20.
تفسير الشعراوي 20. |
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
----------
يُسلِّي الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويثبت له حِرْصَه على أمته،
وأنه يُحمِّل نفسه في سبيل هدايتهم فوق ما حَمَّله الله، كما قال له في آية أخرى:{
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3].
ويقول تعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة: 128].
ثم بعد ذلك يقطع الحق سبحانه الأمل أمام المكذبين المعاندين، فيقول تعالى:
{ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ... } [النحل: 37].
أي: لا يضل إلا مَنْ لم يقبل الإيمان به فَيَدعُه إلى كفره، بل ويطمس على قلبه
غيْر مأسُوف عليه، فهذه إرادته، وقد أجابه الله إلى ما يريد.
{ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ.... } [النحل: 37].
إذن: المسألة ليستْ مجرد عدم الهداية، بل هناك معركة لا يجدون لهم فيها ناصراً أو
معيناً يُخلِّصهم منها، كما قال تعالى:{ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ
صَدِيقٍ حَمِيمٍ }[الشعراء: 100-101].
إذن: لا يهدي الله مَن اختار لنفسه الضلال، بل سيُعذِّبه عذاباً لا يجد مَنْ
ينصُره فيه.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم: { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ... }.
(/1922)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ... } [النحل: 38].
سبحان الله!! كيف تُقسِمون بالله وأنتم لا تؤمنون به؟! وما مدلول كلمة الله
عندكم؟.. هذه علامة غباء عند الكفار ودليل على أن موضوع الإيمان غير واضح في
عقولهم؛ لأن كلمة الله نفسها دليلٌ على الإيمان به سبحانه، ولا توجد الكلمة في
اللغة إلا بعد وجود ما تدل عليه أولاً.. فالتلفزيون مثلاً قبل أن يوجد لم يكن له
اسم، ثم بعد أن وُجد أوجدوا له اسماً.
أذن: توجد المعاني أولاً، ثم توضع للمعاني أسماء، فإذا رأيت اسماً يكون معناه قبله
أم بعده؟ يكون قبله.. فإذا قالوا: الله غير موجود نقول لهم: كذبتم؛ لأن كلمة الله
لفظ موجود في اللغة، ولا بُدَّ أن لها معنىً سبق وجودها.
إذن: فالإيمان سابقٌ للكفر.. وجاء الكفر منطقياً؛ لأن معنى الكفر: السَّتْر..
والسؤال إذن: ماذا ستر؟ ستر الإيمان، ولا يستر إلا موجوداً، وبذلك نقول: إن الكفر
دليل على الإيمان.
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ... } [النحل: 38].
أي: مبالغين في اليمين مُؤكّدينه، وما أقربَ غباءَهم هنا بما قالوه في آية أخرى:{
اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].
فليس هذا بكلام العقلاء. وكان ما أقسموا عليه بالله أنه:
{ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ... } [النحل: 38].
وهذا إنكار للبعث، كما سبق وأنْ قالوا:{ قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }[المؤمنون: 82].
فيرد عليهم الحق سبحانه { بَلَىا }.
وهي أداة لنفي السابق عليها، وأهل اللغة يقولون: نفي النفي إثبات، إذاً " بلى
" تنفي النفي قبلها وهو قولهم:
{ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ... } [النحل: 38].
فيكون المعنى: بل يبعث الله مَنْ يموت.
{ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً... } [النحل: 38].
والوَعْد هو الإخبار بشيء لم يأْتِ زمنه بعد، فإذا جاء وَعْدٌ بحدَث يأتي بَعْد
ننظر فيمَنْ وعد: أقادرٌ على إيجاد ما وعد به؟ أم غير قادر؟
فإن كان غيرَ قادر على إنفاذ ما وعد به لأنه لا يضمن جميع الأسباب التي تعينه على
إنفاذ وعده، قُلْنا له قُلْ: إنْ شاء الله.. حتى إذا جاء موعد التنفيذ فلم تَفِ
بوعدك التمسْنا لك عُذْراً، وحتى لا تُوصف ساعتها بالكذب، فقد نسبتَ الأمر إلى
مشيئة الله.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ لا يمنعنا أن نُخطِّط للمستقبل ونعمل كذا ونبني كذا..
خَطِّط كما تحب، واعْدُدْ للمستقبل عِدَته، لكن أردف هذا بقولك: إنْ شاء الله؛
لأنك لا تملك جميع الأسباب التي تمكِّن من عمل ما تريد مستقبلاً، وقد قال الحق
تبارك وتعالى:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ
أَن يَشَآءَ اللَّهُ... }
[الكهف: 23-24].
ونضرب لذلك مثلاً: هَبْ أنك أردتَ أن تذهب غداً إلى فلان لتكلمه في أمر ما.. هل
ضمنت لنفسك أن تعيش لغد؟ وهل ضمنت أن هذا الشخص سيكون موجوداً غداً؟ وهل ضمنتَ ألا
يتغير الداعي الذي تريده؟ وربما توفرت لك هذه الظروف كلها، وعند الذهاب أَلَمَّ بك
عائق منعك من الذهاب. إذن: يجب أن نُردف العمل في المستقبل بقولنا: إن شاء الله.
أما إذا كان الوعد من الله تعالى فهو قادر سبحانه على إنفاذ ما يَعِد به؛ لأنه لا
قوة تستطيع أن تقفَ أمام مُراده، ولا شيءَ يُعجزه في الأرض ولا في السماء، كان
الوعد منه سبحانه (حقاً) أنْ يُوفّيه.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَلـاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ { [النحل: 38].
أي: لا يعلمون أن الله قادر على البعث، كما قال تعالى:{ وَقَالُواْ أَإِذَا
ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ... }[السجدة: 10].
وقال:{ وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
خَلْقاً جَدِيداً }[الإسراء: 49].
فقد استبعد الكفار أمر البعث؛ لأنهم لا يتصورون كيف يبعث الله الخلْق من لَدُن آدم
ـ عليه السلام ـ حتى تقوم الساعة.. ولكن لِمَ تستبعدون ذلك؟ وقد قال تعالى:{ مَّا
خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ... }[لقمان: 28].
فالأمر ليس مزاولة يجمع الله سبحانه بها جزئيات البشر كل على حدة.. لا.. ليس في
الأمر مزاولة أو معالجة تستغرق وقتاً.{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً
أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].
ونضرب لذلك مثلاً ـ ولله المثل الأعلى ـ فنحن نرى مثل هذه الأوامر في عالم البشر
عندما يأتي المعلّم أو المدرب الذي يُدرِّب الجنود نراه يعلِّم ويُدرِّب أولاً، ثم
إذا ما أراد تطبيق هذه الأوامر فإنه يقف أمام الجنود جميعاً وبكلمة واحدة يقولها
يمتثل الجميع، ويقفون على الهيئة المطلوبة، هل أمسك المدرب بكل جندي وأوقفه كما
يريد؟! لا.. بل بكلمة واحدة تَمَّ له ما يريد.
وكأن انضباط المأمور وطاعته للأمر هو الأصل، كذلك كل الجزئيات في الكون منضبطة
لأمره سبحانه وتعالى.. هي كلمة واحدة بها يتم كل شيء.. فليس في الأمر مُعَالجة،
لأن المعالجة أنْ يُباشر الفاعل بجزئيات قدرته جزئيات الكائن، وليس البعث هكذا..
بل بالأمر الانضباطي: كن.
ولذلك يقول تعالى:
} وَلـاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ { [النحل: 38].
نقول: الحمد لله أن هناك قليلاً من الناس يعلمون أمر البعث ويؤمنون به.
ثم يقول الحق سبحانه: } لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي... {.
(/1923)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
فمعنى قوله تعالى:
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.. } [النحل: 39]. أي: من أمر
البعث؛ لأن القضية لا تستقيم بدون البعث والجزاء؛ ولذلك كنت في جدالي للشيوعيين
أقول لهم: لقد أدركتم رأسماليين شرسين ومفترين، شربوا دم الناس وعملوا كذا وكذا..
فماذا فعلتُم بهم؟ يقولون: فعلنا بهم كيت وكيت، فقلت: ومن قبل وجود الشيوعية سنة
1917، ألم يكن هناك ظلمة مثل هؤلاء؟ قالوا: بلى.
قلت: إذن من مصلحتكم أن يوجد بعث وحساب وعقاب لا يفلت منه هؤلاء الذين سبقوكم، ولم
تستطيعوا تعذيبهم.
ثم يأتي فَصْل الخطاب في قوله تعالى:
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } [النحل: 39].
أي: كاذبين في قولهم:{ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ... }[النحل: 38].
وذلك علم يقين ومعاينة، ولكن بعد فوات الأوان، فالوقت وقت حساب وجزاء لا ينفع فيه
الاعتراف ولا يُجدي التصديق، فالآن يعترفون بأنهم كانوا كاذبين في قَسَمهم: لا
يبعث الله مَنْ يموت وبالغوا في الأَيمان وأكَّدوها؛ ولذلك يقول تعالى عنهم في آية
أخرى:{ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ }[الواقعة: 46].
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ... }.
(/1924)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
إذن: أمر البعث ليس علاجاً لجزئيات كل شخص وضمِّ أجزائه وتسويته من آدم حتى قيام
الساعة، بل المسألة منضبطة تماماً مع الأمر الإلهي (كُنْ).
وبمجرد صدوره، ودون حاجة لوقت ومُزاولة يكون الجميع ماثلاً طائعاً، كل واحد منتظرٌ
دوره، منتظر الإشارة؛ ولذلك جاء في الخبر: " أمور يبديها ولا يبتديها ".
فالأمر يتوقف على الإذن: اظهر يظهر.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ من يعد القنبلة الزمنية مثلاً، ويضبطها على وقت
معين.. تظل القنبلة هذه إلى وقت الانفجار الذي وُضِع فيها، ثم تنفجر دون تدخُّل من
صناعها.. مجرد الإذن لها بالانفجار تنفجر.
وحتى كلمة (كُنْ) نفسها تحتاج لزمن، ولكن ليس هناك أقرب منها في الإذن.. وإن كان
الأمر في حقِّه تعالى لا يحتاج إلى كُنْ ولا غيره.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ... }.
(/1925)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
المهاجرون قوم آمنوا بالله إيماناً صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم
يتحمَّلون الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل إيمانهم، فلا يمكن أن يُضحِّي الإنسان
بماله وأهله ونفسه إلا إذا كان لأمر يقينيّ.
وقد جاءت هذه الآية بعد آية إثبات البعث الذي أنكره الكافرون وألحُّوا في إنكاره
وبالغوا فيه، بل وأقسموا على ذلك:{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ
لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ.. }[النحل: 38].
وهم يعلمون أن من الخلق مَنْ يُسيء، ومنهم من يُحسِن، فهل يعتقدون ـ في عُرْف
العقل ـ أن يتركَ الله من أساء ليُعربد في خَلْق الله دون أن يُجازيه؟
ذلك يعني أنهم خائفون من البعث، فلو أنهم كانوا محسنين لَتَمنَّوا البعث، أمَا وقد
أسرفوا على أنفسهم إسرافاً يُشفِقون معه على أنفسهم من الحساب والجزاء، فمن
الطبيعي أنْ يُنِكروا البعث، ويلجأوا إلى تمنية أنفسهم بالأماني الكاذبة، ليطمئنوا
على أن ما أخذوه من مظالم الناس ودمائهم وكرامتهم وأمنهم أمرٌ لا يُحاسبون عليه.
وإذا كانوا قد أنكروا البعث، ويوجد رسول ومعه مؤمنون به يؤمنون بالبعث والجزاء
إيماناً يصل إلى درجة اليقين الذي يدفعهم إلى التضحية في سبيل هذا الإيمان.. إذن:
لا بُدَّ من وجود معركة شرسة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، معركة بين الحق والباطل.
ومن حكمة الله أن ينشر الإسلام في بدايته بين الضعفاء، حتى لا يظن ظَانٌّ أن
المؤمنين فرضوا إيمانهم بالقوة، لا.. هؤلاء هم الضعفاء الذين لا يستطيعون الدفاع
عن أنفسهم، والكفار هم السادة.. إذن: جاء الإسلام ليعاند الكبارَ الصناديدَ
العتاة.
وكان من الممكن أن ينصرَ الله هؤلاء الضعفاء ويُعلي كلمة الدين من البداية، ولكن
أراد الحق تبارك وتعالى أن تكون الصيحةُ الإيمانية في مكَّة أولاً؛ لأن مكة مركز
السيادة في جزيرة العرب، وقريش هم أصحاب المهابة وأصحاب النفوذ والسلطان، ولا تقوى
أيَّ قبيلة في الجزيرة أن تعارضها، ومعلوم أنهم أخذوا هذه المكانة من رعايتهم لبيت
الله الحرام وخدمتهم للوافدين إليه.
فلو أن الإسلام اختار بقعة غير مكة لَقَالوا: إن الإسلام استضعفَ جماعة من الناس،
وأغرَاهم بالقول حتى آمنوا به. لا، فالصيحة الإسلاميةُ جاءت في أُذن سادة قريش
وسادة الجزيرة الذين أمَّنهم الله في رحلة الشتاء والصيف، وهم أصحاب القوة وأصحاب
المال.
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم ينصر الله دينه في بلد السادة؟ نقول: لا.. الصيحة
في أذن الباطل تكون في بلد السادة في مكة، لكن نُصْرة الدين لا تأتي على يد هؤلاء
السادة، وإنما تأتي في المدينة.
وهذا من حكمة الله تعالى حتى لا يقول قائل فيما بعد: إن العصبية لمحمد في مكة
فرضتْ الإيمان بمحمد.
. لا بل يريد أن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية
لمحمد، فجاء له بعصبية بعيدة عن قريش، وبعد ذلك دانتْ لها قريش نفسها.
وما دامت هناك معركة، فمَن المطحون فيها؟ المطحون فيها هو الضعيف الذي لا يستطيع
أنْ يحميَ نفسه.. وهؤلاء هم الذين ظُلِموا.. ظُلِموا في المكان الذي يعيشون فيه؛
ولذلك كان ولا بُدَّ أن يرفع الله عنهم هذا الظلم.
وقد جاء رَفْع الظلم عن هؤلاء الضعفاء على مراحل.. فكانت المرحلة الأولى أن ينتقلَ
المستضعفون من مكة، لا إلى دار إيمان تحميهم وتساعدهم على نَشْر دينهم، بل إلى دار
أَمْن فقط يأمنون فيها على دينهم.. مجرد أَمْن يتيح لهم فرصة أداء أوامر الدين.
ولذلك استعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد كلها لينظر أيَّ الأماكن تصلح
دار أَمْن يهاجر إليها المؤمنون بدعوته فلا يعارضهم أحد، فلم يجد إلا الحبشة؛
ولذلك قال عنها: " إن بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده
حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه ".
وتكفي هذه الصفة في ملك الحبشة ليهاجر إليه المؤمنون، ففي هذه المرحلة من نُصْرة
الدين لا نريد أكثر من ذلك، وهكذا تمت الهجرة الأولى إلى الحبشة.
ثم يسَّر الله لدينه أتباعاً وأنصاراً التقوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم
وبايعوه على النُّصْرة والتأييد، ذلكم هم الأنصار من أهل المدينة الذين بايعوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة ومَهَّدوا للهجرة الثانية إلى المدينة،
وهي هجرةٌ ـ هذه المرة ـ إلى دار أَمْن وإيمان، يأمن فيها المسلمون على دينهم،
ويجدون الفرصة لنشره في رُبُوع المعمورة.
ونقف هنا عند قوله تعالى:
} وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ... { [النحل: 41].
ومادة هذا الفعل: هجر.. وهناك فَرْق بين هجر وبين هاجر:
هجر: أن يكره الإنسانُ الإقامةَ في مكان، فيتركه إلى مكان آخر يرى انه خَيْرٌ منه،
إنما المكان نفسه لم يكرهه على الهجرة.. أي المعنى: ترك المكان مختاراً.
أما هاجر: وهي تدل على المفاعلة من الجانبين، فالفاعل هنا ليس كارهاً للمكان، ولكن
المفاعلة التي حدثتْ من القوم هي التي اضطرتْه للهجرة.. وهذا ما حدث في هجرة
المؤمنين من مكة؛ لأنهم لم يتركوها إلى غيرها إلاَّ بعد أن تعرضوا للاضطهاد
والظُلْم، فكأنهم بذلك شاركوا في الفعل، فلو لم يتعرَّضوا لهم ويظلموهم لما
هاجروا.
ولذلك قال الحق تبارك وتعالى:
} مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ... { [النحل: 41].
وينطبق هذا المعنى على قول المتنبي:إِذَا ترحلْتَ عن قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا ألاَّ
تُفارِقهم فَالرَّاحِلُون هُمُوايعني: إذا كنت في جماعة وأردْتَ الرحيل عنهم، وفي
إمكانهم أن يقدموا لك من المساعدة ما يُيسِّر لك الإقامة بينهم ولكنهم لم يفعلوا،
وتركوك ترحل مع مقدرتهم، فالراحلون في الحقيقة هم، لأنهم لم يساعدوك على الإقامة.
كذلك كانت الحال عندما هاجر المؤمنون من مكة؛ لأنه أيضاً لا يعقل أن يكره هؤلاء
مكة وفيها البيت الحرام الذي يتمنى كل مسلم الإقامة في جواره.
إذن: لم يترك المهاجرون مكة، بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه، وطبيعي إذن أن
يلجأوا إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للإقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية
صحيحة.
ثم إن الحق تبارك وتعالى قال:
} وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ... { [النحل: 41].
ونلاحظ في الحديث الشريف الذي يوضح معنى هذه الآية: " فمن كانت هجرته إلى
الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها
فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
فما الفرق هنا بين: هاجر في الله، وهاجر إلى الله؟
هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه افضل من الذي تركه، وكأن الذي
هاجر منه ليس مناسباً له.
أما هاجر في الله فتدل على أن الإقامة السابقة كانت أيضاً في الله.. إقامتهم نفسها
في مكة وتحمُّلهم الأذى والظلم والاضطهاد كانت أيضاً في الله.
أما لو قالت الآية " هاجروا إلى الله " لدلَّ ذلك على أن إقامتهم الأولى
لم تكن لله.. إذن: معنى الآية:
} هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ... { [النحل: 41].
أي: أن إقامتهم كانت لله، وهجرتهم كانت لله.
ومثل هذا قوله تعالى:{ وَسَارِعُواْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ... }[آل
عمران: 133].
أي: إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة، وفي الآية الأخرى:{ يُسَارِعُونَ
فِي الْخَيْرَاتِ.. }[المؤمنون: 61].
ذلك لأنهم كانوا في خير سابق، وسوف يسارعون إلى خير آخر.. أي: أنتم في خير ولكن
سارعوا إلى خير منه.
وهناك ملمح آخر في قوله تعالى:
} وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ.. { [النحل: 41].
نلاحظ أن كلمة " الذين " جمع.. لكن هل هي خاصة بمَنْ نزلت فيهم الآية؟
أم هي عامة في كُلِّ مَنْ ظُلِم في أيِّ مكان ـ في الله ـ ثم هاجر منه؟
الحقيقة أن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي عامة في كل مَنْ انطبقت
عليه هذه الظروف، فإن كانت هذه الآية نزلت في نفر من الصحابة منهم: صُهيب، وعمار،
وخباب، وبلال، إلا أنها تنتظم غيرهم مِمَّن اضطروا إلى الهجرة فِراراً بدينهم.
" ونعلم قصة صهيب رضي الله عنه ـ وكان رجلاً حداداً ـ لما أراد أنْ يهاجر
بدينه، عرض الأمر على قريش: والله أنا رجل كبير السِّنِّ، إنْ كنت معكم فلن
أنفعكم، وإنْ كنت مع المسلمين فلن أضايقكم، وعندي مال.. خذوه واتركوني أهاجر،
فرضَوْا بذلك، وأخذوا مال صُهَيب وتركوه لهجرته.
ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم: " ربح البيع يا صُهَيْب "
أي: بيعة رابحة.
ويقول له عمر ـ رضي الله عنه: " نِعْم العبدُ صُهيب، لو لم يخَفِ الله لم
يَعْصِه ".
وكأن عدم عصيانه ليس خوفاً من العقاب، بل حُبّاً في الله تعالى، فهو سبحانه لا
يستحق أنْ يُعصى.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
} لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.. { [النحل: 41].
نُبوِّئ، مثل قوله تعالى:{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ..
}[الحج: 26].
أي: بيَّنا له مكانه، ونقول: باء الإنسان إلى بيته إذا رجع إليه، فالإنسان يخرج
للسعي في مناكب الأرض في زراعة أو تجارة، ثم يأوي ويبوء إلى بيته، إذن: باء بمعنى
رجع، أو هو مسكن الإنسان، وما أعدَّه الله له.
فإنْ كان المؤمنون سيخرجون الآن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونُحِلهم
ونُنزِلهم منزلةً أحسن من التي كانوا فيها، فقد كانوا مُضطهدين في مكة، فأصبحوا
آمنين في المدينة، وإنْ كانوا تركوا بلدهم فسوف نُمهّد لهم الدنيا كلها ينتشرون
فيها بمنهج الله، ويجنُون خير الدنيا كلها، ثم بعد ذلك نُرجعهم إلى بلدهم سادة
أعزَّة بعد أن تكون مكة بلداً لله خالصة من عبادة الأوثان والأصنام.. هذه هي
الحسنة في الدنيا.
ثم يقول تعالى:
} وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ.. { [النحل: 41].
ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجِّلات للعمل، ولكن حسنات
الدنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال، إما أنْ تفارقها، وإما أن تُفارقك، وقد أنجز
الله وَعْده للمؤمنين في الدنيا، فعادوا منتصرين إلى مكة، بل دانتْ لهم الجزيرة
العربية كلها بل العالم كله، وانساحوا في الشرق في فارس، وفي الغرب في الرومان،
وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع.
وإنْ كانت هذه هي حسنة الدنيا المعَجَّلة، فهناك حسنة الآخرة المؤجلة:
} وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ... { [النحل: 41].
أي: أن ما أعدَّ لهم من نعيم الآخرة أعظم مما وجدوه في الدنيا.
ولذلك كان سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ إذا أعطى أحد الصحابة نصيب المهاجرين من
العطاء يقول له: " بارك الله لك فيه.. هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر
لك في الآخرة اكبر من هذا ". فهذه حسنة الدنيا.
} وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ.. { [النحل: 41].
وساعة أنْ تسمع كلمة (أكبر) فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير، بل مقابلها (كبير)
فتكون حسنة الدنيا التي بوَّأهم الله إياها هي (الكبيرة)، لكن ما ينتظرهم في
الآخرة (أكبر).
وكذلك قد تكون صيغةُ أفعل التفضيل أقلَّ في المدح من غير أفعل التفضيل.. فمن أسماء
الله الحسنى (الكبير) في حين أن الأكبر صفةٌ من صفاته تعالى، وليس اسماً من
أسمائه، وفي شعار ندائنا لله نقول: الله اكبر ولا نقول: الله كبير.. ذلك لأن كبير
ما عداه يكون صغيراً.. إنما أكبر، ما عداه يكون كبيراً، فنقول في الأذان: الله
أكبر لأن أمور الدنيا في حَقِّ المؤمن كبيرة من حيث هي وسيلة للآخرة.
فإياك أنْ تظنَّ أن حركةَ الدنيا التي تتركها من أجل الصلاة أنها صغيرة، بل هي
كبيرة بما فيها من وسائل تُعينك على طاعة الله، فبها تأكل وتشرب وتتقوَّى، وبها
تجمع المال لِتسُدَّ به حاجتك، وتُؤدِّي الزكاة إلى غير ذلك، ومن هنا كانت حركة
الدنيا كبيرة، وكانت الصلاة والوقوف بين يدي الله أكبر.
ولذلك حينما قال الحق تبارك وتعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ
الْبَيْعَ.. }[الجمعة: 9].
أخرجنا بهذا النداء من عمل الدنيا وحركتها، ثم قال:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ
فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ... }[الجمعة: 10].
فأمرنا بالعودة إلى حركة الحياة؛ لأنها الوسيلةُ للدار الآخرة، والمزرعة التي نُعد
فيها الزاد للقاء الله تعالى.. إذن: الدنيا أهم من أنْ تُنسَى من حيث هي معونة
للآخرة، ولكنها أتفَهُ من أن تكونَ غاية في حَدِّ ذاتها.
ثم يقول الحق سبحانه: } لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ.. { [النحل: 41].
الخطاب هنا عن مَنْ؟ الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلاثة أشياء:
يمكن أنْ يُراد به الكافرون.. ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون عاقبة الإيمان وجزاء
المؤمنين لآثروه على الكفر.
ويمكن أنْ يُراد به المهاجرون.. ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون لازدادوا في عمل
الخير.
وأخيراً قد يُرَاد به المؤمن الذي لم يهاجر.. ويكون المعنى: لو كان يعلم نتيجة
الهجرة لسارع إليها.
وهذه الأوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الأداء وبلاغة القرآن
الكريم، وهذا ما يسمونه تربيب الفوائد.
ثم يقول الحق سبحانه: } الَّذِينَ صَبَرُواْ... {.
(/1926)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
الحق تبارك وتعالى يريد أن يعطينا تشريحاً لحال المهاجرين، فقد ظُلِموا واضْطهِدوا
وأُوذُوا في سبيل الله، ولم يفتنهم هذا كله عن دينهم، بل صبروا وتحملُّوا، بل
خرجوا من أموالهم وأولادهم، وتركوا بلدهم وأرضهم في سبيل دينهم وعقيدتهم، حدث هذا
منهم اتكالاً على أن الله تعالى لن يُضيِّعهم.
ولذلك جاء التعبير القرآني هكذا { صَبَرُواْ } بصيغة الماضي، فقد حدث منهم الصبر
فعلاً، كأن الإيذاء الذي صبروا عليه فترة مضتْ وانتهت، والباقي لهم عِزّة ومنَعة
وقوة لا يستطيع أحد أنْ يضطهدهم بعد ذلك، وهذه من البشارات في الأداء القرآني.
أما في التوكل، فقال تعالى في حقهم:
{ وَعَلَىا رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل: 42].
بصيغة المضارع؛ لأن التوكُّل على الله حدث منهم في الماضي، ومستمرون فيه في الحاضر
والمستقبل، وهكذا يكون حال المؤمن.
وبعد ذلك تكلَّم القرآن الكريم عن قضية وقف منها الكافرون أيضاً موقف العناد
والمكابرة والتكذيب، وهي مسألة إرسال الرسل، فقال تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ... }.
(/1927)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
وقد اعترض المعاندون من الكفار على كون الرسول بشراً. وقالوا: إذا أراد الله أن
يرسل رسولاً فينبغي أن يكون مَلَكاً فقالوا:{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ
مَلاَئِكَةً.. }[المؤمنون: 24].
وكأنهم استقلُّوا الرسالة عن طريق بشر؛ وهذا أيضاً من غباء الكفر وحماقة الكافرين؛
لأن الرسول حين يُبلّغ رسالة الله تقع على عاتقه مسئوليتان: مسئولية البلاغ
بالعلم، ومسئولية التطبيق بالعمل ونموذجية السلوك.. فيأمر بالصلاة ويُصلِّي،
وبالزكاة ويُزكِّي، وبالصبر ويصبر، فليس البلاغ بالقول فقط، لا بل بالسلوك العمليّ
النموذجيّ.
ولذلك كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كان خلقه القرآن ".
وكان قرآناً يمشي على الأرض، والمعنى: كان تطبيقاً كاملاً للمنهج الذي جاء به من
الحق تبارك وتعالى.
ويقول تعالى في حقِّه صلى الله عليه وسلم:{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.. }[الأحزاب: 21].
فكيف نتصور أن يكون الرسول مَلَكاً؟ وكيف يقوم بهذه الرسالة بين البشر؟ قد يؤدي
الملك مهمة البلاغ، ولكن كيف يُؤدِّي مهمة القدوة والتطبيق العملي النموذجي؟ كيف
ونحن نعلم أن الملائكة خَلْق جُبِلوا على طاعة الله:{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم: 6].
ومن أين تأتيه منافذ الشهرة وهو لا يأكل ولا يشرب ولا يتناسل؟
فلو جاء مَلَك برسالة السماء، وأراد أن ينهى قومه عن إحدى المعاصي، ماذا نتوقع؟
نتوقع أن يقول قائلهم: لا.. لا أستطيع ذلك، فأنت ملَك ذو طبيعة علوية تستطيع ترْك
هذا الفعل، أما أنا فلا أستطيع.
إذن: طبيعة الأُسْوة تقتضي أن يكون الرسول بشراً، حتى إذا ما أمر كان هو أول
المؤتمرين، وإذا ما نهى كان هو أول المنتهين.
ومن هنا كان من امتنان الله على العرب، ومن فضله عليهم أنْ بعثَ فيهم رسولاً من
أنفسهم:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128].
فهو أولاً من أنفسكم، وهذه تعطيه المباشرة، ثم هو بشر، ومن العرب وليس من أمة
أعجمية.. بل من بيئتكم، ومن نفس بلدكم مكة ومن قريش؛ ذلك لتكونوا على علم كامل
بتاريخه وأخلاقه وسلوكه، تعرفون حركاته وسكناته، وقد كنتم تعترفون له بالصدق
والأمانة، وتأتمنونه على كل غَال ونفيس لديكم لعلمكم بأمانته، فكيف تكفرون به الآن
وتتهمونه بالكذب؟!
لذلك رَدَّ عليهم الحق تبارك وتعالى في آية أخرى فقال:{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن
يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىا إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ
بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 94].
فالذي صَدَّكم عن الإيمان به كَوْنه بشراً!!
ثم نأخذ على هؤلاء مأخذاً آخر؛ لأنهم تنازلوا عن دعواهم هذه بأنْ يأتيَ الرسول من
الملائكة وقالوا:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
فهذا تردُّد عجيب من الكفار، وعدم ثبات على رأي.
. مجرد لَجَاجة وإنكار، وقديماً قالوا: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذَكُوراً.
ويرد عليهم القرآن:{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ
مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً
}[الإسراء: 95].
فلو كان في الأرض ملائكة لنزَّلنا لهم ملكاً حتى تتحقَّق الأُسْوة.
إذن: لا بُدَّ في القدوة من اتحاد الجنس.. ولنضرب لذلك مثلاً: هَبْ أنك رأيتَ
أسداً يثور ويجول في الغابة مثلاً يفترس كُلَّ ما أمامه، ولا يستطيع أحد أنْ
يتعرَّض له.. هل تفكر ساعتها أن تصير أسداً؟ لا.. إنما لو رأيتَ فارساً يمسك
بسيفه، ويطيح به رقاب الأعداء.. ألا تحب أن تكون فارساً؟ بلى أحب.
فهذه هي القدوة الحقيقية النافعة، فإذا ما اختلف الجنس فلا تصلح القدوة.
وهنا يردُّ الحق تبارك وتعالى على افتراءات الكفار بقوله تعالى:
} وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ... {
[النحل: 43].
أي: أنك يا محمد لَسْتَ بَدْعاً في الرسل، فَمْن سبقوك كانوا رجالاً طيلة القرون
الماضية، وفي موكب الرسالات جميعاً.
وجاءتْ هنا كلمة } رِجَالاً { لتفيد البشرية أولاً كجنس، ثم لتفيد النوع المذكَّر
ثانياً؛ ذلك لأن طبيعة الرسول قائمة على المخالطة والمعاشرة لقومه.. يظهر للجميع
ويتحدث إلى الجميع.. أما المرأة فمبنية على التستُّر، ولا تستطيع أن تقوم بدور
الأُسْوة للناس، ولو نظرنا لطبيعة المرأة لوجدنا في طبيعتها أموراً كثيرة لا تناسب
دور النبوة، ولا تتمشَّى مع مهمة النبي، مثل انقطاعها عن الصلاة والتعبد لأنها
حائض أو نُفَساء.
كذلك جاءت كلمة } رِجَالاً { مُقيَّدة بقوله:
} نُّوحِي إِلَيْهِمْ... { [النحل: 43].
فالرسول رجل، ولكن إياك أنْ تقول: هو رجل مثْلي وبشر مثْلي.. لا هناك مَيْزة أخرى
أنه يُوحَى إليه، وهذه منزلة عالية يجب أن نحفظها للأنبياء ـ صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين.
ثم يقول الحق سبحانه:
} فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ { [النحل: 43].
أي: إذا غابتْ عنكم هذه القضية، قضية إرسال الرسل من البشر ـ ولا أظنها تغيب ـ
لأنها عامة في الرسالات كلها. وما كانت لتخفَى عليكم خصوصاً وعندكم أهل العلم
بالأديان السابقة، مثل ورقة بن نوفل وغيره، وعندكم أهل السِّيَر والتاريخ، وعندكم
اليهود والنصارى.. فاسألوا هؤلاء جميعاً عن بشرية الرسل.
فهذه قضية واضحة لا تُنكر، ولا يمكن المخالفة فيها.. وماذا سيقول اليهود
والنصارى؟.. موسى وعيسى.. إذنْ بشر.
وقوله تعالى:
} إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ { [النحل: 43].
يوحي بأنهم يعلمون، وليس لديهم شَكٌّ في هذه القضية.. مثل لو قلتَ لمخاطبك: اسأل
عن كذا إنْ كنت لا تعرف.. هذا يعني أنه يعرف، أما إذا كان في القضية شَكٌّ فنقول:
اسأل عن كذا دون أداة الشرط.. إذن: هم يعرفون، ولكنه الجدال والعناد والاستكبار عن
قبول الحق.
(/1928)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
استهل الحق سبحانه الآية بقوله:
{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ... } [النحل: 44].
ويقول أهل اللغة: إن الجار والمجرور لا بُدَّ له من متعلق.. فبماذا يتعلق الجار
والمجرور هنا؟ قالوا: يجوز أنْ يتعلّق بالفعل (نُوحِي) ويكون السياق: وما أرسلنا
من قبلك إلا رجالاً نُوحِي إليهم بالبينات والزبر.
وقد يتعلق الجار والمجرور بأهل الذكر.. فيكون المعنى: فاسألوا أهل الذكر بالبينات
والزبر، فهذان وجهان لعودة الجار والمجرور.
والبينات: هي الأمر البيِّن الواضح الذي لا يشكُّ فيه أحد.. وهو إما أن يكون أمارة
ثُبوت صِدْق الرسالة كالمعجزة التي تتحدى المكذِّبين أنْ يأتوا بمثلها.. أو: هي
الآيات الكونية التي تلفِتُ الخَلْق إلى وجود الخالق سبحانه وتعالى، مثل آيات
الليل والنهارَ والشمس والقمر والنجوم.
أما الزُّبُر، فمعناها: الكتب المكتوبة.. ولا يُكتب عادة إلا الشيء النفيس مخافة
أنْ يضيعَ، وليس هنا أنفَسُ مما يأتينا من منهج الله لِيُنظِّم لَنا حركة حياتنا.
ونعرف أن العرب ـ قديماً ـ كانوا يسألون عن كُلِّ شيء مهما كان حقيراً، فكان عندهم
عِلمٌ بالسهم ومَنْ أول صانع لها، وعن القوس والرَّحْل، ومثل هذه الأشياء
البسيطة.. ألاَ يسألون عن آيات الله في الكون وما فيها من أسرار وعجائب في خَلْقها
تدلُّ على الخالق سبحانه وتعالى؟
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ.. } [النحل: 44].
كلمة الذكر وردتْ كثيراً في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة، وأَصلْ الذكر أنْ يظلَّ
الشيءُ على البال بحيث لا يغيب، وبذلك يكون ضِدّه النسيان.. إذن: عندنا ذِكْر
ونسيان.. فكلمة " ذكر " هنا معناها وجود شيء لا ينبغي لنا نسيانه.. فما
هو؟
الحق سبحانه وتعالى حينما خلق آدم ـ عليه السلام ـ أخذ العهد على كُلِّ ذرِّة فيه،
فقال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا
شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا
غَافِلِينَ }[الأعراف: 172].
وأخْذ العهد على آدم هو عَهْد على جميع ذريته، ذلك لأن في كُلِّ واحد من بني آدم
ذَرَّة من أبيه آدم.. وجزءاً حيّاً منه نتيجة التوالُد والتناسُل من لَدُن آدم حتى
قيام الساعة، وما دُمْنا كذلك فقد شهدنا أخذ العهد: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }.
وكأن كلمة (ذكر) جاءت لتُذكِّرنا بالعهد المطمور في تكويننا، والذي ما كان لنا أنْ
ننساه، فلما حدث النسيان اقتضى الأمرُ إرسالَ الرسل وإنزالَ الكتب لتذكِّرنا بعهد
الله لنا:{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا }[الأعراف: 172].
ومن هنا سَمّينا الكتب المنزلة ذكراً، لكن الذكْر يأتي تدريجياً وعلى مراحل.. كلُّ
رسول يأتي ليُذكَّر قومه على حَسْب ما لديهم من غفلة.
. أما الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي جاء للناس كافّة إلى قيام الساعة،
فقد جاء بالذكر الحقيقي الذي لا ذِكْر بعده، وهو القرآن الكريم.
وقد تأتي كلمة (الذكْر) بمعنى الشَّرَف والرِّفْعة كما في قوله تعالى للعرب:{
لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ }[الأنبياء: 10] وقد أصبح
للعرب مكانة بالقرآن، وعاشت لغتهم بالقرآن، وتبوءوا مكان الصدارة بين الأمم
بالقرآن.
وقد يأتي الذكْر من الله للعبد، وقد يأتي من العبد لله تعالى كما في قوله سبحانه:{
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.. }[البقرة: 152].
والمعنى: فاذكروني بالطاعة والإيمان أذكركم بالفيوضات والبركة والخير والإمداد
وبثوابي.
وإذا أُطلقت كلمة الذكر انصرفت إلى ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه
الكتاب الجامع لكُلِّ ما نزل على الرسُل السابقين، ولكل ما تحتاج إليه البشرية إلى
أنْ تقومَ الساعة.
كما أن كلمة كتاب تطلق على أي كتاب، لكنها إذا جاءت بالتعريف (الكتاب) انصرفت إلى
القرآن الكريم، وهذا ما نسميه (عَلَم بالغلبة).
والذكْر هو القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معجزته الخالدة في
الوقت نفسه، فهو منهج ومعجزة، وقد جاء الرسُل السابقون بمعجزات لحالها، وكتب
لحالها، فالكتاب منفصل عن المعجزة.
فموسى كتابه التوراة ومعجزته العصا، وعيسى كتابه ومنهجه الإنجيل ومعجزته إبراء
الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته هي نفس كتاب منهجه، لا ينفصل أحدهما عن الآخر
لتظلّ المعجزة مُسَاندة للمنهج إلى قيام الساعة.
وهذا هو السِّر في أن الحق تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن وحمايته، فقال تعالى:{
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9].
أما الكتب السابقة فقد عُهد إلى التابعين لكل رسول منهم بحِفْظ كتابه، كما قال
تعالى:{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ... }[المائدة: 44].
ومعنى اسْتُحفِظوا: أي طلبَ الله منهم أنْ يحفظوا التوراة، وهذا أمْرُ تكليف قد
يُطاع وقد يُعصى، والذي حدث أن اليهود عَصَوْا وبدّلوا وحَرَّفوا في التوراة.. أما
القرآن فقد تعهَّد الله تعالى بحفْظه ولم يترك هذا لأحد؛ لأنه الكتاب الخاتَم الذي
سيصاحب البشرية إلى قيام الساعة.
ومن الذِّكْر أيضاً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن، وهو الحديث
الشريف، فللرسول مُهِمة أخرى، وهي منهجه الكلاميّ وحديثه الشريف الذي جاء من
مِشْكاة القرآن مبيِّناً له ومُوضِّحاً له... كما قال صلى الله عليه وسلم: "
أَلاَ وإنِّي قد أُوتيتُ القرآن ومِثْله معه، يُوشك رجل شبعان يتكيء على أريكته
يُحدِّث بالحديث عنِّي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال
حَلَّلْناه، وما وجدنا فيه من حرام حَرَّمناه، أَلاَ وإنَّه ليس كذلك ".
ويقول الحق سبحانه:
} لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
. { [النحل: 44].
إذن: جاء القرآن كتابَ معجزة، وجاء كتابَ منهج، إلا أنه ذكر أصول هذا المنهج فقط،
ولم يذكر التعريفات المنهجية والشروح اللازمة لتوضيح هذا المنهج، وإلاَّ لَطالتْ
المسألة، وتضخَّم القرآن وربما بَعُد عن مُرَاده.
فجاء القرآن بالأصول الثابتة، وترك للرسول صلى الله عليه وسلم مهمة أنْ يُبيِّنه
للناس، ويشرحه ويُوضِّح ما فيه.
وقد يظن البعض أن كُلَّ ما جاءتْ به السُّنة لا يلزمنا القيام به؛ لأنه سنة يُثَاب
مَنْ فعلها ولا يُعاقب مَنْ تركها.. نقول: لا.. لا بُدَّ أن نُفرِّق هنا بين
سُنّية الدليل وسُنّية الحكم، حتى لا يلتبس الأمر على الناس.
فسُنّية الدليل تعني وجود فَرْض، إلا أن دليله ثابت من السنة.. وذلك كبيان عدد
ركعات الفرائض: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فهذه ثابتة بالسنة وهي
فَرْض.
أما سُنيّة الحكم: فهي أمور وأحكام فقهية وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يُثَاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها.. فحين يُبيِّن لنا الرسول بسلوكه وأُسْوته
حُكْماً ننظر: هل هي سُنّية الدليل فيكون فَرْضاً، أم سُنّية الحكم فيكون سُنة؟
ويظهر لنا هذا أيضاً من مواظبة الرسول على هذا الأمر، فإنْ واظب عليه والتزمه فهو
فَرْض، وإنْ لم يواظب عليه فهو سُنة.
إذن: مهمة الرسول ليست مجرد مُنَاولة القرآن وإبلاغه للناس، بل وبيان ما جاء فيه
من المنهج الإلهي، فلا يستقيم هنا البلاغ دون بيان.. ولا بُدَّ أن نفرّق بين
العطائين: العطاء القرآني، والعطاء النبوي.
ويجب أن نعلم هنا أن من المَيْزات التي مُيِّز بها النبي صلى الله عليه وسلم عن
سائر إخوانه من الرُّسُل، أنه الرسول الوحيد الذي أمنه الله على التشريع، فقد كان
الرسل السابقون يُبلِّغون أوامر السماء فَقط وانتهتْ المسألة، أما محمد صلى الله
عليه وسلم فقد قال الحق تبارك وتعالى في حقِّه:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ.. }[الحشر: 7].
إذن: أخذ مَيْزة التشريع، فأصبحت سُنّته هي التشريع الثاني بعد القرآن الكريم.
ثم يقول تعالى:
} وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ { [النحل: 44].
يتفكرون.. في أي شيء؟ يتفكرون في حال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، حيث
لم يُؤْثَر عنه أنه كان خطيباً أو أديباً شاعراً، ولم يُؤْثَر عنه أنه كان كاتباً
مُتعلِّماً.. لم يُعرف عنه هذا أبداً طيلة أربعين عاماً من عمره الشريف، لذلك
أمرهم بالتفكُّر والتدبُّر في هذا الأمر.
فليس ما جاء به محمد عبقرية تفجَّرت هكذا مرَّة واحدة في الأربعين من عمره، فالعمر
الطبيعي للعبقريات يأتي في أواخر العِقْد الثاني وأوائل العِقْد الثالث من العمر.
ولا يُعقل أنْ تُؤجّل العبقرية عند رسول الله إلى هذا السن وهو يرى القوم يُصْرعون
حوله.. فيموت أبوه وهو في بطن أمه، ثم تموت أمه وما يزال طفلاً صغيراً، ثم يموت
جَدُّه، فمَنْ يضمن له الحياة إلى سِنِّ الأربعين، حيث تتفجَّر عنده هذه
العبقرية؟!
إذن: تفكَّروا، فليستْ هذه عبقرية من محمد، بل هي أمْر من السماء؛ ولذلك أمره
ربُّه تبارك وتعالى أن يقول لهم:
{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ
فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16].
فكان عليكم أنْ تفكِّروا في هذه المسألة.. ولو فكرتُمْ فيها كان يجب عليكم أنْ
تتهافتوا على الإسلام، فأنتم أعلم الناس بمحمد، وما جرَّبتم عليه لا كذباً ولا
خيانةً، ولا اشتغالاً بالشعر أو الخطابة، فما كان لِيْصدق عندكم ويكذب على الله.
ولا بُدَّ أن نُفرّق بين العقل والفكر. فالعقل هو الأداة التي تستقبل المحسَّات
وتُميِّزها، وتخرج منها القضايا العامة التي ستكون هي المباديء التي يعيش الإنسان
عليها، والتي ستكون عبارة عن معلومات مُخْتزنة، أما الفكر فهو أن تفكر في هذه
الأشياء لكي تستنبط منها الحكم.
والله سبحانه وتعالى ترك لنا حُرية التفكير وحرية العقل في أمور دنيانا، لكنه
ضبطنا بأمور قَسْرية يفسَد العالم بدونها، فالذي يفسد العالم أن نترك ما شرعه الله
لنا.. والباقي الذي لا يترتب عليه ضرر يترك لنا فيه مجالاً للتفكير والتجربة؛ لأن
الفشل فيه لا يضر.
فما أراده الله حُكْماً قسْرياً فرضه بنصِّ صريح لا خلافَ فيه، وما أراده على وجوه
متعددة يتركه للاجتهاد حيث يحتمل الفعل فيه أوجهاً متعددة، ولا يؤدي الخطأ فيه إلى
فساد.
فالمسألة ميزان فكري يتحكم في المحسَّات ويُنظم القضايا، لنرى أولاً ما يريده الله
بتاً وما يريده اجتهاداً، وما دام اجتهاداً فما وصل إليه المجتهد يصح أنْ يعبد
الله به، ولكن آفة الناس في الأمور الاجتهادية أن منهم مَنْ يتهم مخالفه، وقد تصل
الحال بهؤلاء إلى رَمْي مخالفيهم بالكفر والعياذ بالله.
ونقول لمثل هذا: اتق الله، فهذا اجتهادٌ مَنْ أصاب فيه فَلَهُ أجران، ومَنْ أخطأ
فله أجر.. ولذلك نجد من العلماء مَنْ يعرف طبيعة الأمور الاجتهادية فنراه يقول:
رَأْيي صواب يحتمل الخطأ، ورَأْي غيري خطأ يحتمل الصواب. وهكذا يتعايش الجميع
وتُحتَرم الآراء.
ومن رحمة الله بعباده أن يأمرهم بالتفكُّر والتدبُّر والنظر؛ ذلك لأنهم خَلْقه
سبحانه، وهم أكرم عليه من أنْ يتركهم للضلال والكفر، بعد أن أكرمهم بالخَلْق
والعقل، فأراد سبحانه أن يكرمهم إكراماً آخر بالطاعة والإيمان.
وكأنه سبحانه يقول لهم: رُدُّوا عقولكم ونفوسكم عن كبرياء الجدل ولَجَج الخصومة،
وإنْ كنتم لا تؤمنون بالبعث في الآخرة، وبما أُعدَّ للظالمين فيها من عقاب،
فانظروا إلى ما حدث لهم وما عُجِّل لهم من عذاب في الدنيا.
انظروا للذين سبقوكم من الأمم المكذَّبة وما آل إليه مصيرهم، أم أنتم آمنون من
العذاب، بعيدون عنه؟!
ثم يقول تبارك وتعالى: } أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ... {.
(/1929)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
قوله تعالى:
{ أَفَأَمِنَ... } [النحل: 45].
عبارة عن همزة الاستفهام التي تستفهم عن مضمون الجملة بعدها.. أما الفاء بعدها فهي
حَرْف عَطْف يعطف جملة على جملة.. إذن: هنا جملة قبل الفاء تقديرها: أجهلوا ما وقع
لمخالفي الأنبياء السابقين من العذاب، فأمِنُوا مكر الله؟
أي: أن أَمْنهم لمكر الله ناشيءٌ عن جهلهم بما وقع للمكَذِّبين من الأمم السابقة.
ثم يقول تعالى:
{ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ.... } [النحل: 45].
المكر: هو التبييت الخفيّ للنيْل ممَّنْ لا يستطيع مجابهته بالحق ومجاهرته به،
فأنت لا تُبيِّت لأحد إلا إذا كانت قدرتُك عاجزة عن مُصَارحته مباشرة، فكوْنُك
تُبيّت له وتمكر به دليل على عَجْزك؛ ولذلك جعلوا المكر أول مراتب الجُبْن؛ لأن
الماكر ما مكر إلا لعجزه عن المواجهة، وعلى قَدْر ما يكون المكْر عظيماً يكون
الضعف كذلك.
وهذا ما نلحظه من قوله تعالى في حَقِّ النساء:{ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ.. }[يوسف: 28].
وقال في حَقِّ الشيطان:{ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً }[النساء: 76].
فالمكر دليل على الضعف، وما دام كَيْدهُن عظيماً إذن: ضَعْفُهن أيضاً عظيم، وكذلك
في كيد الشيطان.
وقديماً قالوا: إياك أنْ يملكَك الضعيف؛ ذلك لأنه إذا تمكَّن منك وواتَتْه الفرصة
فلن يدعَكَ تُفلت منه؛ لأنه يعلم ضعفه، ولا يضمن أن تُتاحَ له الفرصة مرة أخرى؛
لذلك لا يضيعها على عكس القويّ، فهو لا يحرص على الانتقام إذا أُتيحَتْ له الفرصة
وربما فَوَّتها لقُوته وقُدرته على خَصْمه، وتمكّنه منه في أيِّ وقت يريد، وفي نفس
المعنى جاء قول الشاعر:وَضَعِيفة فإذَا أَصَابتْ فُرْصةً قتلَتْ كذلِكَ قُدرةُ
الضُّعَفاءِإذن: قدرة الضعفاء قد تقتل، أما قدرة القويّ فليستْ كذلك.
ثم لنا وقْفة أخرى مع المكْر، من حيث إن المكر قد ينصرك على مُساويك وعلى مثلك من
بني الإنسان، فإذا ما تعرضْتَ لمن هو أقوى منك وأكثر منك حَيْطة، وأحكم منك
مكْراً، فربما لا يُجدِي مكرُك به، بل ربما غلبك هو بمكْره واحتياطه، فكيف الحال
إذا كَان الماكر بك هو ربِّ العالمين تبارك وتعالى؟
وصدق الله العظيم حيث قال:{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ }[ الأنفال: 30].
وقال:{ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }[فاطر: 43].
فمكْر العباد مكشوف عند الله، أما مكْرُه سبحانه فلا يقدر عليه أحد، ولا يحتاط منه
أحد؛ لذلك كان الحق سبحانه خَيْر الماكرين.
والمكْر السَّيء هو المكْر البطَّال الذي لا يكون إلا في الشر، كما حدث من مَكْر
المكذِّبين للرسل على مَرِّ العصور، وهو أن تكيد للغير كيْداً يُبطل حَقّاً.
وكل رسول قابله قومه المنكرون له بالمكر والخديعة، دليل على أنهم لا يستطيعون
مواجهته مباشرة، وقد تعرَّض الرسول صلى الله عليه وسلم لمراحل متعددة من الكَيْد
والمكْر والخديعة، وذلك لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى وهي أن يُوئس الكفار من
الانتصار عليه صلى الله عليه وسلم، فقد بيَّتوا له ودَبَّروا لقتله، وحَاكُوا في
سبيل ذلك الخطط، وقد باءتْ خُطتهم ليلة الهجرة بالفشل.
وفي مكيدة أخرى حاولوا أن يَسْحروه صلى الله عليه وسلم، ولكن كشف الله أمرهم
وخيَّب سعيهم.. إذن: فأيّ وسيلة من وسائل دَحْض هذه الدعوة لم تنجحوا فيها، ونصره
الله عليكم. كما قال تعالى:{ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي...
}[المجادلة: 21].
وقوله تعالى:
} أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ... { [النحل: 45].
الخسْف: هو تغييب الأرض ما على ظهرها.. فانخسفَ الشيء أيْ: غاب في باطن الأرض،
ومنه خُسوف القمر أي: غياب ضَوْئه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى عن قارون:{
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ }[القصص: 81].
وهذا نوع من العذاب الذي جاء على صُور متعددة كما ذكرها القرآن الكريم:{ فَكُلاًّ
أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ
مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ
وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا.. }[العنكبوت: 40].
هذه ألوان من العذاب الذي حاقَ بالمكذبين، وكان يجب على هؤلاء أن يأخذوا من
سابقيهم عبرة وعظة، وأنْ يحتاطوا أن يحدث لهم كما حدث لسابقيهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
} أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ { [النحل: 45].
والمراد أنهم إذا احتاطوا لمكْر الله وللعذاب الواقع بهم، أتاهم الله من وجهة لا
يشعرون بها، ولم تخطُر لهم على بال، وطالما لم تخطُرْ لهم على بال، إذن: فلم
يحتاطوا لها، فيكون أَخْذهم يسيراً، كما قال تعالى:{ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ
حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ... }[الحشر: 2].
ويتابع الحق سبحانه، فيقول: } أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي... {.
(/1930)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
التقلب: الانتقال من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان، والانتقال من مكان الإقامة
إلى مكان آخر دليلُ القوة والمقدرة، حيث ينتقل الإنسان من مكانه حاملاً متاعه
وعَتَاده وجميع ما يملك؛ لينشيء له حركةَ حياة جديدة في مكانه الجديد.
إذن: التقلُّب في الحياة مظهر من مظاهر القوة، بحيث يستطيع أن يقيم حياة جديدة،
ويحفظ ماله في رحلة تقلُّبه.. ولا شكَّ أن هذا مظهر من مظاهر العزة والجاه والثراء
لا يقوم به إلا القوي.
ولذلك نرى في قول الحق تبارك وتعالى عن أهل سبأ:{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا
السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبَّنَا
بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا }[سبأ: 18-19].
فهؤلاء قوم جمع الله لهم ألواناً شتى من النعيم، وأمَّن بلادهم وأسفارهم، وجعل لهم
محطات للراحة أثناء سفرهم، ولكنهم للعجب طلبوا من الله أن يُباعد بين أسفارهم،
كأنهم أرادوا أنْ يتميزوا عن الضعفاء غير القادرين على مشقة السفر والترحال،
فقالوا:{ بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا }[سبأ: 19].
حتى لا يقدر الضعفاء منهم على خَوْض هذه المسافات.
إذن: الذي يتقلَّب في الأرض دليل على أن له من الحال حال إقامة وحال ظَعْن وقدرة
على أن ينقل ما لديه ليقيم به في مكان آخر؛ ولذلك قالوا: المال في الغربة وطن..
ومَنْ كان قادراً يفعل ما يريد.
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ }[آل عمران: 196].
فلا يخيفنك انتقالهم بين رحلتي الشتاء والصَّيْف، فالله تعالى قادر أن يأخذَهم في
تقلُّبهم.
وقد يُراد تقلّبهم في الأفكار والمكْر السيء بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته
كما في قوله تعالى:{ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ
الأُمُورَ }[التوبة: 48].
فقد قعدوا يُخطّطون ويمكُرون ويُدبِّرون للقضاء على الدعوة في مَهْدها.
ويقول تعالى:
{ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [النحل: 46].
المعجز: هو الذي لا يمَكِّنك من أنْ تغلبه، وهؤلاء لن يُعجِزوا الله تعالى، ولن
يستطيعوا الإفلاتَ من عذابه؛ لأنهم مهما بَيَّتوا فتبييتهم وكَيْدهم عند الله..
أما كيْد الله إذا أراد أنْ يكيد لهم فلن يشعروا به:{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ
اللَّهُ }[الأنفال: 30].
وقال:{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً }[الطارق: 15-17].
فمَنْ لا يستطيع أن يغلبك يخضع لك، وما دام يخضع لك يسيطر عليه المنهج الذي جِئْتَ
به.
وقد يكون العجز أمام القوىّ دليلَ قوة، كما عجز العرب أمام تحدِّي القرآن لهم،
فكان عجزهم أمام كتاب الله دليلَ قوتهم في المجال الذي تحدَّاهم القرآن فيه؛ لأن
الله تعالى حين يتحدَّى وحين يُنازل لا ينازل الضعيف، لا بل ينازل القوي في مجال
هذا التحدِّي.
(/1931)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
التخوُّف: هو الفزع من شيء لم يحدث بعد، فيذهب فيه الخيال مذاهبَ شتَّى، ويتوقع
الإنسان ألواناً متعددة من الشر، في حين أن الواقع يحدث على وجه واحد.
هَبْ أنك في انتظار حبيب تأخَّر عن موعد وصوله، فيذهب بك الخيال والاحتمال إلى
أمور كثيرة.. يا تُرى حدث كذا أو حدث كذا، وكل خيال من هذه الخيالات له أثر ولذعة
في النفس، وبذلك تكثر المخاوف، أما إن انتظرتَ لتعرفَ الواقع فإنْ كان هناك فزع
كان مرة واحدة.
ولذلك يقولون في الأمثال: (نزول البلا ولا انتظاره) ذلك لأنه إنْ نزل سينزل بلون
واحد، أما انتظاره فيُشيع في النفس ألواناً متعددة من الفزع والخوف.. إذن:
التخُّوف أشدُّ وأعظم من وقوع الحَدث نفسه.
وكان هذا الفزع يعتري الكفار إذا ما عَلِموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
سرية من السَّرايا، فيتوقع كل جماعة منهم أنها تقصدهم، وبذلك يُشيع الله الفزع في
نفوسهم جميعاً، في حين أنها خرجتْ لناحية معينة.
وبعض المفسرين قال: التخوُّف يعني التنقُّص بأنْ ينقص الله من رُقْعة الكفر بدخول
القبائل في الإسلام قبيلةً بعد أخرى، فكلُّ واحدة منها تنقص من رقعة الكفر.. كما
جاء في قوله تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ... }[البقرة: 155].
ثم يقول الحق تبارك وتعالى في تذييل هذه الآية:
{ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 47].
وهل هذا التذييل مناسب للآية وما قبلها من التهديد والوعيد؟ فالعقل يقول: إن
التذييل المناسب لها: إن ربكم لشديد العقاب مثلاً.
لكن يجب هنا أنْ نعلمَ أن هذا هو عطاء الربوبية الذي يشمل العباد جميعاً مؤمنهم
وكافرهم، فالله تعالى استدعى الجميع للدنيا، وتكفَّل للجميع بما يحفظ حياتهم من
شمس وهواء وأرض وسماء، لم تُخلَق هذه الأشياء لواحد دون الآخر، وقد قال تعالى:{
مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ
}[الشورى: 20].
وكأن في الآية لَوْناً من ألوان رحمته سبحانه بخَلْقه وحِرْصه سبحانه على نجاتهم؛
لأنه يُنبِّههم إلى ما يمكن أن يحدث لَهم إذا أصرُّوا على كفرهم، ويُبصِّرهم
بعاقبة كفرهم، والتبصرة عِظَة، والعِظَة رأفة بهم ورحمة حتى لا ينالهم هذا التهديد
وهذا الوعيد.
ومثال هذا التذييل كثير في سورة الرحمن، يقول الحق تبارك وتعالى:{ رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 17-18].
فهذه نعمة ناسبت قوله تعالى:{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن:
18].
وكذلك في قوله تعالى:{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ
لاَّ يَبْغِيَانِ }[الرحمن: 19-20].
فهذه نعمة من نعم الله ناسبت تذييل الآية:{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 21].
أما في قوله تعالى:{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىا وَجْهُ رَبِّكَ ذُو
الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن:
26-28].
فما النعمة في{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }؟ هل الموت نعمة؟!
نعم، يكون الموت نعمة من نِعَم الله على عباده؛ لأنه يقول للمحسن: سيأتي الموت
لتلقَى جزاء إحسانك وثواب عملك، ويقول أيضاً للكافر: انتبه واحذر.. الموت قادم،
كأنه سبحانه يُوقِظ الكفار ويَعِظهم لينتهوا عما هم فيه.. أليست هذه نعمة من نعم
الله ورحمة منه سبحانه بعباده؟
وكذلك انظر إلى قول الحق تبارك وتعالى:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ
وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
}[الرحمن: 35-36].
فأيّ نعمة في:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ }[الرحمن:
35].
أيُّ نعمة في هذا العذاب؟
نعم المتدبِّر لهذه الآية يجد فيها نعمة عظيمة؛ لأن فيها تهديداً ووعيداً بالعذاب
إذا استمروا على ما هم فيه من الكفر.. ففي طيَّاتها تحذير وحِرْص على نجاتهم كما
تتوعد ولدك: إذا أهملتَ دروسك ستفشل وأفعل بك كذا وكذا. وأنت ما قلت ذلك إلا
لحِرصك على نجاحه وفلاحه.
إذن: فتذييل الآية بقوله:
} فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { [النحل: 47].
تذييل مناسب لما قبلها من التهديد والوعيد، وفيها بيان لرحمة الله التي يدعو إليها
كلاً من المؤمن والكافر.
ثم يقول الحق سبحانه: } أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىا مَا خَلَقَ.. {.
(/1932)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
قوله تعالى:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ... } [النحل: 48].
المعنى: أَعَمُوا ولم يَرَوْا ولم يتدبروا فيها خلق الله؟
{ مِن شَيْءٍ } [النحل: 48].
كلمة شيء يسمونها جنس الأجناس، و { مِن } تفيد ابتداء ما يُقال له شيء، أي: أتفه
شيء موجود، وهذا يسمونه أدنى الأجناس.. وتفيد أيضاً العموم فيكون:
{ مِن شَيْءٍ... } [النحل: 48].
أي: كل شيء.
فانظر إلى أيّ شيء في الوجود مهما كان هذا الشيء تافهاً ستجد له ظِلاً:
{ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ... } [النحل: 48].
يتفيأ: من فاءَ أي: رجع، والمراد عودة الظل مرة أخرى إلى الشمس، أو عودة الشمس إلى
الظل.
فلو نظرنا إلى الظل نجده نوعين: ظل ثابت مستمر، وظل مُتغيّر، فالظل الثابت دائماً
في الأماكن التي لا تصل إليها أشعة الشمس، كقاع البحار وباطن الأرض، فهذا ظِلٌّ
ثابت لا تأتيه أشعة الشمس في أي وقت من الأوقات.
والظلّ المتحرك الذي يُسمّى الفَيْء لأنه يعود من الظل إلى الشمس، أو من الشمس إلى
الظل، إذن: لا يُسمَّى الظل فَيْئاً إلا إذا كان يرجع إلى ما كان عليه.
ولكن.. كيف يتكّون الظل؟ يتكّون الظل إذا مَا استعرض الشمسَ جسم كثيف يحجب شعاع
الشمس، فيكون ظِلاً له في الناحية المقابلة للشمس، هذا الظل له طُولان وله استواء
واحد.
طول عند الشروق إلى أنْ يبلغَ المغرب، ثم يأخذ في التناقص مع ارتفاع الشمس، فإذا
ما استوتْ الشمس في السماء يصبح ظِلّ الشيء في نفسه، وهذه حالة الاستواء، ثم تميل
الشمس إلى الغروب، وينعكس طول الظلّ الأول من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق.
ويلفتنا الحق تبارك وتعالى إلى هذه الآية الكونية في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ
إِلَىا رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ
جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً
يَسِيراً }[الفرقان: 45-46].
ذلك لأنك لو نظرتَ إلى الظلِّ وكيف يمتدُّ، وكيف ينقبض وينحسر لوجدتَ شيئاً عجيباً
حقاً.. ذلك لأنك تلاحظ الظل في الحالتين يسير سَيْراً انسيابياً.
ما معنى: (انسيابي)؟ هو نوع من أنواع الحركة، فالحركة إما حركة انسيابية، أو حركة
عن توالي سكونات بين الحركات.
وهذه الأخيرة نلاحظها في حركة عقارب الساعة، وهي أوضح في عقرب الثواني منها في
عقرب الدقائق، ولا تكاد تشعر بها في عقرب الساعات.. فلو لاحظت عقرب الثواني
لوجدتَه يسير عن طريق قفزات منتظمة، تكون حركة فسكوناً فحركة، وهكذا..
ومعنى ذلك أنه يجمع الحركة في حال سكونه، ثم ينطلق بها، وبذلك تمرُّ عليه لحظة لم
يكن مُتحركاً فيها، وهذا ما نسميه بالحركة القفزية.. هذه الحركة لا تستطيع رَصْدها
في عقرب الساعات؛ لأن القفزة فيه دقيقة لدرجة أن العين المجردة تعجز عن رَصْدها
وملاحظتها، هذه هي الحركة القفزية.
أما الحركة الانسيابية، فتعني أن كل جزء من الزمن فيه جزء من الحركة.. أي: حركة
مستمرة ومُوزّعة بانتظام على الزمن.
ونضرب لذلك مثلاً بنمو الطفل.. الطفل الوليد ينمو باستمرار، لكن أمه لملازمتها له
لا تلاحظ هذا النمو؛ لأن نظرها عليه دائماً.. فكيف تكون حركة النمو في الطفل؟ هل
حركة قفزية يتجمع فيها نمو الطفل كل أسبوع أو كل شهر مثلاً، ثم ينمو طَفْرة واحدة؟
لو كان نموه هكذا لَلاَحظنا نمو الطفل، لكنه ليس كذلك، بل ينمو بحركة انسيابية
تُوزّع المِلِّي الواحد من النمو على طول الزمن. فلا نكاد نشعر بنموه.
وهكذا حركة الشمس حركة انسيابية، بحيث تُوزع جزئيات الحركة على جُزئيات الزمن،
فالشمس ليست مركونة إلى ميكانيكا تتحرك عن التروس كالساعة مثلاً، لا.. بل مركونة
إلى أمر الله، موصولة بكُنْ الدائمة.
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن يلِفتَ خَلْقه إلى ظاهرة كونية في الوجود مُحسّة،
يدركها كلٌّ مِنّا في ذاته، وفيما يرى من المرائي، ومن هذه المظاهر ظاهرة الظَلّ
التي يعجز الإنسان عن إدراك حركته.
وفي آية أخرى يقول الحق تبارك وتعالى:{ وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ
}[الرعد: 15].
فالحق سبحانه يريد أن يُعمم الفكرة التسبيحية في الكون كله، كما قال تعالى:{ وَإِن
مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ... }[الإسراء: 44].
فكل ما يُطلَق عليه شيء فهو يُسبِّح مهما كان صغيراً.
وقوله تعالى:
} يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ... { [النحل: 48].
لنا هنا وقفة مع الأداء القرآني، حيث أتى باليمين مُفْرداً، في حين أتى بالشمائل
على صورة الجمع؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لما قال:
} أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىا مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ... { [النحل: 48].
أتى بأقلّ ما يُتصوَّر من مخلوقاته سبحانه } مِن شَيْءٍ... { وهو مفرد، ثم قال
سبحانه:
} ظِلاَلُهُ.. { [النحل: 48].
بصيغة الجمع. أي: مجمع هذه الأشياء، فالإنسان لا يتفيأ ظِلّ شيء واحد، لا.. بل
ظِلّ أشياء متعددة.
و } مِن { هنا أفادت العموم:
} مِن شَيْءٍ.. { [النحل: 48].
أي: كل شيء. فليناسب المفرد جاء باليمين، وليناسب الجمع جاء بالشمائل.
ثم يقول تعالى:
} سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ { [النحل: 48].
فما العلاقة بين حركة الظلّ وبين السجود؟
معنى: سُجّداً أي: خضوعاً لله، وكأن حركة الظل وامتداده على امتداد الزمن دليلٌ على
أنه موصول بالمحرك الأعلى له، والقائل الأعلى لـ " كُنْ " ، والظل آية
من آياته سبحانه مُسخّرة له ساجدة خاضعة لقوله: كُنْ فيكون.
وقلنا: إن هناك فرقاً بين الشيء تُعِده إعداداً كَوْنياً، والشيء تُعِده إعداداً
قدرياً.. فصانع القنبلة الزمنية يُعِدُّها لأنْ تنفجرَ في الزمن الذي يريده، وليس
الأمر كذلك في إعداد الكون.
الكون أعدّه الله إعداداً قدرياً قائماً على قوله كُنْ، وفي انتظار لهذا الأمر
الإلهي باستمرار (كن فيكون).
وهكذا.. فليست المسألة مضبوطة ميكانيكاً، لا.. بل مضبوطة قَدرياً.
لذلك يحلو لبعض الناس أن يقول: باقٍ للشمس كذا من السنين ثم ينتهي ضوؤها، ويُرتّب
على هذا الحكم أشياء أخرى.. نقول: لا.. ليس الأمر كذلك.. فالشمس خاضعة للإعداد
القدريّ منضبطةٌ به ومنتظرة لـ " كُنْ " التي يُصغِي لها الكون كله؛
ولذلك يقول تعالى:{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن: 29].
هكذا بيَّنت الآية الكريمة أن كل ما يُقال له " شيء " يسجد لله عز وجل،
وكلمة " شيء " جاءت مُفْردة دالّة على العموم.. وقد عرفنا السجود فيما
كلَّفنا الله به من ركن في الصلاة، وهو مُنْتَهى الخضوع، خضوع الذات من العابد
للمعبود، فنحن نخضع واقفين، ونخضع راكعين، ونخضع قاعدين، ولكن أتمَّ الخضوع يكون
بأنْ نسجدَ لله.. ولماذا كان أتمَّ الخضوع أن نسجدَ لله؟
نقول: لأن الإنسان له ذات عامة، وفي هذا الذات سيد للذات، بحيث إذا أُطلِق انصرف
إلى الذات، والمراد به الوجه؛ لذلك حينما يعبّر الحق تبارك وتعالى عن فَنَاء
الوجود يقول:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ.. }[القصص: 88].
وكذلك في قوله:{ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَىا * وَلَسَوْفَ
يَرْضَىا }[الليل: 20-21].
فيُطلَق الوجه ويُراد به الذات، فإذا ما سجد الوجه لله تعالى دلَّ ذلك على خضوع
الذات كلها؛ لأن أشرف ما في الإنسان وجهه، فإذا ما ألصقه بالأرض فقد جاء بمنتهى
الخضوع بكل ذاته للمعبود عز وجل.
كما دَلَّتْ الآية على أن الظل أيضاً يسجد لربه وخالقه سبحانه، والظلال قد تكون
لجمادات كالشجر مثلاً، أو بناية أو جبل، وهذه الأشياء الثابتة يكون ظِلّها أيضاً
ثابتاً لا يتحرك، أما ظِلّ الإنسان أو الحيوان فهو ظل متحرك، وقد ضرب لنا الحق
تبارك وتعالى مثلاً في الخضوع التام بالظلال؛ لأن ظل كل شيء لا يفارق الأرض أبداً،
وهذا مثال للخضوع الكامل.
ثم يرتفع الحق تبارك وتعالى بمسألة السجود من الجمادات في الظلال في قوله:{
وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ }[الرعد: 15].
يعني الذوات تسجد، وكذلك الظلال تسجد؛ ولذلك يتعجب بعض العارفين من الكافر.. يقول:
أيها الكافر ظِلُّك ساجد وأنت جاحد.. جاء هذا الترقِّي في قوله تعالى: } وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ... {.
(/1933)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
فأجناس الكون التي يعرفها الإنسان أربعة: إما جماد، فإذا وجدتَ خاصية النمو كان
النبات، وإذا وجدتَ خاصية الحركة والحسِّ كان الحيوان، فإذا وجدتَ خاصية الفِكْر
كان الإنسان، وإذا وجدتَ خاصية العلم الذاتي النوراني كان المَلَك.. هذه هي
الأجناس التي نعرفها.
الحق تبارك وتعالى ينقلُنا هنا نَقْلة من الظلال الساجدة، للجمادات الثابتة، إلى
الشيء الذي يتحرك، وهو وإنْ كان مُتحركاً إلا أن ظلّه أيضاً على الأرض، فإذا كان
الحق سبحانه قد قال:
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ.. } [النحل: 49].
فقد فصَّل هذا الإجمال بقوله:
{ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ... } [النحل: 49].
أي: من أقلّ الأشياء المتحركة وهي الدابة، إلى أعلى الأشياء وهي الملائكة..
وقد يقول قائل: وهل ما في السماوات وما في الأرض يسجد لله؟
نقول له: نعم.. لأنك فسرتَ السجود فيك أنت بوضْع جبهتك على الأرض، ليدلّ على أن
الذات بعلُوّها ودنُوّها ساجدة لله خاضعة تمام الخضوع، حيث جعلتَ الجبهة مع القدم.
والحق تبارك وتعالى يريد منّا أن نعرف استطراق العبودية في الوجود كله؛ لأن الكافر
وإنْ كانَ مُتمرِّداً على الله فيما جعل الله له فيه اختيارا، في أنْ يؤمن أو
يكفر، في أن يطيع أو يعصي، ولكن الله أعطاه الاختيار.
نقول له: إنك قد ألفْتَ التمرّد على الله، فطلب منك أن تؤمن لكنك كفرتَ، وطلبَ منك
يا مؤمن أن تطيعَ فعصيتَ، إذن: فلكَ إلْفٌ بالتمرّد على الحق.. ولكن لا تعتقد أنك
خرجتَ من السجود والخضوع لله؛ لأن الله يُجري عليك أشياء تكرهها، ولكنها تقع عليك
رغم أنفك وأنت خاضع.
وهذا معنى قوله تعالى في الآية السابقة:{ وَهُمْ دَاخِرُونَ }[النحل: 48].
أي: صاغرون مُستذلِّون مُنقَادُونَ مع أنهم أَلِفُوا التمرُّد على الحق سبحانه.
وإلا فهذا الذي أَلِف الخروج عن مُرادات الله فيما له فيه اختيار، هل يستطيع أنْ
يتأبَّى على الله إذا أراد أنْ يُمرضه، أو يُفقره، أو يميته؟
لا، لا يستطيع، بل هو داخر صاغر في كل ما يُجريه عليه من مقادير، وإنْ كان يأباها،
وإنْ كان قد أَلِف الخروج عن مُرادات الله.
إذن: ليس في كون الله شيء يستطيع الخروج عن مرادات الله؛ لأنه ما خرج عن مرادات
الله الشرعية في التكليف إلا بما أعطاه الله من اختيار، وإلا لو لم يُعْطه
الاختيار لما استطاع التمرّد، كما في المرادات الكونية التي لا اختيارَ فيها.
لذلك نقول للكافر الذي تمرّد على الحق سبحانه: تمرّد إذا أصابك مرض، وقُلْ: لن
أمرض، تمرَّد على الفقر وقُلْ: لن أفتقر.. وما دُمْتَ لا تقدر وسوف تخضع راغماً
فلتخضعْ راضياً وتكسب الأمر، وتنتهي مشكلة حياتك، وتستقبل حياة أخرى أنظف من هذه
الحياة.
وقوله تعالى:
} مِن دَآبَّةٍ... { [النحل: 49].
هو كل ما يدبّ على الأرض، والدَّبُّ على الأرض معنا الحركة والمشي.. وقوله:
} وَالْمَلائِكَةُ... { [النحل: 49].
أي: أن الملائكة لا يُقال لها دابة؛ لأن الله جعل سَعْيها في الأمور بأجنحة فقال
تعالى:{ أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىا وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ.. }[فاطر: 1].
وقال في آية أخرى:{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ... }[الأنعام: 38].
فخلق الله الطائر يطير بجناحيه مقابلاً للدابة التي تدب على الأرض، فاستحوذ على
الأمرين: الدابة والملائكة.
و } مَا { في الآية تُطلق على غير العالمين وغير العاقلين؛ ذلك لأن أغلبَ الأشياء
الموجودة في الكون ليس لها عِلْم أو معرفة؛ ولذلك قال تعالى في آية أخرى:{ إِنَّا
عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا.. }[الأحزاب: 72].
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
} وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ { [النحل: 49].
أي: أن الملائكة الذين هم أعلى شيء في خَلْق الله لا يستكبرون؛ لأن علوّهم في
الخَلْق من نورانية وكذا وكذا لا يعطيهم إدلالاً على خالقهم سبحانه؛ لأن الذي أعطاهم
هذا التكريم هو الله سبحانه وتعالى.
وما دام الله هو الذي أعطاهم هذا التكريم فلا يجوز الإدلال به؛ لأن الذي يُدِلُّ
إنما يُدِلُّ بالذاتيات غير الموهوبة، أما الشيء الموهوب من الغير فلاَ يجوز أن
تُدِلَّ به على مَنْ وهبه لك.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى:{ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً
للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ.. }[النساء: 172].
فلن يمتنعوا عن عبادة الله والسجود له رغم أن الله كرَّمهم ورفعهم.
ثم يقول تعالى: } يَخَافُونَ رَبَّهُمْ.. {.
(/1934)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
ما هو الخوف؟ الخوف هو الفزع والوجَلَ، والخوف والفزع والوجل لا يكون إلا من ترقب
شيء من أعلى منك لا تقدر أنت على رَفْعه، ولو أمكنك رَفْعه لما كان هناك داعٍٍ
للخوف منه؛ لذلك فالأمور التي تدخل في مقدوراتك لا تخاف منها، تقول: إنْ حصل كذا
افعل كذا.. الخ:
وإذا كان الملائكة الكرام:{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم: 6].
فما داعي الخوف إذن؟ نقول: إن الخوف قد يكون من تقصير حدث منك تخاف عاقبته، وقد
يكون الخوف عن مهابة للمخُوف وإجلاله وتعظيمه دون ذنب ودون تقصير، ولذلك نجد
الشاعر العربي يقول في تبرير هذا الخوف:أَهَابُكَ إِجْلاَلاً ومَا بِكَ قُدْرة
عليَّ ولكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيبُهاإذن: مرّة يأتي الخوف لتوقُّع أذى لتقصير
منك، ومرَّة يأتي لمجرد المهابة والإجلال والتعظيم.
وقوله تعالى:
{ مِّن فَوْقِهِمْ } [النحل: 50].
ما المراد بالفوْقية هنا؟ نحن نعرف أن الجهات ستّ: فوق، وتحت، ويمين، وشمال،
وأمام، وخلف.. بقيتْ جهة الفَوقْية لتكون هي المسيطرة؛ ولذلك حتى في بناء الحصون
يُشيّدونها على الأماكن العالية لتتحكم بعلُوّها في متابعة جميع الجهات.
إذن: فالفوقية هي محلّ العُلو، وهذه الفوقية قد تكون فوقية مكان، أو فوقية مكانة.
فالذي يقول: إنها فوقية مكان، يرى أن الله في السماء، بدليل أن الجارية التي
سُئِلت: أين الله؟ أشارتْ إلى السماء، وقالت: في السماء.
فأشارت إلى جهة العُلُو؛ لأنه لا يصح أن نقول: إن الله تحت، فالله سبحانه مُنزَّه
عن المكان، وما نُزِّه عن المكان نُزِّه عن الزمان، فالله عز وجل مُنزَّه عن أنْ
تُحيّزه، لا بمكان ولا بزمان؛ لأن المكان والزمان به خُلِقاً.. فمَن الذي خلق
الزمان والمكان؟
إذن: ما داما به خُلِقاً فهو سبحانه مُنزَّه عن الزمان والمكان.
وهم قالوا بأن الفوقية هنا فوقية حقيقية.. فوقية مكان، أي: أنه تعالى أعلى مِنّا..
ونقول لمن يقول بهذه الفوقية: الله أَعْلى مِنّا.. من أيّ ناحية؟ من هذه أم من
هذه؟
إذن: الفوقية هنا فوقية مكانة، بدليل أننا نرى الحرس الذين يحرسون القصور ويحرسون
الحصون يكون الحارس أعلى من المحروس.. فوقه، فهو فوقه مكاناً، إنما هل هو فوقه
مكانة؟ بالطبع لا.
وقوله تعالى:
{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50].
وهذه هي الطاعة، وهي أن تفعلَ ما أُمِرتْ به، وأنْ تجتنبَ ما نُهيتَ عنه، ولكن
الآية هنا ذكرت جانباً واحداً من الطاعة، وهو:
{ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل: 50].
ولم تقُلْ الآية مثلاً: ويجتنبون ما ينهوْنَ عنه، لماذا؟.. نقول: لأن في الآية ما
يسمونه بالتلازم المنطقي، والمراد بالتلازم المنطقي أن كلَّ نهي عن شيء فيه أمر
بما يقابله، فكل نهي يؤول إلى أمر بمقابله.
فقوله سبحانه:
} وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ { [النحل: 50].
تستلزم منطقياً " ويجتنبون ما يُنهَوْن عنه " وكأن الآية جمعت الجانبين.
والحق سبحانه وتعالى خلق الملائكة لا عمل لهم إلا أنهم هُيِّموا في ذات الله،
ومنهم ملائكة مُوكّلون بالخلق، وهم:{ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً }[النازعات: 5].
ويقول تعالى:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.. }[الرعد: 11].
ومنهم:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ }[الانفطار:
10-11].
إذن: فهناك ملائكة لها علاقة بِنَا، وهم الذين أمرهم الحق سبحانه أن يسجدوا لآدم
حينما خلقه الله، وصوَّره بيده، ونفخ فيه من رُوحه.. وكأن الله سبحانه يقول لهم:
هذا هو الإنسان الذي ستكونون في خدمته، فالسجود له بأمر الله إعلانٌ بأنهم يحفظونه
من أمر الله، ويكتبون له كذا، ويعملون له كذا، ويُدبِّرون له الأمور.. الخ.
أما الملائكة الذين لا علاقة لهم بالإنسان، ولا يدرون به، ولا يعرفون عنه شيئاً،
هؤلاء المعْنِيون في قوله سبحانه لإبليس:{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ
الْعَالِينَ }[ص: 75].
أي: أستكبرتَ أنْ تسجدَ؟ أم كنتَ من الصِّنْف الملَكي العالي؟.. هذا الصنف من
الملائكة ليس لهم علاقة بالإنسان، وكُلُّ مهمتهم التسبيح والذكْر، وهم المعنيون
بقوله تعالى:{ يُسَبِّحُونَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }[الأنبياء:
20].
كلُّ شيء ـ إذن ـ في الوجود خاضع لمرادات الحق سبحانه منه، إلا ما استثنى الله فيه
الإنسان بالاختيار، فالله سبحانه لم يقهر أحداً، لا الإنسان ولا الكون الذي يعيش
فيه، فقد عرض الله سبحانه الأمانة على السماوات والأرض والجبال، فأبيْنَ أن
يحملنها وأشفقْنَ منها.. وكأنها قالت: لا نريد أن نكون مختارين، بل نريد أن نكون
مُسخَّرين، ولا دَخْلَ لنا في موضوع الأمانة والتكليف!!
لماذا ـ إذن ـ يأبى الكون بسمائه وأرضه تحمُّل هذه المسئولية؟
نقول: لأن هناك فَرْقاً بين تقبُّل الشيء وقت تحمُّله، والقدرة على الشيء وقت
أدائه.. هناك فَرْق.. عندنا تحمُّل وعندنا أداء.. وقد سبق أنْ ضربنا مثلاً لتحمُّل
الأمانة وقُلْنا: هَبْ أن إنساناً أراد أن يُودع عندك مبلغاً من المال مخافة
تبديده لتحفظه له لحين الحاجة إليه، وأنت في هذا الوقت قادر على التحمل وتنوي أداء
أمانته إليه عند طلبها وذمَّتك قوية، ونيتك صادقة.
وهذا وقت تحمُّل الأمانة، فإذا ما جاء وقت الأداء، فربما تضطرك الظروف إلى إنفاق
هذا المال، أو يعرض لك عارضٌ يمنعك من الأداء أو تتغيّر ذمتك.
إذن: وقت الأداء شيء آخر.
لذلك، فالذي يريد أنْ يُبريء ذمته لا يضمن وقت الأداء ويمتنع عن تحمُّل الأمانة
ويقول لنفسه: لا، إن كنت أضمن نفسي وقت التحمل فلا أضمن نفسي وقت الأداء.
هذا مثال لما حدثَ من السماء والأرض والجبال حينما رفضت تحمُّل الأمانة، ذلك لأنها
تُقدّر مسئوليتها وثقلها وعدم ضمان القيام بحقها، لذلك رفضت تحمُّلها من بداية
الأمر.
وكذلك يجب أن يكون الإنسان عاقلاً عند تحمُّل الأمانات؛ ولذلك يقول تعالى:{
وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].
ما الذي جهله الإنسان؟ جهل تقدير حالة وقت أداء الأمانة، فظلم نفسه، ولو أنه خرج
من باب الجمال كما يقولون لَقالَ: يا ربِّ اجعلني مثل السماء والأرض والجبال، وما
تُجريه عليَّ، فأنا طَوْع أمرك.
ولذلك، فمن عباد الله مَنْ قَبِل الاختيار وتحمَّل التكليف، ولكنه خرج عن اختياره
ومراده لمراد ربِّه وخالقه، فقال: يا رب أنت خلقْتَ فينا اختياراً، ونحن به قادرون
أن نفعل أو لا نفعل، ولكنَّا تنازلنا عن اختيارنا لاختيارك، وعن مرادنا لمرادك،
ونحن طَوْع أمرك.. هؤلاء هم عباد الله الذين استحقوا هذه النسبة إليه سبحانه
وتعالى.
إذن: هناك فَرْق بين مَنْ يفعل اختياراً مع قدرته على ألاَّ يفعل، وبين مَنْ يفعل
بالقهر والتسخير.. فالأول مع أنه قادر ألاَّ يفعل، فقد غلَّب مُراد ربِّه في
التكليف على مراد نفسه في الاختيار.
ثم ينتقل الحق ـ تبارك وتعالى ـ إلى قمة القضايا العقدية بالنسبة للإنسان، فيقول
تعالى: } وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ... {.
(/1935)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
وقد جاء النهي في الآية نتيجة خروج الإنسان عن مُراد ربِّه سبحانه، فالعجيب أن
البشر والجن أيضاً ـ يعني الثقلين ـ هم المختارون في الكون كله، اختيار في أشياء
وقَهْر في أشياء أخرى.. ومع ذلك لم يشذّ من خَلْق الله غيرهما.
فالسماوات والأرض والجبال كان لها اختيار، وقد اختارت التسخير، وانتهت المسألة في
بداية الأمر، ومع ذلك فهي مُسخَّرة وتُؤدِّي مهمتها لخدمة الإنسان، فالشمس لم
تعترض يوماً ولم ترفض.. فهي تشرق على المؤمن كما تشرق على الكافر.. وكذلك الهواء
والأرض والدابة الحلوب، وكل ما في كون الله مُسخَّر للجميع.. إذن: كل هذه الأشياء
لها مهمة، وتؤدي مُهمتها على أكمل وجه.
ولذلك يقول تعالى في حقِّ هذه الأشياء:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ
مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ... }[الحج: 18]
هكذا بالإجماع، لا يتخلّف منها شئ عن مُراد ربه.
فما الحال في الإنسان؟ يقول تعالى:{ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ }[الحج: 18].
ولم يَقُلْ: والناس. ثم قال:{ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ }[الحج: 18].
هذا هو الحال في الإنسان المكرّم الذي اختاره الله وترك له الاختيار.. إنما كل
الأجناس مُؤدّيه واجبها؛ لأنها أخذتْ حظّها من الاختيار الأول، فاختارت أن تكون
مُسخَّرة، وأن تكون مقهورة.
فالإنسان.. واحد يقول: لا إلهَ في الوجود.. العالم خُلِق هكذا بطبيعته، وآخر يقول:
بل هناك آلهة متعددة؛ لأن العالم به مصالح كثيرة وأشياء لا ينهض بها إله واحد..
يعني: إله للسماء، وإله للأرض، وإله للشمس.. الخ.
إذن: هذا رأي في العالم أشياء كثيرة بحيث لا ينهض بها في نظره إله واحد، ونقول له:
أنت أخذتَ قدرة الإله من قدرة الفردية فيك.. لا.. خُذها من قدرة من:{ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى: 11].
لأن القدرة الإلهية لا تعالج الأشياء كما تفعل أنت، وتحتاج إلى مجهود وعمل.. بل في
حقّه تعالى يتم هذا كله بكلمة كُنْ.. كُنْ كذا وانتهت المسألة.
ونعجب من تناقض هؤلاء، واحد يقول: الكون خُلِق هكذا لحاله دون إله. والآخر يقول:
بل له آلهة متعددة.. نقول لهم: أنتم متناقضون، فتعالَوْا إلى دين الله، وإلى
الوسطية التي تقول بإله واحد، لا تنفي الألوهية ولا تثبت التعددية.
فإنْ كنتَ تظنُّ أن دولابَ الكون يقتضي أجهزة كثيرة لإدارته، فاعلم أن الله تعالى
لا يباشر تدبير أمر الكون بعلاج.. يفعل هذه ويفعل هذه، كما يُزاول البشر أعمالهم،
بل يفعلها بـ " كُنْ "؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث
القدسي: " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وحيَّكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم
اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم ما
سأل ما نقص ذلك من مُلْكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها
إليه، ذلك بأنِّي جواد ماجد، افعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري
بشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون ".
فيا مَنْ تُشفْق على الإله الواحد أن يتعبَ من إدارته للكون بشتى نواحيه، ارتفع
بمستوى الألوهية عن أمثال البشر؛ لأن الله تعالى لا يباشر سلطانه علاجاً في الكون،
وإنما يباشره بكلمة " كُنْ ".
إذن: إله واحد يكفي، وما دُمْنا سلَّمنا بإله واحد، فإياك أن تقول بتعدُّد
الآلهة.. وإذا كان الحق تبارك وتعالى نفى إلهين اثنين، فنَفْي ما هو أكثر من ذلك
أَوْلَى.. واثنان أقل صُور التعدد.
ومعنى } إِلـاهَيْنِ { أي: معبودين، فيكون لهما أوامر ونواه، والأوامر والنواهي
تحتاج إلى طاعة، والكون يحتاج إلى تدبير، فأيُّ الإلهين يقوم بتدبير أمور الكون؟
أم أنه يحتاج إلى مُسَاعد؟ إنْ كان يحتاج إلى مساعد فهذا نقْص فيه، ولا يصلح أن
يكون إلهاً.
وكذلك إنْ تخصَّص كُلٌّ منهما في عمل ما، هذا لكذا وهذا لكذا، فقد أصبح أحدهما
عاجزاً فيما يقوم به الآخر.. وأي ناحية إذن من نواحي الحياة تكون هي المسيطرة؟
ومعلوم أن نواحي الحياة مشتركة ومتشابكة.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:{ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ
كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ... }[المؤمنون:
91].
وقال:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا }[الأنبياء: 22].
فكيف الحال إذا أراد الأول شيئاً، وأراد الآخر ألاَّ يكون هذا الشيء؟ فإنْ كان
الشيء كان عجزاً في الثاني، وإن لم يكُن كان عجزاً في الأول.. إذن: فقوة أحدهما
عَجْز في الآخر.
ونلحظ في قوله تعالى:
} وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ { [النحل: 51].
عظة بليغة، كأنه سبحانه حينما دعانا إلى توحيده يقول لنا: أريحوا أنفسكم بالتوحيد،
وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الراحة في قوله:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ
يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
}[الزمر: 29].
يعني رجل خُلِّص لسيد واحد، ورجل أسياده كثيرون، وهم شركاء مختلفون، فإنْ أرضى هذا
أغضب ذاك، وإن احتاجه أحدهما تنازعه الآخر. فهو دائماً مُتْعبٌ مُثقَلٌ، أما
المملوك لسيد واحد فلا يخفي ما فيه من راحة.
ففي أمره سبحانه بتوحيده راحةٌ لنا، وكأنه سبحانه يقول: لكم وِجْهة واحدة تكفيكم
كُلَّ الجهات، وتضمن لكم أن الرضا واحد، وأن البُغْض واحد.
إذن: فطلبُه سبحانه راحةٌ لنا؛ لذلك قبل أن يطلبها مِنّا شهد بها لذاته تعالى،
فقال:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ }
[آل عمران: 18].
فلو قال معترض: كيف يشهد لذاته؟ نقول: نعم، يشهد لذاته سبحانه؛ لأنه لا أحدَ غيره..
لا أحد معه، فشهادة الذات للذات هنا شيء طبيعي.. وكأنه سبحانه يقول: لا أحدَ غيري،
وإنْ كان هناك إله غيري فَلْيُرني نفسه، وليُفصِح عن وجوده.
أنا الله خلقت الكون وأخذته وفعلتُ كذا وكذا، فإما أنْ أكون صادقاً فيما قلت
وتنتهي المسألة، وإما أنْ أكون غير صادق، وهناك إله آخر هو الذي خلق.. فأين هو؟
لماذا لا يعارضني؟
وهذا لم يحدث ولم ينازع الله في خَلْقه أحد، وحين تأتي الدعوى بلا معاند ولا معارض
تَسْلَم لصاحبها.
فإنْ قال قائل: لعل الآلهة الأخرى لم تَدْرِ بأن أحداً قد أخذ منهم الألوهية، فإنْ
كان الأمر كذلك فهم لا يصلُحون للألوهية لعدم درايتهم، وإنْ دَرَوْا ولم يعارضوا
فهُمْ جُبناء لا يستحقون هذه المكانة.
وبشهادته سبحانه لذاته بأنه لا إله إلا هو أقبل على خَلْق الخَلْق؛ لأنه مادام
يعرف أنه لا إله غيره، فإذا قال: " كن " فهو واثق أنه سيكون.
ولذلك ساعة يحكم الله حُكْماً غيبياً يقول: أنا حكمت هذا الحكم مع أنكم مختارون في
أنْ تفعلوا أو لا تفعلوا، ولكني حكمتُ بأنكم لا تفعلون، وما دُمْتُ حكمت بأنكم لا
تفعلون ولكم قدرة أن تفعلوا، ولكن ما فعلتم، فهذا دليل على أنه لا إله غيري
يُعينكم على أنْ تفعلوا.
ثم شهدتْ الملائكة على شهادة الذات، وشهد أولو العلم شهادةَ الاستدلال، كما قال
تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ
وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ.. }[آل عمران: 18].
لنا هنا وَقْفة مع قوله تعالى:
} إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ... { [النحل: 51].
فعندنا العدد، وعندنا المعدود، فإذا قُلْنا مثلاً: قابلت ثلاثة رجال، فكلمة "
ثلاثة " دلتْ على العدد، وكلمة " رجال " دلَّتْ على جنس المعدود،
وهكذا في جميع الأعداد ما عدا المفرد والمثنى، فلفظ كل منهما يدل على العدد
والمعدود معاً.
كما لو قلت: إله. فقد دلَّتْ على الوحدة، ودلتْ على الجنس، وكذلك " إلهين
" دلَّتْ على المثنى وعلى جنس المعدود.
ولذلك كان يكفي في الآية الكريمة أن يقول تعالى: لا تتخذوا إلهين؛ لأنها دلَّتْ
على العدد وعلى المعدود معاً، ولكن الحق تبارك وتعالى أراد هذا تأكيداً للأمر
العقديّ لأهميته.
ومن أساليب العرب إذا أحبُّوا تأكيد الكلام أن يأتوا بعده بالمراد. فيقولون: فلان
قسيم وسيم، وفلان حَسن بَسَن، وفلان شيطان ليطان، يريدون تأكيد الصفة.. وكذلك في
قوله: } إِلـاهَيْنِ { فقط تثبت الألوهية، ولتأكيد هذه القضية العقدية لأنها أهمّ
القضايا بالنسبة للإنسان، وهي قضية القمة، فقال تعالى:
} إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ { [النحل: 51].
وكذلك أيضاً في قوله:
} إِنَّمَا هُوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل: 51].
فجاء بقوله تعالى } وَاحِدٌ { لتأكيد وحدانية الله تعالى.
وفي الآية مَلْحظ آخر يجب تأمّله، وهو أن الكلام هنا في حالة الغيبة:
} إِنَّمَا هُوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل: 51].
فكان القياس في اللغة هنا أن يقول: " فإياه فارهبون ".
ولكن وراء تحويل السياق من الغيبة إلى المجابهة للمتكلم قال:
} فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل: 51].
وهذا وراءه حكمة، ومَلْحظ بلاغي، فبعد أنْ أكَّد الألوهية بقوله تعالى:
} إِنَّمَا هُوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ { [النحل: 51].
صَحَّ أنْ يُجابِهَهم بذاته؛ لأن المسألة ما دامتْ مسألة رَهْبة، فالرهبة من
المتكلم خير من الرهبة من الغائب.. وكأن السياق يقول: ها هو سبحانه أمامك، وهذا
أَدْعى للرهْبة.
وكذلك في فاتحة الكتاب نقرأ:{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
الرَّحْمـانِ الرَّحِيمِ * مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }[الفاتحة: 2-4].
ولم يَقُلْ: إياه نعبد، متابعة للغيبة، بل تحوَّل إلى ضمير الخطاب فقال:{ إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5].
ذلك لأن العبد بعد أن استحضر صفة الجلال والعظمة أصبح أَهْلاً للمواجهة والخطاب
المباشر مع الله عز وجل.
فقوله:
} فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل: 51].
بعد ما استحضر العبد عظمة ربه، وأقرّ له بالوحدانية وعَلِم أنه إله واحد، وليس
إلهين. واحد يقول: نُعذّبه. والآخر يقول: لا.
ليس الأمر كذلك، بل إله واحد بيده أنْ يُعذّب، وبيده أنْ يعفو، فناسب السياق هنا
أنْ يُواجههم فيقول:
} فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ { [النحل: 51].
ثم يقول تعالى: } وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... {.
(/1936)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
عندنا هنا اللام.. وقد تكون (اللام) للمِلْك كما في الآية. وكما في: المال لزيد،
وقد تكون للتخصيص إذا دخلتْ اللام على ما لا يملك، كما نقول: اللجام للفرس،
والمفتاح للباب، فالفرس لا يملك اللجام، والباب لا يملك المفتاح. فهذه للتخصيص.
والحق سبحانه يقول هنا:
{ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [النحل: 52].
وفي موضع آخر يقول:{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ }[يونس: 68].
وكذلك في:{ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[الحشر: 24].
ومرة يقول:{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
}[الجمعة: 1].
حينما تكون اللام للملكية قد يكون المملوك مختلفاً ففي قوله:
{ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [النحل: 52].
يعني: القدر المشترك الموجود فيهما. أي: الأشياء الموجودة في السماء وفي الأرض.
أما في قوله:{ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ }[يونس: 68].
أي: الأشياء الموجودة في السماء وليست في الأرض، والأشياء الموجودة في الأرض وليست
في السماء، أي: المخصَّص للسماء والمخصَّص للأرض، وهذا ما يُسمُّونه استيعاب
الملكية.
وما دام سبحانه له ما في السماوات وما في الأرض، فليس لأحد غيره مِلْكية مستقلة،
وما دام ليس لأحد غيره ملكية مستقلة. إذن: فليس له ذاتية وجود؛ لأن وجوده الأول
موهوبٌ له، وما به قيام وجوده موهوب له.. ولذلك يقولون: مَنْ أراد أن يعاند في
الألوهية يجب أن تكون له ذاتية وجود.. وليست هذه إلا لله تعالى.
ونضرب لذلك مثلاً بالولد الصغير الذي يعاند أباه، وهو ما يزال عَالةً عليه. فيقول
له: انتظر إلى أن تكبر وتستقلّ بأمرك.. فإذا ما شَبَّ الولد وبلغ وبدأ في الكَسْب
أمكن له الاعتماد على نفسه، والاستغناء عن أبيه.
لذلك نقول لمن يعاند في الألوهية: أنت لا تقدر؛ لأن وجودك هِبَة، وقيام وجودك
هِبَة، كل شيء يمكن أنْ يُنزع منك.
ولذلك، فالحق سبحانه وتعالى يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى:{ كَلاَّ
إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7].
فهذا الذي رأى نفسه استغنى عن غيره ـ من وجهة نظره ـ إنما هل استغنى حقاً؟.. لا.
لم يستغن، بدليل أنه لا يستطيع أنْ يحتفظَ بما يملك.
قوله تعالى:
{ وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [النحل: 52].
الذي له ما في السماوات والأرض، وبه قيام وجوده بقيوميته، فهو سبحانه يُطمئِنك
ويقول لك: أنا قيُّوم ـ يعني: قائم على أمرك.. ليس قائماً فقط.. بل قيُّوم
بالمبالغة في الفِعْل، وما دام هو سبحانه القائم على أمرك إيجاداً من عَدَم،
وإمداداً من عُدم. إذن: يجب أن تكون طاعتُك له سبحانه لا لغيره.
وفي الأمثال يقولون " اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي " فإذا كنتَ أنت عالة
في الوجود.
. وجودك من الله، وإمدادك من الله، وإبقاء مُقوِّمات حياتك من الله؛ لذلك قال
تعالى:
} وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً { [النحل: 52].
أي: هذه نتيجة؛ لأن لله ما في السماوات والأرض، فَلَه الدين واصباً، أي: له الطاعة
والخضوع دائماً مستمراً، ومُلْك الله دائم، وهو سبحانه لا يُسلم مُلْكَه لأحد، ولا
تزال يد الله في مُلْكه.. وما دام الأمر هكذا فالحق سبحانه يسألهم:
} أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ { [النحل: 52].
والهمزة هنا استفهام للإنكار والتوبيخ، فلا يجوز أنْ تتقيَ غير الله، لأنه حُمْق
لا يليق بك، وقد علمتَ أن لله ما في السماوات وما في الأرض، وله الطاعة الدائمة
والانقياد الدائم، وبه سبحانه قامت السماوات والأرض ومنه سبحانه الإيجاد من عَدَم
والإمداد من عُدم.
إذن: فمن الحُمْق أنْ تتقي غيره، وهو أَوْلى بالتقوى، فإنِ اتقيتُم غيره فذلك
حُمْق في التصرّف يؤدّي إلى العطَب والهلاك، إنِ اغتررتم بأن الله تعالى أعطاكم
نِعَماً لا تُعَدُّ ولا تُحصَى.
ومن نعم الله أن يضمن لعباده سلامة الملكَات وما حولها، فلو سَلِم العقل مثلاً
سَلِمت وصَحَّتْ الأمور التي تتعلق به، فيصحّ النظام، وتصحّ التصَرُّفات، ويصحّ
الاقتصاد.. وهذه نعمة.
فالنعمة تكون للقلب وتكون للقالب، فللقالب المتعة المادية، وللقلب المتعة
المعنوية.. وأهم المتَع المعنوية التي تريح القالب أن يكون للإنسان دينٌ يُوجّهه..
أن يكون له ربٌّ قادر، لا يُعجِزه شيء، فإنْ ضاقتْ به الدنيا، وضاقتْ به الأسباب
فإن له رباً يَلجأ إليه فيُسعفه ويكيفه، وهذه هي الراحة الحقيقة.
وقد ضمن لنا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ سلامة القالب بما أودع في الكون من مُقوِّمات
الحياة في قوله:{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا.. }[فصلت: 10].
أي: اطمئنوا إلى هذا الأمر، فالله سبحانه لا يريد منكم إلا أنْ تُعمِلوا عقولكم
المخلوقة لله لِتُفكِّروا في المادة المخلوقة لله، وتنفعلوا لها بالطاقة المخلوقة
لله في جوارحكم، وسوف تجدون كلَّ شيء مُيسَّراً لكم.. فالله تعالى ما أراد منكم
أنْ تُوجِدوا رزقاً، وإنما أراد أن تُعمِلوا العقل، وتتفاعلوا مع مُعْطيات الكون.
ولكن كيف يتفاعل الإنسان في الحياة؟
هناك أشياء في الوجود خلقها الله سبحانه برحمته وفضله، فهي تفعل لك وإنْ لم تطلب
منها أن تفعل، فأنت لا تطلب من الشمس أنْ تطلُع عليك، ولا من الهواء أنْ يَهُبَّ
عليك.. الخ.
وهناك أشياء أخرى تفعل لك إنْ طلبتَ منها، وتفاعلتَ معها، كالأرض إنْ فعلتَ بيدك
فحرثْتَ وزرعْتَ ورويْتَ تعطيك ما تريد.
وفي هذا المجال من التفاعل يتفاضل الناس، لا يتفاضلون فيما يُفعل لهم دون انفعال
منهم.. لا بل ارتقاء الناس وتفاضُلهم يكون بالأشياء التي تنفعل لهم إنْ فعلوا..
أما الأخرى فتَفعل لكل الناس، فالشمس والهواء والمياه للجميع، للمؤمن وللكافر في
أيّ مكان.
إذن: يترقَّى الإنسان بالأشياء التي خلقها الله له، فإذا انفعل معها انفعلتْ له،
وإذا تكاسل وتخاذل لم تُعْطِه شيئاً، ولا يستفيد منها بشيء.. ولذلك قد يقول قائل:
الكافر عنده كذا وكذا، ويملك كذا وكذا، وهو كافر.. ويتعجّب من القدر الذي أَعطَى
هذا، وحرَم المؤمن الموحد منه.
نقول له: نعم أخذ ما أخذ؛ لأنه يشترك معك فيما يُفعل لك وإنْ لم تطلب، ويزيد عليك
أنه يعمل ويكدّ وينفعل مع الكون وما أعطاه الله من مُقوِّمات وطاقة، فتنفعل معه
وتعطيه، في حين أنك قاعد لا هِمَّة لك.
وكذلك قد يتسامى الارتقاء في الإنسان، فيجعل الشيء الذي يُفعل له دون أن يطلب منه
ـ أي: الشيء المسخَّر له ـ يجعله ينفعل له، كما نرى فيما توصَّل إليه العلم من
استخدام الطاقة الشمسية مثلاً في تسخين المياه.. هذه الطاقة مُسخَّرة لنا دون
جَهْد مِنّا، ولكن ترقِّي الإنسان وطموحه أوصله إلى هذا الارتقاء.. وكُلُّ هذه
نِعَم من الله؛ ولذلك قال تعالى: } وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ... {.
(/1937)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
أمدَّنا الله سبحانه بهذه النعم رحمة منه وفضلاً.. نِعَم تترى لا تُعَد ولا
تُحْصَى، ولكن لرتابة النعمة وحلولها في وقتَها يتعوّدها الإنسان، ثم يذهل عن
المنعم سبحانه.
ونستطيع أن نضرب لذلك مثلاً بالولد الذي تعطيه مصروفه مثلاً كل أول شهر، تجده لا
يحرص على أنْ يلقاك بعد ذلك إلا كل أول شهر، إنما إذا عوَّدته أن يأخذ مصروفه كل
يوم تراه في الصباح يحوم حولك، ويُظهِر لك نفسه ليُذكِّرك بالمعلوم.
إذن: رتابة النعمة قد تُذهِلك عن المُنعِم، فلا تتذكره إلا حين الحاجة إليه؛ لذا
يُنبِّهنا الحق تبارك وتعالى: إذا أعطيتُ لكم نعمة فإياكم أنْ تغتروا بها.. إياكم
أن تُذهِلكم النعمة عن المنعم؛ لأنكم سوف تحكمون على أنفسكم أنه لا مُنعِم غيري،
بدليل أنني إذا سلبْتُ النعمة منكم فلن تجدوا غيري تلجأون إليه فستقولون: يا ربّ
يا ربّ.
فأنت ستكون شاهداً على نفسك، لن تكذب عليها، فَلِمَنْ تتوجّه إذا أصابك فقر؟ ولمن
تتوجَّه إذا أصابك مرض؟ لن تتوجّه إلا إلى الله تقول: يا رب.
{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [النحل: 53].
فترة الضُّر التي تمرُّ بالإنسان هي التي تلفته إلى الله، والحاجة هي التي تُلجئه
إلى المصدر الحقيقي للإمداد، فإذا كانت النعمة قد تُذهِله وتُنسِيه، فالضر
يُذكِّره بربّه الذي يملك وحده كَشْف الضر عنه.
ولذلك، فالناس أصحاب اليقين في الله تعالى ساعةَ أنْ يصيبهم ضُرٌّ، يقول: ذكَّرتني
بك يا ربّ، يأخذها على أنها نعمة.. كأنها نجدة نجدتْه مما هو فيه من غفلة.. يا ربّ
أنت ذكّرتني بك.. أنا كنتُ ناسياً ذاهلاً.. كنت في غفلة.
وساعةَ أنْ يعودَ ويشعر بالتقصير يرفع الله عنه البلاء؛ وذلك يُرفع القضاء عن
العبد إنْ رضي به وعلم أن فيه خيراً له.
ولذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يُنبّهنا لهذه الأحداث التي تصيبنا، فإياكم أن
تستقبلوها بالجزع والفزع.. ولكن استقبلوها بالإيمان والرضا، واعلموا أن ربكم يغار
عليكم، وهو بهذه الأحداث يلفتكم إليه قهراً عنكم؛ لكي تعودوا إليه وتلجأوا إليه..
لكي تقولوا يا رب.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي: " مِنْ
عبادي مِنْ أحبهم فأنا أبتليهم ليقولوا يا رب... ".
ويقول تعالى في الآية الأخرى:{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ...
}[الأنعام: 43].
أي: أنه سبحانه يريد منا إذا نزل بنا بلاء وبأس أنْ نتضرّع إليه سبحانه؛ لأن
الضراعة إلى الله لَفْتة وتذكير به.. والنبي صلى الله عليه وسلم يُرشِدنا إلى هذه
الحقيقة، فالمصاب الحقيقي ليس مَنْ نزل به ضُرٌّ أو أصابه بلاء.. لا.. بل المصاب
الحقيقي مَنْ حُرِم الثواب.
إذن: نقول لمن عنده نعمة: احذر أن تُنسيِك النعمة وتُذهلك عن المنعم، أما صاحب
البلاء والضر، فسوف يردُّك هذا البلاء، ويُذكّرك هذا الضرّ بالله تعالى، ولن تجدَ
غيره تلجأ إليه.
فقوله تعالى:
{ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [النحل: 53].
أي: تضْرَعون بصراخ وصوت عالٍ كخُوار البقر، لا يُسرّهِ أحد ولا يستحي منه أنْ
يُفتضح أمره أمام مَنْ تكبّر عليهم.. ويا ليتكم حين ينتابكم مثل ذلك تعتبرون به
وتتعِظُون، وتقولون في لحظة من اللحظات: سوف تلجئنا الأحداث إلى ربنا.. بل بالعكس
حينما نكشف عنكم الضر سوف تعودون إلى ما كنتم عليه.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ.... }.
(/1938)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
فمن الناس مَنْ إذا أصابه الله بضُرٍّ أو نزل به بأْسٌ تضرّع وصرخ ولجأ إلى الله
ودعاه، وربما سالتْ دموعه، وأخذ يُصلّي ويقول: يا فلان ادْعُ لي الله وكذا وكذا..
فإذا ما كشف الله عنه ضُرَّه عاود الكَرّة من جديد؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى:{
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ
قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا
ضُرٍّ مَّسَّهُ... }[يونس: 12].
ومن لُطْف الأداء القرآني هنا أن يقول:
{ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [النحل: 54].
أي: جماعة منكم وليس كلكم، أما الباقي فيمكن أنْ يثبتُوا على الحق، ويعتبروا بما
نزل بهم فلا يعودون.. فالناس ـ إذن ـ مختلفون في هذه القضية: فواحد يتضرّع ويلتفت
إلى الله من ضُرٍّ واحد أصابه، وآخر يلتفت إلى الله من ضُرّيْن، وهكذا.
وقد وجدنا في الأحداث التي مرَّتْ ببلادنا على أكابر القوم أحداثاً عظاماً تلفتهم
إلى الله، فرأينا مَنْ لا يعرف طريق المسجد يُصلّي، ومَنْ لا يفكر في حج بيت الله،
ويسرع إليه ويطوف به ويبكى هناك عند الملتزم، وما ألجأهم إلى الله ولفتهم إليه
سبحانه إلا ما مرَّت بهم من أحداث.
أليست هذه الأحداث، وهذه الأزمات والمصائب خيراً في حقهم؟.. بلى إنها خير.
وأيضاً قد يُصاب الإنسان بمرض يُلِمّ به، وربما يطول عليه، فيذهب إلى الأطباء،
ويدعو الله ويلجأ إليه، ويطلب من الناس الدعاء له بالشفاء، ويعمل كذا وكذا.. فإذا
ما كشف الله عنه المرض وأَذِن له بالشفاء قال: أنا اخترتُ الطبيب الحاذق، الطبيب النافع،
وعملتُ وعملتُ.. سبحان الله!
لماذا لا تترك الأمر لله، وتُعفِي نفسك من هذه العملية؟
وفي قوله تعالى:
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ } [النحل: 54].
صمام أَمْن اجتماعي في الكون، يقول للناس: إياكم أن تأخذوا على غيركم حين تُقدمون
إليهم جميلاً فيُنكرونه.. إياكم أنْ تكُّفوا عن عمل الجميل على غيركم؛ لأن هذا
الإنكار للجميل قد فعلوه مع أعلى منكم، فعلوه مع الله سبحانه، فلا يُزهدك إنكارهم
للجميل في فِعْله، بل تمسَّك به لتكون من أهله.
والحق تبارك وتعالى يضرب لنا مثلاً لإنكار الجميل في قصة سيدنا موسى عليه السلام:{
ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىا
فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً }[الأحزاب:
69].
فقد اتهمه قومه وقعدوا يقولون فيه كذباً وبُهْتاناً، فقال موسى: يا ربّ أسألك
ألاَّ يُقَال فيَّ ما ليس فيَّ.. فقال تعالى لموسى: أنا لم افعل ذلك لنفسي، فكيف
أفعلها لك؟
ولماذا لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه؟.. لم يفعلها الحق سبحانه لنفسه ليعطينا نحن
أُسْوة في تحمُّل هذا الإنكار، فقد خلق الله الخَلْق ورزقهم ووَسِعهم، ومع ذلك
كفروا به، ومع ذلك ما يزال الحق سبحانه خالقاً رازقاً واسعاً لهم.
إذن: في الآية تقنين وأمان للمجتمع أن يتفشى فيه مرض الزُّهْد في عمل الخير.
وقَوْل الحق سبحانه:
{ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [النحل: 54].
تشمل الآية مَنْ أنكر الجميل من المؤمنين، ومن الكافرين.
ولكن لماذا يشركون؟
يقول الحق تبارك وتعالى: { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ... }.
(/1939)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
أي: مُسْتعظمين كقارون الذي قال:{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي
}[القصص: 78].
أخذتُ هذا بَجْهدي وعملي.. ومثله مَنْ تقول له: الحمد لله الذي وفَّقك في
الامتحان، فيقول: أنا كنت مُجِداً.. ذاكرتُ وسهرتُ.. نعم أنت ذاكرتَ، وأيضاً غيرك
ذاكر وجَدَّ واجتهد، ولكن أصابه مرض ليلة الامتحان فأقعده، وربما كنت مثله.
فهذه نغمة مَنْ أَنكر الفضل، وتكبَّر على صاحب النعمة سبحانه.
وقوله:
{ لِيَكْفُرُواْ... } [النحل: 55].
هل فعلوا ذلك ليكفروا، فتكون اللام للتعليل؟ لا بل قالوا: اللام هنا لام العاقبة..
ومعناها أنك قد تفعل شيئاً لا لشيء، ولكن الشيء يحدث هكذا، وليس في بالك أنت..
إنما حصل هكذا.
ومثال هذه اللام في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون:{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً.. }[القصص: 8].
ففرعون حينما أخذ موسى من البحر وتبنَّاه وربَّاه، هل كان يتبناَّه ليكون له
عدواً؟ لا.. إنما هكذا كانت النهاية، لكي يثبت الحق سبحانه أنهم كانوا مُغفَّلين،
وأن الله حالَ بين قلوبهم وبين ما يريدون.. إذن: المسألة ليستْ مرادة.. فقد أخذْته
وربَّيته في الوقت الذي تقتل فيه الأطفال.. ألم يخطر ببالك أن أحداً خاف عليه،
فألقاه في البحر؟!
لذا يقول تعالى:{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَقَلْبِهِ.. }[الأنفال: 24].
وكذلك أم موسى:{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّ مُوسَىا أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا
خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ... }[القصص: 7].
كيف يقبل هذا الكلام؟ وأنَّى للأم أن ترمي ولدها في البحر إنْ خافت عليه؟! كيف
يتأتَّى ذلك؟! ولكن حالَ الله بين أم موسى وبين قلبها، فذهب الخوف عليه، وذهب
الحنان، وذهبت الرأفة، ولم تكذّب الأمر الموجّه إليها، واعتقدت أن نجاة وليدها في
هذا فألقتْه.
وقوله: { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 55].
أي: اكفروا بما آتيناكم من النعم، وبما كشفنا عنكم من الضر، وتمتعوا في الدنيا؛
لأنني لم اجعل الدنيا دار جزاء، إنما الجزاء في الآخرة.
وكلمة { تَمَتَّعُواْ } هنا تدل على أن الله تعالى قد يُوالي نعمه حتى على مَنْ
يكفر بنعمته، وإلاَّ فلو حَجَب عنهم نِعَمه فلن يكون هناك تمتُّع.
ويقول تعالى:
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 55].
أي: سوف تروْنَ نتيجة أعمالكم، ففيها تهديد ووعيد.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ... }.
(/1940)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
أي: الذين يكفرون بالله ويتخذون الأصنام والشركاء، يجعلون لها نصيباً.
وقول الحق سبحانه:
{ لاَ يَعْلَمُونَ.. } [النحل: 56].
ما العلم؟
العلم أن تعرفَ قضية، هذه القضية صِدْق أي: مطابقة للواقع وتستطيع أن تُدلِّل
عليها، فإذا اختلّ واحد منها لم تكُنْ علماً.. وهؤلاء حينما جعلوا للأصنام نصيباً،
فقد أَتَوْا بأشياء لا وجودَ لها في الواقع ولا في العلم، وليست حقائق.. وهل
للأصنام وجود؟ وهل عليها دليل؟
قال تعالى:{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ
أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ... }[النجم: 23].
هذه الأصنام ليست لها وجود في الحقيقة، وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:{
وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً
فَقَالُواْ هَـاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىا اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ
إِلَىا شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }[الأنعام: 136].
حتى لمَّا جعلوا للأصنام نصيباً جعلوه مما رزقهم الله، أَلاَ جعلتم نصيب الأصنام
مما تعطيكم الأصنام؟ ونصيب الله مما رزقكم الله؟ فهذا اعتراف منكم بعجز أصنامكم،
وأنكم أخذتم رزق الله وجعلتموه لأصنامكم.
وهذا دليل على أن الأصنام لا تعطيكم شيئاً، وشهادة منكم عليهم.. وهل درت الأصنام
بهذا؟
إذن:
{ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ... } [النحل: 56].
أي: للأصنام؛ لأنها لا وجودَ لها في الحقيقة، وهم يأخذون ما رزقناهم، ويجعلونه
لأصنامهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى:
{ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } [النحل: 56].
التاء هنا في { تَاللَّهِ } للقسم أي: والله لَتُسْألُنَّ عما افتريتم من أمر
الأصنام. والافتراء: هو الكذب المتعمد.
(/1941)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
ساعة أنْ تسمع كلمة { سُبْحَانَهُ } فاعلم أنها تنزيهٌ لله تعالى عَمّا لا يليق،
فهي هنا تنزيهٌ لله سبحانه وتعالى عما سبق من نسبة البنات له.. تعالى الله عن ذلك
عُلواً كبيراً.. أي: تنزيهاً لله عن أن يكونَ له بنات.
فهل يمكن أن يكون له أولاد ذكور؟
إنهم جعلوا لله البنات، وجعلوا لأنفسهم الذكور، وهذه قسمة قال عنها القرآن
الكريم:{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَىا * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىا
}[النجم: 21-22].
أي: جائرة.
لم تجعلوها عادلة، يعني لي ولد ولكم ولد، ولي بنت ولكم بنت، إنما تجعلون لله مَا
تكرهون وهي البنات لله، وتجعلون لكم ما تحبون.. لذلك كان في جَعْلهم لله البنات
عيبان:
الأول: أنهم نَسبُوا لله الولد ـ ولو كان ذكراً فهو افتراء باطل يتنزه الله عنه.
الثاني: أنهم اختاروا أخسَّ الأنواع في نظرهم.. ولا يستطيع أحد أن يقول: إن البنات
أخسُّ الأنواع.. لماذا؟
لأن بالبنات يكون بقاء النوع؛ ولذلك قال العباس: لو سمع الله ما قال الناس في
الناس لما كان الناس.. أي: لو استجاب الله لرغبة الناس في أنهم لا يريدون البنات
فاستجاب ولم يُعْطهم.. ماذا سيحدث؟ سينقطع النسل، فهذا مطْلَب غبيّ، فالبنت هي
التي تَلِد الولد، وبها بقاء النوع واستمرار النسل.
وقوله تعالى:
{ سُبْحَانَهُ... } [النحل: 57].
أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد، وتنزيهاً له سبحانه أن يكون له أخسَّ النوعين في
نظرهم وعرفهم، وقد قال عنهم القرآن في الآية التالية:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِالأُنْثَىا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىا مِنَ
الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ.. }[النحل: 58-59].
ولذلك فالحق ـ تبارك وتعالى ـ حينما يُحدِّثنا عن الإنجاب يقول:{ لِلَّهِ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً
وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً
وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً.. }[الشورى: 49-50].
أول ما بدأ الحق سبحانه بدأ بالإناث.. ثم أعطانا هذه الصورة من الخَلْق: إناث،
ذكور، ذكور وإناث، عقيم.. إذن: هِبَات الله تعالى لها أربعة أنواع، ومن هنا كان
العُقْم أيضاً هبةً من الله لحكمة أرادها سبحانه.. لكن الناس لا تأخذ العُقْم على
أنه هِبَة.. لكن تأخذه على أنه نِقْمة وغضب.
لماذا؟ لماذا تأخذه على أنه نِقْمة وبلاء؟ فربما وهبك الولد، وجاء عاقّاً، كالولد
الذي جاء فتنة لأبويْه، يدعوهما إلى الكفر.
ولو أن صاحب العقم رضي بما قسمه الله له من هبة العقم واعتبره هبة ورضي به لرأى كل
ولد في المجتمع ولده من غير تعب في حَمْله وولادته وتربيته. فيرى جميع الأولاد من
حوله أولاده ويعطف الله قلوبهم إليه كأنه والدهم.. وكأن الحق تبارك وتعالى يقول
له: ما دُمْتَ رضيتَ بهبة الله لك في العقم لأجعلنَّ كل ولدٍ ولداً لك.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل: 57].
أي: من الذّكْران؛ لأن الولد عِزْوة لأبيه ينفعه في الحرب والقتال وينفعه في
المكاثرة.. الخ إنما البنت تكون عالةً عليه؛ ولذلك قال تعالى بعد هذا: { وَإِذَا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ... }.
(/1942)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
نعرف أن البشارة تكون بخير، فكان يجب عليهم أن يستقبلوها استقبالَ البشارة، ولكنهم
استقبلوها استقبال الناقمين الكارهين لما بُشّروا به، فتجد وجه الواحد منهم.
{ مُسْوَدّاً... } [النحل: 58].
ومعنى اسوداد الوجه انقباضه من الغيظ؛ لذلك يقول تعالى:
{ وَهُوَ كَظِيمٌ... } [النحل: 58].
الكظم هو كَتْم الشيء.
ولذلك يقول تعالى في آية أخرى:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ.. }[آل عمران: 134].
وهو مأخوذ من كَظْم القِرْبة حين تمتليء بالماء، ثم يكظمها أي: يربطها، فتراها
ممتلئة كأنها ستنفجر.. هكذا الغضبان تنتفخ عروقه، ويتوارد الدم في وجهه، ويحدث له
احتقان، فهو مكظوم ممنوع أنْ ينفجر.
ثم يقول الحق سبحانه واصفاً حاله: { يَتَوَارَىا مِنَ.. }.
(/1943)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
قوله تعالى:
{ يَتَوَارَىا مِنَ الْقَوْمِ.. } [النحل: 59].
أي: يتخفَّى منهم مخافَة أنْ يُقال: أنجب بنتاً.
{ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ.. } [النحل: 59].
نلاحظ إعادة البشارة في هذه الآية أيضاً، وكأنه سبحانه وتعالى يُحنِّن قلبه عليها،
ويدعوه إلى الِّرْفق بها.
فهو متردد لا يدري ماذا يفعل؛ لذلك يقول تعالى:
{ أَيُمْسِكُهُ عَلَىا هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ.. } [النحل: 59].
أي: ماذا يفعل فيما وُلِد له. أيحتفظ به على هُونٍ ـ أي: هوان ومذلة ـ أم يدسُّه
في التراب ـ أي: يدفنها فيه حية؟
{ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [النحل: 59].
أي: ساء ما يحكمون في الحالتين. حالة الإمساك على هُون ومذلَّة، أو حالة دَسّها في
التراب، فكلاهما إساءة. وكان بعض هؤلاء إذا وُلدتْ له بنت كرهها، فإن أمسكها
أمسكها على حال كونها ذليلةً عنده، مُحتقرة مُهَانة، وهي مسكينة لا ذنبَ لها.
ولذلك، فإن المرأة العربية التي عاصرتْ هذه الأحداث فطِنَتْ إلى ما لم نعرفه نحن
إلا قريباً، حيث اكتشف العالم الحديث أن أمر إنجاب الولد أو البنت راجع إلى الرجل
وليس إلى المرأة.. وكان أبو حمزة كثيراً ما يترك زوجته ويغضب منها، لأنها لا تلد
إلا البنات.. فماذا قالت هذه المرأة العربية التي هجرها زوجها؟ قالت:مَا لأبي
حمزةَ لاَ يأتِينَا غَضْـبانَ ألاَّ نَلِدَ البَنِـيناتَاللهِ مَا ذَلكَ فِـي
أَيْدينا فَنَحنُ كَالأَرْضِ لغارسينانُعطِي لَهُم مِثْل الذِي أُعْطِينَا والحق
سبحانه وتعالى حينما يريد توازناً في الكون يصنع هذا التوازن من خلال مقتضيات
النفس البشرية، ومن مقتضياتها أن يكون للإنسان جاه، وأن يكون له عِزّ، لكن الإنسان
يخطيء في تكوين هذا الجاه والعِزّ، فيظن أنه قادر على صنع ما يريد بأسبابه وحدها.
إنما لو علم أن تكوين الجاه والعِزّ بشيء فوق أسبابه هو، بشيء مخلوق لله تعالى،
بقدر مخلوق لله تعالى، لو علم هذه الحقيقة لجاء المسألة من بابها.
ذلك لأن العزة ليست بما تُنجِب.. العزة هنا لله وللرسول وللمؤمنين، اعتزّ هنا
بُعصْبة الإيمان، اعتز بأنك في بيئة مؤمنة متكافلة، إذا أصابك فيها ضَيْم فزِع
إليك الجميع.
ولا تعتزّ بالأنسال والأنجال، فقد يأتي الولد عاقّاً لا يُسعِف أبويْه في شدة، ولا
يعينهما في حاجة؛ ذلك لأنك لجأتَ إلى عَصَبية الدم وعَصَبيَّة الدم قد تتخلّف، أما
عَصبِيّة العقيدة وعَصَبية الإيمان والدين فلا.
ولنأخذ على ذلك مثالاً.. ما حدث بين الأنصار والمهاجرين من تكافل وتعاون فاق كُل
ما يتصوره البشر، ولم يكُنْ بينهم سوى رابطة العقيدة وعصبية الإيمان.. ماذا حدث
بين هؤلاء الأفذاذ؟
وجدنا أن العصبية الإيمانية جعلت الرجل يُضحِّي بأنفَس شيء يضِنُّ به على الغير..
نتصور في هذا الموقف أن يعود الأنصار بفضل ما عندهم من نعم على إخوانهم المهاجرين،
فَمنْ كانت عنده ركوبة أو منزلة مثلاً يقول لأخيه المهاجر: تفضل اركب هذه الركوبة،
أو اجلس في هذا المنزل.
. هذا كله أمر طبيعي.
أما نعيم المرأة، فقد طُبِع في النفس البشرية أن الإنسان لا يحب أن تتعدَّى نعمته
فيها إلى غيره.. لكن انظر إلى الإيمان، ماذا صنع بالنفوس؟.. فقد كان الأنصاري يقول
للمهاجر: انظر لزوجاتي، أيّهن أعجبتْك أُطلِّقها لتتزوجها أنت، وما حمله على ذلك
ليس عصبية الدم أو عَصبيّة الجنس، بل عَصبيّة اليقين والإيمان.
ولذلك تنتفي جميع العصبيات في قصة نوح ـ عليه السلام ـ وولده الكافر، حينما ناداه
نوح ـ عليه السلام ـ:{ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ
الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَىا جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ
عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ.. }[هود: 42-43].
ويتمسّك نوح بولده، ويحرص كل الحرص على نجاته فيقول:{ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ
أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ.. }[هود: 45].
فيأتي فَصْل الخطاب في هذه القضية:{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن
تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }[هود: 46].
إذن: هذا الولد ليس من أهلك؛ لأن البُنُوة هنا بُنُوة العمل، لا بُنُوة الدم
والنَّسَب.
صحيح أن الإنسان يحب العزة ويطلبها لنفسه، ولكن يجب أن تنظر كيف تكون العزة
الحقيقية؟ وما أسبابها؟
خُذْ العزة بالله وبالرسول وبالبيئة الإيمانية، يصبح كل الأولاد أولادك؛ لأنهم معك
في يقينك بالله وإيمانك به سبحانه.. أما أن تعتز بطريقتك أنت، فتطلب العزة في
الولد الذكَر، فمَنْ يُدرِيك أن تجد فيه العزة والعِزوة والمكاثرة؟!
ثم يقول الحق سبحانه: } لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ... {.
(/1944)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قوله تعالى:
{ مَثَلُ السَّوْءِ... } [النحل: 60].
صفة السوء أي: الصفات السيئة الخسيسة من الكفر والجحود والنكْران، ومن عَمي
البصيرة، وغيرها من صفات السوء.
لماذا كان للذين لا يؤمنون بالآخرة مثَلُ السوء؟ لأن المعادلة التي أَجْرَوْها
معادلة خاطئة؛ لأن الذي لا يؤمن بالآخرة قصّر عمره.. فعُمْر الدنيا بالنسبة له
قصير، وقد قلنا: إياك أن تقيسَ الدنيا بعمرها.. ولكن قِسْ الدنيا بعمرك أنت، فعمر
الدنيا مدة بقائِكَ أنت فيها.. إنما هي باقية من بعدك لغيرك، وليس لك أنت فيها
نصيب بعد انقضاء عمرك.
إذن: عمر الدنيا عمرك أنت فيها.. عمرك: شهر، سنة، عشر سنوات، مائة.. هذا هو عمر
الدنيا الحقيقي بالنسبة لك أنت.
ومع ذلك، فعمر الدنيا مهما طال مُنْتَهٍ إلى زوال، فَمنْ لا يؤمن بالله ولا يؤمن
بالآخرة قد اختار الخاسرة؛ لأنه لا يضمن أن يعيش في الدنيا حتى متوسط الأعمار..
وهَبْ أنك عِشْتَ في الدنيا إلى متوسط الأعمار، بل إلى أرذل العمر.. وهَبْ أنك
استمتعتَ في دنياك بكل أنواع المعاصي، ماذا ستكون النهاية؟ أنْ تفوتَ هذا كله إلى
الموت.
قارن ـ إذن ـ حال هذا بمَنْ آمن بالله وآمن بالآخرة.. نقول لمَنْ لا يؤمن بالآخرة:
دنياك مظنونة، يمكن أن تعيش فيها، أو يعاجلك الموت.. حتى مَنْ عاش إلى متوسط
الأعمار، فالنهاية إلى زوال.
وما نِلْتَ من مُتَع في دنياك أخذتها على قَدْر إمكاناتك أنت.
إذن: أنت أخذت صفقة محدودة غير مُتيقّنة، وتركتَ صفقة غير محدودة ومُتيقّنة..
أليستْ هذه الصفقة خاسرة؟
أما مَنْ آمن بالآخرة فقد ربحتَ صفقته، حيث اختار حياة ممتدة يجد المتعة فيها على
قَدْر إمكانات المنعِم سبحانه وتعالى.
إذن:
{ مَثَلُ السَّوْءِ... } [النحل: 60].
أي: الصفة شديدة السوء، ذلك لأنهم خاسرون لا محالة.
وقوله تعالى:
{ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىا... } [النحل: 60].
لله الصفة العليا، وكأن الآية تقول لك: اترك صفة السوء، وخُذ الصفة الأعلى التي
تجد المتعة فيها على قَدْر إمكانات الحق سبحانه وتعالى.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [النحل: 60].
العزيز أي: الذي لا يُغلَب على أمره، فإذا قيل: قد يوجد مَنْ لا يُغلب على أمره..
نعم؛ لكنه سبحانه عزيز حكيم يستعمل القهر والغلبة بحكمة.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ... }.
(/1945)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
قول الحق تبارك وتعالى:
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ.. } [النحل: 61].
عندنا هنا: الأخْذ والمؤاخذة.. الأخْذ: هو تحصيل الشيء واحتواؤه، ويدل هذا على أن
الآخذ له قدرةٌ على المستمسك بنفسه أو بغيره، فمثلاً تستطيع حَمْل حصاة، لكن لا
تستطيع حمل حجر كبير، وقد يكون شيئاً بسيطاً إلا أنه مربوط بغيره ومستمسك به
فيُؤخَذ منه قوة.
فمعنى الأخذ: أن تحتوي الشيء، واحتواؤك له معناه أنك أقوى من تماسكه في ذاته، أو
استمساك غيره به، وقد يكون الأَخْذ بلا ذنب.
أما المؤاخذة فتعني: هو أخذَ منك فأنت تأخذُ منه.. ومنه قَوْل أحدنا لأخيه "
لا مؤاخذة " في موقف من المواقف.. والمعنى: أنني فعلتُ شيئاً استحق عليه
الجزاء والمؤاخذة، فأقول: لا تؤاخذني.. لم أقصد.
لذلك؛ فالحق تبارك وتعالى يقول هنا:
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ... } [النحل: 61].
ولم يَقُلْ: يأخذ الناس.
وفي آية أخرى قال تعالى:{ وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىا
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود: 102].
لماذا أخذها الله؟ أخذها لأنها أخذتْ منه حقوقه في أن يكون إلهاً واحداً فأنكرتها،
وحقوقه في تشريع الصالح فأنكرنها.
ويُبيِّن الحق سبحانه أن هذه المؤاخذة لو حدثت ستكون بسبب من الناس أنفسهم، فيقول
سبحانه:
{ بِظُلْمِهِمْ.. } [النحل: 61].
أول الظلم أنهم أنكروا الوحدانية، يقول تعالى:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
}[لقمان: 13].
فكأنهم أخذوا من الله تعالى حقّه في الوحدانية، وأخذوا من الرسول صلى الله عليه
وسلم، فقالوا كذاب، وأخذوا من الكتاب فقالوا " سحر مبين ".
كل هذا ظلم..
فالحق تبارك وتعالى لو آخذهم بما أخذوا، أخذوا شيئاً فأخذ الله شيئاً، لو عاملهم
هذه المعاملة ما ترك على ظهرها من دابة.
لذلك نجد في آيات الدعاء:{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ
أَخْطَأْنَا }[البقرة: 286].
أي: أننا أخذنا منك يا ربّ الكثير بما حدث مِنّا من إسراف وتقصير وعمل على غير
مقتضى أمرك، فلا تؤاخذنا بما بدر منا.
فلو آخذ الله الناس بما اقترفوا من ظلم..
{ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ.. } [النحل: 61].
قد يقول قائل: الله عز وجل سَيُؤاخذ الناس بظلمهم، فما ذنب الدابة؟ ماذا فعلت؟
نقول: لأن الدابة خُلِقَتْ من أجلهم، وسُخِّرتْ لهم، وهي من نعم الله عليهم، فليست
المسألة إذن نكايةً في الدابة، بل فيمَنْ ينتفع بها، وقد يُراد العموم لكل الخلق.
فإذا لم يؤاخذ الله الناس بظلمهم في الدنيا فهل يتركهم هكذا؟ لا بل:
{ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّىا... } [النحل: 61].
هذا الأجل انقضاء دُنيا، وقيام آخرة، حتى لو لم يؤمنوا بالآخرة، فإن الله تعالى
يُمهلهم في الدنيا، كما قال تعالى في آية أخرى:
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ }[الطور: 47].
وقد يكون في هذا الأجل المسمى خير للحق، فكثير من الصحابة كانوا يدخلون المعارك،
ويُحبون أنْ يقتلوا أهل الكفر فلاناً وفلاناً، ثم لا يتمكنون من ذلك ولا يصيبونهم،
فيحزنون لذلك.
ولكن أَجَل هؤلاء لم يَأْتِ بَعْد، وفي علم الله تعالى أن هؤلاء الكفار سيؤمنون،
وأن إيمانهم سينفع المسلمين، وكأن القدر يدّخرهم: إما أنْ يؤمنوا، وإما أن تؤمنَ
ذرياتهم.
وقد آمن عمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم. ومن هؤلاء الذين نَجَوْا كان
خالد بن الوليد سيف الله المسلول.
} فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ {
[النحل: 61].
أي: إذا جاءت النهاية فلا تُؤخَّر، وهذا شيء معقول، ولكن كيف: ولا يستقدمون؟ إذا
جاء الأجل كيف لا يستقدِمون؟ المسألة ـ إذن ـ ممتنعة مستحيلة.. كيف إذا جاء الأجل
يكون قد أتى قبل ذلك؟... هذا لا يستقيم، لكن يستقيم المعنى تماماً على أن:
} وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ { [النحل: 61].
ليست من جواب إذا، بل تم الجواب عند (ساعة)، فيكون المعنى: إذا جاء أجلهم لا
يستأخرون ساعة، وإذا لم يجيء لا يستقدمون. والله أعلم.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ... {.
(/1946)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قوله تعالى:
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ... } [النحل: 62].
الأليق أن الذي يُخرج لله يجب أن يكون من أطيب ما أعطاه الله، فإذا أردت أن تتصدقَ
تصدَّقْ بأحسن ما عندك، أو على الأقل من أوسط ما عندك.. لكن أنْ تتصدَّق بأخسِّ
الأشياء وأرذلها.. أن تتصدق مما تكرهه، كالذي يتصدق بخبز غير جيد أو لحم تغيِّر،
أو ملابس مُهَلْهَلة، فهذا يجعل لله ما يكره.
والحقيقة أن الناس إذا وثِقوا بجزاء الله على ما يعطيه العبد لأَعطَوْا ربهم أفضل
ما يُحبون.. لماذا؟ لأن ذلك دليلٌ على حبّك للآخرة، وأنك من أهلها، فأنت تعمرها
بما تحب، أما صاحب الدنيا المحبّ لها فيعطي أقل ما عنده؛ لأن الدنيا في نظره أهمّ
من الآخرة.
وبهذا يستطيع الإنسان أنْ يقيسَ نفسه: أهو من أهل الآخرة، أم من أهل الدنيا بما
يعطي لله عز وجل؟
قوله تعالى:
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ... } [النحل: 62].
أي: مما ذكر في الآيات السابقة من قولهم:{ لِلَّهِ الْبَنَاتِ.. }[النحل: 57].
وأن الملائكة بنات الله، وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً، إلى غير ذلك من أقوالهم،
وجعلوا لله البنات وهم يكرهون البنات؛ لذلك:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ
بِالأُنْثَىا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ }[النحل: 58].
والمسألة هنا ليستْ مسألة جَعْل البنات لله، بل مُطْلق الجَعْل منهم مردود عليهم،
فلو جعلوا لله ما يحبون من الذكْران ما تُقبّل منهم أيضاً؛ لأنهم جعلوا لله ما لم
يجعل لنفسه.
فالذين قالوا: عزير ابن الله. والذين قالوا: المسيح ابن الله. لا يُقبَل منهم؛
لأنهم جعلوا لله سبحانه ما لم يجعلْه لنفسه، فهذا مرفوض، وذلك مرفوض؛ لأننا لا
نجعل لله إلا ما جعله الله لنفسه سبحانه.
فنحن نجعل لله ما نحب مما أباح الله، كما جاء في قوله تعالى:{ لَن تَنَالُواْ
الْبِرَّ حَتَّىا تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ... }[آل عمران: 92].
وقوله:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىا حُبِّهِ.. }[الإنسان: 8].
ولذلك قال الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ
وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ }[الزخرف: 81].
فلو كان له ولد لآمنتُ بذلك، لكن الحقيقة أنه ليس له ولد.. إذن: ليست المسألة في
جَعْل ما يكرهون لله بل في مُطْلَق الجعلْ، ذلك لأننا عبيد نتقرّب إلى الله
بالعبادة، والعابد يتقرّب إلى المعبود بما يحب المعبود أن يتقرّب به إليه، فلو جعل
الله لنفسه شيئاً فهو على العين والرأس، كما في أمره أن ننفق مما نُحب، ومن أجود
ما نملك.
ولذلك قوله تعالى:{ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّىا تُنْفِقُواْ مِمَّا
تُحِبُّونَ }[آل عمران: 92].
رَاعِ حق الفقير وضرورة أنْ تجعله كنفسك، لا يكُنْ هيِّناً عليك فتعطيه أردأ ما
عندك.. والحق تبارك وتعالى لما أراد أن نتقرّب إليه بالنّسُك وذَبْح الهَدْي
والأضاحي قال:
{ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ }[الحج: 28].
لأنك إذا علمتَ أنك ستأكل منها سوف تختار أجود ما عندك.
وقوله تعالى:
} وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ.. { [النحل: 62].
الكذب: قضية ينطق بها اللسان ليس لها واقع في الوجود، أي مخالفة للواقع المشهود به
من القلب.. ولماذا يشهد عليه القلب؟
قالوا: لأنه قد يطابق الكلام الواقع، ونحكم عليه مع ذلك بالكذب، كما جاء في قوله
تعالى:{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ
اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1].
بالله، أهذه القضية صِدْق أم لا؟ إنها قضية صادقة.. أنت رسول الله وقد وافق كلامهم
ما يعلمه الله.. فلماذا شهد عليهم الحق تبارك وتعالى أنهم (كاذبون)؟
وفي أيِّ شيء هم كاذبون؟
قالوا: الحقيقة أنهم صادقون في قولهم: إنك لرسول الله، ولكنهم كذبوا في شهادتهم:{
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... }[المنافقون: 1].
لأنهم لا يشهدون فعلاً؛ لأن الشهادة تحتاج أنْ يُواطئَ القلبُ اللسانَ ويسانده،
وهذه الشهادة منهم من اللسان فقط لا يساندها القلب.
الإنسان عُرْضة لأن يقول الصدق مرة والكذب مرة، لكن هؤلاء بمجرد أن يقولوا (نشهد)
فهم كاذبون، وهذا معنى:
} وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ { [النحل: 62].
لأنهم حينما يقولون مثلاً: العزير ابن الله، المسيح ابن الله، الملائكة بنات الله.
هذه كلها قضايا باطلة ليس لها واقع يوافق منطوق اللسان.. فألسنتهم تصف الكذب.
وإنْ أردتَ أن تعرف الكذب الذي لا يطابق الواقع فاستمع إليه فبمجرد أنْ يُقال تعلم
أنه كذب.. مثل ما حدث مع مُسيْلمة الذي ادَّعى النبوة، مجرد أنْ قال: أنا نبي
قلنا: مسيلمة الكذاب.
ويقول الحق سبحانه:
} أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَىا.. { [النحل: 62].
أي: أن الكذب في قولهم (لهم الحسنى) فهذا اغترار وتمنٍّ على الله دون حق، ومثل هذه
المقولة في سورة الكهف، في قصةِ أصحاب الجنتين، يقول تعالى:{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِهِ أَبَداً *
وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا رَبِّي لأَجِدَنَّ
خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }[الكهف: 35-36].
فهذه مقولات ثلاث كاذبة:
قوله:{ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِهِ أَبَداً }[الكهف: 35].
هذه الأولى، فكم من أشياء تغيَّرت، ومن يضمن لك بقاء ما أنت فيه، والحق تبارك
وتعالى يقول في آية أخرى:{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ
* فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ }[القلم: 17-20].
الكذبة الثانية:{ وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً }[الكهف: 36].
فقد أنكر الساعة.
الكذبة الثالثة:{ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا
مُنْقَلَباً }[الكهف: 36].
وهذا هو الشاهد في الآية هنا، ففيها اغترار وتمنٍّ على الله دون حقٍّ، كمن ادعوْا
أن لهم الحسنى، وهم ليسوا أهلاً لها.
وفي موضع آخر تأتي نفس المقولة:
{ لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ
فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ
مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن
رُّجِعْتُ إِلَىا رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىا }[فصلت: 49-50].
وهكذا الإنسان في طَبْعه أنه لا يسأم من طلب الخير، وكلما وصل فيه إلى مرتبة تمنّى
أعلى منها، يقنط إنْ مسَّه شر، وإنْ رفع الله عنه ورحمه قال: هذا لي.. أنا استحقه،
وأنا جدير به.. ألاَ قلتَ: هذا فضل من الله ونعمة، ثم بعد ذلك هو يتمنى على الله
الأماني ويقول:{ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىا }[فصلت: 50].
ويُروى أن سيدنا داود ـ عليه السلام ـ مع ما أعطاه الله من الملْك والعظمة أنه صعد
يوماً سطح منزله، فابتلاه الله بسِرْب من الجراد الذهب، فحينما رآه داود جعل يجمع
منه في ثوبه، فقال له ربه: ألم أُغْنِك يا داود؟ قال: نعم ولكن لا غِنَى لي عن
فضلك.
وقوله تعالى:
} لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ... { [النحل: 62].
لا جرم: أي حقاً أن لهم النار على ما تقدم منهم أن جعلوا لله ما يكرهون، وتصف
ألسنتهم الكذب، وهذه أفعال يستحقون النار عليها.
وكلمة } لاَ جَرَمَ { منها جارم بمعنى مجرم، فالمعنى: لا جريمة في عقاب هؤلاء،
لأنه لا يُقال على عقوبة الجريمة أنها جريمة.. إذن: لها معنيان، لا بُدَّ أن لهم
النار، أو لا جريمة في أن لهم النار جزاء أعمالهم.
} وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ { [النحل: 62].
جاءت في كلمة مُفْرطون عدة قراءات: مفرَطون، مفرِطون، مفرِّطون، مفرَّطون. وجمعيها
تلتقي في المعنى.
نحن حينما نصلي على جنازة مثلاً، إذا كان الميت مكلّفاً نقول في الدعاء له: "
اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.. اللهم إنْ كان مُحسناً فزِدْ في إحسانه، وإنْ كان
مُسِيئاً فتجاوز عن سيئاته ". فإنْ كان صغيراً غير مُكلَّف قُلْنا في الدعاء
له " اللهم اجعله فرَطاً وذخراً ". فما معنى فرَطاً هنا؟
معناه: أن يكون الطفل فَرَطاً لأبويه ومُقدّمة لهما إلى الجنة.. يمرُّ بين يديْ
والديْه ويسبقهما إلى الجنة، وكأنه يقدم عليهما لِيُمهد لهما الطريق ليغفر الله
لهما.. إذن: معنى مُفْرطون أي مُقدِّمون. ولكن إلى النار.
ومنه قوله تعالى عن فرعون:{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. }[هود: 98].
أي: يتقدمهم إلى النار.. كما كنتَ مُقدّماً عليهم، وإماماً لهم في الدنيا، فسوف
تتقدمهم هنا وتسبقهم إلى النار.
(/1947)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
نعلم أن الحق سبحانه وتعالى يُقسِم بما يشاء على ما يشاء، أما نحن فلا نقسم إلا
بالله، وفي الحديث الشريف: " مَنْ كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت ".
والحق تبارك وتعالى هنا يحلف بذاته سبحانه { تَاللَّهِ } ، مثل: والله وبالله.
وقد جاء القسم لتأكيد المعنى؛ ولذلك يقول أحد الصالحين: من أغضب الكريم حتى ألجأه
أن يقسم؟!
وقد يؤكد الحق سبحانه القسم بذاته، أو القسم ببعض خَلْقه، وقد ينفي القسم وهو
يُقسِم، كما في قوله تعالى:{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ }[البلد: 1].
وقوله:{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ
تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }[الواقعة: 75-76].
ومعنى: لا أقسم أن هذا الأمر واضح جَليّ وضوحاً لا يحتاج إلى القسم، ولو كنت
مُقسِماً لأقسمتُ به، بدليل قوله:{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ
}[الواقعة: 76].
إذن: الحق سبحانه يُقسِم بذاته ليؤكد لنا الأمر تأكيداً، وتأكيد الأمر عند الحكم
في القضاء مَثلاً: إما بالإقرار، وإما باليمين.. فإذا ما أقسمت له وحلفتَ فقد
سددْتَ عليه منافذ التكذيب.
والحق سبحانه يقول:
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىا أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } [النحل: 63].
أي: لسْتَ بِدْعاً في أنْ تُكذَّب من قومك، فهذه طبيعة الذين يستقبلون الدعوة من
الله على ألسنة الرسل؛ لأن الرسل لا يرسلهم الله إلا حينما يطمّ الفساد ويعُم.
ومعنى إرسال الرسل ـ إذن ـ أنه لا حَلَّ إلا أنْ تتدخلَ السماء؛ ذلك لأن الإنسان
فيه مناعات يقينية في ذاته، وهي نفسه اللوامة التي تلومه إذا أخطأ وتُعدِّل من
سلوكه، فهي رادع له من نفسه.
فإذا ما تبلَّدتْ هذه النفس، وتعوَّدتْ على الخطأ قام المجتمع من حولها بهذه
المهمة، فمَنْ لا تُردِعه نفسه اللوامة يُردعه المجتمع من حوله.. فإذا ما فسدَ
المجتمع أيضاً، فماذا يكون الحل؟ الحل أن تتدخل السماء لإنقاذ هؤلاء.
إذن: تتدخل السماء بإرسال الرسل حينما يعُمّ الفسادُ المجتمعَ كله؛ ولذلك فأمة
محمد صلى الله عليه وسلم من شرفها عند ربها أنْ قال لهم: أنتم مأمونون على رعاية
منهجي في ذواتكم، لوَّامون لأنفسكم، آمرون بالمعروف، ناهون عن المنكر في غيركم؛
لذلك لن أرسل فيكم رسولاً آخر، فأنتم سوف تقومون بهذه المهمة.
لذلك قال الحق سبحانه:{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ... }[آل عمران: 110].
فقد آمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أن تكون حارسة لمنهجه، إما بالنفس
اللوامة، وإما بالمجتمع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، وهذا شرف عظيم لهذه
الأمة.
إذن: يأتي الرسول حينما يعُمُّ الفساد.. فما معنى الفساد؟.. الفساد: أن تُوجد
مصالح طائفة على حساب طائفة أخرى، فأهل الفساد والمنتفعون به إذا جاءهم رسول
ليُخلِّص الناس من فسادهم، كيف يقابلونه؟ أيقابلونه بالترحاب؟ بالطبع لا.
. لا بُدّ وأن يقابلوه بالكراهية والإنكار، ويعلنوا عليه الحرب دفاعاً عن مصالحهم.
ويُتبع الحق سبحانه هذا بقوله:
} فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.. { [النحل: 63].
هنا يتدخل الشيطان، ويُزيّن لأهل الفساد أعمالهم، ويحثّهم على محاربة الرسل؛
فهؤلاء الذين سيقضون على نفوذكم، سوف يأخذون ما في أيديكم من مُتَع الدنيا، سوف
يهزُّون مراكزكم، ويحطُّون من مكانتكم بين الناس.. هؤلاء سوف يرفعون عليكم
السِّفْلة والعبيد..
وهكذا يتمسَّك أهل الفساد والظلم بظلمهم، ويعضون عليه بالنواجذ، ويقفون من الرسل
موقف العداء، فوطِّنْ نفسك على هذا، فلن تُقابلَ من السادة إلا بالجحود وبالإنكار
وبالمحاربة.
ثم يقول تعالى:
} فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ... { [النحل: 63].
أي: في الآخرة، فما دام الشيطان تولاَّهم في الدنيا، وزيَّن لهم، وأغراهم بعداء
الرسل، فَلْيتولَّهم الآن، وليدافع عنهم يوم القيامة.. وقد عرض لنا القرآن الكريم
هذا الموقف في قوله تعالى:{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ
الْعَالَمِينَ }[الحشر: 16].
وفي جدالهم يوم القيامة مع الشيطان يقولون له: أنت أغويتَنا وزيَّنْتَ لنا.. ماذا
يقول؟ يقول:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ.. }[إبراهيم: 22].
والسلطان هنا: إمّا بالحجة التي تُقنع، وإما بالقهر والغلبة والقوة التي تفرض ما
تريد، وليس للشيطان شيء من ذلك.. لا يملك حُجة يُقنعك بها لتفعل، ولا يملك قوة
يُجبرك بها أنْ تفعل وأنت كاره.
وهكذا يجادلهم الشيطان ويردُّ عليهم دعواهم، فليس له عليكم سلطان، بل مجرد الإشارة
أوقعتْكم في المعصية.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ
لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىا عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَىا مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ..
}[الأنفال: 48].
وقوله:
} وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { [النحل: 63].
يَصف العذاب هنا بأنه أليم شديد مُهلِك،وقد وصف الله العذاب بأنه أليم، عظيم،
مُهين، شديد.. والعذاب شعور بالألم وإحساسٌ به، وقد توصَّل العلماء إلى أن الإحساس
كله في الجلد؛ لذلك قال الحق سبحانه لِيُديمَ على هؤلاء العذاب:{ كُلَّمَا
نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ
الْعَذَابَ.. }[النساء: 56].
وهكذا يستمر العذاب باستمرار الجلود وتبديلها.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ.. {.
(/1948)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
فالكتاب هو القرآن الكريم.
وقَوْل الحق سبحانه:
{ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ.. } [النحل: 64].
دليل على أن أتباع الرسل السابقين نشأ بينهم خلاف، فأيُّ خلاف هذا طالما أنهم
تابعون لنبي واحد؟ ما سببه؟
قالوا: سبب هذا الخلاف ما يُسمُّونه بالسلطة الزمنية.. ولتوضيح معنى السلطة
الزمنية نضرب مثلاً بواحد كان شيخاً لطريقة مثلاً، بواحد كان شيخاً لطريقة مثلاً،
فلما مات تنازع الخلافة أبناؤه من بعده.. كُلٌ يريدها له، وأخذ يجمع حوله مجموعة
من أتباع أبيه.. فلو كانت الخلافة هذه واضحة في أذهانهم ما حدث هذا الخلاف.
وكذلك السلطة الزمنية حدثت في أتباع الرسل الذين أخذوا يكتبون الصكوك، ويذكرون ما
يحبون وما يرونه صواباً من وجهة نظرهم، كل هؤلاء كان لهم نفوذ بما نُسميه السلطة
الزمنية.
فكيف ـ إذن ـ يتركون محمداً صلى الله عليه وسلم يأخذ منهم هذه السلطة، ويُضيع
عليهم ما هم فيه من سيادة، فقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُبيّن لهم. أي:
يردّهم إلى جَادّة الحق، وإلى الطريق المستقيم.
وقوله تعالى:
{ وَهُدًى وَرَحْمَةً.. } [النحل: 64].
الهدى: معناه بيان الطريق الواضح للغاية النافعة، والطريق لا يكون واضحاً إلا إذا
خَلا من الصِّعاب والعقبات، وخلا أيضاً من المخاوف، فهو طريق واضح مأمون سهل،
وأيضاً يكون قصيراً يُوصّلك إلى غايتك من أقصر الطرق.
وضد الهدى: الضلال. وهو أنْ يُضلّك، فإنْ أردتَ طريقاً وجَّهك إلى غيره، ودَلّك
على سواه، أو دَلّك على طريق به مخاوف وعقبات.
أما الرحمة، فقد وصف الحق تبارك وتعالى القرآن بأنه رحمة فقال:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ... }[الإسراء: 82]. فكيف
يكون القرآن شفاءً؟ وكيف يكون رحمة؟
الشفاء: إذا أصابنا داء ربنا سبحانه وتعالى يقول: طيّبوا داءكم وداووا أمراضكم
بكذا وكذا، ورُدُّوا الحكم إلى الله.. هذا شفاء.
أما الرحمة: فهي أن يمنع أن يأتي الداء مرة أخرى، فتكون وقاية تقتلع الداء من أصله
فلا يعود.
ومِثْل هذا يحدث في عالم الطب، فقد تذهب إلى طبيب لِيُعالجك من داء معين.. بثور في
الجلد مثلاً، فلا يهتم إلا بما يراه ظاهراً، ويصف لك ما يداوي هذه البثور.. ثم بعد
ذلك تُعاودك مرة أخرى.
أما الطبيب الحاذق الماهر فلا ينظر إلى الظاهر فقط، بل يبحث عن سببه في الباطن،
ويحاول أن يقتلع أسباب المرض من جذورها، فلا تُعاودك مرة أخرى.
ولذلك، لو نظرنا إلى قصة أيوب ـ عليه السلام ـ وما ابتلاه الله به نرى فيها مثالاً
رائعاً لعلاج الظاهر والباطن معاً، فقد ابتلاه ربُّه ببلاء ظهر أثره على جسمه
واضحاً، ولما أذن له سبحانه بالشفاء قال له:
{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }[ص: 42].
(مُغْتَسَلٌ): أي. يغسل ويُزيل ما عندك من آثار هذا البلاء.
(وَشَرَابٌ): أي. شراب يشفيك من أسباب هذا البلاء فلا يعود.
وكذلك الحال في علاج المجتمع، فقد جاء القرآن الكريم وفي العَالَم فساد كبير،
وداءاتٌ متعددة، لا بُدَّ لها من منهج لشفاء هذه الداءاتِ، ثم نعطيها مناعاتٍ تمنع
عودة هذه الداءات مرة أخرى.
وقوله تعالى:
} لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [النحل: 64].
أي: أن هذا القرآن فيه هدى ورحمة لمَنْ آمن بك وبرسالتك؛ لأن الطبيب الذي ضربناه
مثلاً هنا لا يعالج كل مريض، بل يعالج مَنْ وثق به، وذهب إليه وعرض عليه نفسه
ففحصه الطبيب وعرف عِلّته.
وهكذا القرآن الكريم يسمعه المؤمن به، فيكون له هدىً ورحمة، ويترك في نفسه إشراقات
نورانية تتسامى به وترتفع إلى أعلى الدرجات، في حين يسمعه آخر فلا يَعي منه شيئاً،
ويقول كما حكى القرآن الكريم:{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىا إِذَا
خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ
آنِفاً... }[محمد: 16].
وقال:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ.. }[فصلت: 44].{
وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى..
}[فصلت: 44].
إذن: فالقرآن واحد، ولكن الاستقبال مختلف.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ... {.
(/1949)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينقلنا إلى آية مادية مُحسّة لا ينكرها أحد، وهي
إنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض الميتة بهذا المطر؛ ليكون ذلك دليلاً محسوساً
على قدرته تعالى، وأنه مأمون على خَلْقه.
وكأنه سبحانه يقول لهم: إذا كنتُ أنا أعطيكم كذا وكذا، وأُوفّر لكم الأمر المادي
الذي يفيد عنايتي بكم، فإذا أنزلتُ لكم منهجاً ينفعكم ويُصلح أحوالكم فصدّقوه.
فهذا دليل ماديّ مُحَسّ يُوصِّلهم إلى تصديق المنهج المعنوي الذي جاء على يد
الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ
شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ.. }[الإسراء: 82].
وقوله: { وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً... } [النحل: 65].
هذه آية كونية مُحسَّة لا ينكرها أحد.
ثم يقول: { فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ... } [النحل: 65].
موت الأرض، أي حالة كَونْها جدباء مُقفرة لا زرعَ فيها ولا نبات، وهذا هو الهلاك
بعينه بالنسبة لهم، فإذا ما أجدبتْ الأرض استشرفوا لسحابة، لغمامة، وانتظروا منها
المطر الذي يُحيي هذه الأرض الميتة.. يُحييها بالنبات والعُشْب بعد أنْ كانت هامدة
ميتة.
فلو قبض ماء السماء عن الأرض لَمُتُّمْ جوعاً، فخذوا من هذه الآية المحسَّة دليلاً
على صدق الآية المعنوية التي هي منهج الله إليكم على يد رسوله صلى الله عليه وسلم،
فكما أمِنْتَنِي على الأولى فأْمَنِّي على الثانية.
وقوله: { إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [النحل: 65].
مع أن هذه الآية تُرَى بالعين ولا تُسْمع، قال القرآن:
{ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [النحل: 65].
.. لماذا؟
قالوا: لأن الله سبحانه أتى بهذه الآية لِيلْفتَهم إلى المنهج الذي سيأتيهم على يد
الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا المنهج سَيُسمع من الرسول المبلّغ لمنهج الله.
مثال ذلك أيضاً في قوله تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ
الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ
يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ }[القصص: 71].
فالضياء يُرى لا يُسمع.. لكنه قال: { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } لأنه يتكلم عن الليل،
ووسيلة الإدراك في الليل هي السمع.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي... }.
(/1950)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
الكون الذي خلقه الله تعالى فيه أجناس متعددة، أدناها الجماد المتمثل في الأرض
والجبال والمياه وغيرها، ثم النبات، ثم الحيوان، ثم الإنسان.
وفي الآية السابقة أعطانا الحق ـ تبارك وتعالى ـ نموذجاً للجماد الذي اهتزَّ
بالمطر وأعطانا النبات، وهنا تنقلنا هذه الآية إلى جنس أعلى وهو الحيوان.
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً... } [النحل: 66].
والمقصود بالأنعام: الإبل والبقر والغنم والماعز، وقد ذُكِرتْ في سورة الأنعام في
قوله تعالى:{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ
اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ
عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *
وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ... }[الأنعام: 143-144].
هذه هي الأنعام.
وقوله سبحانه: { لَعِبْرَةً } العِبْرة: الشيء الذي تعتبرون به، وتستنجون منه ما
يدلكم على قدرة الصانع الحكيم سبحانه وتعالى، وتأخذون من هذه الأشياء دليلاً على
صِدْق منهجه سبحانه فتصدقونه.
ومن معاني العبرة: العبور والانتقال من شيء لآخر.. أي: أن تأخذ من شيء عبرة تفيد
في شيء آخر. ومنها العَبْرة (الدمعة)، وهي: شيء دفين نبهْتَ عنه وأظهرتَهُ.
والمراد بالعبرة في خلق الأنعام:
{ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً
سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [النحل: 66].
مادة: سقى جاءت في القرآن مرة " سقى ". ومرة " أَسْقى " ،
وبعضهم قال: إن معناهما واحد، ولكن التحقيق أن لكل منهما معنًى، وإن اتفقا في
المعنى العام. سقى: كما في قوله تعالى:{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً
}[الإنسان: 21].
أي: أعطاهم ما يشربونه.. ومضارعه يَسقي. ومنها قوله تعالى في قصة موسى عليه
السلام:{ فَسَقَىا لَهُمَا... }[القصص: 24].
أما أسقى: كما في قوله تعالى:{ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً
فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }[الحجر: 22].
فمعناه أنه سبحانه أنزل الماء من السماء لا يشربه الناس في حال نزوله، ولكن ليكون
في الأرض لمن أراد أنْ يشربَ.. فالحق تبارك وتعالى لم يفتح أفواه الناس أثناء نزول
المطر ليشربوا منه.. لا.. بل هو مخزون في الأرض لمن أراده. والمضارع من أَسْقى:
يُسقي.
إذن: هناك فَرْق بين الكلمتين، وإنِ اتفقنا في المعنى العام.. وفرْق بين أن تُعطي
ما يُستفَادُ منه في ساعته، مثل قوله:{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ.. }[الإنسان: 21].
وبين أنْ تعطي ما يمكن الاستفادة منه فيما بعد كما في قوله:{ فَأَنزَلْنَا مِنَ
السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ }[الحجر: 22].
لذلك يقولون: إن الذي يصنع الخير قد يصنعه عاجلاً، فيعطي المحتاج مثلاً رغيفاً
يأكله، وقد يصنعه مؤُجّلاً فيعطيه ما يساعده على الكسْب الدائم ليأكل هو متى يشاء
من كسْبه.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ أعطانا هذه الفكرة في سورة الكهف، في قصة ذي القرنين، قال
تعالى:
{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }[الكهف: 93].
فما داموا لا يفقهون قَوْلاً.. فكيف تفاهم معهم ذو القرنين، وكيف قالوا:{ ياذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَىا أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً
}[الكهف: 94].
نقول: الذي يريد أن يفعل الخير والمعروف يسعى إليه ويحتال للوصول إليه وكأنه احتال
أنْ يفهمهم، وصبر عليهم حتى توصّل إلى طريقة للتفاهم معهم، في حين أنه كان قادراً
على ترْكهم والانصراف عنهم، وحُجّته أنهم لا يفقهون ولا يتكلمون.
فلما أراد ذو القرنين أن يبني لهم السد لن يَبْنِ هو بنفسه، بل علَّمهم كيف يكون
البناء، حتى يقوموا به بأنفسهم متى أرادوا ولا يحتاجون إليه.. فقال:{ آتُونِي
زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىا إِذَا سَاوَىا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ
حَتَّىا إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }[الكهف:
96].
إذن: علَّمهم وأحسن إليهم إحساناً دائماً لا ينتهي.
وقوله: } مِّمَّا فِي بُطُونِهِ... { [النحل: 66].
أي: مما في بطون الأنعام، فقد ذكَّر الضمير في (بطونه) باعتبار إرادة الجنس.
وقد أراد الحق سبحانه أن يخرج هذا اللبن:
} مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً { [النحل: 66].
والفَرْث في كرش الحيوان من فضلات طعامه.
فالعبرة هنا أن الله تعالى أعطانا من بين الفَرْث، وهو رَوَثُ الأنعام وبقايا
الطعام في كرشها، وهذا له رائحة كريهة، وشكل قذر مُنفّر، ومن بين دم، والدم له
لونه الأحمر، وهو أيضاً غير مستساغ؛ ومنهما يُخرِج لنا الخالق سبحانه لبناً خالصاً
من الشوائب نقياً سليماً من لون الدم ورائحة الفَرْث.
ومَنْ يقدر على ذلك إلا الخالق سبحانه؟
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله واصفاً هذا اللبن:
} لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ { [النحل: 66].
أي: يسيغه شاربه ويستلذّ به، ولا يُغَصُّ به شاربه، بل هو مُسْتساغ سَهْل الانزلاق
أثناء الشُّرْب؛ لأن من الطعام أو الشراب ما يحلو لك ويسُوغ وتهنأ به، ولكنه قد لا
يكون مريئاً.
ولذلك، فالحق سبحانه يقول:{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً }[النساء: 4].
هنيئاً أي: تستلِذّون به، ومريئاً: أي نافعاً للجسم، يمري عليك؛ لأنك قد تجد لَذة
في شيء أثناء أَكْله أو شُرْبه، ثم يسبِّب لك متاعب فيما بَعْد، فهو هَنِيءٌ ولكنه
غير مَرِيء.
فاللبن من نِعَم الله الدالة على قدرته سبحانه، وفي إخراجه من بين فَرْث ودم عبرة
وعِظَة، وكأن الحق سبحانه يعطينا هذه العبرة لينقلنا من المعنى الحسيِّ الذي
نشاهده إلى المعنى القيميّ في المنهج، فالذي صنع لنا هذه العبرة لإصلاح قالبنا
قادرٌ على أن يصنعَ لنا من المنهج ما يُصلِح قلوبنا.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِن ثَمَرَاتِ... {.
(/1951)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
ثمرات النخيل هي: البلح. والأعناب هو: العنب الذي نُسمّيه الكَرْم. والتعبير القرآني
هنا وإن امتنَّ على عباده بالرزق الحسن، فإنه لا يمتنّ عليهم بأن يتخذوا من
الأعناب سكراً: أي مُسْكِراً، ولكن يعطينا الحق سبحانه هنا عبرةً فقد نزلتْ هذه
الآيات قبل تحريم الخمر.
وكأن الآية تحمل مُقدّمة لتحريم الخمر الذي يستحسنونه الآن ويمتدحونه؛ ولذلك يقول العلماء:
إن الذي يقرأ هذه الآية بفِطنة المستقْبِل عن الله يعلم أن لله حُكْماً في السَّكر
سيأتي.
كيف توصَّلوا إلى أن لله تعالى حُكْماً سيأتي في السَّكر؟
قالوا: لأنه قال في وصف الرزق بأنه حسن، في حين لم يَصِفْ السَّكر بأنه حسن، فمعنى
ذلك أنه ليس حسناً؛ ذلك لأننا نأكل ثمرات النخيل (البلح) كما هو، وكذلك نأكل العنب
مباشرة دون تدخُّل مِنّا فيما خلق الله لنا.
أما أنْ نُغيّر من طبيعته حتى يصير خمراً مُسْكراً، فهذا إفساد في الطبيعة التي
اختارها الله لنا لتكون رزقاً حَسناً.
وكأنه سبحانه يُنبّه عباده، أنَا لا أمتنُّ عليكم بما حرَّمْتُ، فأنا لم أُحرِّمه
بَعْد، فاجعلوا هذا السَّكر ـ كما ترونه ـ متعةً لكم، ولكن خذوا منه عبرة أَنِّي
لم أَصِفْه بالحُسْن؛ لأنه إنْ لم يكُنْ حَسَناً فهو قبيح، فإذا ما جاء التحريم
فقد نبهتكم من بداية الأمر.
ثم يقول تعالى:
{ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل: 67].
لأن العقل يقتضي أنْ نُوازِنَ بين الشيئين، وأن نسأل: لماذا لم يوصف السَّكر بأنه
حَسَن؟.. أليس معناه أن الله تعالى لا يحب هذا الأمر ولا يرضاه لكم؟
إذن: كأن في الآية نيّة التحريم، فإذا ما أنزل الله تحريم الخمر كان هذا تمهيداً
له.
والآية هي: الأمر العجيب الذي يُنبئكم الله الذي خلق لكم هذه الأشياء لسلامة
مبانيكم وقوالبكم المادية، قادر ومأمون على أن يُشرّع لكم ما يضمن سلامة معانيكم
وقلوبكم القيمية الروحية.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَوْحَىا رَبُّكَ.. }.
(/1952)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
النحل خَلْق من خَلْق الله، وكل خَلْق لله أودع الله فيه وفي غرائزه ما يُقيم
مصالحه، يشرح ذلك قوله تعالى:{ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىا * وَالَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَىا }[الأعلى: 2-3].
أي: خلق هذه كذا، وهذه كذا حَسْب ما يتناسب مع طبيعته؛ ولذلك تجد ما دون الإنسان
يسير على منهج لا يختلف.. فالإنسان مثلاً قد يأكل فوق طاقته، وقد يصل إلى حَدِّ
التُّخْمة، ثم بعد ذلك يشتكي مرضاً ويطلب له الدواء.
أما الحيوان فإذا ما أكل وجبته، وأخذ ما يكفيه فلا يزيد عليه أبداً، وإنْ أجبرته
على الأكل؛ ذلك لأنه محكوم بالغريزة الميكانيكية، وليس له عقل يختار به.
وضربنا مثلاً للغريزة في الحيوان بالحمار الذي يتهمونه دائماً ويأخذونه مثلاً
للغباء، إذا سُقْتَه ليتخطى قناة ماء مثلاً وجدته ينظر إليها وكأنه يقيس المسافة
بدقة.. فإذا ما وجدها في مقدوره قفزها دون تردد، وإذا وجدها فوق طاقته، وأكبر من
قدرته تراجع ولم يُقدِم عليها، وإنْ ضربتَه وصِحْتَ به.. فلا تستطيع أبداً إجباره
على شيء فوق قدرته.
ذلك لأنه محكوم بالغريزة الآلية التي جعلها الله سبحانه فيه، على خلاف الإنسان
الذي يفكر في مثل هذه الأمور ليختار منها ما يناسبه، فهذه تكون كذا، وهذه تكون
كذا، فنستطيع أن نُشبِّه هذه الغريزة في الحيوان بالعقل الإلكتروني الذي لا يعطيك
إلا ما غذَّيته به من معلومات.. أما العقل البشري الرباني فهو قادر على التفكير
والاختيار والمفاضلة بين البدائل.
يقول الحق سبحانه:
{ وَأَوْحَىا رَبُّكَ إِلَىا النَّحْلِ... } [النحل: 68].
الحق تبارك وتعالى قد يمتنّ على بعض عبادة ويُعلّمهم لغة الطير والحيوان،
فيستطيعون التفاهم معه ومخاطبته كما في قصة سليمان عليه السلام.. والله سبحانه
الذي خلقها وأبدعها يُوحِي إليها ما يشاء.. فما هو الوحي؟
الوحي: إعلام من مُعْلِم أعلى لمُعْلَم أدنى بطريق خفيّ لا نعلمه نحن، فلو أعلمه
بطريق صريح فلا يكون وَحْياً.
فالوَحْي إذن يقتضي: مُوحِياً وهو الأعلى، ومُوحَىً إليه وهو الأَدْنَى، ومُوحًى
به وهو المعنى المراد من الوَحْي.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ له طلاقة القدرة في أنْ يُوحي ما يشاء لما يشاء من
خَلْقه.. وقد أوحى الحق سبحانه وتعالى إلى الجماد في قوله تعالى:{ إِذَا
زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ
الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَىا لَهَا }[الزلزلة: 1-5].
أعلمها بطريق خفيّ خاص بقدرة الخالق في مخلوقه.
وهنا أوحى الله إلى النحل.
وأوحى الله إلى الملائكة:{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي
مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ... }[الأنفال: 12].
وأوحى إلى الرسل:{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىا نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَىا وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ... }
[النساء: 163].
وأوحى إلى المقربين من عباده:{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ
آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي.. }[المائدة: 111].
وقد أوحى إليهم بخواطر نورانية تمرُّ بقلوبهم
وأوحى سبحانه إلى أم موسى:{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّ مُوسَىا أَنْ
أَرْضِعِيهِ.. }[القصص: 7].
هذا هو وَحْي الله إلى ما يشاء من خَلْقه: إلى الملائكة، إلى الأرض، إلى الرسل،
إلى عباده المقرّبين، إلى أم موسى، إلى النحل.. الخ.
وقد يكون الوحي من غيره سبحانه، ويُسمَّى وَحْياً أيضاً، كما في قوله تعالى:{
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ.. }[الأنعام: 121].
وقوله:{ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىا بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً..
}[الأنعام: 112].
لكن إذا أُطلِقَتْ كلمة (الوَحْي) مُطْلقاً بدون تقييد انصرفتْ إلى الوحي من الله
إلى الرسل؛ لذلك يقول علماء الفقه: الوحي هو إِعلامُ الله نبيه بمنهجه، ويتركون
الأنواع الأخرى: وَحْي الغرائز، وَحْي التَكوين، وَحْي الفطرة.. الخ.
وقوله: } أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا
يَعْرِشُونَ { [النحل: 68].
كثير من الباحثين شغوفون بدراسة النحل ومراحل حياته منذ القدم، ومن هؤلاء باحث
تتبّع المراحل التاريخية للنحل، فتوصّل إلى أن النحل أول ما وُجِد عاش في الجبال،
ثم اتخذ الشجر، وجعل فيها أعشاشه، ثم اتخذ العرائش التي صنعها له البشر، وهي ما
نعرفه الآن باسم الخلية الصناعية أو المنحل، ووَجْه العجب هنا أن هذا الباحث لا
يعرف القرآن الكريم، ومع ذلك فقد تطابق ما ذهب إليه مع القرآن تمام التطابق.
وكذلك توصَّل إلى أن أقدمَ أنواع العسل ما وُجِد في كهوف الجبال، وقد تَوصَّلوا
إلى هذه الحقيقة عن طريق حَرْق العسل وتحويله إلى كربون، ثم عن طريق قياس إشعاع
الكربون يتم التوصّل إلى عمره.. وهكذا وجدوا أن عسل الكهوف أقدم أنواع العسل، ثم
عسل الشجر، ثم عسل الخلايا والمناحل.
إذن: أوحى الله تعالى إلى النحل بطريق خفيّ لا نعلمه نحن، وعملية الوحي تختلف
باختلاف الموحِي والموحَي إليه، ويمكن أنْ نُمثّل هذه العملية بالخادم الفَطِن
الذي ينظر إليه سيده مُجرد نظرة فيفهم منها كل شيء: أهو يريد الشراب؟ أم يريد
الطعام؟ أم يريد كذا؟
ثم يقول الحق سبحانه: } ثُمَّ كُلِي مِن... {.
(/1953)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
عِلّة كَوْن العسل فيه شفاء للناس أنْ يأكلَ النحل من كُلِّ الثمرات ذلك لأن
تنوُّع الثمرات يجعل العسل غنيّاً بالعناصر النافعة، فإذا ما تناوله الإنسان ينصرف
كل عنصر منه إلى شيء في الجسم، فيكون فيه الشفاء بإذن الله.
ولكن الآن ماذا حدث؟ نرى بعض الناس يقول: أكلتُ كثيراً من العسل، ولم أشعر له
بفائدة.. نقول: لأننا تدخّلنا في هذه العملية، وأفسدنا الطبيعة التي خلقها الله
لنا.. فالأصل أن نتركَ النحل يأكل من كُلّ الثمرات.. ولكن الحاصل أننا نضع له
السكر مثلاً بدلاً من الزَّهْر والنوار الطبيعي، ولذلك تغيّر طعم العسل، ولم
تَعُدْ له مَيْزته التي ذكرها القرآن الكريم.
لذلك؛ فالمتتبع لأسعار عسل النحل يجد تفاوتاً واضحاً في سعره بين نوع وآخر، ذلك
حَسْب جودته ومدى مطابقته للطبيعة التي حكاها القرآن الكريم.
والحق سبحانه يقول:
{ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً.. } [النحل: 69].
أي: تنقّلي حُرّة بين الأزهار هنا وهناك؛ ولذلك لا نستطيع أنْ نَبني للنحل بيوتاً
يقيم فيها، لا بُدَّ له من التنقُّل من بستان لآخر، فإذا ما جَفَّتْ الزراعات يتغذَّى
النحل من عسله، ولكن الناس الآن يأخذون العسل كله لا يتركون له شيئاً، ويضعون
مكانه السكر ليتغذَّى منه طوال هذه الفترة.
وقوله تعالى: { ذُلُلاً.. } [النحل: 69].
أي: مُذلَّلة مُمهّدة طيِّعة، فتخرج النحل تسعى في هذه السُّبل، فلا يردها شيء،
ولا يمنعها مانع، تطير هنا وهناك من زهرة لأخرى، وهل رأيت شجرة مثلاً رَدَّتْ
نحلة؟!.. لا.. قد ذَلَّلَ الله لها حياتها ويسَّرها.
ومن حكمته تعالى ورحمته بنا أنْ ذلَّلَ لنا سُبُل الحياة.. وذلَّل لنَا ما ننتفع
به، ولولا تذليله هذه الأشياء ما انتفعنا بها.. فنرى الجمل الضخم يسوقه الصبي
الصغير، ويتحكَّم فيه يُنيخه، ويُحمّله الأثقال، ويسير به كما أراد، في حين أنه
إذا ثار الجمل أو غضب لا يستطيع أحدٌ التحكم فيه.. وما تحكَّم فيه الصبي الصغير
بقوته ولكن بتذليل الله له.
أما الثعبان مثلاً فهو على صِغَر حجمه يمثِّل خطراً يفزع منه الجميع ويهابون
الاقتراب منه، ذلك لأن الله سبحانه لم يُذلِّلْه لنا، فأفزعنا على صِغَر حجمه..
كذلك لو تأمنا البرغوث مثلاً.. كم هو صغير حقير، ومع ذلك يقضّ مضاجعنا، ويحرمنا
لذة النوم في هدوء.. فهل يستطيع أحدٌ أنْ يُذلِّل له البرغوث؟!
وفي ذلك حكمة بالغة وكأن الحق سبحانه يقول لنا: إذا ذللتُ لكم شيئاً، ولو كان اكبر
المخلوقات كالجمل والفيل تستطيعون الانتفاع به، وإن لم أذلِّله لكم فلا قدرة لكم
على تذليله مهما كان حقيراً صغيراً.. إذن: الأمور ليست بقدرتك، ولكن خُذْها كما
خلقها الله لك.
} يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا.. { [النحل: 69].
ذلك أن النحلة تمتصّ الرحيق من هنا ومن هنا، ثم تتم في بطنها عملية طَهْي ربانية
تجعل من هذا الرحيق شَهْداً مُصفَّى؛ لأنه قد يظن أحدهم أنها تأخذ الرحيق، ثم
تتقيؤه كما هو.. فلم يَقُلْ القرآن: من أفواهها، بل قال: من بطونها.. هذا المعمل
الإلهي الذي يعطينا عسلاً فيه شفاء للناس.
} شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ.. { [النحل: 69].
ما دام النحل يأكل من كُلّ الثمرات، والثمرات لها عطاءاتٌ مختلفة باختلاف مادتها،
واختلاف ألوانها، واختلاف طُعومها وروائحها.. إذن: لا بُدَّ أن يكون شراباً
مختلفاً ألوانه.
} فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ... { [النحل: 69].
لذلك وجدنا كثيراً من الأطباء، جزاهم الله خيراً يهتمون بعسل النحل، ويُجْرون عليه
كثيراً من التجارب لمعرفة قيمته الطبية، لكن يعوق هذه الجهود أنهم لا يجدون العسل
الطبيعي كما خلقه الله.
ومع ذلك ومع تدخّل الإنسان في غذاء النحل بقيت فيه فائدة، وبقيت فيه صفة الشفاء،
وأهمها امتصاص المائية من الجسم، وأيّ ميكروب تريد أنْ تقضيَ عليه قم بامتصاص
المائية منه يموت فوراً.
فإذا ما توفَّر لنا العسل الطبيعي الذي خلقه الله تجلَّتْ حكمة خالقه فيه بالشفاء،
ولكنه إذا تدخّل الإنسان في هذه العملية أفسدها.. فالكون كله الذي لا دَخْلَ
للإنسان فيه يسير سَيْراً مستقيماً لا يتخلَّف، كالشمس والقمر والكواكب.. الخ إلا
الإنسان فهو المخلوق الوحيد الذي يخرج عن منهج الله.
فالشيء الذي لك دَخْلٌ فيه، إما أنْ تتدخّل فيه بمنهج خالقه أو تتركه؛ لأنك إذا
تدخلْتَ فيه بمنهج خالقه يعطيك السلامة والخير، وإنْ تدخلْتَ فيه بمنهجك أنت
أفسدتَه.
والحق سبحانه وتعالى يقول:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ
قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }[البقرة: 11].
إنهم لا يعرفون.. لا يُفرِّقون بين الفساد والصلاح.
وفي القرآن أمثلة للناس الذين يُفسِدون في الأرض ويحسَبون أنهم يُحسِنون صُنْعاً،
يقول تعالى:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً }[الكهف: 103-104].
فالذي اخترع السيارة وهذه الآلات التي تنفث سمومها وتُلوّث البيئة التي خلقها
الله.. صحيح وفَّر لنا الوقت والمجهود في الحمل والتنقُّل، ولكن انظر إلى ما أصاب
الناس من عَطَب بسبب هذه الآلات.. انظر إلى عوادم السيارات وآثارها على صحة
الإنسان.
كان يجب على مخترع هذه الآلات أنْ يوازنَ بين ما تؤديه من منفعة وما تُسبِّبه من
ضرر، وأضاف إلى الأضرار الصحية ما يحدث من تصادمات وحوادث مُروّعة تزهق بسببها
الأرواح.. وبالله هل رأيت أن تصادمَ جملان في يوم من الأيام.. فلا بُدَّ إذن أن
نقيسَ المنافع والأضرار قبل أنْ نُقدِم على الشيء حتى لا نُفِسد الطبيعة التي
خلقها الله لنا.
وقوله تعالى:
} فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ.... { [النحل: 69].
الناس: جَمْعٌ مختلفُ الداءات باختلاف الأفراد وتعاطيهم لأسباب الداءات، فكيف يكون
هذا الشراب شفاءٌ لجميع الداءات على اختلاف أنواعها؟.. نقول: لأن هذا الشراب الذي
أعدَّه الله لنا بقدرته سبحانه جاء مختلفاً ألوانه.. من رحيق مُتعدِّد الأنواع
والأشكال والطُّعوم والعناصر.. ليس مزيجاً واحداً يشربه كل الناس، بل جاء مختلفاً
متنوعاً باختلاف الناس، وتنوّع الداءات عندهم.. وكأن كل عنصر منه يُداوِي داءً من
هذه الدَّاءات.
وقوله تعالى:
} إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { [النحل: 69]. التفكّر: أنْ
تُفكّر فيما أنت بصدده لتستنبطَ منه شيئاً لستَ بصدده، وبذلك تُثري المعلومات؛ لأن
المعلومات إذا لم تتلاقح، إذا لم يحدث فيها توالد تقف وتتجمّد، ويُصاب الإنسان
بالجمود الطموحي، وإذا أصيب الإنسان بهذا الجمود توقّف الارتقاء؛ لأن الارتقاءات
التي نراها في الكون هي نتيجة التفكُّر وإعمال العقل.
لذلك فالحق سبحانه يُنبِّهنا حينما نمرُّ على ظاهرة من ظواهر الكون، ألا نمر عليها
غافلين مُعرضين، بل نفكر فيها ونأخذها بعين الاعتبار.. يقول تعالى:{ وَكَأَيِّن
مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا
مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].
ففي الآية حَثٌّ على التفكّر في ظواهر الكون، وفيها تحذير من الإعراض والغفلة عن
آيات الله، فبالفكر نستنبط من الكون ما نستفيد به.
ولو أخذنا مثلاً الذي اخترع الآلة البخارية.. كيف توصل إلى هذا الاختراع الذي أفاد
البشرية؟ نجد أنه توصل إليه حينما رأى القِدْر الذي يغلي على النار يرتفع غطاؤه مع
بخار الماء المتصاعد أثناء الغليان.. فسأل نفسه: لماذا يرتفع الغطاء؟ واستعمل عقله
وأعمل تفكيره حتى توصَّل إلى قوة البخار المتصاعد، واستطاع توظيف هذه القوة في
تسيير ودفع العربات.
وكذلك أرشميدس ـ وغيره كثيرون ـ توصلوا بالاعتبار والتفكُّر في ظواهر الكون، إلى
قوانين في الطبيعة أدت إلى اختراعات نافعة نتمتع نحن بها الآن، فالذي اخترع
العجلة، كم كانت مشقة الإنسان في حَمْل الأثقال؟ وما أقصى ما يمكن أنْ يحمله؟ فبعد
أنْ اخترعوا العجلات واستُخدِمت في الحمل تمكّن الإنسان من حَمْل وتحريك أضعاف
أضعاف ما كان يحمله.
الذي اخترع خزانات المياه.. كم كانت المشقة في استخراج الماء من البئر؟ أو من
النهر؟ فبعد عمل الخزانات وضَخِّ المياه أصبحنا نجد الماء في المنازل بمجرد فَتْح
الصنبور.
هذه كلها ثمرات العقل حينما يتدبَّر، وحينما يُفكِّر في ظواهر الكون، ويستخدم
المادة الخام التي خلقها الله وحثَّنا على التفكُّر فيها والاستنباط منها.. وكأن
الحق سبحانه يقول لنا: لقد أعطيتكم ضروريات الحياة، فإنْ أردتُم ترفَ الحياة
وكمالياتها فاستخدموا نعمة العقل والتفكير والتدبّر لتصلوا إلى هذه الكماليات.
وهنا الحق سبحانه يلفتنا لَفْتةً أخرى.. وهي أنه سبحانه يجعل من المحسّات ما
يُقرّب لنا المعنويّات ليلفتنا إلى منهجه سبحانه؛ ولذلك ينقلنا هذه النَّقْلة من
المحسوس إلى المعنوي، فيقول تعالى: } وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ... {.
(/1954)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قوله: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ.. } [النحل: 70].
هذه حقيقة لا يُنكرها أحد، ولم يَدّعِها أحدٌ لنفسه، وقد أمدّكم بمقوِّمات حياتكم
في الأرض والنبات والحيوان، والأنعام التي تعطينا اللبن صافياً سائغاً للشاربين،
ثم النحل الذي فيه شفاء للناس.
فالحق سبحانه أعطانا الحياة، وأعطانا مٌقوِّمات الحياة، وأعطانا ما يُزيل معاطبَ
الحياة.. وما دُمْتم صدَّقتم بهذه المحسَّات فاسمعوا:
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىا
أَرْذَلِ الْعُمُرِ... } [النحل: 70].
وساعة أن نسمع (خلقكم)، فنحن نعترف أن الله خلقنا، ولكنْ كيف خلقنا؟ هذه لا نعرفها
نحن؛ لأنها ليستْ عملية معملية.. فالذين خلق هو الحق سبحانه وحده، وهو الذي
يُخبرنا كيف خلق.. أما أنْ يتدخَّل الإنسان ويُقحِمَ نفسه في مسألة لا يعرفُها،
فنرى مَنْ يقول إن الإنسان أَصلْه قرد.. إلى آخر هذا الهُراء الذي لا أَصْلَ له في
الحقيقة.
ولذلك، فالحق سبحانه يقول لنا: إذا أردتُمْ أن تعرفوا كيف خُلِقْتُم فاسمعوا
مِمَّنْ خلقكم.. إياكم أنْ تسمعوا من غيره؛ ذلك لأنني:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ
خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ }[الكهف: 51].
هذه عملية لم يُطلع الله عليها أحداً:{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُداً }[الكهف: 51].
أي: ما اتخذتُ مساعداً يعاونني في مسألة الخَلْق.
وما هو المضلّ؟ المضِلّ هو الذي يقول لك الكلام على أنه حقيقة، وهو يُضلُّك.
إذن: ربنا سبحانه وتعالى هنا يعطينا فكرة مُقدّماً: احذروا، فسوف يأتي أناس
يُضلونكم في موضوع الخَلْق، وسوف يُغيّرون الحقيقة، فإياكم أنْ تُصدِّقوهم؛ لأنهم
ما كانوا معي وقت أنْ خلقتكم فيدَّعُون العلم بهذه المسألة.
ونفس هذه القضية في مسألة خَلْق السماوات والأرض، فالله سبحانه هو الذي خلقهما،
وهو سبحانه الذي يُخبرنا كيف خلق.
فحين يقول سبحانه:
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ.. } [النحل: 70].
فعلينا أن نقول: سَمْعاً وطاعة، وعلى العين والرأس.. يا ربِّ أنت خلقتنا، وأنت
تعلم كيف خلقتنا، ولا نسأل في هذا غيرك، ولا نُصدِّق في هذا غير قَوْلك سبحانك.
ثم يقول تعالى:
{ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ.. } [النحل: 70].
أي: منه سبحانه كان المبدأ، وإليه سبحانه يعود المرجع.. وما دام المبدأ من عنده
والمرجع إليه، وحياتك بين هذين القوسين؛ فلا تتمرد على الله فيما بين القوسين؛
لأنه لا يليق بك ذلك، فأنت منه وإليه.. فلماذا التمرد؟
ربُّنا سبحانه وتعالى هنا يُعطينا دليلاً على طلاقة قدرته سبحانه في أمر الموت،
فالموت ليس له قاعدة، بل قد يموت الجنين في بطن أمه، وقد يموت وهو طفل، وقد يموت
شاباً أو شيخاً، وقد يرد إلى أرذل العمر، أي: يعيش عمراً طويلاً.. وماذا في أرذل
العمر؟!
يُرَدُّ الإنسان بعد القوة والشباب، بعد المهابة والمكان، بعد أنْ كان يأمر وينهي
ويسير على الأرض مُخْتالاً، يُرَدُّ إلى الضَّعْف في كل شيء، حتى في أَمْيز شيء في
تكوينه، في فكره، فبعد العِلْم والحِفْظ وقوة الذاكرة يعود كالطفل الصغير، لا يذكر
شيئاً ولا يقدر على شيء.
ذلك لتعلم أن المسألة ليست ذاتية فيك، بل موهوبة لك من خالقك سبحانه، ولتعلم أنه
سبحانه حينما يقضي علينا بالموت فهذا رحمة بنا وستْر لنا من الضعف والشيخوخة، قبل
أن نحتاج لمن يساعدنا ويُعينُنا على أبسط أمور الحياة ويأمر فينا مَنْ كُنّا
نأمره.
ومن هنا كان التوفّي نعمة من نِعَم الله علينا، ولكي تتأكد من هذه الحقيقة انظر
إلى مَنْ أمدّ الله في أعمارهم حتى بلغوا ما سماه القرآن " أرذل العمر "
وما يعانونه من ضعف وما يعانيه ذووهم في خدمتهم حتى يتمنى له الوفاة أقرب الناس
إليه.
الوفاة إذن نعمة، خاصة عند المؤمن الذي قدّم صالحاً يرجو جزاءه من الله، فتراه
مُسْتبشراً بالموت؛ لأنه عمَّر آخرته فهو يُحب القدوم عليها، على عكس المسرف على
نفسه الذي لم يُعِدّ العُدّة لهذا اليوم، فتراه خائفاً جَزِعاً لعلمه بما هو قادم
عليه.
و(ثُمَّ) حَرْف للعطف يفيد الترتيب مع التراخي.. أي: مرور وقت بين الحدثين.. فهو
سبحانه خلقكم، ثم بعد وقت وتراخٍ يحدث الحدَث الثاني (يتوفّاكم). على خلاف حرف
(الفاء)، فهو حرف عطف يفيد الترتيب مع التعقيب أي: تتابع الحدثين، كما في قوله
تعالى:{ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }[عبس: 21].
فبعد الموت يكون الإقبار دون تأخير.
وقوله تعالى: } وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىا أَرْذَلِ الْعُمُرِ... { [النحل:
70].
وأرذل العمر: أردؤه وأقلّه وأخسُّه؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى أخرج الإنسان من
بطن أمه لا يعلم شيئاً، فقال:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ... }[النحل: 78].
وهذه هي وسائل العلم في الإنسان، فإذا رُدَّ إلى أرذل العمر فقدتْ هذه الحواسّ
قدرتها، وضَعُفَ عملها، وعاد الإنسان كما بدأ لا يعلم شيئاً بعد ما أصابه من
الخَرف والهرم، فقد توقفتْ آلات المعرفة، وبدأ الإنسان ينسى، وتضعف ذاكرته عن
استرجاع ما كان يعلمه.
وقوله: } لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً.. { [النحل: 70].
لذلك يُسمُّون هذه الحواس الوارث.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
} إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ { [النحل: 70].
لأنه سبحانه بيده الخَلْق من بدايته، وبيده سبحانه الوفاة والمرجع، وهذا يتطلَّب
عِلْماً، كما قال سبحانه:{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ.. }[الملك: 14].
فلا بُدَّ من عِلم، لأن الذي يصنع صَنْعة لا بُدَّ أن يعرفَ ما يُصلحها وما
يُفسِدها، وذلك يتطلَّب قدرة للإدراك، فالعلم وحده لا يكفي.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَاللَّهُ فَضَّلَ.. {.
(/1955)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
لو نظرنا إلى الكون من حولنا لوجدنا أننا لا نتساوى إلا في شيء واحد فقط، هو أننا
عبيدٌ لله.. نحن سواسية في هذه فقط، وما دون ذلك فنحن مختلفون فيه، تختلف ألواننا،
تختلف أجسامنا.. صورنا.. مواهبنا.. أرزاقنا.
والعجيب أن هذا الاختلاف هو عَيْنُ الاتفاق؛ ذلك لأن الاختلاف قد ينشأ عنه
الاتفاق، والاتفاق قد ينشأ عنه الاختلاف.
مثلاً: إذا دخلتَ أنت وصديقك أحد المطاعم وطلبتما دجاجة.. أنت بطبيعتك تحب صدر
الدجاجة وصديقك يحب جزاءً آخر منها.. هذا خلاف.. فساعة أن يأتي الطعام تجد هذا
الخلاف هو عين الوفاق حيث تأخذ أنت ما تحب، وهو كذلك.. هذا خلاف أدى إلى وفاق..
فلو فرضنا أن كلانا يحب الصدر مثلاً.. هذا وفاق قد يؤدي إلى خلاف إذا ما حضر
الطعام وجلسنا: أينا يأخذ الصدر؟!
فالحق سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أشياء، وأراد أن يكون هذا الاختلاف تكاملاً
فيما بيننا.. فكيف يكون التكامل إذن؟
هل نتصور مثلاً أن يُوجَد إنسان مجمعاً للمواهب، بحيث إذا أراد بنا بيت مثلاً كان
هو المهندس الذي يرسم، والبنَّاء الذي يبني، والعامل الذي يحمل، والنجار والحداد
والسباك.. الخ. هل نتصور أن يكون إنسان هكذا؟.. لا..
ولكن الخالق سبحانه نثَر هذه المواهب بين الناس نَثْراً لكي يظل كل منهم محتاجاً
إلى غيره فيما ليس عنده من مواهب، وبهذا يتم التكامل في الكون.
إذن: الخلاف بيننا هو عَين الوفاق، وهو آية من آياته سبحانه وحكمة أرادها الخالق
جَلَّ وعَلا، فقال:{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }[هود: 118].
فقد خلقنا هكذا.
وإلا فلو اتحدنا واتفقنا في المواهب، فهل يعقل أن نكون جميعاً فلاسفة، أطباء،
علماء، فمَنْ يبني؟ ومَنْ يزرع؟ ومَنْ يصنع؟.. الخ.
إذن: من رحمة الله أنْ جعلنا مختلفين متكاملين.
فالحق سبحانه يقول:
{ فِي الْرِّزْقِ... } [النحل: 71].
ينظر الناس إلى الرزق من ناحية واحدة، فهو عندهم المال، فهذا غنيّ وهذا فقير..
والحقيقة أن الرزق ليس المال فقط، بل كُلّ شيء تنتفع به فهو رِزْقك.. فهذا رِزْقه
عقله، وهذا رِزْقه قوته العضلية.. هذا يفكر وهذا يعمل.
إذن: يجب ألاَّ ننظر إلى الرزق على أنه لَوْن واحد، بل ننظر إلى كل ما خلق الله
لخَلْقه من مواهب مختلفة: صحة، قدرة، ذكاء، حِلْم، شجاعة.. كل هذا من الرزق الذي
يحدث فيه التفاضل بين الناس.
والحق سبحانه وتعالى حينما تعرَّض لقضية الرزق جعل التفاضل هنا مُبْهماً، ولم تحدد
الآية مَنِ الفاضل ومَنِ المفضول، فكلمة ـ بَعْضٍ ـ مُبْهمة لنفهم منها أن كل بعض
منَ الأبعاض فاضل في ناحية، ومفضول في ناحية أخرى.
. فالقوي فاضل على الضعيف بقوته، وهو أيضاً مفضول، فربما كان الضعيف فاضلاً بما
لديه من علم أو حكمة.. وهكذا.
إذن: فكلُّ واحد من خَلْق الله رَزَقه الله موهبة، هذه الموهبة لا تتكرر في الناس
حتى يتكامل الخَلْق ولا يتكررون.. وإذا وجدت موهبة في واحد وكانت مفقودة في الآخر
فالمصلحة تقتضي أن يرتبط الطرفان، لا ارتباط تفضُّل، وإنما ارتباط حاجة.. كيف؟
القويُّ يعمل للضعيف الذي لا قوةَ له يعمل بها، فهو إذن فاضل في قوته، والضعيف
فاضل بما يعطيه للقوي من مال وأجر يحتاجه القوي ليقُوتَ نفسه وعياله، فلم يشأ الحق
سبحانه أنْ يجعلَ الأمر تفضُّلاً من أحدهما على الآخر، وإنما جعله تبادلاً مرتبطاً
بالحاجة التي يستبقي بها الإنسان حياته.
وهكذا يأتي هذا الأمر ضرورة، وليس تفضَّلاً من أحد على أحد؛ لأن التفضُّل غير
مُلْزَم به ـ فليس كل واحد قادراً على أن يعطي دون مقابل، أو يعمل دون أجر.. إنما
الحاجة هي التي تحكم هذه القضية.
إذن: ما الذي ربط المجتمع؟ هي الحاجة لا التفضُّل، وما دام العالم سيرتبط بالحاجة،
فكل إنسان يرى نفسه فاضلاً في ناحية لا يغترّ بفاضليته، بل ينظر إلى فاضلية
الآخرين عليه؛ وبذلك تندكُّ سِمَة الكبرياء في الناس، فكلٌّ منهما يُكمل الآخر.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالباشا الغني صاحب العظمة والجاه.. والذي قد تُلْجِئه
الظروف وتُحوجه لعامل بسيط يُصلح له عُطْلاً في مرافق بيته، وربما لم يجده أو وجده
مشغولاً، فيظل هذا الباشا العظيم نَكِداً مُؤرّقاً حتى يُسعفه هذا العامل البسيط،
ويقضي له ما يحتاج إليه.
هكذا احتاج صاحب الغنى والجاه إلى إنسان ليس له من مواهب الحياة إلا أنْ يقضي مثل
هذه المهام البسيطة في المنزل.. وهو في نفس الوقت فاضل على الباشا في هذا الشيء.
فالجميع ـ إذن ـ في الكون سواسية، ليس فينا مَنْ بينه وبين الله سبحانه نسب أو
قرابة فيجامله.. كلنا عبيد لله، وقد نثر الله المواهبَ في الناس جميعاً ليتكاملوا
فيما بينهم، وليظل كُلٌّ منهم محتاجاً إلى الآخر، وبهذا يتم الترابط في المجتمع.
وقد عُرِضَتْ هذه القضية في آية أخرى في قوله تعالى:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ
رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً
سُخْرِيّاً.. }[الزخرف: 32].
البعض يفهم أن الفقير مُسخّر للغنيّ، لكن الحقيقة أن كلاً منهما مُسخَّر للآخر..
فالفقير مُسخّر للغني حينما يعمل له العمل، والغني مُسخّر للفقير حينما يعطي له
أجره..
ولذلك فالشاعر العربي يقول:النَّاسُ لِلْناسِ مِنْ بَدْوٍ وحاضرة بَعْضٌ لبعضٍ وإن
لم يشعروا خَدَمُونضرب هنا مثلاً بأخسِّ الحرف في عُرْف الناس ـ وإنْ كانت الحِرف
كلها شريفة، وليس فيها خِسَّة طالما يقوت الإنسان منها نفسه وعياله من الحلال.
. فالخِسَّة في العاطل الأخرق الذي يُتقِن عملاً.
هذا العامل البسيط ماسح الأحذية ينظر إليه الناس على أنهم افضل منه، وأنه أقل
منهم، ولو نظروا إلى علبة الورنيش التي يستخدمها لوجدوا كثيرين من العمال والعلماء
والمهندسين والأغنياء يعملون له هذه العلبة، وهو فاضل عليهم جميعاً حينما يشتري
علبة الورنيش هذه.. لكن الناس لا ينظرون إلى تسخير كل هؤلاء لهذا العامل البسيط.
فقوله تعالى:{ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً.. }[الزخرف: 32].
مَنْ مِنّا يُسخّر الآخر؟! كُلٌّ منا مُسخَّر للآخر، أنت مُسخَّر لي فيما تتقنه،
وأنا مُسخَّر لك فيما أتقنه.. هذه حكمة الله في خَلْقه ليتم التوازن والتكامل بين
أفراد المجتمع.
وربُّنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا.. يعني هذا لكذا وهذا لكذا..
لا.. الذي يرضى بقدر الله فيما يُناسبه من عمل مهما كان حقيراً في نظر الناس، ثم
يُتقن هذا العمل ويجتهد فيه ويبذل فيه وُسْعه يقول له الحق سبحانه: ما دُمْتَ
رضيتَ بقدري في هذا العمل لأرفعنّك به رِفْعة يتعجَّب لها الخَلْق..
وفعلاً تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه: كان شيالاً.. كان أجيراً.. نعم كان..
لكنه رَضِي بما قسم الله وأتقن وأجاد، فعوَّضه الله ورفعه وأعلى مكانته.
ولذلك يقولون: مَنْ عمل بإخلاص في أيّ عمل عشر سنين يُسيّده الله بقية عمره، ومَنْ
عمل بإخلاص عشرين سنة يُسيّد الله أبناءه، ومَنْ عمل ثلاثين سنة سيَّد الله
أحفاده.. لا شيء يضيع عند الله سبحانه.
فليس فينا أَعْلى وأَدْنى، وإياك أنْ تظنَّ أنك أعلى من الناس، نحن سواسية، ولكن
مِنَّا من يُتقِن عمله، ومِنَّا مَنْ لا يتقن عمله؛ ولذلك قالوا: قيمة كل امرئ ما
يُحسِنه.
ولا تنظر إلى زاوية واحدة في الإنسان، ولكن انظر إلى مجموع الزوايا، وسوف تجد أن
الحق سبحانه عادلٌ في تقسيم المواهب على الناس.
وقد ذكرنا أنك لو أجريتَ معادلة بين الناس لوجدتَ مجموع كل إنسان يساوي مجموع
كُلِّ إنسان، بمعنى أنك لو أخذتَ مثلاً: الصحة والمال والأولاد والقوة والشجاعة
وراحة البال والزوجة الصالحة والجاه والمنزلة.. الخ لوجدت نصيب كُلٍّ منّا في
نهاية المعادلة يساوي نصيب الآخر، فأنت تزيد عني في القوة، وأنا أزيد عنك في
العلم، وهكذا.. لأننا جميعاً عبيدٌ لله، ليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب أو
قرابة.
وقوله تعالى:
} فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ... { [النحل: 71].
فما ملكت أيمانهم: هم العبيد المماليك.. والمعنى: أننا لم نَرَ أحداً منكم فضّله
الله بالرزق، فأخذه ووزّعه على عبيده ومماليكه، أبداً.. لم يحدث ذلك منكم.. والله
سبحانه لا يعيب عليهم هذا التصرف، ولا يطلب منهم أنْ يُوزّعوا رزق الله على
عبيدهم، ولكن في الآية إقامةٌ للحجة عليهم، واستدلال على سُوء فعلهم مع الله
سبحانه وتعالى.
وكأن القرآن يقول لهم: إذا كان الله قد فُضَّل بعضكم في الرزق، فهل منكم مَنْ تطوع
برزق الله له، ووزَّعه على عبيده؟.. أبداً.. لم يحدث منكم هذا.. فكيف تأخذون حق
الله في العبودية والألوهية وحقّه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح، وتجعلونه
للأصنام والأوثان؟!
فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون.. فكيف تسمحون لأنفسكم أنْ تأخذوا حقَّ الله،
وتعطوه للأصنام والأوثان؟
ويقول تعالى في آية أخرى:{ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ
مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ..
}[الروم: 28].
أي: أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم، فكيف تفعلونه مع الله؟ فهذه لَقْطة: أنكم
تُعاملون الله بغير ما تُعاملون به أنفسكم:
} فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ... { [النحل: 71].
أي: أنكم سوَّيتُم بين الله سبحانه وبين أصنامكم، وجعلتموهم شركاء له سبحانه
وتعالى وتعبدونهم مع الله.
والحق سبحانه وإنْ رزقنا وفضَّلَنا فقد حفظ لنا المال، وحفظ لنا الملكية، ولم
يأمرنا أن نعطي أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع، فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك
المحتاج فوق ما افترض عليك من زكاة يقول لك:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ.. }[البقرة: 245].
مع أن الحق سبحانه واهب الرزق والنِّعَم، يطلب منك أنْ تُقرِضه، وكأنه سبحانه
يحترم عملك ومجهودك، ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لَك.. فيقول: أقرضني. لعلمه
سبحانه بمكانة المال في النفوس، وحِرْص المقرض على التأكد من إمكانية الأداء عند
المقترض، فجعل القرض له سبحانه لتثقَ أنت أيها المقرض أن الأداء مضمون من الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله:
} أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ { [النحل: 71].
أي: بعد أنْ أنعم الله عليهم بالرزق، ولم يطلب منهم أنْ ينثروه على الغير، جحدوا
هذه النعمة، وأنكروا فَضْل الله، وجعلوا له شركاء من الأصنام والأوثان، وأخذوا
حَقَّ الله في العبودية والألوهية وأعطوْهُ للأصنام والأوثان، وهذا عَيْنُ الجحود
وإنكار الجميل.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ... {.
(/1956)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
الحق سبحانه في الآية السابقة قنَّن لنا قضية القمة ـ قضية العقيدة ـ في أننا لا
نعطي شيئاً جعله الله لنفسه سبحانه من العبودية والألوهية والطاعة وغيرها، لا
نعطيها لغيره سبحانه.. وإذا صَحَّتْ هذه القضية العَقدية صَحَّتْ كل قضايا الكون.
ثم بيَّن سبحانه أنه خلقنا من واحد، ثم خلق من الواحد زوجة له، ليتم التناسل
والتكاثر.. إذ إن استمرارَ بقائكم خاضعٌ لأمرين:
الأمر الأول: استبقاء الحياة، وقد ضمنه سبحانه بما أنعم به علينا من الأرزاق،
فنأكل ونشرب فنستبقي الحياة، فبعد أنْ تحدّث عن استبقاء الحياة بالرزق في الآية
السابقة ذكر:
الأمر الثاني: وهو استبقاء الحياة ببقاء النوع، فقال سبحانه:
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً... } [النحل: 72].
والأزواج: جمع زوج، والزوج لا يعني الرجل فقط، بل يعني الرجل والمرأة؛ لأن كلمة
(زوج) تُطلَق على واحد له نظير من مثله، فكلُّ واحد منهما زَوْج.. الرجل زوج،
والمرأة زوج، فتُطلق إذن ـ على مُفْرد، لكن له نظير من مثل.
و { مِّنْ أَنْفُسِكُمْ } [النحل: 72].
أي: من نَفْس واحدة، كما قال في آية أخرى:{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ
ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا... }[الزمر: 6].
يعني: أخذ قطعة من الزوج، وخلق منها الزوجة، كما خلق سبحانه حواء من آدم ـ عليهما
السلام.
أو:{ وَخَلَقَ مِنْهَا.. }[النساء: 1].
أي: من جنسها، كما قال تعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ..
}[التوبة: 128].
أي: من جنسكم.
فالمسألة تحتمل المعنيين.. مَن اتسع ظنُّه إلى أن الله خلق حواء من ضِلع آدم أي:
منه، من بعضه فلا مانع، ومَنْ قال: خلق الله حواء كما خلق آدم خَلْقاً مستقلاً، ثم
زَاوَج بينهما بالزواج فلا مانع.. فالأول على معنى البَعْضية، والثاني على معنى من
جنسكم.
قلنا: إن الجمع إذا قابل الجمع اقتضت القسمةُ آحاداً.. كما لو قال المعلم
لتلاميذه: أخرجوا كتبكم، فهو يخاطب التلاميذ وهم جمع. وكتبهم جمع، فهل سيُخرِج كل
تلميذ كُتب الآخرين؟!.. لا.. بل كل منهم سيُخرج كتابه هو فقط.. إذن: القسمة هنا
تقتضي آحاداً.. وكذلك المعنى في قوله تعالى:{ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجاً... }[الروم: 21].
أي: خلق لكل منكم زَوْجاً.
ولكي نتأكد من هذه الحقيقة، وأن الخَلْق بدأ بآدم عليه السلام ـ نردُّ الأشياء إلى
الماضي، وسوف نجد أن كُلَّ متكاثر في المستقبل يتناقص في الماضي.. فمثلاً سُكّان
العالم اليوم أكثر من العام الماضي.. وهكذا تتناقص الأعداد كلما أوغلنا في الماضي،
إلى أن نصلَ إلى إنسان واحد هو آدم عليه السلام ـ ومعه زوجه حواء، لأن أقلَّ
التكاثر من اثنين.
إذن: قوله سبحانه:{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا.. }
[النساء: 1].
كلام صحيح يؤيّده الاستقراء والإحصاء.
لذلك يمتنُّ ربّنا سبحانه علينا أنْ خلقَ لنا أزواجاً، ويمتنُّ علينا أن جعل هذا
الزوج من أنفسنا، وليس من جنس آخر، لأن إلْفَ الإنسان وأنْسه لا يتم إلا بجنسه،
وهذه من أعظم نعم الله علينا، ولك أن تتصوَّر الحال إذا جعل الله لنا أزواجاً من
غير جنسنا!! كيف يكون؟!
هذا الزوج اشترك معنا في أشياء، واختلف عنّا في شيء واحد، اتفقنا في أشياء: فالشكل
واحد، والقالب واحد، والعقل واحد، والأجزاء واحدة: عينان وأذنان.. يدان ورجْلان..
الخ، وهذا الاشتراك يُعين على الارتقاء والمودة والأنْس والألْفة.
واختلفنا في شيء واحد هو النوع: فهذا ذكر، وهذه أنثى. إذن: جمعنا جنس، وفرَّقنا
النوع لِيتمّ بذلك التكامل الذي أراده سبحانه لعمارة الأرض.
وهناك احتمال أن يتحوَّل الذكر إلى أنثى أو الأنثى إلى ذكر، لذلك خلق الله
الاحتياط لهذه الظاهرة، كأنْ يكونَ للرجل ثَدْي صغير، أو غيره من الأعضاء القابلة
للتحويل، إذا ما دَعَتْ الحاجة لتغيير النوع.. فهذا تركيب حكيم وقدرة عالية.
إذن:
} مِّنْ أَنْفُسِكُمْ... { [النحل: 72].
ليزداد الإلْف والمحبة والأُنْس والمودّة بينكم؛ ولذلك نجد في قصة سيدنا سليمان
عليه السلام ـ والهدهد، حينما تفقَّد الطير وعرف غياب الهدهد قال:{
لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي
بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ }[النمل: 21].
وهذا سلطان الملْك الذي أعطاه الله لسليمان.. قالوا في:{ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً
شَدِيداً.. }[النمل: 21].
أي: يضعه في غير جنْسه.. إذن: وَضْعه في غير جنسه نوع من العذاب.. وتكون (من
أنفسكم) نعمة ورحمة من الله.
وفي الآية الأخرى يذكر سبحانه عناصر ثلاثة لاستبقاء العلاقة الزوجية، فيقول
تعالى:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً
لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21].
ولو تأملنا هذه المراحل الثلاثة لوجدنا السكن بين الزوجين، حيث يرتاح كُلٌّ منهما
إلى الآخر، ويطمئن له ويسعد به، ويجد لديه حاجته.. فإذا ما اهتزتْ هذه الدرجة
ونفرَ أحدهما من الآخر جاء دور المودّة والمحبة التي تُمسِك بزمام الحياة الزوجية
وتوفر لكليهما قَدْراً كافياً من القبول.
فإذا ما ضعف أحدهما عن القيام بواجبه نحو الآخر جاء دور الرحمة، فيرحم كل منهما
صاحبه.. يرحم ضَعْفه.. يرحم مرضه.. وبذلك تستمر الحياة الزوجية، ولا تكون عُرْضة
للعواصف في رحلة الحياة.
فإذا ما استنفدنا هذه المراحل، فلم يَعُدْ بينهما سَكَن ولا مودّة، ولا حتى يرحم
أحدهما صاحبه فقد استحالتْ بينهما العِشرة، وأصبح من الحكمة مفارقة أحدهما للآخر.
وهنا شرع الحق سبحانه الطلاق ليكون حلاً لمثل هذه الحالات، ومع ذلك جعله ربنا
سبحانه أبغض الحلال، حتى لا نقدم عليه إلا مُضطرِّين مُجْبرين.
وقوله تعالى:
} وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً.
. { [النحل: 72].
البنون هم الحلقة الأولى لاستبقاء الحياة، والحفَدة وهم وَلَدُ الولد، هم الحلقة الثانية
لاستبقاء الحياة؛ ذلك لأن الإنسان بطبْعه يحب الحياة ويكره الموت، وهو يراه كل يوم
يحصد النفوس من حَوْله.. فإيمانه بالموت مسألة محققة، فإذا ما تيقَّن أن الحياة
تفوته في نفسه أراد أنْ يستبقيَها في وَلَده.. ومن هنا جاء حُبُّ الكثيرين مِنَّا،
للذكور الذين يُمثِّلون امتداداً للآباء.
فإذا ما رزقه الله الأبناء، وضمن له الجيل الأول تطلّع إلى أنْ يرى أبناء الأبناء؛
ليستبقي الحياة له ولولده من بعده؛ ولذلك فالشاعر الذي يخاطب ابنه يقول
له:أبُنيّ.. يَا أنَا بَعْدَمَا أَقْضِي وهذه هي نظرة الناس إلى الأولاد، أنهم ذِكْر
لهم بعد موتهم.. وكأن اسمه موصولٌ لا ينتهي.
ويقول الله تبارك وتعالى:
} بَنِينَ وَحَفَدَةً... { [النحل: 72].
تدلُّنا على ضرورة الحرص على اندماج الأجيال.. زوجين، ثم أبناء وحفدة.. فما فائدة
اندماج الأجيال؟ ما فائدة المعاصرة والمخالطة بين الجدِّ وحفيده؟
نلاحظ أن الوليد الصغير يبدأ عنده الإدراك بمجرد أنْ تعملَ وسائل الإدراك عنده،
فيبدأ يلتقط مِمَّنْ حوله ويتعلَّم منهم.. فإذا كان له أخوة اكبر منه تعلّم منهم
مثلاً بابا.. ماما.. فإذا لم يكُنْ له أخوة نُعلّمه نحن هذه الكلمات.
ولذلك نرى الطفل الثاني أذكى من الأول، والثالث أذكى من الثاني.. وهكذا لأنه يأخذ
ممَّنْ قبله وممَّنْ حوله، فيزداد بذلك إدراكه، وتزداد خبراته ومعلوماته.
ولنتصور أن هذا الابن أصبح أباً، وجاء الحفيد الذي يعاصر الجيلين؛ جيل الأب وجيل
الجدِّ، يشبّ الصغير في أحضانهما، فتراه يأخذ من أبيه نشاطه في حركة الحياة
وسَعْيه للرزق.
في حين أنه يأخذ من جَدِّه القيم الدينية حيث الجد في البيت باستمرار بعد أن
تقدَّم به العمر فأقبل على الطاعة والعبادة.. فيسمع منه الصغير قراءة القرآن.. متى
يؤذن للظهر.. يا ولد هات المصحف.. يا ولد هات السجادة لأصلي، إلى غير هذه من
الكلمات التي يأخذ منها الصغير هذه القيم.
إذن: الحفيد يلتقط لوناً من النشاط والحركة في جيل أبيه، ويلتقط لوناً من القيم في
جيل جَدِّه؛ ولذلك فإن ابتعاد الأجيال يُسبِّب نقصاً في تكوين الأطفال، والحق
سبحانه يريد أنْ تلتحمَ الأجيال لتكتمل للطفل عناصر التربية بين القيم المعنوية
والحركة والنشاط.
وقوله تعالى:
} وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ... { [النحل: 72].
الطيبات في الرزق الذي جعله الله لاستبقاء الحياة، وفي الزواج الذي جعله الله
لاستبقاء النوع.
ثم يقول تعالى:
} أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ { [النحل:
72].
الباطل: هو الأصنام التي اتخذوها من دون الله.
وفي الآية استفهام للتعجُّب والإنكار.. كيف تكفرون بنعمة الله وقد خلقكم في
البَدْء من نفس واحدة، وخلق منها زوجها.
. وجعل لكم من أنفسكم أزواجاً.. وجعل بينكم سكناً ومودة ورحمة، ثم جعل لكم البنين
والحفدة، ورزقكم من نِعم الحياة ما يستبقي حياتكم، ومن نِعَم الأزواج ما يستبقي
نوعكم، وجعلكم في نعمة ورفاهية.. خلقكم من عدم، وأمدَّكم من عُدم.
أبعد ذلك كله تجحدون نعمته وتكفرونها، وبدل أنْ تُقبِلوا عليه وتلتفتوا إليه
تنصرفون إلى عبادة الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع.. وهل عملتْ لكم الأصنامُ شيئاً
من ذلك؟! هل أنعمتْ عليكم بنعمة من هذه النعم؟!
هذه الأصنام محتاجة إليكم.. تأخذ منكم ولا تعطيكم.. فهذا مائل يريد مَنْ يقيمه..
وهذا كُسِر يحتاج لمن يُصلحه.. انقل الإله.. ضَع الإله في مكان كذا.. الخ.
ولذلك يقول تعالى في الآية بعدها: } وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ... {.
(/1957)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
والعبادة أن يطيع العابد معبوده، وهذه الطاعة تقتضي تنفيذ الأمر واجتناب النهي..
فهل العبادة تنفيذ الأمر واجتناب النهي فقط؟ نقول: لا بل كل حركة في الحياة تُعين
على عبادة فهي عبادة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولتوضيح هذه القضية نضرب
هذا المثل:
إذا أردتَ أن تُؤدّي فرض الله في الصلاة مثلاً، فأنت تحتاج إلى قوة لتؤدي هذه
الفريضة، ولن تجد هذه القوة إلا بالطعام والشراب، ولنأخذ أبسط ما يمكن تصوّره من
الطعام.. رغيف العيش.. فانظر كم يّدٌ شاركتْ فيه منذ كان حبةَ قمح تلقى في الأرض
إلى أنْ أصبح رغيفاً شهياً.
إن هؤلاء جمعياً الذين أداروا دولاب هذه العملية يُؤدّون حركة إيجابية في الحياة
هي في حَدِّ ذاتها عبادة لأنها أعانتْك على عبادة.
أيضاً إذا أردت أنْ تُصلّي، فواجب عليك أنْ تستر عورتك.. انظر إلى هذا القماش الذي
لا تتم الصلاة إلا به.. كُلّ مَنْ أسهم في زراعته وصناعته حتى وصل إليك.. جميعهم
يؤدون عبادة بحركتهم في صناعة هذا القماش.
إذن: كل شيء يُعينك على عبادة الله فهو عبادة، وكل حركة في الكون تؤدي إلى شيء من
هذا فهي عبادة.
والحق سبحانه وتعالى حينما استدعى المؤمنين لصلاة الجمعة، قال سبحانه:{ ياأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ
إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ... }[الجمعة: 9].
لم يأخذهم من فراغ، بل من عمل، ولكن لماذا قال سبحانه: (وَذَرُوا البَيْعَ)..
لماذا البيع بالذات؟
قالوا: لأن البيع هو غاية كل حركات الحياة، فهو واسطة بين مُنتج ومُسْتهلك.. ولم
يَقُل القرآن: اتركوا المصانع أو الحقول، لأن هناك أشياء لا تأتي ثمرتها في
ساعتها.. فمَنْ يزرع ينتظر شهوراً ليحصد ما زرع، والصانع ينتظر إلى أن يبيعَ
صناعته.. لكن البيع صفقة حاضرة، فهي محلّ الاهتمام.. وكذلك لم يَقُلْ: ذروا
الشراء، قالوا: لأن البائع يحب أن يبيعَ، ولكن المشتري قد يشتري وهو كاره.. فأتى
القرآن بأدقِّ شيء يمكن أن يربطك بالزمن، وهو البيع.
فإذا ما انقضتْ الصلاة أمرنا بالعودة إلى العمل والسعي في مناكب الأرض:{ فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ
اللَّهِ... }[الجمعة: 10].
فقوله تعالى:
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ.. } [النحل: 73].
أراد الحق سبحانه أن يتكلم عن الجهة التي يُؤثِرونها على الله.. وهي الأصنام..
فالله سبحانه الذي خلقهم ورزقهم من الطيبات، وجعل لهم من أنفسهم أزواجاً، وجعل لهم
بنين وحفدة.. كان يجب أن يعبدوه لنعمته وفَضْله.. فالذي لا يعبد الله لذاته سبحانه
يعبده لنعمه وحاجته إليه.. فعندنا عبادة للذات لأنه سبحانه يستحق العبادة لذاته،
وعبادة لصفات الذات في معطياتها، فمَنْ لم يعبده لذاته عبده لنعمته.
وطالما أن العبادة تقتضي تنفيذ الأوامر واجتناب النواهي.. فكيف تكون العبادة إذن في
حق هذه الأصنام التي اتخذوها؟! كيف تعبدونها وهي لم تأمركم بشيء ولم تنهكُمْ عن
شيء؟!.
وهذا أول نَقْد لعبادة غير الله من شمس أو قمر أو صنم أو شجر.
وكذلك.. ماذا تعطي الأصنام ـ أو غيرها من معبوداتكم ـ لمن عبدها، وماذا أعدَّتْ
لهم من ثواب؟! وبماذا تعاقب مَنْ كفر بها؟.. إذن: فهو إله بلا منهج.
والتديّن غريزة في النفس يلجأ إليها الإنسان في وقت ضعفه وحاجته.. والله سبحانه هو
الذي يحب أن نلجأ إليه وندعو ونطلب منه قضاء الحاجات.. وله منهج يقتضي مطلوبات
تدكُّ السيادة والطغيان في النفوس ويقتضي تكليفات شاقة على النفس.
إذن: لجأ الكفار إلى عبادة الأصنام والأوثان لأنها آلهة بلا تكليف، ومعبودات بلا
مطلوبات.
ما أسهل أن يتمحّك إنسان في إله ويقول: أنا أعبده دون أن يأمر بشيء أو ينهى عن
شيء! ما أسهل أن يُرضي في نفسه غريزة التدين بعبادة مثل هذا الإله.
لكن يجب ألاّ تنسوا أن هذا الإله الذي ليس له تكليف لن تستطيعوا أنْ تطلبوا منه
شيئاً، أو تلجأوا إليه في شدة.. فهذا غير معقول فكما أنهم لا يطلبوا منكم شيئاً،
كذلك لا يملكون لكم نَفْعاً ولا ضراً.
لذلك وجدنا الذين يدَّعُون النبوة.. هؤلاء الكذابون يُيسِّرون على الناس سُبُل
العبادة، ويُبيحون لهم ما حرَّمه الدين مثل اختلاط الرجال والنساء وغيره؛ ذلك
لاستقطاب اكبر عدد ممكن من الأتباع.
فجاء مسيلمة الكذاب وأراد أن يُسهِّل على الناس التكليف فقال بإسقاط الصلاة، وجاء
الآخر فقال بإسقاط الزكاة.. وقد جذب هذا التسهيل كثيراً من المغفلين الذين
يَضِيقون بالتكليف، ويميلون لدين سَهْل يناسب هِمَمهم الدَّنية.
وهكذا وجدنا لهؤلاء الكذابين أنصاراً يُؤيّدونهم ويُناصرونهم.. ولكن سرعان ما
تتكشف الحقائق، ويقف هؤلاء المخدوعون على حقيقة أنبيائهم.
وقوله تعالى:
} وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً.. { [النحل:
73].
نلاحظ في هذه الآية نَوْعاً من الارتقاء في الاستدلال على بطلان عبادة الأصنام؛
ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عنهم في آية أخرى:{ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ }[النحل: 20].
فنفى عنهم القدرة على الخَلْق، بل إنهم هم المخلوقون.. يذهب الواحد منهم فيُعجبه
حجر، فيأخذه ويُعمل فيه مِعْوله حتى يُصوِّره على صورة ما، ثم يتخذه إلهاً يعبده
من دون الله.
فلما نفى عنهم القدرة على الخَلْق أراد هنا أنْ يترقّى في الاستدلال، فنفى عنهم
مجرد أنْ يملكوا، فقد يملك الواحد ما لا يخلقه، فتُقرّر الآية هنا أنهم لا
يملكون.. مجرد الملك.
وقوله تعالى:
} مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً.
. { [النحل: 73].
فالرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات، ومن المصدرين يأتي رزق الله، وبذلك
يضمن لنا الحق تبارك وتعالى مُقوِّمات الحياة وضرورياتها من ماء السماء ونبات الأرض.
فإنْ أردتُمْ ترفَ الحياة فاجتهدوا فيما أعطاكم الله من مُقوِّمات الحياة لِتصلوا
إلى هذا الترف.
فالرزق الحقيقي المباشر ما أنزله الله لنا من مطر السماء فأنبت لنا نبات الأرض.
ونُوضِّح ذلك فنقول: هَبْ أن عندك جبلاً من ذهب، أو جبلاً من فضة، وقد عضَّك الجوع
في يوم من الأيام.. هل تستطيع أنْ تأكلَ من الذهب أو الفضة؟
إنك الآن في حاجة لرغيف عيش، لا لجبل من ذهب أو فضة.. رغيف العيش الذي يحفظ لك
حياتك في هذا الموقف افضل من هذا كله.
وهذا هو الرزق المباشر الذي رزقه الله لعباده، أما المال فهو رِزْق غير مباشر، لا
تستطيع أن تأكل منه أو تعيش عليه.
وكلمة: (شَيْئَاً) أي: أقلّ ما يُقَال له شيء، فالأصنام والأوثان لا تملك لهم
رزقاً مهما قَلَّ؛ لأنه قد يقول قائل: لا يملكون رِزْقاً يكفيهم.. لا.. بل لا
يملكون شيئاً.
ثم يعطينا الحق سبحانه لمحة أخرى في قوله تعالى:
} وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ { [النحل: 73].
أي: لا يملكون لهم رِزْقاً في الحاضر، ولن يملكوا في المستقبل، وهذا يقطع الأمل
عندهم، فهُمْ لا يملكون اليوم، ولن يملكوا غداً؛ ذلك لأن هناك أشياء ينقطع الحكم
فيها وَقْتاً.. وأشياء مُعلّقة يمكن أن تُسْتأنفَ فيما بعد، فهذه الكلمة:
} وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ { [النحل: 73].
حُكْم قاطع لا استئناف له فيما بَعْد.
ولذلك؛ نجد هؤلاء الذين يُحِبّون أنْ يجدوا في القرآن مَأْخذاً يجادلون في قوله
تعالى:{ قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ
أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ
أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون: 1-5].
فهؤلاء يروْن في السورة تكراراً يتنافى وبلاغةَ القرآن الكريم.. نقول: ليس في
السورة تكرار لو تأملتُم.. ففي السورة قَطْع علاقات على سبيل التأبيد والاستمرار،
فالحق سبحانه يقول:{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }[الكافرون: 6].
في الحاضر، وفي المستقبل، وإلى يوم القيامة.
فقوله:{ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ
}[الكافرون: 2-3].
وهذا قَطْع علاقات في الوقت الحاضر.. ولكن مَنْ يُدرِينا لعلَّنا نستأنف علاقات
أخرى فيما بعد.. فجاء قوله تعالى:{ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ
أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ }[الكافرون: 4-5].
لا للتكرار، ولكن لقطع الأمل في إعادة العلاقات في المستقبل، فالقضية ـ إذن ـ
منتهية من الآن على سبيل القَطْع.
كذلك المعنى في قوله تعالى:
} وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ... { [النحل: 73].
أي: لا يستطيعون الآن، ولا في المستقبل.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ... {.
(/1958)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
الأمثال: جمع مِثْل، وهو النِّد والنظير.
وفي الآية نَهْي عن أن نُشبِّه الله سبحانه بشيء آخر؛ لأن الحق تبارك وتعالى واحدٌ
في ذاته، واحد في صفاته، واحد في أفعاله.. إياك أن تقول عن ذات: إنها تشبه ذاته
سبحانه، أو صفات تشبه صفاته سبحانه، فإنْ وجدت صفة لله تعالى يُوجد مثلها في البشر
فاعلم أنها على مقياس.{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى: 11].
فالحق سبحانه ينهانا أنْ نضرب له الأمثال، إنما هو سبحانه يضرب الأمثال؛ لأنه حكيم
يضرب المثَل في محلّه لِيُوضّح القضية الغامضة بالقضية المشاهدة؛ ولذلك يقول
تعالى:{ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىا.. }[النحل: 60].
أي: الصفة العليا في كل شيء، فإذا وجدتَ صفات مشتركة بينكم وبين الحق سبحانه
فنزِّه الله عن الشبيه والنظير والنِّد والمثيل وقل: (ليس كمثله شيء).
فأنت موجود والله موجود، ولكن وجودك مسبوقٌ بعدم ويلحقه العدم، ووجوده سبحانه لا
يسبقه عدم ولا يلحقه العدم.
وقد ضرب الله لنا مثلاً لنفسه سبحانه لِيُوضِّح لنا تنويره سبحانه للكون، وليس
مثَلاً لنوره كما نظنّ.. بل هو مثَل لتنويره لا لنوره.
يقول تعالى في سورة النور:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ
نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ
كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ
شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ
نَارٌ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ
اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }[النور: 35].
نور السماوات والأرض؛ لأنه بالنور تكون الهداية حِسّية أو معنوية.. فالنور
الحسِّيُّ مثل نور الشمس والقمر وغيرهما من مصادر الضوء.. هذا النور الحسي هو الذي
يُبيّن لنا الأشياء لتسير في الكون على بصيرة وهدى.. فلو حاولتَ السَّيْر ليلاً
دون ضَوْء يهديك فسوف تصطدم بالأشياء من حولك: إما أقوى منك يُحطّمك ويُؤذيك، وإما
تكون أنت أقوى منه فتُحطِّمه أنت.. فالذي يهدي خُطَاك هو النور الحسيُّ.
وقد يكون النور معنوياً، وهو نور القيَم والأخلاق، وهذا النور يجعلك أيضاً تسير في
الحياة على بصيرة وهُدًى، ويحميك من التخبّط في مجاهل الأفكار والنظريات، هذا هو
النور القِيَمي الذي أنزله الله لنا في كتابه الكريم، وقال عنه:{ قَدْ جَآءَكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ *
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىا صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ }[المائدة: 15-16].
فهو نور لكن معنوي.. بالقيم والأخلاق والفضائل.. ولا تقُلْ في هذا المثل: إنه
مَثَلٌ لنور الله.. بل مَثَلٌ لسلطان تنويره للكون، ولو تأمَّلنا بقية الآية
لأدركنا ذلك.
{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ... }[النور: 35].
البعض يقولون: المشكاة هي المصباح.. لا.. المشكاة هي الكُوّة أو الطاقة المسدودة
في الجدار يعرفها أهل الريف في بِنَاياتهم القديمة، وهي تجويف غير نافذ في الجدار
يُوضَع فيه المصباح.{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ }[النور: 35].
أي: ليس مصباحاً عادياً بل في زجاجة، وهي تحمي ضَوْء المصباح أنْ يبعثره الهواء من
كل ناحية، وفي نفس الوقت تسمح له بالقدر الكافي من الهواء لاستمرار الاشتعال،
وبذلك يكون الضوء ثابتاً صافياً لا يصدر عنه دُخان يُعكِّر صَفْو الزجاجة.
وأهل الريف يعرفون شعلة الجاز التي ليس لها زجاجة، وما يصدر عنها من دُخان أسود
ضارّ.. إذن: المصباح هنا في غاية الصفاء والقوة؛ لأن الزجاجة أيضاً ليستْ زجاجة
عادية، بل زجاجة كأنها كوكب دُريٌّ، وكَوْنها كالكوكب الدريّ يعني أنها تُضِيء
بنفسها.{ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ
مُّبَارَكَةٍ... }[النور: 35].
هذا المصباح يُوقد بزيت ليس عادياً، بل هو زيت من زيتونه.. شجرة زيتون معتدلة
المناخ.{ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ... }[النور: 35].
هذا الزيت وصل من الصفاء والنقاء أنه يُضيء، ولو لم تمسسه نار؛ ولذلك أعطانا منتهى
القوة:{ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.. }[النور: 35].
ولذلك قال تعالى في وصف هذا المصباح:{ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ.. }[النور: 35].
وبعد أنْ وقفتَ على أوصاف هذا المصباح، وأنه يُوضَع في كُوَّة صغيرة، بالله عليك
هل يمكن وجود نقطة مظلمة في هذه الكُوّة؟
إذن: فهذا مَثَلٌ ليس لنوره سبحانه.. فنُوره لا يُدرَكُ، وإنما هو مثَلٌ لتنويره
للكون، الذي هو كالكُوّة والطاقة في هذا المثل.. فمعنى قوله تعالى:{ اللَّهُ نُورُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. }[النور: 35].
أي: مُنِّورهما، فكما أنه لا يُعقل وجود نقطة مظلمة في هذه الكُوّة، فكذلك نوره
سبحانه وتنويره للكون.. وهذا هو النور الحسيّ الذي أمدَّ الله به الكون.
ثم تحدَّث القرآن بعد ذلك عن النور المعنوي الذي يُنزِل على عباد الله الصالحين
تجليّاتٍ نورانية، وفيُوضاتٍ ربانية نتلقّاها في بيوت الله:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا
بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ... }[النور: 36-37].
وهكذا نجمع بين النور الحسيّ والنور المعنوي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك، فأبو تمام حينما أراد أن يمدح الخليفة شبَّهه بمشاهير العرب في الشجاعة
والكرم والحِلْم والذكاء، فقال:إقْدام عَمْـروٍ في سَمَاحَةِ حَاتِم فِي حِلْم
أَحْنَفَ في ذَكَاءِ إِيَاسِفاعترض على هذا التشبيه أحد حُسَّاد أبي تمام، وقال
له: كيف تُشبّه الخليفة بأجلاف العرب؟ ففي جيشه ألف واحد كعمرو، ومن خَزَنته ألف
واحد كحاتم.. ولكن يخرج أبو تمام من هذا المأزق، ويُفلِت من هذا الفخ الذي نصبه له
حاسده، قال على البديهة:لاَ تُنكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلاً شَرُوداً
في النَّدى والبَاسِفَاللهُ قَدْ ضربَ الأقَـلَّ لِنُورِه مثَلاً مِـنَ
المشْـكَاةِ وَالنِّـبْراسِوالحق سبحانه وتعالى وإنْ نهانا نحن أن نضربَ له مثلاً
لِقلَّة عِلْمنا، فهو سبحانه القادر على ضَرْب الأمثال حتى بأقلّ المخلوقات،
وأتفهها في نظرنا.
. فيقول تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً
فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26].
فلا تستقلّ أمر هذه البعوضة، ولا تستحقر أنْ يجعلها الله مثَلاً؛ لأنه سبحانه لا
يستحي أن يضرب بها المثل؛ لأن في هذه البعوضة كل أجهزة تكوين الحياة التي فيك، وفي
أضخم الحيوانات مثل الفيل والجمل؛ ولأن هذه البعوضة التي تستحقرها قد تكون أقوى
منك، وقد تُعجِزك أنت على قوتك وحيلتك وجبروتك.
يقول تعالى:{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73].
بالله عليك، هل تستطيع على قوتك وإمكاناتك أنْ تستردَ من الذبابة ما أخذتْه من
طعامك؟ هل تقدر على هذه العملية؟
إذن: حينما يضرب الله لك مَثَلاً يجب أن تحترم ضَرْب الله للمثل، وأنْ تبحثَ فيما
وراء المثل من الحكمة.. وأنه سبحانه جاء بهذا المثَل لهذا المخلوق الحقير في نظرك
لِيُوضِّح لك قضية غامضة يُنبِّهك إليها.
ولأهمية ضَرْب المثَل في توضيح الغامض يلجأ إليه الشعراء ليُقرِّبوا المعنى من
الأفهام، فقد يقف الشاعر أمام قضية معقدة لا يدركها إلا العقلاء، ويريد الشاعر
الوصول بها إلى أفهام العامة.. مثل قضية الحاسد الذي يُظهر بحسده مزايا محسوده
ومكارمه، فقد يتهم البريء بتهمة ظلماً، فتكون سبباً في رِفْعته بين قومه.
أخذ الشاعر العربي هذا المعنى، وصاغه شعراً، وضرب له مثلاً توضيحياً، فقال:وَإِذَا
أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيلةٍ طُويَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِلَوْلاَ
اشْتِعالُ النَّارِ فِيمَا جَاورَتْ مَا كانَ يُعرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِفانظر
كيف وصل بالقضية المعنوية إلى قضية عامة يعرفها الرجل العادي، فقد يكون لديك فضيلة
مكتومة مغمورة لا يعرفها أحد، حتى تتعرض لحاسد يتهمك ويُشوِّه صورتك، فإذا
بالحقيقة تتكشف للجميع ويُظهر ما عندك من مواهب، وما لديك من فضائل.. وما أشبه ذلك
بالعود طيب الرائحة الذي لا نشمُّ رائحته إلا إذا حرقناه.
وقد كان سبب هذا المثَل الشِّعريّ أن أحد أهل الخير كان يتردد من حين لآخر على أحد
بُيوت البلدة وبها عجوز مُقْعدة في حاجة إلى مساعدة، فكان يساعدها بما يستطيع،
وكان بجوارها منزل إحدى الجميلات التي قد تكون مطمعاً.. فاستغل أحد الحُسَّاد هذه
الجيرة، واتهم الرجل الصالح بأنه يذهب إلى هذه الحسناء.. وفعلاً تتبعه الناس، فإذا
به يذهب لبيت العجوز المقعدة.. ومن هنا عرف الناس عنه فضيلةً لم يكن يعرفها أحد.
وقد رأينا على مَرَّ التاريخ مَنِ اتهِمُوا ظلماً، وقيل في حقهم ما يندي له
الجبين.. ثم أنصفهم القضاء العادل، وأظهر أنهم أبطال يستحقون التكريم، ولولا ما
تعرضوا له من اتهام ما عرفنا مزاياهم ومكارمهم.
وقوله تعالى:
} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ { [النحل: 74].
وهذه عِلّة النهي عن ضَرْب الأمثال لأننا لا نعلم، أما الحق سبحانه وتعالى فيضرب
لنا الأمثال؛ لأنه سبحانه يعلم، ويأتي بالمثَل في محلّه.
وبعد أنْ هيّأنا ربنا سبحانه لتلقِّي الأمثال، وأعدَّ أذهاننا لاستقبال الأمثال
منه سبحانه.. أتى بهذا المثل.
فيقول الحق سبحانه: } ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً... {.
(/1959)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثلاً له طرفان:
الطرف الأول: عبد: أي مَوْلى، وصفه بأنه مملوك التصرّف، وأنه لا يقدر على شيء من
العمل؛ ذلك لأن العبد قد يكون عَبْداً ولكنه يعمل، كمَنْ تسمح له بالعمل في
التجارة مثلاً وهو عبد، وهناك العبد المكاتب الذي يتفق مع سيده على مال يُؤدّيه
إليه لينال حريته، فيتركه سيده يعمل بحريته حتى يجمعَ المال المتفق عليه.. فهذا
عَبْد، ومملوك، ولا يقدر على شيء من السَّعْي والعمل.
والطرف الثاني: سيد حُرٌّ، رزقه الله وأعطاه رِزْقاً حَسناً أي: حلالاً طيّباً..
ثم وفّقه الله للإنفاق منه بشتى أنواع الإنفاق: سِراً وجَهْراً.. وهذه منزلة
عالية: رِزْق من الله وصفه بأنه حلال طَيب لا شُبْهة فيه، بعد ذلك وفّقه الله
للإنفاق منه.. كُلٌّ حَسْب ما يناسبه، فمن الإنفاق ما يناسبه السِّرّ، ومنه ما
يُناسبه الجَهْر:{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }[البقرة: 271].
هذان هما طَرَفا المثَل المضروب لَنَا.. ويترك لنا السياق القرآني الحكْم بينهما..
وكأن الحق سبحانه يقول: أنا أرتضي حكمكم أنتم: هل يستوون؟
والحق سبحانه لا يترك لنا الجواب، إلا إذا كان الجواب سيأتي على وَفْق ما يريد..
ولا جوابَ يُعقل لهذا السؤال إلا أن نقولَ: لا يستوون.. وكأن الحق سبحانه جعلنا
ننطق نحن بهذا الحكم.
وقد ضرب الله هذا المثل لعبدة الأصنام، الذين أكلوا رزق الله وعبدوا غيره، فمثَّل
الحق سبحانه الأصنامَ بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء.
وضرب المثل الآخر للسيد الذي رزقه الله رزقاً حسناً، فهو ينفق منه سِرّاً
وجَهْراً، ألم تَرَ إلى قوله تعالى في آية أخرى:{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ
ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً... }[لقمان: 20].
ليُبين لهم خطأهم في الانصراف عن عبادة الله مع ما أعطاهم من رزق إلى عبادة
الأصنام التي لا تعطيهم شيئاً.
ومن هنا تتضح الحكمة في أن الله تعالى ترك الحكم بنفسه في هذا المثَل، وأتى به على
صورة سؤال ليأخذ الحكم من أفواههم ويشهدوا هم على أنفسهم؛ ليقطع عليهم سبيل
الإنكار والجدال. ولنا هنا وَقْفة مع قوله تعالى:
{ هَلْ يَسْتَوُونَ... } [النحل: 75].
فالحديث عن مُثّنى، وكان القياس أن يقول: هل يستويان، فلماذا عدل عن المثنى إلى
الجمع؟
نقول: لأن المثل وإنْ ضُرِب بمفرد مقابل مفرد إلا أنه ينطبق على عديدين.. مفرد
شائع في عديد مملوكين، وفي عديد من السادة أصحاب الرزق الحسن، ذلك لِيُعمّم ضَرْب
المثل.
إذن: ليس في اختلاف الضمير هنا ما يتعارض وبلاغة القرآن الكريم، بل هي دِقّة أداء؛
لأن المتكلّم هو الحق سبحانه وتعالى.
وكذلك في قوله تعالى:
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ
بَيْنَهُمَا.. }[الحجرات: 9].
بعضهم يرى في الآية مَأخذاً، حيث تتحدث عن المثنى، ثم بضمير الجمع في
(اقْتَتَلُوا)، ثم تعود للمثنى في (بَيْنَهُمَا).
نقول لهؤلاء: لو تدبرتُم المعنى لَعرفتم أن ما تتخذونه مأخذاً، وتعتبرونه اختلافاً
في الأسلوب هو منتهى الدقة في التعبير القرآني.. ذلك أن الحديث عن طائفتين:
مُثنّى.. نعم.. فلو تقاتلا، هل ستمسك كل طائفة سَيْفاً لتقاتل الأخرى؟
لا.. بل سيُمسِك كُلُّ جندي منها سَيْفاً.. فالقتال هناك بالمجموع.. مجموع كل
طائفة لمجموع الطائفة الأخرى، فناسب أن يقول: اقتتلوا؛ لأن القتال حركة ذاتية من
كُلّ فرد في الطائفتين.
فإذا ما جاء وقت الصُلّح، هل نصالح كل جندي من هذه على كل جندي من هذه؟ لا.. بل
الصُّلْح شأْنُ السادة والزعماء والقادة لكل طائفة، ففي الصُّلْح نعود للمثنى، حيث
ينوب هؤلاء عن طائفة، وهؤلاء عن طائفة، ويتم الصُّلْح بينهما.
إذن: اختلاف الضمير هنا آية من آيات الإعجاز البياني؛ لأن المتكلم هو الحق سبحانه
وتعالى.
وقوله: } الْحَمْدُ لِلَّهِ... { [النحل: 75].
كأن الحق سبحانه يقول: الحمد لله أنْ وافقَ حُكْمكم ما أريد، فقد نطقتُم أنتم
وحكمتُمْ.
} بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { [النحل: 75].
قوله: أكثرهم لا يعلمون يدل على أن الأقلية تعلم، وهذا ما يُسمُّونه " صيانة
الاحتمال "؛ لأنه لما نزلَ القرآن الكريم كان هناك جماعة من الكفار ومن أهل
الكتاب يُفكّرون في الإيمان واعتناق هذا الدين، فلو نفى القرآن العلم عن الجميع
فسوف يُصدَم هؤلاء، وربما صرفهم عَمّا يُفكِّرون فيه من أمر الإيمان، فالقرآن يصون
الاحتمال في أن أُنَاساً منهم عندهم عِلْم، ويرغبون في الإيمان.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً... {.
(/1960)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
وهذا مَثَلٌ آخر لرجلين أحدهما أبكم، والأبكم هو الذي لا يتكلم.. ولا بُدّ أن يسبق
البكم صَمَمٌ؛ لأن الكلام وليد السَّمْع، فإذا أخذنا طفلاً عربياً وربَّيناه في
بيئة إنجليزية نجده يتكلم الإنجليزية، والعكس صحيح؛ ذلك لأن الكلام ليس جنساً أو
دماً أو لحماً، بل هو وليد البيئة، وما تسمعه الأذن ينطق به اللسان.. فإذا لم يسمع
شيئاً فكيف يتكلم؟
لذلك، فربنا سبحانه تعالى يقول عن الكفار:{ صُمٌّ بُكْمٌ.. }[البقرة: 18].
هذا الأبكم لا يقدر على شيء من العمل والنفع لك، يقول تعالى: { وَهُوَ كَلٌّ
عَلَىا مَوْلاهُ.. } [النحل: 76].
أي: عَالَة على سيده، لا ينفع حتى نفسه، ومع ذلك قد يكون عنده حكمة يقضي بها شيئاً
لسيده، حتى هذه ليست عنده.
{ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ.. } [النحل: 76].
إذن: لا خيرَ فيه، ولا منفعةَ ألبتة، لا له ولا لغيره، هذه صفات الرجل الأول.
فماذا عن مقابله؟
{ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ... } [النحل: 76].
وهذه أول صفات الرجل الآخر، أنه يأمر بالعدل، وصفة الأمر بالعدل تقتضي أنه سمح
منهجاً، ووعتْهُ أذنه، وانطلق به لسانه آمراً بالعدل، وهذه الصفة تقابل: الأبكم
الذي لا يقدر على شيء.
{ وَهُوَ عَلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل: 76].
أي: أنه يذهب إلى الهدف مباشرة، ومن أقصر الطرق، وهذه تقابل: أينما يوجهه لا
يَأْتِ بخير.
والسؤال هنا أيضاً: هل يستويان؟ والإجابة التي يقول بها العقل: لا.
وهذا مثَلٌ آخر للأصنام.. فهي لا تسمع، ولا تتكلم، ولا تُفصح، وهي لا تقدر على شيء
لا لَها ولا لعابديها.. بل هي عَالَة عليهم، فهم الذين يأتون بها من حجارة الجبال،
وينحتونها وينصبونها، ويُصلِحون كَسْرها، وهكذا هم الذين يخدمونها ولا ينتفعون
منها بشيء.
فإذا كنتم لا تُسوُّون بين الرجل الأول والرجل الآخر الذي يأمر بالعدل وهو على
صراط مستقيم، فكيف تسوون بين إله له صفة الكمال المطلق، وأصنام لا تملك لكم نفعاً
ولا ضراً؟!
أو نقول: إن هذا مثَلٌ للمؤمن والكافر، بدليل أن الحق سبحانه في المثل السابق
قال:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً... }[النحل: 75].
وفي مقابله قال:{ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً... }[النحل: 75].
ولم يقُلْ عبد أو رجل.
إنما هنا قال: { رَّجُلَيْنِ... } [النحل: 76].
فيمكن أن نفهم منه أنه مَثَلٌ للرجل الكافر الذي يمثله الأبكم، وللرجل المؤمن الذي
يمثله مَنْ يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم.
والحق سبحانه يقول: { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }.
(/1961)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
أراد الحق سبحانه أنْ يُعلمنا منه عالم المُلْك، ومنه عالم الملكوت.. عالم المُلْك
هو العالم المحسّ لنا، وعالم الملكوت المخفي عنَّا فلا نراه.
ولذلك، فربنا سبحانه وتعالى لما تكرّم على سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال:{
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ
مِنَ الْمُوقِنِينَ }[الأنعام: 75].
إذن: لله تعالى في كونه ظاهر وغَيْب.. الظاهر له نواميس كونية يراها كل الناس، وله
أشياء غيبيّة لا يراها أحد، ولا يطّلع عليها.. حتى في ذاتك أنت أشياء غَيْب لا
يعلمها أحد من الناس، وكذلك عند الناس أشياء غَيْب لا تعرفها أنت.. وهذا الغيب
نُسميّه: غَيْب الإنسان.
إذن: فأنا غائب عنّي أشياء، وغيري غائب عنه أشياء.. هذا الغيب الذي لا نعرفه
يَعُدّه بعض الناس نَقْصاً فينا، وهو في الحقيقة نوع من الكمال في النفس البشرية؛
لأنك إنْ أردتَ أنْ تعلمَ غيْبَ الناس فاسمح لهم أنْ يعلموا غَيْبك.
ولو خُيّرت في هذه القضية لاخترتَ أنْ يحتفظ كلٌّ منكم بغَيْبه لا يطلع عليه أحد..
لا أعرف غَيْب الناس، ولا يعرفون غَيْبي؛ ولذلك يقولون: " المغطى مليح
".
فسَتْر الغيب كمال في الكون؛ لأنه يُربِّي ويُثري الفائدة فيه.. كيف؟
هَبْ أنك تعرف رجلاً مستقيماً كثير الحسنات، ثم اطلعتَ على سيئة واحدة عنده كانت
مستورة، فسو فترى هذه السيئة كفيلة بأن تُزهِّدك في كل حسناته وتُكرِّهك فيه،
وتدعوك إلى النُّفْرة منه، فلا تستفيد منه بشيء، في حين لو سُترتْ عنك هذه السيئةُ
لاستطعت الانتفاع بحسناته.. وهكذا يُنمي الغيبُ الفائدةَ في الكون.
وفي بعض الآثار الواردة يقول الحق سبحانه: " يا ابْنَ آدمَ سترْتُ عنك
وسترْتُ مِنك، فإنْ شئتَ فضحْنَا لك وفضحناك، وإنْ شئت أسبلنَا عليك سِبالَ
السِّتر إلى يوم القيامة " فاجعل نفسك الآن المخاطب بهذا الحديث، فماذا
تختار؟
أعتقد أن الجميع سيختار الستْر.. فما دُمْتَ تحب الستر وتكره أنْ يطلعَ الناس على
غَيْبك فإياك أنْ تتطاول لتعرفَ غَيْب الآخرين.
والغيب: هو ما غاب عن المدركات المحسَّة من السمع والبصر والشَّمِّ والذَّوْق، وما
غاب عن العقول من الإدراكات المعنوية.
وهناك غيْب وضع الله في كونه مقدمات تُوصِّل إليه وأسباباً لئلا يكونَ غَيْباً..
كالكهرباء والجاذبية وغيرها.. كانت غَيْباً قبل أنْ تُكتشفَ.. وهكذا كل الاكتشافات
والأسرار التي يكشفها لنا العلم، كانت غَيْباً عنّا في وقت، ثم صارت مُشَاهدة في
وقت آخر.
ذلك، لأن الحق سبحانه لا ينثر لنا كُلَّ أسرار كَوْنه مرة واحدة، بل يُنزِله
بقَدرٍ ويكشفه لنا بحساب، فيقول سبحانه:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا
خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }
[الحجر: 21].
فالذي كان غَيْباً في الماضي أصبح ظاهراً مُشَاهداً اليوم؛ لأن الله سبحانه كشف
لنا أسبابه فتوصَّلْنا إليه.. فهذا غَيْب جعل الله له مُقدَّمات يصل إليها مَنْ
يبحث في الكون، فإذا ما أذن الله به، وحان وقت ميلاده وَفَّق الله أحد الباحثين
إلى اكتشافه، إما عن طريق البحث، أو حتى الخطأ في المحاولة، أو عن طريق المصادفة.
ولذلك إذا بحثتَ في كل المخترعات والمكتشفات لوجدت 90% منها جاءت مصادفة، لم
يكونوا بصدد البحث عنها أو التوصل إليها، وهذا ما نسميه " غيب الأكوان
".
ومثال هذا الغيب: إذا كلفتَ ولدك بِحلِّ تمرين هندسيٍّ.. ومعنى حَلِّ التمرين أنْ
يصلَ الولدُ إلى نقطة تريد أنت أنْ يصلَ إليها.. ماذا يفعل الولد؟ يأخذ ما تعطيه
من مُعْطيات، ثم يستخدم ما لديْه من نظريات، وما يملكه من ذكاء ويستخرج منها
المطلوب.
فالولد هنا لم يَأْتِ بجديد، بل استخدم المعطيات، وهكذا الأشياء الموجودة في الكون
هي المعطيات مَنْ بحثَ فيها توصَّل إلى غيبيَّات الكون وأسراره.
وهذا النوع من الغيب يقول عنه الحق سبحانه:{ اللَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }[البقرة:
255].
فإذا أذنَ الله لهم تكشفتْ لهم الأسرار: إما بالبحث، وإما بالخطأ، أو حتى
بالمصادفة.. فطالما حان وقت ميلاد هذا الغيْب واكتشافه؛ فإن صادف بَحْثاً من البشر
التقيا، وإلاَّ أظهره الله لنَا دون بَحْث ودون سَعْي مِنَّا.
وهناك نوع آخر من الغيب، وهو الغَيْب المطلق، وهو غَيْب عن كل البشر استأثر الله
به، وليس له مُقدِّمات وأسباب تُوصَّل إليه، كما في النوع الأول.. هذا الغَيْب،
قال تعالى في شأنه:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً *
إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ... }[الجن: 26-27].
فإذا ما أعلمنا الرسول غَيْباً من الغيبيات فلا نقول: إنه يعلم الغيب.. لأنه لا
يعلم إلا ما أعلمه الله من الغيب.. إذن: هذا غَيْب لا يدركه أحد بذاته أبداً.
ومن هذا الغَيْب المطلق غَيْبٌ استأثر الله به، ولا يُطلع عليه أحداً حتى الرسل..
" ولما سُئِل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، قال: " ما المسئول
عنها بأعلم من السائل ".
وفي الإسراء والمعراج يحدثنا صلى الله عليه وسلم أن الله قد أعطاه ثلاثة أوعية:
وعاء أمره بتبليغه وهو وعاء الرسالة، ووعاء خَيَّره فيه فلا يعطيه إلا لأهل
الاستعداد السلوكي الذين يتقبلون أسرار الله ولا تنكرها عقولهم، ووعاء منعه فهو
خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول راوي الحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني وعاءين، أما
أحدهما فقد بثثْتُه أي رويْته وقُلْته للناس، وأما الآخر فلو بُحْت به لَقُطِع
حلقومي هذا، فهذا من الأسرار التي يختار الرسول صلى الله عليه وسلم لها مَنْ
يحفظها.
قوله تعالى:
} وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. { [النحل: 77].
هذا يُسمُّونه أسلوب قَصْر بتقديم الجار والمجرور، أي قصر غيب السماوات والأرض
عليه سبحانه، فلو قلنا مثلاً: غيب السماوات والأرض لله، فيحتمل أن يقول قائل:
ولغير الله، أما:
} وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. { [النحل: 77].
أي: له وحده لا شريك له.
ومعنى السماوات والأرض، أي: وما بينهما وما وراءهما، ولكن المشهور من مخلوقات
الله: السماء، والأرض.
ثم يقول تعالى:
} وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ... {
[النحل: 77].
جاءت الآية بهذا الغَيْب الوحيد؛ لأنه الغيب الذي استأثر الله به.. ولا يُجلّيها
لوقتها إلا هو.. فناسب الحديث عن الغيب أنْ يأتيَ بهذا الغَيْب المطلق الذي لا
يعلمه إلا الله.
وما هو لَمْح البصر؟
عندنا أفعال متعددة تدلّ كلّها على الرؤية العامة، وإنْ كان لكل منها معنًى خاصٌّ
بها نقول: رأى ونظر ورَمق ولحظ ولمح.. فرأى مثلاً أي بجُمع عينه، ورمق بأعلى،
ولحظَ بجانب، فكلُّها مرتبطة بحركة الحدقة، هذه الحركة ما نسميه باللمح.
إذن: لمح البصر هو تحرُّك حَدقة العين إلى ناحية الشيء المرئي.. فإنْ أردتَ أن ترى
ما فوقك تحركتْ الحدقة إلى أعلى، وإنْ أردتَ أن ترى ما هو أسفل تحركتْ الحدقة إلى
أسفل وهكذا.
هذه الحركة هي لَمْح البصر، انتقال الحدقة من وضع إلى وضع.
إذن: شبَّه الحق تبارك وتعالى أمر الساعة عنده سبحانه بلمح البصر، ولكن اللمح حدث،
والأحداث تحتاج إلى أزمان، وقد تطول الأزمان في ذاتها ولكنها تقصر عند الرائي.
وقد قرَّب إلينا العلم الحديث هذه القضية بما توصَّل إليه من إعادة المشاهد
المصوَّرة على البطيء ليعطيك فرصة متابعتها بدقة، فنراهم مثلاً يُعيدون لك
مَشْهداً كروياً لترى كل تفاصيله، فتجد المشهد الذي مَرّ كلمح البصر يُعرَض أمامك
بطيئاً في زمن أطول، في حين أن الزمن في السرعة يتجمع تجمّعاً لا تدركه أنت بأيّ
معيار، لا بالدقيقة ولا بالثانية.
إذن: فهي جزئيات حركة في جزئيات زمان، فلَمْح البصر الذي هو تحرُّك حَدقة العين
تحتاج لوقت ولزمن متداخل، وليس هكذا أمْر الساعة، بل هذا أقرب ما يعرفه الإنسان،
وأقرب تشبيه لِفَهْم أمْر الساعة بالنسبة له سبحانه.
إذا قيل لك: ما أمر فلان؟ وما شأنه؟. تأخذ في سَرْد الأحداث.. حدث كيت وكيت.. فإذا
قلنا: ما أمْر الساعة؟ ما شأنها ساعةَ تقوم، حيث يموت الأحياء أولاً، ثم يحيا
الجميع من لَدُنْ آدم عليه السلام ثم حَشْر وحساب وثواب وعقاب.
أحداث كثيرة وعظيمة لخلْق متعددين من الإنس والجن.. يحدث هذا كله كلمح البصر
بالنسبة لنا، ولكن إياك أنْ تتصوّر أن هذا يحتاج إلى وقت بالنسبة لله سبحانه.
فالأشياء بالنسبة له سبحانه لا تعالج، وإنما هي كُنْ فيكون، حتى كُنْ مكوّنة من
حرفين: الكاف لفظ وله زمن، والنون لفظ وله زمن، إنما أَمْر الساعة أقرب من الكاف
والنون، ولكن ليس هناك أقلّ من هذا في فَهْمنا.
والحق سبحانه وتعالى حينما تكلَّم عن أهل القبور، قال:{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }[النازعات: 46].
في حين أننا نرى أنهم غابوا كثيراً في قبورهم.. إذن: كيف يُقَاسُ الزمن؟.. يُقاس
بتتبُّعك للأحداث، فحينما لا يُوجد حَدَث لا يُوجَد زمن.. وهذا ما نراه في حال
النائم الذي لا يستطيع تحديد الزمن الذي نامه إلا على غالب ما يكون في البشر.
ولذلك، في قصة أهل الكهف الذين ناموا ثلاث مائة عام وتسعة أعوام قالوا:{ لَبِثْنَا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... }[المؤمنون: 113].
فهذا هو الغالب في عُرْف الناس؛ ذلك لأنهم استيقظوا فلم يجدوا شيئاً حولهم يدل على
زمن طويل.. الحال كما هو لم يتغيَّر فيهم شيء.. فلو استيقظوا فوجدوا أنفسهم شيوخاً
بعد أن كانوا فتية لَعلِموا بمرور الزمن.. إذن: الزمن بالنسبة لعدم الحدث زمن
مَلْغيّ.
أو نقول: إن أَمْر الساعة في أن الحق سبحانه يجعلها جامعة للناس إلا كلمْح البصر،
فكلّ ما يحدث فيها لا تقيسه بزمن، لأن الذي يُقاسُ بالزمن إنما هي الأحداث الناشئة
من فاعل له قدرة وقوة تتوزع على الزمن.
فلو أردْتَ نَقْل هذا الشيء من هنا إلى هنا فسوف يحتاج منك وقتاً ومجهوداً، أما لو
كلفتَ طفلاً بنقل هذا الشيء فسوف يأخذ وقتاً أكثر ويحتاج مجهوداً أكثر.. إذن:
فالزمن يتناسب مع قدرة الفاعل تناسباً عكسياً.
ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما حدَّث الناس بالإسراء والمعراج قالوا:
أتدَّعي أنك أتيتها في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً.. هذا لأن
انتقالهم يحتاج لعلاج ومُزَاولة، تأخذ وَقْتاً يتناسب وقدراتهم في الانتقال بالإبل
من مكة إلى بيت المقدس.. ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يقل: أسريْتُ، بل قال:
أُسْرِي بي، الذي أَسْرى به هو الله سبحانه، فالزمن يُقاس بالنسبة للحق سبحانه
وتعالى.
وكذلك إذا قِيسَ زَمن أَمْر الساعة بالنسبة لقدرته سبحانه فإنه يكون كلمح البصر،
أو هو أقرب من ذلك.. إنما هو تشبيه لِنُقرِّب لكم الفهم.
وقوله: } إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [النحل: 77].
أي: يكون أمر الساعة كذلك؛ لأن الله قادر على كل شيء، وما دامت الأحداث تختلف
باختلاف القدرات، فقدرة الله هي القدرة العُلْيا التي لا تحتاج لزمن لفعل الأحداث.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ... {.
(/1962)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
(مِنْ بُطُونِ أُمهَاتِكُم) المراد الأرحام؛ لأنها في البطون، والمظروف في مظروف
يعتبر مظروفاً، كما لو قلت: في جيبي كذا من النقود أو في حافظتي كذا من النقود..
العبارتان معناهما واحد.
وأمهاتكم: جمع أم، والقياس يقتضي أن نقول في جمع أُم: أُمَّات ولكنه قال: {
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [النحل: 78].
بزيادة الهاء.
وساعةَ يكون الجنين في بطن أمه تكون حياته حياة تبعية، فكل أجهزته تابعة لأمه..
فإذا شاء الله أن يولد جعل له حياة ذاتية مستقلة.. وعند الولادة نرى أطباء التوليد
يقولون: الجنين في الوضع الطبيعي أو في غير الوضع الطبيعي.. فما معنى الوضع
الطبيعي للجنين عند الولادة؟
الوضع الطبيعي أن يكون رأس الجنين عند الولادة إلى أسفل، هذا هو الوضع الطبيعي؛
لأن الحق سبحانه أراد أن يُخرجه خَلْقاً آخر:{ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ
}[المؤمنون: 14].
كأنه كان خلقاً لكنه كان تابعاً لأمه فيُخرجه الله خَلْقاً آخر مُسْتقلاً بذاته..
فتكون الرأس إلى أسفل، وهي أول ما ينزل من المولود، وبمجرد نزوله تبدأ عملية
التنفس.
ومن هذه اللحظة ينفصل الجنين عن أمه، وبالتنفس تكون له ذاتية، فإذا ما تعسَّر خروج
باقي جسمه فتكون له فرصة التنفس وهذا من لُطْف الله سبحانه؛ لأن الجنين في هذه
الحالة لا يختنق أثناء معالجة باقي جسمه.
أما إذا حدث العكس فكان الرأس إلى أعلى، ونزل الجنين بقدميْه، فبمجرد نزول
الرِّجْليْن ينفصل عن أمه، ويحتاج إلى حياة ذاتية ويحتاج إلى تنفس، فإذا ما
تعسَّرت الولادة حدث اختناق، ربما يؤدي إلى موت الجنين.
العلم أَخْذ قضية من قضايا الكون مجزوم بها وعليها دليل؛ وقوله تعالى:
{ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً... } [النحل: 78].
ذلك لأن وسائل العلم والإدراك لم تعمل بَعْد، فإذا أراد الله له أنْ يعلم يخلق له
وسائل العلم، وهي الحواس الخمس: السمع والبصر والشَّم واللمس والتذوّق، هذه هي
الحواس الظاهرة التي بها يكتسب الإنسان العلوم والمعارف، وبها يُدرِك ما حوله.
وإنْ كان العلم الحديث قد أظهر لنا بعض الحواسّ الأخرى، ففي علم وظائف الأعضاء
يقولون: إنك إذا حملتَ قطعتين من الحديد مثلاً فبأيّ حاسة تُميّز بينهما من حيث
الثقل؟
هذه لا تُعرف باللمس أو السمع أو البصر أو التذوّق أو الشّم.. إذن: هناك حاسة
جديدة تُميّز الثقَل هي حاسة العضَل.
وكذلك تُوجَد حاسة البَيْن، التي تتمكن بها من معرفة سُمْك القماش مثلا وأنت في
محل الأقمشة، حيث تفركُ القماش بين أصابعك، وتستطيع أن تُميّز بين الرقيق
والسَّميك.
فالطفل المولود إذن لا يعلم شيئاً، فهذا أمر طبيعي لأن وسائل العلم والإدراك لديه
لم تُؤدِّ مهمتها بَعْد.
وقوله تعالى:
{ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ.
.. { [النحل: 78].
وقد بيَّن لنا علماء وظائف الأعضاء أن هذا الترتيب القرآني للأعضاء هو الترتيب
الطبيعي، فالطفل بعد الولادة يسمع أولاً، ثم بعد حوالي عشرة أيام يُبصر.. وتستطيع
تجربة ذلك، فترى الطفل يفزع من الصوت العالي بعد أيام من ولادته، ولكن إذا وضعت
أصبعك أمام عينيه لا يطرف؛ لأنه لم يَرَ بعد.
ومن السمع والبصر ـ وهما السادة على جميع الحواس ـ تتكون المعلومات التي في الأفئدة،
هذا الترتيب القرآني الوجودي، وهو الترتيب الطبيعي الذي وافق العلمَ الحديث.
ونلاحظ في الآية إفراد السمع، وجمع الأبصار والأفئدة:
} وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ... { [النحل: 78].
فلماذا لم يأْتِ السمع جَمْعاً؟
المتحدث هنا هو الحق سبحانه؛ لذلك تأتي الألفاظ دقيقة معجزة.. ولننظر لماذا السمع
هنا مفرد؟
فَرٌْق بين السمع وغيره من الحواس، فحين يوجد صوت في هذا المكان يسمعه الجميع،
فليس في الأذن ما يمنع السمع، وليس عليها قفل نقفله إذا أردنا ألاَّ نسمع، فكأن
السمع واحد عند الجميع، أما المرئي فمختلف؛ لأننا لا ننظر جميعاً إلى شيء واحد..
بل المرائي عندنا مختلفة فهذا ينظر للسقف، وهذا ينظر للأعمدة.. إلى آخره.
إذن: المرائي لدينا مختلفة.. كما أن للعين قفلاً طبيعياً يمكن إسْداله على العين
فلا ترى، فكأن الأبصار لدينا مختلفة متعددة.
وكذلك الحال في الأفئدة، جاءت جَمْعاً؛ لأنها متعددة مختلفة، فواحد يَعِي ويُدرك،
وآخر لا يعي ولا يدرك، وقد يعي واحد أكثر من الآخر.
إذن: إفراد السمع هنا آيةٌ من آيات الدقة في التعبير القرآني المعجز؛ لأن المتكلمَ
هو ربّ العزة سبحانه.
ونلاحظ أيضاً تقديم السمع على باقي الحواس؛ لأنه أول الإدراكات ويصاحب الإنسان منذ
أنْ يُولدَ إلى أنْ يفارق الحياة، ولا يغيب عنه حتى لو كان نائماً؛ لأن بالسمع يتم
الاستدعاء من النوم.
وقد قُلْنا في قصة أهل الكهف أنهم ما كان لهم أن يناموا في سُبات عميق ثلاثمائة
وتسع سنين إلا إذا حجب الله عنهم هذه الحاسة، فلا تزعجهم الأصوات. فقال تعالى:{
فَضَرَبْنَا عَلَىا آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }[الكهف: 11].
أي: قُلْنا للأذن تعطّلي هذه المدة حتى لا تزعجهم أصوات الصحراء، وتقلق مضاجعهم،
والله تعالى يريد لهم السُّبات والنوم العميق.
وفي قوله تعالى:
} وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ.. { [النحل: 78].
هل توجد هذه الإدراكات بعد الإخراج (الميلاد) أم هي موجودة قبله؟.. يجب أنْ نُفرّق
بين السمع وآلته، فقبل الإخراج تتكون للجنين آلات البصر والسمع والتذوّق وغيرها..
لكنها آلات لا تعمل، فالجنين في بطن أمه تابع لها، وليست له حياة ذاتية، فإذا ما
نزل إلى الدنيا واستقلّ بحياته يجعل الله له هذه الآلات تعمل عملها.
إذن: فمعنى:
} وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ... { [النحل: 78].
أي: جعل لكم الاستماع، لا آلة السمع.
وقوله:
} لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [النحل: 78].
تُوحي الآية بأن السمع والأبصار والأفئدة ستعطي لنا كثيراً من المعلومات الجديدة
والإدراكات التي تنفعنا في حياتنا وفي مُقوّمات وجودنا، وننفع بها غيرنا، وهذه
النعم تستحقّ منا الشكر.
فكلما سمعتَ صَوْتاً أو حكمة تحمد الله أن جعل لك أُذناً تسمع، وكلما أبصرتَ
منظراً بديعاً تحمد الله أنْ جعلَ لك عيناً ترى، وكلما شممتَ رائحة زكية تحمد الله
أنْ جعل لك أنفاً تشمُّ.. وهكذا تستوجب النعم شُكْر المنعم سبحانه.
ولكي تقف على نِعَم الله عليك انظر إلى مَنْ حُرِموا منها، وتأمّل حالك وحالهم،
وما أنتَ فيه من نعم الحياة ولذّاتها، وما هُمْ فيه من حِرْمَان.
ثم ينقلنا الحق سبحانه نقلة أخرى في قوله تعالى: } أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىا
الطَّيْرِ... {.
(/1963)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
فالحق سبحانه ينقلنا هنا إلى صورة أخرى من صُوَر الكون.. بعد أن حدّثنا عن الإنسان
وما حوله.. فالإنسان قبل أنْ يخلقه الله في هذا الوجود أعدَّ له مُقوِّمات حياته،
فالشمس والقمر والنجوم والأرض والسماء والمياه والهواء، كل هذه أشياء وُجِدتْ قبل
الإنسان، لِتُهيئ له الوجود في هذا الكون.
والله سبحانه يريد منّا بعد أنْ كفلَ لنا استبقاء الحياة بالرزق، واستبقاء النوع
بالزواج والتكاثر، يريد منّا إثراء عقائدنا بالنظر في ملكوت الله وما فيه من
العجائب؛ لنستدل على أنه سبحانه هندسَ كَوْنه هندسة بديعة متداخلة، وأحكمه إحكاماً
لا تصادم فيه.{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ
سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40].
فالنظر إلى كَوْن الله الفسيح، كم فيه من كواكب ونجوم وأجرام. كم هو مليء بالحركة
والسكون والاستدارة. ومع ذلك لم يحدث فيه تصادم، ولم تحدث منه مضرة أبداً في يوم
من الأيام.. الكون كله يسير بنظام دقيق وتناسق عجيب؛ ولكي تتجلى لك هذه الحقيقة
انظر إلى صَنْعة الإنسان، كم فيها من تصادم وحوادث يروح ضحيتها الآلاف.
هذا مَثلٌ مُشَاهَد للجميع، الطير في السماء.. ما الذي يُمسكها أنْ تقعَ على الأرض؟
وكأن الحق سبحانه يجب أنْ يُلفتنا إلى قضية اكبر:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ
أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ.. }[فاطر: 41].
فعلينا أن نُصدِّق هذه القضية.. فنحن لا ندرك بأعيننا جرْم الأرض، ولا جرْم الشمس
والنجوم والكواكب.. نحن لا نقرر على معرفة كل مَا في الكون.. إذن: يجب علينا أن
نُصدّق قوْل ربنا ولا نجادل فيه.
وإليكم هذا المثل الذي تشاهدونه كل يوم:
{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىا الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ... } [النحل: 79].
إياك أنْ تقول إنها رَفْرفة الأجنحة، فنحن نرى الطائر يُثبّت أجنحته في الهواء،
ومع ذلك لا يقع إلى الأرض، فهناك إذن ما يمسكه من الوقوع؛ لذلك قال تعالى في آية
أخرى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ...
}[الملك: 19].
أي: أنها في حالة بَسْط الأجنحة، وفي حالة قبْضِها تظل مُعلّقة لا تسقط.
وكذلك نجد من الطيور ما له أجنحة طويلة، لكنه لا يطير مثل الأوز وغيره من الطيور.
إذن: ليست المسألة مسألة أجنحة، بل هي آية من آيات الله تمسك هذا الطير في جَوِّ
السماء.. فتراه حُراً طليقاً لا يجذبه شيء إلى الأرض، ولا يجذبه شيء إلى السماء،
بل هو حُرٌّ يرتفع إنْ أراد الارتفاع، وينزل إنْ أراد النزول.
فهذه آية مُحسَّة لنستدلّ بها على قدرة الله غير المحسَّة إلا بإخبار الله عنها،
فإذا ما قال سبحانه:
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ
إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ... }[فاطر: 41].
آمنا وصَدّقنا.
وقوله تعالى:
} فِي جَوِّ السَّمَآءِ... { [النحل: 79].
أي: في الهواء المحيط بالأرض، والمتأمل في الكون يجد أن الهواء هو العامل الأساسي
في ثبات الأشياء في الكون، فالجبال والعمارات وغيرها.. ما الذي يمسكها أنْ تقع؟
إياك أن تظن أنه الأسمنت والحديد وهندسة البناء.. لا.. بل يمسكها الهواء الذي يحيط
بها من كل جانب، بدليل أنك لو فَرَّغتَ جانباً منها من الهواء لانهارتْ فوراً نحو
هذا الجانب؛ لأن للهواء ضغطاً، فإذا ما فرَّغْتَ جانباً منها قَلَّ فيه الضغط
فانهارتْ.
فالهواء ـ إذن ـ هو الضابط لهذه المسألة، وبالهواء يتوازن الطير في السماء، ويسير
كما يهوى، ويتحرك كما يحب.
ثم يقول تعالى:
} إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [النحل: 79].
أي: أن الطير الذي يطير في السماء فيه آيات أي عجائب، عجائب صَنْعة وعجائب خَلْق،
يجب أنْ تتفكَّرُوا فيها وتعتبروا بها.
ولكي نقف على هذه الآية في الطير نرى ما حدث لأول إنسان حاول الطيران.. إنه العربي
عباس بن فرناس، أول مَنْ حاول الطيران في الأندلس، فعمل لنفسه جناحين، وألقى بنفسه
من مكان مرتفع.. فماذا حدث لأول طائر بشرى؟
طار مسافة قصيرة، ثم هبط على مُؤخرته فكُسرت؛ لأنه نسي أن المسألة ليست مجرد
الطيران، فهناك الهبوط الذي نسي الاستعداد له، وفاته أن يعمل له (زِمكّي)، وهو
الذيل الذي يحفظ التوازن عند الهبوط.
وكذلك الذين يصنعون الطائرات كم تتكلف؟ وكم فيها من أجهزة ومُعدِات قياس وانضباط؟
وبعد ذلك تحتاج لقائد يقودها أو مُوجّه يُوجّهها، وحينما أرادوا صناعة الطائرة
جعلوها على شكل الطير في السماء له جناحان ومقدمة وذيل، ومع ذلك ماذا يحدث لو
تعطلّ محركها.. أو اختلّ توازنها؟!
إذن: الطير في السماء آية تستحق النظر والتدبُّر؛ لنعلمَ منها قدرة الخالق سبحانه.
ويقول تعالى:
} لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [النحل: 79].
يؤمنون بوجود واجب الوجود، يؤمنون بحكمته ودقَّة صنعه، وأنها لا مثيلَ لها من صنعة
البشر مهما بلغتْ من الدقة والإحكام.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن.. {.
(/1964)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
قوله:
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً... } [النحل: 80].
كلمة سكن مأخوذة من السكون، والسكون ضد الحركة، فالبيت نُسمّيه سكناً؛ لأن الإنسان
يلجأ إليه ليرتاح فيه من حركة الحياة خارج البيت، إذن: في الخارج حركة، وفي البيت
سكن.
والسكن قد يكون مادياً كالبيت وهو سكن القالب، وقد يكون معنوياً، كما قال تعالى في
حَقِّ الأزواج:{ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ
إِلَيْهَا.. }[الروم: 21].
فالزوجة سكَنٌ معنويٌّ لزوجها، وهذا يُسمّونه سكن القلب.
فإنْ قال قائل:
{ مِّن بُيُوتِكُمْ... } [النحل: 80].
يعني: نحن الذين صنعناها وأقمناها. فكيف جعلها الله لنا؟.
نقول: وأنت كيف صنعتها؟ ومِمَ بنيْتها؟ صنعتَها من غابٍ أو خشب، أو بنيْتها من طين
أو طوب.. كل هذه المواد من مادةَ الأرض من عطاء الله لك، وكذلك العقل الذي يُفكّر
ويرسم، والقوة التي تبني وتُشيّد كلها من الله.
إذن: { جَعَلَ لَكُمْ } إما أنْ يكون جَعْلاً مباشراً، وإما أنْ يكون غير مباشر..
فالله سبحانه جعل لنا هذه المواد.. هذا جَعْل مباشر، وأعاننا وقوّانا على البناء..
هذا جَعْلٌ غير مباشر.
لكن في أيّ الأماكن تُبنى البيوت؟
البيوت لا تُبنَى إلا في أماكن الاستقرار، التي تتوفّر لها مُقوّمات الحياة.. فقبل
أن نُنظّم مدينة سكنية نبحث أولاً عن مُقوّمات الاستقرار فيها من مأكل ومشرب
ومرافق وخدمات ومياه وصرف.. إلى آخره.
فإن وجدت هذه المقوّمات فلا مانعَ من البناء هنا.. فإذا لم توجد المرافق في
الصحراء ومناطق البدو، هنا لا يناسبها البيوت والبناء الدائم، بل يناسبها:
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ
ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ.. } [النحل: 80]. فنرى أهل البدو يتخذون من الجلود
بُيُوتاً مثل الخيمة والفسطاط.. حيث نراهم كثيري التنقُّل يبتغون مواطن الكلأ
والعشب، ويرحلون طَلباً للمرعى والماء، وهكذا حياتُهم دائمة التنقّل من مكان
لآخر.. فيناسبهم بيت من جلد أو من صوف أو من وَبَر خفيف الحَمْل، يضعونه أيْنما
حَطُّوا رحالهم، ويرفعونه أينما ساروا.. والظّعْن هو التنقُّل من مكان لآخر.
إذن: كلمة (سكن) تفيد الاستقرار، وتُوفِّر كل مُقوِّمات الحياة؛ ولذلك فالحق
سبحانه وتعالى يقول لآدم:{ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.. }[البقرة: 35].
أي: المكان الذي فيه راحتكم، وفي نعيمكم، فحدّد له مكان إقامة وسكَن..
ومكان الإقامة هذا قد يكون عَامّاً، وقد يكون خاصاً، مثل لو قُلْت: أسكن
الإسكندرية.. هذا سكَنٌ عام، فلو أردتَ السكن الحقيقي الخاص بك لَقُلْتَ: أسكن في
شارع كذا، وفي عمارة رقم كذا، وفي شقة رقم كذا، وربما كان لك حجرة خاصة من الشقة
هذه.
إذن: هذا سكَنٌ خاص بك.. سكنُك الحقيقي الذي تشعر فيه بالهدوء والراحة والخصوصية،
فالسكن يحتاج إلى استقرار ذاتيٍّ لا يشاركك فيه أحد؛ ولذلك نرى بعض سكان العمارات
يشكُون من الإزعاج والضوضاء، ويتمنوْنَ أن يعيشوا في بيوت مستقلة تُحقّق لهم
الراحة الكافية التي لا يضايقهم فيها أحد.
إذن: حينما ننظر إلى السكون.. إلى السكن، نحتاج المكان الضيق الذي يُحقّق لن
الخصوصية التامة التي تصل إلى حجرة، مجرد حجرة، ولكنها تعني السكن الحقيقي الخاص
بي، وقد تصل الخصوصية أنْ نجعلَ لكل ولد من الأولاد سريراً خاصاً به في نفس
الحجرة.
فإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة وجدنا الإنسان على العكس يطلب السعة؛ لأن
الحركة تقتضي السعة في المكان، فمَنْ كان عنده مزرعة يطلب عزبة، ومن كان عنده عزبة
يتمنى ثانية وثالثة وهكذا لأن حركة الحياة تحتاج مجالاً واسعاً فسيحاً.
هذا عن النوع الأول، وهو السكن المادي سكن القالب، وهو من أعظم نِعَم الله على
عباده.. أن يكون لهم سكَن يأوون إليه، ويرتاحون فيه من عناء وحركة الحياة.
ولذلك حينما أراد الحق سبحانه أن يُعذِّب بني إسرائيل، أشاع سكنهم في الأرض كلها،
وحرمهم من نعمة السكن الحقيقي الخاص، فقال تعالى:{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ... }[الإسراء: 104].
فالأرض هي المكان العام الذي يسكن فيه كل الناس.. فليس لهم بلد تجمعهم، بل بدَّدهم
الله في الأرض ولم يجعل لهم وطناً، كما قال في آية أخرى:{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي
الأَرْضِ أُمَماً... }[الأعراف: 168].
حتى في البلاد التي يعيشون فيها تراهم معزولين عن الناس في أماكن خاصة بهم لا
يذوبون في غيرهم، وهكذا سكنوا الأرض ولم تحدد لهم بلد.
أما النوع الثاني من السكن، وهو السكن المعنوي أو سكن القلب، فهو سكن الزوج إلى
زوجته الصالحة التي تُخفّف عنه عناء الحياة وهمومها، تبتسم في وجهه إنْ كان
مسروراً وتُهدِّيء من غضبه إنْ كان مُغْضَباً، تحتويه بما لديها من حُب وحنان
وإخلاص.. هذا هو السكن المعنوي، سكن القلب.
وقوله:
} وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىا
حِينٍ { [النحل: 80].
الأصواف للغنم، والأوبار للإبل، والشعر للماعز.. فما الفرْق بين هذه الثلاث في
الاستعمال؟
يستعمل الناس كلاً من الصوف والوبر؛ لأن الشُّعيرات فيها دقيقة جداً يمكن نَدْفها
وغَزْلها والانتفاع بها في الفُرش والأبسطة والألحفة والملابس وغيرها مما يحتاجه
الناس.
أما شعر الماعز فالشعيرات فيه ثخينة لا يمكن نَدْفها أو غَزْلها، فلا يمكن
الانتفاع به في هذه المنسوجات، وقوله تعالى:
} أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىا حِينٍ { [النحل: 80].
الأثاث: هو ما يوجد في البيت مما تتطلبه حركة الحياة كالأبسطة والمفارش والملابس
والستائر.
والمتاع: هو ما يُستمتع ويُنتفع به.. والفرْق بينهما أن الأثاث قد يكون ثابتاً لا
يتغير كثيراً، أما المتاع فقد يتغير حسب الحاجة.
فأنت مثلاً قد تحتاج إلى تغيير التلفاز القديم لتأتي بآخر حديث، مُلوّن مثلاً، لكن
قلّما تُغير الثلاجة أو الغسالة مثلاً.
وقوله: } إِلَىا حِينٍ { [النحل: 80].
لأن الإنسان قد يغتر حين يستوفي متطلبات حياته، وقد تلهيه هذه النعم عن مطلوب
المنعم سبحانه، فينشغل بالنعمة التي هو فيها عن المنعم الذي أنعم عليه بها.. فتأتي
هذه الآية مُحذّرة.
إياك أنْ تغترّ بالمتاع والأثاث؛ لأنها متاع إلى حين.. متاعٌ موقوت لا يدوم، ومهما
استوفيت حظّك منها في الدنيا فإنها صائرة إلى أمرين:
إما أن تفوتها بالموت، وإما أنْ تفوتَك بالفقر والحاجة.. إذن: هي ذاهبة ذاهبة..
فتذكّروا دائماً قوله تعالى:
} إِلَىا حِينٍ... { [النحل: 80]. فمتاع النعمة موقوت، لكن متاع المنعِم سبحانه
خالد.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ... {.
(/1965)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن أصحاب البيوت الذين يناسبهم الاستقرار، ويجدون
مُقوّمات الحياة، وتكلم عن أهل الترحال والتنقُّل وما يناسبهم من بيوت خفيفة
يحملونها عند ترحالهم. ثم تحدث هنا عن هؤلاء الذين لا يملكون شيئاً، ولا حتى جلود
الأنعام.. ماذا يفعل هؤلاء؟
الحق سبحانه جعل لهم الظل يستظِلّون به من وهج الشمس، وجعل لهم من الكهوف
والسراديب في الجبال ما يأوون إليه ويسكنون فيه. وهكذا استوعبتْ الآيات جميع
الحالات التي يمكن أن يكون عليها بشر، فقد نثر الحق سبحانه نعمه على الناس، بحيث
يأخذ كل واحد منهم ما يناسبه من نعم الله.
أما مَنْ لا يملك بيتاً يأويه، وليس عنده من الأنعام ما يتخذ من جلودها بيتاً، فقد
جعل الله له الأشجار يستظل بها من حَرِّ الشمس، وجعل له كهوف الجبال تُكِنّه
وتأويه.
ونلاحظ هنا أن الآية ذكرتْ الظل الذي يقينا حَرَّ الشمس، ولم تذكر مثلاً البرد؛
ذلك لأن القرآن الكريم نزل بجزيرة العرب وهي بلاد حارة، وحاجتها إلى الظل أكثر من
حاجتها إلى الدِّفء.
وقوله:
{ ظِلاَلاً.. } [النحل: 81].
الظلال جمع ظِل، وهو الواقي من الشمس ومن إشعاعاتها، وقد يُوصَف الظل بأنه ظِل
ظليل.. أي: الظل نفسه مُظلل، وهذا ما نراه في صناعة الخيام مَثلاً، حيث يجعلونه
لها سقفاً من طبقة واحدة تتلقّى حرارة الشمس، وإنْ حجبت أشعة الشمس فلا تحجب
الحرارة، وهنا يلجأون إلى جَعْل السقف من طبقتين بينهما مسافة لتقليل حرارة الشمس.
وهنا نقول: إن الظلّ نفسه مُظلّل، وكذلك الحال في ظِل الأشجار حيث يظلّل الورق
بعضه بعضاً، فتشعر تحت ظِلّ الأشجار بجوٍّ لطيف بارد حيث يغطيك ظِلٌّ ظليل يحجب
عنك ضوء الشمس، ويسمح بمرور الهواء فلا تشعر بالضيق.
لذلك فالشاعر يقول في وصف روضة:وَقَانَا لَفْحَةَ الرمْضَاءِ وَادٍٍ سَقَاهُ مضاعف
الغيْثِ العَمِيمِيَصُدُّ الشمسَ أَنَّى وَاجهتْنا فَيحجُبُها وَيأذنُ
للنسِيمِوقوله: { أَكْنَاناً... } [النحل: 81].
جمع كِنْ، وهو الكهف أو المغارة في الجبل تكون سكناً وساتراً لمن يلجأ إليها
ويحتمي بها، والكِنّ من الستر؛ لأنها تستر الناس ونحن نقول مثلاً للولد: انكنْ
يعني: اسكُنْ وانستر.
ويقول تعالى:
{ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم
بَأْسَكُمْ... } [النحل: 81].
السرابيل: هي ما يُلبس من الثياب أو الدروع:
{ تَقِيكُمُ الْحَرَّ... } [النحل: 81].
أي: تحميكم من الحر.. فقال هنا الحر أيضاً؛ لذلك وجدنا بعض العلماء يحاول أن يجد
مخرجاً لهذه الآية فقال: المعنى تقيكم الحر وتقيكم البرد، ففي الآية اكتفاءٌ بالحر
عن البرد؛ لأن الشيء إذا جاء يأتي مقابله.. فليس بالضرورة ذِكر الحالتين، فإحداهما
تعني الأخرى.
هذا دفاع مشكور منهم، ومعنى مقبول حول هذه الآية.
. لكن لو فَطنَّا إلى باقي الآيات التي تحدثتْ في هذا الموضوع لوجدناها: واحدة
تتكلم عن الحر، وهي هذه الآية، وأخرى تتكلَّم عن البرد في قوله تعالى:{
وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ... }[النحل: 5].
أي: من جلود الأنعام وأصوافها نتخذ ما يقينا البرد، وما نستدفئ به.. وهكذا تتكامل
الآيات وينسجم المعنى.
والمتأمل في تدفئة الإنسان يجد أن ما يرتديه من ملبوسات لا يعطي للإنسان حرارة
تُدفِئه، بل تحفظ للإنسان حرارة جسمه فقط، فحرارة الإنسان ذاتية من داخله، وبهذه
الحرارة يحفظ الخالق سبحانه الإنسان.
والأطباء يقولون: إن الجسم السليم حرارته 37 درجة لا تختلف إنْ عاش عند خط
الاستواء أو عاش في بلاد الاسكيمو في القطب الشمالي، فهذه هي الحرارة العامة
للجسم.
في حين أن أجهزة الجسم المختلفة ربما اختلفتْ درجة حرارتها، كُلٌّ حَسب ما يناسبه:
فالكبد مثلاً درجة حرارته 40 درجة، وتختلّ وظيفته إذا نقصت عن هذه الدرجة، في حين
أن درجة حرارة جَفْن العين مثلاً 9 درجة، ولو ارتفعت درجة حرارتها تذوب حبّة
العين، ويفقد الإنسان البصر.. فسبحان الله الذي حفظ حرارة هذه الأعضاء في الجسم لا
يطغى أحدها على الآخر.
لذلك حينما سافرنا إلى أمريكا، وفي إحدى مناطق البرودة الشديدة كانت أول نصائحهم
لنا ألاَّ نمسك آذاننا بأيدينا.. لماذا؟ قالوا: لأن درجة حرارة اليد أقلّ من درجة
حرارة الأذن، ووَضْع اليد الباردة على الأذن قد تُسبِّب كثيراً من الأضرار.
إذن: كل ما نستخدمه من ملابس وأعطية تقينا برد الشتاء لا تعطينا حرارة، بل تحفظ علينا
حرارتنا الطبيعية فلا تتسرب، وبذلك تتم التدفئة.. وتستطيع أنْ تضعَ يدك على فراشك
قبل أن تنام فسوف تجده بارداً، أما في الصباح فتجده دافئاً.. فالفراش اكتسب
الحرارة من حرارة جسمك، وليس العكس.
وقوله:
} وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ... { [النحل: 81].
البأس هنا: أي الحرب، والسرابيل التي تقي من البأس هي الدروع التي يلبسها الجنود
في الحرب لتقيهم الضربات.
ولكن هذه الآية في سياق الحديث عن بعض نِعَم الله علينا في الاستقرار والسكن وما
جعله لنا من بيوت وظلال.. حياة دَعَة وسلام ونعمة، فما الداعي لذكر الحرب هنا؟
ذلك لأن الحياة لها منطق سلامة للجميع، فإن اختلّ منطق السلامة فعلى الناس أنْ
يقفوا في وجه مَنْ يُخِلّ بسلامة المجتمع.. وأن يكون على استعداد لذلك في كل وقت،
لا بُدّ في وقت السِّلْم أنْ نَعُدَّ العُدّة للحرب؛ لذلك تحدث عن الحرب وعُدتها،
وهو يتحدث عن السكون والاستقرار والنعمة.
والحق سبحانه وتعالى حين يُنزِل الآيات البينات التي تحمل لنا منهج السماء يقول:{
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ... }[الحديد: 25].
هذا هو المنهج الذي يعتمد على الحجة والإقناع.. فإن لم يصلح هذا المنهج لبعض الناس
وتمردوا عليه أتى إذن دور القوة والقهر، يقول تعالى:
{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ..
}[الحديد: 25].
وقوله:
} كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ... { [النحل: 81].
كأن من تمام نعمة الله أنْ نحفظها ممنْ يُفسدها علينا، ونقف له بالمرصاد ونضرب على
يده؛ لأنه لو تركنا هؤلاء المفسدين في مجتمعنا فسوف يُفسِدون علينا هذه النِّعم،
وسنظل مُهددّين، لا نشعر بلذة الحياة ومُتعِها.
إذن: لا تتم النعمة إلا بحفظ السلامة العامة للمجتمع.
وقوله: } لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ.. { [النحل: 81].
تُسلِمون: أي تُلْقون زمام الاستسلام إلى الله الذي أسلمتَ له، وأنت لاَ تُلقي
زمامك إلا لمنْ تثق فيه.. والإنسان قد يُلقي زمامه في أمر لا يجيده إلى إنسان مثله
يُجيد هذا الأمر، فإذا كنتَ في حاجات نفسك تُلقي زمامك لمن هو مثلك، ويساويك في
قِلّة المعلومات، ويساويك في قِلّة الحكمة، ومع ذلك تُسلِم إليه أمرك لمجرد أنه
يجيد شيئاً لا تجيده أنت، أفلا تُلقي زمامك وتُسلِم أمرك إلى ربك وخالقك، وخالق
كُلِّ هذه النعم من أجلك؟
إذن: جاء ذِكْر هذه النعم، ثم الأمر بإسلام الوجه لله والتسليم له سبحانه حتى
نُسلمَ عن يقين واقتناع، فالحق تبارك وتعالى ليس له مصلحة في طاعتنا، ولا تضره
معصيتنا، إنْ أطعناه فلن نزيد في مُلْكِه سبحانه، وإنْ عصيناه فلن ننقصَ من مُلْكه
سبحانه.
إذن: تسليمنا الأمر والزمام لله من مصلحتنا نحن.. فالإنسان حينما يُسلِم زمامه إلى
غيره قد يكون للغير مصلحة تَلْوي رَأْيه في المسألة، إنما ربُّنا سبحانه حينما
يُوجِّه إلينا حُكْماً فليس له مصلحة فيه فلا يُلْوَى، لا يكون إلاّ لصالحك.
وبعد أنْ عدّد هذه النعم في الذات والمحيطات وفي السكن وفي الانطباعات. قال: إياك
بعد ذلك أن تُسلِمَ زمامك لغيري، وإنْ أجريتُ عليك ما يُخرجك عن نفع السلامة؛
لأنني لا أجري عليك ما يُخرجك عن نفس السلامة إلا لغرض أسلم منه.
لذلك نقول: لا عبادة كالتسليم؛ لأن التسليم لحُكْمِه تسليمٌ لحكيم، تسليمٌ لغير
منتفع.. وما دُمْتَ قد سلمْتَ زمامك لربك عز وجل يُجلِّي لك الحكمة فيما جرى لك من
الأحداث لتعلمَ رضاك عن حُكْمه لحكمته، فتقول: أنا رضيتُ بحكمك يا رب.
ولذلك نقول في الدعاء: أحمدك على كُلِّ قضائك، وجميع قَدرِك حَمْد الرِّضا بحكمك
لليقين بحكمتك.
أي: لك حكمة يارب فيما أجريتَ عليَّ من أحداث، ولكني لا أراها.
والذي يعلم مكانة التسليم لله تعالى فيما يُجرى عليه من أحداث وما يقع به من بلاء
لا يضجر ولا يسخط؛ لأنه بذلك يُطيل على نفسه أمدَ القضاء؛ لأن الله لا يرفع قضاءه
عن عبده حتى يرضى به، فالله تعالى لا مُجبر له.
فإن أردت رَفْع القضاء فارْضَ به أولاً، وإذا لم يرفع عنك القضاء فاعلم أن مكان
الرضى من نفسك لم يكُنْ مقبولاً، قد ترضى بلسانك ولكن قلبك لا يزال ساخطاً
ضَجِراً.
فالذي يُسلم زَمامه إلى الله ويردّ كل حدث وقع أو بلاء نزل بهِ يردُّه إلى الله،
وإلى حكمة مُجريه، الله تعالى يقول له: لقد فهمتَ عني، ويرفع عنه البلاء.
وفي مقام التسليم لله دائماً نذكر قصة سيدنا إبراهيم حينما أمره ربه بذبح ولده
إسماعيل ـ عليهما السلام.. وهل هناك بلاء أكثر من أن يُبتلَى الرجل بذبح ولده الذي
رُزِقه على كِبَر، ويذبحه هو بيده.
إنه ابتلاء من مراتب مُتعدِّدة، ومن نَواحٍ مختلفة، وليْتَ الأمر بوحي ظاهر، ولكنه
بمنام كان يستطيع أن يتأوَّل فيه، ولكن رؤيا الأنبياء حق.
ونرى إبراهيم ـ عليه السلام ـ يقصُّ على ولده المسألة حِرْصاً عليه أنْ يتحوّل
قلبه عن أبيه ساعةَ يأخذه ليذبحه، وأيضاً لكي يشاركه ولده في الرضا بقدر الله، ولا
يحرم ثواب هذا الابتلاء.. فقال له:{ إِنِّي أَرَىا فِي الْمَنَامِ أَنِّي
أَذْبَحُكَ... }[الصافات: 102].
فليس الغرض هنا أنْ يزعجه أو يُخيفه، ولكن ليقول له: هذه مسألة تعبدية أمرنا بها
الخالق سبحانه ليكون على بصيرة هو أيضاً، ولا يتغير قلبه على أبيه.
ولذلك كان الولد حكيماً في الرد، فقال:{ قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ..
}[الصافات: 102].
ما دام الأمر من الله فافعل، وهكذا سلّم إسماعيلُ كما سلَّم إبراهيم، فقال تعالى:{
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }[الصافات: 103].
أسلما: أي الأب والابن، ورَضيا بقضاء الله، جاء الفرج ورُفِع القضاء، فقد فهم كل
منهما الأمر عن الله، فلم يرفع القضاء وفقط، بل وفديناه بذبح عظيم، ليس هذا وفقط،
بل ومنّنا عليه بولد آخر:{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ }[الصافات: 112].
إذن: لعلكم تُسْلِمون زمامكم إلى الله، وتعلمون أنه خلق لكم الكون قبل أن يُوجِدكم
فيه، وأمدّكم بكل متطلبات الحياة ضماناً لبقاء حياتكم، وضماناً لبقاء نوعكم،
ومتَّعكم هذه المتع.
فالذي أنعم عليكم بهذا كله عن غير حاجة له عندكم جديرٌ أنْ تُسلِموا له زمام أمركم
وتُسلموا له.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَإِن تَوَلَّوْاْ... {.
(/1966)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
أي: لا تحزن يا محمد إذا أعرض قومك، فلست مأموراً إلا بالبلاغ، ويخاطبه الحق
سبحانه في آية أخرى:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
}[الشعراء: 3].
أي: مهلكها. وقال تعالى:{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ
آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 4].
لكن الدين لا يقوم على السيطرة على القالب، وفَرْق بين السيطرة على القالب
والسيطرة على القلب، فيمكنك بمسدس في يدك أنْ تُرغمني على ما تريد، لكنك لا تستطيع
أبداً أن تُرغم قلبي على شيء لا يؤمن به، والله يريد مِنّا القلوب لا القوالب، ولو
أراد مِنّا القوالب لجعلها راغمة خاضعة لا يشذّ منها واحد عن مراده سبحانه.
ولذلك حينما أرسل الله سليمان ـ عليه السلام ـ وجعله ملكاً رسولاً لم يقدر أحد أن
يقف في وجهه، أو يعارضه لما له من السلطان والقوة إلى جانب الرسالة.. أمّا الأمر
في دعوته صلى الله عليه وسلم فقائم على البلاغ فقط دون إجبار.
وقوله: { الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [النحل: 82].
أي: البلاغ التام الكامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة وحركاتها، فقد جاء المنهج
الإلهي شاملاً للحياة بداية بقول: لا إله إلا الله حتى إماطة الأذى عن الطريق، فلم
يترك شيئاً إلا حدّثنا فيه، فهذا بلاغ مبين محيط لمصالح الناس.. فلا يأتي الآن
مَنْ يتمحّك ويقول: ربنا ترك كذا أو كذا.. فمنهج الله كامل، فلو لم تأخذوه ديناً
لوجب عليكم أن تأخذوه نظاماً.
ونرى الآن الأمم التي تُعادي الإسلام تتعرّض لمشاكل في حركة الحياة لا يجدون لها
حَلاًّ في قوانينهم، فيضطرون لحلول أخرى تتوافق تماماً أو قريباً من حَلّ القرآن
ومنهج الحق سبحانه وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ.. }.
(/1967)
يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
وقد حكى القرآن عنهم في آيات أخرى:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّىا يُؤْفَكُونَ }[الزخرف: 87].
وقال عنهم:{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ... }[النمل: 14].
ذلك لأنهم يعلمون تماماً أن الله خلقهم، وأنه خلق السماوات والأرض.. يعلمون كل
نِعَم الله عليهم، ومع ذلك يُنكرونها ويجحدونها.. لماذا؟
لأن الإيمان بالله والاعتراف بنعمه مسألة شاقة عليهم، ولو كانت مجرد كلمة تُقال
لقالوها.. ما أسهل أنْ يقولوا " لا إله إلا الله " لكنهم يعلمون أن: لا
إله إلا الله لها مطلوبات، فما دام لا إله إلا الله، فلا يُشرِّع إلا الله، ولا
يأمر إلا الله، ولا يَنْهى إلا الله، ولا يُحِلُّ إلا الله، ولا يُحرِّم إلا الله.
إذن: مطلوبات لا إله إلا الله جعلتهم في قالب من حديد، منضبطين بمنهج يهدم سيادتهم،
ويمنع الطغيان والجبروت، منهج يُسوِّي بين السادة والعبيد.
إذن: الدين الحق يُقيِّد حركتهم، وهم لا يريدون ذلك، فتراهم يعرفون الله ولا
يؤمنون به؛ لأنهم يعلمون مطلوبات لا إله إلا الله محمد رسول الله، وإلا لو كانت
مجرد كلمة لقالوها.
وقوله:
{ وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } [النحل: 83].
بعض العلماء يقولون: أكثرهم يعني كلهم.. لا.. بل هذا أسلوب قرآني لصيانة الاحتمال
وللاحتياط للقلة التي تفكر في الإسلام ويراودها أمر هذا الدين الجديد من هؤلاء
الكفار، لا بُدَّ أنْ نُراعي أمر هذه القلة، ونترك لهم الباب مفتوحاً، فالاحتمال
هنا قائم..
فلو قال القرآن: كلهم كافرون لتعارض ذلك مع هؤلاء الذين يفكرون في أنْ يُسلِموا..
وكذلك مراعاة لهؤلاء الذين لم يبلُغوا حَدَّ التكليف من أبناء الكفار.
إذن: قوله { وَأَكْثَرُهُمُ } تعبير دقيق، فيه ما نُسميّه صيانة الاحتمال.
ثم يقول تعالى: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ.. }.
(/1968)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
الحق تبارك وتعالى يُنبّهنا هنا إلى أن المسألة ليست ديناً، وتنتهي القضية آمن
مَنْ آمن، وكفر مَنْ كفر.. إنما ينتظرنا بعث وحساب وثواب وعقاب.. مرجع إلى الله
تعالى ووقوف بين يديه، فإنْ لم تذكر الله بما أنعم عليك سابقاً فاحتط للقائك به
لاحقاً.
والشهيد: هو نبيُّ الأمة الذي يشهد عليهم بما بلّغهم من منهج الله.
وقال تعالى في آية أخرى:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ
شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً... }[البقرة:
143].
فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعطاها الله أمانة الشهادة على الخَلْق لأنها
بلغتهم، فكل مَنْ آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب منه أن يُبلّغ ما بلَّغه
الرسول، ليكون شاهداً على مَنْ بلغه أنه بلَّغه:
{ ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [النحل: 84].
فحينما يشهد عليهم الشهيد لا يُؤْذَن لهم في الاعتذار، كما قال تعالى في آية
أخرى:{ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }[المرسلات: 36].
أو حينما يقول أحدهم:{ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا
تَرَكْتُ.. }[المؤمنون: 99-100].
فلا يُجَاب لذلك؛ لأنه لو عاد إلى الدنيا لفعل كما كان يفعل من قبل، فيقول تعالى:{
وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ... }[الأنعام: 28].
وقوله:
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.. } [النحل: 84].
يستعتبون: مادة استعتب من العتاب، والعتاب مأخوذ من العَتْب، وأصله الغضب والموجدة
تجدها على شخص آخر صدر منه نحوك ما لم يكن مُتوقّعاً منه.. فتجد في نفسك موجدة
وغضباً على مَنْ أساء إليك.
فإن استقرّ العَتْب الذي هو الغضب والموجدة في النفس، فأنت إمّا أنْ تعتب على مَنْ
أساء إليك وتُوضّح له ما أغضبك، فربما كان له عُذْر، أو أساء عن غير قصد منه، فإن
أوضح لك المسألة وأرضاك وأذهب غضبك فقد أعتبك.. فنقول: عتَب فلان على فلان فأعتبه،
أي: أزال عَتْبه.
والإنسان لا يُعاتب إلا عزيزاً عليه يحرص على علاقته به، ويضعه موضعاً لا تتأتى
منه الإساءة، ومن حقه عليك أن تعاتبه ولا تدعْ هذه الإساءة تهدم ما بينكما.
إذن: معنى:
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [النحل: 84].
أي: لا يطلب أحد منهم أنْ يرجعوا عما أوجب العَتْب وهو كفرهم.. فلم يَعُد هناك وقت
لعتاب؛ لأن الآخرة دار حساب، وليست دار عمل أو توبة.. لم تَعُدْ دارَ تكليف.
ويقول الحق تبارك وتعالى: { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ... }.
(/1969)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{ رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ... } [النحل: 85].
كأن العذاب سيُنصب أمامهم، فيرونه قبل أن يباشروه، وهكذا يجمع الله عليهم ألواناً
من العذاب؛ لأن إدراكات النفس تتأذى بالمشاهدة قبل أنْ تألم الأحاسيس بالعذاب؛
لذلك قال:
{ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ.. } [النحل: 85].
وقوله: { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } [النحل: 85].
أي: لا يُمْهَلُون ولا يُؤجّلون.
ويقول الحق سبحانه: { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ... }.
(/1970)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
ذلك حينما يجمع الله المشركين وشركاءهم من شياطين الإنس والجن والأصنام، وكل مَنْ
أشركوه مع الله وَجْهاً لوجه يوم القيامة، وتكون بينهما هذه الواجهة.. حينما يرى
المشركون شركاءهم الذين أضلّوهم وزيّنوا لهم المعصية، وزيّنوا لهم الشرك والكفر
بالله.. يقولون: هؤلاء هم سببُ ضلالنا وكُفْرنا.. كما قال تعالى عنهم في آية
أخرى:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ
وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ }[البقرة: 166].
ويقول تعالى:{ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ
لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ }[سبأ: 31].
وقوله:
{ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ... } [النحل: 86].
أي: ردُّوا عليهم بالمثل، وناقشوهم بالحجة، كما قال تعالى في حَقِّ الشيطان.{
وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.. }[إبراهيم: 22].
إذن: ردّوا عليهم القول: ما كان عليكم سلطان. نحن دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن
لنا قوة تُرغمكم على الفعل، ولا حُجّة تُقنعكم بالكفر؛ ولذلك يتهمونهم بالكذب:
{ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } [النحل: 86].
أي: كاذبون في هذه الدعوى.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَلْقَوْاْ إِلَىا اللَّهِ... }.
(/1971)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
السَّلَم: أي الاستسلام.. فقد انتهى وقت الاختيار ومضى زمن المهْلة، تعمل أو لا
تعمل. إنما الآن{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ }؟ الأمر والملك لله، وما داموا لم
يُسلِّموا طواعية واختياراً، فَلْيُسلّموا له قَهْراً ورَغْماً عن أنوفهم.
وهنا تتضح لنا مَيْزة من مَيْزات الإيمان، فقد جعلني استسلم لله عز وجل مختاراً،
بدل أنْ استسلمَ قَهْراً يوم أنْ تتكشّف الحقيقة على أنه لا إله إلا الله، وسوف
يُواجهني سبحانه وتعالى في يوم لا اختيار لي فيه.
وقوله:
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [النحل: 87].
كلمة: الضلال تردُ بمعانٍ متعددة، منها: ضلَّ أي غاب عنهم شفعاؤهم، فأخذوا يبحثون
عنهم فلَم يجدوهم، ومن هذا المعنى قوله تعالى:{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.. }[السجدة: 10].
أي: يغيبوا في الأرض، حيث تأكل الأرض ذرّاتهم، وتُغيِّبهم في بطنها.. وكذلك نقول:
الضالة أي الدابة التي ضلَّتْ أي: غابتْ عن صاحبها.
ومن معاني الضلال: النسيان، ومنه قوله تعالى:{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَىا.. }[البقرة: 282].
ومن معانيه: التردد، كما في قوله تعالى:{ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىا }[الضحى:
7].
فلم يكُنْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ثم تركه وانصرف عنه وفارقه، ثم هداه
الله.. بل كان صلى الله عليه وسلم مُتحيّراً مُتردّداً فيما عليه سادة القوم وأهل
العقول الراجحة من أفعال تتنافى مع العقل السليم والفطرة النَّيرة، فكانت حيرة
الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يراه من أفعال هؤلاء وهو لا يعرف حقيقتها.
فقوله:
{ وَضَلَّ عَنْهُم.. } [النحل: 87].
أي: غاب عنهم:
{ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [النحل: 87].
أي: يكذبون من ادعائهم آلهة وشفعاءَ من دون الله.
ثم يقول الحق سبحانه: { الَّذِينَ كَفَرُواْ.. }.
(/1972)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
هنا فرْق بين الكفر والصَّدِّ عن سبيل الله، فالكفر ذنب ذاتيّ يتعلق بالإنسان
نفسه، لا يتعدّاه إلى غيره.. فَاكفُرْ كما شئت والعياذ بالله ـ أنت حر!!
أما الصدُّ عن سبيل الله فذنبٌ مُتعدٍّ، يتعدَّى الإنسان إلى غيره، حيث يدعو غيره
إلى الكفر، ويحمله عليه ويُزيّنه له.. فالذنب هنا مضاعف، ذنب لكفره في ذاته، وذنب
لصدّه غيره عن الإيمان، لذلك يقول تعالى في آية أخرى:{ وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ.. }[العنكبوت: 13].
فإنْ قال قائل: كيف وقد قال تعالى:{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىا..
}[الأنعام: 164].
نقول: لا تعارضَ بين الآيتين، فكل واحد سيحمل وزْره، فالذي صَدَّ عن سبيل الله
يحمل وِزْرَيْن، أما مَنْ صدَّه عن سبيل الله فيحمل وِزْر كفره هو.
وقوله:
{ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ.. } [النحل: 88].
العذاب الأول على كفرهم، وزِدْناهم عذاباً على كفر غيرهم مِمَّنْ صدُّوهم عن سبيل
الله.
ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ سَنَّ سُنة حسنة فله أجرها
وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة، ومَنْ سَنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَنْ
عمل بها إلى يوم القيامة ".
فإياك أنْ تقعَ عليك عيْن المجتمع أو أُذنه وأنت في حال مخالفة لمنهج الله؛ لأن
هذه المخالفة ستؤثر في الآخرين، وستكون سبباً في مخالفة أخرى بل مخالفات، وسوف
تحمل أنتَ قِسْطاً من هذا.. فأنت مسكين تحمل سيئاتك وسيئات الآخرين.
وقوله:
{ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [النحل: 88].
والإفساد: أنْ تعمدَ إلى شيء صالح أو قريب من الصلاح فتُفسده، ولو تركتَه وشأنه
لربما يهتدي إلى منهج الله.. إذن: أنت أفسدتَ الصالح ومنعت القابل للصلاح أن
يُصلح.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي... }.
(/1973)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله:
{ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ.. } [النحل: 89].
يعني من جنسهم. والمراد: أهل الدعوة إلى الله من الدُّعَاة والوعاظ والأئمة الذين
بلّغوا الناس منهج الله، هؤلاء سوف يشهدون أمام الله سبحانه على مَنْ قصّر في منهج
الله.
وقد يكون معنى:
{ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ.. } [النحل: 89].
أي: جزء من أجزائهم وعضواً من أعضائهم، كما قال تعالى:{ يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ }[النور: 24].
وقوله:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا... }[فصلت: 21].
والشهيد إذا كان من ذات الإنسان وبعض من أبعاضه فلا شكَّ أن حجته قوية وبيّنته
واضحة.
وقوله:
{ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىا هَـاؤُلآءِ } [النحل: 89].
أي: شهيداً على أمتك كأنه صلى الله عليه وسلم شهيد على الشهداء.
{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ.. } [النحل: 89].
الكتاب: القرآن الكريم.. تبياناً: أي بياناً تاماً لكل ما يحتاجه الإنسان، وكلمة
(شيء) تُسمّى جنس الأجناس. أي: كل ما يُسمّى " شيء " فبيانُه في كتاب
الله تعالى.
فإنْ قال قائل: إنْ كان الأمر كذلك، فلماذا نطلب من العلماء أن يجتهدوا لِيُخرجوا
لنا حُكْماً مُعيّناً؟
نقول: القرآن جاء معجزة، وجاء منهجاً في الأصول، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى لرسوله
صلى الله عليه وسلم حق التشريع، فقال تعالى:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ.. }[الحشر: 7].
إذن: فسُنة الرسول صلى الله عليه وسلم قَوْلاً أو فِعْلاً أو تقريراً ثابتة
بالكتاب، وهي شارحة له ومُوضّحة، فصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات، فأين هذا في كتاب
الله؟ نقول في قوله تعالى:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ... }[الحشر: 7].
" وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القضية حينما أرسل معاذ بن جبل
رضي الله عنه ـ قاضياً لأهل اليمن، وأراد أن يستوثق من إمكانياته في القضاء.
فسأله: " بِمَ تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإنْ لم تجد؟ قال: فبُسنة رسول
الله، قال: فإنْ لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو ـ أي لا أُقصّر في الاجتهاد.
فقال صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي
الله ورسوله ".
إذن: فالاجتهاد مأخوذ من كتاب الله، وكل ما يستجد أمامنا من قضايا لا نصّ فيها، لا
في الكتاب ولا في السنة، فقد أبيح لنا الاجتهادُ فيها.
ونذكر هنا أن الإمام محمد عبده ـ رحمه الله ـ حُدِّث عنه وهو في باريس أن أحد
المستشرقين قال له: أليس في آيات القرآن:{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن
شَيْءٍ.. }[الأنعام: 38].
قال: بلى، قال له: فهات لي من القرآن: كم رغيفاً يوجد في أردب القمح؟
فقال الشيخ: نسأل الخباز فعنده إجابة هذا السؤال.. فقال المستشرق: أريد الجواب من
القرآن الذي ما فرط في شيء، فقال الشيخ: هذا القرآن هو الذي علَّمنا فيما لا نعلم
أن نسأل أهل الذكر فقال:
{ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }[الأنبياء: 7].
إذن: القرآن أعطاني الحجة، وأعطاني ما أستند إليه حينما لا أجد نصاً في كتاب الله،
فالقرآن ذكر القواعد والأصول، وأعطاني حَقَّ الاجتهاد فيما يعِنّ لي من الفروع،
وما يستجدّ من قضايا، وإذا وُجِد في القرآن حكم عام وجب أن يُؤخذ في طيّه ما يُؤخذ
منه من أحكام صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله وكله.
فقال:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ..
}[الحشر: 7].
وكذلك الإجماع من الأمة؛ لأن الله تعالى قال:{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىا.. }[النساء: 115].
وكل اجتهاد يُرَدُّ إلى أهل الاجتهاد:{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىا
أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ..
}[النساء: 83].
إذن: فكلّ ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الإجماع وعن الأئمة المجتهدين
موجود في القرآن، فهو إذن صادق.
ويجب هنا أن نُفرّق بين الأشياء والقضايا فهي كثيرة، فما الذي يتعرّض له القرآن؟
يتعرض القرآن للأحكام التكليفية المطلوبة من العبد الذي آمن بالله، وهناك أمور
كونية لا يتأثر انتفاع الإنسان بها بأنْ يعلمها، فهو ينتفع بها سواء علمها أو
جهلها، فكوْنُ الأرض كُروية الشكل، وكَوْنها تدور حول الشمس، وغير هذه الأمور من
الكونيات إنْ علمها فبها ونعمتْ، وإنْ جهلها لا يمنعه جهله من الانتفاع بها.
فالأُميّ الذي يعيش في الريف مثلاً ينتفع بالكهرباء، وهو لا يعلم شيئاً عن طبيعتها
وكيفية عملها، ومع ذلك ينتفع بها، مجرد أن يضع أصبعه على زِرّ الكهرباء تُضيء له.
فلو أن الحق تبارك وتعالى أبان الآيات الكونية إبانةً واضحة ربما صَدَّ العرب
الذين لا يعرفون شيئاً عن حركة الكون، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مقاصد
القرآن حول الآيات الكونية؛ ولذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الأهِلّة، كما حكى القرآن الكريم:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ.. }[البقرة:
189].
والأهلة: جمع هلال، وهو ما يظهر من القمر في بداية الشهر حيث يبدو مثل قلامة
الظفر، ثم يزداد تدريجياً إلى أنْ يصل إلى مرحلة البدر عند تمام استدارته، ثم
يتناقص تدريجياً أيضاً إلى أنْ يعودَ إلى ما كان عليه، هذه عجيبة يرونها بأعينهم،
ويسألون عنها.
ولكن، كيف رَدَّ عليهم القرآن؟ لم يُوضح لهم القرآن الكريم كيف يحدث الهلال، وأن
الأرض إذا حالتْ بين الشمس والقمر وحجبت عنه ضوء الشمس نتج عن ذلك وجود الهلال
ومراحله المختلفة.
فهذا التفصيل لا تستوعبه عقولهم، وليس لديهم من الثقافة ما يفهمون به مثل هذه
القضايا الكونية؛ لذلك يقول لهم: اصرفوا نظركم عن هذه، وانظروا إلى حكمة الخالق
سبحانه في الأهلة:
{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.. }[البقرة: 189].
فردّهم إلى أمر يتعلق بدينهم التقليدي، فاهتمّ ببيان الحكمة منها، وفي نفس الوقت
ترك هذه المسألة للزمن يشرحها لهم، حيث سيجدون في القرآن ما يُعينهم على فَهْم هذا
الموضوع.
إذن: قوله تعالى:{ مِن شَيْءٍ.. }[الأنعام: 38].
أي: من كل شيء تكليفيّ، إنْ فعله المؤمن أثيب، وإنْ لم يفعله يُعاقب، أما الأمور
الكونية فيعطيهم منها على قدر وَعْيهم لها، ويترك للزمن مهمة الإبانة بما يحدث فيه
من فكر جديد.
لذلك نرى القرآن الكريم لم يفرغ عطاءه كله في القرآن الذي نزل فيه، فلو فعل ذلك
لاستقبل القرون الأخرى بغير عطاء، فالعقول تتفتّح على مَرِّ العصور وتتفتّق عن فكر
جديد، ولا يصح أنْ يظلَّ العطاء الأول هو نفسه لا يتجدد، لا بُدَّ أن يكون لكل قرن
عطاء جديد يناسب ارتقاءات البشر في علومه الكونية. " والرسول صلى الله عليه
وسلم حينما رأى الناس يُؤبّرون النخل، أي: يُلقّحونه. وهو ما يُعرف بعملية
الإخصاب، حيث يأخذون من الذكر ويضعون في الأنثى، فماذا قال لهم؟ قال: لو لم تفعلوا
لأثمر، ففي الموسم القادم تركوا هذه العملية فلم يُثمر النخل، فلما سئل صلى الله
عليه وسلم قال: " أنتم أعلم بشئون دنياكم ".
فهذا أمر دنيوي خاضع للتجربة ووليد بَحْث معمليّ، وليس من مهمة الرسول صلى الله
عليه وسلم توضيح هذه الأمور التي يتفق فيها الناس وتتفق فيها الأهواء، إنما
الأحكام التكليفية التي تختلف فيها الأهواء فحسمها الحق بالحكم.
فمثلاً في العالم موجاتٌ مادية تهتم بالاكتشافات والاختراعات والاستنباطات التي
تُسخر أسرار الكون لخدمة الإنسان، فهل يختلف الناس حول مُعْطيات هذه الموجة
المادية؟ هل نقول مثلاً: هذه كهرباء أمريكاني، وهذه كهرباء روسي؟ هل نقول: هذه
كيمياء إنجليزي، وهذه كيمياء ألماني؟
فهذه مسألة وليدة المعمل والتجربة يتفق فيها كل الناس، في حين نجدهم يختلفون في
أشياء نظرية ويتحاربون من أجلها، فهذه اشتراكية، وهذه رأسمالية، وهذه وجودية، وتلك
علمانية.. الخ، فجاء الدين ليحسمَ ما تختلف فيه الأهواء.
لذلك نرى كل معسكر يحاول أنْ يسرقَ ما توصَّل إليه المعسكر الآخر من اكتشافات
واختراعات، ويرسل جواسيسه ليتابعوا أحداث ما توصّل إليه غيرهم، فهل يسرقون الأمور
النظرية أيضاً؟ لا.. بل على العكس تجدهم يضعون الحواجز والاحتياطات لكي لا تنتقل
هذه المبادئ إلى بلادهم وإلى أفكار مواطنيهم.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من نفسه مثالاً ونموذجاً لتوضيح هذه المسألة،
مع أنه قد يقول قائل: لا يصح في حَقّ رسول الله أن يُشير على الناس بشيء ويتضح خطأ
مشورته، إنما الرسول هنا يريد أنْ يُؤصّل قاعدة في نفوس المتكلمين في شئون الدين:
إياكم أنْ تُقحِموا أنفسكم في الأمور المادية المعملية التطبيقية، فهذه أمور يستوي
فيها المؤمن والكافر.
ولذلك عندما اكتشف العلماء كُروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس اعترض على ذلك بعض
رجال الدين ووضعوا أنوفهم في قضية لا دَخْل للدين فيها، وقد حذرهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم من ذلك.
وما قولكم بعد أن صعد العلماء إلى كواكب أخرى، وصوروا الأرض، وجاءت صورتها كُروية
فعلاً؟ فلا تفتحوا على أنفسكم باسم الدين باباً لا تستطيعون غَلْقه.
وقوله تعالى:
} وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىا لِلْمُسْلِمِينَ { [النحل: 89].
الحق تبارك وتعالى وصف القرآن هنا بأنه (هُدىً)، فإذا كان القرآن قد نزل تبياناً
فكان التوافق يقتضي أن يقول: وهادياً، لكن لم يَصف القرآن بأنه هادٍ، بل هُدىً،
وكأنه نفس الهدى؛ لأن هادياً ذاتٌ ثبت لها الهداية، إنما هُدى: يعني هو جوهر
الهدى، كما نقول: فلان عادل. وفي المبالغة نقول: فلان عَدْل. كأن العَدْل مجسّم
فيه، وليس مجرد واحد ثبتت له صفة العدل.
وكذلك مثل قولنا عالم وعليم، وقد قال تعالى:{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
}[يوسف: 76].
فما معنى الهدى؟ هو الدلالة على الطريق الموصّل للغاية من أقرب الطرق.
} وَرَحْمَةً { مرّة يُوصَف القرآن بأنه رحمة، ومرة بأنه:{ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ
}[الإسراء: 82].
والشفاء: أن يُوجد داء يعالجه القرآن، والرحمة: هي الوقاية التي تمنع وجود الداء،
وما دام القرآن كذلك فمَنْ عمل بمنهجه فقد بُشِّر بالثواب العظيم من الله تعالى،
الثواب الخالد في نعيم دائم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ... {.
(/1974)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
للحق تبارك وتعالى في هذه الآية ثلاثة أوامر: العدل، والإحسان، وإيتاء ذي
القُرْبى. وثلاثة نَواهٍ: عن الفحشاء والمنكر والبغي. ولما نزلت هذه الآية قال ابن
مسعود: أجمعُ آيات القرآن للخير هذه الآية لأنها جمعتْ كل الفضائل التي يمكن أن
تكون في القرآن الكريم.
" ولذلك سيدنا عثمان بن مظعون كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب له أن
يُسلِم، وكان يعرض عليه الإسلام دائماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحب
عَرْض الإسلام على أحد إلا إذا كان يرى فيه مخايل وشِيَماً تحسن في الإسلام.
وكأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضَنَّ بهذه المخايل أن تكون في غير مسلم، لذلك كان
حريصاً على إسلامه وكثيراً ما يعرضه عليه، إلا أن سيدنا عثمان بن مظعون تريَّث في
الأمر، إلى أن جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس، فرآه رفع بصره إلى
السماء ثم تنبه، فقال له ابن مظعون: ما حدث يا رسول الله؟ فقال: إن جبريل ـ عليه
السلام ـ قد نزل عليَّ الساعة بقول الله تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىا
وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ } [النحل: 90].
قال ابن مظعون ـ رضي الله عنه: فاستقر حبُّ الإيمان في قلبي بهذه الآية الجامعة
لكل خصال الخير.
ثم ذهب فأخبر أبا طالب، فلما سمع أبو طالب ما قاله ابن مظعون في هذه الآية قال: يا
معشر قريش آمِنُوا بالذي جاء به محمد، فإنه قد جاءكم بأحسن الأخلاق ".
" ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرض نفسه على قبائل العرب،
وكان معه أبو بكر وعلي، قال علي: فإذا بمجلس عليه وقار ومَهَابة، فأقبل عليهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله،
فقام إليه مقرون بن عمرو وكان من شيبان ابن ثعلبة فقال: إلى أي شيء تدعونا يا أخا
قريش؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىا
وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ } [النحل: 90].
فقال مقرون: إنك دعوت إلى مكارم الأخلاق وأحسن الأعمال، أفِكتْ قريش إن خاصمتْك
وظاهرتْ عليك ".
أخذ عثمان بن مظعون هذه الآية ونقلها إلى عكرمة بن أبي جهل، فأخذها عكرمة ونقلها
إلى الوليد بن المغيرة، وقال له: إن آية نزلت على محمد تقول كذا وكذا، فأفكر
الوليد بن المغيرة ـ أي: فكَّر فيما سمع ـ وقال: والله إن له لحلاوةً، وإن عليه
لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يُعْلَى عليه، وما هو
بقول بشر.
ومع شهادته هذه إلا أنه لم يؤمن، فقالوا: حَسْبُه أنه شهد للقرآن وهو كافر.
وهكذا دخلتْ هذه الآيةُ قلوبَ هؤلاء القوم، واستقرتْ في أفئدتهم؛ لأنها آيةٌ جامعةٌ
مانعةٌ، دعَتْ لكل خير، ونَهتْ عن كل شر.
قوله: } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.. { [النحل: 90].
ما العدل؟ العدل هو الإنصاف والمساواة وعدم الميْل؛ لأنه لا يكون إلا بين شيئين
متناقضين، لذلك سُمِّي الحاكم العادل مُنْصِفاً؛ لأنه إذا مَثَلَ الخصمان أمامه
جعل لكل منهما نصفَ تكوينه، وكأنه قسَم نفسه نصفين لا يميل لأحدهما ولا قَيْد
شعرة، هذا هو الإنصاف.
ومن أجل الإنصاف جُعِل الميزان، والميزان تختلف دِقّته حَسْب الموزون، فحساسية
ميزان البُرّ غير حساسية ميزان الجواهر مثلاً، وتتناهى دقّة الميزان عند أصحاب
صناعة العقاقير الطبية، حيث أقلّ زيادة في الميزان يمكن أن تحوّل الدواء إلى
سُمٍّ، وقد شاهدنا تطوراً كبيراً في الموازين، حتى أصبحنا نزن أقلّ ما يمكن
تصوّره.
والعدل دائر في كل أقضية الحياة من القمة في شهادة ألا إله إلا الله إلى إماطة
الأذى عن الطريق، فالعدل مطلوب في أمور التكليف كلها، في الأمور العقدية التي هي
عمل القلب، وكذلك مطلوب في الأمور العملية التي هي أعمال الجوارح في حركة الحياة.
فكيف يكون العدل في الأمور العقدية؟
لو نظرنا إلى معتقدات الكفار لوجدنا بعضهم يقول بعدم وجود إله في الكون، فأنكروا
وجوده سبحانه مطلقاً، وآخرون يقولون بتعدُّد الآلهة، هكذا تناقضتْ الأقوال
وتباعدتْ الآراء، فجاء العدل في الإسلام، فالإله واحد لا شريك له، مُنزّه عَمّا
يُشبه الحوادث، كما وقف موقفَ العدل في صفاته سبحانه وتعالى.
فلله سَمْع، ولكن ليس كأسماع المحدثات، لا ننفي عنه سبحانه مثل هذه الصفات فنكون
من المعطّلة، ولا نُشبّهه سبحانه بغيره فنكون من المشبِّهة، بل نقول: ليس كمثله
شيء، ونقف موقف العَدْل والوسطية.
كذلك من الأمور العقدية التي تجلَّى فيها عدل الإسلام قضية الجبر والاختيار، حيث
اختار موقفاً وسطاً بين مَنْ يقول إن الإنسان يفعل أفعاله باختياره دون دَخْل لله
سبحانه في أعمال العبد؛ ولذلك رتَّبَ عليها ثواباً وعقاباً. ومن يقول: لا؛ بل كل
الأعمال من الله والعبد مُجْبَر عليها.
فيأتي الإسلام بالعدالة والوسطية في هذه القضية فيقول: بل الإنسان يعمل أعماله
الاختيارية بالقوة التي خلقها الله فيه للاختيار.
وفي التشريع والأحكام حدث تبايُن كبير بين شريعة موسى عليه السلام وبين شريعة عيسى
عليه السلام ـ في القصاص مثلاً: في شريعة موسى حيث طغتْ المادية على بني إسرائيل
حتى قالوا لموسى عليه السلام:{ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً.. }[النساء: 153].
فهم لا يفهمون الغيب ولا يقتنعون به، فكان المناسب لهم القِصَاص ولا بُدَّ، ولو
تركهم الحق سبحانه لَكَثُر فيهم القتل، فهم لا ينتهون إلا بهذا الحُكْم الرادع:
مَنْ قتَل يُقتلُ، والقتل أنْفى للقتل.
وقد تعدّى بنو إسرائيل في طلبهم رؤية الله، فكوْنُك ترى الإله تناقض في الألوهية؛
لأنك حين تراه عينُك فقد حددّتَه في حيّز.
إذن: كونه لا يرى عَيْن الكمال فيه سبحانه وتعالى. وكيف نطمع في رؤيته جَلَّ
وعلاَ، ونحن لا نستطيع رؤية حتى بعض مخلوقاته، فالروح التي بين جَنْبي كل مِنّا
ماذا نعرف عن طبيعتها وعن مكانها في الجسم، وبها نتحرك ونزاول أعمالنا، وبها
نفكّر، وبها نعيش، أين هي؟!
فإذا ما فارقتْ الروح الجسم وأخذ الله سره تحول إلى جيفة يسارع الناس في مواراتها
التراب. هل رأيت هذه الروح؟ هل سمعتها؟ هل أدركتها بأي حاسّة من حواسِّك؟!
فإذا كانت الروح وهي مخلوقة لله يعجز العقل عن إدراكها، فكيف بمَنْ خلق هذه الروح؟
فمن عظمته سبحانه أنه لا تُدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.
كذلك هناك أشياء مما يتطلبها الدين كالحق مثلاً، وهو معنًى من المعاني التي
يدّعيها كل الناس، ويطلبون العمل بها، هذا الحق ما شَكْله؟ ما لونه؟ طويل أم
قصير؟! فإذا كُنّا لا نستطيع أن نتصوّر الحق وهو مخلوق لله سبحانه، فكيف نتصور
الله ونطمع في رؤيته؟!
ومن إسراف بني إسرائيل في المادية أن جعلوا لله تعالى في التلمود جماعة من
النقباء، وجعلوه سبحانه قاعداً على صخرة يُدلي رِجْليْه في قصعة من المرمر، ثم أتى
حوت.. الخ.. سبحان الله؛ ألهذا الحدِّ وصلتْ بهم المادية؟
ومن هنا كان الكون في حاجة إلى طاقة روحية، تكون هي أيضاً مُسرفة في الروحانية
ليحدث نوع من التوازن في الكون، فجاءت شريعة عيسى ـ عليه السلام ـ بعد مادية
مُفْرطة وإسراف في الموسَوية، فكيف يكون حُكْم القصاص فيها وهي تهدف إلى أنْ تسموَ
بروحانيات الناس؟
جاءت شريعة عيسى عليه السلام تُهدّيء الموقف إذا حدث قتل، فيكفي أن قُتِل واحد
ولنستبقي الآخر ولا نثير ضجّة، ونهيج الأحقاد والترة بين الناس، فدَعَتْ هذه
الشريعة إلى العفو عن القاتل.
ثم جاء الإسلام ووقف موقف العدل والوسطية في هذا الحكم، فأقرّ القصاص ودعا إلى العفو،
فأعطى وليَّ المقتول حَقّ القصاص، ودعاه في نفس الوقت إلى العفو في قوله تعالى:{
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ
إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ.. }[البقرة: 178].
ونلاحظ هنا أن القرآن جعلهم إخوة لِيُرقّق القلوب ويُزيل الضغائن.
وللقصاص في الإسلام حكَم عالية، فليس الهدف منه أن يُضخّم هذه الجريمة، بل يهدف
إلى حفظ حياة الناس كما قال تعالى:{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي
الأَلْبَابِ }[البقرة: 179].
فمن أراد أنْ يحافظَ على حياته فلا يُهدد حياة الآخرين.
وحينما يُعطي ربُّنا تبارك وتعالى حقَّ القصاص لوليّ المقتول ويُمكِّنه منه تبردُ
ناره، وتهدأ ثورته، فيفكر في العفو وهو قادر على الانتقام، وهكذا ينزع هذا الحكمُ
الغِلَّ من الصدور ويُطفِيء نار الثأر بين الناس.
ولذلك نرى في بعض البلاد التي تنتشر فيها عملية الثأر يأتي القاتل حاملاً كفنه على
يده إلى وليّ المقتول، ويضع نفسه بين يديه مُعترفاً بجريمته: هاأنا بين يديْك
اقتلني وهذا كفنِي.
ما حدث ذلك أبداً إلا وعفا صاحب الحق ووليّ الدم، وهذا هو العدل الذي جاء به
الإسلام، دين الوسطية والاعتدال.
هذا العفو من وليّ الدم أداةُ بِنَاء، ووسيلة محبة، فحين نعطيه حَقّ القصاص، ثم هو
يعفو، فقد أصبحت حياة القاتل هبةً من وليّ الدم، فكأنه استأثره واستبقاه بعفوه
عنه، وهذا جميل يحفظه أهل القاتل، ويقولون: هذا حَقَن دم ابننا.
موقف آخر لعدالة الإسلام ووسطيته نراها في حُكْم الحيض مثلاً، ففي شريعة موسى ـ
عليه السلام ـ يُخرج الزوج زوجته من البيت طوال مدة الحيض لا يجمعهما بيت واحد.
وفي شريعة عيسى ـ عليه السلام ـ لا مانع من وجودها في البيت، ولا مانع من معاشرتها
والاستمتاع بها.
فجاء الإسلام بالعدل في هذه القضية فقال: تبقى المرأة الحائض في بيتها لا تخرج
منه، ولكن لا يقربها الزوج طوال مدة الحيض، فقال تعالى:{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىا يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ }[البقرة: 222].
وكذلك لو أخذنا الناحية الاقتصادية في حياتنا، والتي هي عصب الحياة، والتي بها يتم
استبقاء الحياة بالطعام والشراب والملْبس وغيره، وبها يتم استبقاء النوع بالزواج،
وكُل هذا يحتاج إلى حركة إنتاج، وإلى حركة استهلاك، وبالإنتاج والاستهلاك تستمر
الحياة، ولو توقف أحدهما لحدث في المجتمع بطالة وفساد.
وبناء عليه وزّع الحق سبحانه وتعالى المواهب بين العباد، فما أعرفه أنا أخدم به
الكل، وما يعرفه الكل يَخدمني به، وهكذا تستمر حركة الحياة.
والكون الذي تعيش فيه أنت لك فيه مصالح وتُراودك فيه آمال، فإنْ شاركتَ في حركة
الحياة واكتسبتَ المال الذي هو عصبُ الحياة فعليك أن تُوازنَ بين متطلباتك العاجلة
وآمالك في المستقبل.
فلو أنفقتَ جميع ما اكتسبت في نفقاتك الحاضرة فقد ضيَّعتَ على نفسك تحقيق الآمال
في المستقبل، فلن تجد ما تبني به بيتاً مثلاً أو تشتري به سيارة، أو ترتقي بمستواك
ببعض كماليات الحياة. وهذا ما نسميه الإسراف.
وفي المقابل، كما لا يليق بك الإسراف حتى لا يبقى عندك شيء، وكذلك لا يليق بك
التقتير والبخل والإمساك فتكنز كل ما تكتسب، ولا تنفق إلا ما يُمسِك الرمَق؛ لأنك في
هذه الحالة لن تساهم في عملية الاستهلاك، فتكون سبباً في بطالة المجتمع وفساد
حاله.
وقد عالج القرآن هذه القضية علاجاً دقيقاً في قوله تعالى:{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلَىا عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُوماً مَّحْسُوراً }
[الإسراء: 29].
أي: لا تُمسك يدك بُخْلاً وتقتيراً، فتكون ملُوماً من أهلك وأولادك، ومن الدنيا من
حولك، فيكرهك الجميع، وكذلك لا تبسط يدك بالإنفاق بَسْطاً يصل إلى حَدّ الإسراف
والتبذير، فيفوتك تحقيق الآمال وتتحسَّر حينما ترى المقتصد قد حقَّق ما لم تستطع
أنت تحقيقه من آمال الحياة، وترقّى هو في حياته وأنت مُعْدم لا تملك شيئاً، فكان
عليك أن تدّخر جُزْءاً من كَسْبك يمكنك أن ترتقي به حينما تريد.
ولذلك قال تعالى:{ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ
}[الإسراء: 27].
وقال:{ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً }[الفرقان: 67].
إذن: فالعَدْل أمر دائر في كل حركات التكليف، سواء كان تكليفاً عَقَدياً، أو
تكليفاً بواسطة الأعمال في حركة الحياة، فالأمر قائم على الوسطية والاعتدال، ومن
هنا قالوا: خَيْر الأمور الوسط.
وقوله: } وَالإحْسَانِ.. { [النحل: 90].
ما الإحسان؟
إذا كان العدل أن تأخذ حقَّك، وأنْ تُعاقب بمثل ما عُوقبت به كما قال تعالى:{
فَمَنِ اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىا
عَلَيْكُمْ.. }[البقرة: 194].
وقوله:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ..
}[النحل: 126].
فالإحسان أنْ تتركَ هذا الحق، وأنْ تتنازلَ عنه ابتغاءَ وجه الله، عملاً بقوله
تعالى:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].
والناس في الإحسان على مراتب مختلفة حسب قدرة الإنسان واستِعداده الخُلقي.
وأول هذه المراتب كظم الغيظ، من كَظْم القِرْبة المملوءة، فالإنسان يكظم غَيْظه في
نفسه، ويحتمل ما يَعتلج بداخله على المذنب دون أن يتعدَّى ذلك إلى الانفعال والردّ
بالمثل، ولكنه يظل يعاني ألم الغيظ بداخله وتتأجج ناره في قلبه.
لذلك يحسُن الترقي إلى المرتبة الأعلى، وهي مرتبة العفو، فيأتي الإنسان ويقول:
لماذا أدَعْ نفسي فريسة لهذا الغيظ؟ لماذا أشغل به نفسي، وأُقَاسي ألمه ومرارته؟
فيميل إلى أنْ يُريح نفسه ويقتلع جذور الغيظ من قلبه، فيعفو عمَّنْ أساء إليه،
ويُخرِج المسألة كلها من قلبه.
فإنِ ارتقى الإنسان في العفو، سعى المرتبة الثالثة، وهي مرتبة أن تُحسن إلى مَنْ
أساء إليك، وتزيد عما فرضَ لك حيث تنازلتَ عن الردِّ بالمثل، وارتقيتَ إلى درجة
العارفين بالله، فالذي اعتدى اعتدى بقدرته، وانتقم بما يناسبه، والذي ترقّى في
درجات الإحسان ترك الأمر لقدرة الله تعالى، وأيْن قدرتُك من قدرة ربك سبحانه
وتعالى؟
إذن: فالإحسان اجمل بالمؤمن، وأفضل من الانتقام.
لكن كيف يصل الأمر إلى أنْ تعفوَ عمَّنْ أساء، بل إلى أنْ تُحسِن إليه؟
نقول: هَبْ أن لك ولديْن اعتدى أحدهما على الآخر وأساء إليه، فماذا يكون موقفك
منهما؟ وإلى أيّهما يميل قلبك؟
لا شكَّ أن القلب هنا يميل إلى المعتدى عليه، وقد يتعدَّى الأمر إلى أنْ تُرضيه
بهدية وتُريه من حنانك وألطافك ما يُذهِب عنه ما يُعاني، والسبب في ذلك إساءة أخيه
له فهي التي عطفَتْ قلبك إليه، وعادتْ عليه بالهدايا والألطاف.
إذن: من الطبيعي أنْ يُحسِنَ المعتَدى عليه إلى المعتدِي، وأنْ يشكرَ له أنْ
تسبَّب له في هذه النعم؛ ولذلك يقول الحسن البصري ـ رحمه الله: أفلا أُحسِن لمن
جعل الله في جانبي؟
فالإحسان: أنْ تصنع فوق ما فرض الله عليك، بشرط أن يكونَ من جنس ما فرض الله عليك،
ومن جنس ما تعبَّدنا الله به، فمثلاً تعبدنا الله بخمس صلوات في اليوم والليلة فلا
مانعَ من الزيادة عليها من جنسها، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج. والإحسان
هنا يكون بزيادة ما فرضه الله علينا.
وقد يكون الإحسان في الكيفية دون زيادة في العمل، فلا أزيد مثلاً عن خمس صلوات،
ولكن أُحسِن ما أنا بصدده من الفرْض، وأُتقِن ما أنا فيه من العمل، وأُخلِص في ذلك
عملاً بحديث جبريل عليه السلام ـ حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الإحسان، فقال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكُنْ تراه فإنه
يراك ".
فعليك أن تستحضر في عبادتك ربك عز وجل بجلاله وجماله وكماله، فإنْ لم تصل إلى هذه
المرتبة فلا أقلّ من أن تؤمن أنه يراك ويطلع عليك، وهذه كافية لأنْ تُعطي العبادة
حقّها ولا تسرق منها، فاللصُّ لا يجرؤ على سرقة البيت وهو يعلم أن صاحبه يراه،
فإذا كنا نفعل ذلك مع بعضنا البعض فيخشى أحدنا نظر الآخرين، أيليق بنا أنْ نتجرأ
على الله ونحن نعلم نظره إلينا؟!
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي: " يا عبادي، إنْ كنتم
تعتقدون أَنِّي لا أراكم فالخلَل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أني أراكم، فَلِمَ
جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ ".
وقال بعضهم في معنى العدل والإحسان:
العدل: أن تستوي السريرة مع العلانية.
والإحسان: أن تعلو السريرة وتكون افضل من العلانية.
والمنكر: إنْ علَتْ العلانية على السريرة.
وقوله تعالى: } وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىا { [النحل: 90].
إيتاء: أي إعطاء.
قالوا: لأن العالم حَلَقات مقترنة، فكل قادر حوله أقرباء ضُعفَاء محتاجون، فلو
أعطاهم من خيْره، وأفاض عليهم مِمّا أفاض الله عليه لَعَمَّ الخير كل المجتمع، وما
وجدنا مُعْوزاً محتاجاً؛ ذلك لأن هذه الدوائر ستشمل المجتمع كله، كل قادر يُعطي مَنْ
حوله.
وقد تتداخل هذه الدوائر فتلتحم العطاءات وتتكامل، فلا نرى في مجتمعنا فقيراً، وقد
حثتْ الآية على القريب، وحنَّنَتْ عليه القلوب؛ لأن البعيد عنك قريب لغيرك، وداخل
في دائرة عطاء أخرى.
وقد يكون الفقير قريباً لعدة أطراف يأخذ من هذا ويأخذ من هذا، وبذلك تتكامل الحياة
وتستطرق موارد العيش لكل الناس.
وقالوا: المراد هنا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن قرابة النبي صلى الله
عليه وسلم حرَّمتْ عليهم الزكاة التي أُحِلَّت لغيرهم من الفقراء، وأصبح لهم
مَيْزة يمتازون بها عن قرابة الرسول، ولا يليق بنا أن نجعل قرابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم في حاجة إلى الزكاة، وإنْ كان أقرباؤكم أصحابَ رحم، فلا تنسوا أن
قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَوْلى من أرحامكم، كما قال تعالى:
{ النَّبِيُّ أَوْلَىا بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.. }[الأحزاب: 6].
هذه هي مجموعة الأوامر الواردة في هذه الآية، وإنَّ مجتمعاً يُنفِّذ مثل هذه
الأوامر ويتحلَّى بها أفراده، مجتمع ترتقي فيه الاستعدادات الخُلقية، إلى أن يترك
الإنسان العقوبة والانتقام ويتعالى عن الاعتداء إلى العفو، بل إلى الإحسان، مجتمع
تعمُّ فيه النعمة، ويستطرق فيه الخير إلى كل إنسان.
إن مجتمعاً فيه هذه الصفات لَمجتمعٌ سعيد آمِنٌ يسوده الحب والإيمان والإحسان، إنه
لجدير بالصدارة بين أمم الأرض كلها.
وقوله:
} وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ.. { [النحل: 90].
وهذه مجموعة من النواهي تمثل مع الأوامر السابقة منهجاً قرآنياً قويماً يضمن سلامة
المجتمع، وأُولى هذه النواهي النهي عن الفحشاء أو الفاحشة، والمتتبع لآيات القرآن
الكريم سيجد أن الزنا هو الذنب الوحيد الذي سماه القرآن فاحشة، فهي إذن الزنا، أو
كل شيء يخدش حُكْماً من أحكام الله تعالى، ولكن لماذا الزنا بالذات؟
نقول: لأن كل الذنوب الأخرى غير الزنا إنما تتعلق بمحيطات النفس الإنسانية، أما
الزنا فيتعلَّق بالنفس الإنسانية ذاتها، ويترتب عليه اختلاط الأنساب وبه تدنَسُ
الأعراض، وبه يشكُّ الرجل في أهله وأولاده، ويحدث بسبب هذا من الفساد ما لا يعلمه
إلا الله؛ لذلك نصَّ عليه القرآن صراحة في قوله تعالى:{ وَلاَ تَقْرَبُواْ
الزِّنَىا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً }[الإسراء: 32].
ومن أقوال العلماء في الفاحشة: أنها الذنب العظيم الذي يخجل صاحبه منه ويستره عن
الناس، فلا يستطيع أنْ يُجاهر به، كأنه هو نفسه حينما يقع فيه يعلم أنه لا يصحّ،
ولا ينبغي لأحد أن يطلع عليه.
(والمنكر) هو الذنب يتجرّأ عليه صاحبه، ويُجاهر به، ويستنكره الناس.
إذن: لدينا هنا مرتبتان من الذنب:
الأولى: أن صاحبه يتحرَّج أن يعرفه المجتمع فيستره في نفسه، وهذا هو الفحشاء.
والثانية: ما تعالم به صاحبه وأنكره المجتمع، وهذا هو المنكر.
(والبغْي) هو الظلم في أيِّ لَوْنٍ من ألوانه، وهو داخل في أشياء كثيرة أعظمها ما
يقع في العقيدة من الشرك بالله، كما قال تعالى:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
}[لقمان: 13].
والظلم هنا أنْ تسلبَ الحق ـ تبارك وتعالى ـ صِفة من صفاته، وتشرك معه غيره وهو
خلقك ورزقك، ومنه ظلم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يُجرَّب عليه في يوم من
الأيام أنْ قال خطبة أو ألقى قصيدة، كما لم يُجرِّب عليه الكذب أو غيره من الصفات
الذميمة، ومع هذا كله قالوا عنه حينما نزل عليه القرآن كذاب وساحر ومجنون، وأيُّ
ظلم أعظم من هذا؟
ومن الظلم ظُلْم الإنسان لنفسه حينما يُحقِّق لها شهوة عاجلة ومُتعةً زائفة،
تُورثه ندماً وحَسْرة وألماً آجلاً، وبذلك يكون قد ظلم نفسه ظلماً كبيراً وجَرَّ
عليها ما لا تطيق، ذلك فَضْلاً عن ظلم الإنسان لغيره بشتى أنواع الظلم وأشكاله.
إذن: الآية انتظمتْ مجموعة من الأوامر والنواهي التي تضمن سلامة المجتمع بما جمعتْ
من مكارم الأخلاق، والأخلاق أعمُّ من أن تكون في الاعتقادات، وأعمُّ من أن تكون في
المعجزة إيماناً بها، وأعمُّ من أن تكون في التكاليف، وأعمُّ من أن تكون في أمر لا
حَدَّ فيه ولا حُكْمَ ولا إثم.
وقوله:
} يَعِظُكُمْ.. { [النحل: 90].
الوعظ: تذكير بالحكم، فعندنا أولاً إعلام بالحكم لكي نعرفه، ولكنه عُرْضة لأنْ
نغفلَ عنه، فيكون الوعظ والتذكير به، ونحتاج إلى تكرار ذلك حتى لا نغفل.
وعادة لا تكون العِظَة إلا فيما له قيمة، وما دام الشيء له قيمة فلا تصطفي له إلا مَنْ
تحب، كذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ يحب خَلْقه وصَنْعته؛ لذلك يَعِظهم ويُذكِّرهم
باستمرار لكي يكونوا دائماً على الجادة ليتمتعوا بنعم المسبِّب في الآخرة، كما
تمتعوا بنعمة الأسباب في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ... {.
(/1975)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
الوفاء: أنْ تفِيَ بما تعاهدتَ عليه، والعهود لا تكون في المفروض عليك، إنما تكون
في المباحات، فأنت حُرٌّ أن تلقاني غداً وأنا كذلك، لكن إذا اتفقنا وتعاهدنا على
اللقاء غداً في الساعة كذا ومكان كذا فقد تحوَّل الأمر من المباح إلى المفروض،
وأصبح كُلٌ مِنَّا ملزماً بأن يفي بعهده؛ لأن كل واحد مِنّا عطَّل مصالحه ورتَّب
أموره على هذا اللقاء، فلا يصح أنْ يفيَ أحدنا ويُخلِف الآخر، لأن ذلك يتسبب في
عدم تكافؤ الفُرص، ومعلوم أن مصالح العبادِ في الدنيا قائمة على الوفاء بالعهد.
وقد ينظر البعض إلى الوفاء بالعهد على أنه مُلْزَمٌ به وحده، أو أنه عِبْءٌ عليه
دون غيره، لكنه في الحقيقة عليك وعلى غيرك، فكما طلب منك الوفاء طلبه كذلك من
الآخرين، فكلّ تكليف لك لا تنظر إليه هذه النظرة، بل تنظر إليه على أنه لصالحك.
فمن أخذ التكليف وأحكام الله من جانبه فقط يتعب، فالحق ـ تبارك وتعالى ـ كما كلفك
لصالح الناس فقد كلَّف الناس جميعاً لصالحك، فحين نهاك عن السرقة مثلاً إياك أنْ
تظنَّ أنه قيّد حريتك أمام الآخرين؛ لأنه سبحانه نهى جميع الناس أن يسرقوا منك،
فمَنِ الفائز إذن؟ أنا قيَّدت حريتك بالحكم، وأنت فرْد واحد، ولكني قيّدتُ جميع
الخلق من أجلك.
كذلك حين أمرك الشرع بغضِّ بصرك على محارم الناس، أمر الناس جميعاً بغضِّ أبصارهم
عن محارمك. إذن: لا تأخذ التكليف على أنه عليك، بل هو لك، وفي صالحك أنت.
كثيرون من الأغنياء يتبرّمون من الإنفاق، ويضيقون بالبذْل، ومنهم مَنْ يَعُد ذلك
مَغْرماً لأنه لا يدري الحكمة من تكليف الأغنياء بمساعدة الفقراء، لا يدري أننا
نُؤمِّن له حياته.
وها نحن نرى الدنيا دُوَلاً وأغياراً، فكم من غنيٍّ صار فقيراً، وكم من قوي صار
ضعيفاً.
إذن: فحينما يأخذ منك وأنت غنيّ نُطمئنك: لا تخَفْ إذا ضاقتْ بك الحال، وإذا تبدّل
غِنَاك فقراً، فكما أخذنا منك في حال الغنى سنُعطيك في حال الفقر، وهكذا يجب أن
تكون نظرتنا إلى الأمور التكليفية.
وقوله تعالى:
{ بِعَهْدِ اللَّهِ... } [النحل: 91].
عهد الله: هو الشيء الذي تعاهد الله عليه، وأول عَهْد لك مع الله تعالى هو الإيمان
به، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلّفك به، وإياك أن
تُخِلّ بأمر من أموره؛ لأن الاختلال في أي أمر تكليفي من الله يُعَدُّ نَقْصاً في
إيمانك؛ لأنك حينما آمنت بالله شهدتَ بما شهد الله به لنفسه سبحانه في قوله
تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ.. }[آل عمران: 18].
فأوّل مَنْ شهد الله سبحانه لنفسه، وهذه شهادة الذات للذات (والملاَئِكة) أي:
شهادة المشاهدة (وَأُولُوا العِلْم) أي: بالدليل والحجة.
إذن: فأوّل عَهْد بينك وبين الله تعالى أنك آمنتَ به إلهاً حكيماً قادراً خالقاً
مُربِّياً، فاستمع إلى ما يطلبه منك، فإنْ لم تستمع وتُنفّذ فاعلم أن العهد
الإيماني الأول قد اختلَّ.
ولذلك، فالحق ـ تبارك وتعالى ـ لم يُكلِّف الكافر، لأنه ليس بينه وبينه عهد، إنما
يُكلِّف مَنْ آمن، فتجد كل آية من آيات الأحكام تبدأ بهذا النداء الإيماني:{
ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... }[البقرة: 183].
كما في قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ... }[البقرة: 183].
فيا مَنْ آمن بي رَباً، ورضيتني إلهاً اسمع مِنِّي؛ لأني سأعطيك قانون الصيانة
لحياتك، هذا القانون الذي يُسعدك بالمسبِّب في الآخرة بعد أن أسعدك بالأسباب في
الدنيا.
وقوله:
} وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.. { [النحل: 91].
الأَيْمان: جمع يمين، وهو الحلف الذي نحلفه ونُؤكِّد عليه فنقول: والله، وعهد
الله.. الخ. إذن: فلا يليق بك أنْ تنقضَ ما أكَّدته من الأَيْمان، بل يلزمك أنْ
تُوفِّي بها؛ لأنك إنْ وفَّيت بها وُفِّي لك بها أيضاً، فلا تأخذ الأمر من جانبك
وحدك، ولكن انظر إلى المقابل.
وكذلك العهد بين الناس بعضهم البعض مأخوذ من باطن العهد الإيماني بالله تعالى؛
لأننا حينما نتعاهد نُشهد الله على هذا العهد، فنقول: بيني وبينك عَهْد الله،
فنُدخل بيننا الحق سبحانه وتعالى لِنُوثِّق ما تعاهدنا عليه، وربنا سبحانه وتعالى
يقول: } وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً... { [النحل: 91].
أي: شاهداً ورقيباً وضامناً.
وقوله:
} إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ { [النحل: 91].
أي: اعلم أن الله مُطَّلع عليك، يعلم خفايا الضمائر وما تُكِنّه الصدور، فاحذر
حينما تعطي العهد أن تعطيه وأنت تنوي أن تخالفه، إياك أنْ تُعطي العهد خِدَاعاً،
فربُّك سبحانه وتعالى يعلم ما تفعل.
ثم يُعقِّب الحق سبحانه: } وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي... {.
(/1976)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الآية مثلاً توضيحياً للذين ينقضون العهد
والأَيْمان، ولا يُوفون بها، بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريْطة بنت عامر، وكانت
تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى الظهر، ثم تأمرهُنَّ بنقض ما غزلنه من الظهر
حتى العصر، والمتأمل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعددة.
أولاً: ما الغزل؟
الغَزْل عملية كان يقوم بها النساء قديماً، فكُنَّ يُحضِرْن المادة التي تصلح
للغزل مثل الصوف أو الوبر ومثل القطن الآن، وهذه الأشياء عبارة عن شعيرات دقيقة
تختلف في طولها من نوع لآخر يُسمُّونها التيلة، فيقولون " هذه تيلة قصيرة
" وهذه طويلة ".
والغَزْل هو أن نُكوِّن من هذه الشعيرات خَيْطاً طويلاً ممتداً وانسيابياً دون عُقَد
فيه لكي يصلح للنسجْ بعد ذلك، وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل. تقوم
المرأة بخلط هذه الشعيرات الدقيقة ثم بَرْمِها بالمغزل، ليخرج في النهاية خيطٌ
طويل مُنْسابٌ متناسق لا عُقَد فيه.
والآية هنا ذكرتْ المرأة في هذا العمل؛ لأنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون
الرجال، فكانت المرأة تكنّ في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكوِّن
منها أثاث بيتها من فَرْش وملابس وغيره.
وإلى الآن نرى المرأة التي تحافظ على كرامتها من زحمة الحياة ومُعْترك الاختلاط،
نراها تقوم بمثل هذا العمل النسائي.
وقد تطور المغزل الآن إلى ماكينة تريكو أو ماكينة خياطة، مما يُيسِّر للنساء هذه
الأعمال، ويحفظهُنَّ في بيوتهن، وينشر في البيت جَواً من التعاون بين الأم
وأولادها، وأمامنا مثلاً مشروع الأسر المنتجة حيث تشارك المرأة بجزء كبير في
رُقِّي المجتمع، فلا مانع إذن من عمل المرأة إذا كان عملاً شريفاً يحفظ عليها
كرامتها ويصُون حرمتها.
فالقرآن ضرب لنا مثلاً بعمل المرأة الجاهلية، هذا العمل الذي يحتاج إلى جَهْد ووقت
في الغزل، ويحتاج إلى أكثر منه في نَقْضه وفكِّه، فهذه عملية شاقة جداً، وربما
أمرت الجواري بفكِّ الغزل والنسيج أيضاً؛ ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش.
وقوله:
{ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ... } [النحل: 92].
كلمة قوة هنا تدلُّنا على المراحل التي تمرُّ بها عملية الغَزْل، وكم هي شاقة،
بداية من جَزِّ الصوف من الغنم أو الوبر من الجمال، ثم خَلْط أطراف كل تيلة من هذه
الشعيرات، بحيث تكون طرف كل تيلة منها في وسط الأخرى لكي يتم التلاحم بينها بهذا
المزج، ثم تدير المرأة المغزل بين أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من
الخيط، ولو قارنَّا بين هذه العملية اليدوية، وبين ما توصلتْ إليه صناعة الغزل
الآن لَتبيَّن لنا كم كانت شاقة عليهم.
فكأن القرآن الكريم شبَّه الذي يُعطِي العهد ويُوثِّقه بالأيْمان المؤكدة، ويجعل
الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلتْ هذا الغزل، وتحملت مشقته، ثم راحتْ
فنقضت ما أنجزته، وفكَّتْ ما غزلته.
وكذلك كلمة (قوة) تدلُّناَ على أن كل عمل يحتاج إلى قوة، هذه القوة إما أنْ تُحرِّك
الساكن أو تُسكِّن المتحرِّك؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى:{ خُذُواْ مَآ
ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ.. }[البقرة: 63].
لأن ساكن الخير نريد أن نحركك إليه، ومتحرك الشر نريد أن نكفك عنه.
وهذه يسمونها في عالم الحركة (قانون العطالة) المتحرك يظل مُتحرِّكاً إلى أنْ يعرضَ
له شيء يُسكنه، والساكن يظل ساكناً إلى أنْ يعرِضَ له شيء يُحرِّكه.
ومن هنا يتعجَّب الكثيرون من الأقمار الصناعية التي تدور أعواماً عدة في الفضاء:
ما الوقود الذي يُحرِّك هذه الأقمار طوال هذه الأعوام؟
والواقع أنه لا يوجد وقود يحركها، الوقود في مرحلة الانطلاق فقط، إلى أن يخرج من
منطقة الهواء والجذْب، فإذا ما استقرّ القمر أو السفينة الفضائية في منطقة عدم
الجذب تدور وتتحرك بنفسها دون وقود، فهناك الشيء المتحرك يظل متحركاً، والساكن يظل
ساكناً.
والحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذا المثَل المشَاهد يُحذرنا من إخلاف العهد ونقْضه؛ لأنه
سبحانه يريد أن يصونَ مصالح الخلق؛ لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيْمان
التي تبرم بينهم، فمَنْ خان العهد أو نقضَ الأيْمان لا يُوثق فيه، ولا يُطْمأنُ
إلى حركته في الحياة، ويُسقطه المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم
على الثقة المتبادلة بين الناس.
وقوله: } أَنكَاثاً.. { [النحل: 92].
جمع نِكْث، وهو ما نُقِض وحُلَّ فَتْله من الغزل.
وقوله:
} تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ.. { [النحل: 92].
الدَّخَل: أنْ تدخل في الشيء شيئاً أدنى منه من جنسه على سبيل الغِشِّ والخداع،
كأن تدخل في الذهب عيار 24 قيراطاً مثلاً ذهباً من عيار 18 قيراطاً، أو كأن
تُدخِلَ في اللوز مثلاً نَوى المشمش على أنه منه. فكأن الأَيْمان القائمة على
الصدق والوفاء يعطيها صاحبها وهو ينوي بها الخداع والغش، فيحلف لصاحبه وهو يقصد
تنويمه والتغرير به.
وقوله:
} أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ... { [النحل: 92].
هذه هي العلة في أنْ نتخذَ الأَيْمان دَخَلاً فيما بيننا، الأَيْمان الزائفة
الخادعة؛ ذلك لأن الذي باع نوى المشمش مثلاً على أنه لوز، فقد أَرْبى أي: أخذ
أزيْد من حقه ونقص حَقَّ الآخرين، فالعلة إذن في الخداع بالأَيْمان الطمع وطلب
الزيادة على حساب الآخرين.
وقد تأتي الزيادة بصورة أخرى، كأن تُعاهِد شخصاً على شيء ما، وأدَّيْتَ له بالعهود
والأيْمان والمواثيق، ثم عنَّ لك مَنْ هو أقوى منه سواء كان بالقهر والسلطان أو
بالإغراء، فنقضت العهد الأول لأن الثاني أرْبى منه وأزيد.
وفي مثل هذه المواقف يجب أن يأخذ الإنسان حِذْره، فمَنْ يُدريك لعله يُفعل بك كما
فعلت، ويُكال لك بنفس المكيال الذي كِلْتَ به لغيرك، فاحذر إذا تجرأتَ على خَلْق
الله أن يُجَرِّيء الله عليك مَنْ يسقيك من نفس الكأس.
وإذا كنت صاحب حرفة أو صناعة، فإياك أنْ تغُشَّ الناس، وتذكَّر أن لك عندهم مصالح،
وفي أيديهم لك حرف وصناعات، فإذا تجرأْتَ عليهم جرَّأهم الله عليك؛ لأنه سبحانه
يقول: أنا القيُّوم، أي: القائم على أمركم، فناموا أنتم فأنا لا أنام، فهذه مسألة
يجب أن نلحظها جيداً.
مَنْ تَجرّأ على الناس جرَّأهم الله عليه، ومَنْ أخلص عمله وأتقنه قذف الله في
قلوب الخلق أنْ يُتقنوا له حاجته.
وقوله:
} إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ... { [النحل: 92].
أي: يختبركم الله تعالى بهذا العهد، فهو سبحانه يعلم ما أنتم عليه ساعة أنْ عقدتم
العهد، أَفِي نيتكم الوفاء، أم في نيتكم الغدر والخداع؟
وهَبْ أنك تنوي الوفاء ثم عرضَ لك ما حال بينك وبينه، فالله سبحانه يعلم حقائق
الأمور ولا يخفَى عليه شيء.
إذن: الابتلاء هنا لا يعني النكبة والبلاء، بل يعني مجرد الاختبار والنكبة والبلاء
على الذي يفشل في الاختبار، فالعبرة هنا بالنتيجة.
وقوله:
} وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
{ [النحل: 92].
فيوم القيامة تجتمع الخصوم، وتتكشَّف الحقائق، ويأتي القضاء فيما اختلفنا فيه في
الدنيا، وهَبْ أن إنساناً عمَّى على قضاء الأرض في أشياء، نقول له: إن عَمَّيْتَ
على قضاء الأرض فلن تُعمىَ على قضاء السماء، وانتظر يوماً نجتمع فيه ونحكم هذه
المسائل.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ... {.
(/1977)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
لو حرف امتناع لامتناع. أي: امتناع وجود الجواب لامتناع وجود الشرط، كما في قوله
تعالى:{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا }[الأنبياء: 22].
فقد امتنع الفساد لامتناع تعدّد الآلهة.
فلو شاء الله لجعلَ العالم كله أمةً واحدة على الحق، لا على الضلال، أمة واحدة في
الإيمان والهداية، كما جعل الأجناس الأخرى أمةً واحدة في الانصياع لمرادات الله
منها.
ذلك لأن كل أجناس الوجود المخلوقة للإنسان قبل أن يفِدَ إلى الحياة مخلوقة بالحق
خَلْقاً تسخيرياً، فلا يوجد جنس من الأجناس تأَبَّى عما قصد منه، لا الجماد ولا
النبات ولا الحيوان.
كل هذه الأكوان تسير سَيْراً سليماً كما أراد الله منها، والعجيب أن يكون الإنسان
هو المخلوق الوحيد المختلّ في الكون، ذلك لما له من حرية الاختيار، يفعل أو لا
يفعل.
لذلك يقول الحق تبارك وتعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. }[الحج: 18].
هكذا تسجد كل هذه المخلوقات لله دون استثناء، إلا في الإنسان فقال تعالى:{
وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. }[الحج: 18].
فلماذا حدث هذا الاختلاف عند الناس؟ لأنهم أصحاب الاختيار، فيستطيع الواحد منهم أن
يفعلَ أو لا يفعل، هل هذه المسألة خرجت عن إرادة الله، أم أرادها الله سبحانه
وتعالى؟
قالوا بأن الله زاول قدرته المطلقة في خَلْق الأشياء المُسخرة، بحيث لا يخرج شيء
عما أريد منه، وكان من الممكن أنْ يأتيَ الإنسان على هذه الصورة من التسخير، لكنه
في هذه الحالة لن يزيد شيئاً، ولن يضيف جديداً في الكون، أليستْ الملائكة قائمة
على التسخير؟
فالتسخير يُثبِت القدرة لله تعالى، فلا يخرج عن قدرته ولا عن مراده شيء، لكن
الاختيار يثبت المحبوبية لله تعالى، وهذا فَرْقٌ يجب أنْ نتدبّره.
فمثلاً لو كان عندك عبدان أو خادمان أحدهما سعيد، والآخر مسعود، فأخذت سعيداً
وقيَّدته إليك في حبل، في حين تركت مسعوداً حراً طليقاً، وحين أمرت كلاً منهما
لَبَّى وأطاع، فأيّ طاعة ستكون أحبّ إليك: طاعة القهر والتسخير، أم الطاعة
بالاختيار؟
فكأن الحق تبارك وتعالى خلق الإنسان وكرَّمه بأنْ جعلَه مختاراً في أنْ يطيعَ أو
أنْ يعصيَ، فإذا ما أتى طائعاً مختاراً، وهو قادر على المعصية، فقد أثبتَ
المحبوبية لربه سبحانه وتعالى.
ولا بُدَّ أنْ تتوافرَ للاختيار شروطٌ. أولها العقل، فهو آلة الاختيار، كذلك لا
يُكلّف المجنون، فإذا توفّر العقل فلا بُدَّ له من النُّضْج والبلوغ، ويتمّ ذلك
حينما يكون الإنسان قادراً على إنجاب مِثْله، وأصبحتْ له ذاتية مولده.
وهذه سِمَة اكتمال الذات؛ فهو قبل هذا الاكتمال ناقص التكوين، وليس أَهْلاً
للتكليف، فإذا كان عاقلاً ناضجاً بالبلوغ واكتمال الذات، فلا بُدَّ له أن يكون
مختاراً غَيْرَ مُكْرهٍ، فإنْ أُكْرِه على الشيء فلن يسأل عنه، فإنِ اختلَّ شَرْط
من هذه الثلاثة فلا معنى للاختيار، وبذلك يضمن الحق تبارك وتعالى للإنسان السلامة
في الاختيار.
والحق تبارك وتعالى وإن كرَّم الإنسان بالاختيار، فمن رحمته به أنْ يجعلَ فيه بعض
الأعضاء اضطرارية مُسخّرة لا دَخْلَ له فيها.
ولو تأملنا هذه الأعضاء لوجدناها جوهرية، وتتوقف عليها حياة الإنسان، فكان من رحمة
الله بنا أنْ جعل هذه الأعضاء تعمل وتُؤدِّي وظيفتها دون أنْ نشعرَ.
فالقلب مثلاً يعمل بانتظام في اليقظة والمنام دون أن نشعرَ به، وكذلك التنفس
والكُلَى والكبد والأمعاء وغيرها تعمل بقدرته سبحانه مُسخّرة، كالجماد والنبات
والحيوان.
ومن لُطْفِ الله بخَلْقه أنْ جعلَ هذه الأعضاء مُسخّرة، لأنه بالله لو أنت مختار
في عمل هذه الأعضاء، كيف تتنفس مثلاً وأنت نائم؟!
إذن: من رحمة الله أنْ جعلكَ مختاراً في الأعمال التي تعرِضُ لك، وتحتاج فيها إلى
النظر في البدائل؛ ولذلك يقولون: الإنسان أبو البدائل. فالحيوان مثلاً وهو أقرب
الأجناس إلى الإنسان ليس لديْه هذه البدائل ولا يعرفها، فإذا آذيتَ حيواناً فإنه
يُؤذيك، وليس لديه بديل آخر.
ولكن إذا آذيْت إنساناً، فيحتمل أن يردّ عليك بالمثل، أو بأكثر مما فعلتَ، أو
أقلّ، أو يعفو ويصفح، والعقل هو الذي يُرجِّح أحد هذه البدائل.
إذن: لو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلها، كما قال تعالى:{
أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ }[الرعد: 31].
ولكنه سبحانه وتعالى لم يشَأْ ذلك، بدليل قوله:
} وَلـاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ... { [النحل: 93].
وهذه الآية يقف عندها المتمحِّكون، والذين قَصُرَتْ أنظارهم في فهْم كتاب الله،
فيقولون: طالما أن الله هو الذي يضِلّ الناس، فلماذا يُعذِّبهم؟ ونتعجَّب من هذا
الفهم لكتاب الله ونقول لهؤلاء: لماذا أخذتُمْ جانب الضلال وتركتُم جانب الهدى؟
لماذا لم تقولوا: طالما أن الله بيده الهداية، وهو الذي يهدي، فلماذا يُدخِلنا
الجنة؟ إذن: هذه كلمة يقولها المسرفون؛ لأن معنى:
} يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ.. { [النحل: 93].
أي: يحكم على هذا من خلال عمله بالضلال، ويحكم على هذا من خلال عمله بالهداية، مثل
ما يحدث عندنا في لجان الامتحان، فلا نقول: اللجنة أنجحت فلاناً وأرسبت فلاناً،
فليست هذه مهمتها، بل مهمتها أن تنظر أوراق الإجابة، ومن خلالها تحكم اللجنة بنجاح
هذا وإخفاق ذاك.
وكذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ لا يجعل العبد ضالاً، بل يحكم على عمله أنه ضلال وأنه
ضَالّ؛ فالمعنى إذن: يحكم بضلال مَنْ يشاء، ويحكم بهُدَى مَنْ يشاء، وليس لأحد أن
ينقلَ الأمر إلى عكس هذا الفهم، بدليل قوله تعالى بعدها:
} وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ { [النحل: 93].
فالعبد لا يُسأل إلا عَمَّا عملتْ يداه، والسؤال هنا معناه حرية الاختيار في
العمل، وكيف تسأل عن شيء لا دَخْل لك فيه؟ فلنفهم ـ إذن ـ عن الحق تبارك وتعالى
مُرَادَهُ من الآية.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ تَتَّخِذُواْ... {.
(/1978)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
وردتْ كلمة الدّخَل في الآية قبل السابقة وقلنا: إن معناها: أن تُدخِلَ في الشيء
شيئاً أدْنى منه من جنسه على سبيل الغشِّ والخداع، وإن كان المعنى واحداً في
الآيتين فإن الآية السابقة جاءت لتوضيح سبب الدَّخَل وعَلّته، وهي أن تكون أُمة
أَرْبى من أمة، ويكسب أحد الأطراف على حساب الآخر. أما في هذه الآية فجاءت لتوضيح
النتيجة من وجود الدَّخَل، وهي:
{ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.. } [النحل: 94].
ففي الآية نَهْيٌ عن اتخاذ الأَيْمان للغش والخداع والتدليس؛ لأن نتيجة هذا الفعل
فساد يأتي على المجتمع من أساسه، وفَقْد للثقة المتبادلة بين الناس والتي عليها
يقوم التعامل، وتُبنَى حركة الحياة، فالذي يُعطي عهداً ويُخلْفه، ويحلف يميناً
ويحنث فيه يشتهر عنه أنه مُخلِف للعهد ناقض للميثاق.
وبناءً عليه يسحب الناس منه الثقة فيه، ولا يجرؤ أحد على الصَّفَق معه، فيصبح
مَهيناً ينفضُ الناس أيديهم منه، بعد أنْ كان أميناً وأهلاً للثقة ومَحَلاً
للتقدير.
هذا معنى قوله تعالى:
{ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا... } [النحل: 94].
وبذلك يسقط حقُّه مع المجتمع، ويحيق به سوء فِعْله، ويجني بيده ثمار ما أفسده في
المجتمع، وبانتشار هذا الخلُق السيئ تتعطّل حركة الحياة، وتضيع الثقة والأمانة.
إذن: هذه زَلَّة وكَبْوة بعد ثبات وقوة، بعد أنْ كان أَهْلاً للثقة صاحب وفاء
بالعهود والمواثيق يُقبِل عليه الناس، ويُحبُّون التعامل معه بما لديْه من شرف
الكلمة وصِدْق الوعد، فإذا به يتراجع للوراء، ويتقهقر للخلف، ويفقد هذه المكانة.
ولذلك نجد أهل المال والتجارة يقولون: فلان اهتزَّ مركزه في السوق أي: زَلَّتْ
قدمه بما حدث منه من نقْضٍ للعهود، وحِنْث في الأيمان وغير ذلك مما لا يليق بأهل
الثقة في السوق، ومثل هذا ينتهي به الأمر إلى أنْ يعلنَ إفلاسه في دنيا التعامل مع
الناس.
أما الوفاء بالعهود والمواثيق والأَيْمان فيجعل قدمك في حركة الحياة ثابتة لا
تتزحزح ولا تهتزّ، فترى مال الناس جميعاً مالَه، وتجد أصحاب الأموال مقبلين عليك
يضعون أموالهم بين يديك، بما تتمتع به من سمعة طيبة ونزاهة وأمانة في التعامل.
ولذلك، فالتشريع الإسلامي حينما شرع لنا الشركة راعى هذا النوع من الناس الذي لا
يملك إلا سمعة طيبة وأمانة ونزاهة ووفاء، هذا هو رأس مالهم، فإنْ دخل شريك بما
لديْه من رأس المال، فهذا شريك بما لديْه من شرف الكلمة وشرف السلوك، ووجاهة بين
الناس، وماضٍ مُشرِّف من التعامل.
وهذه يسمونها " شركة الوجوه والأعيان " وهذا الوجيه في دنيا المال
والتجارة لم يأخذ هذه الوجاهة إلا بما اكتسبه من احترام الناس وثقتهم، وبما له من
سوابق فضائل ومكارم.
وكذلك، قد نرى هذه الثقة لا في شخص من الأشخاص، بل نراها في ماركة من الماركات أو
العلامات التجارية، فنراها تُبَاع وتُشْتري، ولها قيمة غالية في السوق بما نالتْه
من احترام الناس وتقديرهم، وهذا أيضاً نتيجة الصدق والالتزام والأمانة وشرف
الكلمة.
وقوله تعالى:
} وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ { [النحل: 94].
السوء: أي العذاب الذي يسُوء صاحبه في الدنيا من مهانة واحتقار بين الناس، وكسَاد
في الحال، بعد أنْ سقط من نظر المجتمع، وهدم جِسْر الثقة بينه وبين مجتمعه.
وقوله تعالى:
} بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ { [النحل: 94].
الحديث هنا عن الذين ينقضون العهود والأَيْمان ولا يُوفُونَ بها، فهل في هذا صَدٌّ
عن سبيل الله؟
نقول: أولاً إن معنى سبيل الله: كل شيء يجعل حركة الحياة منتظمة تُدَار بشرف
وأمانة وصِدْق ونفاذ عهد.
ومن هنا، فالذي يُخلف العهد، ولا يفي بالمواثيق يعطي للمجتمع قدوة سيئة تجعل صاحب
المال يضنُّ بماله، وصاحب المعروف يتراجع، فلو أقرضتَ إنساناً وغدرَ بكَ فلا
أظنُّك مُقرِضاً لآخر.
إذن: لا شَكَّ أن في هذا صداً عن سبيل الله، وتزهيداً للناس في فعْل الخير.
وقوله تعالى:
} وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { [النحل: 94].
فبالإضافة إلى ما حاقَ بهم من خسارة في الدنيا، وبعد أنْ زَلَّتْ بهم القدم، ونزل
بهم من عذاب الدنيا ألوانٌ ما زال ينتظرهم عذاب عظيم أي في الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ... {.
(/1979)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية ينهانا ويُحذِّرنا: إياك أنْ تجعلَ عهد الله الذي
أكدته للناس، وجعلت الله عليه كفيلاً، فبعد أن كنت حُراً في أن تعاهد أو لا تعاهد،
فبمجرد العهد أصبح نفاذه واجباً ومفروضاً عليك.
أو: عهد الله ـ أي ـ شرعه الذي تعاهدتَ ـ على العمل به والحفاظ عليه، وهو العهد
الإيماني الأعلى، وهو أن تؤمنَ بالله وبصدق الرسول في البلاغ عن الله، وتلتزم بكل
ما جاء به الرسول من أحكام، إياك أنْ تقابله بشيء آخر تجعله أغْلى منه؛ لأنك إنْ
نقضْتَ عهد الله لشيء آخر من متاع الدنيا الزائل فقد جعلتَ هذا الشيء أغلى من عهد
الله؛ لأن الثمن مهما كان سيكون قليلاً.
ثم يأتي تعليل ذلك في قوله:
{ إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.. } [النحل: 95].
فالخير في الحقيقة ليس في متاع الدنيا مهما كَثُر، بل فيما عند الله تعالى، وقد
أوضح ذلك في قوله تعالى:{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ
}[النحل: 96].
ولنا وقفة مع قوله تعالى:
{ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ... } [النحل: 95].
فهذا أسلوب توكيد بالقصر بإعادة الضمير (هو)، فلم يَقُلِ الحق سبحانه إنما عند
الله خير لكم، فيحتمل أن ما عند غيره أيضاً خيْرٌ لكم، أما في تعبير القرآن { هُوَ
خَيْرٌ لَّكُمْ } أي: الخير فيما عند الله على سبيل القَصْر، كما في قوله تعالى:{
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }[الشعراء: 80].
فجاء بالضمير " هو " ليؤكد أن الشافي هو الله لوجود مَظنّة أن يكون
الشفاء من الطبيب، أما في الأشياء التي لا يُظَنّ فيها المشاركة فتأتي دون هذا
التوكيد كما في قوله تعالى:{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ }[الشعراء:
81].
فلم يقل: هو يميتني هو يُحيين؛ لأنه لا يميت ولا يُحيي إلا الله، فلا حاجةَ
للتوكيد هنا.
ما الذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد؟
الذي يُخرج الإنسان عن الوفاء بالعهد أنْ يرى مصلحة سطحية فوق ما تعاقد عليه تجعله
يخرج عما تعاهد عليه إلى هذه السطحية، ولكنه لو عقل وتدبَّر الأمر لعلم أنّ ما
يسعى إليه ثمن بَخْسٌ، ومكسب قليل زائل إذا ما قارنه بما ادخِر له في حالة الوفاء؛
لأن ما أخذه حظاً من دنياه لا بُدّ له من زوال.
والعقل يقول: إن الشيء، إذا كان قليلاً باقياً يفضل الكثير الذي لا يبقى، فما بالك
إذا كان القليل هو الذي يفنى، والكثير هو الذي يبقى.
ومثال ذلك: لو أعطيتُك فاكهة تكفيك أسبوعاً أو شهراً فأكلتها في يوم واحد، فقد
تمتعْتَ بها مرة واحدة، وفاتَكَ منها مُتَعٌ وأكلاتٌ متعددة لو أكلتَها في وقتها.
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يُنبِّهك أنَّ ما عند الله هو الخير الحقيقي، فجعل
موازينك الإيمانية دقيقة، فمن الحُمْق أن تبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني:
{ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [النحل: 95].
في الآية دِقَّة الحساب، ودِقَّة المقارنة، ودِقَّة حَلِّ المعادلات الاقتصادية.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ.. }.
(/1980)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
يُوضِّح الحق تبارك وتعالى أن حظَّ الإنسان من دُنْياه عَرَضٌ زائل، فإمَّا أن
تفوته بالموت، أو يفوتك هو بما يجري عليك من أحداث، أما ما عند الله فهو بَاق لا
نفاد له.
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ.. } [النحل: 96].
كلمة { صَبَرُواْ } تدلُّ على أن الإنسان سيتعرّض لِهزَّاتٍ نفسية نتيجة ما يقع
فيه من التردد بين الوفاء بالعهد أو نَقْضه، حينما يلوح له بريق المال وتتحرَّك
بين جنباته شهوات النفس، فيقول له الحق تبارك وتعالى: اصبر.. اصبر لا تكُنْ
عَجُولاً، وقارن المسائل مقارنة هادئة، وتحمَّل كل مشقة نفسية، وتغلّب على شهوة
النفس؛ لتصل إلى النتيجة المحمودة.
فالتلميذ الذي يجتهد ويتعب ويتحمَّل مشقة الدرس والتحصيل يصبر على الشهوات العاجلة
لما ينتظره من شهوات باقية آجلة، فوراء الدرس والتحصيل غايةٌ أكبر وهَدَفٌ أَسْمى.
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ.. } [النحل: 96].
أي: على مشقَّات الوفاء بالعهود.
{ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل: 96].
أي: أجراً بالزيادة في الجزاء على أحسن ما يكون؛ فالإنسان حين يعمل مفروضاً أو
مندوباً فله الجزاء، أما المباح فالمفروض ألا جزاء له، ولكنّ فضل الله يجزي عليه
أيضاً.
ثم يقول الحق سبحانه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً... }.
(/1981)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
الحق تبارك وتعالى يُعطينا قضية عامة، هي قضية المساواة بين الرجل والمرأة،
فالعهود كانت عادةً تقع بين الرجال، وليس للمرأة تدخُّل في إعطاء العهود، حتى إنها
لما دخلتْ في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة جعل واحداً من
الصحابة يبايع النساء نيابة عنه.
إذن: المرأة بعيدة عن هذا المعتَرك نظراً لأن هذا من خصائص الرجال عادةً، أراد
سبحانه أن يقول لنا: نحن لا نمنع أن يكونَ للأنثى عملٌ صالح.
ولا تظنّ أن المسألة منسحبة على الرجال دون النساء، فالعمل الصالح مقبول من الذكر
والأنثى على حدٍّ سواء، شريطة أنْ يتوفَّر له الإيمان، ولذلك يقول تعالى:
{ وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. } [النحل: 97].
وبذلك يكون العمل له جَدْوى ويكون مقبولاً عند الله؛ ولذلك نرى كثيراً من الناس
الذين يُقدِّمون أعمالاً صالحة، ويخدمون البشرية بالاختراعات والاكتشافات، ويداوون
المرضى، ويبنون المستشفيات والمدارس، ولكن لا يتوفر لهم شرط الإيمان بالله.
فنرى الحق تبارك وتعالى لا يبخس هؤلاء حقهم، ولكن يُعجِّله لهم في الدنيا؛ لأنه لا
حَظَّ لهم في أجر الآخرة، يقول تعالى:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا
لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].
ويقول الحق سبحانه وتعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *
وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8].
وهذا كله خاصٌّ بأمور الدنيا، فالذي يحسن شيئاً ينال ثمرته، لكن في جزاء الآخرة
نقول لهؤلاء: لا حَظَّ لكم اليوم، وخذوا أجركم مِمَّنْ عملتُم له فقد عملتُم الخير
للإنسانية للشهرة وخلود الذكْر، وقد أخذتم ذلك في الدنيا فقد خَلَّدوا ذِكْراكم،
ورفعوا شأنكم، وصنعوا لكم التماثيل، ولم يبخسوكم حَقَّكم في الشُّهْرة والتكريم.
ويوم القيامة يواجههم الحق سبحانه وتعالى: فعلتم ليقال.. وقد قيل، فاذهبوا وخذوا
ممَّنْ عملتم لهم.
هؤلاء الذين قال الله في حقهم:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ }[النور: 39].
يُفاجأ يوم القيامة أن له إلهاً كان ينبغي أنْ يؤمن به ويعمل ابتغاء وجهه ومرضاته.
إذن: فالإيمان شَرْطٌ لقبول العمل الصالح، فإذا ما توفر الإيمان فقد استوى الذّكَر
والأنثى في الثواب والجزاء.
يقول تعالى:
{ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً.. } [النحل: 97].
هذه هي النتيجة الطبيعة للعمل الصالح الذي يبتغي صاحبه وجه الله والدار الآخرة،
فيجمع الله له حظين من الجزاء، حظاً في الدنيا بالحياة الطيبة الهانئة، وحظاً في
الآخرة:
{ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [النحل:
97].
ويقول الحق سبحانه: { فَإِذَا قَرَأْتَ... }.
(/1982)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
الاستعاذة: اللجوء والاعتصام بالله من شيء تخافُه، فأنت لا تلجأ ولا تعتصم، ولا
تستجير ولا تستنجد إلا إذا استشعرتَ في نفسك أنك ضعيف عن مقاومة عدوك.
فإذا كان عدوك الشيطان بما جعل الله له من قوة وسلطان، وما له من مداخل للنفس
البشرية فلا حَوْلَ لك ولا قُوّة في مقاومته إلا أنْ تلجأ إلى الله القوي الذي
خلقك وخلق هذا الشيطان، وهو القادر وحده على رَدّه عنك؛ لأن الشيطان في معركة مع
الإنسان تدور رحاها إلى يوم القيامة.
وقد أقسم الشيطان للحق تبارك وتعالى، فقال:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83].
فما عليك إلا أن تكون من هؤلاء، ما عليك إلا أنْ ترتمي في حضن ربك عز وجل وتعتصم
به، فهو سبحانه القوي القادر على أنْ يدفعَ عنك ما لم تستطع أنت دَفْعه عن نفسك،
فلا تقاومه بقوتك أنت؛ لأنه لا طاقة لك به، ولا تدعه ينفرد بك؛ لأنه إن انفرد بك
وأبعدك عن الله فسوف تكون له الغلبة.
ولذلك نقول دائماً: لا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله، أي: لا حول: لا تحوُّل عن
المعصية. ولا قوة. أي: على الطاعة إلا بالله.
ونحن نرى الصبي الصغير الذي يسير في الشارع مثلاً قد يتعرَّض لمَنْ يعتدي عليه من
أمثاله من الصبية، أما إذا كان في صُحْبة والده فلا يجرؤ أحد منهم أنْ يتعرضَ له،
فما بالك بمَنْ يسير في صُحْبة ربه تبارك وتعالى، ويُلْقي بنفسه في حماية الله
سبحانه؟!
وفي مقام الاستعاذة بالله نذكر قاعدة إيمانية علَّمنا إياها الرسول صلى الله عليه
وسلم في حديثه الشريف: " من استعاذ بالله فأعيذوه ".
فيلزم المؤمن أنْ يعيذ من استعاذ بالله، وإنْ كان في أحب الأشياء إليه، "
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا القدوة في ذلك، حينما تزوج من فتاة على قدر
كبير من الحسن والجمال لدرجة أن نساءه غِرْنَ منها، وأخذْنَ في الكَيْد لها
وزحزحتها من أمامهن حتى لا تغلبهن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف
لهُنَّ ذلك؟
حاولْنَ استغلال أن هذه الفتاة ما تزال صغيرة غِرة، تتمتع بسلامة النية وصفاء
السريرة، ليس لديها من تجارب الحياة ما تتعلم منه لُؤْماً أو مكْراً، وهي أيضاً ما
تزال في نشوة فرحتها بأنْ أصبحت أماً للمؤمنين، وتحرص كل الحرص على إرضاء النبي
صلى الله عليه وسلم فاستغل نساء النبي صلى الله عليه وسلم هذا كله، وقالت لهن
إحداهن: إذا دخلتِ على رسول الله فقولي له: أعوذ بالله منك، فإنه يحب هذه الكلمة.
أخذت الفتاة هذه الكلمة بما لديها من سلامة النية، ومحبة لرسول الله، وحرص على
إرضائه، وقالت له: أعوذ بالله منك، وهي لا تدري معنى هذه العبارة فقال صلى الله
عليه وسلم: " لقد عُذْت بمعاذ، الحقي بأهلك ".
أي: ما دُمْت استعذت بالله فأنا قبلت هذه الاستعاذة؛ لأنكِ استعذت بمعاذ أي: بمن
يجب علينا أن نترككِ من أجله، ثم طلقها النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لهذه
الاستعاذة.
إذن: مَن استعاذ بالله لا بُدَّ للمؤمن أنْ يُعيذه، ومن استجار بالله لا بُدَّ
للمؤمن أن يكون جندياً من جنود الله، ويجيره حتى يبلغ مأمنه.
وفي الآية الكريمة أسلوب شرط، اقترن جوابه بالفاء في قوله تعالى:
} فَاسْتَعِذْ... { [النحل: 98].
فإذا رأيت الفاء فاعلم أن ما بعدها مترتبٌ على ما قبلها، كما لو قُلْتَ: إذا قابلت
محمداً فقُلْ له كذا.. فلا يتم القول إلا بعد المقابلة. أما في الآية الكريمة
فالمراد: إذا أردت قراءة القرآن فاستعِذْ؛ لأن الاستعاذة هنا تكون سابقة على
القراءة، كما جاء في قَول الحق تبارك وتعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ.. }[المائدة: 6].
فالمعنى: إذا أردتُمْ إقامة الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وكذلك إذا أردتَ قراءة القرآن
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن القرآن كلام الله.
ولو آمنّا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتكلم لعلمنا أن قراءة القرآن تختلف عن
أي قراءة أخرى، فأنت كي تقرأ القرآن تقوم بعمليات متعددة:
أولها: استحضار قداسة المُنْزِل سبحانه الذي آمنتَ به وأقبلتَ على كلامه.
ثانيها: استحضار صدق الرسول في بلاغ القرآن المنزّل عليه.
ثالثها: استحضار عظمة القرآن الكريم، بما فيه من أوجه الإعجاز، وما يحويه من
الآداب والأحكام.
إذن: لديك ثلاث عمليات تستعد بها لقراءة كلام الله في قرآنه الكريم، وكل منها عمل
صالح لن يدعكَ الشيطانُ تؤديه دون أنْ يتعرَّض لك، ويُوسوس لك، ويصرفك عما أنت
مُقبِلٌ عليه.
وساعتها لن تستطيع منعه إلا إذا استعنت عليه بالله، واستعذتَ منه بالله، وبذلك
تكون في معية الله منزل القرآن سبحانه وتعالى، وفي رحاب عظمة المنزل عليه محمد
صدقاً، ومع استقبال ما في القرآن من إعجاز وآداب وأحكام.
ومن هنا وجب علينا الاستعاذة بالله من الشيطان قبل قراءة القرآن.
ومع ذلك لا مانع من حَمْل المعنى على الاستعاذة أيضاً بعد قراءة القرآن، فيكون
المراد: إذا قرأتَ القرآن فاستعذ بالله.. أي: بعد القراءة؛ لأنك بعد أن قرأتَ كتاب
الله خرجتَ منه بزاد إيماني وتجليّات ربانية، وتعرَّضْتَ لآداب وأحكام طُلبت منك،
فعليك ـ إذن ـ أن تستعيذ بالله من الشيطان أن يفسِد عليك هذا الزاد وتلك التجليات
أو يصرفك عن أداء هذه الآداب والأحكام.
وقوله تعالى:
} مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ { [النحل: 98].
أي: الملعون المطرود من رحمة الله؛ لأن الشيطان ليس مخلوقاً جديداً يحتاج أنْ
نُجرِّبه لنعرف طبيعته وكيفية التعامل معه، بل له معنا سوابق عداء منذ أبينا آدم
عليه السلام.
وقد حذر الله تعالى آدم منه فقال:{ يآءَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ
وَلِزَوْجِكَ.. }[طه: 117].
وسبق أنْ رُجم ولُعِن وأُبعِد من رحمة الله، فقد هددنا بقوله:{ لأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ.. }[الإسراء: 62].
إذن: هناك عداوة مسبقة بيننا وبينه منذ خُلِق الإنسان، وإلى قيام الساعة.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ.. {.
(/1983)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
لحكمة أرادها الخالق سبحانه أنْ جعل للشيطان سلطاناً. أي: تسلطاً.
وكلمة (السلطان) مأخوذة من السَّليط، وهو الزيت الذي كانوا يُوقِدون به السُّرج
والمصابيح قبل اكتشاف الكهرباء، فكانوا يضعون هذا الزيت في إناء مغلق مثل
السلطانية يخرج منه فتيلة، وعندما توقد تمتصّ من هذا الزيت وتُضيء؛ ولذلك سُمِّيتْ
الحجة سُلْطاناً؛ لأنها تنير لصاحبها وَجْه الحق.
والسلطان، إما سلطان حجة تقنعك بالفعل، فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به. وإما سلطان
قَهْر وغلبة يجبرك على الفعل ويحملك عليه قَهْراً دون اقتناع به.
إذن: تنفيذ المطلوب له قوتان: قوة الحجة التي تُضيء لك وتُوضّح أمامك معالم الحق،
وقوة القهر التي تُجبرك على تنفيذ المطلوب عن غير اقتناع وإنْ لم ترهَا.
والحقيقة أن الشيطان لا يملك أيّاً من هاتين القوتين، لا قوة الحجة والإقناع، ولا
قوة القهر. وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الشيطان يوم القيامة:{
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن
سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي
وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ }[إبراهيم: 22].
هذا حوار يدور يوم القيامة بعد أن انتهتْ المسألة وتكشفتْ الحقيقة، وجاء وقت
المصارحة والمواجهة. يقول الشيطان لأوليائه مُتنصلاً من المسئولية: ما كان عندي من
سلطان عليكم، لا سلطان حجة تقنعكم أنْ تفعلوا عن رضاً، ولا سلطان قَهْر أجبركم به
أن تفعلوا وأنتم كارهون، أنا فقط أشرتُ ووسوستُ فأتيتموني طائعين.{ مَّآ أَنَاْ
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ.. }[إبراهيم: 22].
أي: نحن في الخيبة سواء، فلا أستطيع نجدتكم، ولا تستطيعون نجدتي؛ لأن الصُّراخَ
يكون من شخص وقع في ضائقة أو شدة لا يستطيع الخلاص منها بنفسه، فيصرخ بصوت عالٍ
لعله يجد مَنْ يُغيثه ويُخلِّصه، فإذا ما استجاب له القوم فقد أصرخوه. أي: أزالوا
سبب صُرَاخه.
إذن: فالمعنى: لا أنا أستطيع إزالة سبب صراخكم، ولا أنتم تستطيعون إزالة سبب
صُرَاخي.
وكذلك في حوار آخر دار بين أهل الباطل الذين تكاتفوا عليه في الدنيا، وها هي
المواجهة يوم القيامة:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ
تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ
عَلَىا بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ
الْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا
عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ }[الصافات: 24-30].
والمراد بقوله: (عَنِ اليَمِينِ) أن الإنسان يزاول أعماله بكلتا يديه، لكن اليد
اليمنى هي العُمْدة في العمل، فأتيته عن اليمين أي: من ناحية اليد الفاعلة.
وقوله:{ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً
طَاغِينَ }[الصافات: 30].
أي: في انتظار إشارة منّا، مجرد إشارة، فسارعتم ووقعتم فيما وقعتُم فيه.
فعلى مَنْ يكون تسلط الشيطان وتلك الغلبة والقهر؟
يُوضّح الحق تبارك وتعالى أن تسلّط الشيطان لا يقع على مَنْ آمن به رباً، ولجأ
إليه واعتصم به، وما دُمْت آمنتَ بالله فأنت في مَعيّته وحِفْظه، ولا يستطيع
الشيطان وهو مخلوق لله تعالى أنْ يتسلط عليك أو يغلبك.
إذن: الحصن الذي يقينا كيْدَ الشيطان هو الإيمان بالله والتوكّل عليه سبحانه.
فعلى مَنْ إذن يتسلّط الشيطان؟
يُوضِّح الحق تبارك وتعالى الجانب المقابل، فيقول: { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ.. }.
(/1984)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
معنى يتولونه: أي يتخذونه وَليّاً يطيعون أمره، ويخضعون لوسوسته، ويتبعون خطواته:
{ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل: 100].
أي: مشركون بالله، أو يكون المعنى: وهُمْ به أي بسببه أشركوا؛ لأنه أصبح له أوامر
ونواه وهم يطيعونه، وهذه هي العبادة بعينها، فكأنهم عبدوه من دون الله بما قدّموه
من طاعته في أمره ونَهْيه.
وقد سَمَّى الله طريقة الشيطان في الإضلال والغواية وَسْوسةً، والوسوسة في الحقيقة
هي صَوْت الحُليّ حينما يتحرك في أيدي النساء، فيُحدِث صوتاً رقيقاً فيه جاذبية
وإغراء تهيج له النفس، وكذلك الشيطان يدخل إليك عن طريق الإغراء والتزيين، فإذا ما
هاجتْ عليك نفسُك وحدّثتْك بالمعصية تركك لها، فعند هذه النقطة تنتهي مُهمته.
ولكن، هل النفس لا تفعل المعصية إلا بوسوسة الشيطان؟
قالوا: لا، فالنفس ـ والمراد هنا النفس الأمّارة بالسوء ـ قد تفعل المعصية من
نفسها دون وسوسة من الشيطان، وقد يُوسْوِسُ الشيطان لها، وينزغها نَزغاً
ويُؤلِّبها، ويُزِّين لها معصية ما كانت على بالها.
فكيف ـ إذن ـ يُفرّق بين هاتين المعصيتين؟
النفس حينما ترغب في معصية أو شهوة تراها تقف عند معصية بعينها لا تتزحزح عنها،
وإذا قاومتَ نفسك، وحاولتَ صَرْفها عن هذه الشهوة ألحَّتْ عليك بها، وطلبتها
بعينها، فشهوة النفس إذن ثابتة؛ لأنها تشتهي شيئاً واحداً تُلح عليه.
ولكن حينما يُوسوِسُ الشيطان لك بشهوة فوجد منك مقاومة وقدرة على مجابهته صرف نظرك
إلى أخرى؛ لأنه يريدك عاصياً بأيِّ شكل من الأشكال، فتراه يُزيِّن لك معصية أخرى
وأخرى، إلى أنْ ينال منك ما يريد.
ومن ذلك ما نراه في الرشوة مثلاً ـ والعياذ بالله ـ فإنْ رفضتَ رشوة المال زيَّن
لك رشوة الهدية، وإنْ رفضتَ رشوة الهدية زيَّنَ لك الرشوة بقضاء مصلحة مقابلة.
وهكذا يظل هذا اللعين وراءك حتى يصل إلى نقطة ضَعْف فيك، إذن: فهو ليس كالنفس يقف
بك عند شهوة واحدة، ولكنه يريد أن يُوقِع بك على أيِّ صورة من الصور.
ولكي نقفَ على مداخل الشيطان ونكون منه على حَذر يجب أنْ نعلم أن الشيطان على علم
كبير وصل به إلى صفوف الملائكة، بل سَمَّوه " طاووس الملائكة " ، ويمكن
أن نقف على شيء من علم الشيطان في دِقّة قَسَمه، حينما أقسم للحق تبارك وتعالى أن
يُغوي بني آدم، فقال:{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83].
هكذا عرف الشيطان أنْ يُقسِم القسَم المناسب، فلم يَقُلْ: بقوتي ولا بحجتي سأغوي
الخَلْق، بل عرف لله تعالى صفة العزة، فهو سبحانه عزيز لا يُغلب؛ لذلك ترك لخلْقه
حرية الإيمان به، فقال:{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ
}[الكهف: 29].
فالمعنى: فبعزتك عن خَلْقك: يؤمن مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، سوف أدخل من هذا
الباب لإغواء البشر، ولكني لا أجرؤ على الاقتراب ممَّنْ اخترتَهم واصطفيتَهم، لن
أتعرَّضَ لعبادك المخلصين، ولا دَخْلَ لي بهم، ولا سلطان لي عليهم.
كذلك يجب أن نعلم أن الشيطان دقيق في تخطيطه، وهذا من مداخله وتلبيسه الذي يدعونا
إلى الحذر من هذا اللعين. فالشيطان لا حاجة له في أن يذهب إلى الخمارات مثلاً، فقد
كفاه أهلُها مشقة الوَسْوسة، ووفّروا عليه المجهود، هؤلاء هم أولياؤه وأحبابه
ومُريحوه بما هم عليه من معصية الله، ولكنه في حاجة إلى أن يكون في المساجد
ليُفسِد على أهل الطاعة طاعتهم.
وقد أوضح هذه القضية وفطن إليها الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان، وكان مشهوراً
بالفِطْنة، وعلى دراية بمداخل الشيطان وتلبيسه، وكل هذا جعل له باعاً طويلاً في
الإفتاء، وقد عرض عليه أحدهم هذه المسألة:
قال: يا إمام كان لديّ مال دفنته في مكان كذا، وجعلتُ عليه علامة، فجاء السَّيْل
وطمس هذه العلامة، فلم أَهتدِ إليه، فماذا أفعل؟
فتبسَّم أبو حنيفة وقال: يا بُني ليس في هذا علم، ففي أيّ باب من أبواب الفقه سيجد
أبو حنيفة هذه القضية؟! ولكني سأحتال لك.
وفعلاً تفتقتْ قريحة الإمام عن هذه الحيلة التي تدل على عِلْمه وفقهه، قال له: إذا
جئتَ في الليل فتوضّأ، وقُمْ بين يدي ربّك مُتهجِّداً. وفي الصباح أخبرني خبرك.
وفي صلاة الفجر قابله الرجل مُبتسِماً. يقول: لقد وجدتُ المال، فقال: كيف؟ قال
الرجل: حينما وقفتُ بين يديْ ربي في الصلاة تذكرت المكان وذهبتُ فوجدت مالي، فضحك
الإمام وقال: والله لقد علمت أن الشيطان لن يدعَك تُتِم ليلتك مع ربك.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ.. {.
(/1985)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قوله: { بَدَّلْنَآ } ومنها: أبدلت واستبدلْتُ، أي: رفعتُ آية وطرحتُها. وجئت
بأخرى بدلاً منها، وقد تدخل الباء على الشيء المتروك، كما في قوله تعالى:{
أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىا بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.. }[البقرة: 61].
أي: تتركون ما هو خير، وتستبدلون به ما هو أدنى.
وما معنى الآية؟ كلمة آية لها مَعَانٍ متعددة منها:
ـ الشيء العجيب الذي يُلفت الأنظار، ويُبهر العقول، كما نقول: هذا آية في الجمال،
أو في الشجاعة، أو في الذكاء، أي: وصل فيه إلى حَدِّ يدعو إلى التعجُّب والانبهار.
ـ ومنها الآيات الكونية، حينما تتأمل في كون الله من حولك تجد آياتٍ تدلُّ على
إبداع الخالق سبحانه وعجيب صنعته، وتجد تناسقاً وانسجاماً بين هذه الآيات الكونية.
يقول تعالى عن هذا النوع من الآيات:{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيلُ وَالنَّهَارُ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }[فصلت: 37].{ وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ
كَالأَعْلاَمِ }[الشورى: 32].
ونلاحظ أن هذه الآيات الكونية ثابتة دائمة لا تتبّدل، كما قال الحق تبارك وتعالى:{
وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً.. }[الفتح: 23].
ـ ومن معاني الآية: المعجزة، وهي الأمر العجيب الخارق للعادة، وتأتي المعجزة على
أيدي الأنبياء لتكون حُجّة لهم، ودليلاً على صدق ما جاءوا به من عند الله.
ونلاحظ في هذا النوع من الآيات أنه يتبدّل ويتغيّر من نبي لآخر؛ لأن المعجزة لا
يكون لها أثرها إلا إذا كان في شيء نبغ فيه القوم؛ لأن هذا هو مجال الإعجاز، فلو
أتيناهم بمعجزة في مجال لا عِلْمَ لهم به لقالوا: لو أن لنا عِلْماً بهذا لأتيْنا
بمثله؛ لذلك تأتي المعجزة فيما نبغُوا فيه، وعَلموه جيداً حتى اشتهروا به.
فلما نبغَ قوم موسى عليه السلام في السحر كانت معجزته من نوع السحر الذي يتحدى
سحرهم، فلما جاء عيسى ـ عليه السلام ـ ونبغ قومه في الطب والحكمة كانت معجزته من
نفس النوع، فكان ـ عليه السلام ـ يبريء الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله.
فلما بُعِث محمد صلى الله عليه وسلم، ونبغ قومه في البلاغة والفصاحة والبيان،
وكانوا يقيمون لها الأسواق، ويُعلّقون قصائدهم على أستار الكعبة اعتزازاً بها،
فكان لا بُدَّ أنْ يتحدّاهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه وهي القرآن الكريم، وهكذا
تتبدّل المعجزات لتناسب كُلٌّ منها حال القوم، وتتحدّاهم بما اشتهروا به، لتكون
أَدْعى للتصديق وأثبت للحجة.
ـ ومن معاني كلمة آية: آيات القرآن الكريم التي نُسميّها حاملة الأحكام، فإذا كانت
الآية هي الأمر العجيب، فما وجه العجب في آيات القرآن؟
وجه العجب في آيات القرآن أن تجدَ هذه الآيات في أُمّة أُمية، وأُنزِلتْ على نبي
أُميٍّ في قوم من البدو الرُّحل الذين لا يجيدون شيئاً غير صناعة القول والكلام
الفصيح، ثم تجد هذه الآيات تحمل من القوانين والأحكام والآداب ما يُرهب أقوى
حضارتين معاصرتين، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب، فنراهم
يتطلّعون للإسلام، ويبتغون في أحكامه ما ينقذهم، أليس هذا عجيباً؟
وهذا النوع الأخير من الآيات التي هي آيات الكتاب الكريم، والتي نُسمّيها حاملة
الأحكام، هل تتبدّل هي الأخرى كسابقتها؟
نقول: آيات الكتاب لا تتبدّل؛ لأن أحكام الله المطلوبة مِمَّن عاصر رسول الله صلى
الله عليه وسلم كالأحكام المطلوبة مِمَّنْ تقوم عليه الساعة.
وقد سُبق الإسلام باليهودية والمسيحية، فعندنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة. اعترض على ذلك اليهود وقالوا: ما
بال محمد لا يثبتُ على حال، فيأمر بالشيء اليوم، ويأمر بخلافه غداً، فإنْ كان
البيت الصحيح هو الكعبة فصلاتكم لبيت المقدس باطلة، وإنْ كان بيت المقدس هو
الصحيح، فصلاتكم للكعبة باطلة.
لذلك قال الحق تبارك وتعالى:
} وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ
قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ.. { [النحل: 101].
فالمراد بقوله الحق سبحانه:
} آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ... { [النحل: 101].
أي: جِئْنا بآية تدلُّ على حكم يخالف ما جاء في التوراة، فقد كان استقبال الكعبة
في القرآن بدل استقبال بيت المقدس في التوراة.
وقوله: } وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ.. { [النحل: 101]
أي: يُنزل كل آية حَسْب ظروفها: أمةً وبيئةً ومكاناً وزماناً.
وقوله: } قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ.. { [النحل: 101].
أي: اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب المتعمد، وأن هذا التحويل من
عنده، وليس وَحْياً من الله تعالى؛ لأن أحكام الله لا تتناقض. ونقول: نعم أحكام
الله سبحانه وتعالى لا تتناقض في الدين الواحد، أما إذا اختلفتْ الأديان فلا مانعَ
من اختلاف الأحكام.
إذن: فآيات القرآن الكريم لا تتبدّل، ولكن يحدث فيها نَسْخ، كما قال الحق تبارك
وتعالى:{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا.. }[البقرة: 106].
وإليك أمثلة للنسْخ في القرآن الكريم:
حينما قال الحق سبحانه:{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.. }[التغابن: 16].
جعل الاستطاعة ميزاناً للعمل، فالمشرّع سبحانه حين يرى أن الاستطاعةَ لا تكفي
يُخفّف عنَّا الحكم، حتى لا يُكلِّفنا فوق طاقتنا، كما في صيام المريض والمسافر
مثلاً، وقد قال تعالى:{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا...
}[البقرة: 286].
وقال:{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا }[الطلاق: 7].
فليس لنا بعد ذلك أنْ نلويَ الآيات ونقول: إن الحكم الفلاني لم تَعُدْ النفس
تُطيقه ولم يَعُد في وُسْعنا، فالحق سبحانه هو الذي يعلم الوُسْع ويُكلّف على
قَدْره، فإنْ كان قد كلّف فقد علم الوُسْع، بدليل أنه سبحانه إذا وجد مشقة خفَّف
عنكم من تلقاء نفسه سبحانه، كما قال تعالى:{ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً.. }[الأنفال: 66].
ففي بداية الإسلام حيث شجاعة المسلمين وقوتهم، قال تعالى:
{ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ }[الأنفال:
65].
أي: نسبة واحد إلى عشرة، فحينما علم الحق سبحانه فيهم ضَعْفاً، قال:{ الآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ
مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ.. }[الأنفال: 66].
أي: نسبة واحد إلى اثنين. فالله تعالى هو الذي يعلم حقيقة وُسْعنا، ويُكلِّفنا بما
نقدر عليه، ويُخفِّف عَنَّا عند الحاجة إلى التخفيف، فلا يصح أنْ نُقحِم أنفسنا في
هذه القضية، ونُقدّر نحن الوُسْع بأهوائنا.
ومن أمثلة النسخ أن العرب كانوا قديماً لا يعطون الآباء شيئاً من المال على اعتبار
أن الوالد مُنْته ذاهب، ويجعلون الحظ كله للأبناء على اعتبار أنهم المقبلون على
الحياة.
وحينما أراد الحق سبحانه أن يجعل نصيباً للوالدين جعلها وصية فقال:{ كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ.. }[البقرة: 180].
فلما استقر الإيمان في النفوس جعلها ميراثاً ثابتاً، وغَيَّر الحكم من الوصية إلى
خير منها وهو الميراث، فقال تعالى:{ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا
السُّدُسُ.. }[النساء: 11].
إذن: الحق تبارك وتعالى حينما يُغيّر آية ينسخها بأفضل منها.
وهذا واضح في تحريم الخمر مثلاً، حيث نرى هذا التدريج المحكم الذي يراعي طبيعة
النفوس البشرية، وأن هذا الأمر من العادات التي تمكَّنَتْ من النفوس، ولا بُدًَّ
لها من هذا التدرُّج، فهذا ليس أمراً عَقَدياً يحتاج إلى حُكْم قاطع لا جدال فيه.
فانظر إلى هذا التدرج في تحريم الخمر: قال تعالى:{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ
وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً }[النحل: 67].
أهل التذوق والفهم عن الله حينما سمعوا هذه الآية قالوا: لقد بيَّت الله للخمر
أمراً في هذه الآية؛ ذلك لأنه وصف الرزق بأنه حَسَن، وسكت عن السَّكَر فلم يصفه
بالحُسْن، فدلَّ ذلك على أن الخمر سيأتي فيه كلام فيما بعد.
وحينما سُئِل صلى الله عليه وسلم عن الخمر رَدَّ القرآن عليهم:{ يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا.. }[البقرة: 219].
جاء هذا على سبيل النصح والإرشاد، لا على سبيل الحكم والتشريع، فعلى كل مؤمن يثق
بكلام ربه أن يرى له مَخْرجاً من أَسرْ هذه العادة السيئة.
ثم لُوحِظ أن بعض الناس يُصلي وهو مخمور، حتى قال بعضهم في صلاته: أعبد ما تعبدون،
فجاء الحكم:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَىا حَتَّىا تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ.. }[النساء: 43].
ومقتضى هذا الحكم أنْ يصرفهم عن الخمر معظم الوقت، فلا تتأتى لهم الصلاة دون سُكْر
إلا إذا امتنعوا عنها قبل الصلاة بوقت كافٍ، وهكذا عوَّدهم على تركها معظم الوقت،
كما يحدث الآن مع الطبيب الذي يعالج مريضه من التدخين مثلاً، فينصحه بتقليل الكمية
تدريجياً حتى يتمكَّن من التغلب على هذه العادة.
وبذلك وصل الشارع الحكيم سبحانه بالنفوس إلى مرحلة ألفَتْ فيها تَرْك الخمر، وبدأت
تنصرف عنها، وأصبحت النفوس مُهيّئة لتقبُّل التحريم المطلق، فقال تعالى:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ
وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ.. }[المائدة: 90].
إذن: الحق سبحانه وتعالى نسخ آية وحُكْماً بما هو أحسن منه.
والعجيب أنْ نرى من علمائنا مَنْ يتعصّب للقرآن، فلا يقبل القول بالنسخ فيه، كيف
والقرآن نفسه يقول:{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا.. }[البقرة: 106].
قالوا: لأن هناك شيئاً يُسمَّى البداء.. ففي النسخ كأن الله تعالى أعطى حُكْماً ثم
تبيّن له خطؤه، فعدل عنه إلى حُكْم آخر.
ونقول لهؤلاء: لقد جانبكم الصواب في هذا القول، فمعنى النسخ إعلان انتهاء الحكم
السابق بحكم جديد أفضل منه، وبهذا المعنى يقع النسخ في القرآن الكريم.
ومنهم مَنْ يقف عند قوه الحق تبارك وتعالى:{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ
مِثْلِهَا.. }[البقرة: 106].
فيقول: } نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا { فيها عِلَّة للتبديل، وضرورة تقتضي النسخ وهي
الخيرية، فما عِلَّة التبديل في قوله: } أَوْ مِثْلِهَا {؟
أولاً: في قوله تعالى: } نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا { قد يقول قائل: ولماذا لم
يَأْتِ بالخيرية من البداية؟
نقول: لأن الحق سبحانه حينما قال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ.. }[آل عمران: 102].
وهذه منزلة عالية في التقوى، لا يقوم بها إلا الخواصّ من عباد الله، شَقَّتْ هذه
الآية على الصحابة وقالوا: ومَنْ يستطيع ذلك يا رسول الله؟
فنزلت:{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.. }[التغابن: 16].
وجعل الله تعالى التقوى على قدر الاستطاعة، وهكذا نسخت الآية الأولى مطلوباً،
ولكنها بقيت ارتقاء، فَمنْ أراد أنْ يرتقي بتقواه إلى (حَقّ تُقَاتِهِ) فبها
ونِعْمت، وأكثر الله من أمثاله وجزاه خيراً، ومَنْ لم يستطع أخذ بالثانية.
ولو نظرنا إلى هاتين الآيتين نظرة أخرى لوجدنا الأولى:{ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ... }[آل عمران: 102].
وإنْ كانت تدعو إلى كثير من التقوى إلا أن العاملين بها قِلَّة، في حين أن
الثانية:{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.. }[التغابن: 16].
وإنْ جعلتَ التقوى على قَدْر الاستطاعة إلا أن العاملين بها كثير، ومن هنا كانت
الثانية خَيْراً من الأولى، كما نقول: قليل دائم خير من كثير منقطع.
أما في قوله تعالى: } أَوْ مِثْلِهَا { أي: أن الأولى مِثْل الثانية، فما وَجْه
التغيير هنا، وما سبب التَبديل؟
نقول: سببه هنا اختبار المكلَّف في مدى طاعته وانصياعه، إنْ نُقِل من أمر إلى
مثله، حيث لا مشقَّة في هذا، ولا تيسيرَ في ذاك، هل سيمتثل ويطيع، أم سيجادل
ويناقش؟
مثل هذه القضية واضحة في حادث تحويل القبلة، حيث لا مشقة على الناس في الاتجاه نحو
بيت المقدس، ولا تيسير عليهم في الاتجاه نحو الكعبة، الأمر اختبار للطاعة
والانصياع لأمر الله، فكان من الناس مَنْ قال: سمعاً وطاعة ونفّذوا أمر الله فوراً
دون جدال، وكان منهم مَن اعترض وأنكر واتهم رسول الله بالكذب على الله.
ومن ذلك أيضاً ما نراه في مناسك الحج مما سنَّه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
حيث نُقبل الحجر الأسعد وهو حجر، ونرمي الجمرات وهي أيضاً حجر، إذن: هذه أمور لا
مجال للعقل فيها، بل هي لاختبار الطاعة والانقياد للمشرع سبحانه وتعالى.
ثم يقول تعالى:
} بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { [النحل: 101].
بل: حرف يفيد الإضراب عن الكلام السابق وتقرير كلام جديد، فالحق سبحانه وتعالى
يُلغي كلامهم السابق:
} قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ... { [النحل: 101].
ويقول لهم: لا ليس بمفتر ولا كذاب، فهذا اتهام باطل، بل أكثرهم لا يعلمون.
وكلمة } أَكْثَرُهُمْ { هنا ليس بالضرورة أنْ تقابل بالأقل، فيمكن أن نقول: أكثرهم
لا يعلمون. وأيضاً: أكثرهم يعلمون كما جاء في قول الحق سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.. }[الحج: 18].
هكذا بالإجماع، تسجد لله تعالى جميع المخلوقات إلا الإنسان، فمنه كثير يسجد،
يقابله أيضاً كثير حَقَّ عليه العذاب، فلم يقُلْ القرآن: وقليل حَقَّ عليه العذاب.
وعلى فَرْض أن:
} بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { [النحل: 101].
إذن: هناك أقلية تعلم صِدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن ربه، وتعلم
كذبهم وافتراءهم على رسول الله حينما اتهموه بالكذب، ويعلمون صِدْق كل آية في
مكانها، وحكمة الله المرادة من هذه الآية.
فَمنْ هم هؤلاء الذين يعلمون في صفوف الكفار والمشركين؟
قالوا: لقد كان بين هؤلاء قَوْم أصحاب عقول راجحة، وفَهْم للأمور، ويعلمون وجه
الحق والصواب في هذه المسألة، ولكنهم أنكروها، كما قال الحق تبارك وتعالى:{
وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }[النمل:
14].
وأيضاً من هؤلاء أصحاب عقول يفكرون في الهدى، ويُراودهم الإسلام، وكأن لديهم
مشروعَ إسلام يُعِدون أنفسهم له، وهم على علم أن كلام الكفار واتهامهم لرسول الله
باطل وافتراء.
وأيضاً من هؤلاء مؤمنون فعلاً، ولكن تنقصهم القوة الذاتية التي تدفع عنهم،
والعصبية التي تردّ عنهم كَيْد الكفار، وليس عندهم أيضاً طاقة أنْ يهاجروا، فهم ما
يزالون بين أهل مكة إلا أنهم مؤمنون ويعلمون صِدْق رسول الله وافتراء الكفار عليه،
لكن لا قدرة لهم على إعلان إيمانهم.
وفي هؤلاء يقول الحق تبارك وتعالى:{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ
عِلْمٍ... }[الفتح: 24-25].
أي: تدخلوا على أهل مكة وقد اختلط الحابل بالنابل، والمؤمن بالكافر، فتقتلوا
إخوانكم المؤمنين دون علم.{ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ
تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
}[الفتح: 25].
أي: لو كانوا مُميّزين، الكفار في جانب، والمؤمنون في جانب لَعذَّبْنا الذين كفروا
منهم عذاباً أليماً.
إذن: فإن كان أكثرهم لا يعلمون ويتهمونك بالكذب والافتراء فإنَّ غير الأكثرية يعلم
أنهم كاذبون في قولهم:
} إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ { [النحل: 101].
وما داموا اتهموك بالافتراء فقُلْ رداً عليهم: } قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ... {.
(/1986)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يرد على الكفار افتراءهم على رسول الله، واتهامهم
له بالكذب المتعمد، وأنه جاء بهذه الآيات من نفسه، فقال له: يا محمد قُلْ لهؤلاء:
بل نزَّله روح القُدس.
والقدس: أي المطهّر، من إضافة الموصوف للصفة، كما نقول: حاتم الجود مثلاً. والمراد
بـ " روح القُدُس " سفير الوحي جبريل عليه السلام، وقد قال عنه في آية
أخرى:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193].
وقال عنه:{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ
مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }[التكوير: 19-21].
وقوله الحق سبحانه:
{ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ... } [النحل: 102].
أي: أن جبريل لم يأْتِ بهذا القرآن من عنده هو، بل من عند الله بالحق، فمُحمد صلى
الله عليه وسلم لم يَأْتِ بالقرآن من عنده، وكذلك جبريل، فالقرآن من عند الله، ليس
افتراءً على الله، لا من محمد، ولا من جبريل عليهما السلام.
وقوله تعالى:
{ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىا لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل:
102].
أي: ليُثبِّتَ الذين آمنوا على تصديق ما جاء به الرسول من الآيات، أن الله تعالى
أعلمُ بما يُنزل من الآيات، وأن كل آية منها مُناسِبة لزمانها ومكانها وبيئتها،
وفي هذا دليلٌ على أن المؤمنين طائعون مُنصَاعون لله تعالى مُصدِّقون للرسول صلى
الله عليه وسلم في كُلِّ ما بلغ عن ربه تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ... }.
(/1987)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
وفي هذه الآية اتهام آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وافتراء جديد عليه، لا
يأنف القرآن من إذاعته، فمَنْ سمع الاتهام والافتراء يجب أن يسمع الجواب، فالقرآن
يريد أنْ يفضحَ أمر هؤلاء، وأنْ يُظهِر إفلاس حُججهم وما هم فيه من تخبُّط.
يقول الحق تبارك وتعالى:
{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. }
[النحل: 103].
وقد سبق أنْ قالوا عن رسول الله " مجنون " وبرَّأه الله بقوله تعالى:{
وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 4].
والخلقُ العظيم لا يكون في مجنون؛ لأن الخلُق الفاضل لا يُوضع إلا في مكانه، بدليل
قوله تعالى:{ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }[القلم: 2].
وسبق أنْ قالوا: ساحر وهذا دليل على أنهم مغفلون يتخبَّطون في ضلالهم، فلو كان
محمد ساحراً، فَلِمَ لم يسحركم كما سحر المؤمنين به وتنتهي المسألة؟
وسبق أنْ قالوا " شاعر " مع أنهم أدْرى الناس بفنون القول شِعْراً
ونثراً وخطابة، ولم يُجرِّبوا على محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً من ذلك، لكنه
الباطل حينما يَلجّ في عناده، ويتكبّر عن قبول الحق.
وهنا جاءوا بشيء جديد يُكذِّبون به رسول الله، فقالوا:
{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... } [النحل: 103].
أي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتردد على أحد أصحاب العلم ليعلمه القرآن
فقالوا: إنه غلام لبي عامر بن لؤي اسمه (يعيش)، وكان يعرف القراءة والكتاب، وكان
يجلب الكتب من الأسواق، ويقرأ قصص السابقين مثل عنترة وذات الهمة وغيرها من كتب
التاريخ.
وقد تضاربتْ أقوالهم في تحديد هذا الشخص الذي يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم تعلّم على يديه، فقالوا: اسمه " عداس " وقال آخرون: سلمان الفارسي.
وقال آخرون: بَلْعام وكان حداداً رومياً نصرانياً يعلم كثيراً عن أهل الكتاب..
الخ.
والحق تبارك وتعالى يردُّ على هؤلاء، ويُظهِر إفلاسهم الفكري، وإصرارهم على تكذيب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ
مُّبِينٌ } [النحل: 103].
اللسان هنا: اللغة التي يُتحدَّث بها.
ويُلحِدون إليه: يميلون إليه وينسبون إليه أنه يُعلِّم رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
أعجمي: أي لغته خفية، لا يُفصح ولا يُبين الكلام، كما نرى الأجانب يتحدثون العربية
مثلاً.
ونلاحظ هنا أن القرآن الكريم لم يقُلْ (عجمي)، لأن العجم جنس يقابل العرب، وقد
يكون من العجم مَنْ يجيد العربية الفصيحة، كما رأينا سيبوَيْه صاحب (الكتاب) أعظم
مراجع النحو حتى الآن وهو عَجمي.
أما الأعجمي فهو الذي لا يُفصح ولا يُبين، حتى وإنْ كان عربياً. وقد كان في قبيلة
لؤي رجل اسمه زياد يُقال له " زياد الأعجمي " لأنه لا يُفصح ولا يُبين،
مع أنه من أصل عربي.
إذن: كيف يتأتَّى لهؤلاء الأعاجم الذين لا يُفصحون، ولا يكادون ينطقون اللغة
العربية، كيف لهؤلاء أنْ يُعلِّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاء بمعجزة
في الفصاحة والبلاغة والبيان؟
كيف يتعلم من هؤلاء، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم التقى بأحد منهم إلا (عداس)
يُقال: إنه قابله مرة واحدة، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم تردَّد إلى معلم، لا
من هؤلاء، ولا من غيرهم؟
كما أن ما يحويه القرآن من آيات وأحكام ومعجزات ومعلومات يحتاج في تعلُّمه إلى وقت
طويل يتتلمذ فيه محمد على يد هؤلاء، وما جرّبْتم على محمد شيئاً من هذا كله.
وهل يُعقل أن ما في القرآن يمكن أن يطويه صَدْرُ واحدٍ من هؤلاء؟! لو حدث لكان له
من المكانة والمنزلة بين قومه ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من منزلة، ولأشاروا
إليه بالبنان ولذَاع صِيتُه، واشتُهر أمره، وشيء من ذلك لم يحدث.
وقوله تعالى:
} وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ { [النحل: 103].
أي: لغته صلى الله عليه وسلم، ولغة القرآن الكريم عربية واضحة مُبِينة، لا لَبْسَ
فيها ولا غموض.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ.. {.
(/1988)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
الحق تبارك وتعالى في قوله:
{ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ.. } [النحل: 104].
ينفي عن هؤلاء صفة الإيمان، فكيف يقول بعدها:
{ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ... } [النحل: 104].
أليسوا غير مؤمنين، وغير مُهْتدين؟
قُلْنا: إن الهداية نوعان:
ـ هداية دلالة وإرشاد، وهذه يستوي فيها المؤمن والكافر، فقد دَلَّ الله الجميع،
وأوضح الطريق للجميع، ومنها قوله تعالى:{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ
فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىا عَلَى الْهُدَىا... }[فصلت: 17] أي: أرشدناهم
ودَلَلْناهم.
وهداية المعونة والتوفيق، وهذه لا تكون إلا للمؤمن، ومنها قوله تعالى:{
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17].
إذن: معنى:
{ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ.. } [النحل: 104].
أي: هداية معونة وتوفيق.
ويصح أن نقول أيضاً: إن الجهة هنا مُنفكّة إلى شيء آخر، فيكون المعنى: لا يهديهم
إلى طريق الجنة، بل إلى طريق النار، كما قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ
وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً
* إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ.. }[النساء: 168-169].
بدليل قوله تعالى بعدها:
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 104].
ولأنه سبحانه في المقابل عندما تحدِّث عن المؤمنين قال:{ وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }[محمد: 6].
أي: هداهم لها وعرَّفهم طريقها.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: { إِنَّمَا يَفْتَرِي.. }.
(/1989)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: وإن افتريتم على رسول الله واتهمتموه بالكذب الحقيقي
أنْ تُكذِّبوا بآيات الله، ولا تؤمنوا بها.
ونلاحظ في تذييل هذه الآية أن الحق سبحانه لم يَقُلْ: وأولئك هم الكافرون. بل قال:
الكاذبون. ليدل على شناعة الكذب، وأنه صفة لا تليق بمؤمن.
ولذلك حينما " سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسرق المؤمن؟ قال:
" نعم " لأن الله قال:{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ }[المائدة: 38].
فما دام قد شرَّع حُكْماً، وجعل عليه عقوبة فقد أصبح الأمر وارداً ومحتمل الحدوث.
" وسئل: أيزني المؤمن؟ قال: " نعم " ، لأن الله قال:{ الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي }[النور: 2]. " وسئل: أيكذب المؤمن؟ قال: " لا ".
والحديث يُوضّح لنا فظاعة الكذب وشناعته، وكيف أنه أعظم من كل هذه المنكرات، فقد
جعل الله لكل منها عقوبة معلومة في حين ترك عقوبة الكذب ليدل على أنها جريمة أعلى
من العقوبة وأعظم.
إذن: الكذب صفة لا تليق بالمؤمن، ولا تُتصوّر في حَقِّه؛ ذلك لأنه إذا اشتُهِر عن
واحد أنه كذاب لما اعتاده الناس من كذبه، فنخشى أن يقول مرة: أشهد ألاَّ إله إلا
الله، وأن محمداً رسول الله فيقول قائل: إنه كذاب وهذه كذبة من أكاذيبه.
ثم يقول الحق سبحانه: { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ... }.
(/1990)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
الحق سبحانه وتعالى سبق وأنْ تحدث عن حكم المؤمنين وحكم الكافرين، ثم تحدّث عن
الذين يخلفون العهد ولا يُوفون به، ثم تحدث عن الذين افترَوْا على رسول الله
والذين كذَّبوا بآيات الله، وهذه كلها قضايا إيمانية كان لا بُدَّ أنْ تُثار.
وفي هذه الآية الكريمة يوضح لنا الحق سبحانه وتعالى أن الإيمان ليس مجرد أن تقول:
لا إله إلا الله محمد رسول الله. فالقول وحده لا يكفي ولا بُدَّ وأنْ تشهدَ بذلك،
ومعنى تشهد أنْ يُواطِيء القلب واللسان كل منهما الآخر في هذه المقولة.
والمتأمل لهذه القضية يجد أن القسمة المنطقية تقتضي أن يكون لدينا أربع حالات:
الأولى: أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان إيجاباً بالإيمان؛ ولذلك نقول: إن المؤمن
منطقيّ في إيمانه؛ لأنه يقول ما يُضمره قلبه.
الثانية: أنْ يُواطِيءَ القلب اللسان سلباً أي: بالكفر، وكذلك الكافر منطقي في
كفره بالمعنى السابق.
الثالثة: أنْ يؤمن بلسانه ويُضمِرَ الكفر في قلبه، وهذه حالة المنافق، وهو غير
منطقي في إيمانه حيث أظهر خلاف ما يبطن ليستفيد من مزايا الإيمان.
الرابعة: أن يؤمن بقلبه، وينطق كلمة الكفر بلسانه.
وهذه الحالة الرابعة هي المرادة في هذه الآية. فالحق تبارك وتعالى يعطينا هنا
تفصيلاً لمن كفر بعد إيمان، وما سبب هذا الكفر؟ وما جزاؤه؟
قوله:
{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ.. } [النحل: 106].
هذه جملة الشرط تأخَّر جوابها إلى آخر الآية الكريمة، لنقف أولاً على تفصيل هذا
الكفر، فإما أن يكون عن إكراه لا دَخْلَ للإنسان فيه، فيُجبر على كلمة الكفر، في
حين قلبه مطمئن بالإيمان.
{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ.. } [النحل: 106].
ثم سكت عنه القرآن الكريم ليدلّنا على أنه لا شيءَ عليه، ولا بأسَ أن يأخذ المؤمن
بالتقية، وهي رخصة تقي الإنسان موارد الهلاك في مثل هذه الأحوال.
وفي تاريخ الإسلام نماذج متعددة أخذت بهذه الرخصة، ونطقتْ كلمة الكفر وهي مطمئنة
بالإيمان.
وفي الحديث الشريف: " رفع عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه
".
ويذكر التاريخ أن ياسر أبا عمار وزوجه سُمية أول شهيدين في الإسلام، فكيف استشهدا؟
كانا من المسلمين الأوائل، وتعرّضوا لكثير من التعذيب حتى عرض عليهم الكفار النطق
بكلمة مقابل العفو عنهما، فماذا حدث من هذين الشهيدين؟ صَدَعا بالحق وأصرَّا على
الإيمان حتى نالا الشهادة في سبيل الله، ولم يأخذا برخصة التقية.
وكان ولدهما عمار أول مَنْ أخذ بها، حينما تعرّض لتعذيب المشركين. " وقد بلغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمار بن ياسر كفر، فأنكر صلى الله عليه وسلم هذا،
وقال: " إن إيمان عمار من مفرق رأسه إلى قدمه، وإن الإيمان في عمار قد اختلط
بلحمه ودمه ".
فلما جاء عمار أقبل على رسول الله وهو يبكي، ثم قص عليه ما تعرَّض له من أذى
المشركين، وقال: والله يا رسول الله ما خلَّصني من أيديهم إلا أنِّي تناولتك وذكرت
آلهتهم بخير، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مسح دموع عمار بيده
الشريفة وقال له " إنْ عادوا إليك فَقُلْ لهم ما قلت ".
وقد أثارت هذه الرخصة غضب بعض الصحابة، فراجعوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالوا: فما بال بلال؟ فقال: " عمار استعمل رخصة، وبلال صدع بالحق ".
ولا شكَّ أن هاتين منزلتان في مواجهة الباطل وأهله، وأن الصَّدْعَ بالحق والصبر
على البلاء أعْلَى منزلةً، وأَسْمَى درجة من الأَخْذ بالرخصة؛ لأن الأول آمن بقلبه
ولسانه، والآخر آمن بقلبه فقط ونطق لسانه الكفر.
لذلك، " ففي حركة الردة حاول مسيلمة الكذاب أن يطوف بالقبائل لينتزع منهم
شهادة بصدق نُبوّته، فقال لرجل: ما تقول في محمد؟ قال: رسُول الله، قال: فما تقول
فَّي؟ فقال الرجل في لباقة: وأنت كذلك، يعني أخرج نفسه من هذا المأزق دون أن يعترف
صراحة بنبوة هذا الكذاب.
فقابل آخر وسأله: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، قال: وما تقول فَّي؟ فقال
الرجل متهكماً: اجهر لأني أصبحت أصمَّ الآن، وأنكر على مسيلمة ما يدعيه فكان جزاؤه
القتل. فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما قال: " أحدهما استعمل
الرخصة، والآخر صدع بالحق ".
وقد تحدَّث العلماء عن الإكراه في قوله تعالى:
} إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ.. { [النحل: 106].
وأوضحوا وجوه الإكراه وحكم كل منها، على النحو التالي:
ـ إذا أكره الإنسان على أمر ذاتيٍّ فيه. كأن قيل له: اشرب الخمر وإلاَّ قتلتُك أو
عذبتُك قالوا: يجب عليه في هذه الحالة أنْ يشربها وينجو بنفسه؛ لأنه أمر يتعلق به،
ومن الناس مَنْ يعصون الله بشربها. فإنْ قيل له: اكفر بالله وإلاَّ قتلتُك أو
عذبتُك، قالوا: هو مُخيَّر بين أن يأخذ بالتقيّة هنا، ويستخدم الرخصة التي شرعها
الله له، أو يصدع بالحق ويصمد.
ـ أما إذا تعلّق الإكراه بحقٍّ من حقوق الغير، كأنْ قيل لك: اقتل فلاناً وإلا
قتلتك، ففي هذه الحالة لا يجوز لك قَتْله؛ لأنك لو قتلتهُ لقُتِلْت قِصَاصاً، فما
الفائدة إذن؟.
وبعد أن تحدّث الحق تبارك وتعالى عن حكم مَنْ أكرهَ وقلبه مطمئن بالإيمان، يتحدث
عن النوع الآخر:
} وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً.. { [النحل: 106].
أي: نطق كلمة الكفر راضياً بها، بل سعيدة بها نفسه، مُنْشرِحاً بها صدره، وهذا
النوع هو المقصود في جواب الشرط.
} فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ { [النحل: 106].
فإنْ كانت الآيات قد سكتت عَمَّنْ أُكرهَ، ولم تجعل له عقوبة لأنه مكره، فقد
بيَّنت أن من شرح بالكفر صدراً عليه غضب من الله أي: في الدنيا. ولهم عذاب عظيم
أي: في الآخرة.
وكما رأينا في تاريخ الإسلام نماذج للنوع الأول الذي أُكْرِه وقلبه مطمئن
بالإيمان، كذلك رأينا نماذج لمن شرح بالكفر صَدْراً، وهم المنافقون، ومنهم مَنْ
أسلم بعد ذلك وحَسُن إسلامه، ومنهم عبد الله ابن سعد بن أبي السرح من عامر بن لؤي.
ثم يقول الحق سبحانه: } ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ.. {.
(/1991)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
{ ذالِكَ } أي: ما استحقوه من العذاب السابق.
{ ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَىا الآخِرَةِ.. }
[النحل: 107].
استحب: أي آثر وتكلَّف الحب؛ لأن العاقل لو نظر إلى الدنيا بالنسبة لعمره فيها
لوجدها قصيرة أحقر من أَنْ تُحبَّ لذاتها، ولَوجدَ الأغيار بها كثيرة تتقلَّب
بأهلها فلا يدوم لها حال، ينظر فإذا الأحوال تتبدّل من الغنى إلى الفقر، ومن الصحة
إلى السَّقَم، ومن القوة إلى الضعف، فكيف إذن تستحب الدنيا على الآخرة؟!
والحق تبارك وتعالى يريد منّا أنْ نعطي كلاً من الدنيا والآخر ما يستحقه من الحب،
فنحب الدنيا دون مبالغة في حبها، نحبها على أنها مزرعة للآخرة، وإلاَّ، فكيف نطلب
الجزاء والثواب من الله؟
لذلك نقول: إن الدنيا أهمّ من أنْ تُنسى، وأتفه من أن تكون غاية، وقد قال الحق
سبحانه:{ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.. }[القصص: 77].
ففهم البعض الآية على أنها دعوة للعمل للدنيا وأخذ الحظوظ منها، ولكن المتأمل
لمعنى الآية يجد أن الحق سبحانه يجعل الدنيا شيئاً هيّناً مُعرَّضاً للنسيان والإهمال،
فيُذكِّرنا بها، ويحثُّنا على أن نأخذ منها بنصيب، فأنا لا أقول لك: لا تنسَ الشيء
الفلاني إلا إذا كنتُ أعلم أنه عُرْضَة للنسيان، وهذا جانب من جوانب الوسطية
والاعتدال في الإسلام.
ويكفينا وَصْف هذه الحياة بالدنيا، فليس هناك وَصْفٌ أقلّ من هذا الوصف، والمقابل
لها يقتضي أن نقول: العُلْيا وهي الآخرة، نعم نحن لا ننكر قَدْر الحياة الدنيا ولا
نبخسها حقها، ففيها الحياة والحسّ والحركة، وفيها العمل الصالح والذكْرى الطيبة..
الخ.
ولكنها مع ذلك إلى زوال وفناء، في حين أن الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة
الباقية التي لا يعتريها زوال، ولا يهددها موت، كما قال الحق سبحانه:{ وَإِنَّ
الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت:
64].
أي: الحياة الحقيقية التي يجب أن نحرص عليها ونحبها.
ومن ذلك قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ.. }[الأنفال: 24].
ما معنى (لِمَا يُحْييكُمْ) والقرآن يخاطبهم وهم أحياء يُرزَقُون؟ قالوا: يُحييكم
أي: الحياة الحقيقية الباقية التي لا تزول.
وقوله:
{ عَلَىا الآخِرَةِ... } [النحل: 107].
لقائل أن يقول: إن الآية تتحدث عن غير المؤمنين بالآخرة، فكيف يُقَال عنهم:
{ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَىا الآخِرَةِ.. } [النحل: 107].
نقول: من غير المؤمنين بالآخرة مَنْ قال الله فيهم:
{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ
} [النحل: 38].
وأيضاً منهم مَنْ قال:{ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً
مِّنْهَا مُنْقَلَباً }[الكهف: 36].
إذن: من هؤلاء مَنْ يؤمن بالآخرة، ولكنه يُفضّل عليها الدنيا.
قوله تعالى:
{ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [النحل: 107].
أي: لا يهديهم هداية معونة وتوفيق. وسبق أنْ قُلْنا: إن الهداية نوعان: هداية
دلالة، ويستوي فيها المؤمن والكافر، وهداية معونة خاصة بالمؤمن.
إذن: إذا نفيتَ الهداية، فالمراد هداية المعونة، فعدم هداية الله انصبتْ على
الكافر لكونه كافراً، فكأن كُفْره سبق عدم هدايته، أو نقول: لكونه كافراً لم
يَهْده الله.
ولذلك يحكم الله على هؤلاء بقوله سبحانه: { أُولَـائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ.. }.
(/1992)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
طبع: أي ختم عليها، وإذا تأملتَ الختْم وجدتَ المقصود منه أن الشيء الداخل يظلّ
داخلاً لا يخرج، وأن الخارج يظل خارجاً لا يدخل.
وفَرْقٌ بين ختم البشر وختم ربِّنا سبحانه، فقصارى ما نفعله أن نختم الأشياء
المهمة كالرسائل السرية مثلاً، أو نريد إغلاق مكان ما نختم عليه بالشمع الأحمر
لنتأكد من غلقه، ومع ذلك نجد مَنْ يحتال على هذا الختم ويستطيع فضّه وربما أعاده
كما كان.
أما إذا ختم الحق سبحانه وتعالى على شيء فلا يستطيع أحد التحايل عليه سبحانه.
فالمراد ـ إذن ـ بقوله تعالى:
{ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِهِمْ.. } [النحل: 108].
أن ما فيها من الكفر لا يخرج منها، وما هو خارجها من الإيمان لا يدخل فيها؛ ذلك
لأن القلب هو الوعاء الذي تصبّ فيه الحواس التي هي وسائل الإدراكات المعلومية،
وأهمها السمع والبصر.
فالبسمع تسمع الوحي والتبليغ عن الله، وبالبصر ترى دلائل قدرة الله في كونه وعجيب
صُنْعه مما يلفتك إلى قدرة الله، ويدعوك للإيمان به سبحانه، فإذا ما انحرفتْ هذه
الحواسّ عما أراده الله منها، وبدل أن تمدّ القلب بدلائل الإيمان تعطَّلتْ
وظيفتها.
فالسمع موجود كآلة تسمع ولكنها تسمع الفارغ من الكلام، فلا يوجد سَمْع اعتباريّ،
وكذلك البصر موجود كآلة تُبصر ما حرم الله فلا يوجد بصر اعتباري، فما الذي سيصل
إلى القلب ـ إذن ـ من خلال هذه الحواس؟
فما دام القلب لا يسمع الهداية، ولا يرى دلائل قدرة الله في كونه فلن نجد فيه غير
الكفر، فإذا أراد الإيمان قلنا له: لا بُدَّ أن تُخرِج الكفر من قلبك أولاً، فلا
يمكن أن يجتمع كفر وإيمان في قلب واحد؛ لذلك عندنا قانون موجود حتى في الماديات
يسمونه (عدم التداخل) يمكن أن تشاهده حينما تملأ زجاجة فارغة بالماء، فترى أن
الماء لا يدخل إلا بقدر ما يخرج من الهواء.
فكذلك الحال في الأوعية المعنوية.
فإن أردت الإيمان ـ أيها الكافر ـ فأخرجْ أولاً ما في قلبك من الكفر؛ واجعله
مُجرّداً من كل هوى، ثم ابحث بعقلك في أدلة الكفر وأَدلة الإيمان، وما تصل إليه
وتقتنع به أدْخله في قلبك، لكن أنْ تبحث أدلة الإيمان وفي جوفك الكفر فهذا لا
يصحّ، لا بُدَّ من إخلاء القلب أولاً وتجعل الأمريْن على السواء.
لذلك يقول الحق سبحانه:{ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي
جَوْفِهِ }[الأحزاب: 4].
وفي الأثر: " لا يجتمع حب الدنيا وحب الله في قلب واحد ".
لأن الإنسان قلباً واحداً لا يجتمع فيه نقيضان، هكذا شاءت قدرة الله أن يكون القلب
على هذه الصورة، فلا تجعلْه مزدحماً بالمظروف فيه.
كما أن طَبْع الله على قلوب الكفار فيه إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده
مراده، حتى وإنْ كان مراده الكفر، وكأنه سبحانه يقول لهؤلاء: إنْ كنتم تريدون
الكفر وتحبونه وتنشرح له صدوركم فسوف اطبع عليها، فلا يخرج منها الكفر ولا يدخلها
الإيمان، بل وأزيدكم منه إنْ أحببتُمْ، كما قال تعالى:
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً.. }[البقرة: 10].
فهنيئاً لكم بالكفر، واذهبوا غَيْرَ مأسوف عليكم.
وقوله: } وَأُولَـائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ { [النحل: 108].
الغافل: مَنْ كان لديه أمر يجب أن يتنبه إليه، لكنه غفل عنه، وكأنه كان في انتظار
إشارة تُنبّه عقله ليصل إلى الحق.
ثم يُنهي الحق سبحانه الكلام عن هؤلاء بقوله تعالى: } لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ... {.
(/1993)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
فقوله تعالى:
{ لاَ جَرَمَ.. } [النحل: 109].
أي: حقاً ولا بُدَّ، أولاً جريمة في أن يكون هؤلاء خاسرين في الآخرة، بما اقترفوه
من مُوجبات الخسارة، وبما أَتَوْا به من حيثيّات ترتَّبَ عليها الحكم بخسارتهم في
الآخرة، فقد حقَّ لهم وثبت لهم ذلك.
والمتتبع للآيات السابقة يجد فيها هذه الحيثيات، بدايةً من قَوْلهم عن رسول الله:{
إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ... }[النحل: 101].
وقولهم:{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... }[النحل: 103].
وعدم إيمانهم بآيات الله، وكونهم كاذبين مفترين على الله، واطمئنانهم بالكفر،
وانشراح صدورهم به، واستحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة.
هذه كلها حيثيات وأسباب أوجبتْ لهم الخسران في الآخرة يوم تُصفّي الحسابات، وتنكشف
الأرباح والخسائر، وكيف لا يكون عاقبته خُسْراناً مَن اقتراف كل هذه الجرائم؟!
ثم يقول الحق سبحانه: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ... }.
(/1994)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قوله تعالى: { فُتِنُواْ... } [النحل: 110].
أي: ابتلوا وعُذِّبوا عذاباً أليماً؛ لأنهم أسلموا.
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 110].
من رحمة الله تعالى أن يفتح باب التوبة لعبادة الذين أسرفوا على أنفسهم، ومن رحمته
أيضاً أن يقبل توبة مَنْ يتوب؛ لأنه لو لم يفتح الله باب التوبة للمذنب ليئسَ من
رحمة الله، ولتحوَّل ـ وإن أذنب ولو ذنباً واحداً ـ إلى مجرم يشقَى به المجتمع،
فلم يَرَ أمامه بارقة أمل تدعوه إلى الصلاح، ولا دافعاً يدفعه إلى الإقلاع.
أما إذا رأى باب ربه مفتوحاً ليل نهار يقبل توبة التائب، ويغفر ذنب المسيء، كما
جاء في الحديث الشريف: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط
يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها ".
بل ويزيده ربنا سبحانه وتعالى من فضله إنْ أحسن التوبة، وندم على ما كان منه، بأن
يُبدِّل سيئاته حسناتٍ، كما قال سبحانه:{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[الفرقان: 70].
لو رأى المذنب ذلك كان أَدْعى لإصلاحه، وأجْدَى في انتشاله من الوَهْدة التي
تردَّى فيها.
إذن: تشريع التوبة من الحق سبحانه رحمة، وقبولها من المذنب رحمة أخرى؛ لذلك قال
سبحانه:{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ.. }[التوبة: 118].
أي: شرع لهم التوبة ودَلَّهم عليها، ليتوبوا هم.
فإنْ اغترَّ مُغْترٌّ برحمة الله وفضله فقال: سأعمل سيئات كثيرة حتى يُبدِّلها
الله لي حسنات. نقول له: ومَنْ يدريك لعله لا ينطبق عليك شروط الذين يُبدّل الله
سيئاتهم حسنات، وهل تضمن أنْ يُمهِلك الأجل إلى أن تتوب، وأنت تعلم أن الموت يأتي
بغتة؟
ثم يقول الحق سبحانه: { يَوْمَ تَأْتِي... }.
(/1995)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قد يكون المعنى في هذه الآية على اتصال بالآية السابقة، ومتعلق بها، فيكون
المراد:{ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }[النحل: 110].
يحدث هذا:
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا... } [النحل: 111].
أي: يوم القيامة. أو يكون المعنى: اذكر يا محمد:
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [النحل: 111].
وهل للإنسان أكثر من نفس، فتجادل إحداهما عن الأخرى؟
الحقيقة أن للإنسان نفساً واحدة في الدنيا والآخرة، ولكنها تختلف في الدنيا عنها
يوم القيامة؛ لأن الحق سبحانه منحها في الدنيا الاختيار، وجعلها حرة في أن تفعل أو
لا تفعل، فكان من النفوس: الطائعة، والعاصية، والمنصاعة، والمكابرة.
فإذا ما وقفت النفس في موقف القيامة، وواجهتْ الحق الذي كانت تخالفه علمت أن
الموقف لا تفيد فيه مكابرة، ولا حيلة لها إلا أن تجادل وتدافع عن نفسها، فكأن
النفس القيامة تجادل عن نفس الدنيا في موقف ينادي فيه الحق تبارك وتعالى:{ لِّمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
وقد حكى القرآن الكريم نماذج من جدال النفس يوم القيامة، فقال تعالى:{ وَاللَّهِ
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }[الأنعام: 23].
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.. }[الزمر: 3].
{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا
تَحْتَ أَقْدَامِنَا... }[فصلت: 29].
إذن: هي نفس واحدة، تجادل عن نفسها في يوم لا تجزي فيه نفس عن نفس، فكلٌّ مشغول
بكَرْبه، مُحاسَب بذنبه، كما قال تعالى:{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس: 34-37].
وقوله تعالى:
{ وَتُوَفَّىا كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [النحل: 111].
الحق سبحانه يعطينا لقطة سريعة للحساب والجزاء يوم القيامة، فالميزان ميزان عَدْل
وقسطاس مستقيم لا يظلم أحداً.{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *
وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8].
وقوله تعالى: { وَتُوَفَّىا.. } [النحل: 111].
يدلُّ على أن الجزاء من الله يكون وافياً، لا نقص فيه ولا جَوْر، فالجميع عبيد
الله، لا يتفاضلون إلا بأعمالهم، فإنْ رحمهم فبفضله، وإنْ عذَّبهم فبعدْله، وقد
قال تعالى:{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
}[النحل: 118].
ثم يقول الحق سبحانه: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً.. }.
(/1996)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ تكلَّم عن الإيمان بالله والإيمان بصدق رسوله في
البلاغ عنه، واستقبال منهج الله في الكتاب والسنة، وتكلم عن المقابل لذلك من الكفر
واللجاج والعناد لله وللرسول وللمنهج. أراد سبحانه أنْ يعطينا واقعاً ملموساً في
الحياة لكل ذلك، فضرب لنا هذا المثل.
ومعنى المثل: أن يتشابه أمران تشابهاً تاماً في ناحية معينة بحيث تستطيع أن تقول:
هذا مثل هذا تماماً.
والهدف من ضرب الأمثال أنْ يُوضِّح لك مجهولاً بمعلوم، فإذا كنتَ مثلاً لا تعرف
شخصاً نتحدث عنه فيمكن أن نقول لك: هو مثل فلان ـ المعلوم لك ـ في الطول ومثل فلان
في اللون.. إلخ من الصور المعلومة لك، وبعد أن تجمع هذه الصور تُكوِّن صورة كاملة
لهذا الشخص الذي لا تعرفه.
لذلك، فالشيء الذي لا مثيلَ له إياك أن تضرب له مثلاً، كما قال الحق سبحانه:{
فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ }[النحل: 74].
لأنه سبحانه لا مثيل له، ولا نظير له، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله،
وهو سبحانه الذي يضرب المثل لنفسه، أما نحن فلا نضرب المثل إلا للكائنات المخلوقة
له سبحانه.
لذلك نجد في القرآن الكريم أمثالاً كثيرة توضح لنا المجهول بمعلوم لنا، وتوضح
الأمر المعنوي بالأمر الحسيِّ الملموس لنا.
ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً في الإنفاق في سبيل الله، وأن الله يضاعف النفقة،
ويُخلِف على صاحبها أضعافاً مضاعفة، فانظر كيف صوَّر لنا القرآن هذه المسألة:{
مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ
وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 261].
وهكذا أوضح لنا المثل الأمر الغيبي المجهول بالأمر المحسِّ المُشَاهد الذي يعلمه
الجميع، حتى استقرَّ هذا المجهول في الذهن، بل أصبح أمراً مُتيقّناً شاخصاً
أمامنا.
والمتأمل في هذا المثل التوضيحي يجد أن الأمر الذي وضّحه الحق سبحانه أقوى في
العطاء من الأمر الذي أوضح به، فإنْ كانت هذه الأضعاف المضاعفة هي عطاء الأرض، وهي
مخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه وتعالى؟
وكلمة (ضَرَبَ) مأخوذة من ضَرْب العملة، حيث كانت في الماضي من الذهب أو الفضة،
ولخوف الغش فيها حيث كانوا يخلطون الذهب مثلاً بالنحاس، فكان النقاد أي: الخبراء
في تمييز العملة يضربونها أي: يختمون عليها فتصير مُعتمدة موثوقاً بها، ونافذة
وصالحة للتداول.
كذلك إذا ضرب الله مثلاً لشيء مجهول بشيء معلوم استقرَّ في الذهن واعتُمِد.
فقال تعالى في هذا المثل:
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً.. } [النحل: 112].
الهدف من ضرب هذا المثل أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أن الإنسان إذا
أنعم الله عليه بشتى أنواع النعم فجحدها، ولم يشكره عليها، ولم يُؤدِّ حق الله
فيها، واستعمل نعمة الله في معصيته فقد عرَّضها للزوال، وعرَّض نفسه لعاقبة وخيمة
ونهاية سيئة، فقيَّد النعمة بشكرها وأداء حق الله فيها، لذلك قال الشاعر:
إذَا كُنْتَ في نعمةٍ فَارْعَها فَإِنَّ المَعَاصِي تُزيلُ النِّعَموحَافِظْ عليها
بشُكْرِ الإلهِ فَإنَّ الإلَه شَدِيدُ النِّقَمولكن، القرية التي ضربها الله لنا
مثلاً هنا، هل هي قرية معينة أم المعنى على الإطلاق؟ قد يُراد بالقرية قرية معينة
كما قال البعض إنها مكة، أو غيرها من القرى، وعلى كلٍّ فتحديدها أمر لا فائدة منه،
ولا يُؤثِّر في الهدف من ضَرْب المثل بها.
والقرية: اسم للبلد التي يكون بها قِرىً لمن يمرُّ بها، أي: بلد استقرار. وهي اسم
للمكان فإذا حُدِّث عنها يراد المكين فيها، كما في قوله تعالى:{ وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا..
}[يوسف: 82].
فالمراد: اسأل أهل القرية؛ لأن القرية كمكان لا تُسأل.. هكذا قال علماء التفسير،
على اعتبار أن في الآية مجازاً مرسلاً علاقته المحلية.
ولكن مع تقدُّم العلم الحديث يعطينا الحق تبارك وتعالى مدداً جديداً، كما قال
سبحانه:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ.. }[فصلت: 53].
والآن تطالعنا الاكتشافات بإمكانية التقاط صور وتسجيل أصوات السابقين، فمثلاً
يمكنهم بعد انصرافنا من هذا المكان أن يُسجِّلوا جلستنا هذه بالصوت والصورة.
ومعنى ذلك أن المكان يعي ويحتفظ لنا بالصور والأصوات منذ سنوات طويلة، وعلى هذا
يمكن أن نقول: إن القرية يمكن أنْ تُسأل، ويمكن أن تجيب، فلديها ذاكرة واعية
تسجِّل وتحتفظ بما سجَّلته، بل وأكثر من ذلك يتطلعون لإعادة الصور والأصوات من
بَدْء الخليقة على اعتبار أنها موجودة في الجو، مُودعة فيه على شكل موجات لم تُفقد
ولم تَضِع.
وما أشبه هذه الموجات باندياح الماء إذا ألقيتَ فيه بحجر، فينتج عنه عدة دوائر
تبتعد عن مركزها إلى أنْ تتلاشى بالتدريج.
إذن: يمكن أن يكون سؤال القرية على الحقيقة، ولا شك أن سؤال القرية سيكون أبلغ من
سؤال أهلها، لأن أهلها قد يكذبون، أما هي فلا تعرف الكذب.
وبهذا الفهم للآية الكريمة يكون فيها إعجاز من إعجازات الأداء القرآني.
وقوله تعالى: } كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً... { [النحل: 112].
آمنةً: أي في مَأْمَن من الإغارة عليها من خارجها، والأمن من أعظم نِعَم الله
تعالى على البلاد والعباد.
وقوله: } مُّطْمَئِنَّةً.. { [النحل: 112].
أي: لديها مُقوِّمات الحياة، فلا تحتاج إلى غيرها، فالحياة فيها مُستقرَّة مريحة،
والإنسان لا يطمئن إلا في المكان الخالي من المنغِّصات، والذي يجد فيه كل مقومات
الحياة، فالأمن والطمأنينة هما سِرُّ سعادة الحياة واستقرارها.
وحينما امتنَّ الله تعالى على قريش قال:{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ
رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ *
الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }
[قريش: 1-4].
فطالما شبعت البطن، وأمنتْ النفس استقرت بالإنسان الحياة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا صورة مُثْلى للحياة الدنيا، فيقول: " مَنْ
أصبح معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا
بحذافيرها ".
ويصف الحق سبحانه هذه القرية بأنها:
} يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ... { [النحل: 112].
معلوم أن الناس هم الذين يخرجون لطلب الرزق، لكن في هذه القرية يأتي إليها الرزق،
وهذا يُرجِّح القول بأنها مكة؛ لأن الله تعالى قال عنها:{ أَوَلَمْ نُمَكِّن
لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن
لَّدُنَّا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[القصص: 57].
ومن تيسَّر له العيش في مكة يرى فيها الثمرات والمنتجات من كل أنحاء العالم، وبذلك
تمَّتْ لهم النعمة واكتملتْ لديهم وسائل الحياة الكريمة الآمنة الهانئة، فماذا كان
منهم؟ هل استقبلوها بشكر الله؟ هل استخدموا نعمة عليهم في طاعته ومَرْضاته؟ لا..
بل:
} فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ.. { [النحل: 112].
أي: جحدت بهذه النعم، واستعملتها في مصادمة منهج الله وشريعته، فكانت النتيجة:
} فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
{ [النحل: 112].
وكأن في الآية تحذيراً من الحق سبحانه لكل مجتمع كفر بنعمة الله، واستعمل النعمة
في مصادمة منهجه سبحانه، فسوف تكون عاقبته كعاقبة هؤلاء.
} فَأَذَاقَهَا اللَّهُ.. { [النحل: 112].
من الذوق، نقول: ذاق وتذوَّق الطعام إذا وضعه على لسانه وتذوَّقه. والذَّوْق لا
يتجاوز حلمات اللسان. إذن: الذوْق خاصٌّ بطعْم الأشياء، لكن الله سبحانه لم يقُلْ:
أذاقها طعم الجوع، بل قال:
} لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ.. { [النحل: 112].
فجعل الجوع والخوف وكأنهما لباسٌ يلبسه الإنسان، والمتأمل في الآية يطالع دقّة
التعبير القرآني، فقد يتحول الجوع والخوف إلى لباس يرتديه الجائع والخائف، كيف
ذلك؟
الجوع يظهر أولاً كإحساس في البطن، فإذا لم يجد طعاماً عوّض من المخزون في الجسم
من شحوم، فإذا ما انتهتْ الشحوم تغذَّى الجسم على اللحم، ثم بدأ ينحت العظام، ومع
شدة الجوع نلاحظ على البشرة شحوباً، وعلى الجلد هُزَالاً وذبولاً، ثم ينكمش ويجفّ،
وبذلك يتحول الجوع إلى شكل خارجي على الجلد، وكأنه لباس يرتديه الجائع.
وتستطيع أن تتعرف على الجوع ليس من بطن الجائع، ولكن من هيئته وشُحوب لونه وتغيُّر
بشرته، كما قال تعالى عن الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض:{ تَعْرِفُهُم
بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً.. }[البقرة: 273].
وكذلك الخوف وإنْ كان موضعه القلب، إلا أنه يظهر على الجسم كذلك، فإذا زاد الخوف
ترتعد الفرائص، فإذا زاد الخوف يرتعش الجسم كله، فيظهر الخوف عليه كثوب يرتديه.
وهكذا جَسَّد لنا التعبير القرآني هذه الأحاسيس الداخلية، وجعلها محسوسة تراها
العيون، ولكنه أدخلها تحت حاسَّة التذوق؛ لأنها أقوى الحواسّ.
وفي تشبيه الجوع والخوف باللباس ما يُوحي بشمولهما الجسم كله، كما يلفّه اللباس
فليس الجوع في المعدة فقط، وليس الخوف في القلب فقط.
ومن ذلك ما اشتُهِر بين المحبين والمتحدثين عن الحب أن محله القلب، فنراهم يتحدثون
عن القلوب، كما قال الشاعر:خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَسِيغُ مَودَّتي فَأُحِسُّ
مِنْها في الفُؤادِ دَبِيبَافإذا ما زاد الحب وتسامى، وارتقت هذه المشاعر، تحوَّل
الحب من القلب، وسكَن جميع الجوارح، وخالط كل الأعضاء، على حَدِّ قول الشاعر:لاَ
عُضْو لِي إِلاَّ وَفِيهِ صَبَابةٌ فَكأنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبَاوقوله: }
بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ { [النحل: 112].
أي: أن الحق سبحانه ما ظلمهم وما تجنَّى عليهم، بل ما أصابهم هو نتيجة عملهم
وصدودهم عن سبيل الله، وكفرهم بأنعمه، فحبسها الله عنهم، فهم الذين قابلوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالصُّدود والجحود والنكران، وتعرَّضوا له ولأصحابه
بالإيذاء وبيَّتوا لقتله، حتى دعا عليهم قائلاً: " اللهم اشْدُدْ وطأتك على
مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ".
فاستجاب الحق سبحانه لنبيه، وألبسهم لباس الجوع والخوف، حتى إنهم كانوا يأكلون
الجيف، ويخلطون الشعر والوبر بالدم فيأكلوه.
وظلوا على هذا الحال سبع سنين حتى ضَجُّوا، وبلغ بهم الجَهْد والضَّنْك مُنْتهاه،
فأرسلوا وفداً منهم لرسول الله، فقالوا: هذا عملك برجال مكة، فما بال صبيانها
ونسائها؟ فكان صلى الله عليه وسلم يرسل لهم ما يأكلونه من الحلال الطيب.
أما لباس الخوف فتمثَّل في السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم
من المدينة لترهبهم وتزعجهم؛ ليعلموا أن المسلمين أصبحتْ لهم قوة وشوكة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ... {.
(/1997)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
رأينا كيف كانت النعمة تامة على أهل مكة، وقد تمثلت هذه النعمة في كَوْنها آمنة
مطمئنة، وهذه نعمة مادية يحفظ الله بها القالب الإنساني، لكنه ما يزال في حاجة إلى
ما يحفظ قِيَمه وأخلاقه.
وهذه هي نعمة النعم، وقد امتنَّ الله عليهم بها حينما أرسل فيهم رسولاً منهم، فما
فائدة النعم المادية في بلد مهزوزة القيم، مُنْحلة الأخلاق، فجاءهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليُقوِّم ما اعوجّ من سلوكهم، ويُصلح ما فسد من قِيَمهِم ومبادئهم.
وقوله: { مِّنْهُمْ... } [النحل: 113].
أي: من جنسهم، وليس غريباً عنهم، وليس من مُطْلق العرب، بل من قريش أفضل العرب
وأوسطها.
يقول تعالى: { فَكَذَّبُوهُ.. } [النحل: 113].
وكان المفترض فيهم أن يستقبلوه بما علموا عنه من صفات الخير والكمال، وبما اشتهر
به بينهم من الصدق والأمانة، ولكنهم كما كفروا بالنعم المادية كفروا أيضاً بالنعم
القيمية متمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: { فَأَخَذَهُمُ
الْعَذَابُ.. } [النحل: 113].
مَنِ الذي أخذهم؟
لم تقُلْ الآية: أخذهم الله بالعذاب، بل: أخذهم العذاب، كأن العذابَ نفسه يشتاق
لهم، وينقضُّ عليهم، ويسارع لأخذهم، ففي الآية تشخيص يُوحي بشدة عذابهم.
كما قال تعالى في آية أخرى:{ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ
وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30].
ثم يقول تعالى: { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ... }.
(/1998)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قُلْنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما اشتد الحال بأهل مكة حتى أكلوا الجيف،
كان يرسل إليهم ما يأكلونه من الحلال الطيب رحمة منه صلى الله عليه وسلم بهم
فيقول:
{ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.. } [النحل: 114].
أي: أن هذا الرزق ليس من عندي، بل من عند الله.
{ حَلالاً طَيِّباً... } [النحل: 114].
ذلك لأنهم كانوا قبل ذلك لا يتورَّعون عن أكل ما حرم الله، ولا عن أكل الخبيث،
فأراد أن يُنبِّههم أن رِزْق الله لهم من الحلال الطيب الهنيئء، فيبدلهم الحلال
بدل الحرام، والطيب بدل الخبيث.
وقوله تعالى: { وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ... } [النحل: 114].
وهنا إشارة تحذير لهم أنْ يقعوا فيما وقعوا فيه من قَبْل من جُحود النعمة
ونكْرانها والكفر بها، فقد جَرَّبوا عاقبة ذلك، فنزع الله منهم الأمْنَ، وألبسهم لباسَ
الخوف، ونزع منهم الشَّبَع ورَغَد العيش، وألبسهم لباس الجوع، فخذوا إذن عبرة مما
سلف:
{ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ... } [النحل: 114].
ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ... }.
(/1999)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
الحق سبحانه وتعالى بعد أنْ قال:{ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً
طَيِّباً }[النحل: 114].
أراد أن يُكرِّر معنًى من المعاني سبق ذكره في البقرة والمائدة، فقال في البقرة:{
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[البقرة: 173].
وقال تعالى في سورة المائدة:{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.. }[المائدة: 3].
وهذه الأشياء كنتم تأكلونها وهي مُحرّمة عليكم، والآن ما دُمْنَا ننقذكم، ونجعل لكم
معونة إيمانية من رسول الله، فكلوا هذه الأشياء حلالاً طيباً.
ولكن، لماذا كرَّر هذا المعنى هنا؟
التكرار هنا لأمرين:
الأول: أنه سبحانه لا يريد أنْ يعطيهم صورة عامة بالحكم، بل صورة مُشخَّصة
بالحالة؛ لأنهم كانوا جَوْعى يريدون ما يأكلونه، حتى وإنْ كانت الجيف، ولكن
الإسلام يُحرِّم الميتة، فأوضح لهم أنكم بعد ذلك ستأكلون الحلال الطيب.
ثانياً: أن النص يختلف، ففي البقرة:{ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ..
}[البقرة: 173].
وهنا: { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ.. } [النحل: 115].
وليس هنا من قبيل التفنُّن في الأسلوب، بل المعنى مختلف تماماً؛ ذلك لأن الإهلال
هو رَفْع الصوت عند الذبح، فكانوا يرفعون أصواتهم عند الذبح، ولكن والعياذ بالله
يقولون: باسم اللات، أو باسم العُزّى، فيُهلون بأسماء الشركاء الباطلين، ولا
يذكرون اسم الله الوهاب.
فمرَّة يُهلُّون به لغير الله، ومرة يُهِلُّون لغير الله به. كيف ذلك؟
قالوا: لأن الذبْح كان على نوعين: مرة يذبحون للتقرُّب للأصنام، فيكون الأصل في
الذبح أنه أُهِلَّ لغير الله به. أي: للأصنام.
ومرَّة يذبحون ليأكلوا دون تقرُّب لأحد، فالأصل فيه أنه أُهِلَّ به لغير الله.
إذن: تكرار الآية لحكمة، وسبحان مَنْ هذا كلامه.
وقوله: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ.. } [النحل: 115].
الاضطرار: أَلاَّ تجد ما تأكله، ولا ما يقيم حياتك.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا هنا رخصة عندما تُلجِئنا الضرورة أن نأكل من هذه
الأشياء المحرَّمة بقدر ما يحفظ الحياة ويسُدُّ الجوع، فمَعنى (غَيْر بَاغٍ) غير
مُتجاوزٍ للحدِّ، فلو اضطررْتَ وعندك مَيْتة وعندك طعام حلال، فلا يصحّ أن تأكل
الميتة في وجود الحلال.
{ وَلاَ عَادٍ } [النحل: 115].
أي: ولا مُعْتَدٍ على القدر المرخَّص به، وهو ما يمسك الحياة ويسُدُّ جوعك فقط،
دون شِبَع منها.
ويقول تعالى: { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل: 115].
وفي البقرة:{ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ... }[البقرة: 173].
فالمعنى واحد، ولكن هنا ذكر المغفرة والرحمة، وهناك ذكر سببهما.
وتجد الإشارة هنا إلى ما يتشدَّق به البعض من الملاحدة الذين يبحثون في القرآن عن
مَغْمز، فيقولون: طالما أن الله حرَّم هذه الأشياء، فما فائدتها في الكون؟
نقول: أتظنون أن كل موجود في الكون وُجِد ليُؤكل، أليس له مهمة أخرى؟ ومن ورائه
مصلحة أخرى غير الأَكْل، فإنْ حرَّم الإسلام أكْله فقد أباح الانتفاع به من وجه
آخر.
فالخنزير مثلاً حَرَّم الله أكْله، ولكن خَلقه لمهمة أخرى، وجعل له دَوْراً في
نظافة البيئة، حيث يلتهم القاذورات، فهو بذلك يُؤدِّي مهمة في الحياة.
وكذلك الثعابين لا نأكلها، ولها مهمة في الحياة أيضاً، وهي أنْ تُجهِّز لنا السُّم
في جوفها، وبهذا السم تعالج بعض الداءات والأمراض، وغير ذلك من الأمثلة كثير.
وكذلك يجب أنْ نعلمَ أن الحق سبحانه ما حرَّم علينا هذه الأشياء إلا لحكمة، وعلى
الإنسان أن يأخذ من واقع تكوينه المادي وتجاربه ما يُقرِّب له المعاني القيمية
الدينية، فلو نظر إلى الآلات التي تُدار من حوله من ماكينات وسيارات وطائرات وخلافه
لوجد لكل منها وقوداً، ربما لا يناسب غيرها، حتى في النوع الواحد نرى أن وقود
السيارات وهو البنزين مثلاً لا يناسب الطائرات التي تستخدم نفس الوقود، ولكن بدرجة
نقاء أعلى.
إذن: لكل شيء وقود مناسب، وكذلك أنت أيها الإنسان لك وقودك المناسب لك، وبه تستطيع
أداء حركتك في الحياة، وأنت صَنْعة ربك سبحانه، وهو الذي يُحدِّد لك ما تأكله وما
لا تأكله، ويعلم ما يُصلحك وما يضرُّك.
والشيء المحرَّم قد يكون مُحرَّماً في ذاته كالميتة لما فيها من ضرر، وقد يكون
حلالاً في ذاته، ولكنه مُحرَّم بالنسبة لشخص معين، كأن يُمنَع المريض من تناول
طعام ما؛ لأنه يضرُّ بصحته أو يُؤخِّر شفاءه، وهو تحريم طاريء لحين زوال سببه.
وصورة أخرى للتحريم، وهي أن يكون الشيء حلالاً في ذاته ولا ضررَ في تناوله، ومع
ذلك تحرمه عقوبةً، كما تفعل في معاقبة الطفل إذا أساء فنحرمه من قطعة الحلوى
مثلاً.
إذن: للتحريم أسباب كثيرة، سوف نرى أمثلة منها قريباً.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: } وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا.. {.
(/2000)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
معنى { تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ }: تُظهِره على أوضح وجوهه، فليس كلامهم
كذباً فقط، بل يصفه، فمَنْ لا يعرف الكذب فليعرفه من كلام هؤلاء.
والمراد بالكذب هنا قولهم:
{ هَـاذَا حَلاَلٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ.. } [النحل: 116].
فهذا كذب وافتراء على الله سبحانه؛ لأنه وحده صاحب التحليل والتحريم، فإياك أنْ
تُحلِّل شيئاً من عند نفسك، أو تُحرِّم شيئاً حَسْب هواك؛ لأن هذا افتراءٌ على
الله:
{ لِّتَفْتَرُواْ عَلَىا اللَّهِ الْكَذِبَ... } [النحل: 116].
وقوله تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىا اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }
[النحل: 116].
فإن انطلى كذبهم على بعض الناس، فأخذوا من ورائه منفعة عاجلة، فعمَّا قليل سيُفتضح
أمرهم، وينكشف كذبهم، وتنقطع مصالحهم بين الخلق.
ويصف الحق سبحانه ما يأخذه هؤلاء من دنياهم بأنه: { مَتَاعٌ قَلِيلٌ.. }.
(/2001)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
أي: ما أخذتموه بكذبكم وافترائكم على الله متاعٌ قليل زائل، سيحرمكم من المتاع
الكثير الباقي الذي قال الله عنه:{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ
بَاقٍ }[النحل: 96].
ليس هذا فقط بل:
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل: 117].
ثم يقول الحق سبحانه: { وَعَلَىا الَّذِينَ هَادُواْ.. }.
(/2002)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
بعد أن تكلمت الآيات فيما أحلَّ الله وفيما حرَّم، وبيَّنتْ أن التحليل أو التحريم
لله تعالى، جاءت لنا بصورة من التحريم، لا لأن الشيء ذاته مُحرَّم، بل هو مُحرَّم
تحريم عقوبة، كالذي مثَّلْنَا له سابقاً بحرمان الطفل من الحلوى عقاباً له على
سُوء فِعْله.
والذين هادوا هم: اليهود عاقبهم الله بتحريم هذه الأشياء، مع أنها حلال في ذاتها،
وهذا تحريم خاصٌّ بهم كعقوبة لهم.
وقوله تعالى:
{ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ.. } [النحل: 118].
المراد ما ذُكِر في سورة الأنعام من قوله تعالى:{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ
حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا
اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ
}[الأنعام: 146].
كل ذي ظفر: الحيوان ليس منفرجَ الأصابع، والحوايا: هي المصارين والأمعاء، ونرى أن
كل هذه الأشياء المذكورة في الآية حلال في ذاتها، ومُحلَّلة لغير اليهود، ولكن
الله حرَّمها عليهم عقوبةً لهم على ظلمهم وبغيهم، كما قال تعالى:{ فَبِظُلْمٍ
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ
وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ
نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا
لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }[النساء: 160-161].
أي: بسبب ظلمهم حَرَّمنا عليهم هذه الطيبات.
ذلك لأن مَنْ أخذ حكماً افتراءً على الله فحرَّم ما أحلَّ الله. أو حلَّل ما حرَّم
الله لا بُدَّ أنْ يُعاقبَ بمثله فيُحرِّم عليه ما أحِلّ لغيره، وقد وقع الظلم من
اليهود لأنهم اجترأوا على حدود الله وتعاليمه، وأول الظلم وقمته الشرك بالله
تعالى:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
والظلم نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره.
ومن ظلمهم: ما قالوه لموسى ـ عليه السلام ـ بعد أن عبر بهم البحر، ومرُّوا على قوم
يعكفون على أصنام لهم، فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال تعالى:{
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىا قَوْمٍ
يَعْكُفُونَ عَلَىا أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يامُوسَىا اجْعَلْ لَّنَآ
إِلَـاهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ }[الأعراف: 138].
ومن ظلمهم: أنهم عبدوا العجل من دون الله.
ومن ظلمهم لموسى ـ عليه السلام ـ: أنهم لم يؤمنوا به. كما قال تعالى:{ فَمَآ آمَنَ
لِمُوسَىا إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىا خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ
وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ }[يونس: 83].
ومن ظلمهم:{ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ }[النساء: 161].
إذن: بسبب ظلمهم وأخذهم غير حَقِّهم حرَّم الله عليهم أشياء كانت حلالاً لهم؛ قال
تعالى:
{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [النحل:
118].
ظلموا أنفسهم بأن أعطوا لأنفسهم متاعاً قليلاً عاجلاً، وحرموها من المتعة الحقيقية
الباقية.
ثم يقول الحق سبحانه: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ.. }.
(/2003)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
الحق سبحانه وتعالى يعطي عبده فرصة، ويفتح له باب التوبة والرجاء، فمن رحمته
سبحانه بعباده أنْ شرع لهم التوبة من الذنوب، ومن رحمته أيضاً أن يقبلها منهم
فيتوب عليهم. ولو أغلق باب التوبة لَتحوَّل المذنب ـ ولو لمرة واحدة ـ إلى مجرم
يُعربد في المجتمع، وبفتح باب التوبة يقي الله المجتمع من هذه العربدة.
ويبين الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة التوبة فيقول: " لله أشد فرحاً بتوبة
عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه
وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو
بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ
من شدة الفرح ".
وقوله تعالى في بداية الآية: { ثُمَّ } تدلُّ على كثرة ما تقدم من ذنوب، ومع ذلك
غفرها الله لهم لِيُبيِّن لك البَوْن الشاسع بين رحمة الله وإصرار العُصَاة على
الكفران بالله، وعلى المعصية.
وقوله تعالى: { بِجَهَالَةٍ }.
أي: بطيش وحُمْق وسَفَه، وجميعها داخلة في الجهل بمعنى أنْ تعتقد شيئاً وهو غير
واقع، فالجهل هنا ليس المراد منه عدم العلم، إنما الجاهل مَنْ كانت لديه قضية
مخالفة للواقع وهو متمسك بها، والمراد أن ينظر إلى خير عاجل في نظره، ويترك خيراً
آجلاً في نظر الشرع.
وقد ورد هذا المعنى في قول الحق سبحانه:{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ
}[النساء: 17].
بجهالة: يعني في لحظة سَفَه وطيْش، فالعاصي يعلم الحكم تماماً، ولكنه في غفلة عنه،
وعدم تبصُّر بالعواقب، ولو فكَّر في عاقبة أمره ما تجرَّأ على المعصية.
لذلك نقول: إن صاحب المعصية لا يُقدِم عليها إلا في غيبة العقل.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق
السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
ولو استحضر قسوة الجزاء لما أقدم على معصيته، ولكن سفهه وطيْشه يُغلّف الجزاء
ويستره عنه ويُزيّن له ما ينتظره من لذة ومتعة عاجلة.
وهَبْ أن شخصاً ألحتْ عليه غريزة الجنس، وهي أشرس الغرائز في الإنسان، ففكّر في
الفاحشة والعياذ بالله، وقبل أنْ يقع في هذه الوهدة السحيقة أخذناه إلى موقد
النار، وذكّرناه بما غفل عنه من جزاء وعقوبة هذه الجريمة.
بالله عليك، ماذا تراه يفعل؟ هل يُصِرّ على جريمته؟ لا، لأنه كان ذاهلاً غافلاً،
وبمجرد أن تذكره يرجع.
إذن: طيشه وسفهه صرفه عن التفكر في العاقبة وأذهله عن رَدِّ الفعل، وجعله ينظر إلى
الأمور نظرة سطحية متعجِّلة.
وقوله: } ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ.. { [النحل: 119].
والتوبة هنا هي التوبة النصوح الصادقة، التي ينوي صاحبها الإقلاع عنها وعدم
العَوْد إليها مرة أخرى، ويعزم على ذلك حال توبته، فإذا فعل ذلك قَبِل الله منه
وتاب عليه.
ولا يمنع ذلك أن يعود للذنب مرة أخرى إذا ضعُفَتْ نفسه عن المقاومة، فإنْ عاد عاد
إلى التوبة من جديد، لأن الله سبحانه من أسمائه (التواب) أي: كثير التوبة، فلم
يقل: تائب بل تواب، فلا تنقطع التوبة في حق العبد مهما أذنب، وعليه أنْ يُحدِث لكل
ذنبٍ توبة.
بل وأكثر من ذلك، إذا تاب العبد وأحسن التوبة، وأتى بالأعمال الصالحة بدلاً من
السيئة، منَّ الله عليه بأن يُبدِّل سيئاته حسنات، وهذه معاملة رب كريم غفور رحيم.
وقوله سبحانه:
} إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ { [النحل: 119] فيه إشارة لحرص
النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وأنه يسرُّه أن يغفر الله لنا. } إِنَّ رَبَّكَ {
يا محمد غفور رحيم، فكأنه سبحانه يمتنُّ على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيغفر
للمذنبين من أمته.
ثم يقول الحق سبحانه واصفاً نبيه إبراهيم عليه السلام: } إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
كَانَ.. {.
(/2004)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
بعد أن ذكرتْ الآيات طرفاً من سيرة اليهود، وطرفاً من سيرة أهل مكة تعرَّضتْ لخليل
الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والسؤال: لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء؟
ذلك لأنه أبو الأنبياء، ولو مكانته بين الأنبياء، والجميع يتمحكون فيه، حتى
المشركون يقولون: نحن على دين إبراهيم، والنصارى قالوا عنه: إنه نصراني. واليهود
قالوا: إنه يهودي.
فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام، وتُوضِّح مواصفاتها، وتردُّ
وتُبطِل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام، وهاكم مواصفاته:
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً.. } [النحل: 120].
أُمَّة: الأمة في معناها العام: الجماعة، وسياق الحديث هو الذي يُحدِّد عددها،
فنقول مثلاً: أمة الشعراء. أي: جماعة الشعراء، وقد تكون الأمة جماعة قليلة العدد،
كما في قوله تعالى:{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً
مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ.. }[القصص: 23].
فسمي جماعة من الرعاة أمة؛ لأنهم خرجوا لغرض واحد، وهو سَقْي دوابهم.
وتُطلَق الأمة على جنس في مكان، كأمة الفرس، وأمة الروم، وقد تُطلِق على جماعة
تتبع نبياً من الأنبياء، كما قال سبحانه:{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ
فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر: 24].
وحين نتوسَّع في معنى نجدها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تشمل جميع الأمم؛
لأنه أُرسِل للناس كافّة، وجمع الأمم في أمة واحدة، كما قال تعالى:{ إِنَّ
هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }[الأنبياء: 92].
ومعنى أمة واحدة. أي: جامعة لكل الأمم.
فالمعنى ـ إذن ـ أن إبراهيم عليه السلام ـ يقوم مقام أمة كاملة؛ لأن الكمالات
المطلقة لله وحده، والكمالات الموهوبة من الله لخلْقه في الرسل تُسمَّى كمالات
بشرية موهوبة من الله.
أما ما دون الرسل فقد وُزِّعت عليهم هذه الكمالات، فأخذ كل إنسان واحداً منها،
فهذا أخذ الحلم، وهذا الشجاعة، وهذا الكرم، وهكذا لا تجتمع الكمالات إلا في الرسل.
فإذا نظرتَ إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ وجدتَ فيه من المواهب ما لا يُوجد إلا في
أمة كاملة.
كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حَدَّد موقعه بين رسالات الله في الأرض
يقول: " الخير فيَّ ـ وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه ـ وفي أمتي
".
أي: أن كل واحد منهم أخذ جزءًا من هذا الكمال، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم
مُبعثر في أمته كلها.
لذلك حين تتتبع تاريخ إبراهيم ـ عليه السلام ـ في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من
مواقفه يعطيك خَصْلة من خصال الخير، وصِفة من صفات الكمال، فإذا جمعتَ هذه الصفات
وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسْرها، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير.
ومن معاني أمة: أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته.
وقوله: } قَانِتاً لِلَّهِ.. { [النحل: 120].
أي: خاشعاً خاضعاً لله تعالى في عبادته.
} حَنِيفاً.. { [النحل: 120].
الحنف في الأصل: الميْل، وقد جاء إبراهيم ـ عليه السلام ـ والكون على فساد واعوجاج
في تكوين القيم، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج، وحَاد عن هذا الفساد.
والحق سبحانه وتعالى لا يبعث الرسل إلا إذا طَمَّ الفساد، إذن: ميْله عن الاعوجاج
والفساد، فمعناه أنه كان مستقيماً معتدلاً على الدين الحق، مائلاً عن الاعوجاج
حائداً عن الفساد.
ثم يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: } وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [النحل:
120].
وهذه هي الصفة الرابعة لخليل الله إبراهيم بعد أن وصفه بأنه كان أمة قانتاً لله
حنيفاً، وجميعها تنفي عنه الشرك بالله، فما فائدة نَفْي الشرك عنه مرة أخرى في:
} وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [النحل: 120].
يجب أنْ نُفرّق بين أنواع الشرك، فمنه الشرك الأكبر، وهو أن تجعل لله شركاء، وهو
القمة في الشرك. ومنه الشرك الخفي، بأن تجعل للأسباب التي خلقها دَخْل في تكوين
الأشياء.
فالآية هنا: } وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [النحل: 120].
أي: الشرك الخفي، فالأوصاف السابقة نفتْ عنه الشرك الأكبر، فأراد سبحانه أن ينفي
عنه شركَ الأسباب أيضاً، وهو دقيق خفيّ.
ولذلك عندما أُلقِيَ ـ عليه السلام ـ في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإنْ جاءت على
يد جبريل ـ عليه السلام ـ، فقال له حينما عرض عليه المساعدة: أما إليك فلا. فأين
الشرك الخفي ـ إذن ـ والأسباب عنده معدومة من البداية؟
ثم يقول الحق سبحانه: } شَاكِراً لأَنْعُمِهِ.. {.
(/2005)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
قوله تعالى: { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } [النحل: 121].
فيه تلميح لأهل مكة الذين جحدوا نعمة الله وكفروها، وكانت بلدهم آمنة مطمئنة، فلا
يليق بكم هذا الكفر والجحود، وأنتم تدَّعُون أنكم على ملِّة إبراهيم ـ عليه السلام
ـ فإبراهيم لم يكن كذلك، بل كان شاكراً لله على نعمه.
وقوله: { اجْتَبَاهُ } [النحل: 121].
اصطفاه واختاره للنبوة، واجتباء إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان عن اختبار، كما قال
تعالى:{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ..
}[البقرة: 124].
أي: اختبره ببعض التكاليف، فأتمها إبراهيم على أكمل وجه، فقال له ربه:{ قَالَ
إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً }[البقرة: 124].
ولكنه لحبه أن تتصل الإمامة في ذريته قال:{ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي }[البقرة:
124].
فعدَّل الله له هذه الرغبة، وصحَّح له، بأن ذريتك ستكون منها الظالم، فقال:{ لاَ
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[البقرة: 124].
لذلك تعلَّم إبراهيم ـ عليه السلام ـ من هذا الموقف، وأراد أن يحتاط لنفسه بعد
ذلك، فعندما أراد أن يطلب من ربه أن يرزق أهل مكة من الثمرات قال:{ رَبِّ اجْعَلْ
هَـاذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ.. }[البقرة: 126].
فصحَّح الله له أيضاً هذا المطلب، فالموقف هنا مختلف عن الأول، الأول كان في إمامة
القيم والدين، وهذه لا يقوم بها ظالم، أما هذه فرزق وعطاء ربوبية يشمل المؤمن
والكافر والطائع والعاصي، فالجميع في الرزق سواء، فقال تعالى:{ وَمَن كَفَرَ..
}[البقرة: 126].
أي: سأرزق الكافر أيضاً.
وهنا تتجلى عظمة الربوبية التي تُربِّي الأنبياء، وتصنعهم على عَيْنها، فكل مواقف
الأنبياء تتجمع في النهاية، وتعطينا خلاصة الكمال البشري.
ويدل على دقة إبراهيم ـ عليه السلام ـ في أداء ما طُلِب منه موقفه في بناء البيت،
فبعد أن دَلَّه الله على مكانه أخذ يُزيح عنه آثار السيول، ويكشف عن قواعده، وكان
يكفي إبراهيم لتنفيذ أمر ربه أنْ يرفع البناء إلى ما تناله يده من ارتفاع، ولكنه
أحب أن يأتي بالأمر على أتمِّ وجوهه، وينفذه بدقة واحتياط، ففكَّر أن يأتي بحجر
مرتفع، ويقف عليه ليزيد من ارتفاع البناء، فجاء بالحجر الذي هو مقام إبراهيم، كل
ذلك وولده يساعده؛ لذلك لما أتى بالحجر جاء بحجر لا يرفعه إلا رجلان.
وكذلك موقفه الإيماني وتخلِّيه عن الأسباب، حينما ترك زوجه هاجر وصغيره إسماعيل في
وادٍ غير ذي زرع، وفي مكان خالٍ من مُقوِّمات الحياة وأسباب العيش.
إنه لا يؤمن بالأسباب، إنما يؤمن بمُسبِّبها، وطالما أنه سبحانه موجود فسوف
يُوفِّر لهم من الأسباب ما يحفظ حياتهم؛ لذلك حينما سألته هاجر: أهذا منزل أنزلكه
الله أم من عندك؟
فلما علمت أنه من الله قالت: إذن لن يُضيِّعنا. وكأن إيمان إبراهيم نضح على زوجته،
وملأ قلبها يقيناً في الله تعالى.
وقوله سبحانه:
{ وَهَدَاهُ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل: 121].
كيف.. بعد كل هذه الأوصاف الإيمانية تقول الآيات (وَهَدَاهُ) أليست هذه كلها
هداية؟
نقول: المراد زاده هداية، كما قال تعالى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ
هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17].
ثم يقول الحق سبحانه: { وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا.. }.