لولا أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالماً لما فروا إلى الله بحثاً عن
نجاة، ولما التفتوا لربنا عبادة.
إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناساً، كان الواحد منهم لا يعبد ربه فلا يصلي ولا
يصوم ولا يذكر ربه، ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الإِنسان المعضوض إلى الله عائذاً
به ملتجئا إليه، ولذلك نقول للظالم: والله لوعرفت ماذا قدمت أنت لدين الله، ولم
تأخذ عليه ثواباً لندمت، فأنت قد قدمت لدين الله عصبة ممن كانوا من غير المتدينين
به. ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك وجبروتك من نصر لدين الله لما صنعته
أنت، إنّ لكل أمة أجلاً، فإن كنت ظالماً وعلى رأس جماعة ظالمة فلذلك نهاية.
وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب، ثم
بعد فترة من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف؛ لأن هذا هو
الأجل. إن الحق يعمي بصائرهم في تصرف، يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل
الضعيف يغلبهم ويسيطر عليهم. وإذا جاء الأجل فلا أحد يستطيع تأخيره؛ لأن التوقيت
في يد قيوم الكون، وهم أيضاً لا يستقدمون هذا الأجل، ونلحظ هنا وجود كلمة "
ساعة " ، والساعة لها اصطلاح عصري الآن من حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت،
ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة، والأقل من الساعة الدقيقة، والأقل من
الدقيقة الثانية، والأكبر من الساعة هو اليوم. ومن يدري فقد يخترع البشر آلاتٍ
لضبط الجزء من الثانية.
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة.
ويقول الحق بعد ذلك: { يَابَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ... }
(/977)
يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
هنا ينادي الحق أبناء آدم، بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم عليهم
المسائل الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والإِثم والشرك، ووضع لهم نظاماً يضمن
سلامة المجتمع، وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلاً.
فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات. { يَابَنِي ءَادَمَ
إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي... }
[الأعراف: 35]
عليكم أن تستقبلوا رسل الله استقبال الملهوف المستشرق المتطلع إلى ما يحميه وإلى
ما ينفعه؛ لأن الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله الله من طيبات الحياة
وملاذها، ويبين لكم ما حرم الله ليحيا المجتمع سليماً.
كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرص على ملازمته وعلى تلقي البلاغ
منه، لا أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه. لكن من رحمة الله أن
يتأبى المجتمع ويلح الرسول مبيناً آيات الله وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده
على أمر حياته ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على
الطبيب وتبحث عنه، فكان مقتضى العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج الله في إدارة
حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع، لا أن نعاديه، وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة
السليمة بمجرد أن يقول الرسول: أنه رسول ومعه آية صدقه. ويقيس أهل الفطرة السليمة
قول الرسول بماضيه معهم، فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب الإثم. وهذه فائدة قوله الحق:{
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة: 128]
فلم يأت لكم إنسان لا تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي، لذلك نجد الذين آمنوا
برسول الله أول الأمر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن، لكنهم آمنوا به بسوابق
معرفتهم له؛ لأنهم عايشوه، وعرفوا كل تفاصيل أخلاقه. ومثال ذلك: عندما أخبر محمد
صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة - رضوان الله عليها - بنبأ رسالته وأسرّ لها
بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من أمور الجن أو مسها، أسرعت إلى ورقة بن نوفل؛
لأنه عنده علم بكتاب، وقبل ذلك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك
لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتعين على نوائب الحق وتكسب المعدوم ".
وكل هذه المقدمات تدل على أنك - يا رسول الله - في حفظ الله ورعايته؛ لأنك كنت
مستقيم السلوك قبل أن تُنَّبَّأ، وقبل أن توجد كرسول من الله. وهل معقول أن مَن
يترك الكذب على الناس يكذب على الله؟! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن
قال رسول الله: أنا رسول، قال له: صدقت.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة، وهذه هي فائدة } رسول من أنفسكم {
أو من جنسكم البشري حتى نجد فيه الأسوة الحسنة. ولو جاء لنا رسول من الملائكة وقال
لنا: هذا هو المنهج ولكم أسوة بي، كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير: وهل
نقدر أن نفعل مثلك وأنت ملَكٌ مفطور على الخير؟. لكن حين يأتينا رسول من جنسنا
البشري، وهو صالح أن يصدر منه الخير، وصالح أن يصدر منه الشر فهو الأسوة الموجودة،
ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا ما جاء به القرآن على ألسنتهم:{ وَمَا مَنَعَ
النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ
اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94]
إنه الغباء وقصر النظر والغضب؛ لأن الله بعث محمداً وهو من البشر، فهل كانوا
يريدون مَلَكاً؟ ولو كان ملكاً فكيف تكون به الأسوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر؟.
ولذلك يرد الحق الرد المنطقي:{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ
مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً
}[الإسراء: 95]
وذلك حتى تتحقق لنا الأسوة فيه؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكليفي، ولم يُدخلكم في
أمر يشتد ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه. ولم يأت به من جنس
آخر. } يَابَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ
عَلَيْكُمْ آيَاتِي... { [الأعراف: 35]
وانظر قوله: } يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي { ، لقد جاء بكلمة " يقصّون
" لأن القصص مأخوذة من مادة " القاف " و " الصاد المضعَّفة
"؛ وهذا مأخوذ من " قصّ الأثر " ، وكان الرجل إذا ما سرقت جماله أو
أغنامه يسير ليرى أثر الأقدام. إذن } يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي { أي أنهم
ملتزمون بما جاء لهم، لا ينحرفون عنه كما لا تنحرفون أنتم عن قص الأثر حين تريدون
المؤثِّر في الأثر. }...فَمَنِ اتَّقَىا وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ { [الأعراف: 35]
و " التقوى " هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية. ولذلك يقول الحق: }
اتَّقُواْ النَّارَ { ، لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار. وإذا قيل: }
وَاتَّقُواْ اللَّهَ { أي اتقوا متعلقات صفات الجبروت من الله؛ لأنكم لن تستطيعوا
تحمل جبروت ربنا، وعليكم أن تلتزموا بفعل الأوامر وتلتزموا أيضاً بترك النواهي.
والأمر بالتقوى هنا يعني ألا ننكر ونجحد رسالات الرسل؛ لأنهم إنما جاءوا لإِنقاذ
البشر، فالمجتمع حين يمرض، عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج الله
ليرعاه، وهو الرسول؛ لذلك لا يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزة. } فَمَنِ
اتَّقَىا وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {.
و " أصلح " تدل على أن هناك شيئاً غير صالح فجعله صالحاً، أو حافظ على
صلاح الصالح ورقَّى صلاحه إلى أعلى، مثل وجود بئر نشرب منه، فإن كانت البئر تؤدي
مهمتها لا نردمها، ولا نلقي فيها قاذورات، وبذلك نبقي الصالح على صلاحه، ويمكن أن
نزيد من صلاح البئر بأن نبني حول فوهتها سوراً، أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء
من البئر لضخه إلى البيوت.
وبذلك نزيد الصالح صلاحاً، والآفة في الدنيا هم الذين يدعون الإِصلاح بينما هم
مفسدون، يقول الله فيهم:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً *
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[الكهف: 103-104]
إذن فحين تقدم على أي عمل لابد أن تعرف مقدمات هذا العمل، وماذا ستعطيه تلك
المقدمات، وماذا سوف تأخذ منه. وأبق الصالح في الكون على صلاحه أو زده إصلاحاً،
وهنا لا خوف عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحق:{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ
عَلَىا مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ... }[الحديد: 23]
وما المقابل لمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ أي هؤلاء الذين أصلحوا واتقوا؟
المقابل هو ما يأتي في قوله الحق: } وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا... {
(/978)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
ولماذا يكون مصير المكذبين بالآيات والمستكبرين عنها أن يكونوا أصحاب النار
ويكونوا فيها خالدين؟ لأنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم يضعوا في حسابهم أن
يكون لهم نصيب في الآخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية، وغاب عنهم الإِيمان بقول الحق:{
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
}[الشورى: 20]
وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا، فلماذا نسي أنها موقوتة العمر؟
ولماذا لم يلتفت إلى الزمن في الآخرة؟. عليك أن تعلم أنك في هذه الدنيا، خليفة في
الأرض، ومادمنا جميعاً أبناء جنس واحد ومخلوقين فيها والسيادة لنا على الأجناس
فلابد أن تكون لنا غاية متحدة؛ لأن كل شيء اختلفنا فيه لا يعتبر غاية، فالغاية
الأخيرة هي لقاء الله؛ لأن النهاية المتساوية في الكون هي الموت ليسلمنا لحياة
ثانية، فالذي يستكبر عن آيات الله هو من دخل في صفقة خاسرة؛ لأن من يقارن هذه الدنيا
بالحياة الأخرى سيجد أن زمن الإِنسان في الدنيا قليل، وزمن الآخرة لا نهاية له.
وعمر الإِنسان في الدنيا مظنون غير متيقن، والمتعة فيها على قدر أسباب الفرد
وإمكاناته، لكن الآخرة متيقنة، ونعيم المؤمن فيها على قدر طلاقة قدرة الله. {
أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الأعراف: 36]
وأصحاب النار. يعني أن يصاحب ويلازم المذنب النار كما يصاحب ويلازم الإِنسان منا
صاحبه؛ لأن النار على إلف بالعاصين، وهي التي تتساءل: { هَلْ مِن مَّزِيدٍ }؟.
ويقول الحق بعد ذلك: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىا... }
(/979)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
و { فَمَنْ أَظْلَمُ } تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إلا الإِقرار.
ولا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب؛ لأنه أولاً ظلم نفسه، وظلم أمته، وأول ظلم
النفس أن يرتضي حياة زائلة وأن يترك حياة أبدية، وأما ظلمه للناس فلأنه سيأخذ
أوزار ما يفعلون؛ لأنه قد افترى على الله كذباً. { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ }.
أي قوَّل الله ما لم يقله، أو كذَّب ما قاله الله، وكلا الأمرين مساوٍ للآخر.
والآية- كما نعلم- هي الأمر العجيب، والآيات أُطلقت في القرآن على معانٍ متعددة؛
فالحق يقول:{ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ... }[فصلت: 3]
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها الله تأييداً لرسله.{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن
نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ... }[الإسراء: 59]
فالآيات هنا هي المعجزات أي الأمور العجيبة.
وحدثنا القرآن عن الآيات الكونية فقال سبحانه:{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيْلُ
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ... }[فصلت: 37]
فالآية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛ لأنك حين تنظر إلى نظم آيات
القرآن، وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول
لنفسك: هذا شيء عجيب؛ لأن الذي جاءت على لسانه هذه الآيات نبي أمي، ما عرف عنه أنه
زاول تعلماً، وما جربوا عليه أنه قال شعراً، أو نثراً أو له رياضة في كلام، وبعد
ذلك ما جرب حكم أمم، وما درس تاريخ الأمم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات
المعاصرة عن مجاراتها.
إن الأمة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس، وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها،
وعلى الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه الأمة البدوية، وكان كل نظام هذه
الأمة المتبدية قبل مجيء الرسالة مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلص في
نظام القبيلة وكل قبيلة لها رئيس، وبعد أن جاءت رسالته صلى الله عليه وسلم جاء
بنظام يجمع أمم العالم كلها، ثم ينجح في أدراة الدنيا كلها، وهذه مسألة عجيبة، وكل
آية من هذه الآيات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك الآيات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان، وكل
في فلك يسبحون، إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في الآيات هي آيات القرآن، والمعجزات والآيات الكونية. وكيف يكذبون
إذن بالآيات؟. ألا ينظرون إلى الكون. وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني لا
تضارب فيه؟ وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم، القادر، الحكيم، الحسيب. وكذلك
كيف يكذبون الرسول القادم بالمعجزات، ويقولون: إنه ساحر، وحين تتلى عليهم آيات
يكذبونها. إذن هم لم ينظروا في آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته
ودقته، ولم يلتفتوا إلى الإِيمان به قمة عقيدية، وكذلك كذبوا بالآيات المعجزات
التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات القرآن العظيم.
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية، تساءل: كيف تقولون. إنه سحر الناس
فآمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنت؟. وحينما قالوا:{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ...
}[النحل: 103]
قال الحق:{ ...لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا
لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103]
وقالوا:{ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىا
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[الفرقان: 5]
فيعلم الحق رسله أن يقول:{ ... فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16]
وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاماً فهل عرف عنه أنه يقول
أو يتكلم بشيء من هذا؟
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك
يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين
كما في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل
المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق
فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله
ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قَدَّر لهم، من الرزق والحياة، ما
هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحق: } أُوْلَـائِكَ يَنَالُهُمْ
نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ... { [الأعراف: 37]
أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له
الثواب، والعاصي له العقاب، فيقول الحق هنا: }...حَتَّىا إِذَا جَآءَتْهُمْ
رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىا أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ
كَانُواْ كَافِرِينَ { [الأعراف: 37]
وساعة تسمع } يَتَوَفَّوْنَهُمْ { تفهم أن الحياة تنتهي، وتنفصل الروح عن الجسد
فهذا هو " التوفي " ، فمرة ينسب إلى الحق الأعلى سبحانه وتعالى، ومرة
ينسب إلى المَلَك، ومرة يراد منه أتباع المَلَك أي جنوده يقول- سبحانه-: } حَتَّىا
إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ
{ ، والأساليب الثلاثة ملتقية؛ لأن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده، بل أخذ
التلقي من الله، فالأمر الأعلى من الله، وأمر التوسط للملك، وأمر التنفيذ للرسل.
و " التوفي " على إطلاقه هو استيفاء الأجل، فإن كان أجل الحياة فهو
ترفية بالموت، وإن كان الأجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب. إلى أن
يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو توفي أجلهم الثاني؛ لأن كل إنسان له أجلان: أجل
ينهي هذه الحياة، والأجل الذي يأخذه في البرزخ إلى أن يجيء الحساب. وهذا لا يمنع
أن يقال: إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لأن للقيامة مراحل بدءا من القبر ونهاية
بالخلود في الجنة أو في النار.
وحين تسألهم الملائكة: }...أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَىا أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ
كَافِرِينَ { [الأعراف: 37]
هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون الله قد غابوا واختفوا ولا يظهر لهم
أثر.
{ وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ...
}[السجدة: 10]
وهم - إذن - يقرون غياب من كانوا يدعونهم من دون الله، والمراد أنه لا وجود لهم،
وهم بذلك قد شهدوا على أنفسهم بكفرهم. ولكن هذه الشهادة لا تجدي لأن زمن التكليف
قد انتهى، وهم الآن في دار قهر لكل ما يريده الله؛ ففي دار التكليف كان الإِنسان
حرًّا أن يفعل أو ألاّ يفعل، ولكن في الدار الآخرة لا تنفع هذه الشهادة. وذلك
لتبين عدالة الجزاء الذي يصيبهم، ولن يتأبوا على الجزاء؛ لذلك يقول الحق: } قَالَ
ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ... {
(/980)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر " كن " سيدخلون كما دخلتها أمم قد خلت من
قلبهم فليسوا بدعاً، وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه، وهم أمم خليط؛
لأن الكفر سوف يلتقي كله في الجزاء.
إن الاقتداء بالأمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر؛ فالأمم التي سبقت كانت
أسوة في الضلال للأمة التي لحقت، فإذا ما دخلوا لعنوهم.
وهب أن إنساناً دخل مرة السجن لجرم ارتكبه، وبعد ذلك دخل عليه من كان يغربه
بالجرم. ومن كان يزين له، ومن اقتدى به. بالله ساعة يلتقيان في السجن ألا يلعن
الأول الثاني؟ {...كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّىا إِذَا
ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا
هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ
ضِعْفٌ وَلَـاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 38]
وبعد أن يلحق بعضهم بعضاً ويجتمعوا، يحدث بينهم هذا الحوار العجيب: { قَالَتْ
أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً
ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ... } [الأعراف: 38]
فإن قلت الأخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الأولى هي القدوة في الضلال وقد
سبقتهم إلى النار، { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } ، أي أن الأولى هم القادة
الذين أضلوا، والطائفة الأخرى هم الأتباع الذين قلدوا. { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ
لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا }. وهم يتوجهون بالكلام إلى ربنا: {
رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا }.
كيف يتأتى هذا؟. وكان المقياس أن يقول: قالت أخراهم لأولاهم أنتم أضللتمونا لكن
جاء هذا القول، لأن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا؛ لأن الموقف كله في يد
الله، وإذا ما قالوا لله المواجه للجميع: { هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا } فهؤلاء، هذه
رشارة إليهم، فكأن القول موجه لله شهادة منهم إلى من كان وسيلة لإضلالهم وهم
يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار مصداقاً لقوله الحق: { فَآتِهِمْ
عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ... } [الأعراف: 38]
فقال لهم جميعاً: {...لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ }.
فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت. ونفهم أن الضّعْف معناه " شيء مساوٍ
لمثله " ، فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالأسوة أيضاً؛ لأنكم
كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم وأغريتم الناس باتباعهم.
ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضاً، وأنتم لا تعلمون أن من يحاسبكم دقيق
في الحساب، ويعطي كل إنسان حقه تماماً.
وماذا تقول أولاهم لأخرهم؟ يقول الحق سبحانه: { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ
لأُخْرَاهُمْ... }
(/981)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت الرءوس { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ
بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي ويستقبل مجرماً مثله،
يقول له: اشرب من العذاب نفسه، وليس ذلك تجنياً من الله، ولا بسلطة القهر لعباده،
ولكن بعدالة الحكم؛ لأن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم.
ومعلوم أن التذوق في الطعوم، فهل هم يأكلون العذاب؟. لا، إنّ الحق قد جعل كل جارحة
فيهم تذوق العذاب، والحق حين يريد شمول العذاب للجسم يجعل لكل عضو في الجسم حساسية
الذوق كالتي في اللسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً
مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112]
وهذه هي الإذاقة، كأنها صارت لباساً من الجوع يشمل الجسد كله، والإِذاقة أشد
الإِدراكات تاثيراً، واللباس أشمل للجسد. { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ
تَكْسِبُونَ }.
ولم يقل الحق: بما كنتم تكتسبون؛ لأن اكتسابهم للسيئات لم يعد فيه افتعال، بل صار
أمراً طبيعياً بالنسبة لهم، وعلى الرغم من أن الأمر الطبيعي في التكوين أن يصنع
الإنسان الحسنة دون تكلف ولا تصنع، وفي السيئات يجاهد نفسه؛ لأن ذلك يحدث على غير
ما طبع عليه، ولكن هؤلاء من فرط إدمانهم للسيئات فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم
تتضارب عند فعل السيئات، بل صاروا يرتكبون الإثم كأمر طبيعي، وهذا هو الخطر الذي
يحيق بالمسرفين على أنفسهم؛ لأن الواحد منهم يفرح بعمل السيئات.
ويقول الحق بعد ذلك: { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُواْ... }
(/982)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
والحق يريد أن يعطي حكماً جديداً ويحدد من هو المحكوم عليه ليعرف بجريمته، وهي
جريمة غير معطوفة على سابقة لها، وليعرف كل إنسان أن هذه جريمة، وأن من يرتكبها
يلقى حكماً وعقاباً. { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ
عَنْهَا }.
وقد عرفنا من قبل معنى الايات. وأنها ايات القرآن المعجزة أو الايات الكونية، وأي
إنسان يظن نفسه أكبر من أن يكون تابعاً لمنهج جاء به رسول عرف بين قومه بأمانته،
وهذا الانسان يستحق العقاب الشديد. فصحيح أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن له
من الجاه ولا سلطان ما ينافس به سادة وكبراء قريش، ولذلك وجدنا من يقول:{
وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31]
إنهم يعترفون بعلو القرآن، لكنهم تمنوا لو أن القرآن قد نزل على إنسان غيره بشرط
أن يكون من العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية.
ومن يكذب الايات ويستكبر عن اتباع الرسول لا تفتح له أبواب السماء. { إِنَّ
الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىا يَلِجَ الْجَمَلُ فِي
سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } [الأعراف: 40]
وبذلك نعرف من هم الذين لا تفتح لهم أبواب السماء، وبطبيعة الحال نعرف أن
المقابلين لهم هم الذين تفتح لهم أبواب السماء.. إنهم المؤمنون، وحين تصعد أرواحهم
إلى الملأ الأعلى تجد أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع بهم إلى أعلى. أما المكذبون فهم
لا يترقون بل يهبطون ولا يدخلون الجنة، وقد علق سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلاً
وعادة وطبعاً: { وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىا يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ
الْخِيَاطِ }.
و { سَمِّ الْخِيَاطِ } هو ثقب الإبرة، أي الذي تدخل فيه فتلة الخيط، ولا تدخل
فتلة الخيط في الثقب إلا أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر الثقب، وأن تكون الفتلة من
الصلابة بحيث تنفذ، وأن تكون الفتلة غير مستوية الطرف؛ لأنها إن كانت مقصوصة
وأطرافها مستوية فهي لا تدخل في الثقب؛ لذلك نجد الخياط يجعل للفتلة سناً ليدخلها
في ثقب الإبرة.
وحين نأتي بالجمل ونقول له: ادخل في سم الخياط، فهل يستطيع؟ طبعاً لا؛ لذلك نجد
الحق سبحانه قد علق دخول هؤلاء الجنة على مستحيل.
بعض الناس قالوا: وما علاقة الجمل بسم الخياط؟
نقول: إن الجمل يطلق أيضاً على الحبل الغليظ المفتول من حبال، مثل حبال المركب
إننا نجده سميكاً مجدولاً.
وأخذ الشعراء هذه المسألة؛ ونجد واحداً منهم يصف انشغاله بالحبيب وشوقه إليه
وصبابته به حتى يهزل ويستبد به الضعف فيقول:ولو أن ما بي من جوى وصبابةعلى جمل لم
يدخل النار كافرلأن الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر، لو أصيب بهما
الجمل فلسوف ينحف وينحف ويهزل، إلى أن يدخل في سم الخياط، وهنا يوضح ربنا: إن دخل
الجمل في سم الخياط فسوف أدخلهم الجنة. {...حَتَّىا يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ
الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } [الأعراف: 40]
وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا.
ويقول الحق بعد ذلك: { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ... }
(/983)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
المهاد هو الفراش، ومنه مهد الطفل، والغاشية هي الغطاء، أي أن فرش هذا المهاد
وغطاءه جهنم. وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:{ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ
ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ... }[الزمر: 16]
إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي للإِنسان، والأبعاد ستة وهي:
الأمام والخلف، واليمين والشمال، والفوق والتحت، والمهاد يشير إلى التحتية،
والغواشي تشير إلى الفوقية، وكذلك الظلل من النار، ولكن الحق شاء أن يجعل جهنم
تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول سبحانه:{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ
نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا... }[الكهف: 29]
وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين.
وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس الكريه الوجه، ثم يأتي بالمقابل
ليشحن النفس بكراهية ذلك الموقف، ويحبب إلى النفس المقابل لمثل هذا الموقف، فيقول
سبحانه: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ... }
(/984)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها
خالدون، ويضع لنا الحق تنبيهاً بين مقدمة الآية وتذييلها { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا }؛ لنفهم أن المسرفين على أنفسهم بالكفر وتكذيب الآيات لم يفهموا
حقيقة الإِيمان، وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو في مقدور النفس وليس فوق
طاقتها؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف بـ " افعل ولا تفعل " وذلك في
حدود وسع المكلَّف.
وحين نستعرض الصورة إِجمالاً للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد
الحق قد قال في أهل النار:{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىا يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ
نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }[الأعراف: 40]
فهم لن يدخلوا الجنة، وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعاً، ولا يتوقف الأمر على ذلك،
ولكنهم يدخلون النار، إذن فهنا أمران: سلب النافع وهو دخولهم الجنة، إنه سبحانه
حرمهم ومنعهم ذلك النعيم، وذلك جزاء إجرامهم. وبعد ذلك كان إدخالهم النار، وهذا
جزاء آخر؛ فقال الحق:{ لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ
وَكَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }[الأعراف: 41]
في الأولى قال: - سبحانه - { وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ }.
وفي الثانية قال: { وَكَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }.
فكأن الإجرام كان سبباً في ألا يدخلوا الجنة، والظلم كان سبباً في أن يكون من
فوقهم غواش، لهم من جهنم مهاد، وهم في النار يحيطهم سرداقها.
ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا
به أولاً، وسبب بشاعة جزائهم ثانياً؛ أن نتلهف على المقابل. فقال سبحانه: {
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ
وُسْعَهَا أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الأعراف:
42]
وقول الحق سبحانه وتعالى: { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } جاء بين
المبتدأ والخبر، ككلام اعتراضي؛ لأن أسلوب يقتضي إبلاغنا أن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات لهم الخلود في الجنة، وجاءت { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }
بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر؛ لأننا حينما نسمع { وَالَّذِينَ آمَنُواْ }
فهذا عمل قلبي، ونسمع بعده { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } وهذا عمل الجوارح، وبذلك
أي بعمل القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة. والاعتقاد هو
يسهل دائما السلوك الإيماني ويجعل مشاق التكاليف في الأعمال الصالحة مقبولة وهينة،
ولذلك أوضح سبحانه: إياكم أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم، لا؛ فأنا لا أكلف
إلا ما في الوسع، وإياكم أن تفهموا قولي: { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ } هو رغبة في إرهاق نفوسكم، ولكن ذلك في قدرتكم لأنني المشرع،
والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلَّف.
ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك؛ فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى
قدرتها، فلا يحملها فوق طاقتها وإلا تفسد.
وإذا كان الصانع من البشر لا يكلف الآلة الصماء فوق ما تطيق، أيكلف الذي خلق البشر
فوق ما يطيقون؟ محال أن يكون ذلك.
إذن فيجب أن نوصد الباب أمام الذين يحاولون أن يتحللوا من التزامات التكليف عليهم،
فلا تعلق الحكم على وسعك الخائر الجائر، ولكن غلق الوسع على تكليف الله، فإن كان
قد كلف فأحكم لأن ذلك في الوسع؛ والدليل على كذب من يريد الافلات من الحكم هو
محاولته إخضاع الحكم لوسعه هو؛ أن غيره يفعل ما لا يريد أن يفعله. فحين ينهى الحق
عن شرب الخمر تجد غيرك لا يشرب الخمر امتثالاً لأمر الله، وكذلك تجد من يمتنع عن
الزنا أو أكل الربا؛ فإذا كان مثيلك وهو فرد من نوعك قادراً على هذا العمل فمن لا
يمتنع عن مثل هذه المحرمات هو المذنب لا لصعوبة التكليف.
فالتكليف هو أمر الشارع الحكيم بـ " افعل " و " لا تفعل "
وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا إذا كان قادراً على أن يؤدي مطلوبات الشرع؛ لأن الله
لا يكلف إلا على قدر الطاقة، واستبقاء الطاقة يحتاج إلى قوت، طعام، شراب، لباس،
وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة، لذلك أوضح سبحانه أنه يوفر للإِنسان كل ماديات
الحياة الأساسية، وإياكم أن تظنوا أن الله حين يكلف الإنسان يكلفه شططاً، ولكن
الإنسان هو الذي يضع في موضع الشطط. فقال:{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ...
}[الطلاق: 7]
} وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ { أي ضيق عليه قليلاً.
ويقول سبحانه:{ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلاَّ مَآ آتَاهَا... }[الطلاق: 7]
إذن لا تفترض وتقدر أنت تكاليف المعيشة ثم تحاول إخضاع وارداتك إلى هذا التصور، بل
انظر إلى الوارد أليك وعش في حيز وإطار هذا الوارد، فإن كان دخلك مائة جنيه فرتب
حياتك على أن يكون مصروفك يساوي دخلك؛ لأن الله لا يكلفك إلا ما آتاك.
ولننظر إلى ما آتانا الله؛ لذلك لا تدخل في حساب الرزق إلا ما شرع الله، فلا تسرق.
ولا تنهب ولا تختلس ولا ترتش ثم تقول: هذا ما آتاني الله، لا، عليك ألاَ تأخذ ولا
تنتفع إلا بما أحل الله لك، فإن عشت في نطاق ما أحل الله يعينك الله على كل أمرك وكل
حاجاتك، لأنك تحيا بمنهج الله، فيصرف عنك الحق مهمات الحياة التي تتطلب أن تزيد
على ما آتاك الله، فلا تخطر على بالك أو على بال أولادك. وتجد نفسك - على سبيل
المثال - وأنت تدخل السوق وآتاك الله قدراً محدوداً من المال، وترى الكثير من
الخيرات، لكن الحق يجعلك لا تنظر إلا في حدود ما في طاقتك، وكذلك يُحسّن لك الله
ما في طاقتك ويبعد عنك ما فوق طاقتك؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، ولا
يحرك شهوات النفس إلا في حدود ذلك.
ولذلك قال الحق: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ { [الأعراف: 42]
وأصحاب الجنة هم الذين لا يفارقونها مثلما يحب الصاحب صاحبه؛ فالجنة تتطلبهم، وهم
يتطلبون الجنة، والحياة فيها بخلود وما فاتك من متع الدنيا لم يكن له خلود، وأنت
في الدنيا تخاف أن تموت وتفوت النعمة، وإن لم تمت تخاف أن تتركك النعمة؛ لأن
الدنيا أغيار، وفي ذلك لفت لقضايا الله في كونه، تجد الصحيح قد صار مريضاً، والغني
قد صار فقيراً، فلا شيء لذاتية الإنسان. وبهذا يعدل الله ميزان الناس فيأتي إلى
الحالة الاقتصادية ويوزعها على الخلق، ونجد الذي لا يتأبى على قدر الله في رزقه
وفي عمله يجعل الله له بعد العسر يسراً. وفي الجنة يُخلي الله أهلها من الأغيار.
ولذلك يقول الحق سبحانه: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم... {
(/985)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وقوله الحق: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } ينطبق- أيضا- على أهل
الاجتهاد الذين اجتهد كل منهم في الدنيا، واختلفوا، هؤلاء يبعثون يوم القيامة وليس
في صدر أحدهم غل ولا حقد. لذلك تجد سيدنا الإِمام عليًّا -كرم الله وجهه- حين يقرأ
هذه الآية يقول: " اللهم اجعلني أنا وعثمان وطلحة والزبير من هؤلاء ".
لأن هؤلاء هم الذين وقع بينهم الخلاف في مسألة الخلافة، وكل منهم صحابي ومبشر
بالجنة، فإن كانت النفوس قد دخلت فيها أغيار، فإياكم أن تظنوا أن هذه الأغيار سوف
تصحبكم في دار الجزاء في الآخرة؛ لأن الله يقول: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم
مِّنْ غِلٍّ }.
إن الخلاف كان خلافاً اجتهادياً بين المؤمنين وهم قد عملوا الصالحات وكل منهم أراد
الحسن من الأعمال، ونشأ عن ذلك في أغيار الدنيا شيء من عمل القلب، فأوضح سبحانه:
إياكم أن تفهموا أن ذلك سوف يستمر معهم في الآخرة؛ لأنهم جميعاً حينما اختلفوا
كانوا يعيشون باجتهادات الله، وفي الآخرة لا اجتهاد لأحد. ويريد الحق أن يجعل هذا
الأمر قضية كونية، ومثال ذلك تجد رجلاً قد تزوج امرأة بمقاييس غير مقاييس الله في
الزواج؛ تزوجها لأنها جميلة مثلاً، أو لأن والدها له جاه أو غني، وبعد الزواج لم
يعطه والدها الغني شيئاً من ماله فيقول: غشني وزوجني ابنته، أو كانت جميلة، ثم لقى
فيها خصال قبيحة كثيرة فكرهها، ونقول لمثل هذا الرجل: مادمت لم تأخذها بمقاييس
الله فعليك أن تنال جزاء الاختيار.
ولكن من تزوج امرأة على دين الله، ووجد منها قبحاً، فلن يصحبه هذا القبح في
الآخرة، ولذلك نجد الحق قد جاء بهذه القضية بالذات، ولم يأت بها في الأبناء أو في
البنات، بل في الزوج والزوجة لأنهما عماد الأسرة. فبيّن للرجل: إياك أن تتخيل أن
المرأة التي أغاظتك أو أتعبتك أو كدرت عليك بخصلة سيئة فيها، إياك أن تظن أن هذه
الخصلة السيئة ستصاحبها في الآخرة، ولذلك قال سبحانه:{ وَأَزْوَاجٌ
مُّطَهَّرَةٌ... }[آل عمران: 15]
وأزواج مطهرة من الأشياء التي كنت تغضب منها وستكون مطهرة بتطهير الله لها. {
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ
الأَنْهَارُ... } [الأعراف: 43]
ونجد الحق يقول مرة: { تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ } ومرة يقول: { تَجْرِي مِن
تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ } ، ونجد " مِن " فارقاً بين القولين. إننا نرى
من يستقر في قصر ونجد الماء منساباً حوله وتحته يسر العيون، وماء الآخرة هو ماء
غير آسن، وليس فيه أكدار الدنيا، وكما أننا نسر بالماء في الدنيا سنسر به أضعاف
ذلك في الآخرة. وقد تجري المياه تحت القصر ولكن نبعها من مكان بعيد فيخاف صاحب
القصر أن يقطعها آخر عنه، ويطمئن الحق عباده الصالحين: ستجري من تحت جنانكم
الأنهار وكل المياه ستكون ذاتيتها من موقع كل مكون أنت فيه ولن يتحكم فيك أحد، ولن
يسد أحد عنك منبع المياه وسترى أنهار الآخرة بلا شطآن؛ لأن كل شيء ممسوك لا
بالأسباب كما في الدنيا، ولكن بـ " كن " التي هي لله.
ولذلك يقول العباد في جنة الآخرة: } الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـاذَا
وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ... { [الأعراف: 43]
إنهم يقولون الحمد لله لأنه جل وعلا قد جمعهم ودلهم وأرشدهم إلى الثواب والنعيم
دون منغصات، والحمد لله هي عبادة يقولها المؤمنون في الآخرة؛ لأنهم أدوا حق الله
في تكاليفه في الدنيا ويعطيهم الله فوق ما يتوقعون في الآخرة. ونعيم الآخرة لا قيد
عليه، ولن يستطيع بشر مهما ارتقى بالابتكار أن يصل إلى ما في الجنة؛ لأن الشيء
يتحقق لك من فور أن يخطر ببالك. } وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ {.
وهذا الحمد لله كان في الدنيا عبادة تكليف، أمّا في الآخرة فهو " عبادة غبطة
وسرور وتلذذ. } وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـاذَا وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ {.
يقولها المؤمن؛ لأن الله لو لم ينزل منهجاً سماوياً يحدد له حركة حياته استقامة
وينذره ويخوفه من المعاصي لما وصل إلى الجنة. والهداية- كما قلنا- هي الدلالة على
الطريق الموصل للغاية، إذن لابد أن تعرف الغاية أولاً ثم تضع الطريق الموصل لها،
بحيث لا يكون معوجاً ولا يعترضك فيه ما يطيل عليك المسافة، وقوله الحق: } وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ { يمنع أن يضع البشر للبشر
قوانين تهديهم إلى الغاية؛ لأن البشر أنفسهم لا يعرفون الغاية؛ لذلك يوضحها لهم
خالقهم بمنهجه المنزل على رسوله.
ومادامت الهداية من الله فسبحانه لن يخاطب كل إنسان مباشرة، لكنه سبحانه ينزل
الرسل يتلون علينا آيات الله ويوضحون لنا المنهج؛ لذلك يأتي الحق في الآية نفسها
يقوله الحكيم: }...لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن
تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [الأعراف: 43]
أنت في الحياة الدنيا حين تجد من يقول لك: إن أردت أن ترتاح فأنا أنصحك أن تمشي
إلى المكان الفلاني واذهب إليه عن الطريق الفلاني، وستجدك سعيداً مرتاح البال، ثم
صدقته ونفذت ما قال، ووجدت الرجل صادقاً. ألا تشعر بالسعادة؟. وإذا كان الحق قد
أرسل الرسل بالبينات والآيات والمنهج الصحيح، وسار عليه المؤمنون ثم وجدوا الجنة
والنعيم؛ لذلك كان لابد أن يشكروا الله وأن يقولوا: } قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ
رَبِّنَا بِالْحَقِّ { , لأن الرسل لم يكذبوهم بل جاءوا بالخير لهم. } وَنُودُواْ
أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {.
وكأن الحق يوضح لنا ونحن في دار التكليف أن نستقبل المنهج على هذا الأساس، وعلى كل
واحد أن يحدد مكانه من الجنة؛ بقربه من منهج الله أو بعده عنه؛ لأن دخول الجنة هو
جزاء العمل طبقاً لمنهج الحق.
ووقف العلماء هنا- جزاهم الله خيراً- وقالوا: كيف نوفق بين هذه الآية: }
وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {
[لأعراف: 43]
وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" لن يُدخل أحداً عمله الجنة
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة ".
وأقول: ليس هناك تناقض بين قول الله سبحانه وتعالى وقول الصادق المصدوق صلى الله
عليه وسلم الذي بلغ عن الله سبحانه، بل بينهما تأييد؛ فالحق ساعة ما شرع أوضح أن
من يعمل العمل الصالح سيدخل الجنة، وهذا التشريع لم يجبر أحد الله عليه، بل هو
الذي يعطيه لنا فضلا منه؛ فليس لأحد حق على الله؛ لأنه لا يوجد عمل يعود بفائدة
على الله، واتباع المنهج إنما يعود على العبد بالمنفعة والخير، فإن دخلت الجنة
فهذا أيضاً بالفضل من الله. وينبهنا القرآن إلى الجمع بين هذه الآيات وأنه لا
تعارض بين نص حديثي ونص قرآني. يقول:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58]
فجزاء كل عمل عائد على الإنسان لأنه يأخذ مكافأته على فعله، فإن كانت المكأفاة
أكبر من جزاء الفعل فهي من الفضل؛ لأن الحق هو القائل:{ ...كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا
كَسَبَ رَهَينٌ }[الطور: 21]
وسبحانه أيضاً هو القائل:{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىا }[النجم:
39]
إن فهمت اللغة وكنت صاحب ملكة ناضجة نقول: هذه " اللام " للملك. وتفيد
أنه لاحق لك على الله إلا بسعيك على وفق منهج الله، وأن هذه الآية قد حددت العدل
ولم تحدد الفضل.{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُواْ... }[يونس: 58]
والمثال على ذلك أننا كمسلمين نصلى على الميت المسلم، وقد أمرنا التشريع بذلك، وأن
ندعو الله أن يتجاوز عن سيئاته. فهل تضيف هذه الصلاة إلى الميت شيئا زائداً عن
عمله؟ لو لم تكن صلاة تضيف شيئاً لما أمر التشريع بها. فهي صلاة على ميت مسلم،
وأسلامه من عمله، ونجد الحق يقول:{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ... }[الطور: 21]
أي أن الآباء والأبناء يشتركون معاً في الإيمان وفي العمل، قوله تعالى:{
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... }[الطور: 21]
هذا الإلحاق يفيد أن منزلة الذرية كانت أقل من منزلة الآباء، لكن الحق يرفع من منزلتهم
إكراماً للآباء. وهذا الإلحاق جزاء للذرية، وقد يكون أيضاً جزاء للآباء؛ فيحضر لهم
أولادهم معهم مادام الكل قد اشتركوا في الإيمان، وكان الآباء يتحرون الحلال في
إطعام الأبناء ولا يربونهم إلا على منهج الله. وقد يرى الأب أبناء جار له يلبسون
الملابس الفاخرة ويأكلون الأكل الطيب، ويتحمل الأبناء ويعيشون عيش الكفاف مع هذا
الأب الملتزم بالعمل الصالح والأجر الحلال، وينال الأبناء الجنة مع الأب لأنهم
تحملوا معه مشاق الالتزام بالحلال.
وهكذا نجد كل إنسان مؤمن قد أخذ نتيجة عمله وزيادة. }...وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ
الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [لأعراف: 43]
و } أُورِثْتُمُوهَا { من " الإرث " وتدل على أن هناك شيئاً آل إلى
الغير. ونعلم أن الله، علم أزلا كيف سيسلك كل مخلوق وما سيفعله من كفر وإيمان
وطاعة ومعصية، وعلى رغم ذلك أعد سبحانه لكل واحد من خلقه مكانه في الجنة على أنه
مؤمن، وأعد لكل واحد من خلقه مكاناً في النار على أساس أنه سيكفر.
إذن فقد أعدَّ سبحانه جناناً بعدد خلقه، وأعدَّ أماكن في الجحيم بعددهم، فليست
هناك أزمة أماكن عند إله قادر مقتدر. فإن آمنا كلنا فلن يضيق بنا واسع الجنة، و-
والعياذ بالله - إن كفر الخلق جميعاً فلن تضيق بهم النار. فإذا كانوا جماعة من خلق
سيدخلون الجنة بالعمل، فأين تذهب أماكن أهل النار؟ إن الحق بفضل منه يمنحها
المؤمنين.
إذن فقد ورثوا الذين لم يستحقوا الجنة بسبب الكفر.
وبعد الكلام في الجنة والجزاء وفي حمد التلذذ والسرور والغبطة وفي عهد الجنة، بعد
ذلك كان من المناسب أن يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن موقف أهل الجنة من أهل النار؛
فيقول سبحانه: } وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ... {
(/986)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
وهكذا نرى التبكيت، وتصور لنا الآية كيف يرى أهل الجنة أهل النار، وهذا الترائي من
ضمن النعيم ومن ضمن العذاب الأليم، فحين يرى المؤمن بمنهج الله من عاداه وقهره
وآذاه وهو في النار فهذا من تمام اللذة. والآخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا
أيضاً من تمام العذاب. إذن لابد أن يتراءوا، ولذلك يحدث الحوار، وينادي أصحاب
الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما وعدهم به الله حقاً وصدقاً، وأن الحق قد
وهبهم هذه الجنة. فهل - يا أهل النار - وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟
ونلاحظ أن هناك خلافاً بين الأسلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة
يقولون: " قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً " ، ولم يأت بالكاف في كلمة ما
وعد (الثانية) بل قال: " فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً "؟
إنه قال سبحانه: " ما وعد " فقط، ولم يقل ما وعدكم كما قال: (ما وعدنا)
لأن المراد أن يلفتهم إلى مطلق الوعد، وليس الخاص بهم فقط، بل وأيضاً الخاص
بالمقابل، وهكذا يتحقق الوعد المطلق لله. فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة
فضلاً من الله، وأهل النار بكفرهم وعصيانهم عقاباً من الله.
وهنا يجيب أهل النار: (قالوا نعم).
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعاً بعد أن، كان وعيداً، وهم لم يكابروا
لأن المكابرة إنما تحدث بين الخصمين في غير مشهد، وهم في الدنيا قبل أن يوجد
المشهد كانوا يكذبون البلاغ عن الله، وصارت الدار الآخرة واقعاً، وتحقق وجودهم في
النار. {...فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ } [الأعراف: 44]
أي فينادي مناد من الملائكة يُسمع أهلَ الجنَّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة الله
على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الإِيمان وبالتكذيب باليوم الآخر.
ويقول الحق بعد ذلك: { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ... }
(/987)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
والذي يصد عن سبيل الله هو من امتنع عن سبيل الله، وصد غيره، أي ضلّ في ذاته ثم
أضل غيره، وهؤلاء هم الذين يطلبون منهج الله معوجاً، ويذمونه ولا يؤمنون به
فيعترضون على إقامة الحدود والقصاص، وينفرون الناس عن منهج الله؛ لينصرف الناس عن
الدين. هم إذن قد صدوا عن سبيل الله وطلبوا العوج فيما شرع الله لينفروا الناس
عمّا شرع الله، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل هم بالآخرة كافرون، ولو كان الواحد
منهم مؤمناً بالآخرة ويعلم أن له مرجعاً ومرداً إلى الله لما فعل ذلك.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ... }
(/988)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
الحجاب موجود بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهم يتراءون من خلاله، وبيّنه الحق
سبحانه فقال:{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ
آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ
فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }[الحديد: 13]
باطن هذا الحجاب الرحمة من ناحية أهل الجنة، وظاهره المواجه لأهل النار فيه
العذاب، والحق هو القادر على كل شيء؛ لذلك لا ينال أهل الجنة شيء من شقاء أهل
النار، ولا ينال أهل النار شيء من نعيم أهل الجنة، ويسمع أهل النار رداً على طمعهم
في أن ينالهم بعض من نور أهل الجنة، إنكم تلتمسون الهدى في غير موطن الهدى؛ فزمن
التكليف قد انتهى، ومن كان يرغب في نور الآخرة كان عليه أن يعمل من أجله في
الدنيا، فهذا النور ليس هبة من خلق لخلق، وإنما هو هبة من خالق لمخلوق آمن به.
وأنتم تقولون: انظرونا نقتبس من نوركم، وليس في مقدور أهل الجنة أن يعطوا شيئاً من
نور أهل الجنة فالعطاء حينئذ لله. { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ
رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ... } [الأعراف: 46]
و { كُلاًّ } المعنيّ بها أصحاب الجنة وأصحاب النار، فقد تقدم عندنا فريقان؛ أصحاب
الجنة، وأصحاب النار وهناك فريق ثالث هم الذين على الأعراف، و " الأعراف
" جمع " عُرف " مأخوذ من عرف الديك وهو أعلى شيء فيه، وكذلك عرف
الفرس. كأن بين الجنة مكانا مرتفعاً كالعرف يقف عليه أناس يعرفون أصحاب النار
بسيماهم فكأن من ضمن السمات والعلامات ما يميز أهل النار عن أهل الجنة.
وكيف توجد هذه السمات؟ يقال إن الإنسان ساعة يؤمن يصير أهلا لاستقبال سمات
الإيمان، وكلما دخل في منهج الله طاعة واستجابة أعطاه الله سمة جمالية تصير أصيلة
فيه تلازمه ولا تفارقه, وبالعكس من ذلك أصحاب النار فتبتعد عنهم سمات الجلال والجمال
وتحل محلها سمات القبح والشناعة والبشاعة.
وإذا ما رأى أهل الأعراف أصحاب الجنة يقولون: سلام عليكم؛ لأن الأدنى منزلة- أصحاب
الأعراف- يقول للأعلى- أصحاب الجنة- سلام عليكم.
وجماعة الأعراف هم من تساوت سيئاتهم مع حسناتهم في ميزان العدل الإلهي الذي لا
يظلم أحداً مثقال ذرة.{ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ
}[القارعة: 6-9]
ويا رب لقد ذكرت الميزان، وحين قدرت الموزون لهم لم تذكر لنا إلا فريقين اثنين..
فريق ثقلت موازينه، وفريقاً خفت موازينه، ومنتهى المنطق في القياس الموازيني أن
يوجد فريق ثالث هم الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم، فلم تثقل موازينهم فيدخلوا
الجنة، ولم تجف موازينهم فيدخلوا النار، وهؤلاء هم من تعرض أعمالهم على "
لجنة الرحمة " فيجلسون على الأعراف. ومن العجيب أنهم حين يشاهدون أهل الجنة
يقولون لهم سلام عليكم على الرغم من أنهم لم يدخلوا، لكنهم يطمعون في أن يدخلوا،
لأن رحمة الله سبقت غضبه. {...ونَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ
عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [الأعراف: 46]
وبطبيعة الحال ليس في هذا المكان غش ولا خداع.
وماذا حين ينظرون إلى أهل النار؟
(/989)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
انظر إلى التعبير القرآني { صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } أي لم يصرفوا أبصارهم لأن
المسألة ليست اختيارية؛ لأنهم يكرهون أن ينظروا لهم لأنهم ملعونون، وكأن في {
صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ } لونا من التوبيخ لأهل النارُ.
وقوله الحق: { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ } أي جهة أصحاب النار
يقولون: { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }.
هنا يدعو أهل الأعراف: يا رب جنبنا أن نكون معهم. إنهم حين يرون بشاعة العذاب
يسألون الله ويستعيذون به ألا يدخلهم معهم.
ويقول الحق سبحانه: { وَنَادَىا أَصْحَابُ الأَعْرَافِ... }
(/990)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
وكأن أصحاب الأعراف قد صرفت أنظارهم لأصحاب النار ويرون فيهم طبقات من المعذبين،
فهذا أبو جهل، وذاك الوليد، ومعه أمية بن خلف وغيرهم ممن كانوا يظنون أن قيادتهم
لمجتمعهم وسيادتهم على غيرهم تعطيهم كل سلطان وكيان، وكانوا يسخرون من السابقين
إلى الإسلام كعمار وبلال وصهيب وخباب، وغيرهم ممن عاشوا للحق مع الحق، فيقول أهل
الأعراف لهؤلاء: { مَآ أَغْنَىا عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ }.
وكأنهم يقولون لهم: إن اجتماعكم على الضلال في الدنيا لم ينفعكم بشيء.. شياطينكم،
والأصنام والسلطان لم ينفعوكم وكذلك استكباركم على الدعوة إلى الإيمان هل أغنى
عنكم شيئاً؟ لا. لم يغن عنكم شيئاً.
ويقول الحق بعد ذلك: { أَهَـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ... }
(/991)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
ويشير أهل الأعراف إلى المؤمنين الصادقين من أمثال بلال وخباب ويقولون لأهل النار
من أمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة: أهؤلاء الأبرار من أهل الجنة الذين تقولون
إنهم لن ينالوا رحمة الله؟ هم إذن- أهل الأعراف- قد عقدوا المقارنة والموازنة بين
أهل الجنة وأهل النار، وكأنهم نسوا حالهم أن يقفوا في انتظار الفرج وفرحوا بأصحاب
الجنة ووبخوا أهل النار، ولم يشغلهم حالهم أن يقفوا موقف الفصل في هذه المسألة،
وهنا يدخل الحق سبحانه أصحاب الأعراف جنته لفرحهم بأصحاب الجنة، وتوبيخهم أهل
النار ويقول لهم: {...ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ
تَحْزَنُونَ } [الأعراف: 49]
وهؤلاء - كما قلنا - هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ هي الطائفة التي جلست على
الأعراف، فلم تثقل حسناتهم لتدخلهم الجنة، لم تثقل سيئاتهم ليدخلوا النار.
ويقول الحق بعد ذلك: { وَنَادَىا أَصْحَابُ النَّارِ... }
(/992)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة مستغيثين طالبين أن يعطوهم ويفيضوا عليهم من الماء
أو من رزق الله لهم في الجنة، فيقول أهل الجنة: نحن مربوطون الآن بـ " كن
" ، ولم يعد لنا الاختيار، وقد حرم الله عليكم أي شيء من الجنة ومنعه عنكم،
فأنتم يا أهل النار ممنوعون أو هذه المتع ممنوعة عنكم. وحين يطلب أهل النار الماء،
فهم يطلبون أوليات الوجود، في نار أحاطت بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء
كالمهل يشوي الوجوه.
ولذلك يقول الحق بعد ذلك عن الكافرين الذين حرم عليهم خير الجنة: { الَّذِينَ
اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ... }
(/993)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
وهكذا يبين لنا الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية من هم الكافرون الذين حرّم عليهم
الجنة؛ إنهم من اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، وأول مرحلة تمر على الإِنسان هي اللعب
ثم تأتي له مرحلة اللهو. ونعلم أن كل فعل تُوَجَّه إليه طاقة فاعلة، وقبل أن
تُوجّه إليه الطاقة الفاعلة يمر هذا الفعل على الذهن كي يحدد الغاية من الجهد.
وهذا المقصود له حدود؛ إما أن يجلب له نفعاً، وإما أن يدفع عنه ضُرًّا. وكل مقصد
لا يجلب نفعاً ولا يدفع ضراً، فهو لعب.
إذن فتعريف اللعب: هو فعل لم يقصد صاحبه به قصداً صحيحاً لدفع ضر أو جلب نفع. كما
يلعب الأطفال بلعبهم، فالطفل ساعة يمسك بالمدفع اللعبة أو السيارة اللعبة، هل له
مقصد صحيح ليوجه طاقته له؟. لا؛ لأنه لو كان المقصد صحيحاً لما حطم الطفل
لُعَبَهُ. والطفل غالباً ما يكسر لعبته بعد قليل، وهذا دليل على أنه يوجه الطاقة
إلى غير قصد صحيح ولا يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها مضرة.
ولكن حين تُوَجَّه الطاقة إلى ما هو أدنى من المهم فهذا هو اللهو، كأن يكون
المطلوب منك شيئا وأنت توجه الطاقة إلى شيء آخر. والذي يعاقب عليه الله هو اللهو.
أما اللعب فلا.
ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الأهل أن يدربّوا الأبناء على شيء قد
يفيد الأمة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، ولكن خيبة البشر في زماننا أنهم جعلوا
اللعب غاية لذاته. ومن العجيب أن اللعب صار له قانون الجد ولا يمكن أن يخرقه أحد
دون أن يُعاقَب؛ لأن الحَكم يرقب المباراة، وإذا ما تناسى الحكم أمراً أو أخطأ هاج
الجمهور. وأتساءل: لقد نقلتم قانون الجد إلى اللعب، فلماذا تركتم الجد بلا قانون؟
وكذلك نجد أن خيبة اللهو ثقيلة؛ لأن الإِنسان اللاهي يترك الأمر المهم ويذهب إلى
الأمر غير المهم. فيجلس إلى لعبة النرد وهي طاولة ويترك الشغل الذي ينتج له الرزق،
وليت هذا اللهو مقصورٌ على اللاهي، ولكنه يجذب أنظار غير اللاهي ويأخذ وقته، هذا
الوقت الذي كان يجب أن يُستغل في طاقة نافعة. وفساد المجتمعات كلها إنما يأتي من
أن بعضاً من أفرادها يستغلون طاقاتهم فيما لا يعود على ذواتهم ولا على أمتهم
بالخير, إذن فاللهو طاقة معطلة. { اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا }.
وغرورهم بالحياة الدنيا إنما يأتي من الأسباب التي خلقها الله مستجيبة لهم فظن كل
منهم أنه السيد المسيطر. وحين غرتهم الحياة الدنيا نسوا الجد الذي يوصلهم إلى
الغاية النافعة الخالدة، ويكون عقابهم هو قول الله سبحانه: {...فَالْيَوْمَ
نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا
يَجْحَدُونَ } [الأعراف: 51]
فهل يعني قوله عز وجل: { نَنسَاهُمْ } أنه يتركهم لما يفعلون؟.
لا، بل تأخذهم جهنم لتشويهم، ونسيانهم هنا هو أنه - سبحانه - لا يشملهم بمظاهر
فضله ولطفه ورحمته ويتركهم للنار تلفح وجوههم وتنضج جلودهم.
وهكذا يتأكد من جديد أن الدنيا هي المكان الذي يعد فيه الإِنسان مكانه في الآخرة،
فإن أراد مكاناً في عليين فعليه أن يؤدي التكليف الذي يعطيه مكانه في عليين. وإذا
أراد مكانه أقل من ذلك فعليه أن يؤدي العمل الأقل. كأن الإِنسان بعمله هو الذي
يحدد مكانه في الآخرة؛ لأن الحق لا يجازي الخلق استبدادا بهم وافتياتاً أو ظلماً،
ولكنه يجازي الإِنسان حسب العمل؛ لذلك فهناك أصحاب الجنة، وهناك أصحاب النار،
وهناك أصحاب الأعراف. وهذا العلم الذي يُنزله لنا الحق قرآناً ينذرنا ويبشرنا هو
دليل لكل مسلم حتى نتنافس على أن تكون مواقعنا في الآخرة مواقع مشرفة. } الَّذِينَ
اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا وَمَا كَانُواْ
بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ { [الأعراف: 51]
وحين يقول الحق سبحانه: } وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ { فالآيات إما
آيات كونية:{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...
}[فصلت: 37]
وإما آيات قرآنية كقوله سبحانه:{ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً
لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }[فصلت: 3]
وإما أن تكون آيات معجزات لإِثبات النبوة كقوله سبحانه:{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن
نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ... }[الإسراء: 59]
هم إذن جحدوا الآيات كلها، وكان أول جحود هو جحود بالآيات الكونية التي شاهدوها
قبل أن يأتي التكليف، فهم عاشوا الليل والنهار. وتنفسوا الهواء، واستمتعوا بدفء
الشمس، وروى المطر أراضيهم ووجدوا الكون مرتباً منظماً يعطي الإنسان قبل أن يكون
للإنسان إدراك أو طاقة، وكان يجب أن تلفتهم هذه الآيات إلى أن لهم خالقاً هو الحق
الأعلى. وحين جاء لهم الموكب الرسالي جحدوا آيات المعجزات التي تدل على صدق الرسل.
وحين جاء القرآن معجزاً جحدوا الآيات التفصيلية التي تحمل المنهج. إذن فلا عذر لهم
في شيء من ذلك أن الحق يقول: } وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ... {
(/994)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
أي لا عذر لهم في شيء من هذا الجحود؛ لأن الكتاب مفصل، وقد يقولون: إن الكتاب
الطارئ علينا، وكذلك الرسول الذي جاء به. إذن فما موقفهم من الآيات الكونية
الثابتة؟ لقد جحدوها أيضاً. { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىا
عِلْمٍ }.
و { فَصَّلْنَاهُ } أي أنه سبحانه لم ينزل كلاما مجملاً أو مبهماً، لا، بل فيه
تفصيل العليم الحكيم، أنه فصل أحكامه ومعانيه ومواعظه وقصصه حتى جاء قيما غير ذي
عوج، وسبحانه هو القادر أن ينزل المنهج المناسب لقياس ومقام كل إنسان.
إنه حينما يأتي إلينا من يستفتينا في أي أمر ويحاول أن يلوي في الكلام لنأتي له
بفتوى تبرر له ما يفعله، فنحن نقول له: ليس لدينا فتوى مفصلة؛ لأن الفتاوي التي
عندنا كلها جاهزة، ولك أن تدخل بمسألتك في أي فتوى. {...فَصَّلْنَاهُ عَلَىا
عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 52]
وهناك أناس سمعوا القرآن ورأوا الآيات واهتدوا، فلماذا اهتدى هؤلاء وضل هؤلاء؟ لقد
آمن من صدق بالوجود الأعلى كما قلنا في سورة البقرة:{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }[البقرة: 2]
إذن فقد آمن بالقرآن من اهتدى إلى الحق، ومنهم من أوضح الحق عنهم: أنهم حين
يستمعون القرآن تفيض أعينهم من الدمع. وأيضاً هناك من لا يلمس الإيمان قلوبهم حين
يستمعون إلى القرآن.{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىا إِذَا
خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ
آنِفاً... }[محمد: 16]
وهؤلاء هم الذين غلظت قلوبهم فلم يتخللها أو يدخلها ويخالطها نور القرآن، لذلك تجد
الحق يرد عيلهم بقوله سبحانه:{ ...أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىا
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ }[محمد: 16]
ويقول سبحانه:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى... }[فصلت: 44]
سبق أن ضربنا المثل بأن الفعل في بعض الحالات واحد، لكن القابل للفعل مختلف، لذلك
تكون النتيجة مختلفة. وعلى سبيل المثال: إذا كنت في الشتاء، وخرجت ووجدت الجو
بارداً، وشعرت أن أطراف أصابعك تكاد تتجمد من البرد، فتضم فبضتك معاً وتنفخ فيهما،
وقد تفعل ذلك بلا إرادة من كل تدفئ يديك. وكذلك حين يأتي لك كوب من الشاي الساخن
جداً، وتحب أن تشرب منه، فأنت تنفخ فيه لتأتي له بالبرودة. والنفخة من فمك واحدة؛
تأتي بحرارة ليديك، وتأتي بالبرودة لكوب الشاي، وهكذا فالفعل واحد لكن القابل
مختلف. وكذلك القرآن فمن كان عنده استعداد للإيمان فهو يهتدي به، ومن لا يملك
الاستعداد فقلبه غلف عن الإيمان.
وموقف هؤلاء العاجزين عن استقبال الرحمة غير طبيعي، وماذا ينتظرون بعد هذا الكفر،
وبعد الافتئات وبعد الاستكبار وبعد التأبي وبعد اتخاذ الدين لهواً ولعباً، ما
ينتظرون؟
ها هو ذا الحق سبحانه يوضح لهم العاقبة: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ
يَوْمَ... }
(/995)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
وما معنى التأويل؟.. التأويل هو ما يؤول إليه الشيء، هو العاقبة التي يعدها الحق،
فالرحمة والجنة لمن آمن، والنار لمن كفر، والحق هو من يقول ويملك قوله لأن الكون
كله بيده.
وهنا يقول سبحانه وتعالى: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ }.
أي هل ينتظرون إلا لمرجع الذي يؤول إليه عملهم؟ إن مرجعهم الأخير هو العذاب بعد
الحساب يوم يأتي تأويل وغاية وعاقبة ما عملوا.
وحين يأتي يوم القيامة ويتضح الحق ويظهر صدق ما جاء به الرسول من الوعد والوعيد
ماذا سيكون قولهم؟.. سيقولون ما أورده سبحانه على ألسنتهم: { يَقُولُ الَّذِينَ
نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ }.
أي أنهم سيعلنون التصديق حين لا ينفع هذا التصديق؛ لأنهم لن يكونوا في دار
التكليف، سيقرون بالإِيمان لحظة لا ينفعهم ذلك. { يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن
قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ
فَيَشْفَعُواْ لَنَآ... } [الأعراف: 53]
هم إذن يقرون بأن الرسل حملت المنهج الحق ويتساءلون عن الشفيع. ونعلم أن الشفيع لابد
أن يكون محبوباً عند من يشفع عنده، ونحن في الدنيا نجد من يبحث لنفسه عمن يشفع له
عند صاحب جاه يكون أثيرا وعزيزا لديه، أو يكون له كلمة وفضل عليه فلا يرد عليه
كلمته. فمن يأتي يوم القيامة بالشفاعة لهؤلاء؟.. لا أحد، وسنجدهم يتخذون الشفعاء
من الذين اتخذوهم أنداداً لله. وسيعلن هؤلاء أيضاً الكراهية لهم، ولو مكنهم الله
من الشفاعة ما أعطوها للكافرين المشركين؛ ففي الدنيا كان هؤلاء مؤتمرين بأمر البشر
وضلالاتهم. أما يوم الحساب فلا أحد خاضع لإِرادة أحد، حتى الجوارح لا تخضع لإِرادة
صاحبها، بل هي خاضعة للحق الأعلى. وفي الآخرة لا مرادات لأحد.
وقد ضربنا من قبل المثل وقلنا: هب أن سرية في جيش ما وعليها قائد صغير برتبة ضابط،
ومفروض في جنود السرية أن ينفذوا كلامه، ثم راحوا لموقعة وأعطاهم الضابط الصغير
أوامر خاطئة بما له من فرض إرادة عليهم فنفذوا ما أمروا به. ولحظة أن يعودوا ويحاسبهم
القائد الأعلى فسيقولون: لقد فعلنا ما أمرنا به الضابط المكلف بقيادتنا، وكذلك
ستأتي الجوارح في الآخرة: تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم.
إذن فالأبعاض سترفع شكواها إلى الله يوم ألا يكون لأحد من ملك سواه، ويومئذ سيقول
المكذبون الصدق الذي لن ينفعهم. { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ... }
[الأعراف: 53]
وسوف يبحثون عن شفاعة، لكنهم لن يجدوا، بل إن أول من يسخر من الذين عبدوا غير الله
هم المعبودون أنفسهم.
ولذلك نجد قوله الحق سبحانه:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ }[الأنبياء: 98]
وما ذنب المعبود؟.. إن الأصنام لا ذنب لها، بل كل منها يريد أن يشفي نفسه بأن يكون
أداة تعذيب لمن أعطوه غير حقه.
ولذلك نجد أن الأحجار التي عُبدت تقول: عبدونا ونحن أعبد لله من القائمين
بالأسحار؛ لأن القائم في الأسحار من الأغيار قد يختار أمراً غير هذا، ولكنا كنا
مقهورين على الطاعة، وقد اتخذوا صمتنا علينا دليلاً.
إن الأحجار تعلن أنها لم تكن تملك قدرة رفض أن يعبدها أحد أو أن تعبده عنها وتعلن
له غباءه.
والشاعر يقول:قد تجنوا جهلا كما قد تجنوا على ابن مريم والحواريللمغالي جزاؤه
والمغالي فيه تنجيه رحمة الغفاروهكذا يأتيهم الحق واضحاً يوم القيامة.
إنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا، وهذا من الخيبة؛ لأن مثل هذا الإِقرار ليس من
الإِيمان، فالإِيمان يكون بالغيب لا في المشهد. وحتى ولو عادوا، فلن يؤمنوا!.
والحق هو القائل:{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ... }[الأنعام:
28]
وكأنهم نسوا لحظة إقرارهم أنهم من الأغيار، وأتى فيهم القول الفصل من الله.
}...قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {
[الأعراف: 53]
لقد جاء لهم الخسران بعد أن غاب عنهم ما كانوا يفترون على الله في الدنيا، إنهم
رفضوا عبادته- سبحانه- وعبدوا غيره أصناماً صارت وقوداً للنار التي سيصلونها.
ويقول الحق بعد ذلك: } إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ... {
(/996)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
هنا ربوبية، وهنا ألوهية: { رَبَّكُمُ اللَّهُ } ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية
لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[الزمر: 38] وكذلك إن سألتهم
من خلقهم؟ سيقولون: الله، ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية، لأن الربوبية جاءت
بنفع لهم، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو: " افعل ولا تفعل "؛ لأن التكليف
من الإله الرب، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم، فلا شيء في التكليف يعود على
الله. وفعلكم الحسن أو السيء لن يعطي لله صفة لم تكن له؛ لأن صفات الكمال أوجدكم.
وإن كنتم أنتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله - ولله المثل الأعلى - منزه عن
التشبيه، كأن تقول الأم للولد: قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلاً، فيتأبى
الولد. وتنبه الأم ولدها: إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب، والملابس ويعطيك
مصروف اليد.. إلخ.
وقد ضربت هذا المثل لأشرح كيف أن المكلف هو الرازق ولا أحد سواه يرزق، لذلك كان
يجب أن تقبل تكاليفه لأن سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا.
ومن قبل فصل الحق سبحانه خلق الإنسان، ويفصل لنا هنا خلق السماء والأرض لأن ظرف
وجود الإنسان هو السماء والأرض، وكل الخيرات تأتي له من السماء ومن الأرض، وإذا
كان الله قد علمنا كيف خلقنا، فهو هنا يعلمنا كيف خلق السموات والأرض، وخلق
الإنسان وخلق السموات والأرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث، فمن العلماء من
قال: إن الأرض انفصلت عن الشمس، ومنهم من افترض نظرياً أن الإنسان أصله قرد،
ولهؤلاء نقول: هذا حكم منكم لا يقبل؛ لأنكم لم تشهدوا الخلق، ولذلك فعليكم أن
تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق.
هو سبحانه يقول: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي
الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54]
والآية تتعرض للخلق الأول وهو السموات والأرض - كما أوضحت - وهو الظرف الوجودي
للإنسان الخليفة وطرأ الإنسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس، فكأن الله
أعد الكون للخليفة قبل أن يُخلَق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كوناً مسخراً له؛ ولا
يستطيع أي كائن منه أن يخرج عن مراد الله في شيء { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ }.
ومعنى " الخلق " أي أوجد شيئاً كان معدوماً وبرأه على غير مثال سبقه.
فربنا سبحانه قدر كل شيء بنظام غير مسبوق، هذا هو معنى الخلق، وكلمة " الخلق
" مادتها الفاعلة هي: خالق، وسبحانه وتعالى يجمعها مع أنه الخالق الوحيد
فيقول:
{ ...فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14]
إذن فهناك الخالق الأعلى وهو الله، ولكنه سبحانه أيضاً أشرك خالقاً غيره معه فقال
جل وعلا: } فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {. كيف؟؛ لأن الخلق إيجاد
شيء معدوم، والذي صنع الميكروفون يقال خلقه، والذي صنع الكوب يقال خلقه، والذي صنع
المصباح يقال خلقه، لأنه كان شيئاً معدوماً بذاته، فأوجده. لكن الفارق أن الخالق
من البشر يوجد معدوماً من موجود ولا يأتي بمادة جديدة؛ فمن أخذ المواد الموجودة في
الكون وصمم منها المصباح وصهر الرمل وفرغ الهواء داخل الزجاج يقال له: خلق المصباح
وأوجد معدوماً من موجود.
لكن الخالق هو خير الخالقين لأنه يخلق من عدم ولم يحرم خلقه حين يوجدون شيئا
معدوماً من أن يوصف الواحد منهم بأنه خالق، وسبحانه حين خلق خلق من لا شيء، وأيضاً
فإنكم حين تخلقون أي صنعة تظل جامدة على هيئة صناعتها، فمن صنع الكوب من الرمل
المصهور يظل الكوب هكذا، ولا نستطيع - كما سبق أن قلت قديماً - أن نأتي بكوب ذكر،
وكوب أنثى، ونضعهما معاً في مكان ونقول لهما: أنجبا لنا أكواباً صغيرة.
لكن ما يخلقه ربنا يعطي له سر الحياة ويجعله بالقانون ينتج غيره وينمو ويكبر. إذن
فهو أحسن الخالقين.
والله سبحانه وتعالى يعطينا خبر خلقه السموات والأرض. وأوضح سبحانه أن السموات سبع
وقد جاءت مجموعة. أما الأرض فجاء بها مفردة. لكنه جل وعلا قال في آية أخرى:{
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ...
}[الطلاق: 12]
فكما خلق سبع سماوات خلق سبع أراضين، ولماذا جاء بالسماء بالجمع وترك لفظ الأرض
مفرداً؟.. لماذا لم يقل: سبع أراضين؟؛ لأن كلمة " أراضين " ثقيلة على
اللسان فتركها لثقلها وأتى بالسماوات مجموعة لخفتها ويسر نطقها.
والسماء هي كل ما علاك فأظلك، هذا معنى السماء في اللغة. لكن هل السماء التي
يريدها الله هي كل ما علاك؟.. إن النجم هو ما علاك؛ وقد يقال: إن الشمس علتك،
والقمر علانا جميعاً. ونلفت الانتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا
السموات هي الكواكب إنها ليست دائما ما علانا؛ فالشمس تعلو وقتا وتنخفض وقتاً آخر.
وكذلك القمر.
إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت، ولا يصح أن يوصف أي منهما بأنه
سماء دائما. وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا على الكواكب التي كانت معروفة بأنها
كواكب سبعة وقالوا: إن هذه السماء، إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ. وأوضح الحق
لنا بالعلم أن للشمس توابع أخرى. فمرة رأى العلماء ثمانية توابع، ومرة تسعة، وأخرى
عشرة توابع، وهكذا انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء، وبقيت السماء هي ما فوق هذا
كله، والحق هو القائل:
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ }[الصافات: 6]
هذه - إذن - زينة للسماء الدنيا، والسماء التي يقصدها ربنا ليست هي التي يقولون
عليها، بل السماء خلق آخر لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وكان الجن قديماً يقعدون منها
مقاعد للسمع } فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً {. وحدث هذا
بعد بعثته صلى الله عليه وسلم والحق هو من قال لنا ذلك. ولم يوضح الحق لنا حقيقة
هذه السماء ونظامها، أي أن ربنا يريد لعقولنا أن تفهم هذا القدر فحسب، وسبحانه
خالق السماء التي فوقنا، وهو جل وعلا خالق أراضين. وأين هي هذه الأراضين؟.. أهي
أراضين مبعثرة؟
ولقد أثبت العلم أن كل مجرّة من المجرّات فيها مليون مجموعة شمسية، وكل مجموعة
شمسية فيها أرض، إذن فهناك أراضٍ عديدة، ونلحظ أن الحق سبحانه حين يتكلم عن الأرض
فكل مخاطب بالأرض التي هو فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن في هذا العالم العالي
توجد أراضٍ، وكل أرض أرسل لهم الحق رسولاً.
والحق هو القائل:{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ
فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىا جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ. }[الشورى:
29]
ويعطينا العلم كل يوم مزيداً من الاكتشافات. وهكذا تكون السماء هي كل ما علاك
والأرض كل ما أقلك. ومادامت سبع سموات والسماء الأولى فراغ كبير وفضاء، وتأتي
بعدها السماء الثانية تُظل السماء الأولى، وكل سماء فيها أرض وفيها سماء أخرى.
ونحن غير مكلفين بهذا، نحن مكلفون بأن نعلم أن الأرض التي نحن عليها مخلوقة لله.
والحق يقول: } خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... { [الأعراف:
54]
وقوله: } فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ { هو ظرف للخلق. واليوم نعرف أنه المدة من طلوع
الشمس إلى الغروب ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة. لكن لابد لنا أن نعرف
بعضاً من اصطلاحات الحق القرآنية.
فهو يقول سبحانه وتعالى:{ ...سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ
}[سبأ: 18]
أي هناك ليل وهناك يوم، إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا؛ لأننا نطلق على
المدة الزمنية من طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد. هكذا يكون اليوم في
العرف الفلكي: من شروق إلى شروق، أو من غروب إلى غروب، وقول الحق: } سِيرُواْ
فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ {.
يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسماً والنهار قسماً، وهل كان هناك من عرف اليوم إلا
بعد أن وجدت الشمس؟.. وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عرف اليوم قبلها
وخصوصاً أن السماء والأرض حينما خلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب؟.. وعلينا هنا أن
نعرف أن هذا هو تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم. ألم تقرأ قول
الله سبحانه:{ ...وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً }[مريم: 62]
وليس في الآخرة بكرة ولا عشى، إذن سبحانه قد قدر البكرة وقدر العشي، وكذلك } فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ { وتلك هي الآيات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق؛ ستة
أيام، ولكن آية التفصيل للخلق، جاءت في ظاهر الأمر أنها ثمانية أيام.
اقرأ معي:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى
السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ... }[فصلت: 9-12]
والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام، أما آيات الإِجمال فكلها تقول: إنها
أيام، ومن النقطة دخل المستشرقون، وادعوا زوراً أن القرآن فيه اختلاف، وحالوا أن
يجعلوها ضجة عالية. ونقول: إنه - سبحانه - خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة
بلا زيادة ولا نقصان، فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام ويضم إليها خلق
السماوات في يومين فيكون عدد الأيام التي تم فيها خلق السماوات والأرض ستة أيام أو
نحمل المفصل على المجمل، فحين يقول الحق: } إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... { [الأعراف: 54]
فهل خلق الله يحتاج إلى علاج حتى يتطلب الزمن الممتد؟.. إن ربنا يخلق بـ " كن
" ، ونحن البشر على حسب قدرتنا لنخلق شيئاً، وكل عملية نقوم بها تأخذ زمناً،
لكن من يخلق بكلمة " كن " فالأمر بالنسبة له هين جداً - سبحانه وتعالى -
لكن لماذا جاء الخلق في ستة أيام؟
نعلم أن هناك فرقاً بين ميلاد الشيء وبين تهيئته للميلاد. وكنا قد ضربنا المثل
سابقا - ولله المثل الأعلى - بصانع الزبادي، الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ، ثم
يضع في كل منها جزءا من خميرة الزبادي، ويضع تلك الأكواب في الجو المناسب. فهل
يؤدي هذا الرجل عملاً لمدة أثنتي عشرة ساعة في كل كوب، وهي المدة اللازمة لتخمر
الكوب؟.. طبعاً لا، فقد اكتفى بأن في كل كوب عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى أن
تنضج.
ولنظر إلى خلق الجنين من تزاوج بويضة وحيوان منوي. ويأخذ الأمر تسعة شهور وسبحانه
جل جلاله لا يعمل في خلق الجنين تسعة شهور، لكنه يترك الأمر ليأخذ مراحل تفاعلاته.
إذن فخلق الله السماوات والأرض في ستة أيام لا يعني أن الستة أيام كلها كانت
مشغولة بالخلق، بل قال سبحانه: " كن " وبعد ذلك ترك مكونات السموات
والأرض لتأخذ قدرها ومراحلها؛ لأن ميلادها سيكون بعد ستة أيام. وفي القرآن آية من
الآيات أعطتنا لمحة عن هذه المسألة، فقال سبحانه:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا
مِن لُّغُوبٍ }
[ق: 38]
أي خلق سبحانه السموات والأرض دون تعب؛ لأنه لا يعالج مسألة الخلق، بل إنما يحدث
ذلك بأمر " كن " فكانت السموات والأرض. والآية التي بعدها فوراً تقول: }
فَاصْبِرْ عَلَىا مَا يَقُولُونَ {
وكأن قوله سبحانه هنا جاء لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً له: إنهم
يكذبونك وقد ترغب في أن نأخذهم أخذ عزيز مقتدر. لكن الحق جعل لكل مسألة كتاباً،
فهو قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. ونحن في حياتنا نقول لمن يتعجل أمراً: يا
سيدي إن ربنا خلق السماء والأرض في ستة أيام. فلا تتعجل الأمور.
إذن كان ربنا هو القادر على أن ينجز خلق السماء والأرض في لحظة، لكنه أمر "
بكن " وترك المواد تتفاعل لستة أيام. ولماذا لا نقول: جاء بكل ذلك ليعلمنا
التأني، وألا نتعجل الأشياء؟ لأنه وهو القادر على إبراز السموات والأرض في لحظة،
خلقها في ستة أيام، لذلك قال سبحانه:{ فَاصْبِرْ عَلَىا مَا يَقُولُونَ... }[ق:
39]
أي لا ترهق نفسك لأنه سبحانه خلق السماء والأرض في ستة أيام، وسيأتي لهؤلاء
الجاحدين يومهم الذي يؤاخذون فيه بسوء أعمالهم وسوف يأتي حتماً.
وهناك من يتساءل: كيف خلق الكون بما فيه من الرواسي والكائنات؟.. ونقول: إن الإنجاز
الذي أخبر به سبحانه مرة واحدة، وانفعلت الكائنات للقدرة مرة واحدة، وتعددت
استدامة انفعالات السامع بقدرة الله، في كل جزيئة من جزئيات الفعل، وأخذ الأمر ستة
أيام. واستقر الأمر بعد ذلك واستتب، وسبحانه يقول: } ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى
الْعَرْشِ... { [الأعراف: 54]
ولابد أن نعرف العرش ما هو. وسبحانه يقول في ملكة سبأ:{ ...وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
}[النمل: 23]
فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد إن تستقر الأمور.
فكأن قوله: } اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ { كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت
المسألة. لكن العلماء حين جاءوا في } اسْتَوَىا { ، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش
لو كان كرسياً يجلس عليه الله، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما.
وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء. ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة } اسْتَوَىا
{ منهم من قال: إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه، ومنهم من قال: المقصود بها
أنه استعلى وارتفع أمره، ومنهم من قال: " صعد " أمره إلى السماء واستند
إلى قوله الحق:{ ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ... }[فصلت: 11]
وكلها معانٍ متقاربة. وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا:
المقصود بـ " استوى " أنه استوى على الوجود، ولذلك رأوا أن وجود العرش
والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك. وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات، أو متاهات
التعطيل نقول: علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ }[الشورى: 11]
فحين يقول سبحانه:
{ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ... }[الفتح: 10]
ونحن نفهم أن لليد مدلولاً، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه، فالقول أن لله
يداً فهذا دليل على قدرته. واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة.
والإِنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر، في إطار }
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { ، فنقول: سبحانه له يد ليست كيد البشر، وله وجود لكنه
ليس كوجود البشر، وله عين ليست كعيون البشر. وله وجه ليس كوجه أحد من البشر. ولذلك
حينما سئل سيدنا الإِمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله: " الاستواء معلوم
والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة " وأراك رجل سَوْء! أخرجوه. نعم السؤال عنه
بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل، وهل سأل أحد من صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الاستواء؟.. لا؛ لأنهم فهموا المعنى، ولم يعلق
شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنهم
فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله.
وإن قال قائل: أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟.. إن كان يعلم لأخبرنا بها،
وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها. وإن لم يكن قد علم الأمر.. فهل تطلب لنفسك أن
نعلم ما لم يعلمه صلى الله عليه وسلم؟
أو أنّه صلى الله عليه وسلم ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار } لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { والذين يمنعون التأويل يقولون: إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛
لأنه إن قال: إن له يداً، فقل ليست كأيدينا في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {؛
لأنه سبحانه له حياة، وأنت لك حياة، أحياته كحياتك؟. لا، فلماذا إذن تجعل يده مثل
يدك؟.. إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه.
ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم: أنت ستضطر أخيراً إلى أن تؤول؛ لأن الحق
يقول:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88]
ومادام } كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ { فكل ما يطلق عليه شيء يهلك،
ويبقى وجهه سبحانه فقط، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه، فكأن يده تهلك ورجله تهلك
وصدره يهلك، وحاشا لله أن يحدث ذلك. وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر. لذلك
نقول: لنأخذ النص وندخله في إطار } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. وآية الاستواء على
العرش هذه، مذكورة في سور كثيرة، وهي تحديداً في " سبعة مواضع "؛ في
سورة الأعراف التي نحن بصددها، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان،
وسورة السجدة، وسورة الحديد.
وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الاستواء على العرش: } يُغْشِي الَّيلَ النَّهَارَ
{.
الله - سبحانه - قد خلق السماء والأرض للخليفة في الأرض وهيأ له فيها أصول الحياة
الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه، فماذا سيفعل هذا الخليفة؟.
. لا بد أن يقوم بكل مقومات الحياة، وإذا ما عمل فسيبذل جهداً، والجهد يقتضي راحة.
ومن يشتغل ساعة لا بد أن يرتاح ساعة. وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على
نفسه.
ونحن نرى في الالة التي تعمل ثلاث ورديات يومياً أي التي تعمل لمدة الأربع
والعشرين ساعة دون توقف أنها تُستهلك أكثر من الآلة التي تعمل ورديتين، والآلة
التي تعمل وردية واحدة لمدة ثماني ساعات يطول عمرها أكثر. وكل إنسان يحتاج إلى
الراحة. فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل
هذا الهدف:{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ
فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ... }[القصص: 73]
أي لتسكنوا في الليل، وتبتغوا الفضل في النهار، فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر
أن تعمل بالنهار، فمن ضروريات حركة الخلافة في الأرض أن يوجد وقت للراحة ووقت
للعمل. لذلك أوضح سبحانه لنا: أنا خلقت الليل والنهار، وجعلت الليل سكناً إلى
للراحة والبعد عن الحركة، والحق يقول هنا: } يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ... {
[الأعراف: 54]
ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل، ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل
والنهار لنستنبط منها الدليل على أن الأرض كرة.{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيْلَ
وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
}[الفرقان: 62]
والليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، وفي مصر نكون في نهار مثلا، ويكون هذا
الوقت في بلد آخر ليلاً، وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار، وأيهما الذي كان
خلفه للثاني؟ فلن تجد؛ لأن كلا الاثنين خلقا معاً. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة
التسطيح وكانت الشمس قد خلقت مواجهة لسطح الأرض لكان النهار قد خلق أولاً ثم يعقبه
الليل، ولو كانت الشمس قد خلقت غير مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولاً ثم تطلع
الشمس على السطح ليوجد النهار. والحق سبحانه أراد من الليل والنهار أن يكون كلاهما
خلفة للآخرة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان الله سبحانه خلق الليل والنهار
دفعة واحدة. كان لابد أن تكون الأرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء المواجه للشمس،
وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس، وحين تدور الأرض يأتي النهار خلفة لليل،
ويكون الليل خلفه للنهار.{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً
لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }[الفرقان: 62]
} يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ { ويغشى النهار الليل وحذفت للاعتماد على الآيات
السابقة التي منها قوله الحق سبحانه:{ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ... }[يس:
40]
أي أن الليل لا يسبق النهار وكذلك النهار لا يسبق الليل، وهذا دليل على أنهما
خُلقاً دفعة واحدة.
والحق يقول هنا: } وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ
أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ.
.. {
فلا أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو لا يعمل، بل كلها مسخرة، ولذلك تجد
النواميس الكونية التي لا دخل للإنسان فيها ولاختياراته دخل في أمورها تسير بنظام
دقيق، ففي الوقت الفلاني ستأتي الأرض بين الشمس والقمر، وفي الوقت الفلاني سيقع
القمر بين الأرض والشمس، وسيحدث للشمس خسوف، وكل أمر من هذا له حساب دقيق. }
يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ... { [الأعراف: 54]
والخلق إيجاد الأشياء من عدم، فبعد ان خلق الله الكون لم يترك شؤون الكون لأحد، بل
- سبحانه - له الأمر بعد ذلك. وقيوميته؛ لأنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق
ثم ترك النواميس تعمل، لا، فبأمره يُعطل النواميس أحياناً، ولذلك شاء الحق أن تكون
معجزات الأنبياء لتعطيل النواميس؛ لنفهم أن الكون لا يسير بالطبع أو بالعلة. لذلك
يقول: } أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ {.
وإذا نظرت إلى كلمة " الأمر " تجد الحق يقول:{ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ
كُلَّهُ للَّهِ... }[آل عمران: 154]
والمقصود هو الأمر الكوني، أما الأمور الاختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج،
وأنت لك فيها أمر إما أن تطيع وإما أن تعصي، وأنت حر. }...أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { [الأعراف: 54]
وحين يقول سبحانه: } تَبَارَكَ اللَّهُ { وقال من قبل: } أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {
، فكل لفظ له معنى، ففي خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك.
وفي قول آخر يصف الحق نفسه:{ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }[الأنعام: 62]
والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلات حاسبة، وهي آلات تتم " برمجتها "
وإعدادها وتهيئتها للجمع والطرح والضرب والقسمة، وكل حدث من الحساب يأخذ مدة. لكن
الحق يحسب لكل البشر دفعة واحدة. لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لأنه ليس هناك حساب
واحد، فأنت لك حساب مع الله، والآخر له حساب مع الله، والحساب مع الله متعدد بتعدد
أفراد المحاسبين، وحساب الحق للخلق لا يحتاج إلى علاج، بل ينطبق عليها ما ينطبق
على الرزق، ولذلك حينما سئل عليّ كرم الله وجهه:
- أيحاسب الله خلقه في وقت واحد؟
قال: وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟
وانظر إلى القرآن تجد الحق } أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ { و } أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
{ ، و } أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ { و } خَيْرُ الْوَارِثِينَ {. وهذه هي الألفاظ
التي وردت، ولله فيها مع خلقه صفة، لكن صفة الله دائما في إطار } لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ {. } تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {.
و } تَبَارَكَ اللَّهُ { أي أنه - تعالى - تنزّه؛ لأن هناك فرقاً بين القدرة
المطلقة - وهي قدرة الله - والانفعال للقدرة المطلقة بالإِرادة وبـ " كن
" وهذا هو الانفعال والانقياد وللإِرادة والأمر.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: } ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...
{
(/997)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
والدعاء إنما يكون من عاجز يدعو أو قادراً على إنجاز وتحقيق ما عجز عنه أو يعينه
عليه. وعندما تشعر أنك عاجز فأنت ترتكن إلى من له مطلق القدرة؛ لأن قدرتك محدودة.
إذن فإن كنت تطغى أو تتكبر فاعرف مكانتك ومنزلتك جيداً وتراجع عن ذلك لأنك عرض
زائل، والدعاء هو تضرع، وذلة، وخشوع، وإقرار منك بأنك عاجز، وتطلب من ربك المدد
والعون. واستحضار عجزك وقدرة ربك تمثل لك استدامة اليقين الإِيماني. وما جعل ربنا
للناس حاجات إلا من أجل ذلك؛ لأن الإِنسان إذا ما رأى الأشياء تنفعل له، ويبتكر
ويخترع فقد يأخذه الغرور، فيأتي له بحاجة تعز وتعجز فيها الأسباب، فيقف ليدعو. ومن
كان متكبراً وعنده صلف وغطرسة يذهب إلى رجل " غلبان " زاهد تجرد من
الجاه والسلطان منقطع لعبادة الله ويقول له: أستحلفك برسول الله أن تدعو لي لأني
في أزمة والذي يسأل الغلبان الزاهد هو رجل عزيز في قومه لكنه يظن أن الغلبان
الزاهد أقرب إلى الله منه.
إذن الدعاء هو الضراعة وإظهار الذلة والخشوع لله؛ لكي يستديم اليقين الإِيماني. {
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً... } [الأعراف: 55]
وإياك أن تدعو وفي بالك أن تقضي حاجتك بالدعاء، عليك بالدعاء فقط لقصد إظهار
الضراعة والذلة والخشوع، ولأنك لو لم تدع فستسير أمورك كما قُدر لها، والدعاء هو
إظهار للخشوع، وإياك أن تفهم أنك تدعو الله ليحقق لك مطالبك؛ لأنه سبحانه منزه أن
يكون موظفاً عندك، وهناك نظام وضعه سبحانه لتحقيق مطالب العباد. ومن الناس من يطلب
بالدعاء أشياء ضارة.{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ
وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }[الإسراء: 11]
والإِنسان قد يتعلق قلبه بأماني قد تضره؛ لذلك نقول: لا تتعجل بالدعاء طلباً
لأمنيات قد تكون شراً عليك، والحق العليم ينظم لنا أمورنا، وإياك أيضاً أن تيأس
حين لا تجاب دعوتك التي في بالك؛ لأن الله يحقق الخير لعباده. ولو حقق لك بعضاً
مما تدعو فقد يأتي منها الشر، ويترك الله لأقضيتك أموراً تبين لك هذا، وتقول: إن
الشيء الفلاني الذي كنت أتمناه تحقق وجاء شراً عليّ. مثال ذلك قد تحجز لطائرة لكنك
لا تلحق بها فقد أقلعت قبل أن تصل إليها وحزنت لأن بعضاً من مصالحك قد فاتك ولم
يتحقق وتفاجأ بأن هذه الطائرة سقطت في البحر.
إذن، اجعل حظك من الدعاء هو الخشوع والتذلل والضراعة له سبحانه لا إجابتك إلى ما
تدعو إليه، إنك دعوت لتطلب الخير، فدع الحق بقيوميته وعلمه يحقق لك الخير. واسمع
قول الله:{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ
الإِنْسَانُ عَجُولاً }[الإِسراء: 11]
إذن فحين يقول الحق: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } فسبحانه يطلب
منا أن ندعوه لأننا سنواجه لحظات متعددة نعجز فيها عن أشياء، فبدلاً من أن تظل
مقهوراً بصفة العجز عن الشيء اذكر أن لك رباً قويا مقتدراً، وساعة تذكر ذلك لن
تأخذك الأسباب من حظيرة الإِيمان.
وقلنا من قبل: من له أب لا يحمل هماً للحياة، فإذا كان الذي له أب لا يحمل هماً
لمطلوبات الحياة فمن له رب عليه أن يستحي ويعرف أن ربه سيوفر له الخير؛ لذلك يوضح
سبحانه: إذا أعجزتكم الأسباب فاذكروا أن لكم رباً. وقد طلب منكم أن تدعوه، ولا تظن
أن حظك من الدعاء أن تجاب إلى ما طلبت، بل ليكن حظك من الدعاء إظهار التذلل
والخشوع لله؛ فقد يكون ما حدث لك نتيجة أنك قد اغتررت بنفسك. وقد سبق " قارون
" إلى الغرور، فماذا حدث له؟.. لقد هزمه الحق وأنزل به شر العقاب. وقد يجعل
الحق من تأبّى الأسباب وامتناعها عليك مغزى لتلتفت إلى الله، لكن لفتتك لله لا يصح
أن تكون بغرض أن يقضي حاجتك، بل اجعل أساس لفتتك لله أن تظهر العجز أمامه والخضوع
والخشوع؛ ليعيط ما لم يكن في بالك حين تدعو. } ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً
وَخُفْيَةً... { [الأعراف: 55]
خفية لها معنى وهو أن يكون الدعاء دعاءً مستوراً مختبئاً، ولها معنى آخر وهو أن
تكون من الخوف أي أدعو ربكم خوفاً من متعلقات صفات الجلال كالجبار والقهار أو خوفا
من أن يردها الله عليك فلا يقبلها منك.
ادعوا ربكم تضرعاً بذلة وانكسار وخضوع خفية بينك وبين ربك، فلا تجهر بالدعاء
وتجعله عملك الوحيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا حينما كان في غزوة غزاها
فنزل أصحابه وادياً، فلما نزلوا الوادي صاحوا بالتهليل والتكبير، فقال: "
أيها الناس اربعوا على أنفسكم، إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا
قريبا وهو معكم ".
والدعاء إلى الله خُفية يبتعد بك عن الرياء وهو أستر لك في مطلوباتك من ربك لأنه
حين يوضح لك: ادعني في سرّك لأنني سميع عليم؛ فاعلم كل ما ظهر منك وما بطن، ادع
بالخضوع والخشوع والتذلل لتنكسر فيك شهوة الكبرياء، وشهوة الغطرسة، وشهوة الجبروت.
وإذا ما نظرت إلى هذا تجد أن كثيراً من العلماء يقولون:
- نعرف قوماً يقرأون القرآن في محضرنا وما عرفنا لشفاههم حركة، وعرفنا قوماً يستنبطون
الأحكام من كلام الله وما رأينا منهم انفعالاً يصرفهم عناً.إذن فالمسألة تعبر عن
شغل باطني داخلي.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن الرياء ويريد أن يستر علينا مطلوباتنا؛ لأن
الإِنسان قد يطلب من الله سبحانه وتعالى ما يستحي أن يسمعه آخر. } ادْعُواْ رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً... { [الأعراف: 55]
ولو نظرت إلى هذه الآية لوجدت أن كثيراً من الناس يخالفونها مخالفات جماعية؛ في
الليل مثلاً تجد من يصعدون على المآذن أو يصيحون في مكبرات الصوت التي أغنتهم عن
صعود المآذن، ويكون الواحد من هؤلاء نائما طول النهار لأن رفع الأذان هو عمله ليس
غير، وبعد ذلك يظل يصرخ ويستغيث ويقول: " أن هذه ابتهالات ".
بينما من الناس من هو نائم ليأخذ قسطه من الراحة ليؤدي عمله نهاراً، ولا أحد يطلب
من هذا النائم إلا أنه وإذا جاء الفجر يستيقظ ويؤدي الصلاة. فلماذا نقلق الناس
بهذا؟ إننا لابد أن ننبه هؤلاء الذين يظنون أنهم يذكرون الناس بدين الله، إنهم
بعملهم هذا لا يسلكون الطريق الصحيح؛ لأننا لا يمكن أن نذكر الناس بالله ونصنع
مخالفة أو نؤذي أحداً؛ فسبحانه يقول: } ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً
{.
والتضرع والخُفية تقتضي ألا أقلق الناس، أو أن أعلن الأمور التي أريدها لنفسي خاصة
بصوت عال مثل من يأتي في ختام الصلاة ويقول دعاءه بصوت عال وهو رافع يديه، ولمثل
هذا أقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل لنا القنوت لندعو فيه، وترك كل مسلم أن يدعو
بما ينفعل له. وأنت حين تدعو في ختام الصلاة قد يوجد مُصل مسبوق لحق الصلاة بعد أن
سبقه الإمام بركعة أو باثنين أو بثلاث ويريد أن يكمل صلاته، وأنت حين ترفع صوتك
بالدعاء حين تختم صلاتك إنما تفسد عليه إتمام صلاته. وتشغله بمنطوق من عندك وبكلام
من عندك عن شيء واجب عليه. ومن بفعل ذلك إنما يفعله عن حسن نية، لكنه يسيء إلى
عبادة آخر.
إذن فلابد أن ننتّبه إلى أن الله سبحانه وتعالى له مطلوبات، هذه المطلوبات قد
تخالفها النفس لغرض ترى أنه حسن، لكن خذها في إطار:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم
بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[الكهف: 103-401]
فلابد أن نتنبه إلى مثل هذه المسائل، وعلينا أن نوفر الراحة لمن ينام ليقوم ويصلي
الصبح ويذهب إلى عمله؛ لذلك لا داعي أن يفتح إنسان " الميكروفون " ويعلو
صوته بالدعاء، ومن يفعل ذلك يظن أنه يحرص على أمر مطلوب فيزعج النائم، بل ويزعج من
يصلي بالليل أو " يشوش " على من يقرأ القرآن أو يستذكر بعضاً من العلم.
إن على من يفعل ذلك أن يترك كل إنسان لانفعالاته، وأن يكون ملك نفسه وملك اختياره.
ويعطينا الحق سبحانه وتعالى صوراً كهذه فيقول:{ إِذْ نَادَىا رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
* قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً
وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }[مريم: 3-4]
إذن كلمة " خفي " موجودة في القرآن، ولابد أن نتنبه إلى الدعاء الخفي. }
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {
[الأعراف: 55]
إذن إن لم يكن تضرعاً وخفية فهو اعتداء في الدعاء؛ لأنك مكلف والله هو المُكلَف،
وهو يقول لك: ادعوني تضرعاً وخفية.
فإن فعلت غير هذا تكن معتدياً، وعلى كل هؤلاء أن يفهموا أنهم معتدون فإما أن يكون
الاعتداء في أسلوب الطلب وإما ان يكون الاعتداء في المطلوب.
لأن الحق حدد أسلوب الطلب فأوضح: ادعوني بخفاء، فإن دعوت في غير الخفاء تكن
معتدياً على منهج الله. وكذلك قد يكون الاعتداء في المطلوب فلا يصح مثلاً أن تقول:
إنني أدعوك يا رب أن تجعلني نبياً. إن ذلك لا يصح وربنا سبحانه وتعالى علمنا فيما
سرده عن نوح. فقال:{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ
أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ
يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ
تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ }[هود: 45-46]
وهنا نبه الحق نوحاً إلى الاعتداء في المطلوب فقال الحق:{ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... }[هود: 46]
ولذلك نجد نوحاً يستغفر لأنه سأل ودعا الله هذا الدعاء عن غير علم، فلما عرف ذنبه
استغفر الله وقال:{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ
لِي بِهِ عِلْمٌ... }[هود: 47]
وقال له الحق سبحانه:{ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىا
أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ... }[هود: 48]
إذن فالذي لا يسمع منهج الله أو لا يطبقه في الدعاء يكون معتدياً على الحق سبحانه
وتعالى، وسبحانه لا يحب المعتدين.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا... {
(/998)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الأرض هي مكان الخليفة وهو الإِنسان، وفيها الأسباب الأصيلة لاستبقاء الحياة
والسماء والأرض والشمس والهواء كلٌ مسخر لك. ولا تحتاج إلى تكليف فيه، فلا أنت
تقول: " يا شمس أشرقي " أو " يا هواء هب " فكل ذلك مسخر لك.
وأنت مطالب ألا تفسد فيما لك فيه اختيار؛ لأنك لا تستطيع أن تفسد قوانين الكون
العليا، لا تستطيع أن تغير مسار الشمس ولا مسار القمر ولا مسار الريح، وأنت لن
تستطيع إصلاح ما لا يمكن أن تقترب من إفساده، لأن أمره ليس بيدك لأنه لا اختيار لك
فيه. وإنما يأتي الإِفساد من ملكات الاختيار الموجودة فيك، ولم يتركنا الله
أحراراً فيها، بل حددها بمنهج يحمي حركة الحياة بـ " افعل " و " لا
تفعل " ، فإذا كان سبحانه قد أنزل قرآناً، والقرآن فيه منهج يحمي اختيارك إذن
فقد أعطاك عناصر الإِصلاح ولذلك يقول لك: { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ
إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً... } [الأعراف: 56]
وهنا يعود الحق مرة أخرى للحديث عن الدعاء، فأولاً جاء بالأمر أن يكون الدعاء
تضرعاً وخفية، وهنا يوضح الحق سبيلاً ثانيا للدعاء: { وَادْعُوهُ خَوْفاً
وَطَمَعاً }.
خوفاً من صفات جبروته وقهره، وطمعا في صفات غفرانه ورحمته؛ لأن لله صفات جمال
وصفات جلال، وادعوه خوفاً من متعلقات صفات الجلال، وطمعاً في متعلقات صفات الجمال.
أو خوفاً من أن تُرد وطمعاً فيما أنت ترجو. {...وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف: 56]
إذن من الذي يحدد قرب الرحمة منه؟ إنه الإِنسان فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام
في يد الإِنسان؛ لأن الله لا يفتئت ولا يستبد بأحد. فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة
الله فعليك بالإِحسان. { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ }.
ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى يقول: " لا أمل حتى تملّوا ". [من
حديث قدسي]
وأنت تدخل بيوت الله تصلى في أي وقت، وتقف في أي مكان لتؤدي الصلاة، إذن فاستحضارك
أمام ربك في يدك أنت، وسبحانه حدد لك خمسة أوقات، ولكن بقية الأوقات كلها في يدك،
وتستطيع أن تقف بين يدي الله في أي لحظة. وسبحانه يقول: " ومن جاءني يمشي
أتيته هرولة "
[من حديث قدسي]. وهو جل وعلا يوضح لك: استرح أنت وسآتي لك أنا؛ لأن الجري قد يتعبك
لكني لا يعتريني تعب ولا عي ولا عجز. وكأن الحق لا يطلب من العبد إلا أن يملك
شعوراً بأنه يريد لقاء ربه. إذن فالمسألة كلها في يدك، ويقول سبحانه: " من
ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ".
[من حديث قدسي].
وهكذا يؤكد لك سبحانه أن رحمته في يدك أنت وقد أعطاها لك، وعندما تسلسلها تجدها
تفضلاً من الله، ولكن في يدك أنت. } إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ
الْمُحْسِنِينَ {.
ونعلم أن فيه صفات لله وفيه ذات، فالذات (الله) وهو واهب الوجود، وله كل صفات
الكمال وكل صفة لها متعلق؛ الرحمة لها متعلق والبعث له متعلق فمن أسمائه سبحانه
" الباعث "؛ وإياك أن تغيب عن الذات، اجعل نفسك مسبحاً لذاته العلية
دائماً. وقد تقول: يا رب أريد أن ترحمني في كذا، وقد لا ينفذ لك ما طلبت، لكن ذلك
لا يجعلك تبتعد عن التسبيح للذات، لأن عدم تحقيق ما طلبت هو في مصلحتك وخير لك.
وقد وقف العلماء عند كلمة " قريب " هذه، وتساءل بعضهم عن سرّ عدم مجيء
تاء التأنيث بعد لفظ الجلالة؟ ونعلم أن القرآن قد نزل بلغة العرب، وعند العرب
ألفاظ يستوي فيها التذكير والتأنيث، وما يقال للمذكر مثلما يقال للمؤنث، فنقول:
" رجل صبور " ، و " امرأة صبور " ، ولا نقول: صبورة ونقول:
" رجل معطار " أي يكثر استخدام العطر، و " امرأة معطار " أي
تكثر استخدام العطر. ونقول: قريب مثلما نقول: قتيل بمعنى مقتول. فيقال: " رجل
قتيل " و " امرأة قتيل " ، ولا يقال: " قتيلة " إلا إذا
لم يذكر معها كلمة امرأة أو ما يدل على التأنيث، لأن القتيل للذكر وللأنثى.
هذه هي ألفاظ صحيح اللغة. وقد صنعت اللغة ذلك بأسانيد، فأنت حين نقول: " رجل
صبور " أو " امرأة صبور " فالصبر يقتضي الجلد والعزم والشدة؛ لذلك
لا نقول: " امرأة صبور " بل نأتي بالوصف المناسب للجَلَد والشدة. وإياك
أن تضعفها بحكاية التأنيث، وكذلك " رجل معطار " و " امرأة معطار "
، والرجل المعطار هو من تعرفه الناس من نفاذ رائحة عطره، والمرأة مبنية على الستر.
فإن تعطرت فهي قد تشبهت بالرجل ويقال لها: " امرأة معطار " ، وحين ننظر
إلى كلمة " قريب " فهي من صيغة " فعيل " التي يستوي فيها
المذكر والمؤنث؛ بدليل أن الله قال:{ ...وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ
بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ }[التحريم: 4]
والملائكة لفظها لفظ مؤنث، ولم يقل الحق " ظهيرة " ، لأن " ظهير
" يعني مُعين، والمعونة تتطلب القوة والعزم والمدد؛ لذلك جاء لها باللفظ
المناسب الذي يدل على القوة وهو " ظهير ". وكذلك قوله الحق: }...إِنَّ
رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ { [الأعراف: 56]
و " قريب " بوزن " فعيل " بمعنى مفعول، ولعل بعض الناس يفهم
أن " قريب " بمعنى فاعل أي قارب. مثل رحيم وراحم. أي أن رحمة الله هي
التي تُقرب من المحسنين، والأمر ليس كذلك، فإن الرحمة هي المقروبة، والإحسان هو
الذي يقرب إليها فيكون فعيل هنا بمعنى مفعول الذي يستوي فيه المذكر والمؤنث، أن
يكون جاءت كذلك على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة لموصوف محذوف أي
شيء قريب، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، أو أن الرحمة مصدر، وحق المصدر التذكير.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ... {
(/999)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون، والإهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد
كثيرة للغاية، ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالأنفاس نقول لمن يجلس بجوار
النافذة: " لنهوي الغرفة قليلاً. وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة لتأخذ
من طبقات الجو طبقة هواء جديدة فيها أوكسجين كثير. إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى لا
يظل الهواء راكداً. ويتلوث الجو بهذا الركود، ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان
مكتوم الهواء لامتلأ المكان بثاني أكسيد الكربون الخارج من تنفسه، ثم لا يلبث أن
يختنق، ولذلك أراد الله حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في كل شيء، وهي أيضاً رحمة
تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام، وتصريف الرياح من أجل
تجديد الهواء الذي تتنفسة، وكذلك تكوين الماء. لأن سبحانه القائل عن الرياح. {
حَتَّىا إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ... }
[الأعراف: 57]
والرياح هي التي تساعد في تكوين الأمطار التي تنزل على الأرض فتروي التربة التي
نحرثها، هكذا تكون الرياح بشرى في ثلاثة أشياء: الشيء الأول تحريك طبقات الهواء
وإلا لفسد الجو في الماء، لأن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به هناك
فرقاً بين بشرى، وبشراً؛ فالبشرى مفرد، وقد وردت في قوله الحق:{ وَلَقَدْ جَآءَتْ
رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى... }[هود: 69]
أي التبشير. لكن بشراً جمع بشير وهي كلمة مخففة، والأصل فيها بشر.
والحق يقول: { فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ }.
وجمع البشير " بُشُر " مثل: " نذير " و " نُذُر "
بضم الشين فسكنت تخفيفا، فتنطق بُشْراً وبُشُراً. { بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ
رَحْمَتِهِ }.
هي بين يدي رحمته لأنها ستأتي لنا بالماء، وهو الرحمة في ذاته، وبواسطته يعطينا ري
الأرض، ونحن نرتوي منه مباشرة أيضاً. ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي
للخير، أما حين يكون فيها شر فيأتي بكلمة " ريح " مفردة، مثل قوله:{
...بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6]
فإذن عندما ترى كلمة " رياح " فاعلم أنها خير، أما كلمة " ريح
" فاعلم أنها شر لماذا؟ أنت إذا كنت قاعداً في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي
منها الهواء، ويتسلط التيار على إنسان، فالإِنسان يصاب بالتعب؛ لأن الهواء يأتي من
مكان واحد، لكن حين تجلس في الخلاء ويهب الهواء فأنت لا تتعبَ، لأن الرياح متعددة.
ولكن الرياح تأتي كالصاروخ.
الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته؛ حتى إذا أقلت أي حملت يقال: " أقل
فلان الحمل " أي رفعه من على الأرض وحمله لأنه أقل من طاقته، لأنه لو كان
أكثر من طاقته لما استطاع أن يرفعه عن الأرض، وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة
لطاقته وبالنسبة لجهده، أقلت أي حملت، وما دامت قد حملت فجهدها فوق ما حملته، وإذا
كان الجهد أقل من الذي حملته لابد أن ينزل إلى الأرض.
وأقلت سحاباً أي حملت سحاباً. نعرف أن السحاب هو الأبخرة الطالعة والصاعدة من
الأرض ثم تتجمع وتصعد إلى طبقات الجو العليا، وتضربها الرياح إلى أن تصادف منطقة
باردة فيحدث تكثيف للسحاب؛ فينزل المطر؛ ونرى ذلك في الماء المقطر الذي يصنعونه في
الصيدلية؛ فيأتي الصيدلي بموقد وفوقه إناء فيه ماء ويغلي الماء فيخرج البخار ليسير
في الأنابيب التي تمر في تيار بارد فيتكثف البخار ليصير ماء. } حَتَّىا إِذَآ
أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ {.
وقال الحق: " سقناه " بضمير المذكر؛ لأنه نظر إلى السحاب في اسم جنسه،
أو نظر إلى لفظه، وجاء بالوصف مجموعاً فقال: " ثقالا " نظراً إلى أن
السحاب جمع سحابة فرق بينه وبين واحدة بالتاء، وما دامت السحب كلها داخلة في
السّوق فليس لها تعددات فكأنها شيء واحد. } حَتَّىا إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً
ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ { [الأعراف: 57]
السحاب لا يتجه إلى مكان واحد، بل يتجه لأماكن متعددة، إذن فالحق يوجه السحاب
الثقال لأكثر من مكان. لكن الحق سبحانه وتعالى يقول: } سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ
مَّيِّتٍ {.
والميت هو الذي لا حراك فيه وانتهى اختياره في الحركة، كذلك الأرض، فالماء ينزل من
السماء على الأرض وهي هامدة ليس بها حركة حياة أي أن الله يرسل السحاب ويزجيه إلى
البلد الميت في أي مكان من الأرض.{ ...فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }[الحج: 5]
إذن فالأرض التي لا يأتيها الماء تظل هامدة أي ليس بها حركة حياة مثل الميت. }
سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن
كُلِّ الثَّمَرَاتِ... { [الأعراف: 57]
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليويمية التي نراها دائما
في صور شتى، وهي أن الأرض تكون في بعض الأحيان جدباً، ثم يهبط عليها بعض المطر،
وبمجرد أن ينزل المطر على الجبل، وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم
الثالث وهو مخضر، فمن الذي بذر البذرة للنبات هذا اليوم؟ إذن فالنبات كان ينتظر
هذه المياه، وبمجرد أن تنزل المياه يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذوراً، وهذا دليل
على أن كل منطقة في الأرض فيها مقومات الحياة. }...فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَىا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { [الأعراف:
57]
فالماء الذي ينزل على الأرض الميتة يحيي الأرض؛ لأنه سبحانه يخرج الحياة كل يوم،
وحين يوضح لنا سبحانه أن سيبعثنا من جديد فليس في هذا أمر عجيب، وهكذا جعل الله
القضية الكونية مرئية وواضحة لكل واحد ولا يستطيع أحد أن يكابر ويعاند فيها؛ لأنها
أمر حسيّ مشاهد، ومنها نستنبط صدق القضية وصدق الرب.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ... {
(/1000)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
إذن الآية السابقة عالجت قضية البعث بضرب المثل بالآية الكونية الموجودة؛ فالرياح
التي تحمل السحاب، والسحاب يساق إلى بلد ميت وينزل منه الماء فيخرج به الزرع.
والأرض كانت ميتة ويحييها الله بالمطر وهكذا الإِخراج بالبعث وهذه قضية دينية،
ويأتي في هذه الآية بقضية دينية أيضا: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ
نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً }.
والبلد الطيب هو البلد الخصب الذي لا يحتاج إلا لى المياه فيخرج منه الزرع، أما
الذي خبث، فمهما نزل عليه الماء فلن يخرج نباته إلاّ بعد عناء ومشقة وهو مع ذلك
قليل وعديم النفع. وهنا يخدم الحق قضية دينية مثلما خدم القضية الدينية في البعث
أولاً. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها
طائفة طيبة؛ قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء
فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها، إنما هي
قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني
الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به
".
إذن فالمنهج ينزل إلى الناس وهم ثلاثة أقسام؛ قسم يسمع فينفع نفسه وينقل ما عنده
إلى الغير فينفع غيره مثل الأرض الخصبة شربت الماء وقبلته، وأنبتت الزرع، وقسم
يحملون المنهج ويبلغونه للناس ولا يعملون به وينطبق عليهم قوله الحق:{ ...لِمَ
تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2]
صحيح سينتفع الناس من المنهج، ولذلك قال الشاعر:خذ بعلمي ولا تركن إلى عملي واجن
الثمار وخل العود للنارويقول صلى الله عليه وسلم: " من ستر مسلما ستره الله
في الدنيا والآخرة ".
فستر المؤمن على المؤمن مطلوب وستر المؤمن على العالم آكد وأشدّ طلبا؛ لأن العالم
غير معصوم وله فلتات، وساعة ترى زلته وسقطته لا تُذِعْها لأن الناس سينتفعون
بعلمه. فلا تشككهم فيه، والقسم الثالث هو من لا يشرب الماء ولا يسقيه لغيره أي
الذي لا ينتفع هو، ولا ينفع غيره. { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ
بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذالِكَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } [الأعراف: 58]
إذن منهج الله مثله مثل المطر تماماً؛ فالمطر ينزل على الأرض ليرويها وتخرج النبات
وهناك أرض أخرى لا تنتفع منه ولكنها تمسكه فينتفع غيره، وهناك من لا ينتفع ولا
ينفع، فكذلك العلم الذي ينزله الله على لسان رسوله. { وَالَّذِي خَبُثَ لاَ
يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ }.
قلنا من قبل: إن الآيات تطلق على معانٍ ثلاثة: الآيات الكونية التي نراها واقعة في
الكون مثل قوله الحق:{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ... }[فصلت: 37]
وآيات هي آيات القرآن، والآيات التي تكون هي المعجزات للأنبياء. { كَذالِكَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ } [الأعراف: 58]
الآيات هنا في الكونية كالماء الذي ينزل، إنه مثل المنهج، من أخذ به فاز ونجا، ومن
تركه وغوى وكل آيات الله تقتضي أن نشكر الله عليها ويقول الحق بعد ذلك: { لَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ فَقَالَ... }
(/1001)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطائعين وعن العاصين في الدنيا، وتكلم عن
مواقف الآخرة الجزائية في أصحاب الجنة، وأصحاب النار والأعراف أراد أن يبين بعد
ذلك أن كل دعوة من دعوات الله سبحانه أهل الأرض لابد أن تلقي عنتا وتضييقا، وتلقى
إعراضاً، وتلقى إيذاء، إنه - سبحانه - يريد أن يعطي المناعة لرسوله صلى الله عليه
وسلم، فيوضح له: لست أنت بادعاً من الرسل؛ لأن كل رسول جاء إلى قومه قوبل
بالاضطهاد، وقوبل بالتكذيب، وقوبل بالنكرات، وقوبل بالإيذاء، وإذا كان كان كل رسول
قد أخذ من هذا على قدر مهمته الرسالية زماناً محدوأ، ومكاناً محصوراً فأنت يا رسول
الله أخذت الدنيا كلها زماناً ومكاناً، فلا بد أن تكون مواجهاً لمصاعب تناسب مهمتك
ورسالتك؛ فأنت في قمة الرسل، وستكون الإيذاءات التي تنالك وتصيبك قمة في الإيذاء،
فلست بدعاً من الرسل، فوطّن نفسك على ذلك. وحين توطن نفسك على ذلك ستلقى كل إيذاء
وكل اضطهاد بصبر واحتمال في الله، وقص الحق قصص الرسل على رسول الله، وعبر الله
بالهدف من قص القصص بقول:{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ
مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ... }[هود: 120]
فكأنا القصص تثبيت لفؤاده صلى الله عليه وسلم، فكلما أهاجه نكران، أو كلما أهاجه
جحود، قص عليه الحق - سبحانه - قصة رسول قوبل بالنكران وقوبل بالجحود ليثبت به
فؤاده صلى الله عليه وسلم وفؤاد أتباعه لعلهم يعرفون كل شيء ويوطنون أنفسهم على
هذا العنت؛ فلم يقل الحق لأتباع محمد: إنكم مقبلون على أمر والأرض مفروشة لكم
بالورود، لا. إنما هي متاعب لتجابهوا شر الشيطان في الأرض. والقصص له أكثر من هدى
يثبت به فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ويبين له أنه ليس بدعاً من الرسل، ويقوي
نفوس أتباعه، لأنهم حينما يرون أن أهل الحق مع الأنبياء انتصروا، وهزم الجميع
ووليّ الدبر، وأنهم منصورون دائما فهذا يقوي يقين المؤمنين، ويكسر من جهة أخرى
نفوس الكافرين مثلما قال الحق عن واحد من أكابر قريش. { سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ }.
قال الحق لهم ذلك عن واحد من أكابر قريش وهم لا يقدرون حينئذ أن يدافعوا أو يذودوا
عن أنفسهم، وذهبوا وهاجروا إلى الحبشة حماية لأنفسهم من بطش هؤلاء الأكابر، وكل
مؤمن يبحث له عمن يحميه، وينزل قوله الحق بعد ذلك في الوليد بن المغيرة {
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } ، والوليد بن المغيرة سيد قومه، ويأتي يوم بدر
فيوجد أنفه وقد ضرب وخطم ويتحقق قول الله:{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
}[القلم: 16]
فمن - إذن - يحدد ضربة قتال بسيف في يد مقاتل قبل أن يبدأ القتال؟ لقد حددها
الأعلم بما يكون عليه الأمر.
وأيضا فقصص الرسل إنما جيء بها ليثبت للمعاصرين له أنه تلقى القرآن من الله؛ لأنه
رسول أميّ؛ الأمة أمية، ولم يدّع أحد من خصومه أنه جلس إلى معلم، أو قرأ كتاباً،
فمن أين جاءته هذه الأخبار إذن؟
واسمع قول الحق سبحانه وتعالى في الآيات التي يأتي فيها: " ما كنت " مثل
قوله الحق:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى
الأَمْرَ... }[القصص: 44]
ومثل قوله الحق:{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ
بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[العنكبوت: 48]
ومثل قوله:{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ... }[آل عمران: 44]
فمن أين جاءت هذه الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه لم
يجلس إلى معلم ولم يقرأ كتاباً؟ لقد جاءت كلها من الحق سبحانه وتعالى، وهذا دليل
آخر على صدق رسالته.
وقصة سيدنا نوح من القصص التي وردت كثيراً في القرآن الكريم مثل قصة موسى عليه
السلام، ومن العجيب أن لقطات القصة تنتشر في بعض السور، لكن السورة التي سميت
بسورة نوح ليس فيها من المواقف التي تعتبر من عيون القصة، إنها تعالج لقطات أخرى؛
تعالج إلحاحه في دعوة قومه، وأنه ما قصّر في دعوتهم ليلاً ونهاراً، وسرّاً
وعلانية، كلما دعاهم ابتعدوا، ولم تأت قصة المركب في سورة نوح، ولا قصة الطوفان،
وهذه لقطات من عيون القصة، وكذلك لم تأت فيها قصته مع ابنه، بل جاء بها في سورة
هود.
إذن كل لقطة جاءت لوضع مقصود، ولهذا رأينا قصة نوح في سورة " نوح " وقد
خلت من عناصر مهمة في القصة، وجاءت هذه العناصر في سورة " هود " أو في
سورة " الأعراف " التي نتناولها الآن بالخواطر الإِيمانية.
إذن، كل قصة من القصص القرآني تجدها قد جاءت تخدم فكرة، ومجموعها يعطي كل القصة؛
لأن الحق حين يورد القصص فهو يأتي بلقطة في سورة لتخدم موقفاً، ولقطة أخرى تخدم
موقفاً آخر وهكذا. وحين شاء أن يرسل لنا قصة محبوكة تماماً، جاء بقصة " يوسف
" في سورة يوسف ولم يكررها في القرآن، لأنها مستوفية في سورة يوسف، اللهم إلا
في آية واحدة:{ وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا
زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ حَتَّىا إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن
يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً... }[غافر: 34]
لقد وردت في سورة يوسف حياة يوسف منذ أن كان طفلا حتى أصبح عزيز مصر، وهكذا نرى أن
الحق حين يشاء أن يأتي بالقصة كتاريخ يأتي بها محبوكة، وحين يريد أن يلفتنا إلى
أمور فيها مواقف وعظات، يوزع لقطات القصة على مواقع متعددة تتناسب وتتوافق مع تلك
المواقع لتأكيد وخدمة هدف. } لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ فَقَالَ
يَاقَوْمِ.
.. { [الأعراف: 59]
وساعة ترى " اللام " و " قد " فاعرف أن هذا قسم، وكأن الحق
يقول: وعزتي وجلالي لقد أرسلت نوحاً. وهو بهذا يؤكد المقسم عليه.
والقوم هم الرجال خاصة من المعشر؛ لأن القوم عادة هم المواجهون للرسالة، والمرأة
محتجبة؛ تسمع من أبيها أو من أخيها أو من زوجها، ولذلك قالت النساء للنبي: غلبنا
عليك الرجال.
أي أننا لا نجد وسيلة لنقعد معك ونسألك، فاجعل لنا يوماً من أيامك تعظنا فيه، فجعل
لهن يوماً؛ لأن المفروض أن تكون المرأة في ستر، وبعد ذلك ينقل لها الزوج المنهج.
إن سمع من الرسول شيئاً، وكذلك الأب يقول لابنته، والأخ يقول لأخته.
فإذا تكلم الرسول يقال: إن الرسول واجه القوم، من قولهم هو قائم على كذا. وقيم على
كذا. ولذلك الشاعر العربي يقول:وما أدرى ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساءوجاء
هنا بالقوم، والمراد بهم الرجال، والقرآن يقول:{ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ
عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىا أَن
يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ... }[الحجرات: 11]
إذن النساء لا تدخل في القوم؛ فالقوم هم المواجهون للرسول ومنهم تأتي المتاعب
والتصلب في الرأي، ويكون الإِنكار والجحود والحرب منهم.
وسيدنا نوح عليه السلام دعا قومه ونبههم إلى ثلاثة أشياء: عبادة الله، فقال: }
يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ { ، وبين لهم أنه ليس هناك إله سواه فقال: } مَا
لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ { ، وأظهر لهم حرصه وإشفاقه عليهم إذا خالفوا
وعصوا فقال: } إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {.
وهكذا تكلم عن العقيدة في الإِله الواحد المستحق للعبادة، وليس آلهة متعددة،
ونعبده أي نطيع أمره ونهيه، ولأنهم إن لم يفعلوا ذلك فهو يخاف عليهم من عذاب يوم
عظيم، وهو عذاب يوم القيامة. أو أنّ الله كان قد أوحى له بأنه سيأخذهم أخذ عزيز
مقتدر، وعذاب يوم عظيم أي يوم الإِغراق، و " الخوف " مسألة تتعب تفكير
من يستقبلها ويخاف أن يلقاها. فمن الذي يفزع بهذا؟
إن الذي يفزع هم الطغاة والجبابرة والسادة والأعيان ووجوه القوم، وكانوا قد جعلوا
من أنفسهم سادة، أما سائر الناس وعامتهم فهم العبيد والمستضعفون. والذي يهاج بهذه
الدعوة هم السادة لأنه ليس هناك إلا إله واحد، والأمر لواحد والنهي لواحد والعبادة
والخضوع لواحد، ومن هنا فسوف تذهب عنهم سلطتهم الزمنية، لذلك يوضح الحق لنا موقف
هؤلاء من الدعوة حين يقول: } قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ... {
(/1002)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
والملأ هم سادة القوم وأعيانهم وأشرافهم، أو الذين " يملأون " العين
هيئة ويملأون القلوب هيبة، ويملأون صدور المجالس بنية.
إنهم خائفون أن تكون دعوة نوح هي الدعوة إلى الطريق المستقيم وكلامه هو الهداية؛
فيمنّوا أنفسهم بأن هذا ضلال وخروج عن المنهج الحق: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي
ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
أي غيبة عن الحق، أو في تيه عن الحق، و " مبين " أي محيط بصورة لا يمكن
النفاذ منها.
ويرد نوح عليه السلام: { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ... }
(/1003)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
هم قالوا له: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، المتبادر أن يكون الرد:
ليس في أمري ضلال، لكنه قال هنا: { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } ، أقول ذلك لنعرف أن كل
حرف في القرآن موزون لموضعه. هم قالوا له: إنا لنراك في " ضلال، فيرد عليهم
ليس بي ضلالة؛ لأن الضلال جنس يشمل الضلالات الكثيرة، وقوله يؤكد أنه ليس عنده
ضلالة واحدة. وعادة نفي الأقل يلزم منه نفي الأكثر، مثلاً عندما يقول صديق: عندك
تمر من المدينة المنورة؟ تقول له: ليس عندي ولا تمرة واحدة. أنت بذلك نفيت الأقل،
وهذا أيضاً نفي للأكثر. { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ }.
وحين ينفي نوح عن نفسه وجود أدنى ضلالة فذلك لأنه يعرف أنه لم يأت من عنده بذلك،
ولو كان الأمر كذلك لاتّهم نفسه بأن هواه قد غلبه، لكنه مرسل من عند إله حق.
{...وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 61]
وقوله: " ولكني " استدراك فلا تقولوا: أنا في ضلال؛ فليس فيّ ضلالة
واحدة، لكن أنا رسول يبلغ عن الله، الله لا يعطي غير الهدى.
{ رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } أي من سيد العالمين ومن متولى تربية
العالمين، ومن يتولى التربية لا يُنزل منهجاً يضل به من يربيهم، بل ينزل منهجاً
ليصلح من يربيهم، وسبحانه قبل أن يأتي بهم إلى الوجود سخر لهم كل هذا الكون،
وأمدهم بالأرزاق حتى الكافرين منهم، ومن يعمل كل ذلك لن يرسل لهم من يضلهم.
ويستمر البلاغ من نوح عليه السلام لقومه فيقول: { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي
وَأَنصَحُ... }
(/1004)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
والبلاغ هو إنهاء الأمر إلى صاحبه؛ فيقال: بلغت المكان الفلاني.. أي انتهيت إليه.
و " البلاغة " هي النهاية في أداء العبارة الجميلة، و " أبلغكم
" أي أنهي إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية لحركة حياتكم. { أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالاَتِ رَبِّي }.
وكان يكفي أن يقول: " رسالة ربي " إلا أنّه قال: { رِسَالاَتِ رَبِّي }
لأن أي رسول يأتي بالمنهج الثابت كما جاءت به الرسالات السابقة حتى لا يقول أحد:
إنه جاء ليناقض ما جاء به الرسل السابقون، فما قاله به أي رسول سابق يقوله، ونعلم
أنه كانت هناك صحف لشيت ولإِدريس. فقال: إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالات
السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ، وكذلك شيت وغيره من الرسل.
أي أبلغكم كل ما جعله الله منهجاً لأهل الأرض من الأمور المستقيمة الثابتة، مثلما
قال سبحانه:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي
أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ... }[الشورى: 13]
وهو الأمور المستقرة الثابتة، العقدية، والأحكام التي لا تتغير. أو { رِسَالاَتِ
رَبِّي } ، لأنه كرسول يتلقى كل يوم قسطاً من الرسالة؛ فاليوم جاءت له رسالة
يبلغها، وغداً تأتي له رسالة يبلغها، ولو قال: " الرسالة " لكان عليه أن
ينتظر حتى تكتمل البلاغات من الله له ثم يقولها، لكنْ نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه
في وقت إبلاغه بها؛ لذلك فهي " رسالات ". أو لأن موضوع الرسالات أمر
متشعب تشعباً يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح؛ فهناك رسالة للأوامر، ورسالة
للنواهي، ورسالة للوعظ، ورسالة للزجر، ورسالة للتبشير، ورسالة للإِنذار، ورسالة
للقصص، وهكذا تكون رسالات.
أو أن كل نجم - أي جزء من القرآن وقسط منه - يعتبر رسالة، فما يرسله الله في يوم
هو رسالة للنبي، وغداً له رسالة أخرى وهكذا.
وقوله: { وَأَنصَحُ لَكُمْ } لأن البلاغ يقتضي أن يقول لهم منهج الله، ثم يدعو
القوم لاتباع هذا المنهج بان يرقق قلوبهم ويخاطبهم بالأسلوب الهادئ وينصحهم،
والنصح أمر خارج عن بلاغ الرسالة.
ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية. { وَأَنصَحُ لَكُمْ }.
والنصح أن توضح للإِنسان المصلحة في العمل، وتجرد نيتك مما يشوهه. وهل أنت تنصح
آخر بأن يعود نفعه عليك؟ إنك إن فعلت ذلك تكون النصيحة متهمة، وإن نصحته بأمر يعود
عليه وعليك فهذه نصيحة لك وله، ولكن حينما تقول: " نصحت لك " أي أن
النصيحة ليس فيها مسألة خاصة بك، بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط، وبذلك يتضح
الفارق بين " نصحته " و " نصحت لك ". { وَأَنصَحُ لَكُمْ
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 62]
وكأن سيدنا نوحاً يخاطب قومه: إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الآن هو كل العلم من
الله، ولا كل علم الله، ولا كل ما علمني الله، بل أنا عندي مسائل أخرى سوف أقولها
لكم إن اتقيتم الله وامتلكتم الاستعداد الإِيماني، وهنا سأعطيكم منها جرعات.
أو قوله: } وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { يعني أنه سيحدث لكم أمر
في الدنيا لم يحصل للأمم السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه الله بذنبه.
وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو إِدريس.{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ
فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ
الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ
أَغْرَقْنَا... }[العنكبوت: 40]
ولم يحدث مثل هذا العقاب من قبل نوح، وقد بين لهم نوح: أنا أعلم أن ربنا قد دبر
لكم أن من يُكّذِّبَ سيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
أو } وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { ، أي أن الله أعلمني لا على
قدر ما قلت لكم من الخير، لكنه سبحانه قد علمني أن لكل إخبار بالخير ميلاداً
وميعاداً.
ويقول سبحانه بعد ذلك: } أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ...
{
(/1005)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
{ أَوَ عَجِبْتُمْ } وكان من الممكن أن يقول: " أعجبتم " ، لكن ساعة أن
يجيء بهمزة الاستفهام ويأتي بعدها بحرف عطف. فاعرف أن هناك عطفاً على جملة؛ أي أنه
يقول: أكذَّبْتُم بي، وعجبتم من أن الله أرسل على لساني { ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ
}. والذكر ضد النسيان، وأن الشيء يكون على البال، ومرة يتجاوز البال ويجري على
اللسان.
وقد وردت معانٍ كثيرة للذكر في القرآن، وأول هذه المعاني وقمتها أن الذكر حين يطلق
يراد به القرآن:{ ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
}[آل عمران: 58]
وكذلك في قوله الحق:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9]
إذن يطلق الذِّكر ويراد به القرآن، ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أي الشهرة
الإِعلامية الواسعة. وقد قال الحق لرسوله عن القرآن:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ
وَلِقَوْمِكَ... }[الزخرف: 44]
أي أن القرآن شرف كبير لك ولأمتك وسيجعل لكم به صيتاً إلى يوم القيامة؛ لأن الناس
سترى في القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب، وسيعلمون كيف أن الكون يصدق
القرآن، إذن بفضل القرآن " العربي " ، سيظل اسم العرب ملتصقا ومرتبطا
بالقرآن، وكل شرف للقرآن ينال معه العرب شرفا جديدا.
أي أن القرآن شرف لكم. ويقول سبحانه:{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ... }[الأنبياء: 10].
أي فيه شرفكم، وفيه صيتكم، وفيه تاريخكم، ويأتي الإِسلام الذي ينسخ القوميات
والأجناس، ويجعل الناس كلها سواسية كأسنان المشط.{ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ
لِتَعَارَفُواْ... }[الحجرات: 13]
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى
".
وسيظل القرآن عربياً، وهو معجزة في لغة العرب، وبه ستظل كلمة العرب موجودة في هذه
الدنيا. إذن فشرف القوم يجيء من شرف القرآن، ومن صيت القرآن. والحق يقول:{ ص
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ }[ص: 1]
أي أن شرفه دائم أبداً. حين يأتي إلى الدنيا سبق علمي، نجد من يذهب إلى البحث عن
أصول السبق في القرآن، ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه في صفحة واحدة،
وعلى ورق فاخر قد لا يستعملونه في كتبهم. هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن
بعض المسلمين ينحرفون قليلاً عن المنهج، وقد يتناساه بعضهم، لكن في مسألة القرآن
نجد الكل يتنبه. وكما قلت من قبل: قد تجد امرأة كاشفة للوجه وتضع مصحفاً كبيراً
على صدرها، وقد تجد من لا يصلي ويركب سيارة يضع فيها المصحف، وكل هذا ذكر. وتجد
القرآن يُقرأ مرتلاً، ويُقرأ مجوداً، ومجوداً بالعشرة ثم يسجل بمسجلات يصنعها من
لا يؤمنون بالقرآن. وكل هذا ذكر وشرف كبير.
عرفنا أن " الذكر " قد ورد أولا بمعنى القرآن، وورد باسم الصيت والشرف:
ويطلق الذكر ويراد به ما نزل على جميع الرسل؛ فالحق سبحانه يقول:
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ * مَا
يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ
يَلْعَبُونَ }[الأنبياء: 1-2]
أي أن كل ما نزل على الرسل ذكر.
ويقول سبحانه:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً
وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ }[الأنبياء: 48]
إذن فالمراد بالذكر - أيضاً - كل ما نزل على الرسل من منهج الله.
ومرة يُطلق الذكر ويراد به معنى الاعتبار. والتذكير، والتذكر فيقول سبحانه:{
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ... }[المائدة: 90-91]
والمراد هنا بالذكر: الاعتبار والتذكر وأن تعيش كمسلم في منهج الله. ومرة يراد
بالذكر: التسبيح، والتحميد. انظر إلى قوله الحق سبحانه وتعالى:{ فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن
ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَـاةِ... }[النور: 36-37 {
وهو ذكر لأن هناك من يسبح له فيها بالغدو والآصال وهم رجال موصوفون بأنهم لا
تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وقد يُطلق الذكر ويراد منه خير الله على عبادة ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له
بالطاعة؛ فسبحانه يذكرهم بالخير وهم يذكرونه بالطاعة. اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه
وتعالى:{ ...وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[النحل: 90]
وفي آية أخرى:{ ...إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }[العنكبوت: 45]
وما دام قد قال جل وعلا: } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ { أي ذكر الله لهم بالنعم
والخيرات، فذكره فضل وإحسان وهو الكبير المتعال. فهناك إذن ذكر ثان، ذكر أقل منه،
وهو العبادة لربهم بالطاعة، هنا يقول الحق: } أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ
ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىا رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ
وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ { [الاعراف: 63]
ما وجه العجب هنا؟ نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شيء علي
غير ما تقتضيه مواقع الأمور ومقدماتها، إذن تظهر الدهشة ونتساءل كيف حدث هذا؟ ولو
كان الأمر طبيعياً ورتيباً لما حدثت تلك الدهشة وذلك العجب.
وعجبتم لماذا؟ اقرأ - إذن - قول الحق سبحانه وتعالى:{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ *
بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ... }[ق: 1-2]
موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم؛ فمن أي جنس كانوا يريدون الرسول؟
كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكاً.{ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ
مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـاذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ }[ق: 2]
وجاء العجب أيضاً في البعث. فتساءل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا في الأرض وصرنا
تراباً بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية؟!
إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر لا تدعو إليه المقدمات أو من أمر يخالف
المقدمات.
العجب عندهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لأن نوحاً عليه السلام يريد منهم
أن يبحثوا في الإِيمان بوجود إِله. وكان المنطق يقتضي أنه إذا رأوا شيئاً هندسته
بديعة، وحكيمة، وطرأ عليها هذا المخلوق وهو الإِنسان ليجد الكون منسقاً موجوداً من
قبله، كان المنطق أن يبحث هذا الإِنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلحّ في أن يعرف مَن
صنع الكون، وحين يأتي الرسول ليقول لكم من صنع هذا الكون، تتعجبون؟!
كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقة؛ لأن الكون وأجناسه من النبات
والجماد والحيوان في خدمتك أيها الإنسان. لا بقوتك خلقت هذا الكون ولا تلك
الأجناس، بل أنت طارئ على الكون والأجناس، ألم يدر بخلدك أن تتساءل من صنع لك ذلك؟
إذن فالكلام عن الإِيمان كان يجب أن يكون عمل العقل، وقلت قديماً: هب أن إنساناً
وقعت به طائرة في مكان، وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شيء أبداً، ثم جاع،
ولم يجد طعاماً، وقهره التعب، فنام، ثم أفاق من هذه الإِغفاءة؛ وفوجئ بمائدة أمامه
عليها أطايب الطعام والشراب وهو لا يعرف أحداً في المكان، بالله قبل أن يأكل ألا
يتساءل عمن أحضرها؟!! كان الواجب يقتضي ذلك.
إذن أنتم تتعجبون من شيء تقتضي الفطرة أن نبحث عنه، وأن نؤمن به وهو الإِله الذي
لا ينتفع بطاعاتنا أو بعبادتنا، ولا تعود عليه العبادة بشيء، بل تعود علينا،
والعبادة فيها مشقات لأنها تلجم الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصي والمحرمات، ولكن
يُقابِل ذلك الثوابُ في الآخرة.
وهناك من قال: ولماذا لا يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف؟ مادام لا يستفيد. إنّ
العقل كاف ليدلنا - دون منهج - إلى ما هو حسن فنفعله، وما نراه سيئاً فلا نفعله،
والذي لا نعرفه أهو حسن أم سيىء. ونضطر له نفعله، وإن لم نكن في حاجة له لا نفعله.
ونقول لها القائل: لكن من الذي أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى الأمر الحسن، هل
حسّن لك وحدك أم لك وللآخرين؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك
لأنك لست وحدك في الكون. ولنفترض أن هناك قطعة قماش واحدة، الحسن عندك أن تأخذها،
والحسن عند غيرك أن يأخذها. لكن الحُسْن الحقيقي أن يفصل في مسألة ملكية هذه
القطعة من القماش مَن يعدل بينك وبين غيرك دون هوى. وألاّ يكون واحد أولى عنده من
الآخر. إذن لابد أن يوجد إله يعصمنا من أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من
السيء؛ لأن الحسن بالمنطق البشري ستصدم فيها أهواؤنا.
ومثال آخر: افرض أننا دخلنا مدينة ما، ورأينا مسكنا جميلا فاخرا وكل منا يريد أن
يسكن فيه وكل واحد يريد أن يأخذه؛ لأن ذلك هو الحسن بالنسبة له، لكن ليس كذلك بالنسبة
لغيره، إذن فالحسن عندك قد يكون قبيحاً عند الغير.
فالحسن عند بعض الرجال إذا رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها، لكن هل هذا حسن
عند أهلها أو أبيها أو زوجها؟ لا.
إنّ الذي تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه هو الأمر الطبيعي الفطري الذي
تستلزمه المقدمات. فقد جاءكم البلاغ على لسان رجل منكم. ولماذا لم يقل الحق: لسان
رجل؟ إننا نعلم أن هناك آية ثانية يقول فيها الحق:{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا
وَعَدتَّنَا عَلَىا رُسُلِكَ... }[آل عمران: 194]
كأنه يقول لهم: إن الوعد الذي وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذي نزل على
الرسل. ومهمة الرسل صعبة؛ فليست مقصورة على التبليغ باللسان لأن مشقاتها كلها على
كاهل كل رسول، ولا تظنوا أن ربنا حين اختار رسولاً قد اختاره ليدلـله على رقاب
الناس، لا. لقد اختاره وهو يعلم أن المهمة صعبة، والرسول صلى الله عليه وسلم - كما
تعلمون - لم يشبع من خبز شعير قط، وأولاده وأهله - على سبيل المثال - لا يأخذون من
الزكاة، والرسل لا تورث فجميع ما تركوه صدقة، وكل تبعات الدعوة على الرسول، وهذه
هي الفائدة في أنه لم يقل على لسان رسول، لأن الأمر لو كان على لسان الرسول فقط
لأعطى البلاغ فقط، إنما " على رجل منكم " تعطي البلاغ ومسئولية البلاغ
على هذا الرجل. } أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىا
رَجُلٍ مِّنْكُمْ... { [الأعراف: 63]
ما هو العجب؟ لقد كان العجب أن تردوا الألوهية والنبوة.
وبعضهم لم يرد الألوهية ورد فكرة النبوة على الإِنسان. وطالب أن يكون الرسول من
الملائكة؛ لأن الملائكة لم تعص ولها هيبة ولا يُعرف عنها الكذب, لكن كيف يصبح
الرسول ملكاً؟ وهل أنت ترى الملك؟ إن البلاغ عن الله يقتضي المواجهة، ولابد أن
يراه القوم ويكلموه، والملك أنت لن تراه. إذن فلسوف يتشكل على هيئة رجل كما تشكل
جبريل بهيئة رجل. إذن أنتم تستعجبون من شيء كان المنطق يقتضي ألاّ يكون.{ وَمَا
مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94]
وقولهم هذا في قمة الغباء. فقد كان عليهم أن يتهافتوا ويقبلوا على الإِيمان؛ لأن
الرسول منهم. وقد عرفوا ماضيه من قبل، وكذلك أنسوا به، ولو كانت له انحرافات قبل
أن يكون رسولاً لخزي واستحيا أن يقول لهم: استقيموا. وما دام هو منكم وتعرفون
تاريخه وسلوكه حين دعاكم للاستقامة كان من الواجب أن تقولوا لأنفسكم: إنه لم يكذب
في أمور الدنيا فكيف في أمور الآخرة، ولم يسبق له أن كذب على خلق الله فكيف يكذب
على الله؟ ولأنه منكم فلابد أن يكون إنساناً ولذلك قال الحق:
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم
مَّا يَلْبِسُونَ }[الأنعام: 9]
وهنا في الآية التي نحن بصددها يقول الحق: } عَلَىا رَجُلٍ مِّنْكُمْ
لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {.
إذن فمهمته أن ينذر، والأنذار لقصد التقوى، والتقوى غايتها الرحمة، وبذلك نجد هنا
مراحل: الإنذار وهو إخبار بما يسؤوك ولم يأت زمنه بعد وذلك لتستعد له، وتكف لأنه
سيتبعك ويضايقك. والبشارة ضد الإنذار، لأنها تخبر بشيء سار زمنه لم يأت، وفائدة
ذلك أن يجند الإنسان كل قوته ليستقبل الخير القادم. وأن يبتعد عن الشيء المخيف.
وهكذا يكون التبشير والإنذار لتتقي الشرور وتأخذ الخير، وبذلك يحيا الإنسان في
التقوى التي تؤدي إلى الرحمة.
إذن فمواطن تعجبهم من أن يجيئهم رسول مردودة؛ لأن مواطن التعجب هذه كان يجب أن يلح
عليها فطرياً، وأن تنعطف النفس إليها لا أن يتعجب أحد لأنها جاءت، فقد جاءت
الرسالة موافقة للمقدمات، وقد جاء الرسول ولم يأت ملكاً ليكون قدوة.
وكذلك لم يرسله الله من أهل الجاه من الأعيان ومن صاحب الأتباع؛ حتى لا يقال إن
الرسالة قد انتشرت بقهر العزوة، إن الأتباع كانوا موافقين على الباطل بتسلط
الكبراء والسادة، فمخافة أن يقال: إن كل تشريع من الله آزره المبطلون بأتباعهم
جاءت الدعوة على أيدي الذين ليس لهم أتباع ولا هم من أصحاب الجاه والسلطان. ولقد
تمنى أهل الشرك ذلك ويقول القرآن على لسانهم:{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا
الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31]
ولقد كان تمنيهم أن ينزل القرآن على رجل عظيم بمعاييرهم، وهذه شهادة منهم بان
القرآن في ذاته منهج ومعجزة. ولم يتساءلوا: وهل القرآن يشرف بمحمد أو محمد هو الذي
يشرف بالقرآن؟ إن محمداً يشرف بالقرآن؛ لذلك يقول الحق:{ مَا نَرَاكَ إِلاَّ
بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِيَ الرَّأْيِ... }[هود: 27]
وهذه هي العظمة؛ لأن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من الذين يفرض عليهم
الواقع أن يحافظوا على جاههم ويعملوا بسطوتهم وبطشهم وبقوتهم، ويفرضوا الدين بقوة
سلطانهم، لا، بل يمر على أتباع رسول الله فترة ضعاف مضطهدون، ويؤذوْن ويهاجرون،
فالمهمة في البلاغ عن الله تأتي لينذر الرسول، ويتقى الأتباع لتنالهم الرحمة نتيجة
التقوى، والتقوى جاءت نتيجة الإنذار.
ويقول الحق بعد ذلك: } فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ... {
(/1006)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
وهنا يتكلم الحق عن حكاية الإنجاء، ونعلم المقدمة الطويلة التي سبقت إعداد سيدنا
نوح عليه السلام للرسالة، فقد أراد الله أن يتعلم النجارة، وأن يصنع السفينة.{
وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ... }[هود: 38]
ولم يجيءالحق هنا بسيرة الطوفان التي قال فيها في موضع آخر من القرآن:{
فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ }[القمر: 11]
وجاء الحق هنا بالنتيجة وهي أنهم كذبوه. { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ
مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ... }
[الأعراف: 64]
وكانت هذه أول حدث عقابي في تاريخ الديانات؛ لأن رسالة نوح عليه السلام هي أول
رسالة تعرضت إلى مثل هذا التكذيب ومثل هذا العناد, وكان الرسل السابقون لنوح عليهم
البلاغ فقط، ولم يكن عليهم أن يدخلوا في حرب أو صراع، والسماء هي التي تؤدب،
فحينما علم الحق سبحانه وتعالى أنه بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم ستبلغ
الإِنسانية رشدها صار أتباع محمد مأمونين على أن يؤدبوا الكافرين.
وفي تكذيب نوح عليه السلام يأتينا الحق هنا بالنتيجة.
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ } ولم يقل الحق: كيف أنجاه ولم يأت بسيرة
الفلك، بل أخبر بمصير من كذبوه، ويأتي بالعقاب من جنس الطوفان. {...وَأَغْرَقْنَا
الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } [الأعراف:
64]
هناك " أعمى " لمن ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما، وهناك أيضا عَمِه
وأَعْمَهُ، والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر.. أي ذهبت بصيرته ولم يهتد إلى
خير.
ثم انتقل الحق إلى رسول آخر. ليعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة فيه
أيضاً. فبعد أن جاء بنوح يأتي بهود.
(/1007)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
وساعة ما تسمع: { وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } أي أرسلنا إلى عاد أخاهم
هوداً، و " أخاهم " موقعها الإِعرابي " مفعول به " ويدلنا على
ذلك قوله في الآية السابقة: { أَرْسَلْنَا نُوحاً } ، وكذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم
هودا. وكلمة " أخاهم " تُشْعرُ بأشياء كثيرة؛ إنه من جنسهم، ولغته
لغتهم، وأنسهم به، ويعرفون كل شيء وكل تاريخ عنه، وكل ذلك إشارات تعطى الأنس
بالرسول؛ فلم يأت لهم برسول أجنبي عاش بعيداً عنهم حتى لا يقولوا: لقد جاء ليصنع
لنفسه سيادة علينا, بل جاء لهم بواحد منهم وأرسل إليهم " أخاهم " وهذا
الكلام عن " هود ".
إذن كان هود من قوم عاد، ولكن هناك رأي يقول: إن هودا لم يكن من قوم عاد، ولأنَّ
الأخوة نوعان: أخوَّة في الأب القريب، أو أخوّة في الأب البعيد، أي من جنسكم، من
آدم؛ فهو إما أخ من الأب القريب، وإمّا أخ من الأب البعيد. وقد قلنا من قبل: إن
سيدنا معاوية كان يجلس ثم دخل عليه الحاجب فقال: يا أمير المؤمنين، رجل بالباب
يقول إنه أخوك، فتساءلت ملامح معاوية وتعجب وكأنه يقول لحاجبه: ألا تعرف إخوة أمير
المؤمنين؟ وقال له: أدخله، فأدخله. قال معاوية للرجل: أي إخوتي أنت؟!
قال له: أخوك من آدم.
فقال معاوية: رحم مقطوعة - أي أن الناس لا تتنبه إلى هذه الأخوة - والله لأكونن
أول من وصلها. { وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [الأعراف: 65]
ونلحظ أن الحق قال على لسان سيدنا نوح لقومه:{ ...فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ }[الأعراف: 59]
وأرسل الحق هوداً إلى عاد، لكن قول هود لقوم عاد يأتي: { قَالَ يَاقَوْمِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }.
وهنا " قال " فقط من غير الفاء؛ وجاء في قول نوح: " فقال ".
وهذه دقة في الأداء لننتبه؛ لأن الذي يتكلم إله ورب، فتأتي مرة بـ " فاء
" وتأتي مرة بغير " فاء " رغم أن السياق واحد، والمعنى واحد
والرسول رسول، والجماعة هم قوم الرسول. ونعلم أن " الفاء " تقتضي
التعقيب، وتفيد الإِلحاح عليهم، وهذا توضحه سورة نوح؛ لأن الحق يقول فيها:{ قَالَ
رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي
إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ
وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي
أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ
رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً }
[نوح: 5-10]
إذن فالفاء مناسبة هنا، لكن في مسألة قوم هود نجد أن سيدنا هوداً قال لهم مرة أو
اثنتين أو ثلاث مرات، لكن بلا استمرار وإلحاح، وهذا يوضح لنا أن إلحاح نوح على
قومه يقتضي أن يأتي في سياق الحديث عنه بـ: " فقال " وألا تأتي في
الحديث عن دعوة سيدنا هود. وقد يتعجب الإِنسان لأن مدة هود مع عاد لا تساوي مدة
نوح مع قومه، وقد جاء الإِيضاح بزمن رسالة سيدنا نوح في قوله الحق:{ فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً... }[العنكبوت: 14]
ظل سيدنا نوح قُرابة ألف سنة يدعو قومه ليلاً ونهاراً سرًّا وعلانية، لكنهم كانوا
يفرون من الإِيمان، لذلك يأتي الحق في أمر دعوة نوح بالفاء التي تدل على المتابعة.
أما قوم عاد فلم يأت لهم " بالفاء ". بل جاء بـ " قال ": }
وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ... { [الأعراف: 65]
وقال نوح من قبل:{ ...يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ
غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }[الأعراف: 59]
وفي مسألة قوم عاد قال: } يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ
غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ {.
ومع أن الأسلوب واحد والمعاني واحدة، وكان ذلك يقتضي الإِنذار، لكن لم يقل الحق
ذلك؛ لأن نوحاً عنده علم بالعذاب الذي سوف ينزل؛ لأنها كانت أول تجربة، لكن سيدنا
هود لم يكن عنده علم بالعذاب.
العملية التي حدثت لنوح مع قومه وإهلاكهم بالغرق كانت أولية بالنسبة له؛ فالله سبق
أن أعلمه بها، وحين ذهب هود إلى قوم عاد كانت هناك سابقة أمامه، وأخذ ربنا
المكذبين لنوح بالعذاب، لذلك ألمح سيدنا هود فقط إلى احتمال العذاب حين قال: }
أَفَلاَ تَتَّقُونَ {.
أي أن العذاب قد ينتظركم وينالكم مثل قوم نوح.
ويقول الحق بعد ذلك: } قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ... {
(/1008)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
في هذه الآية جاء قوله: { الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، وفي قصة نوح قال سبحانه: {
قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ } ولم يأت فيها بالذين كفروا، لأن قوم نوح لم يكن
فيهم من آمن وكتم إيمانه وأخفاه، بخلاف عاد قوم هود فإنه كان فيهم رجل اسمه مرثد
بن سعد آمن وكتم وستر إيمانه، فيكون قوله تعالى في شأنهم: { الَّذِينَ كَفَرُواْ }
قد جاء مناسبا للمقام، لأن فيهم مؤمنا لم يقل ما قولوا من رميهم لسيدنا هود
بالسفاهة حيث قالوا ما حكاه الله عنهم بقوله: {...إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ
وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [الأعراف: 66]
أما قوم نوح فقد قالوا:{ ...إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[الأعراف: 60]
فقال لهم نوح عليه السلام:{ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ... }[الأعراف:
61]
ما الفرق بين الضلال والسفاهة؟
الضلال هو مجابنة حق، والسفاهة طيش وخفة وسخافة عقل، وأضافت عاد اتهاماً آخر
لسيدنا هود: { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }.
والظن رجحان الأمر بدون يقين، فهناك راجح، ومرجوح، أو أن الظن هنا هو التيقن. على
حد قوله سبحانه:{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ...
}[البقرة: 46]
أي يتيقنون، وجاء بالرد من سيدنا هود: { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ...
}
(/1009)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
وفي هذا القول نفي للاتهام بالسفاهة، وإبلاغ لهم بأنه مبلّغ عن الله بمنهج تؤديه
الآية التالية وهي قوله الحق: { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ... }
(/1010)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
وسبق أن قال سبحانه على لسان نوح:{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ...
}[الأعراف: 62]
فلماذا قال في قوم نوح: { أَنصَحُ لَكُمْ } ، وقال هنا في عاد: { وَأَنَاْ لَكُمْ
نَاصِحٌ أَمِينٌ }؟
لقد قال الحق: { أَنصَحُ لَكُمْ } في قوم نوح لأن الفعل دائماً يدل على التجدد،
بينما يدل الاسم على الثبوت. ونظراً إلى أن نوحاً عليه السلام كان يلحّ على قومه
ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وسرًّا، لذلك جاء الحق بالفعل: { أَنصَحُ لَكُمْ } ليفيد
التجدد، ولكن في حالة قوم هود جاء سبحانه بما يفيد الثبوت وهو قوله: { نَاصِحٌ
أَمِينٌ }؛ لأن هوداً عليه السلام لم يلح ويكرر على قومه في دعوتهم إلى الإِيمان كما
كان يفعل نوح عليه السلام.
ويقول الحق على لسان سيدنا هود: { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ... }
(/1011)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
جاء الحق هنا بالذكر للإِنذار فقال: { لِيُنذِرَكُمْ } فقط، وليس كما قال في قوم
نوح: { وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لأن الإِنذار لم يأت لمجرد الإِنذار،
بل لنرتدع ونتقي، لِكي نُرحم، إذن فحين يأتي بأول الحلقة وأول الخيط وهو الإِنذار
فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة: { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ }.
وهذا كلام جديد؛ لأن قوم نوح هم أول قوم عُذّبوا حين لم يؤمنوا، وجاء سيدنا هود
إلى عاد بعد ذلك، يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه: {...وَاذكُرُواْ
إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ
بَصْطَةً فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف: 69]
ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجساماً فارعة فيها بسطة وطول، ويقال: إن
الطويل منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع، والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعاً،
ويأمرهم سيدنا هود أن يذكروا آلاء الله، أي نعمه عليهم، وأول النعم أن أرسل إليهم
رسولاً يأخذ بأيديهم إلى مناطق الخير.
فماذا كان ردهم؟
يقول الحق: { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ... }
(/1012)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
كان المنطق أن يعبدوا الله وحده لا أن يعبدوا الشركاء الذين لا ينفعوهم ولا
يضرونهم، ولا يسمعونهم. بل إن الواحد منهم كان يرى الهواء يهب على الصنم، فيميل
الصنم ويقع على الأرض وتنكسر رقبته، فيذهب إلى الحداد ليعيد تركيب رأس جديد للصنم،
فكيف يعبد مثل هذا الصنم؟ لكنهم قالوا لهود: نحن نقلد آباءنا ولا يمكن أن نترك ما
كان يعبد آباؤنا لأننا على آثارهم نسير. وإن كان إلهك ينذرنا بعذاب فأتنا به إن
كنت من الصادقين. وهكذا وضح أنه لا أمل في اقتناعهم بالدعوة إلى الإِيمان.
فماذا يقول الحق بعد ذلك؟
يجيء القول الفصل على لسان سيدنا هود: { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن
رَّبِّكُمْ... }
(/1013)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
لقد كان يكلمهم ويكلمونه، قالوا له: ائتنا بالعذاب، فقال لهم: { قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } ، فكيف يقول وقع؟ لقد قال ذلك لأنه
يخبر عن الله. و " وقع " فعل ماض، لكنا نعلم أن كلام الله مجرد عن
الزمان ماضياً كان أو حاضرا، أو مستقبلا، لقد قال سيدنا هود: " وقع "
والعذاب لم يقع بعد، لكن لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب
حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر لما كان قوله بلاغاً عن الله فإنّه يؤكد وقوع العذاب
حتماً؛ لأن الذي أخبر به قادر على إنقاذه في أي وقت، ولا إله آخر ولا قوة أخرى
قادرة على أن تمنع ذلك. والذي وقع عليهم هو الرجس، والرجس أي التقذير، ضد التزكية
والتطهير. وغضب الله الواقع لم تحدده هذه الآية. لكن لا بد أن له شكلاً سيقع به.
ويسائلهم هو ساخراً: { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ
وَآبَآؤكُمُ } ، وكل اسم يكون له مسمى، وهذه الأسماء أنتم أطلقتموها على هذه
الآلهة، هل لها مسميات حقيقة لِتُعبد؟. لا، بل أنتم خلعتم على ما ليس بإله أنه
إله، وهذه أسماء بلا مسميات، وأنتم في حقيقة الأمر مقلدون لآبائكم. وما تعبدونه
أسماء بلا سلطان من الإِله الحق. { مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ }
[الأعراف: 71]
أي ليس لهذه الأسماء من حجة على ما تقولون، بدليل أنهم كانوا يسمون في الجاهلية
إلهاً باسم " العزّى " وعندما يكسرونه لا يجدون عزاً ولا شيئاً؛ لأن هذا
الإِله المزعوم لم يدفع عن نفسه، فكيف يكون إلهاً وقيّوما على غيره؟ وكذلك سموا
" اللات " أي الله ومضاف له التاء، وعندما يكسرونه لا يجدون له قوة أو
جبروتاً أو طغياناً.
ويقول هود لقومه ما يؤكد وقوع العذاب: {...فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ
الْمُنْتَظِرِينَ } [الأعراف: 71]
وقوله: { فَانْتَظِرُواْ } ، جعلنا نفهم قوله السابق: { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ
مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } بأن الرجس والغضب قادمان لا محالة. صحيح أنه
عبر عن ذلك بالفعل الماضي، ولكن لنقرأ قوله الحق:{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ
تَسْتَعْجِلُوهُ... }[النحل: 1]
و " أتي " فعل ماضٍ، وفي الظاهر أنه يناقض قوله: { فَلاَ
تَسْتَعْجِلُوهُ } لأن الاستعجال يدل على أنّ الحدث لم يأت زمنه بعد. ولكن لنا أن
نعلم أن الذي أخبر هو الله، ولا توجد قوة ثانية تغير مرادات الله أن تكون أو لا
تكون.
يقول الحق بعد ذلك: { فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ... }
(/1014)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
ونلحظ أن الحق قد بين وسيلة نجاة سيدنا نوح: { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ
}.
أما هنا في مسألة عاد فلم يوضح لنا وسيلة النجاة، بل قال سبحانه: { فَأَنجَيْنَاهُ
وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 72]
وقوله: { فَأَنجَيْنَاهُ } تدل على أن عذاباً عاماً وقع، إلا أن ربنا أوحى لسيدنا
هود أن يذهب بعيداً عن المكان هو والذين معه قبل أن يقع هذا العذاب. وكان العرب
قديماً إذا حزبهم أمر، أو دعتهم ضرورة إلى شيء خرج عن أسبابهم يذهبون إلى بيت
الله؛ ليضرعوا إلى الله أن يخلصهم منه، حتى الكفرة منهم كانوا يفعلون ذلك. كما حدث
من عاد حين أرسل الله إليهم سيدنا هودا نبيًّا فكذبوه وازدادوا عتوًّا وتجبراً
فأصابهم جدب وظل ثلاث سنوات فما كان منهم ألا أن فزعوا إلى الكعبة لكي يدعوا ربهم
أن يخفف عنهم العذاب، وذهب واحد منهم اسمه " قيل بن عنز " ، وآخر اسمه
" مرثد بن سعد " الذي كان يكتم إسلامه على رأس جماعة منهم إلى مكة، وكان
لهم بها أخوال من المعاليق؛ من أولاد عمليق بن لاوث بن سام بن نوح، وكانوا هم
الذين يحكمون مكة في هذا الوقت، وعلى رأسهم واحد اسمه " معاوية بن بكر "
، فنزلوا عنده، وأكرم وفادتهم على طريقة العرب، واستضافهم ضيافة ملوك وأمراء، وجاء
لهم بالقيان والأكل والشراب، فاستمرأوا الأمر، وظلوا شهراً، فقال معاوية بن بكر:
لقد جاءوا لينقذوا قومهم من الجدب وما فكروا أن يذهبوا إلى الكعبة، ولا فكروا في
أن يدعوا ربنا وأخاف أن أقول لهم ذلك فيقولوا إنه ضاق بنا. وتكون سبّة فيّ. وأخذ
يفكر في الأمر. وكان عنده مغنيتان اسمهما " الجرادتان ". فقالت
المغنيتان: قل في ذلك شعراً، ونحن نغنيه لهم، فقال معاوية:ألا يا قيل ويحك قم
فهينم لعل الله يمطرنا غماماًفيسقى أرض عاد إن عادا قد أمسوا لا يبينون
الكلامافلما غنتا، والغناء فيه ترديد وخصوصاً إذا كان غناءً موجهاً " ألا يا
قيل ويحك قم فهينم " وهينم: أي ادعوا الله، ألم تحضر من أجل الدعاء لعل الله
يمطرنا الغمام على أرض عاد، وينتهي الجدب، وقد بلغ منهم الجهد أنهم لا يبينون
الكلام، فتنبه القيل، وتنبه مرثد بن سعد، وكان قد نمى إلى علم " القيل "
أن مرثد بن سعد مؤمن بهود عليه السلام، فرفض أن يصحبه معه، وبالفعل ذهب قيل وأخذ
يدعو الله، فسمع هاتفاً يقول له: " اختر قومك " وقد رأى سحابة سوداء
وسحابة حمراء وسحابة بيضاء، ونبهه الهاتف أن يختار سحابة تذهب لقومه من بين
الثلاثة، فاختار السحابة السوداء، لأنها أكثر السحاب ماء، وهو على قدر اجتهاده
اختار السحابة السوداء، وعادوا لبلادهم ليجدوا السحابة السوداء فقال لهم: أنا
اخترت السحابة لأنها توحى بماء كثير منهمر، وقال الحق في هذا الأمر:
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـاذَا
عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا... }[الأحقاف: 24]
أي أن هذه هي السحابة التي قال عليها: " قيل " سوف تعطينا المطر.
فيرد الحق عليهم ويقول لهم:{ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ
يُرَىا إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ... }[الأحقاف: 24-25]
إذن فقولهم السابق لسيدنا هود الذي أورده الحق هنا في سورة الأعراف:{ ...فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }[ الأعراف: 70]
أي أن عذابهم يتأكد بالمطر والريح الذي جاء به قول سيدنا هود هنا في سورة الأعراف:
} قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ {.
ولم يفلت من العذاب إلا من آمن مصداقاً لقوله الحق: } فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ { [الأعراف: 72]
لقد يسّر الحق الانقاذ لسيدنا هود ومن آمن معه ليهجروا المكان لحظة ظهور السحاب،
فقد سمع هود هاتفاً يؤكد له أن في هذا السحاب العذاب الشديد، فأخذ الجماعة الذين
آمنوا معه وهرب إلى مكة، وتم إهلاك الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسولهم ورفضهم
الإِيمان بربهم.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَإِلَىا ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً... {
(/1015)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
لقد قال سيدنا صالح لثمود مثلما قال سيدنا هود لعاد، وحمل لهم الإِنذار ليتقوا
فيرحموا، قال سيدنا صالح: { يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ
إِلَـاهٍ غَيْرُهُ }.
إذن فالإِنذار للتقوى وللوصول إلى الرحمة والفلاح، ولذلك أقول دائماً: إن القرآن
حينما يتعرض لأمر قد لا يأتي به مفصلا ولكن سياقه يوحي بالمراد منه، ولا يكرر وذلك
ليربي فينا ملكة الاستيقاظ إلى استقبال المعاني. والمثال على ذلك في قصة الهدهد مع
سيدنا سليمان، يقول القرآن على لسان سيدنا سليمان:{ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ
مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ }[النمل: 20]
ويهدد سيدنا سليمان الهدهد قائلاً:{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ
لأَذْبَحَنَّهُ... }[النمل: 21]
ثم جاء الهدهد ليقول:{ ...وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ }[النمل: 22]
ثم أرسل سيدنا سليمان الهدهد إلى قوم سبأ قائلاً:{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا
فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
}[النمل: 28]
وبعد هذه الآية مباشرة قال القرآن:{ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ
إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل: 29]
وكأن الهدهد قد ذهب بالكتاب، ورماه إلى ملكة سبأ، وقالت هي الرد مباشرة. إذن لم
يكرر القرآن ما حدث، بل جعل بعضاً من الأحداث متروكاً للفهم من السياق.
وكذلك هنا في قوله الحق: { وَإِلَىا ثَمُودَ أَخَاهُمْ... } [الأعراف: 73]
وكلمة " أخاهم " هنا تؤكد أن سيدنا صالحاً كان مأنوساً به عند ثمود،
ومعروف التاريخ لديهم، سوابقه في القيم والأخلاق معروفة لهم تماماً وأضيفت ثمود له
لأنه أخوهم. وقد جاءت دعوته مطابقة لدعوة نوح وهود. {...قَالَ يَاقَوْمِ
اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا
تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } [الأعراف: 73]
والبنية هي الدليل على الصدق في البلاغ عن الله، وهي الناقة. فما قصة الناقة؟ هل
خرج لهم بناقة ونسب ملكيتها لله؟ بطبيعة الحال، لا، بل لا بد أن تكون لها قصة بحيث
يعلمون أن هذه الناقة ليست لأحد من البشر. وحين قام سيدنا صالح بدعوته، تحداه
السادة من قومه، وقالوا: نقف نحن وأنت، نستنجد نحن بآلهتنا، وأنت تستنجد بإلهك،
وإن غلبت آلهتنا تتبعنا، وإن غلب إلهك نتبعك، وجلسوا يدعون آلهتهم، فلم يحدث شيء
من تلك الآلهة، وهنا قالوا لسيدنا صالح: إن كنت صادقاً في دعوتك، هذه الصخرة
منفردة أمامك في الجبل اسمها " الكاثبة " فليخرج ربك لنا من هذه الصخرة
ناقة هي عشراء كالبخت - أحسن أنواع الإِبل - فدعا الله سبحانه وتعالى، وانشقت
الصخرة عن الناقة، وخروج الناقة من الصخرة لا يدع مجالاً للشك في أنها آية من الله
ظهرت أمامهم. إنها البينة الواضحة. لقد انشقت الصخرة عن الناقة ووجدوها ناقة
عشراء، وَبْرَاء - أي كثيرة الوَبَر - يتحرك جنينها بين جنبيها ثم أخذها المخاض
فولدت فصيلاً، وهكذا تتأكد الإِلهية دون أن يجرؤ أحد على التشكيك فيها، وهي ناقة
من الله وهو القائل:
{ ...نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا }[الشمس: 13]
وأوضح لهم سيدنا صالح أنها ناقة الله، وترونها رؤية مشهدية وهذه الناقة لها يوم في
الماء لتشرب منه، ويوم تشربون أنتم فيه. وكان الماء قليلاً عندهم في الآبار.{
...لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ }[الشعراء: 155]
أي لابد من تخصيص يوم لتشرب فيه هذه الناقة، ولكم أنتم وإبلكم وحيواناتكم يوم آخر،
وكان من عجائب هذه الناقة أن تقف على العين وتشرب فلا تدع فيها ماءً، وهي كمية من
المياه كانت تكفي كل الإِبل. وبعد ذلك تتحول كل المياه التي شربتها في ضرعها
لبناً، فيأخذون هذا اللبن.
صحيح أن الناقة منعتهم المياه لكنهم أخذوا منها اللبن الذي يطعمونه، ولأنها ناقة
الله كان لابد أن تأخذ هيكلاً وحجماً يناسبها وكمية من الطعام والشراب مناسبة
لتقيم بها حياتها، وكمية إدرار اللبن مناسبة لشربها وطعامها وحجمها، فمادامت
منسوبة لله فلابد أن فيها مواصفات إعجازية، وكان الفصيل الذي ولدته معها، وكان إذا
ما جاء الحر في الصيف تسكن الناقة في المشارف العالية، وبقية النوق تنزل في الأرض
الوطيئة، وحين يأتي الشتاء تنزل إلى المناطق المنخفضة.
والمعروف أن مدائن صالح كانت منطقة شديدة الحرارة، ويمكن لمن يزور المدينة أو
" تبوك " أن يمر عليها.
كانت الناقة حرة في اختيار المكان الذي تعيش فيه صيفاً أو شتاءً فلا أحد بقادر أن
يمسها بسوء. وكانت هناك امرأتان لهما نياق. وناقة الله تغلب نياق المرأتين في
المراعي والماء. فأحضرت المرأتان رجلاً يطلق عليه: " أُحَيْمر ثمود: واسمه
قُدار بن سالف " ليقتلها، فقتل الناقة، فلما قتلت الناقة، طلع ابنها الفصيل
على جبل يسمى " قارة " وخار ثلاثة أصوات، فنادى سيدنا صالح: يا قوم
أدركوا هذا الفصيل، لعل الله بسبب إدراككم له يرفع عنكم العذاب، فراحوا يتلمسونه
فلم يجدوه وأعلم الله صالحاً النبي أن العذاب قادم، ففي اليوم الأول تكون وجوههم
مصفرة، وفي اليوم الثاني تكون محمرة، وفي اليوم الثالث تكون مسودّة، فقد كانت
الناقة هي ناقة الله المنسوبة له سبحانه، وقد تأكدوا بالأمر المشهدي من ذلك، وكان
من الواجب عليهم ساعة أن وجدوا الآية الكونية المشهودة أن يأخذوا منها العبرة،
وأنها مقدمة للشيء الموعود به. لكنَّ الغباء أنساهم أنها ناقة الله. }...هَـاذِهِ
نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ
تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { [الأعراف: 73]
وبالفعل حدث العذاب بعد أن قتل أحميرثمود الناقة.
ويقول الحق بعد ذلك: } وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ... {
(/1016)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
ومن قبل قال الحق لقبيلة عاد:{ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ
قَوْمِ نُوحٍ... }[الأعراف: 69]
وهنا قال الحق: { وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ }.
لأن عاداً هم الخلفاء الأقرباء منهم، وقصتهم مازالت معروفة ومعالمها واضحة، أما
قصة نوح فهي بالتأكيد أقدم قليلاً من قصة عاد.
ويذكرهم الحق أيضاً أنه جعل في الأرض منازل يسكنونها، فاتخذوا من سهولها قصوراً،
والسهل هو المكان المنبسط الذي لا توجد به تلال أو صخور أو جبال، وكانوا ينحتون من
الجبال بيوتاً، وكان عمر الإِنسان منهم يطول لدرجة أن البيت ينهدم مرتين في العمر
الواحد للإِنسان. ولذلك قرروا أن يتخذوا من الجبال بيوتاً لتظل آمنة، وحين يرى
الإِنسان مدائن صالح منحوتة في الجبل فهي فرصة لأن يتأمل عظمة الحق في تنبيه الخلق
إلى ما يفيدهم وهي بالفعل من نعم الله، ويقول سبحانه: {...فَاذْكُرُواْ آلآءَ
اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [الأعراف: 74]
وآلاء الله - كما عرفنا - هي نعمه التي لا تحصى، وينبههم إلى عدم نشر الفساد في
الأرض.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ... }
(/1017)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
ونعرف أن هناك سادة، وهناك أتباعاً. ومن قبل قال الحق:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ... }[البقرة: 166]
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حوار بين السادة وبين المستضعفين الذين
لا جاه لهم لا جبروت يُحافظ عليه، ورأوا دعوة الإِيمان ووجدوا فيها النفع لهم
فأقبلوا عليها، أما الملأ وهم السادة الأشراف الأعيان الذين يملأون العين هيبة،
والقلوب مهابة فقد قالوا لمن آمن من المستضعفين - لأن هناك مستضعفين ظلوا على
ولائهم للكفر - قال هؤلاء الملأ من المستكبرين لمن آمن من المستضعفين:
{...أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ
أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [الأعراف: 75]
وعندما سمع المستكبرون قول المؤمنين من المستضعفين. فماذا قال الملأ المستكبرون؟
يقول الحق: { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ... }
============
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق