Translate

الأربعاء، 13 أبريل 2022

تفسير الشعراوي 16. هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

16.

تفسير الشعراوي 16.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

---------------
وبعد أن بيَّن الحق أنه خلق السماء والأرض وخلق الكون كله وسخره للإنسان جاء لنا بنعم من آياته التي خلقها لنا، والتي جعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لقوام الحياة؛ فالشمس هي التي تُنضج لنا كل شيء في الوجود، وتعطي لكل كائن الإشعاع الخاص به، كما أن الشمس تبخر المياه - كما قلنا من قبل - لينزل الماء بعد ذلك عذباً فراتاً، يرتوي منه الإنسان وتشرب منه الأنعام ونروي به الزرع.
والشمس هي الأم لمجموعة من الكواكب التي تدور حولها، فدورة الأرض حول الشمس تمثل السنة، ودورة الأرض حول نفسها تمثل اليوم. فيقول الحق سبحانه هنا:
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً } ولو نظرت إلى المعنى السطحي في الشمس والقمر لقلت: إن الشمس تعطي نوراً وكذلك القمر، ولكن النظرة الأعمق تتطلب منك أن تفرِّق بين الاثنين؛ فالشمس تعطي ضياء، والقمر يعطي نوراً. والفرق بين الضياء والنور يتمثل في أن الضياء تصحبه الحرارة والدفء، والنور إنارة حليمة، ولذلك يسمى نور القمر النور الحليم؛ فلا تحتاج إلى الظل لتستظل من حرارته، لكن الشمس تحتاج إلى مظلة لتقيك حرارتها.
إذن: فالنور هو ضوء ليس فيه حرارة، والحرارة لا تنشأ إلا حين يكون الضوء ذاتيّاً من المضيء مثل الشمس. أما القمر فضوؤه غير ذاتي ويكتسب ضوءه من أشعة الشمس حين تنعكس عليه، فهو مثل المرآة حين تسلط عليها بعضاً من الضوء فهي تعكسه.
إذن: القمر مضيء بغيره، أما الشمس فهي تضيء بذاتها. لذلك قال الحق هنا: { جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً }.
وكلمة { ضِيَآءً } إما أن تعتبرها مفرداً مثل صام صياماً، وقام قياماً، وضاء ضياءً. وإما أن تعتبرها جمعاً، مثلها مثل حوض ـ جمعه: حياض، ومثل روض ـ جمعه رياض، وكذلك جمع ضوء هو ضياء.
إذن كلمة { ضِيَآءً } تصلح أن تكون جمعاً وتصلح أن تكون مفرداً، وحين يجيء اللفظ صالحاً للجمع وللإفراد، لا بد أن يكون له عند البليغ ملحظ؛ لأنه يحتمل هذه المعاني كلها، وقبل معرفتنا أسرار ضوء الشمس وقبل تحليله، كنا نقول: إنه ضوء، لكن بعد أن حللنا ضوء الشمس، وجدنا أن ألوان الطيف سبعة منها ضوء أحمر، وضوء أخضر، وضوء أصفر، وغيرها.
إذن: فـ " ضياء " تعبر عن تعدد الألوان المخزونة في ضياء الشمس، فإن قلت: ضياء جمع ضوء، فهذا بتحليل الضوء إلى عناصره كلها، وإن قلت: ضياء مثل قيام، ومثل صيام، فهذا يصلح في المعنى العام.
ولذلك كان القرآن ينزل بما تحتمله العقول المعاصرة لتزوله التي لا تعرف المعاني العلمية للظواهر. ولو قال القرآن هذه الحقائق، لقال واحد: إنني أرى الشمس حمراء لحظة الغروب، وأراها صفراء لحظة الظهيرة، وهو لا يعلم أن الحمرة وقت الغروب هي حمرة في الرؤية لطول الأشعة الحمراء، وهي لا تظهر إلى حين الغروب حيث تكون الشمس في أبعد نقطة، فلا يصل إلينا إلا الضوء الأحمر، أما بقية الأضواء فهي تشع في الكون ولا تصل إلينا.

(/1356)


إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)


وهكذا بينّ الحق اختلاف الليل عن النهار مما يؤكد أنهما وجدا معاً، وعطف عليها { وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }؛ لأنه سبحانه خلق الكون بما فيه من مقومات حياة من مأكل ومشرب وهواء، وغير ذلك، ثم سخَّر الكون كله؛ لخدمة السيد وهو الإنسان.
ولو نظرتَ إلى مقومات الحياة لوجدت فيها احتياجات أساسية تتمثل في نفس هواء، وشراب ماء، وطعام؛ هذه أهم احتياجات الإنسان من مقومات الحياة. ويصبر الإنسان على المأكل أكثر مما يصبر على المشرب، ويصبر على المشرب أكثر مما يصبر على نَفَس الهواء، بل ولا يملك الإنسان الصبر على نَفَس الهواء مقدار شهيق وزفير.
لذلك شاء الحق أن يملك قومٌ طعام غيرهم، لأن الجسم يمكنه أن يصبر على الطعام لمدة قد تصل إلى الشهر ويعتمد في ذلك على إذابة الدهن المتراكم بداخله، عكس ما اخترع البشر من آلات، فالسيارة لا يمكن أن تسير لمتر واحد دون وقود، أما الجسم فيتحمل لعل مَنْ يملك الطعام يخفف من القيود، أو لعل الإنسان الجائع يجد طريقه لينال ما يقتات به.
أما الماء فقد شاء الحق أن يقلل من احتكار البشر له؛ لأن الإنسان أكثر احتياجاً للماء من الطعام.
أما الهواء فسبحانه وتعالى لم يُملِّك الهواء لأحد؛ لأن الهواء هو العنصر الأساسي للحياة؛ ولذلك اشتق منه لفظ النّفس، ونَفْس ونَفَس.
ولو نظرتَ إلى الهواء في الوجود كله لوجدته عامل صيانة لكل الوجود من ثبات الأرض، إلى ثبات المباني التي عليها، إلى ثبات الأبراج، إلى ثبات الجبال، كل ذلك بفعل الهواء؛ لأن تياراته التي تحيط بجوانب كل الأشياء هي التي تثّبتها، وإنْ تخلخل الهواء في أي ناحية حول تلك المباني والجبال فهي تنهدم على الفور.
إذن: الهواء هو الذي يحفظ التوازن في الكون كله. ولذلك قلنا: إنك لو استعرضتَ ألفاظ القرآن لوجدت أن الحق سبحانه حينما يتكلم عن تصريف الرياح، فهو سبحانه يتكلم بدقَّةِ خالقٍ، بدقة إله حكيمٍ، فهو يرسل من الرياح ما فيه الرحمة، مثل قوله الحق:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ... }[الحجر: 22].
لكن إذا جاء بذكر ريح ففي ذلك العقاب، مثل قوله:{ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6].
ومثل قوله:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىا إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ }[الأحقاف: 25].
لأن الرياح تأتي من كل ناحية، فتوازن الكائنات، أما الريح فهي تأتي من ناحية واحدة فتدهم ما في طريقها.
وهنا يقول سبحانه:
{ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي: أنه جاء بالمخلوقات الأخرى مجملة بعد أن جاء بذكر الشمس والقمر كآيتين منفصلتين، ثم ذكر السماوات والأرض وما فيهما من آيات أخرى: من رعد، وبرق، وسحاب، ونجوم وعناصر في الكون، كل ذلك مجمل في قوله: { وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }؛ لأنه لو أراد أن يفصِّل لَذَكَرَ كثيراً من الآيات والنعم، وهو القائل:

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا... }[إبراهيم: 34].
والقرآن ليس كتاباً لبسط المسائل كلها، بل هو كتاب منهج، ومن العجيب أنه جاء بـ " إن " وهي التي تفيد الشك في قوله:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }؛ لأن أحداً مهما أوتي من العلم ليس بقادر أن يُحصي نعمَ الله في الكون؛ ولأن الإقبال على العَدّ فرض إمكان الحصر، ولا يوجد إمكان لذلك الحصر؛ لذلك لم يأت بـ " إذا " ، بل جاء بـ " إنْ " وهي في مقام الشك.
والأعجب من هذا أنك تجد أن العَدَّ يقتضي التكرار، ولم يقل الله سبحانه: وإن تعدوا نعم الله، بل جاء بـ " نعمة " واحدة، وإذا استقصيتَ ما في النعمة لوجدتَ فيها آلاف النعم التي لا تُحصَى.
ويُنهي الحق الآية بقوله: } لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ { ، والآيات تطلق ثلاث إطلاقات: الإطلاق الأول آيات القرآن، والإطلاق الثاني على المعجزة الدالة على صدق الرسول، والإطلاق الثالث للآية أنها تحمل عجيبة من عجائب الكون الواضحة في الوجود الدالة على عظمة الله سبحانه.
وهذه الآيات خلقها الله لتُلْفت إلى مُكَوِّن هذه الآيات، واللفتة إلى مُكوِّن هذه الآيات ضرورة لينشأ الإنسان في انسجام مع الكون الذي أنشيء من أجله، بحيث لا يأتي له بعد ذلك ما ينغّص هذا الانسجام، فهبْ أن إنساناً ارتاح في حياته الدنيا ثم استقبل الآخرة بشقاء وجحيم، فما الذي استفاده من ذلك؟
إذن: كل المسائل التي تنتهي إلى زوال لا يمكن أن تُعتبر نعمة دائمة؛ لأن النعمة تعني أن تتنعم بها تنعُّماً يعطيك يقيناً أنها لا تفارقك وأنت لا تفارقها، والدنيا في أطول أعمارها؛ إما أن تفوت النعمةُ فيها الإنسان، وإما أن يفوت هو النعمة.
والحق - سبحانه وتعالى - يبقى الذين يريدون أن يتقوا الله؛ ليصلوا إلى نعيم لا يفوت ولا يُفَات، ويجب أن ينظروا في آيات الكون؛ لأنهم حين ينظرون في آيات الكون بإمعان يكونون قد أفادو فائدتين: الفائدة الأولى أن يفيدوا مما خلق الله، والفائدة الثانية أن يعتبروا بأن هذا الكون الذي خلقه الله إنما جعله وسيلة ومَعْبراً إلى غيره، فقد خلق فيه الخلق ليعيش بالأسباب، لكنه يريد أن يُسْلمه بعد ذلك إلى حياة يعيش فيها بالمسبِّب وهو الله. فالذين يتقون هم الذين يلتفتون، والذين لا يتقون لا يعتبرون بالنظر في الكون وتمر على الإنسان منهم الأشياء فلا يعتبرون بها، كما قال الله:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].
إذن: فهم لا يلتفتون إلى ما في آيات الحق من الآيات الدالة على عظمة قدرة الله سبحانه؛ فهم غير حريصين على أن يَقُوا أنفسهم عذاب الآخرة.
ويقول الحق بعد ذلك: } إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا... {.

(/1357)


إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)


والرجاء هو طلب شيء محبوب متوقع، والتمنى طلب شيء محبوب إلا أنه غير ممكن الحدوث، ولكن تعلن بتمنّيك أنه أمر تحبه، مثل من قال:ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً فأخبِرَهُ بما فَعَلَ المَشِيبُهو بهذا القول يبين أن الشباب أمر محبوب ومرغوب. لكن هل يتأتى هذا؟ طبعاً لا. إذن: التمني هو طلب شيء محبوب لا يمكن أن يقع؛ ومثل قول الشاعر:ليتَ الكواكبَ تَدْنُو لي فَأْنْظِمَها عُقُودَ مَدْحٍ فما أرضَي لكُم كَلِمِيوهذا غير ممكن.
أما الرجاء فهو أن تطلب شيئاً محبوباً من الممكن أن يقع.
وهنا يقول الحق سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } ، فلماذا لا يرجون لقاء الله؟ لأن الذي يرجو لقاء الله هو من أعد نفسه لهذا اللقاء؛ ليستقبل ثواب الله، لكن الذي لم يفعل أشياء تؤهله إلى ثواب الله، وعمل أشياء تؤهله إلى عقاب الله؛ فكيف له أن يرجو لقاء الله؟ إنه لا يرجو ذلك.
وعلى سبيل المثال: إن الرجل الذي يستشهد ويقدم نفسه للشهادة، ونفسه هي أعز شيء عنده، إنما يفعل ذلك لوثوقه بأن ما يستقبله بالاستشهاد خير مما يتركه من الحياة.
إذن: فالذي يرجو لقاء الله هو الذي يُعدُّ نفسه لهذا اللقاء؛ بأن يتقي الله في أوامره، ويتقي الله في نواهيه؛ ولذلك تمر على الإنسان أحداث شَتّى؛ وهي في مقاييس اليقين بين أمرين اثنين: حسنات وسيئات، وكل واحد يعلم أية حسنات قد فعل، وأية سيئات قد اقترف، ولا يغشُّ أحد نفسه، فإذا ما كان حيّاً فقد يجعله الأمل يكذّب نفسه، ولا يرى إلا ما فات من المغريات.
أما إذا جاء لحظة الغرغرة في الموت، فهو يستعرض كل صفحته. فإن كانت حسنة استبشر وجهه، وإن كانت سيئة اكفهرَّ وجهه، ولذلك يقال: " فلان كانت خاتمته سيئة، وفلان كانت خاتمته متهللة ". وهذا كلام صحيح؛ لأن الروح ساعة أن تُقبض فهي تترك الجسم على ما هو عليه ساعة فراقها، فإن كان ضاحكاً ومستبشراً، فقد رأى بعضاً مما ينتظره من خير.
والإنسان وقت الغرغرة لا يكذب على نفسه، فهو ساعة يمرض بمرض فهو يأمل في العافية، فإذا أتى وقت انتهاء تُعْرَضُ عليه أعماله عَرْضاً سريعاً، فإن كانت الأعمال حسنة تنفرج أساريره؛ لأنه يستشرف ما سوف يلقاه من جزاء.
وهذا مثل التلميذ حين يكون مُجِدّاً ومجتهداً ثم يقولون له: هناك من جاء لك بالنتيجة؛ فيجري عليه مطمئناً. وإن كان غير مُجِدٍّ؛ لم يجب، ويخاف من لقاء مَنْ يحمل النتيجة.
كذلك الذين يرجون لقاء الله؛ عملوا استعداداً لهذا اللقاء وينتظرون الجزاء من الله، أما من لم يعملوا فهم يخافون من لقاء الله ولا يرجونه وسبب ذلك أنهم لم يعملوا للآخرة { وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا } وكأنهم قد اكتفوا بها ولم يرغبوا في الآخرة.

وقد سمى الله هذه الدار اسماً كان يجب بمجرد أن نسمعه ننصرف عنها، فقال: } بِالْحَياةِ الدُّنْيَا { ولا يوجد اسم أقل من ذلك، والمقابل للحياة الدنيا هي الحياة العليا.
والإنسان قد يبحث في عُمْر الدنيا ويقول: إنها تستمر عشرة ملايين من السنين، أو مائة مليون سنة، وقد لا يلتفت إلى أن عمره هو موقوت في هذه الدنيا.
إذن: فالدنيا بالنسبة لك هي مقدار عمرك فيها، لا مقدار عمرها الحقيقي إلى أن تقوم الساعة، وماذا تستفيد منها وهي تطول لغيرك؟ إن عمر الدنيا بالنسبة للإنسان هو مقدار مُكْث الإنسان فيها، وهو مظنون وغير متيقن، وقد يمت وهو في بطن أمه أو يموت وهو ابن شهر، أو ابن سنة، أو بعد أن يبلغ المائة. فالذي يرضي بغير المتيقن قصير النظر.
ولذلك انظر إلى القرآن وهو يقول:{ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاوةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاوةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }[التوبة: 38].
وحتى إن قسْت عُمْر الدنيا من بدء الخلق إلى أن تقوم الساعة، فه إلى فناء، وما دامت إلى فناء، فهي متاع قليل، ومن يطمئن إلى هذا المتاع القليل فهو غافل؛ لذلك يُنهي الحق الآية: } وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ { عكس ما قال في الذين يعرفونَ قيمة العمل للآخرة. حين يقول الحق:{ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ }[يونس: 6].
والغفلة: هي ذهاب المعنى عن النفس، فما دام المعنى موجوداً في النفس، فاليقظة توجد، والغفلة تذهب. إذن: الغفلة ذهاب المعنى عن النفس، واليقظة هي استقرار المعنى في النفس.
ونحن نعرف أن المعلومات التي يستقبلها الذهن البشري إنما تلتقطها بؤرة الشعور، مثلما تلتقط آلة التصوير الفوتوغرافية أية صورة.
وإياك أن تظن أن الإنسان يعرف المعلومة من تكرارها مرتين مثلاً أو أكثر؛ لأن كل الأذهان تتفق في أنها تلتقط المعلومة من مرة واحدة، ويتميز إنسان عن آخر في قدرته على أن يستقبل المعلومة بذهن مستعد لها؛ لأن بورة الشعور لا تلتقط إلا معنى واحداً، ثم يتزحزح المعنى إلى حاشية الشعور؛ لتأتي المعلومة الثانية، فإن استقبلت المعلومة وفي بؤرة شعورك معنى آخر؛ لا تثبت المعلومة؛ لذلك تكرر القراءة مرة واثنتين وثلاث مرات، حتى تصادف المعلومة خُلُوَّ بؤرة الشعور.
ومثال هذا: الطالب حين يحاول حفظ قصيدة، فلو كان ذهنه مستعداً لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة.
لاستقبال القصيدة فهو يحفظها من مرة واحدة.
إذن: الذهن كآلة الغوتوغرافيا؛ ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول:{ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ... }[الأحزاب: 4].
فإن كنت تريد أن تستقبل معلومة ما، فكُن حريصاً على أن تُفرِّغ ذهنك، من أي معلومة؛ لتأتي المعلومة الجديدة، فتصادف خلاء لبؤرة الشعور؛ فتستقر فيها.

والمدرس الناجح هو الذي يلفت أذهان كل التلاميذ لما يقول، وما دامت الأذهان قد التفتت إليه؛ فلن تمر كلمة دون أن يستوعبها التلاميذ، عكس المدرس غير الناجح الذي يؤدي عمله برتابة وركاكة تَصْرف عنه التلاميذ. ونجد المدرس الناجح، وهو يُلفت انتباه تلاميذه ويقطع الدرس؛ ليسأل أي واحد منهم عمَّا قال؛ فيستمع إليه التلاميذ من بعد ذلك بانتباه؛ لأن كل واحد منهم يتوقع أن يُسأل عن المعلومة التي قِيلتْ من قبل.
والتلميذ المجتهد هو الذي يقرأ الدرس بعقلية قادرة على مناقشة ما فيه من أساليب ومعلومات، وهو يستصحب حضور الذهن أثناء القراءة، أما التلميذ الفاشل فهو يقرأ دون يقظة أو انتباه.
مثال آخر: إن الفلاح الذي ينام على حافة بئر الساقية لا يقع في بئرها؛ لأنه ينام وهو مستصحب لفكرة أنه إن تقلَّب على جنبٍ ما فسوف يقع في البئر. وكذلك الإخوة حين ينام اثنان منهم على سرير واحد، يقوم كل واحد منهما في الصباح وهو مستصحب أن هناك آخر بجانبه، ولكن إذا نام كل منهما في سرير منفصل، فهو يستيقظ ليجد رأسه في ناحية وساقيه في ناحية أخرى، وتسمى هذه عملية الاستصحاب واليقظة، ويقال " فلان يقظ " ، وكلمة " يقظ " ضد " نائم "؛ لأن اليقظان يحتفظ بالوعي والانتباه.
إذن: فالغفلة هي ذهاب المعنى من النفس وانطماسه، والذين يمرون بالآيات وهم غافلون عنها لن ينتفعوا بشيء من هذه الآيات، ثم تأتي لهم محصلة غفلتهم في الآخرة.
ويقول الحق سبحانه عنهم: } أُوْلَـائِكَ مَأْوَاهُمُ... {.

(/1358)


أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)


وأنت تقول: " أويت إلى كذا " ، إذا كان هذا هو المكان الذي يعصمك من شيء، وهنا يقول الحق: { مَأْوَاهُمُ النَّارُ } فإذا كان ذلك هو المأوى، فلا بد أن ما خارجها بالنسبة لهم أشد عذاباً. وهم يأوون إلى النار { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي: بسبب ما كانوا يعملون من ذنوب وسيئات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ... }.

(/1359)


إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)


هنا يتحدث الحق سبحانه عن المقابل، وهم الذين آمنوا، ويعُلِّمنا أنه سبحانه: { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }.
والهداية - كما قلنا من قبل - معناها الدلالة على الخير، بالمنهج الذي أرسله الحق سبحانه لنا، وبه بيَّن الحق السُّبُلَ أمام المؤمن والكافر، أما الذي يُقبل على الله بإيمان فيعطيه الحق سبحانه وتعالى هداية أخرى؛ بأن يخفف أعباء الطاعة على نفسه، ويزيده سبحانه هدى بالمعروف؛ لذلك قال سبحانه:{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }[البقرة: 45].
وهكذا يتلقى المؤمن مشقات الطاعة بحب؛ فيهونّها الحق سبحانه عليه ويجعله يدرك لذة هذه الطاعة؛ لتهون عليه مشقتها، ويمده سبحانه أيضاً بالمعونة.
يقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }.
وما داموا قد آمنوا؛ فسبحانه يُنزِل لهم الأحكام التي تفيدهم في حياتهم وتنفعهم في آخرتهم، أو أن الهداية لا تكون في الدنيا بل في الآخرة، فما دامو قد آمنوا، فهم قد أخذوا المنهج من الله سبحانه وتعالى وعملوا الأعمال الصالحة، يهديهم الحق سبحانه إلى طريق الجنة.
ولذلك يقول الحق سبحانه:{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىا نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم... }[الحديد: 12].
ويقول سبحانه:{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ... }[التحريم: 8].
أي: أن نورهم يضيء أمامهم. أما المنافقون فيقولون للذين آمنوا:{ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ... }[الحديد: 13].
أي: أن هذا ليس وقتَ التماس النور، فالوقت - لالتماس النور - كان في الدنيا؛ باتباع المنهج والقيام بالصالح من الأعمال.
إذن: فالحق سبحانه يهدي للمؤمنين نوراً فوق نورهم في الآخرة.
والآية تحتمل الهداية في الدنيا، وتحتمل الهداية في الآخرة.
ويصف الحق سبحانه حال المؤمنين في الآخرة فيقول: { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } [يونس: 9].
وقلنا: إن الجنة على حوافِّ الأنهار؛ لأن الخضرة أصلها من الماء. وكلما رأيتَ مجرى للماء لا بد أن تجد خضرة، والجنات ليست هي البيوت، بدليل قول الحق سبحانه:{ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ... }[التوبة: 72].
ونجد الحق سبحانه يقول مرة:{ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ... }[التوبة: 100].
ويقول سبحانه في مواضع أخرى:{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ... }[البقرة: 25].
والحق سبحانه يعطينا صوراً متعددة عن الماء الذي لا ينقطع، فهي مياه ذاتية الوجود في الجنة لا تنقطع أبداً.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ... }.

(/1360)


دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)


دعواهم: أي دعاؤهم.
وهل الآخرة دار تكليف؛ حتى يواصلوا عبادة الله؟ لا، ولكنها عبادة الالتذاذ، وهم كُلَّما رأوا شيئاً يقولون: لقد أكلنا ذلك من قبل، ولكنهم يعرفون حين يأكلون ثمار الجنة أن ما في الأرض كان يشبه تلك الثمار، لكنه ليس مثلها.{ قَالُواْ هَـاذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً... }[البقرة: 25].
أو يقولون: { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } اعترافاً بالنعمة، وأنت حين ترى شيئاً يعجبك تقول: سبحانك يا رب. وبعد أن تأتي لك النعمة وتقول: سبحان الله، وتُفاجَأ بأشياء لم تكن في الحسبان - من فرط جمالها؛ فتقول: الحمد لله.
إذن: فأنت تستقبل النعمة " بسبحان الله " ، وينتهي من النعمة " بالحمد لله ". ولذلك يقول الحق سبحانه: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والذي يجعل للحياة الدنيا معنى، ويجعل لها طعماً ويجعل لها استقراراً، أن يكون الإنسان في سلام، ومعنى السلام: الاطمئنان والرضا؛ فلا مُهيِّجات، ولا مُعكِّرات، ولا يأتي ذلك إلا بعدم اصطدام في ملكات النفس؛ فيتحقق سلام الإنسان مع نفسه، وسلام الإنسان مع أهله، وهذا هو المحيط الثاني، وسلام الإنسان مع قومه، وسلام الإنسان مع العالم كله، كل ذلك اسمه سلام، لا مُنغِّص، لا من نفسه، ولا من أهله، ولا من قومه، ولا من العالم. وكلما اتسعت رقعة السلام زاد الإحساس الإنسان بالاطمئنان.
وحين يقول الحق سبحانه: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } ، فالسلام وارد في أشياء متعددة، والحق سبحانه يقول:{ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }[يس: 55-58].
وهذا هو السلام الذي له معنى؛ فهو سلام من الله. ولم يقل سبحانه: " سلام يورثك اطمئناناً ونفساً راضية " فقط، بل هو سلام بالقول من الله، وانظر أي سعادة حين يخاطبك الحق سبحانه وتعالى مباشرة. وهناك فرق بين أن يشيع الله فيك السلام وبين أن يحييك كلامه بالسلام. وهذا هو السبب في قوله:{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }[يس: 58].
وهذا سلام الله، ثم من بعده هذه المنزلة يأتي سلام الملائكة:
{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم... }[الرعد: 23-24].
إذن: فقول الحق هنا: { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } نجد فيه كلمة السلام رمز الرضا والاستقرار في الجنة؛ فالسلام هو أول الأحاسيس التي تحبها في نفسك، ولو كانت الناس كلها ضدك. لكنك ساعة تستقر، فأنت تسائل نفسك: ماذا فعلت ليكون البعضُ ضدي؟ وحين تجيب نفسك: " إنني لم أفعل إلا الخير "؛ فأنت تحس السلام في نفسك، وإذا ما رحَّب الآخرون بما تفعل، فالحياة تسير، بلا ضدّ ولا حقد، وهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " فيدخل رجل عرفه القوم فلما انصرف؛ قام واحد من الصحابة، وذهب إلى الرجل؛ ليعلم ماذا يصنع، وسأله: ماذا تفعل حتى يبشّرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة؟ فوجد سلوك الرجل مستقيماً ومتبعاً للمنهج دون زيادة، فسأله الصحابي: لماذا - إذن - بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة؟
قال الرجل: والله إني لأصلّي كما تصلّون، وأصوم كما تصومون، وأزكّى كما تزكون، ولكني أبيت وما في قلبي غلٌّ لأحد.

هذا هو السلام النفسي، وإذا ما وصل الإنسان إلى السلام مع النفس؛ فلا تضيره الدنيا إن قامت، وبعد ذلك يضمن أن يوجد سلامه مع الله تعالى، ومن عنده سلام مع نفسه، ومع بيئته، ومع مجتمعه؛ فهو ينال سلاماً من الله سبحانه. ويقول لنا القرآن عن الذين يعانون من مأزق في الآخرة:{ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }[هود: 105].
هؤلاء هم الذين شقوا في النار، أما الذين سُعدوا ففي الجنة، فماذا عن حال الذين لا هم شقوا ولا هم سعدوا - وهم أهل الأعراف؛ لأن الموقف يوم القيامة ينقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام؛ فقد قال الله سبحانه:{ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ }[القارعة: 6-9].
ولم يقل الحق سبحانه لنا أمر الذين تساوت الكفتان لهم أثناء الحساب؛ لأنه سبحانه قال في حديث قدسي:
" إن رحمتي غلبت غضبي ".
ويبين لنا الحق سبحانه رحمته فيقول:{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }[الأعراف: 44].
ويأتي أمر رجال الأعراف فيقول سبحانه:{ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ... }[الأعراف: 46]
لقد عرفوا المؤمنين بسيماهم، وعرفوا الكفار بسيماهم، وجليس البعض على الأعراف؛ ينتظرون وينظرون لأهل الجنة قائلين:{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ }[الأعراف: 46].
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة ثانية فيقول:{ وَنَادَىا أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }[الأعراف: 50].
أهل الأعراف - إذن - يسعدون بعطاء الله لأهل الجنة، ويطمعون أن يغفر الله - سبحانه وتعالى - لهم.
ونحن في حياتنا نسمع المشرفين على المساجين أو المحكوم عليهم بالإعدام يقولون: قبل أن يحكم على المجرم بالإعدام ينخفض وزنه، ثم يزيد بعد الحكم؛ لأن الأمر قد استقر. والذين يُشغلون بأن يعرفوا مكانهم في الآخرة، أهو في الجنة أو في النار، لا ينسون أن يقولوا للمؤمنين.{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ... }[الأعراف: 46].
وهنا يقول الحق سبحانه عن أهل الجنة: } وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ { وقد تكون آخر دعواهم، أي: آخر كلمة.
فالواحد منهم يقول: أنا حمدت ربنا على الشيء الفلاني والشيء الفلاني. وآخر حَمْد هو قمة الحمد؛ لأنهم حمدوا الله على النعمة في الدنيا التي تزول، ويحمدونه في الآخرة على النعمة التي لا تزول، فلئِنْ يوجد حَمْد على النعمة التي لا تزول فهو قمة الحمد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ... {.

(/1361)


وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)


وهذه الآية تتناول قضية عقدية قد تكون شُغُل الناس الشاغل في الدعاء لله تعالى، وقد لا يُجاب دعاؤهم مع كثرة الدعاء، ويُحزنهم على أنفسهم ويقول الواحد منهم: لماذا لا يقبل الله دعائي؟ أو يقع بعضهم في اليأس.
ونقول لكل إنسان من هذا الفريق: لا، أنت تدعو، مرة تدعو بالشر ومرة تدعو بالخير، فلو أن الله سبحانه وتعالى قد أجابك في جميع الدعاء، فسوف يجيب دعاءك في الشر ودعاءك في الخير، ولو أن الله سبحانه وتعالى عجَّل لك دعاء الشر، كما تحب أن يُعجَّل لك دعاء الخير، لَقُضِي إليك أجلك وانتهت المسألة، وهناك من قالوا:{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].
ولو استجاب الحق لمثل هذا الدعاء، لكان وبالاً على مَنْ دعوا ذلك الدعاء.
إذن: فمن مصلحتك حين تدعو على نفسك أو تدعو بأي وبال ألا يجيبك الله تعالى، وافهم أن لله تعالى حكمة في الإجابة؛ لأنه سبحانه وتعالى مُنزَّه عن أن يكون موظفاً عند الخلق، ومَن يدعُهُ بشيء يجبه عليه، بل لا بد من مشيئته سبحانه في تقرير لون الإجابة؛ لأنه لو كان الأمر عكس ذلك لانتقلت الألوهية للعبد.
لقد صان الحق سبحانه عباده بوضع رقابة على الدعاء؛ وأنت تعتقد أن دعاءك بالخير، ولكن رقابة الحق سبحانه التي تعلم كل شيء أزلاً تكاد أن تقول لك: لا، ليس خيراً. وانتظر الخير بعدم استجابة دعائك؛ لأنه القائل سبحانه:{ وَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىا أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ... }[البقرة: 216].
إذن: فمعرفتك ليست نهائية في تقرير الخير والشر؛ لذلك دَعِ الإلهَ الأعلى - وهو المأمون عليك - أن يستجيب أو لا يستجيب لما تدعوه وأنت في ظنك أنه الخير، فالمعرفة العليا هي التي تفرق بين الخير والشر، وفي المنع - أحياناً - عين العطاء؛ ولذلك يقول الحق:{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }[الإسراء: 11].
وقد تلحّ في دعاء لو استجيب لك؛ لكان شرّاً. والله سبحانه يعلم ما هو الخير لك، وهو سبحانه يجيب أحياناً بعض خلقه في أشياء كان الإنسان منهم يتمنى أن توجد، ثم يكتشف الإنسان أنها لم تكن خيراً، وأحياناً يأتي لك بأشياء كنت تظن أنها شر لك، فتجد فيها الخير. وهكذا يصحّح لك الحق سبحانه بحكمته تصرفاتك الاختيارية.
وقد قال الكافرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].
ومن قالوا هذا القول هم: العاص بن وائل السهمي، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يهود، وكانوا قد وصلوا إلى قمة الاضطراب؛ فهم قد اضطربوا أولاً حين اتهموه بأنه ساحر، ولم ينتبهوا إلى غباء ما يقولون؛ لأنه إن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدرة السحر؛ فلماذا لم يسحرهم هم ليؤمنوا أيضاً؟
واضطربوا مرة ثانية، وحاولوا أن يقولوا: إن القرآن شعر، أو له طبيعة الشعر والكلام المسجوع، والقرآن ليس كذلك.

ولو أن جماعة غيرهم قالت مثل هذا القول لكان لهم عذرهم لأنهم ليسوا أهل لغة، أما هؤلاء فهم قوم أهل دُرْبة على الفصاحة والبلاغة، وكانوا يعقدون أسواق الشعر والخطابة، ثم اضطربوا مرة ثالثة، وحاولوا الطعن في مكانه محمد صلى الله عليه وسلم وهم يُقروّن بعظمة القرآن؛ فقالوا:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
والحق سبحانه وتعالى حينما يتعرض لحادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مع الكافرين؛ لا يقتصر في الحدث على ما وقع، ولكنه يعالج قضية عامة كونية إلى أن تقوم الساعة، ويجعل الحدث الحاصل في زمنه سبباً فقط؛ ليعطي عموم الحكم في كل زمان وفي كل مكان. وإلا اقتصر الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء القرآن للناس كافة، وجاء للزمان عامة، فلا بد أن تكون القضية المعروضة - أيّ قضية - أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم عاصروه لها سبب خاص، ولكن العبرة بعموم الموضوع لا بخصوص السبب.
ويعالج الله سبحانه وتعالى في هذه المسألة الشخصية من هؤلاء الذين قالوا ذلك قضيةً كونيةً ستظل إلى أن تقوم الساعة.
فقد دَعَوْا على أنفسهم:{ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].
كما قال قوم عاد لهود:{ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }[الأعراف: 70].
إذن: هم قد دعوا بشرٍّ على أنفسهم.
ويعالج الله قضية الدعاء بالخير أو الدعاء بالشرّ، لأن الإنسان قد يضيق ذَرْعاً بأمور تحيط بذاته أو بالمحيط به؛ فإذا ضاق ذرعاً بأمور تحيط به في ذاته من ألم كمرض - مثلاً، أو عاهة لا يقوى على الصبر عليها، أو لا يقوى على تحمّلها؛ فيقول: " يا رب، أرحني يا رب " ، وهو هنا يدعو على نفسه بالموت. فلو أن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاءه لَقُضيت المسألة.
ولكن الله هو الحكيم العزيز، لا يأتمر بأمر أحد من خلقه، ولا يعجل بعَجَلة العباد، وكما يؤجل لك استجابته لدعوة الخير منك، فهو يؤجل أيضاً إجابتك لدعوة الشرّ منك على نفسك؛ وفي ذلك رحمة منه سبحانه.
وإذا كنت تقول: أنا أدعو بالخير، والله سبحانه وتعالى لا يعطيني، فخذ مقابلها: أنك تدعو بالشرّ على نفسك، ولا يجيبك الله.

ثم ألا يضيق الأب أحياناً ذَرْعاً بمن حوله، فيقول: فليأخذني الله؛ لأستريح من وجوهكم؟ هَبْ أن الله سبحانه أجابه إلى هذه الدعوة، فماذا يكون الموقف؟ وقد تجد من يقول: يا رب أصبني بالعمى فلا أراهم، أو تدعو المرأة على نفسها أو على أولادها.
وأنتم تحبون أن يجيب الله تعالى دعاءكم، فلو كان يجيبكم على دعاء الشرّ لانتهت حياتكم إلى الفزع، مثل هذه الأم التي تدعو بالمتناقضات فتقول لولدها - مثلاً: " ربنا يسقيني نارك " فتطلب السُّقيا بالنار، رغم أن السُّقيا للرِّي، والنار للحرارة.
إذن: قد يضيق الإنسان ذرعاً بنفسه، أو يضيق ذرعاً بمن حوله؛ فيدعو على نفسه بالشرّ، وحين يدعو الإنسان فيجب عليه أن ينزّه الحق سبحانه تعالى عن أن ينفذ ما يدعو العبد به دون أن يمر الدعاء على حكمته سبحانه وتعالى.
} وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ { ، فكما قبلتم أن يؤجل الله تعالى لكم دعاء الشر على أنفسكم؛ فاقبلوا منه تأجيل دعائكم بالخير؛ لأن الخير فيما تطلبون غير الخير فيما يعلم الله؛ فهو العليم الخبير. وقد تطلب خيراً تعلمه ولكن الله يعلم فيه شراً؛ فمن مصلحتك ألا يجيبك. وكما تحترم عدم إجابته لك في الشر على نفسك، أو على من تحب، فاحترم عدم إجابته لك فيما تظنه خيراً لك، أو لمن تحب؛ لأن الله لا يعجل بعجله عباده؛ لأنه سبحانه هو الذي خلقهم، وهو أعلم بهم، فهو القائل:{ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ... }[الأنبياء: 37].
وهو سبحانه القائل:{ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ }[الأنبياء: 37].
والحق سبحانه لو استجاب لهؤلاء الذين دعوا:{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً... }[الأنفال: 32].
لكانت نهايتهم بجنس ما دعوا به، وقُضي عليهم، ثم انتهوا بعد ذلك إلى عذاب الجحيم.
ولكن الحق سبحانه شاء لهم البقاء؛ ليؤمن من يختار الإيمان، أما من اختار الكفر؛ فعليه أن يتحمّل تبعة الطغيان التي تتمثل في أن الواحد منهم لا يختار الكفر فقط، بل يتجاوز الحد، ويطلب ممن آمن أن يرتد عن إيمانه، وفي ذلك مجاوزة للحد؛ ولذلك فهم يعمهون في هذا الطغيان، أي: تتكاثر عليهم الظروف، ويثبت - لهم ولمن بعدهم - عجز الكفر عن مواجهة قدرة الحق.
وفي الحياة أمثلة - ولله المثل الأعلى - فهناك من يملك عدوه، فيضربه؛ لكنه لا يقتله، ثم يتكرر من هذا الخصم الإساءة، فيضربه من جديد، ثم تتكرر الإساءة فيضربه، وهو لا يقتله أبداً ليداوم على إذلاله، والقويّ لا يقتل خصمه، بل يؤلمه؛ فلا يرفع الخصم رأسه.
والحق سبحانه يقول:
} فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {.
أي: أن الحق سبحانه يترك أهل الباطل؛ لتتجمع عليهم سيئاتهم، ويذوقون ويل خصومة الإسلام فلا يرفعون رءوسهم؛ لأن أهل الإسلام يردّون لهم الإساءة مضاعفة، ولسوف ييأس أهل الباطل من أنهم سينتصرون على الحق بأي شكل وبأي لون.

وهم مهما تحايلوا في أساليب النكاية في الإسلام، تجد الحق سبحانه وتعالى ينصر المسلمين.
والمثل أمامنا من سيرته حين أمره الحق سبحانه بأنه يهاجر، وكان الكفار يحاصرون بيته بشباب من القبائل، فخرج صلى الله عليه وسلم ولم يشعروا، وقال صلى الله عليه وسلم: " شاهت الوجوه ".
وشاء سبحانه ذلك؛ ليعلموا أنهم لن يستطيعوا الانتصار على محمد صلى الله عليه وسلم، لا بالمواجهة، ولا بتبييت المكر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ... {.

(/1362)


وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)


يصور الحق سبحانه حال البشر؛ الذين لم يرتبطوا دائماً بالإله، وبمنهج الإله؛ هؤلاء الذين يتجهون إلى الله في لحظات الأزمات، ثم ينسون الإيمان وتكاليفه من بعد ذلك. وحياتنا مليئة بهذا الصنف من البشر.
وفي قريتنا - على سبيل المثال - كان الذي يشرف على رعاية صحة الناس حلاّق الصحة، إلى أن تخرَّج أحد أبناء القرية في كلية الطب، فأخذ حلاق الصحة يشيع عنه ما لا يليق، وفي أحد الأيام لاحظ الفلاحون خروج حلاق الصحة مبكراً وهو يحمل لِفافة كبيرة، فأرادوا أن يعرفوا ما بها، واكتشفوا أن ابن حلاق الصحة مريض وهو يريد أن يذهب به إلى الطبيب، هو - إذن - لا يخدع نفسه، رغم محاولته خداع أهل القرية بالشائعات الكاذبة عن الطبيب.
وكذلك الإنسان مع منهج الله، قد يخدع الآخرين في لحظة اليسر، لكنه لا ينسى الله لحظة العسر. وساعة يأتيه الضر، وحين تعزُّ الأسباب عليه فهو لا يجد إلا كلمة " يا رب ". وأنت تجدها من أعتى الفُجَّار، ومن أقسى العُتاة، تجد الواحد من هؤلاء وهو يدعو الله ساعة الضرّ.
وهذا ما يقوله الحق سبحانه هنا: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ }.
والمثل من حياة هؤلاء الكافرين الذين دعوا على أنفسهم، ولو كانوا يرغبون في إنهاء الحياة، فلماذا يدعون الله وهم قد كفروا به؟ إنه كذب مفضوح، والإنسان حين يضيق بنفسه قد يدعوا على نفسه بالضُّر؛ مثلما قال المتنبي:كَفَى بِكَ داءً أن تَرَى الموتَ شَافياً وحَسْب المنايا أن يكُنَّ أمَانِيَاأي: يكفي أن يصل الإنسان إلى الدرجة التي يتمنى فيها الموت.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد جاء بموقف الإنسان من الضر في أكثر من موضع، فنجد آية تفرد الإنسان بمعنى؛ وآية ثانية تفرده بمعنى آخر، وآية ثالثة تصور وضع الإنسان بشكل آخر.
يقول سبحانه:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ... }[الزمر: 8].
ويقول الحق في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا }.
ويقول سبحانه في موضع آخر:{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ }[النحل: 53-54].
إذن: فالحق سبحانه يأتي بها مفردةً مرّة، ومرة يأتي بها جمعاً. ومرة يأتي بها مفردة على ألوان شتّى، ومرة ثاني بها جمعاً بألوان شتّى، ومرة يذكرها في البر، ومرة يذكرها في البحر:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... }[الإسراء: 67] إذن: فالآيات تستوعب حالات الإنسان المختلفة؛ إذا ما أصابه ضرّ، ولم يجد مَفْزعاً له لا من ذاته ولا من البيئة المحيطة به، فلا يجد من يلجأ إليه إلا ربه.

ومن الأسف أن هذا الإنسان يكون كافراً بالله.
والآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تعطينا صوراً متعددة؛ فالحق سبحانه يقول: } دَعَانَا لِجَنبِهِ { أي: وهو مضطجع، } أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً {. وهكذا تتناول الآية الإنسان في تصرفاته في الكون. والآية متمشية مع أطوار تكوين الإنسان؛ فالطفل الصغير لا يستطيع أن يتقلّب، بل يقلّبه أهله؛ لينام على جنبه، يكبر قليلاً فهو يتقلب بمفرده ثم تأتي حركة القوة الثانية؛ فيقعد الطفل، ثم يقف دون أن يمشي، ثم يمشي من بعد ذلك.
والآية هنا تعطينا التصوير الدقيق لثلاث حالات: } دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً { ، ولم تَأت حركة المشي؛ لأن المتحرك للمشي لا يقعده الضر، لكن من يمر بالمراحل الأخرى قائماً أو قاعداً أو راقداً على الجنب، فقد يناله الضر.
وتلك هي مراحل النقض لمظاهر الحياة، فالإنسان يعيش الطفولة، ثم فُتوَّة الشباب، ثم يأتيه الضعف والشيب، فلا يستطيع أن يمشي بقوة الشاب، وإن كان يستطيع الوقوف، ثم تدخل عليه الشيخوخة؛ فيقعد، ولا يستطيع أن يقف، ثم تتقدم به الشيخوخة؛ فلا يمشي، ولا يقف، ولا يقعد، ويظل راقداً على جنبه، وقد يقلّبه أهله.
إذن: نقض كل شيء إنما يأتي على عكس بنائه؛ فكما بنيت مراحل الإنسان هكذا جنباً، فقعوداً فقياماً، فسعياً وحركة، فهي تنتهي بالعكس؛ لأن النقض دائماً على عكس البناء.
ومن هذا خرجنا بالاستدلال على صدق الله في إخباره لخلقه بكيفية الخلق؛ لأننا لم نشاهد عملية الخلق، مصداقاً لقوله سبحانه:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].
ولأن الحق لم يُشْهدْ أحداً على كيفية خَلْق السماء والأرض وخلق الإنسان، فنحن لا نأخذ معلومات عن كيفية الخلق بعيداً عن القرآن؛ لذلك لا نصدق الافتراضات القائلة بأن الأرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها ثم انخفضت درجة حرارتها؛ فكل هذه افتراضات لم تثبت صحتها، والحق سبحانه قد قال:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ... }[الكهف: 51].
وهذا القول يدل على أن العقل البشري لا يمكن أن يصل إلى معرفة كيفية خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، وهو معزول عن منهج السماء. فإن حُدِّثْتُمْ كيف خُلقتم بصورة تختلف عما جاء في القرآن فقولوا: كذبتم، وإن حُدِّثتم كيف خُلقت السماوات والأرض بغير ما جاء في كتاب الله؛ فقولوا: كذبتم؛ لأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض والإنسان وحده، ولا أحد معه، وما شهد أحد من هؤلاء مشهداً ليخبركم به. ويقول الحق سبحانه:{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].
والمضلون: هم الذين يقولون لكم افتراضات غير صحيحة عن تطور القرد حتى صار إنساناً، وأن الأرض كانت قطعة من الشمس وانفصلت عنها؛ كل هذه افتراضات قالها من سمّاهم الحقُّ سبحانه: } الْمُضِلِّينَ {.

ولو لم يقل الله تعالى هذه الآية، ثم جاء قوم ليقولوا: الإنسان كان في الأصل قرداً، لقلنا: إن القرآن لم يتعرض لذلك، وكان من الممكن أن نصدقهم، لكن الله سبحانه شاء لنا أن تكون لدينا المناعة ضد هذا الإضلال.
وعملية الخلق غيب عنا، أخبرنا عنها من خلقنا سبحانه، فلم يكن معه شاهدٌ رأي هذا المشهد؛ ليقول لنا. والخلق الذي به الحياة ينقضه الموتُ، ولكن الموت مشهد نشهده، وأي نقض لشيء - كما عرفنا - إنما يأتي على عكس بنائه، فإن بنينا عمارة من عشرين طابقاً، وأردنا أن نهدمها لسبب أو لآخر؛ فنحن نهدم الطابق العشرين أولاً، ثم نوالي الهدم بعد ذلك، فما بُني أولاً يهدم أخيراً؛ لأن نَقْض كل شيء يأتي على عكس بنائه.
وبما أن الموت نَقْضٌ للحياة؛ فالروح إذا ما خرجت من الجسم، وتُرك الجثمان بلا دفن، فالجثمان يتصلَّب، ثم يصير جيفَةً، ثم يتبخر منه الماء، ويتحلل الجسد إلى العناصر الأولى في التراب، هذه مراحل الموت.
وقد أخبرنا الحق عن كيفية الخلق، فبيَّن أنه سبحانه خلق الإنسان من التراب والماء فصار طيناً، ثم استوى الطين، فصوَّره الحق صورة الإنسان ونفخ فيه الروح، وآخر مراحله في الإيجاد هي الروح؛ لذلك فخروج الروح هو أول مرحلة في الموت.
والله سبحانه وتعالى في هذه الآية جاء بوضع الإنسان على الجنب وقائماً وقاعداً، ولم يأت بالمشي؛ لأن الماشي عنده قدرة فلا ضرّ في ذاته، إن أصابه ضرّ فمن غيره، والضرّ مقابل النفع، والنافع هو مَنْ يُبقِي الشيء على صلاحه الممتع المريح، في الذات أو في الخارج.
فساعة تكون ذاتك مستقيمة وملكاتها وأعضاؤها كلها سليمة؛ فليس عندك ضرّ، لكن إذا حدث خلل في أي عضو من الأعضاء؛ فالمتاعب تبدأ، ولذلك يقال عن السلامة العامة: هي ألا تشعر بأن لك أعضاء؛ لأنك حين تشعر أن لك عَيْناً - مثلاً - فاعرف أنها تؤلمك، وإذا شعرت بأذنك فاعرف أنها تؤلمك. وأنت تطحن الطعام بضروسك وتأكل ولا تدري بها. ويوم أن تدري بها فهذا المعنى أن ألماً قد بدأ.
وهكذا لا يشعر الإنسان بفقد السلامة إلا إذا عرف وانتبه إلى أن له عضواً من أعضائه، فيقول: " آه يا عيني " ، و " آه يا أذني ".
ونقول: إن وجع العين مؤلم ألماً مخصوصاً، وكذلك نقول: على أي عضو من الأعضاء، أما من لا يشكو بأعضائه فهو لا يشعر بها؛ لأنها تؤدي أعمالها على الوجه المناسب. والسلامة فيمن حولك تتمثل في أن يحققوا لك المتعة والصفاء بدون كدر. وبذلك تظهر منفعتهم لك.
وكل إنسان له كبرياء ذاتي، يبيّنها قول الحق سبحانه وتعالى:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }

[العلق: 6-7].
ولا يذل الإنسان إلا حين يعاني من آفة ما، ولا يأتي طغيانه إلا عند استكمال النعمة في الخارج والنعمة في الداخل، وإن بدأت النعمة في الانقباض عن الإنسان، فكبرياؤه تتطاير. ومن كان يستعرض قوته على الناس، قد يرجو القيام من الوقود؛ ليخطو بضع خطوات فلا يستطيع.
والإنسان لا يستغني إلا بما هو ذاتي فيه؛ لا بما هو موهوب له؛ لذلك فعليه ألا يغتر؛ لأن الواهب الأعلى قد يقبض هبتَه، فقد يأخذ منك العافية، وكثيراً ما رأينا أصحّاء قد مرضوا، ورأينا أغنياء قد افتقروا، وأصحاب جاه قد خرجوا من جاههم.
إذن: فلا داعي للغرور؛ لأن الله قد وهبك كل شيء، وليس لك شيء ذاتيٌّ فيك أبداً؛ لذلك يجب أن ينعدم الغرور، فما دام كل ما فيك موهوباً من الواهب الأعلى سبحانه، فالواهب قد يسلب ما وهب، وما إن تُسلب من الإنسان نعمة فهو ينتبه. فلا داعي - إذن - لأن يغتر أحد؛ حتى لا يسلم نفسه رخيصة للضياع.
والمثال: قد تكون عاديْتَ طبيباً، وهو الوحيد في المكان الذي تقطنه، وقد يحاول البعض الإصلاح بينك وبين هذا الطبيب، فتتأبَّى أنت، ثم يأتي لك مرض؛ فتلجأ إليه؛ لأن الله قد وهبه القدر السليم من التشخيص بالعلم، فلا يجب - إذن - أن تغتر أو تتعالى على أحد.
لكن الإنسان هو الإنسان؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
} وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ... { [يونس: 12].
والكافر ما إن يمسّه الضرّ؛ حتى يقع في بئر الهوان. أما المؤمن فهو مع ربه دائماً، وإذا مسّه الضرّ فهو يدعو الله تعالى دائماً ولا ينساه؛ لذلك يتلطف به سبحانه، عكس الكافر الذي يدعو الله ساعة الضرّ فقط. وأين كان ذلك الكافر ساعة أن دعاه الله سبحانه بالرسل إلى الإيمان؟
ونسيان الإنسان أمر وارد في تكوينه الفطري الأول؛ لأن الإنسان حين يعيش في محيط ما. فهو يحب النفع من خارجه، وإذا امتنع عنه هذا النفع الخارجي، فهو يأخذ النفع من ذاته؛ من تحرُّك أبعاضه وخدمتها لبعضها البعض. ثم لا يجد له مفزعاً إلا أن يؤمن بمن خلقه أولاً. وانظر إلى التعبير القرآني:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ.. }[الإسراء: 67].
إذن: فمن يَعْبُد غيرَ الله - سبحانه وتعالى - يضل عنه معبوده، ولا يعرف كيف ينقذ من يعبده؛ لذلك يعود المشرك إلى الله، ولا يجد سواه سبحانه، فهو الذي ينقذ الإنسان لحظة الخطر؛ لأنه الرب الخالق هو أرحم بصنعته، وهذه الرحمة تنقذ الإنسان حتى لو كان كافراً، وهذا كلام منطقي؛ لأننا شهدنا بوحدانية الله تعالى في عالم الذر؛ حينما أخذ الله سبحانه علينا العهد الأول، وقال لنا:{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ... }[الأعراف: 172].
قلنا:{ بَلَىا... }[الأعراف: 172].
وهذا إيمان الفطرة قبل أن توجد الغفلة أو التقليد؛ لذلك حين تتفرق الآلهة الباطلة من حول الكافر فهو يرجع إلى نفسه ويدعو الله، بل ويوسِّط من يسأله أن يدعو له الله سبحانه.

وقد يدعو الإنسان من يواسيه لحظة المرض فلا يجد ولداً من أبنائه، أو قريباً من أقربائه، ولكنه فور أن يدعو الله تعالى؛ تلمسه رحمته سبحانه، وقد تجد إنساناً حين يستجيب الحق سبحانه لدعائه قد تركبه حماقة الغرور من جديد، ويقول ما جاء به الحق على لسان قارون:{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي... }[القصص: 78].
ويقول: كنت محتاطاً وقد رتبت أموري، ثم يأخذه الحق سبحانه وتعالى أخْذَ عزيز مقتدر.
فإذا مسكم الضر؛ فلن تجدوا من البيئات الخارجة عنكم، ولا من ذوات نفوسكم، ما يغنيكم عن خالقكم، وفي لحظة الخطر لا تستطيعون الكذب على أنفسكم؛ فلا تسألون حينئذ أحداً إلا الله سبحانه، وتتذكرون في تلك اللحظة عهد الذَّر الأول، وتعودون إليه سبحانه.
وهنا يقول الحق سبحانه: } وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً {.
وقوله الحق: } فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ { يصوّر الضرّ وكأنه يغطي الإنسان ويلفّه، فلا منقذ له أبداً؛ لأن الكشف هو رفع لغطاء يغطي كل الإنسان، وهكذا يعطينا الله تعالى صورة لاستيعاب الضرّ للجسم كله؛ حتى وإن كان بأداة من أدوات الإدراك مثل قوله سبحانه:{ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].
فكأن الجوع والخوف قد لفّ القرية كلها، فلم تعُد البطون وحدها هي الجائعة، بل كل ما في الأجسام جائع وخائف.
وهنا يقول الحق سبحانه: } فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ {.
وكلمة } مَرَّ { تفيد أن هنا وقفة، فحين يقال: إن فلاناً مرّ عليَّ؛ مقابلها: وقف عندي.
ونفهم من قوله الحق: إن هذا الذي مسهّ الضرّ كان له وقفة عند الله سبحانه؛ حين لفّه الضرّ ولم يجد معيناً له غير الله تعالى، أما قبل ذلك فقد كان يأخذ الخير من الله ولا يتذكر الإيمان به سبحانه، وبعد أن يذهب عنه الضرّ وينسى الإيمان؛ } كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ { وكأنه قد نسي تذلّله إلى الله، فهو يمر من مرحلة الذلة والخضوع والدعاء إلى الله إلى مرحلة الاستكبار، فلم يقف عند من أنقذه من ضره، وهذه هي الصفاقة.
ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: } كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { وهنا يأتي قضية ثانية؛ فالحادثة حادثة خاصة وينقلها الحق سبحانه إلى عمومية تأتي في الكون كله؛ فالمسرفون قديماً حصل لهم هذا، والذي زَيِّن لهم المرور إما أن يكون الشيطان، وإما أن يكون الحمل من الحق على صفات موجودة فيه، فالحق سبحانه هو القائل:{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً... }[البقرة: 10].
وقوله تعالى هنا:
} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ.

.. { [يونس: 12].
وهذا ما حدث للمسرفين سابقاً، وما سوف يحدث من المسرفين لاحقاً. والإنسان له عمل مكوَّن من القول والفعل، والعمل هو كل حادثة متفرعة عن جوارح الإنسان، وإن كان القول مقابله الفعل؛ فالاثنان عمل.
وبعد أن يعرض الحق سبحانه هذه القضية في عمومها، وفي خصوصها، وفي انسحابها على الكون كله، يبيّن لنا ضرورة الانتباه للكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحذر الكافرين: أأسلمنا رسولاً إلى خصومه أم نصرنا كل رسول جاء على خصومه؟ إن السوابق تدل على أن كُّلاً أخذناه بذنبه، فاحذروا أن تكونوا كذلك.
ويقول سبحانه بعد ذلك: } وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ... {.

(/1363)


وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)


فإياكم أن تسوّل لكم أنفسكم أن تظلوا على عداوتكم لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنكم لن تنالوا منه شيئاً، وسيتم الله نوره، فلستم بدعاً عن سابق الخلق.
و { الْقُرُونَ }: جمع قرن، والقرن من المقارنة، وكل جماعة اقترنوا في شيء نسميهم " قرنا ". وقد يكون القرن في الزمنية، ولذلك حسبوا القرن مائة سنة، والبشر الذين يجتمعون في مائة سنة يسمونهم قرناً.
أو القرن جماعة يقترنون في شيء يجمعهم، مهما طال بهم الأمد.
وقوله الحق: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } فهل لو أمهلهم الله - تعالى - كانوا سيؤمنون؟ لا، فلله علمٌ أزليٌّ، يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه اضطراراً أو اختياراً.
والمثل من حياتنا وأعرافنا - ولله المثل الأعلى - نجد الإنسان حين يريد بناء بيت، فالأمر يختلف حسب مقدرته؛ الفقير مثلاً يطلب بناء حجرتين؛ فيخطط رجل البناء لبناء حجرتين، وإذا كان الإنسان متوسط الحال؛ فهو يتجه إلى مهندس يصمِّم له بناء على قدر سعته، وإن كان الإنسان ثرياً؛ فهو يستدعي المهندس الذي يبني له بيتاً حسب إمكانات ورغبات هذا الثرى، ويصمم المهندس نموذجاً للبناء قبل أن يبدأ فيه، وتظهر فيه كل التفاصيل، حتى ألوان النوافذ والأبواب والحجرات.
والعالم قبل أن يخلقه الله سبحانه وتعالى كانت هيئته مقدرة أزلاً عنده سبحانه، وهذا هو مطلق القدرة من الحق تعالى، ويأتي واقع الكون على وفق ما قدره الخالق سبحانه أزلاً؛ حتى ولو كان هناك اختيار للمخلوق الكافر، فالله سبحانه يعلمه.
وقد صحَّ أن القلم جفَّ حتى في الأمور الاختيارية، وسبحانه يعلم ما تجري به الأمور القهرية وما يقضيه على خلقه بدون اختيار منهم، أما في الأمور الاختيارية فقد أعطى لخلقه الاختيار. وقد علم ما سوف يفعلونه غيباً؛ فصمم المسألة على وفق ما علم.
وإياك أن تظن أنه أراد بذلك أن يُلزمك، لا، فقد علم أنك ستختار. وهكذا علم الحق سبحانه من سيظلم نفسه - أزلاً - وسبق في علمه أن أهل القرون السابقة الذين أهلكهم لا يؤمنون.
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } والظلم معناه نقل الحق من صاحبه إلى غيره، والحقوق الموهوبة من الخالق للبشر قد يظلمون فيها بعضهم البعض، لكن أعلى درجات الظلم حين يظلم أحدٌ حقَّ الإله الأعلى في أن يكون إلهاً واحداً، وأن ينقل ذلك لغيره. تلك هي قمة الظلم؛ لذلك قال سبحانه:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
وهم قد ظلموا في قضية العقيدة الأولى، أو ظلموا في الحقوق بينهم وبين أنفسهم مصداقاً لقوله تعالى:{ وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[يونس: 44].
والواحد منهم ظالم ومظلوم في آن واحد؛ لأن الإنسان ملكاته متعددة، ومن هذه الملكات ملكة الإيمان الفطري، وملكة النفع العاجل الذاتي.

فإذا تغلبت ملكة النفع العاجل؛ تخرج النفس اللوَّامة؛ لتعيد الأمر إلى صوابه، أما إن كانت نفس تأمر بالسوء فهي تطلب تحقيق الشهوات فقط؛ لأنها نفس أمَّارة بالسوء. أما إن اطمأنت النفس إلى حكم الله تعالى ورضيت به ونفذت ما قاله الله سبحانه، فهي نفس مطمئنة. ومن يظلم نفسه فهو الذي يتبع شهوات نفسه، وهو قد أعطاها متعة عاجلة؛ ليستقبل بعد ذلك شقاءً آجلاً؛ فيكون قد ظلم نفسه.
والحق سبحانه لم يتركهم، بل أرسل الرسل مُؤيَّدين بالمعجزات؛ ليبصّروهم. لكن الله تعالى يعلم أنهم لا يؤمنون؛ لذلك قال: } وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ { أي: أنه سبحانه لو تركهم أحياء فلن يؤمنوا، فهو الذي خلقهم وقد علم أزلاً لن يختاروا الإيمان.
والحق سبحانه هو العالم الأعلى الذي يعلم الأشياء على وفق ما تكون عليه، لا على وفق ما يقهر خلقه عليه، فلو كان علمه - سبحانه - على وفق ما يَقْهر الخلق عليه لكانت المسألة منتهية.
والمثال - ولله المثل الأعلى - أنت في البيت وتريد أن تقوم وزوجتك برحلة، فإن كان الأولاد صغاراً؛ فأنت تغلق عليهم الباب بعد أن تقول لهم: إن طعامكم في الثلاجة؛ لحماً وسمكاً وجبناً وزيتوناً. وبعد أن تخرج أنت وزوجتك تقول لها: إن أبناءنا لن يأكلوا إلا جبناً وزيتوناً؛ لأنهم سوف يستسهلون هذا الطعام. ولو لم يكن في الثلاجة إلا الجبن، لما قلت ذلك؛ لأن هذا هو لون الطعام القهري.
لكن ما دام في الأمر اختيار؛ فأنت تستشف من سابق سلوك الأبناء. وعندما ترجع تجد أبناءك قد تصرفوا وفق ما حكمت به، رغم أنك تركت لهم الاختيار. ومثال هذا في القرآن قوله الحق:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ }[المسد: 1-3].
وفي هذا حكم من الله تعالى بان أبا لهب سيموت كافراً، وهذا حكم مُعْلَن ويُردَّد في الصلاة، ونحفظه، وأبو لهب هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كافراً مثل غيره من الكفار. وقد آمن من الكفار الكثير. ألم يسلم عمر؟ ألم يسلم عكرمة بن أبي جهل؟ ألم يسلم عمرو بن العاص؟ ألم يسلم خالد بن الوليد؟ فما المانع أن يسلم أبو لهب هو الآخر؟ لا، لم يسلم وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه أن ذلك لن يكون منه. وما كان من الممكن أن يمكر أبو لهب ويعلن إسلامه تكذيباً للقرآن؛ لأن الحق علم أزلاً سلوك أبي لهب.
} وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ {.
وقوله: } كَذالِكَ { أي: مثل هذا الجزاء الذي كان للأمم السابقة التي أهلكت في القرون الماضية تجري ممن يحدِّد كل شيء؛ لأن القضايا في الكون واحدة. فالقضية الإيمانية موجودة من أول ما أرسلت الرسل إلى أن تنتهي الدنيا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ... {.

(/1364)


ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)


و { خَلاَئِفَ }: جمع خليفة، وهو من يَخْلُف غيره. والحق سبحانه وتعالى حينما وصف الإنسان أصدر أول بيان عن الإنسان قال للملائكة:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً... }[البقرة: 30].
والله سبحانه وتعالى قادر، وسميع، وعليم، وله من كل صفات الكمال المطلق، وأنت قد تكون لك قدرة وقد تُعَدِّى أثر قدرتك إلى غيرك، ولكنك لن تستطيع أن تُعدِّي قدرتك إلى سواك، فإن كنت قوياً؛ فلن تستطيع أن تَهَبَ ضعيفاً قدراً على قوتك. بل كل الذي تستطيعه هو أن تهبه أثر قدرتك، فإن كان غير قادر على أن يحمل شيئاً؛ فأنت قد تحمله عنه، وإن كان غير قادر على المشي؛ فأنت تأخذ بيده، لكنك لا تستطيع أن تهبه جزءاً من قوتك الذاتية، فيظل هو عاجزاً، وتظل أنت قادراً - كما أنت.
هذا هو حال الخلق: تجد غنياً وآخر فقيراً، ويُعطي الغني للفقير من غناه، ويُعطي العالمُ للجاهل بعضَ العلم، لكنه لا يهبه مَلَكَة العلم؛ ليعلم.
أما الحق الأعلى سبحانه فهو وحده القادر على أن يهب من قدرته المطلقة للخلق قدرة موهوبة محدودة، وقد أعطاهم سبحانه أثر القدرة العالية في الأفلاك التي صنعها ولا دخل للإنسان فيها؛ من شمس، وقمر، ونجوم، ورياح، ومطر.
وأعطى الحق سبحانه للإنسان طاقة من قدرته في الأمور التي حوله؛ فأصبح قادراً على أن يفعل بعض الأفعال التي تتناسب مع هذه الطاقة الموهوبة. وبذلك عدَّي له الحق سبحانه من قدرته؛ ليقدر على الفعل، ومن غناه؛ ليعطي الفقير، ومن علمه؛ ليعطي الجاهل، ومن حلمه؛ ليحْلِم على الذي يؤذيه.
إذن: فالخلق لا يعدّون صفاتهم إلى غيرهم ولكنهم يعدون آثار صفاتهم إلى غيرهم، وتظل الصفة هنا قوة، والصفة هناك ضعفاً. أما الواحد الأحد فهو الذي يستطيع أن يهب من قدرته للعاجز قدرة؛ فيفعل. فهل كل الكون هكذا؟
إن الكون قسمان: قسم وهبة الله سبحانه وتعالى للإنسان بدون مجال له فيه. وقد أقامه الحق بقدرته، وهذا القسم من الكون مستقيم في أمره استقامة لا يتأتّى لها أي خَلَل، مثل: نظام الأفلاك والسماء ودوران الشمس والقمر والريح وغيرها، ولا تعاني من أي عطب أو خلل، ولا يتأتى لهذا القسم فساد إلا بتدخُّل الإنسان.
وقسم آخر في الكون تركه الحق سبحانه للإنسان؛ حتى يقيمه القوة الموهوبة له من الله.
وأنت لا تجد فساداً في كون الله تعالى إلا وجدت فيه للإنسان يداً، أما الأمور التي ليس للإنسان فيها يد فهي مستقيمة، ولذلك يقول الحق سبحانه:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5].
والمراصد تحدِّد موقع الأرض بين الشمس والقمر، وموقع القمر بين الأرض والشمس بدقة تتناسب مع قوله الحق: { بِحُسْبَانٍ }؛ لأن الإنسان ليس له دخل في هذه الأمور.

وفيما لنا فيه اختيار علينا أن نتدخل بمنهج الله تعالى؛ لتستقيم حركتنا مثل استقامة الحركة في الأكوان العليا التي لا دخل لنا فيها.
إذن: فالذي يُفْسد الأكوان هو تدخُّل الإنسان - فيما يحيط به، وفيما ينفعل له وينفعل به - على غير منهج الله؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:{ الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 1-5].
أي: هذه الأكوان مخلوقة بحساب، وتستطيعون أن تُقَدِّروا أوقاتكم وحساباتكم على أساسها. ويقول سبحانه:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 5-9].
وحتى تستقيم لكم الأمور الدنيا في حركتكم في الكون - كما استقامت لكم الأمور العليا؛ وازنوا كل الأمور بالعدل؛ فلا يختل لكم ميزان؛ لأن الذي يُفسد الكون أنكم تتدخلون فيما أعطي لكم من مواهب الله قدرة وعلماً وحَركة على غير منهج الله. فادخلوا على أمور حياتكم بمنهج الله في " افعل " و " لا تفعل "؛ ليستقيم لكم الكون الأدنى كما استقام لكم الكون الأعلى.
وهنا يقول الحق سبحانه: } ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ { وقد خلف الإنسان الله تعالى في الأرض، في أنه - مثلاً - يحرث الأرض ويسقيها؛ فيخرج له الزرع، وحين يأخذ الإنسان أسباب الله فهو ينال نتيجة الأخذ بالأسباب. ولكن آفة الإنسان بغروره، حين تستجيب له الأشياء، فهو يظن أنه قادر بذاته، لا بأسباب الله.
والحق سبحانه وتعالى يُعطي بعطاء ربوبيته للمؤمن، وللكافر؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، لكنه جلّ وعلا ميَّز المؤمن، لا بعطاء الأسباب فقط، ولكن بالمنهج، والتكليف المتمثل في " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ، فإن أخذ العطاءين من الله يبقَ له حسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن أخذ العطاء الثاني في " افعل " و " لا تفعل " ، فهو يأخذ الآخرة، أما دنياه فتظل متخلّفة.
ومن يُردْ أن يأخذ حُسْن الدنيا والآخرة، فليأخذ عطاء ربوبية الله تعالى بالأخذ بالأسباب، وعطاء الألوهية باتّباع المنهج.
إلا أن آفة الخليفة في الأرض أنه لا يرى بعض الأمور مستجيبة له؛ فيطغي، ويظن أنه أصيل في الكون، ونقول له: ما دمت تظن أنك أصيل في الكون فحافظ على روحك، وعلى قوتك، وعلى غناك، وأنت لن تستطيع ذلك. فأنت إنْ تمردت على أوامر الله بالكفر - مثلاً، فلماذا لا تتمرد على المرض أو الموت؟
إذن: أنت مقهور للأعلى غصباً عنك، ويجب أن تأخذ من الأمورالتي تنزل عليك بالأقدار؛ لتلجمك، وتقهرك، إلى أن تأخذ الأمور التي لك فيها اختيار بمنهج الله سبحانه.
ولو ظن الخليفة في الأرض أنه أًصيل في الكون، فعليه أن يتعلّم مما يراه في الكون، فأنت قد توكّل محامياً في العقود والتصرفات؛ فيتصرف في الأمور كلها دون الرجوع إليك ولا يعرض عليك بياناً بما فعل، فتقوم أنت بإلغاء التوكيل.

فيلتفت مثل هذا المحامي إلى أن كل تصرف له دون التوكيل قد صار غير مقبول. فماذا عن توكيل الله للإنسان بالخلافة؟ يقول الحق سبحانه:
} ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ { فاذا كنتم قد خَلَفْتُم من هلكوا، فمن اللازم أن تأخذوا العظة والعبرة في أن الله تعالى غالب على أمره، ولا ترهقوا الرسل، بل تأخذوا المنهج، أو على الأقل، لا تعارضوهم إن لم تؤمنوا بالمنهج الذي جاءوا به من الله. واتركوهم يعلنون كلمة الله، وليعيدوا صياغة حركة المؤمنين برسالاتهم في هذا الكون على وفق ما يريده الله سبحانه، وأنتم أحرار في أن تؤمنوا أو لا تؤمنوا.{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ... }[الكهف: 29].
والدليل على ذلك أن الإسلام حينما فتح كثيراً من البلاد ترك لهم حرية اعتناق الإسلام أو البقاء على أديانهم، مع أنه قد دخل بلادهم بالدعوة أو الغلبة، ولكنه لم يقهر أحداً على الدين، وأخذ المسلمون منهم الجزية مقابل حماية المسلمين لهم.
ولو كان الإسلام قد انتشر بالسيف لما أبقي أحداً على دينه، ولكن الإسلام لم يُكْره أحداً، وحمى حرية الاختيار بالسيف. ولأن الذين لم يؤمنوا بالإسلام عاشوا في مجتمع تتكفّل الدولة الإسلامية فيه بكل متطلبات حياتهم، والمسلم يدفع زكاة لبيت المال، فعلى من لم يؤمن - وينتفع بالخدمات التي يقدمها المجتمع المسلم - أن يدفع الجزية مقابل تلك الخدمات.
وإذا اعتقد الإنسان أنه خليفة، وظل متذكراً لذلك، فهو يتذكر أن سطوة من استخلفه قادرة على أن تمنع عنه هذه الخلافة.
إذن: فخذوا الأمر بالتسليم، وساعدوا النبي صلى الله عليه وسلم على دعوته، وآمنوا به أولاً، وإن لم يؤمنوا به فاتركوه؛ ليعلن دعوته، ولا تعاندوه، ولا تصرفوا الناس عنه؛ لأن الحق هو القائل:{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }[يونس: 14].
وساعة تأتي لأمر يعلله الله بكلمة{ لِيَعْلَمَ... }[المائدة: 94].
أو } لِنَنظُرَ... { [يونس: 14].
فاعلم أن الله عالم وعليم، علم كل الأمور قبل أن توجد، وعلم الأشياء التي للناس فيها اختيار، وهو القائل:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ... }[الحديد: 25].
وقد علم الحق سبحانه أزلاً كل شيء، وإذا قال الله: } وَلِيَعْلَمَ { فليس معنى ذلك أن هناك علماً جديداً لم يكن يعلمه سوف ينشأ له، لكنه يعلم علم مشهد وإقرار منك؛ حتى لا يقول قائل: لماذا يحاسبنا الله على ما عَلمَ أزلاً؟ بل يأتي سبحانه بالاختيار الذي يحدِّد للعبد المعايير التي تتيح للمؤمن أن يدخل الجنة، وللعاصي أن يُحاسَب ويُجازَي.

وبذلك يعلم الإنسان أن الحق سبحانه شاء ذلك؛ ليعرف كل عبد عِلم الواقع، لا عِلْم الحصول.
إذن: فذكر كلمة } وَلِيَعْلَمَ { وكلمة } لِنَنظُرَ { في القرآن معناها علم واقع، وعلم مشهد، وعلم حُجّة على العبد؛ فلا يستطيع أن ينكر ما حدث، وقوله الحق:{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ }[الحديد: 25].
هذه الآية تبين لنا أدوات انتظام الحكم الإلهي: رسل جاءوا بالبرهان والبينة، وأنزل الحديد للقهر، قال الحق سبحانه:{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }[الحديد: 25].
وقرن ذلك بالرسل، فقال: } وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ { والنصرة لا تكون إلا بقوة، والقوة تأتي بالحديد الذي يظل حديداً إلى أن تقوم الساعة، وهو المعدن ذو البأس، والذي لن يخترعوا ما هو أقوى منه، وعلْم الله سبحانه هنا عِلْم وقوع منكم، لا تستطيعون إنكاره؛ لأنه سبحانه لو أخبر خبراً دون واقع منكم؛ فقد تكذبون؛ لذلك قال سبحانه: } وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ { وفي هذا لون من الاحتياط الجميل.
وقوله: } وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ { كأن الله يطلب منكم أن تنصروه، لكن إياكم أن تفهموا المعنى أنه سبحانه ضعيف، معاذ الله، بل هو قوي وعزيز. فهو القائل:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }[التوبة: 14].
بل يريد سبحانه أن يكون أعداء الإيمان أذلاء أمامكم؛ لأنه سبحانه يقدر عليهم.
إذن: فقول الحق سبحانه: } وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ { إنما يعني: أن يكون علم الله بمن ينصر منهجه أمراً غيبيّاً؛ حتى لا يقول أحدٌ إن انتصار المنهج جاء صدفة، بل يريد الحق سبحانه أن يجعل نُصْرة منهجه بالمؤمنين، حتى ولو قَلَّت عدَّتُهم، وقلّ عددهم.
إذن: قوله سبحانه وتعالى: } ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ { [يونس: 14].
أي: نظر واقع، لا نظر علم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَإِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ {.

(/1365)


وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)


نحن نعرف أن الآيات ثلاثة أنواع: آيات كونية، وهي العجائب التي في الكون ويسميها الله سبحانه آيات، فالآية هي عجيبة من العجائب، سواء في الذكاء أو الجمال أو الخُلُق، وقد سَمَّى الحق سبحانه الظواهر الكونية آيات؛ فقال تعالى:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ }[فصلت: 37] وقال سبحانه:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }[الروم: 21] وهذه من الآيات الكونية.
وهناك آيات هي الدليل على صدق الرسل ـ عليهم السلام ـ في البلاغ عن الله، وهي المعجزات؛ لأنها خالفت ناموس الكون المألوف للناس. فكل شيء له طبيعة، فإذا خرج عن طبيعته؛ فهذا يستدعى الانتباه.
مثلما يحكي القرآن عن سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن أعداءه أخذوه ورموه في النار فنجّاه الحق سبحانه من النار؛ فخرج منها سالماً، ولم يكن المقصود من ذلك أن ينجو إبراهيم من النار، فلو كان المقصود أن ينجو إبراهيم عليه السلام من النار؛ لحدثت أمور أخرى، كألا يمكِّنهم الحق ـ عزَّ وجلّ ـ من أن يمسكوه، لكنهم أمسكوا به وأشعلوا النار ورموه فيها، ولو شاء الله تعالى أن يطفئها لفعل ذلك بلقليل من المطر، لكن ذلك لم يحدث؛ فقد تركهم الله في غيّهم، ولأنه واهب النار للإحراق قال سبحانه وتعالى لها:
{ يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[الأنبياء: 69] وهكذا تتجلّى أمامهم خيبتهم.
إذن: الآيات تُطلَق على الآيات الكونية، وتطلق على الآيات المعجزات، وتطلق أيضا على آيات القرآن ما دامت الآيات القرآنية من الله والمعجزات من الله، وخلق الكون من الله، فهل هناك آية تصادم آية؟ لا؛ لأن الذي خلق الكون وأرسل الرسل بالمعجزات وأنزل القرآن هو إله واحد، ولو كان الأمر غير ذلك لحدث التصادم بين الآيات، والحق سبحانه هو القائل:
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء: 82] وقوله تعالى:
{ وَإِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } [يونس: 15] أي: آيات واضحة. ثم يقول الحق سبحانه { قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } وعرفنا أن الرجاء طلب أمر محبوب ومن الممكن أن يكون واقعاً، مثلما يرجو إنسان أن يدخل ابنه كلية الطب أو كلية الهندسة. ومقابل الرجاء شيء آخر محبوب، لكن الإنسان يعلم استحالته، وهو التمنِّي، فالمحبوبات ـ إذن ـ قسمان: أمور مُتمنَّاه وهي في الأمور المستحيلة، لكن الإنسان يعلن أنه يحبها، والقسم الثاني أمور نحبها، ومن الممكن أن تقع، وتسمى رجاء.
{ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } هم مَن لا يؤمنون، لا بإلهٍ، ولا ببعثٍ؛ فقد قالوا:
{ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ }[الجاثية: 24] وقالوا:
{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }[المؤمنون: 82] وإذا كان الإنسان لا يؤمن بالبعث؛ فهو لا يؤمن بلقاء الله سبحانه؛ لأن الذي يؤمن بالبعث يؤمن بلقاء الله، ويُعدّ نفسه لهذا اللقاء بالعبادة والعمل الصالح، ولكن الكافرين الذين لا يؤمنون بالبعث سيُفاجَأون بالإله الذي أنكروه، وسوف تكون المفاجأة صعبة عليهم؛ ولذلك قال الحق سبحانه:

{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً }[النور: 39]
السراب: هو أن يمشي الإنسان في خلاء الصحراء، ويخيل إليه أن هناك ماءً أمامه، وكلّما مشى ظن أن الماء أمامه، وما إن يصل إلى المكان يجد أن الماء قد تباعد. وهذه العملية لها علاقة بقضية انعكاس الضوء، فالضوء ينعكس؛ ليصور الماء وهو ليس بماء:
{ حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ }[النور: 39] إنه يُفاجَأ بوجود الله سبحانه الذي لم يكن في باله، فهو واحد من الذين لا يرجون لقاء الله، وهو ممن جاء فيهم القول:
{ وَقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ }[السجدة: 10]
رغم أن الكون الذي نراه يُحتِّم قضية البعث؛ لأننا نرى أن لكل شيء دورة، فالوردة الجميلة الممتلئة بالنضارة تذبل بعد أن تفقد مائيَّتها، ويضيع منها اللون، ثم تصير تراباً. وأنت حين تشم الوردة فهذا يعني أن ما فيها من عطر إنما يتبخر مع المياه التي تخرج منها بخاراً، ثم تذبل وتتحلل بعد ذلك.
إذن: فللوردة دورة حياة. وأنت إن نظرت إلى أي عنصر من عناصر الحياة مثل المياه سوف تجد أن الكمية الموجودة من الماء ساعة خلق الله السموات والأرض هي بعينها؛ لم تَزِدْ ولم تنقص. وقد شرحنا ذلك من قبل. وكل شيء تنتفع به له دورة، والدورة تُسلم لدورة أخرى، وأنت مستفيد بين هذه الدورات؛ هدماً وبناءً.
والذين لا يرجون لقاء الله، ولا يؤمنون بالبعث، ولا بثواب أو عقاب لا يلتفتون إلى الكون الذي يعيشون فيه؛ لأن النظر في الكون وتأمُّل أحواله يُوجِب عليهم أن يؤمنوا بأنها دورة من الممكن أن تعود.
وسبحانه القائل:
{ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ }[الأنبياء: 104] وهؤلاء الذين لا يرجون لقاء الله يأتي القرآن بما جاء على ألسنتهم: }
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ { [يونس: 15]
هم هنا يطلبون طلبين: } ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ { ، } أَوْ بَدِّلْهُ {.
أي: يطلبون غير القرآن. ولنلحظ أن المتكلم هو الله سبحانه؛ لذلك فلا تفهم أن القولين متساويان.
} ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ { هما طلبان: الطلب الأول: أنهم يطلبون قرآناً غير الذي نزل. والطلب الثاني: أنهم يريدون تبديل آية مكان آية، وهم قد طلبوا حذف الآيات التي تهزأ بالأصنام، وكذلك الآيات التي تتوعدهم بسوء المصير.
ويأتي جواب من الله سبحانه على شق واحد مما طلبوه وهو المطلب الثاني، ويقول سبحانه: } قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي { ولم يرد الحق سبحانه على قولهم: } ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ {.

وكان مقياس الجواب أن يقول: " ما يكون لي أن آتي بقرآن غير هذا أو أبدله "؛ لكنه اكتفى بالرد على المطلب الثاني } أَوْ بَدِّلْهُ {؛ لأن الإتيان بقرآن يتطلب تغييراً للكل. ولكن التبديل هو الأمر السهل. وقد نفى الأسهل؛ ليسلِّموا أن طلب الأصعب منفي بطبيعته.
وأمر الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: } قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي {
أي: أن أمر التبديل وارد، لكنه ليس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. بل بأمر من الله سبحانه وتعالى، إنما أمر الإتيان بقرآن غير هذا ليس وارداً.
إذن: فالتبديل وارد شرط ألا يكون من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال الحق سبحانه:
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ }[النحل: 101] وهو ما تذكره هذه الآية: } قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي { و } تِلْقَآءِ { من " لقاء "؛ فتقول: " لقيت فلاناً " ، ويأتي المصدر من جنس الفعل أو حروفه، ويسمون " التلقاء " هنا: الجهة.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى:
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ }[القصص: 22].
و } تِلْقَآءَ مَدْيَنَ { أي: جهة مدين. و " التلقاء " قد تأتي بمعنى اللقاء؛ لأنك حين تقول: " لقيته " أي: أنا وفلان التقينا في مكان واحد، وحين نتوجّه إلى مكان معيّن فنحن نُوجَد فيه. ويظن بعض الناس أن كل لفظ يأتي لمعنيين يحمل تناقضاً، ونقول: لا، ليس هناك تناقض، بل انفكاك جهة، مثلما قال الحق سبحانه:
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }[البقرة: 144]
والشطر معناه: الجهة؛ ومعناه أيضاً: النصف، فيقال: " أخذ فلان شطر ماله " ، أي: نصفه، و " اتجهت شطر كذا " ، أي: إلى جهة كذا.
وهذه معان غير متناقضة؛ فالإنسان منا ساعة يقف في أي مكان؛ يصبح هذا المكان مركزاً لمرائيه، وما حوله كله محيطاً ينتهي بالأفق.
ويختلف محيط كل إنسان حسب قوة بصره، ومحيط الرؤية ينتهي حين يُخيَّل لك أن السماء انطبقت على الأرض، هذا هو الأفق الذي يخصُّك، فإن كان بصرُك قويّاً فأفقك يتَّسع، وإن كان البصر ضعيفاً يضيف الأفق.
ويقال: " فلان ضَيِّق الأفق " أي: أن رؤيته محدودة، وكل إنسان منا إذا وقف في مكان يصير مركزاً لما يحيطه من مَرَاء؛ ولذلك يوجد أكثر من مركز، فالمقابل لك نصف الكون المرئي، وخلفك نصف الكون المرئي الآخر، فإذا قيل: إن " الشطر " هو " النصف " ، فالشطر أيضاً هو " الجهة ".
وهنا يقول الحق سبحانه: } قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ {.

أي: أنه صلى الله عليه وسلم لا يأتي بالقرآن من عند نفسه صلى الله عليه وسلم، بل يُوحَى إليه.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: } إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ { [يونس: 15]
أي: أنه صلى الله عليه وسلم لو جاء بشيء من عنده، ففي هذا معصية لله تعالى، ونعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُعرف عنه أنه كان شاعراً، ولا كان كاتباً، ولا كان خطيباً. وبعد أن نزل الوحي عليه من الله جاء القرآن في منتهى البلاغة.
وقد نزل الوحي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين من عمره ولا توجد عبقرية يتأجَّل ظهورها إلى هذه المرحلة من العمر، ولا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أجَّل عبقريته إلى هذه السِّن؛ لأنه لم يكن يضمن أن يمتد به العمر.
ويأتي لنا الحق سبحانه بالدليل القاطع على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتَّبِع إلا ما يُوحَى إليه فيقول:
} إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ { [يونس: 15]
ويأتي الأمر بالرَّدِّ من الحق سبحانه على الكافرين: } قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ.... {.

(/1366)


قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)


وهنا يبلِّغ محمدٌ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين طلبوا تغيير القرآن أو تبديله: لقد عشت طوال عمري معكم، ولم تكن لي قوة بلاغة أو قوة شعر، أو قوة أدب. فمن له موهبة لا يكتمها إلى أن يبلغ الأربعين، ورأيتم أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس إلى معلِّم، بل عندما اتهمتموه وقلتم:
{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ }[النحل: 103]
وفضحكم الحق سبحانه بأن أنزل في القرآن قوله تعالى:
{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103]
ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من شبه الجزيرة العربية، ولم يقرأ مؤلَّفَات أحد. فمن أين جاء القرآن إذن؟
لقد جاء من الله سبحانه، وعليكم أن تعقلوا ذلك، ولا داعي للاتهام بأن القرآن من عند محمد؛ لأنكم لم تجرّبوه خطيباً أو شاعراً، بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن نزلت عليه الرسالة، هو بلاغ من عند الله.
وبطبيعة الحال لا يمكن أن يُنسَب الكمال إلى إنسان فينفيه، فالعادة أن يسرق شاعر ـ مثلاً ـ قصيدة من شاعر آخر، أو أن ينتحل كاتب مقالة من آخر. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلِّغكم أن كمال القرآن ليس من عنده، بل هو مجرد مبلِّغ له، وكان يجب أن يتعقَّلوا تلك القضية بمقدِّماتها ونتائجها؛ فلا يلقوا لأفكارهم العنان؛ ليكذبوا ويعاندوا، فالأمر بسيط جداً.
يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس: 16]
إذن: فالمقدمة التي يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقنع بها الكافرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله رسولاً من أنفسهم، فإن قلت:
{ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ }[آل عمران: 164]
أي: أنه صلى الله عليه وسلم من جنس الناس، لا من جنس الملائكة، أو { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي: من أمة العرب، لا من أمة العَجَم، أو { مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي: من قبيلتهم التي يكذِّب أصحابُها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
إذن: فحياته صلى الله عليه وسلم معروفة معلومة لكم، لم يَغِبْ عنكم فترة؛ لتقولوا بُعِثَ بعثةً؛ ليتعلَّم علماً من مكان آخر، ولم يجلس إلى معلِّم عندكم ولا إلى معلِّم خارجكم، ولم يَتْلُ كتاباً، فإذا كان الأمر كذلك، فيجب أن تأخذوا من هذا مقدِّمة وتقولوا: فمن أين جاءت له هذه الحكمة فجأة؟
أنتم تعلمون أن المواهب والعبقريات لا تنشأ في الأربعينات، ولكن مخايل العبقرية إنما ينشأ في نهاية العقد الثاني وأوائل العقد الثالث، فمن الذي آخّر العبقرية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول هذا القول البليغ الذي أعجزكم، وأنتم أمّة البلاغة وأمة الفصاحة المرتاضون عليها من قديم، وعجزتم أمام ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟
كان يجب أن تقولوا: لم نعرف عنه أنه يعلم شيئاً من هذا، فإذا حَلّ لكم اللغز وأوضح لكم: أن القرآن ليس من عندي؛ كان يجب أن تصدقوه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعزوه إلى خالقه وربه سبحانه.

والدليل على أنكم مضطربون في الحكم أنكم ساعة يقول لكم: القرآن بلاغ عن الله، تكذِّبونه، وتقولون: لا، بل هو من عندك، فإذا فَترَ عنه الوحي مرّةً قلتم: قلاه ربُّه.
لماذا اقتنعتم بأن له ربّاً يَصِلُه بالوحي ويهجره بلا وحي؟
أنتم ـ إذن ـ أنكرتم حالة الوصل بالوحي، واعترفتم بالإله الخالق عندما غاب عنه الوحي، وكان يجب أن تنتبهوا وتعودوا إلى عقولكم؛ لتحكموا على هذه الأشياء، وقد ذكر الحق سبحانه ذلك الأمر في كثير من آياته، يقول سبحانه:
{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ }[آل عمران: 44]
ويقول سبحانه:
{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ }[القصص: 44]
ويقول سبحانه:
{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ }[القصص: 45]
ويقول سبحانه:
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[العنكبوت: 48]
فمن أين جاءت تلك البلاغة؟ كان يجب أن تأخذوا هذه المقدِّمات؛ لتحكموا بأنه صادق في البلاغ عن الله؛ لذلك يُنهى الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله: } أَفَلاَ تَعْقِلُونَ {.
وحين ينبهك الحق سبحانه وتعالى إلى أن تستعمل عقلك، فهذا دليل على الثقة في أنك إذا استعملت عقلك؛ وصلت إلى القضية المرادة. والله سبحانه وتعالى مُنزَّه عن خديعة عباده، فمن يخدع الإنسان هو من يحاول أن يصيب عقله بالغفلة، لكن الذي ينّبه العقل هو من يعلم أن دليل الحقيقة المناسبة لما يقول، يمكن الوصول إليه بالعقل.
وقول الحق سبحانه في آخر الآية: } أَفَلاَ تَعْقِلُونَ { يدلنا على أن القضية التي كذَّبوا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأت من عدم استعمال عقولهم، فلو أنهم استعملوا عقولهم في استخدام المقدمات المُحسَّة التي يؤمنون بها ويسلمون؛ لانتهوا إلى القضية الإيمانية التي يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو أنهم فكّروا وقالوا: محمد نشأ بيننا ولم نعرف له قراءة، ولا تلاوة كتاب ولا جلوساً إلى معلِّم، ولم يَغبْ عنا فترة ليتعلَّم، وظل مدة طويلة إلى سِنِّ الأربعين ولم يرتض على قول ولا على بلاغة ولا على بيان؛ فمن أين جاءته هذه الدفعة القوية؟
كان يجب أن يسألوه هو عنها: من أين جاءتك هذه؟ وما دام قد قال لهم: إنها جاءته من عند الله، فكان يجب أن يصدِّقوه.
ومهمة العقل دائما مأخوذة من اشتقاقه، " فالعقل " مأخوذ من " عقال " البعير.

وعقال البعير هو الحبل الذي يربط به ساقي الجمل؛ حتى لا ينهض ويقوم؛ لنوفِّر له حركته فيما نحب أن يتحرك فيه، فبدلاً من أن يسير هكذا بدون غرض، وبدون قصد، فنحن نربط ساقيه؛ ليرتاح ولا يتحرك، إلى أن نحتاجه في حركة.
إذن: فالعقل إنما جاء؛ ليحكم المَلَكَات؛ لأن كل مَلَكَة لها نزوع إلى شيء، فالعين لها مَلَكَة أن ترى كل شيء، فيقول لها العقل: لا داعي أن تشاهدي ذلك؛ لأنه منظر سيؤذيك، والأذن تحب أن تسمع كل قول، فيقول لها العقل: لا تسمعي إلى ذلك؛ حتى لا يضرك.
إذن: فالعقل هو الضابط على بقية الجوارح. وكذلك كلمة " الحِكْمة " ، مأخوذة من " الحَكَمة " هي في " اللِّجام " الذي يوضع في فم الفرس؛ حتى لا يجمح، وتظل حركته محسوبة؛ فلا يتحرك إلا إلى الاتجاه الذي تريده.
إذن: شاء الحق سبحانه أن يميّز الإنسان بالعقل والحكمة؛ ليقيم الموازين لملكات النفس؛ فخذوا المقدمات المُحَسَّة التي تؤمنون بها وتشهدونها وتسلمونها لرسول الله صلى الله عليه سلم لتستنبطوا أنه جاء بكلامه من عند الله تعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىا {

(/1367)


فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)


وهنا يوضح القرآن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم: أأكذب على الله؟ إذا كنت لم أكذب عليكم أنتم في أموري معكم وفي الأمور التي جرَّبتموها، أفأكذب على الله؟! إن الذي يكذب في أول حياته من المعقول أن يكذب في الكِبَر، وإذا لم أكذب علكيم أنتم، فهل أكذب على الله؟
وإذَا لم أكن قد كذبت وأنا غير ناضج التفكير، في طفولتي قبل أن أصل إلى الرجولة، فأنا الآن لا أستطيع الكذب. فإذا كنتم أنتم تتهمونني بذلك، فأنا لا أظلم نفسي وأتهمها بالكذب، فتصبحون أنتم المكذبين؛ لأنكم كذبتموني في أن القرآن مبلغ عن الله، ولو أنني قلت: إنه من عند نفسي لكان من المنطق أن تُكذِّبوا ذلك؛ لأنه شرف يُدَّعى. ولكن أرفعه إلى غيري؛ إلى من هو أعلى مني ومنكم.
وقوله الحق: { فَمَنْ أَظْلَمُ } أي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله سبحانه كذباً؛ لأن الكاذب إنما يكذب ليدلِّس على من أمامه، فهل يكذب أحد على من يعلم الأمور على حقيقتها؟ لا أحد بقادر على ذلك. ومن يكذب على البشر المساوين له يظلمهم، لكن الأظلم منه هو من يكذب على الله سبحانه.
والافتراء كذب متعمد، فمن الجائز أن يقول الإنسان قضية يعتقدها، لكنها ليست واقعاً، لكنه اعتقد أنها واقعة بإخبار من يثق به، ثم تبين بعد ذلك أنها غير واقعة، وهذا كذب صحيح، لكنه غير متعمد، أما الافتراء فهو كذب متعمد.
ولذلك حينما قسم علماء اللغة الكلام الخبري؛ قسموه إلى: خبر وإنشاء، والخبر يقال لقائله: صدقت أو كذبت، فإن كان الكلام يناسب الواقع فهو صدق، وإن كان الكلام لا يناسب الواقع فهو كذب.
وقوله الحق: { افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلتم إنني ادعيت أن الكلام من عن الله، وهو ليس من عند الله. فهذا يعني أن الكلام كذب وهو من عندي أنا، فما موقف من يكَذب بآيات الله؟
إن الكذب من عندكم أنتم، فإن كنتم تكذبونني وتدَّعون أني أقول إن هذا من الله، وهو ليس من الله، وتتمادون وتُكذِّبون بالآيات وتقولون هي من عندك، وهي ليست من عندي، بل من عند الله؛ فالإثم عليكم.
والكذب إما أن يأتي من ناحية القائل، وإما من ناحية المستمع، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم عدالة التوزيع في أكثر من موقع، مثلما يأتي القول الحق مبيِّناً أدب النبوة:
{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىا هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 24] وليس هناك أدب في العرض أكثر من هذا، فيبين أن قضيته صلى الله عليه وسلم وقضيتهم لا تلتقيان أبداً، واحدة منهما صادقة والأخرى كاذبة، ولكن من الذي يحدد القضية الصادقة من الكاذبة؟ إنه الحق سبحانه.

وتجده سبحانه يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: } أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { وفي ذلك طلب لأن يعرضوا الأمر على عقولهم؛ ليعرفوا أي القضيتين هي الهدى، وأيهما هي الضلال.
وفي ذلك ارتقاء للمجادلة بالتي هي أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه:
{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[سبأ: 25]
أي: كل واحدة سيُسأل عن عمله، فجريمتك لن أسأل أنا عنها، وجريمتي لا تُسأل أنت عنها. ونسب الإجرام لجهته ولم يقل: " قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تجرمون " وشاء ذلك ليرتقي في الجدل، فاختار الأسلوب الذي يُهذِّب، لا ليهيِّج الخصم؛ فيعاند، وهذا من الحكمة؛ حتى لا يقول للخصم ما يسبب توتره وعناده فيستمر الجدل بلا طائل.
وهنا يقول الحق سبحانه: } فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ كَذِباً { فإذا كان الظلم من جهتي؛ فسوف يحاسبني الله عليه، وإن كان من جهتكم؛ فاعلموا قول الحق سبحانه: } إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ { ولم يحدد من المجرم، وترك الحكم للسامع.
كما تقول لإنسان له معك خلاف: سأعرض عليك القضية واحكم أنت، وساعة تفوضه في الحكم؛ فلن يصل إلا إلى ما تريد. ولو لم يكن الأمر كذلك لما عرضت الأمر عليه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: } وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ {

(/1368)


وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)


وكلمة { وَيَعْبُدُونَ } تقتضي وجود عابد؛ ووجود معبود؛ ووجود معنى للعبادة. والعابد أدنى حالاً من المعبود، ومظهر العبادة والعبودية كله طاعة للأمر والانصراف عن المنهي عنه.
هذا هو أصل العبادة، ووسيلة القرب من الله.
وحتى تكون العبادة في محلها الصحيح لا بد أن يقر العابد أن المعبود أعلى مرتبة في الحكم على الأشياء، أما إن كان الأمر بين متساويين فيسمونه التماساً.
إذن: فهناك آمر ومأمور، فإن تساويا؛ فالمأمور يحتاج إلى إقناع، وأما إن كان في المسألة حكم سابق بأن الآمر أعلى من المأمور؛ كالأستاذ بالنسبة للتلميذ، أو الطبيب بالنسبة للمريض، ففي هذا الوضع يطيع المأمور الآمر لأنه يفهم الموضوع الذي يأمر فيه.
وكذلك المؤمن؛ لأن معنى الإيمان أنه آمن بوجود إله قادر له كل صفات الكمال المطلق؛ فإذا اعتقدت هذا؛ فالإنسان ينفذ ما يأمر به الله؛ ليأخذ الرضاء والحب والثواب. وإن لم ينفذ؛ فسوف ينال غضب المعبود وعقابه.
إذن: فأنت إن فعلت أمره واجتنبت نهيه؛ نلت الثواب منه، وإن خالفت؛ تأخذ عقاباً؛ لذلك لا بد أن يكون أعلى منك قدرة، ويكون قادراً على إنفاذ الثواب والعقاب، والقادر هو الله جل علاه.
أما الأصنام التي كانوا يعبدونها، فبأي شيء أمرتهم؟ إنها لم تأمر بشيء؛ لذلك لا يصلح أن تكون لها عبادة؛ لأن معنى العبادة يتطلب أمراً ونهياً، ولم تأمر الأصنام بشيء ولم تنه عن شيء، بل كان المشركون هم الذين يقترحون الأوامر والنواهي، وهو أمر لا يليق؛ لأن المعبود هو الذي عليه أن يحدد أوجه الأوامر والنواهي.
إذن: فمن الحمق أن يعبد أحدٌ الأصنم؛ لأنها لا تضر من خالفها، ولا تنفع من عبدها، فليس لها أمر ولا نهي.
ومن أوقفوا أنفسهم هذا الموقف نسوا أن في قدرة كل منهم أن ينفع الصنم وأن يضره، فالواحد منهم يستطيع أن يصنع الصنم، وأن يصلحه إذا انكسر، أو يستطيع أن يكسره بأن يلقيه على الأرض. وفي هذه لحالة يكون العابد أقدر من المعبود على الضر وعلى النفع، وهذا عين التخلف العقلي.
إذن: فمثل هذه العبادة لون من الحمق، ولو عُرِضَتْ هذه المسألة على العقل؛ فسوف يرفضها العقل السليم.
وعندما تجادلهم، وتثبت لهم أن تلك الأصنام لا تضر ولا تنفع، تجد من يكابر قائلاً: { هَـاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } وهم بهذا القول يعترفون أن الله هو الذي ينفع ويضر، ولكن أما كان يجب أن يتخذوا شفيعاً لهم عند الله، وأن يكون الشفيع متمتعاً بمكانة ومحبة عند من يشفع عنده؟
ثم ماذا يقولون في أن من تُقدم له شفاعة هو الذي ينهى عن اتخاذ الأصنام آلهة وينهي عن عبادتها؟
وهل هناك شفاعة دون إذن من المشفوع عنده؟ من أجل ذلك جاء الأمر من الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } [يونس: 18]
إذن: فمن أين جئتم بهذه القضية؛ قضية شفاعة الأصنام لكم عند الله؟ إنها قضية لا وجود لها، وسبحانه لم يبلغكم أن هناك أصناماً تشفع، وليس هذا وارداً، فقولكم هذا فيه كذب متعمد وافتراء.

فهو سبحانه الذي خلق السموات وخلق الأرض، ويعلم كل ما في الكون، وقضية شفاعة الأصنام عنده ليست في علمه، ولا وجود لها، بل هي قضية مفتراة، مُدَّعاة.
وقوله الحق هنا: } أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ { مثلها مثل قوله الحق:
{ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ }[الحجرات: 16]
ويعني هذا القول بالرد على من قالوا ويقولون: إن المطلوب هو تشريعات تناسب العصر، وكلما فسد العصر طالبوا بتشريعات جديدة، وما داموا هم الذين يشرِّعون، فكأنهم يرغبون في تعليم خالقهم كيف يكون الدين، وفي هذا اجتراء وجهل بقدرة وحكمة مَنْ خلق الكون، فأحكمه بنظام.
وقوله الحق: } قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ { فيه تنزيه له سبحانه، فهو الخالق لكل شيء، خالق الملك والملكوت ويعلم كل شيء، وقضية شفاعة الأصنام إنما هي قضية مفتراة لا وجود لها؛ لذلك فهي ليست في علم الله، والحق سبحانه مُنزَّه أن توجد في ملكه قضية لها مدلول يقيني ولا يعلمها، ومُنزَّه جل وعلا عن أن يُشرَك به؛ لأن الشريك إنما يكون ليساعد من يشركه، ونحن نرى على سبيل المثال صاحب مال يديره في تجارة ما، ولكن ماله لا ينهض بكل مسئوليات التجارة، فيبحث عن شريك له.
وسبحانه وتعالى قوي وقادر، ولا يحتاج إلى أحد في ملكية الكون وإدارته، ثم ماذا يفعل هؤلاء الشركاء المدَّعون كذباً على الله؟
إن الحق سبحانه يقول:
{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42]
وهذا القول الحكيم ينبه المشركين إلى أنه بافتراض جدلي أن لهؤلاء الشركاء قوة وقدرة على التصرف، فهم لن يفعلوا أي شيء إلا بابتغاء ذى العرش، أي: بأمره سبحانه وتعالى. وهم حين ظنوا خطأ أن لكل فلك من الأفلاك سيطرة على مجال في الوجود، وأن النجوم لها سيطرة على الوجود، وأن كل برج من الأبراج له سيطرة على الوجود، فلا بد في النهاية من الاستئذان من مالك الملك والملكوت.
ومن خيبة من ظنوا مثل هذه الظنون، ومعهم الفلاسفة الذين أقروا بأن هناك أشياء في الكون لا يمكن أن يخلقها إنسان، أو أن يدَّعى لنفسه صناعتها؛ لأن الجنس البشري قد طرأ على هذه المخلوقات، فقد طرأ الإنسان على الشمس والقمر والنجوم والأرض، ولا بد إذن أن تكون هناك قوة أعلى من الإنسان هي التي خلقت هذه الكائنات.

كل هذه الكائنات تحتاج إلى مُوجِد، ولم نجد معامل لصناعة الشمس أو القمر أو الأرض أو وجدنا من ادعى صناعتها أو خلقها.
ولكن الفلاسفة الذين قبلوا وجود خالق للكون لم يصلوا إلى اسمه ولا إلى منهجه، وقوة الحق سبحانه مطلقة، ولا يحتاج إلى شريك له، وإذا أردنا أن نتأمل ولو جزءاً بسيطاً من أثر قوة الله التي وهبها للإنسان، فلنتأمل صناعة المصباح الكهربي.
وكل منا يعلم أنه لا توجد بذرة نضعها في الأرض، فتنبت أشجاراً من المصابيح، بل استدعت صناعة مصباح الكهرباء جهد العلماء الذين درسوا علما الطاقة، و استنبطوا من المعادلات إمكان تصور صناعة المصباح الكهربي، وعملوا على تفريغ الهواء من الزجاجة التي يوضع فيها السلك الذي يضيء داخل المصباح، وهكذا وجدنا أن صناعة مصباح كهربي واحد تحتاج إلى جهد علماء وعمل مصانع، كل ذلك من أجل إنارة غرفة واحدة لفترة من الزمن. فما بالنا بالشمس التي تضيء الكون كله، وإذا كان أتفه الأشياء يتطلب كمية هائلة من العلم والبحث والإمكانات الفنية والتطبيقية، وتطوير للصناعات، فما بالنا بالشمس التي تضيء نصف الكرة الأرضية كل نصف يوم، ولا أحد يقدر على إطفائها، ولا تحتاج إلى صيانة من البشر، وإذا أردت أن تنسبها فلن تجد إلا الله سبحانه.
وأنت بما تبتكره وتصنعه لا يمكن أن يصرفك عن الله، والذكي حقاً هو من يجعل ابتكاراته وصناعاته دليلاً على صدق الله فيما أخبر.
وإذا كان الحق سبحانه قد خلق الشمس ـ ضمن ما خلق ـ وإذا أشرقت أطفأ الكل مصابيحهم؛ لأنها هي المصباح الذي يهدي الجميع، وإذا كان ذلك هو فعل مخلوق واحد لله، فما بالنا بكل نعمة من سائر مخلوقاته. ونور الشمس إنما يمثل الهداية الحسية التي تحمينا من أن نصطدم بالأشياء فلا تحطمنا ولا نحطمها، فكذلك يضيء لنا الحق سبحانه المعاني والحقائق.
وإياك أن تقول: إن الفيلسوف الفلاني جاء بنظرية كذا؛ فخذوا بها، بل دع عقلك يعمل ويقيس ما جاء بهذه النظرية على ضوء ما نزل في كتاب الحق سبحانه، وإن دخلت النظرية مجال التطبيق، وثبت أن لها تصديقاً من الكتاب، فقل: إن الحق سبحانه قد هدى فلاناً إلى اكتشاف سر جديد من أسرار القرآن؛ لأن الحق يريد منا أن نتعقل الأشياء وأن ندرسها دراسة دقيقة، بحيث نأخذ طموحات العقل؛ لتقربنا إلى الله، لا لتبعدنا عنه، والعياذ بالله.
وإذا قال الحق سبحانه: } سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ { فذلك لأن الشركة تقتضي طلب المعونة، وطلب المعونة يكون إما من المساوي وإما من الأعلى، ولا يوجد مساوٍ لله تعالى، ولا أعلى من الله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً {

(/1369)


وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)


وقد جاءت آية في سورة البقرة متشابهة مع هذه الآية وإن اختلف الأسلوب، فقد قال الحق سبحانه في سورة البقرة:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ }[البقرة: 213] والذين يقرأون القرآن بسطحية وعدم تعمق قد لا يلتفتون إلى الآيات المشابهة لها في المعنى العام، وهذه الآيات توازن بين المعاني فلا تضارب بين آية وأخرى.
ولذلك نجد بين المفكرين العصريين من يقول: إن الناس كانوا كلهم كفاراً، ثم ارتقى العقل محاولاً اكتشاف أكثر الكائنات قوة؛ ليعبدوه، فوجدوا أن الجبل هو الكائن العالي الصلب؛ فعبدوه. وأناس آخرون قالوا: إن الشمس أقوى الكائنات فعبدوها، وآخرون عبدوا القمر، وعبد قوم غيرهم النجوم، واتخذ بعض آخر آلهة من الشجر، وكل جماعة نظرت إلى جهة مختلفة تتلمس فيها القوة.
وهم يأخذون من هذا أن الإنسان قد اهتدى إلى ضرورة الدين بعقله، ثم ظل هذا العقل في ارتقاء إلى أن وصل إلى التوحيد.
ونرد على أصحاب هذا القول: أنتم بذلك تريدون أن تعزلوا الخلق عن خالقهم، وكأن الله الذي خلق الخلق وأمدهم بقوام حياتهم المادية قد ضَنَّ عليهم بقوام حياتهم المعنوية، وليس هذا من المقبول أو المعقول، فكيف يضمن لهم الحياة المادية، ولا يضمن لهذه المادية قيماً تحرسها من الشراسة وتحميها من الفساد والإفساد؟
وقوله الحق:
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[البقرة: 213]
لذلك فَهِمَ البعض أن الناس كانوا أمة واحدة في الكفر، وحين جاء النبيون، اختلف الناس؛ لأن منهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر، ولكن لو أحسن الذين قالوا مثل هذا القول الاستنباط وحسن الفهم عن الله لوجدوا أن مقصود الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها الآن إنما هو: ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا؛ فبعث الله النبيين؛ ليخرجوهم عن الخلاف ويعيدوهم إلى الاتفاق على عهد الإيمان الأول الذي شهدوا فيه بربوبية الحق سبحانه وتعالى؛ لأن الأصل في المسألة هو الإيمان لا الكفر.
ومن أخذ آية سورة البقرة كدليل على كفر الناس أولاً، نقول له: اقرأ الآية بأكملها؛ لتجد قوله الحق:{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ }[البقرة: 213]
وهكذا نرى أن الاختلاف الذي حدث بين الناس جاء في آية البقرة في المؤخرة، بينما جاء الاختلاف في هذه الآية في المقدمة، وهذا دليل على أن الناس كانوا أمة واحدة على الإيمان، فليس هناك أناس أوْلَى من أناس عند الخالق سبحانه وتعالى، ولم يكن عدل الله ليترك أناساً متخبطين في أمورهم على الكفر، ويرسل الرسل لأناس آخرين بالهداية؛ فالناس بالنسبة لله سواء.

وما دام الحق سبحانه قد أوجد الخلق من البشر فلا بد أن يُنزل لهم منهجاً؛ ولذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه:{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ }[آل عمران: 96]
نجد فيه الرد على من يقول إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى الكعبة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لم يترك الخلق من آدم إلى إبراهيم دون بيت يحجون إليه، ولكن الحق سبحانه وضع البيت؛ ليحج إليه الناس من أول آدم إلى أن تقوم الساعة، والذي وضع البيت ليس من الناس، بل شاء وضع البيت خالق الناس، وما فعله سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ هو رفع القواعد من البيت الحرام.
أي: أنه أقام ارتفاع البيت بعد أن عرف مكان البيت طولاً وعرضاً، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ }[الحج: 26]
وهكذا يَصْدُق قول الحق سبحانه بأن البيت قد وُجد للناس قبل آدم، وهو الناس إلى أن تقوم الساعة، وهكذا نعلم أن الحق سبحانه خلق الخلق وأنزل لهم المنهج، والأصل في الناس هو الإيمان، لكن الكفر هو الذي طرأ على البشر من بابين: باب الغفلة، وباب تقليد الآباء.
والدليل على ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلَّم عن ميثاق الذر، قال:
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ }[الأعراف: 172ـ173]
إذن: فالتعصِّي عن الحكم الإيماني مدخله بابان: الأول باب الغفلة، أي: أن تكون قد عملتَ شيئاً، ولم تجعله دائماً في بؤرة شعورك؛ لأن عقلك يستقبل المعلومات، ويستوعبها من مرة واحدة، إن لم تكن مُشتَّتَ الفكر في أكثر من أمر، فإن كنت صافي الفكر ومنتبهاً إلى المعلومة التي تَصِلُكَ؛ فإن عقلك يستوعبها من مرة واحدة، ومن المهم أن يكون الذهن خالياً لحظة أن تستقبل المعلومة الجديدة.
ولذلك نجد فارقاً بين إنسان وإنسان آخر في حفظ المعلومات، فواحد يستقبل المعلومة وذهنه خالٍ من أي معلومة غيرها، فتثبت في بؤرة الشعور، بينما يضطر الآخر إلى تكرار قراءة المعلومة إلى أن يخلو ذهنه من غيرها؛ فتستقر المعلومة في بؤرة الشعور، وحين تأتي معلومة أخرى، فالمعلومة الأولى تنتقل إلى حاشية الشعور إلى حين أن يستدعيها مرة أخرى.
وإذا أراد طالب ـ على سبيل المثال ـ أن يستوعب ما يقرأ من معلومات جديدة، فعلية أن ينفض عن ذهنه كل المشاغل الأخرى؛ ليركِّز فيما يدرس؛ لأنه إن جلس إلى المذاكرة وباله مشغول بما سوف يأكل في الغداء، أو بما حدث بينه وبين أصدقائه، أو بما سوف يرتدي من ملابس عند الخروج من البيت، أو بغير ذلك من المشاغل، هنا سوف يُضطر الطالب أن يعيد قراءة الدرس أكثر من مرة؛ حتى يصادف الدرسُ جزئية خالية من بؤرة الشعور؛ فتستقر فيها.

وقد نجد طالباً في صباح يوم الامتحان وهو يسمع من زملائه أن الامتحان قد يأتي في الجزء الفلاني من المقرر؛ فيفتح الكتاب المقرر على هذا الجزء ويقرأه مرة واحدة؛ فيستقر في بؤرة الشعور، ويدخل الامتحان، ليجد السؤال في الجزء الذي قرأه مرة واحدة قبل دخوله إلى اللجنة؛ فيجيب عن السؤال بدقة.
ولذلك فالتلميذ الذكي هو من يقوم بما يسمِّيه علم النفس " عملية الاستصحاب " ، أي: أن يقرأ الدرس ثم يغلق الكتاب؛ ليسأل نفسه: " ما الجديد من المعلومات في تلك الصفحة؟ " ويحاول أن يتذكر ذلك، ويحاول أن يتعرف حتى على الألفاظ الجديدة التي في تلك الصفحة، وما هي الأفكار الجديدة التي صحَّحَتْ له معلومات أو أفكاراً خاطئة كانت موجودة لديه.
وهكذا يستصحب الطالب معلومات بتركيز وانتباه.
وكذلك الأستاذ المتميز هو من يشرح الدرس ثم يتوقف؛ ليسأل التلاميذ؛ ليشير انتباههم؛ حتى لا ينشغل أحدهم بما هو خارج الدرس، والأستاذ المتميز هو الذي يلقي درسه بما يستميل التلاميذ، كما تستميلهم القصة المروية، وحتى لا تظل المعلومات الدراسية مجرد معلومات جافة.
وبهذا يستمر الذهن بلا غفلة، والغفلة تأتي إلى القضايا الدينية؛ لأن في الإنسان شهوات تصادم الأوامر والنواهي؛ فيتناسى الإنسان بعض الأوامر وبعض النواهي إلى أن يأتي الران الذي قال عنه الحق سبحانه:
{ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىا قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }[المطففين: 14]
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالحديث الشريف: " نزلت الأمانة في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السُّنَّة ". ثم يحدثنا صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة فيقول: " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه؛ فيظل أثرها مثل أثر الوكْت " أي: مثل لسعة النار وهكذا تتوالى؛ حتى يأتي الرَّانُ على القلب.
إذن: فالغفلة تتلصص على النفس الإنسانية، وكلما غفل الإنسان في نقطة، ثم يغفل عن أخرى وهكذا. ولكن من لا يغفل فهو من يتذكر الحكم، وبطبقه، ويذوق حلاوته. ومثال هذا: المسلم الذي يشرح الله تعالى قلبه للصلاة، فإن لم يُصّلِّ يظل مُرْهقاً وفي ضيق.
ولذلك جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّ قلب أشْرِبها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه ".


إذن: فالغفلة هي أول باب يدخل منه الشيطان؛ فيبعد الإنسان عن أحكام الله. وإذا ما غفل الأب، فالأبناء يُقلِّدون الآباء، فتأتيهم غفلة ذاتية. وهكذا يكون الغافل أسوة لمن بعده.
ولذلك قال الحق سبحانه عن الأبناء الذين يتعبون غفلة الآباء:{ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ }[البقرة: 170]
وإلْف تقليد الآباء قضية كاذبة؛ لأننا سلسنا مسألة الإيمان إلى آدم عليه السلام، وهو الأب الأول لكل البشر؛ لوجدنا أن آدم عليه السلام قد طبَّق كل مطلوب لله، فإن قلت: } بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ { فهذا القول يحتم عليك ألا تنحرف عن الإيمان الفطري، وإلا كنت من الكاذبين غير المدققين فيما دخل على الإيمان الفطري من غفلة أو غفلات، تبعها تقليد دون تمحيص.
والحق سبحانه قد شاء أن تكون كل كلمة في القرآن لها معنى دقيق مقصود، فالحق سبحانه يقول على ألسنة الكافرين في القرآن:{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىا آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }[الزخرف: 23]
ولم يقل: " مهتدون " بل قال: " مقتدون " ، والمقتدي من هؤلاء هو من اتخذ أباه قدوة، لكن المهتدي هو مَنْ ظن أن أباه على حق.
إذن: فالمقتدي هو من لا يهتم بصدق إيمان أبيه، بل يقلده فقط، وتقليد الآباء نوعان: تقليد على أنه اقتداء مطلق لا صلة له بالهدى أو الضلال، وتقليد على أنه هدى صحيح لشرع الله تعالى. وقد حدث خلاف حول آدم عليه السلام أهو رسول أم نبي فقط؟ فهناك مَنْ قال: إن أول الرسل هو نوح عليه السلام ونقول: وهل من المعقول أن يترك الله الخلق السابقين على نوح عليه السلام دون رسول؟
إن الحق سبحانه وهو القائل:{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر: 24]
والذي أشكل على هؤلاء المفسرين الذين قالوا: إن أول رسول هو نوح عليه السلام أنهم قد فكروا تفكيراً سطحياً، وفهموا أن الرسول يطرأ على المرسل إليهم، وما دام لم يكن هناك بشر قبل آدم فكيف يكون آدم مبعوثاً برسالة، ولمن تكون تلك الرسالة؟
ولم يفطن هؤلاء المفسرون إلى أن آدم عليه السلام كان رسولاً وأسوة إلى أبنائه، فالحق سبحانه قد قال له:{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }[البقرة: 38]
وسبحانه قد قال لآدم عليه السلام:{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا }[طه: 123]
وما دام الحق سبحانه قد ذكر الهدى، فهذا ذكر للمنهج، وهو الذي طبقه سلوكاً يقلده فيه الأبناء.

وغفل هؤلاء المفسرون أيضاً عن استقراء قوله الحق:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً }[المائدة: 27]
وابْنَا آدم عليه السلام قد قدَّمنا القربان إلى الله تعالى. إذن: فهما قد عرفا أن هناك إلهاً.
وحين قال قابيل لأخيه:{ لأَقْتُلَنَّكَ }[المائدة: 27]
بعد ما تقبل الله قربان أخيه ولم يتقبل منه. قال هابيل:{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }[المائدة: 27]
ثم في قول هابيل:{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }[المائدة: 28]
إذن: لو لم يكن آدم عليه السلام رسولاً فمن بلَّغ أبناءه بأن الله يثيب ويعاقب؟
والحق سبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ { وفي هذا إشارة إلى أن الله سبحانه ـ قبل رسالة محمد عليه الصلاة والسلام ـ كان يعاقب مَن يكذِّب البلاغ عنه وما جاء به السابقون من الرسل، يقول سبحانه:
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[العنكبوت: 40]
إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33]
أي: أنه سبحانه قد أجَّلَ الجزاء والعقوبة عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الآخرة. وهذه الكلمة التي سبقت، أنه سبحانه لا يؤاخذ أمة محمد صلى الله عليه وسلم بذنوبهم في الدنيا، ولكنه يؤخِّر ذلك إلى يوم الجزاء. ويقضي سبحانه في ذلك اليوم بين من اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومن عاندوه، وبطبيعة الحال يكون الحق سبحانه في جانب من أرسله، لا من عاند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول سبحانه بعد ذلك: } وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ {

(/1370)


وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

 

(/1371)


وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)


والرسول صلى الله عليه وسلم حين ضاق ذرعاً بالكافرين من صناديد قريش دعا عليهم أن يهديهم الحق بسنين الجدب كالسنين التي أصابت مصر واستطاع سيدنا يوسف عليه السلام أن يدبر أمرها، فلسط الحق سبحانه على قريش الجدب والقحط، ثم جاء لهم بالرحمة من بعد ذلك. وكان من المفروض أن يرجعوا إلى الله، وأن يؤمنوا برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد أن علموا أن ما مسَّهم من القحط ومن الجدب كان بسبب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم: " اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِنِيِّ يوسف ".
وانتهت السنوات السبع وجاء لهم الرحمة ممثلة في المطر، ولم يلتفتوا إلى ضرورة شكر الله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ظلوا يبحثون عن أسباب المطر، فمنهم من قال: لقد جاء مطرنا نتيجة لِنوْءِ كذا، ولأن الرياح هبَّت على مناطق كذا، وفعلوا ذلك دون التفات لانتهاء دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلهم مَثَل مَنْ جلس يبحث في أسباب النصر في الحرب، وجعلوا أسبابها مادية في العُدَّة والعتاد، ولا أحد ينكر أهمية الاستعداد للقتال وجدواه، ولكن يبقى توفيق الله سبحانه وتعالى فوق كل اعتبار؛ لأن المؤمنين بالله الذين استعدوا للقتال ودخلوا المعارك وجدوا المعجزات تتجلى بنصر الله؛ لأن الحق سبحانه ينصر مَنْ ينصره.
أما الذين يحصرون أسباب النصر في الاستعداد القتالي فقط، فالمقاتلون الذين خاضوا الحرب بعد التدريب الجاد، يعلمون أن التدريب وحده لا يصنع روح المقاتل، بل تصقل روحه رغبته في القتال ونَيْل الشهادة ودخول الجنة.
إذن: فلمدد السماء مدخل، ومَن رأى من المقاتلين آية مخالفة لنواميس الكون، فليعلم علم اليقين أن يد الله كانت فوق أيدي المؤمنين المقاتلين. ومن يدعي أن أي نصر هو نتيجة للحضارة، يجد الرد عليه من المقاتلين أنفسهم بأن الحضارة بلا إيمان هي مجرد تقدم مادة هش لا يصنع نصراً، والنصر لا يكون بالمادة وحدها، وقد أمرنا الله بحسن الاستعداد المادي، ولكن النصر يكون بالإيمان فوق المادة.
ولذلك نجد مَنْ خاضوا حربنا المنتصرة في العاشر من رمضان 1393هـ يعلمون أن مدد الله كان معهم بعد أن أحسنوا الاستعداد، ولا أحد من المقاتلين يصدق أن الاستعداد المادي وحده يمكن أن يكفي للنصر، إنه ضرورة، ولكن بالإيمان وحسن استخدام السلاح يكون النصر؛ ولذلك لا يصدق المقاتلون من ينسب النصر للمادة وحدها، وينسحب عدم التصديق على كل ما يقوله من ينكر دور الإيمان في الانتصار.
وهكذا نجد أن مَنْ يجرد النصر من قيمة الإيمان إنما يخدم الإيمان؛ لأن إنكار الإيمان يقلل من قيمة الرأي المادى. وهكذا ينصر الله دينه حتى يثبته في قلوب جنده، ويقلل من قيمة ومكانة مَنْ ينكرون قيمة الإيمان.

ومثال هذا في تاريخ الإسلام أن اليهود الذين كانوا يستفتحون على أهل المدينة من الأوس والخزرج بأن رسولاً سوف يظهر، وأنهم ـ أي: اليهود ـ سيتبعونه، وسوف يقتلون العرب من الأوس والخزرج قَتْل عادٍ وإرم.
ولما جاء وقت ظهور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أسرعت الأوس والخزرج إلى الإيمان به، وقالوا: إنه النبي الذي تهددنا به يهود، فَلْنسبق إليه حتى لا يسبقونا.
هكذا كانت كلمة اليهود هي دافع الأوس والخزرج إلى الإيمان.
إذن: فالله ينصر دينه بالفاجر، رغم ظن الفاجر أنه يكيد للدين.
وكذلك حين جاءت لهم الرحمة بعد القحط أرجفوا وظلوا يحللون سبب سقوط المطر بأسباب علمية محدودة بالمادة، لا بالإيمان الذي فوق المادة.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ { [يونس: 21]
والمكر: هو الكلام الملتوي الذي لا يريد أن يعترف برحمة الله، والادعاء بأن نوء كذا هو السبب في سقوط المطر، وبرج كذا هو السبب في سقوط المطر.
وقوله الحق: } مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا { والمكر هو الكيد الخفي، والمقصود به هنا محاولة الالتفاف؛ لتجريد العجائب من صنع الله لها، وحتى العلم وقوانينه فهو هبة من الله، والحق هو القادر على أن يوقف الأسباب وأن يفعل ما يريد وأن يخرق القوانين، فهو سبحانه رب القوانين، فلا تنسبوا أي خبر إلا له سبحانه؛ حتى لا نضل ضلال الفلاسفة الذين قالوا بأن الله موجود، وهو الذي خلق الكون وخلق النواميس؛ لتحكم الكون بقوانين.
ونقول: لو خلق الحق سبحانه القوانين والنواميس وتركها تتحكم لما شَذَّ شيء عن تلك القوانين، فالمعجزات مع الرسل ـ على سبيل المثال ـ كانت خروجاً عن القوانين. وأبقى الله في يده التحكُّم في القوانين، صحيح أنه سبحانه قد أطلقها، ولكنه ظل قيُّوماً عليها، فيعطل القانون متى شاء ويبرزه متى شاء ويُوجِّه كيفما شاء.
والمكر كما نعلم مأخوذ من التفاف أغصان الشجرة كالضفيرة، فلا تتعرف على منبت ورقة الشجر ومن أي غصن خرجت، فقد اختلطت منابت الأوراق؛ حتى صارت خفية عليك، وأخذ من ذلك الكيد الخفيّ، وأنت قد تكيد لمساويك، لكنك لن تقدر على أن تكيد لمن هو أعلى منك، فإن كنتم تمكرون فإن الله أسرع مكراً، والحق سبحانه يقول: } قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً { ، وهذه أسمها " مشاكلة التعبير ".
أي: عليك أن تأخذ ذلك في مقابله في ذات الفاعل والفعل، ولكن لا تأخذ من هذا القول اسماً لله، فإياك أن تقول: إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ماكر؛ لأن المكر كيد خفيٌّ تفعله أنت مع مساويك، ولكنك لن تستطيع ذلك مع من هو مُطَّلع على كيدك، ولا تطّلع أنت على ما يشاء لك.

وانظر إلى أي جماعة تكيد لأي أمر، وستجد من بينهم من يبلغ عنهم السلطات، وأجهزة الأمن، فإذا كان كيد البشر للبشر مفضوحاً بمن يشي منه بالآخرين، بل هناك من البشر غير الكائدين من يستطيع بنظرته أن يستنبط ويستكشف من يكيدون له.
وهناك من الأجهزة المعاصرة ما تستطيع تسجيل مكالمات الناس والتنصُّت عليهم؛ وكل ذلك مكر من البشر للبشر، فما بالنا إن كاد الله لأحد، وليس هناك أحد مع الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليبلغنا بكيده، ولا أحد يستطيع أن يتجسَّس عليه؟!
مكر الله سبحانه ـ إذن ـ أقوى من أي مكرٍ بشري؛ لأن مكر البشر قد يُهدَم من بعض الماكرين أو من التجسس عليهم، لكن إذا كاد الله لهم، أيعلمون من كيده شيئاً؟ طبعاً لا يعملون.
وكلمة } أَسْرَعُ مَكْراً { تلفتك إلى أن هناك اثنين يتنافسان في سباق، وحين تقول: فلان أسرع من فلان، فمعنى ذلك: أن كلاّ منهما يحاول الوصول إلى نفس الغاية، لكن هناك واحداً أسرع من الآخر في الوصول إلى الغاية.
ومكركم البشري هو أمر حادث، لكن الله ـ سبحانه ـ أزلي الوجود، يعلم كل شيء قبل أن يقع، ويرتِّب كل أمر قبل أن يحدث؛ لذلك فهو الأسرع في الرد على مكركم، إن مكرتم.
وهناك يقول الحق سبحانه: } وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا { و " إذا " الأولى ظرف، أما إذا الثانية فهي " إذا الفجائية " مثلما تقول: خرجت فإذا الأسد بالباب.
وهم حين أنزل الحق لهم الأمطار رحمة منه، فهم لا يهدأون ويستمتعون ويذوقون رحمة الله تعالى بهم من الماء الذي جاءهم من بعد الجدب، بل دبروا المكر فجأة، فيأتي قول الحق سبحانه: } قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ {.
وهكذا ترى أن ما يبطل كيد الماكرين من البشر، يكون بإحدى تالك الوسائل: إما أن يكون بوشاية من أحد الماكرين، وإما أن يكون بقوة التخابر من الغير، وإما أن يكون من رسل العليّ القدير وهم الملائكة الذين يكتبون كل ما يفعله البشر، فسبحانه القائل:{ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }[الانفطار: 10ـ12]
واقرأ أيضاً قول الحق سبحانه:{ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىا بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً }[الإسراء: 14].
وجاء الحق سبحانه بكل ما سبق؛ لأنه سبحانه قد شاء أن يعطي لقريش فرصة التراجع في عنادها للرسول صلى الله عليه وسلم، هذا العناد الذي قالوا فيه: إنهم يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم، وهذا قول مغلوط؛ لأن الآباء في الأصل كانوا مؤمنين، ولكن جاءهم الضلال كأمر طارىء، والأصنام التي عبدوها طارئة عليهم من الروم، جاء بها إنسان ممن ساحوا في بلاد الروم هو " عمرو بن لحيّ " ، فإن رجعتُم إلى الإيمان بعد عنادكم؛ فهذا هو الطريق المستقيم الذي كان عليه آباؤكم بالفطرة والميثاق الأول.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ {

(/1372)


هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)


وهذه الآية الكريمة جاءت مرحلة من مراحل إخبار الله سبحانه وتعالى عن المعاندين لدعوة الإسلام، التي بدأها الحق سبحانه بأنه قد رحمهم فأجّل لهم استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر، ولو أنه أجابهم إلى ما دَعَوْا به على أنفسهم من الشر في قولهم:{ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32]
لقضي أمرهم: فمن رحمة الله تعالى أنه لم يُجِبْهم إلى دعائهم.
وإذا كان الله سبحانه قد أجَّل استجابة دعائهم على أنفسهم بالشر رحمة بهم، فيجب أن يعرفوا أن تأجيل استجابتهم بدعاء الخير رحمة بهم أيضاً؛ لأنهم قد يدعون بالشر وهم يظنون أنهم يدعون بالخير، وبعد ذلك دلّل على كذبهم في دعائهم على أنفسهم بالشر بأنهم إذا مسّهم ضرٌّ دعوا الله تعالى مضطجعين وقاعدين وقائمين.
فلو كانوا يحبون الشر لأنفسهم؛ لظلوا على ما هم فيه من البلاء إلى أن يقضي الله تعالى فيهم أمراً.
ثم عرض سبحانه قضية أخرى، وهي أنه سبحانه إذا مسهم بضر؛ ليعتبروا، جاء الله سبحانه برحمته؛ لينقذهم من هذا الضر. فياليتهم شركوا نعمة الله تعالى في الرحمة من بعد الضر، ولكنهم مرُّوا كأن لم يدعوا الله سبحانه إلى ضر مسَّهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يصور لنا الحق سبحانه وضعاً آخر، هو وضع السير في البر والبحر، فيقول: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [يونس: 22].
وكلمة { يُسَيِّرُكُمْ } تدل على أن الذي يسِّير هو الله، ولكن في القرآن آيات تثبت أن السير يُنسب إلى البشر حين يقول:{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ }[النمل: 69]
وحين يقول الحق سبحانه:{ فَلَمَّا قَضَىا مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ }[القصص: 29].
وهو سبحانه يقول:{ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ }[سبأ: 18]
فكأن هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد نسبت التسيير إلى الله سبحانه، وبعض الآيات الأخرى نسبت التسيير إلى النفس الإنسانية، ونقول لمن توهموا أن في ذلك تعارضاً:
لو أنكم فطنتم إلى تعريف الفاعل عند النحاة وكيف يرفعونه؛ لعرفتم أن تحقق أي فعل إنما يعود إلى مشيئة الله سبحانه، فحين نقول: " نجح فلان " فهل هو الذي نجح، أم أن الذي سمح له بالنجاح غيره؟ إن الممتحن والمصحِّح هما من سمحا له بالنجاح؛ تقديراً لإجاباته التي تدل على بذَل المجهود في الاستذكار.
وكذلك نقول: " مات فلان " ، فهل فلان فعل الموت بنفسه؟ خصوصاً ونحن نعرب " مات " كفعل ماضٍ، ونعرب كلمة (فلان) " فاعل " أو نقول: إن الموت قد وقع عليه واتَّصف به؛ لأن تعريف الفاعل: هو الذي يفعل الفعل، أو يتّصف به.

وإذا أردنا أن ننسب الأشياء إلى مباشرتها السببية؛ قلنا: " سار الإنسان ".
وإذا أردنا أن نؤرِّخ لسير الإنسان بالأسباب، وترحَّلنا به إلى الماضي؛ لوجدنا أن الذي سيَّره هو الله تعالى.
وكل أسباب الوجود إنْ نظرتَ إليها مباشرة؛ وجدتها منسوبة إلى من هو فاعل لها؛ لكنك إذا تتبَّعتها أسباباً؛ وجدتّها تنتسب إلى ا لله سبحانه.
فمثلاً: إذا سُئلت: مَنْ صنع الكرسي؟ تجيب: النجار. وإنْ سألت النجار: من أين أتيت بالخشب؟ سيجيبك: مِن التاجر. وسيقول لك التاجر أنه استورده من بلاد الغابات، وهكذا.
إذن: إذا أردت أن تسلسل كل حركة في الوجود؛ لا بد أن تنتهي إلى الله تعالى.
وحين قال الحق سبحانه:{ فَلَمَّا قَضَىا مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ }[القصص:29]
نفهم من ذلك أن موسى ـ عليه السلام ـ قد سُيِّر بأهله؛ لأن التسيير في كل مقوماته من الله تعالى.
والمثال الآخر: نحن نقرأ في القرآن قوله الحق:{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىا }[النجم: 43]
فهو سبحانه الذي خلق الضحك، وخلق البكاء.
فنجد من يقول: كيف يقول الله سبحانه إنه خلق الضحك والبكاء وهو الذي يقول في القرآن:{ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً }[التوبة: 82]
ونقول: أنت إن نظرت إلى القائم بالضحك، فهو الإنسان الذي ضحك، وإن نظرت إلى من خلق غريزة الضحك في الإنسان؛ تجده الله سبحانه.
وغريزة الضحك موجودة باتفاق شامل لكل أجناس الوجود، وكذلك البكاء فلا يوجد ضحك عربي، وضحك انجليزي، ولا يوجد بكاء فرنسي، أو بكاء روسي.
إذن: فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الضحك والبكاء.
وقد صدق قوله الحق:{ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىا }[النجم: 43]
لكن الضاحك والباكي يقوم به الوصف. وكذلك قوله الحق:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَىا }[الأنفال: 17]
فقد شاء الحق سبحانه أن يمكن رسوله صلى الله عليه وسلم بالبشرية أن يرمي الحصى، ولكن إيصال الحصى لكل فرد في الجيش المقابل له، فتلك إرادة الله.
إذن: فقول الحق سبحانه: } هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ {. لا يتعارض مع أنهم هم الذين يسيرون، وأنت إذا علّلت السير في الأرض أو في البحر؛ ستجد أن السير هو انتقال السائر من مكان إلى مكان، وهو يحدِّد غاية السير بعقله، والأرض أو البحر الذي يسير في أي منهما بأقدامه أو بالسيارة أو بالمركب، هذا العقل خلقه الله تعالى، والأرض كذلك، والبحر أيضاً، كلها مخلوقات خلقها الله سبحانه وتعالى. وأنت حين تحرِّك ساقيك؛ لتسير، لا تعرف كيف بدأت السير ولا كَمْ عضلة تحركت في جسدك، فالذي أخضع كل طاقات جسمك لمراد عقلك هو الله تعالى.
إذن: فكل أمر مرجعه إلى الله سبحانه.
وهنا ملحظ في السير في البر والبحر، فكلاهما مختلف، فالإنسان ساعة يسير في الأرض على اليابسة، قد تنقطع به السبل، ويمكنه أن يستصرخ أحداً من المارة، أو ينتظر إلى أن يمر عليه بعض المارة؛ ليعاونه.

أما المرور في البحر؛ فلا توجد به سابلة أو سالكة كثيرة؛ حتى يمكن للإنسان أن يستصرخهم.
إذن: فالمرور في البحر أدق من المرور في البر؛ ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول عن السير في البحر: } حَتَّىا إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ { [يونس: 22]
وهكذا لا نجد أن في الآية نفسها حديثاً عن السير في البر؛ لأن الحق سبحانه ما دام قد تكلم عن إزالة الخطر للمضطر في البحر، فهذا يتضمن إزالته عمن يسير في البر من باب أولى. وإذا ما جاء الدليل الأقوى، فهو لا بد أن ينضوي فيه الدليل الأقل.
ومثال هذا قول الحق سبحانه:
{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً }[الأحقاف: 15].
وجاءت كل الحيثيات بعد ذلك للأم، ولم يأت بأي حيثية للأب، فيقول:{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً }[الأحقاف: 15]
وشاء الحق سبحانه ذلك؛ لأن حيثية الأم مبنية على الضعف، فيريد أن يرقق قلب ابنها عليها، فالأب رجل، قد يقدر على الكدح في الدنيا، كما أن فضل الأب على الولد يدركه الولد، لكن فضل أمه عليه وهو في بطنها؛ لا يعيه، وفي طفولته الأولى لا يعي أيضاً هذا الفضل.
ولكنه يعي من بعد ذلك أن والده يحضر له كل مستلزمات حياته، من مأكل وملبس، ويبقى دور الأم في نظر الطفل ماضياً خافتاً.
إذن: فحيثية الأم هي المطلوبة؛ لأن تعبها في الحمل والإرضاع لم يكن مُدْرَكاً من الطفل.
وكذلك هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، ترك الحق سبحانه حيثية البر وأبان بالتفصيل حيثية البحر:
} هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىا إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ { [يونس: 22]
وكلمة (الفلك) تأتي مرة مفردة، وتأتي مرة جمعاً، والوزن واحد في الحالتين ومثال هذا أنه حين أراد الله سبحانه أن ينجي نوحاً عليه السلام، وأن يغرق الكافرين به، قال لسيدنا نوح:{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا }[هود: 37].
إذن هي تطلق على المفرد، وعلى الجمع، ولها نظائر في اللغة في كلتا الحالتين، فهي في الإفراد تكون مثل: قُفْل، وقُرْط. وعند الجمع تكون مثل: أسْد.
والحق سبحانه وتعالى يصف الريح هنا بأنها طيبة، والقرآن الكريم طبيعة أسلوبه حين يتكلم عن الريح بلفظ الإفراد يكون المقصود بها هو العذاب، مثل قوله الحق:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا }

[الأحقاف: 24ـ25].
وإن تكلم عنها بلفظ الجمع فهي للرحمة، وسبحانه القائل:
{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }[الحجر: 22].
ويقول سبحانه أيضاً:
{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىا إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ }[الأعراف: 57].
والرياح هنا جاءت في صيغة الجمع، وعلّة وجود ريح الشر، ورياح للخير، يمكنك أن تستشفها من النظر إلى الوجود كله؛ هذا النظر يوضح لك أن الهواء له مراحل، فهواء الرُّخَاء هو الذي يمر خفيفاً، مثل النسيم العليل، وأحياناً يتوقف الهواء فلا تمر نسمة واحدة، ولكننا نتنفس الهواء الساكن الساخن أثناء حرارة الجو، ثم يشتد الهواء أحياناً؛ فيصير رياحاً قوية بعض الشيء، ثم يتحول إلى أعاصير.
والهواء ـ كما نعلم ـ هو المقوِّم الأساسي لكل كائن حي، ولكل كائن ثابت غير حي، فإذا كان الهواء هو المقوم الأساسي للنفس الإنسانية، فالعمارات الضخمة ـ مثل ناطحات السحاب ـ لا تثبت بمكانها إلا نتيجة توازن تيارات الهواء حولها، وإن حدث تفريغ للهواء تجاه جانب من جوانبها؛ فالعمارة تنهار.
إذن: فالذي يحقق التوازن في الكون كله هو الهواء.
ولذلك نجد القرآن الكريم قد فصّل أمر الرياح وأوضح مهمتها، وهنا يقول الحق سبحانه: } حَتَّىا إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ { وكأنه سبحانه يتكلم هنا عن السفن الشراعية التي تسير بالهواء المتجمِّع في أشرعتها. وإذا كان التقدم في صناعة السفن قد تعدَّى الشراع، وانتقل إلى البخار، ثم الكهرباء، فإن كلمة الحق سبحانه: } برِيحٍ طَيِّبَةٍ { تستوعب كل مراحل الارتقاء، خصوصاً وأن كلمة " الريح " قد وردت في القرآن الكريم بمعنى القوة أيا كانت: من هواء، أو محرك يسير بأية طاقة. وسبحانه القائل:{ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ }[الأنفال: 46].
وهكذا نفهم أن معنى الريح ينصرف إلى القوة. وأيضاً كلمة " الريح " تنسجم مع كل تيسيرات البحر.
وقوله الحق: } حَتَّىا إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا { هذا القول الكريم يضم ثلاثة وقائع: الوجود في الفُلْك، وجرى الفُلْك بريح طيبة، ثم فرحهم بذلك؛ هذه ثلاثة أشياء جاءت في فعل الشرط، ثم يأتي جواب الشرط وفيه ثلاثة أشياء أيضاً:
أولها: } جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ { وثانيها: } وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ { وثالثها: } وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ {.
أما الريح العاصف: فهي المدمرة، ويقال: فلان يعصف بكذا، وفي القرآن:{ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل: 5].
إذن: } رِيحٌ عَاصِفٌ { هي الريح المدمِّرة والمغرِقة. وقوله الحق: } وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ {.
فالموج يأتي من أسفل، والريح تأتي من أعلى، وترفع الريح الموج فيدخل الموج إلى المركب، ونعلم أنهم يقيسون ارتفاع الموج كل يوم حسب قوة الريح: فحين تكون الريح خفيفة؛ يظهر سطح مياه البحر مجعّداً، وحين تكون الريح ساكنة؛ فأنت لا تجد صفحة المياه مجعدة، بل مبسوطة، وقد جاءتهم الريح عاصفاً فيزداد عنف الموج، ويتحقق نتيجة لذلك الظن بأنهم قد أحيط بهم.

ومعنى الإحاطة هو عدم وجود منفذ للفرار؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يتكلم عن الكافرين بقوله:{ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ }[البقرة: 19].
أي: ليس هناك منفذ يفلتون منه.
ولحظة ظنهم أنه قد أحيط بهم؛ لا يسلمون أنفسهم لهذه الحالة؛ بدعوى الاعتزاز بأنفسهم غريزياً، بل يتجهون إلى الله بالدعاء، هذا الإله الذي أنكروه، لكنهم لحظة الخطر لا يكذب أحد على نفسه أو يخدعها.
ولذلك نجد سيدنا جعفر الصادق يجيب على سائل سأله: أهناك دليل على وجود الصانع الأعلى؟ فيقول سيدنا جعفر: ما عملك؟ فيجيب السائل: تاجر أبحر في البحر. فسأله سيدنا جعفر: أوَلم يحدث لك فيه حال؟ قال الرجل: بل حدث. فسأل سيدنا جعفر: ما هو؟ قال: حملت بضائعي في سفينة، فهبت الريح وعلا الموج وغرقت السفينة وتعلقت بلوح من الخشب. قال سيدنا حعفر: الم يخطر على بالك أن تفزع إلى شيء؟ قال الرجل: نعم. قال سيدنا جعفر: هذا الصانع الأعلى.
وكذلك لجأ هؤلاء الذين كفروا بالله إلى الله تعالى حين عصفت بهم الريح، وعلا عليهم الموج، وظنوا أنهم قد أحيط بهم ويقول الحق سبحانه وتعالى ـ وهم في مثل هذه الحالة: } دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ { وهذا يعني أنهم لم يدعوه فقط، بل دَعَوْه بإخلاص وأقروا بوحدانيته، وألاّ شريك له أبداً؛ لأنهم يعلمون أن مثل هذا الشريك لن ينفعهم أبداً.
ثم يجيء الحق سبحانه بصيغة دعائهم: } لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ { فهل وَفَّوْا بالعهد؟ لا؛ لأن الحق سبحانه يقول بعد ذلك: } فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ {

(/1373)


فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)


وبعد أن أنجاهم الحق سبحانه مباشرة تأتي " إذا " الفجائية لتوضح لنا أنهم لم ينتظروا إلى أن يستردوا أنفاسهم، أو تمر فترة زمنية بينهم وبين الدعاء، وتحقق نتيجة الضراعة، لا، بل بغوا ـ على الفور ـ في الأرض { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ }.
والبغي: هو تجاوز الحدّ في الظلم وهو إفساد؛ لأن الإنسان إذا ما أخرج أي شيء عن صلاحه، يقال: " بغى عليه " ، فإن حفرت طريقاً مُمهّداً؛ فهذا إفساد، وإنْ ألقيت بنفاية في بئر يشر منه الناس؛ فهذا إفساد وبغي، وأي شيء قائم على الصلاح فتخرجه عن مهمته وتطرأ عليه بما يفسده؛ فهذا بغي.
والبغي: أعلى مراتب الظلم؛ لأن الحق سبحانه هو القائل:{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىا فَبَغَىا عَلَيْهِمْ }[القصص: 76].
ويعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة البغي الممثَّلة في الاعتداء بالفساد على الأمر الصالح، فيقول صلى الله عليه وسلم: " أسرع الخير ثواباً: البِرّ وصلة الرحم، وأسرع الشر عقوبة: البغي وقطيعة الرحم ".
والحق سبحانه لا يؤخر عقاب البغي وقطعية الرحم إلى الآخرة، بل يعاقب عليهما في الدنيا؛ حتى يتوازن المجتمع؛ لأنك رأيت ظالماً يحيا في رضاً ورخاء ثم يموت بخير، فكل مَنْ يراه ويعلم ظلمه ولم يجد له عقاباً في الدنيا، سوف يستشري في الظلم.
ولذلك تجد أن عقاب الله تعالى لمثل هذا الظالم في الدنيا وأن يُرِي الناس نهايته السيئة، وحين يرى الناس ذلك يتعظون؛ فلا يظلمون، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع.
وإلا فلو ترك الله سبحانه الأمر لجزاء الآخرة؛ لشقي المجتمع بمن لا يؤمن بالآخرة ويحترفون البغي؛ ولذلك يرى الناس عذابهم في الدنيا، ثم يكون لهم موقعهم من النار في الآخرة.
ويقول صلى الله عليه وسلم محذراً: " لا تَبْغِ، ولا تَكُنْ باغياً ".
فالباغي إنما يصنع خللاً في توازن المجتمع. والذي يبغي إنما يأخذ حق الغير، ليستمتع بنتائج من غير كدِّه وعمله، ويتحوّل إلى إنسان يحترف فرض الإتاوات على الناس، ويكسل عن أي عمل غير ذلك. وأنت ترى ذلك في أبسط المواقع والأحياء، حين يحترف بعض ممن يغترون بقوتهم الجسدية، وقد تحولوا إلى (فتوات) يستأجرهم البعض لإيذاء الآخرين، والواحد من هؤلاء إنما احترف الأكل من غير بذل جهد في عمل شريف.
والبغي ـ إذن ـ هو عمل مَنْ يفسد الناس حركة الحياة؛ لأن من يقع عليهم ظلم البغي، إنما يزهدون في الكَدِّ والعمل الشريف الطاهر. وإذا ما زهد الناس الكَدِّ والعمل الشريف؛ تعطلت حركة الحياة، وتعطلت مصالح البشر، بل إن مصالح الظالم نفسها تتعطل؛ ولذلك قال الحق سبحانه: { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [يونس: 23].

ولقائل أن يسأل: وهل هناك بَغْي بحق؟
أقول: نعم؛ لأن البغي اعتداء على الصالح بإفساد. وأنت ساعة ترى إنساناً يفسد الشيء الصالح، فتسأله: لماذا تفعل ذلك؛ وقد يجيبك بأن غرضه هو الإصلاح، ويُعدِّد لك أسباباً لهذا البغي، فهذا بغي بحق، أما إن كان بغياً دون سبب شرعي فهذا هو البغي، بل قمته.
ومثال البغي بحق، أقول: ألم يَسْتول النبي صلى الله عليه وسلم على أرض " بني قريظة " ، وأحرق زرعهم وقطع الأشجار في أَراضيهم، وهدم دورهم؟ أليس في ذلك اعتداء على الصالح؟
لقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه ردّ على عدوان أقسى من ذلك.
وهكذا نرى أن هناك بغياً بحق، وبغياً بغير حق. ولذلك يسمى الله جزاء السيئة سيئة مثلها، ويقول سبحانه:{ فَمَنِ اعْتَدَىا عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ }[البقرة: 194].
ويسميه الحق سبحانه " اعتداء " رغم أنه ليس اعتداء، بل ردّ الاعتداء.
ويطلقها الحق سبحانه وتعالى قضية تظل إلى الأبد بعد ما تقدم، فيقول: } ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا { [يونس: 23].
وهنا يبين الله سبحانه وتعالى وكأنه يخاطب الباغي: يا مَنْ تريد أن تأخذ حق غيرك، اعلم أن قصارى ما يعطيك أخذ هذا الحق هو بعض من متاع الدنيا، ثم تجازى من بعد ذلك بنار أبدية.
وأنت إن قارنت زمن المتعة المغتصبة الناتجة عن البغي بزمن العقاب عليها؛ لوجدت أن المتعة رخيصة هينة بالنسبة إلى العقاب الذي سوف تناله عليها ولا تأخذ عمرك في الدنيا قياساً على عمر الدنيا نفسها؛ لأن الحق سبحانه قد يشاء أن يجعل عمر الدنيا عشرين مليوناً من السنوات، لكن عمرك فيها محدود.
فاربأوا على أنفسكم وافهموا أن متاع الدنيا قليل، إن كان هذا المتاع نتيجة ظلمكم لأنفسكم؛ لأن نتيجة هذا الظلم إنما تقع عليكم؛ لأن مقتضى ما يعطيكم هذا الظلم من المتعة والنعمة هو أمر محدود بحياتكم في الدنيا، وحياتكم فيها محدودة، ولا يظن الواحد أن عمره هو عمر البشرية في الدنيا، ولكن ليقسْ كل واحد منكم عمره في الدنيا وهو محدود.
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى:{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء: 77].
وهنا يؤكد الحق سبحانه: } إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ { [يونس: 23].
وقد يتمثل جزاء البغي في أن يشاء الحق سبحانه ألا يموت الظالم إلا بعد أن يرى مظلومه في خير مما أخذ منه؛ ولذلك أقول دائماً: لو علم الظالم ما ادخره الله للمظلوم من الخير؛ لضنَّ عليه بالظلم.
وعلى فرض أن الظالم يتمتع بظلمه وهو من متاع الدنيا القليل، نجد الحق سبحانه يقول: } ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ { [يونس: 23]
وحين نرجع إلى الله تعالى فلا ظلم أبداً؛ لأن أحدكم لن يظلم أو يُظلم فكل منكم سوف يَلْقى ما ينبئه به الله سبحانه إنْ ثواباً أو عقاباً؛ مصداقاً لقوله الحق: } ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [يونس: 23].
وقد جاء الخبر عن نبأ الجزاء من قبل أن يقع؛ ليعلم الجميع أن لكل فعلٍ مقابلاً من ثواب أو عقاب، كما أن في ذكر النبأ مقدَّماً تقريعاً لمن يظلمون أنفسهم بالبغي.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ {

(/1374)


إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)


والماء الذي ينزل من السماء، هو الماء الصالح للري وللسقي؛ لأن المياه الموجودة في الوجود، هي مخازن للحياة، وغالباً ما تكون مالحة، كمياه البحار والمحيطات، وشاء الحق سبحانه ذلك، لحمايتها من العفن والفساد، ثم تتم عملية تقطير المياه بأشعة الشمس التي تحوّل الماء إلى بخار، ويتجمع البخار كسحاب، ثم يسقط ماء عَذْباً مقطراً صالحاً للشرب والرّي.
والحق سبحانه يقول هنا: { كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } [يونس: 24]
والاختلاط: اجتماع شيئين أو أشياء على هيئة الانفصال بحيث يمكن أن تعزل هذا عن ذاك، فإن خلطت بعضاً من حبات الفول مع بعض من حبّات الترمس؛ فأنت تستطيع أن تفصل أيا منهما عن الآخر، ولكن هناك لوناً آخر من جمع الأشياء على هيئة المزج، مثلما تعصر ليمونة على ماء محلّى بالسكر، وهذا ينتج عنه ذوبان كل جزىء من الليمون والسكر في جزيئات الماء.
وهنا يقول الحق سبحانه: { كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } وقد يُفهم من ذلك أن الماء والنبات قد اختلطا معاً، لكن النبات ـ كما نعلم ـ ككائن حي مخلوق من الماء مصداقاً لقول الحق سبحانه:{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }[الأنبياء: 30].
وهنا لا بد أن نلتفت إلى الفارق بين " باء " الخلط، و " باء " السببية فالباء هنا في هذه الآية هي باء السببية، وبذلك يكون المعنى: فاختلط بسببه نبات الأرض. وأنت ترى بعد سقوط المطر على الأرض أن المياه تغطي الأرض، ثم تجد بعد ذلك بأيام أو أسابيع، أن سطح الأرض مغطى بالزروع، وكلها مختلطة متشابكة، وكلما تشابكت الزروع مع بعضها فهذا دليل على أن الري موجود والخصوبة في هذه الأرض عالية، وهذا نتيجة تفاعل الماء مع التربة.
أما إن كانت الأرض غير خصبة، فأنت تجد نَبْتة في منطقة من الأرض، وأخرى متباعدة عنها، وهذا ما يطلق عليه أهل الريف المصري أثناء زراعة الذرة ـ على سبيل المثال: " الذرة تفلس " أي: أن كل عود من أعواد الذرة يتباعد عن الآخر نتيجة عدم خصوبة الأرض.
إذن: فخصوبة الأرض لها أساس هام في الإنبات والماء موجود لإذابة عناصر الغذاء للنبات، فتنتشر بها جذور النبات.
وإن سمحتْ لك الظروف بزيارة المراكز العلمية للزراعة في " طوكيو " أو " كاليفورنيا "؛ فلسوف ترى أنهم يزرعون النباتات على خيوط رفيعة؛ تُسقى بالماء الذي يحتوي على عناصر الغذاء اللازمة للإنبات؛ لأنهم وجدوا أن أي نبات يأخذ من الأرض المواد اللازمة لإنباته بما لا يتجاوز خمسة في المائة من وزنه، ويأخذ من الهواء خمسة وتسعين في المائة من وزنه.

إذن: فالمطر النازل من السماء خلال الهواء هو الذي يذيب عناصر الأرض؛ ليمتصها النبات.
والحق سبحانه وتعالى هنا أراد أن يضرب لنا المثل، والمثل: هو قول شُبِّه مَضْرِبُهُ بِمَوْلِدِه، أي: شيء نريد أن نمثله بشيء، ولا بد أن يكون الشيء الممثل به معلوماً، والشيءُ المأخوذ كمثلٍ هو الذي نريد أن نوضح صورته؛ ولذلك لا يصح أن نمثل مجهولاً بمجهول، وإنما نمثل مجهولاً بمعلوم.
وتجد من يقول لك: ألا تعرف فلاناً؟ فتقول: لا أعرفه، فيرد عليك صاحبك: إنه مثل فلان في الشكل. وهكذا عرَّفْتَ المجهول بمعلوم.
وبعض من الذين يحاولون الاعتراض على القرآن، دخلوا من هذه الناحية، وقالوا: إذا كان الشيء مجهولاً ونريد أن نعرِّف به، ألا نعرِّفه بمعلوم؟ فما بال الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في شجرة الزقوم:{ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ }[الصافات: 64ـ65].
ما بال الله سبحانه يبين شجرة الزقوم، وهي شجرة في النار لا نعرفها، فيعرِّفها للمؤمنين به بأن طلعها يشبه رءوس الشياطين، وبذلك يكون سبحانه قد مثَّل مجهولاً بمجهول. والذين قالوا ذلك فاتهم أن الذي يتكلم هو الله تعالى. وقد أراد الحق سبحانه أن يُمثِّل لنا شجرة الزقوم بشيء بشع معلوم لنا، والبشع المعلوم هو الشيطان.
وشاء الحق سبحانه ألا يحدد البشاعة؛ حتى لا ينقضي التشبيه؛ لأن الشيء قد يكون بشعاً في نظرك، وغير بشع في نظر غيرك. ويريد الله سبحانه أن يبشع طلع شجرة الزقوم؛ فاختار الشيء المتفق على بشاعته، وهو رءوس الشياطين، وليتصور كل إنسان صورة الشيطان، بما ينفر منه ويقبِّحه، وهكذا تتجلَّى عظمة الحق سبحانه في أن جعل شكل الشيطان مبهماً.
وأما المثل الذي نحن بصدده هنا وهو تشبيه الحياة الدنيا بأنها كالماء الذي أنزله الحق سبحانه من السماء فاختلط به نبات الأرض، والحياة الدنيا نحن ندرك بعضها، وكلٌّ منا يدرك فترة منها، ولم يدرك أولها، وقد لا يدرك آخرها، فجاء الحق سبحانه بمثل يراه كل واحد منا، وهو الزرع الذي يرتوي بالمطر، فأراد الحق سبحانه أن يجمع لنا صورة الدنيا في مثلٍ معروف لنا جميعاً، وندركه جميعاً؛ فندرك ما سبق، وما يلحق، فكل شيء يأخذ حظه في الازدهار، والجمال، ثم ينتهي، كذلك الدنيا.
يقول الحق سبحانه:
} كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ { [يونس: 24]
والزخرف: هو الشيء الجميل المستميل للنفس وتُسرُّ به حينما تراه، وتتزين الدنيا بالألوان المتنوعة في تنسيق بديع، ثم يصبح كل ذلك حصيداً وهذا ما نراه في حياتنا، وهكذا جمع الله سبحانه وتعالى مثل الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها بالصورة المرئية لكل إنسان، حتى لايخدع إنسان بزخرف الدنيا ولا بزينتها.

والحق سبحانه هو القائل:
{ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَىا طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس: 24ـ37].
إذن: فالدنيا بكل جمالها الذي تراه إنما تذوي، وما تراه من بديع ألوانها إنما يذبل، ومهما ازدانت الدنيا فهي إلى زوال، فإياك أن تبغي؛ لأن البغي فيه متاع الدنيا، والدنيا كلها إلى زوال؛ كزوال الروض التي ينزل عليها المطر؛ فتنبت الأرض الأزهار، ثم يذوي كل ذلك.
وقد قال الحق سبحانه:
{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ }[القلم: 17ـ20].
إذن: فالدنيا بهذا الشكل وعلى هذا الحال.
وهنا يقول الحق سبحانه: } حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ { [يونس: 24].
والأرض تتزين بأمر ربها، والحق سبحانه ينسب الإدراكات إلى ما لا نعرف أن له عقلاً أو إرادة. ألم يقل الحق سبحانه في قصة العبد الصالح:{ فَانطَلَقَا حَتَّىا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ }[الكهف: 77].
فهل يملك الجدار إرادة أن ينقضَّ؟ ولو حققنا الأمر جيداً؛ لوجدنا أن الحق سبحانه جعل لكل كائن في الوجود حياة تناسبه، وله إرادة تناسبه، وله انفعال يناسبه. وقد ضرب الحق سبحانه لنا في ذلك صوراً شتّى، فنجد أن الشيء الذي يعزُّ على عقولنا أن تفهمه يبرز لنا ببيان من الله تعالى.
ومثال هذا: معرفة الهدهد في قصة سليمان عليه السلام بالتوحيد، وكيف أخبر هذا الهدهد سيدنا سليمان عليه السلام بحكاية مملكة سبأ حيث يسجد الناس هناك للشمس من دون الله، فكأن الهدهد قد علم مَنْ يستحق السجود له إذ قال:{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[النمل: 25].
ومن كان يظن أن الهدهد، وهو طائر، يكون على هذه البصيرة بالعقائد على أصفى ما تكون؟ لأن الحق سبحانه أراد أن يبيّن لنا أن هذا الطائر لا هوى له يفسد عقيدته، وأن أهواءنا هي التي تفسد العقائد، ومَنْ أعطاه الله سبحانه البدائل هو الذي يفسد الاختيار ما دام لا يحرس الاختيار بالإيمان، وأن يختار في ضوء منهج الله تعالى.
ونحن نرى أن ما دون الإنسان من طائر أو حيوان لا يفسد شيئاً؛ لأن غريزته تقوده، فلا نجد حيواناً يأكل فوق طاقته، لكننا نجد إنساناً يصيب نفسه بالتخمة، ولا نجد حماراً يقفز فوق قناة من الماء لا يقدر عليها، بل نراه وهو يتراجع عنها، وكلنا نجد إنساناً يشمر عن ساعديه؛ ليقفز فوق قناة مياه؛ فيقع فيها.

إذن: فنحن بأهوائنا التي تسيطر على غرائزنا نوقع أنفسنا فيما يضرنا، ما لم نحرس أنفسنا بمنهج الله سبحانه وتعالى. ونجد في مثال الهدهد صفاءً عقدياً في التوحيد كأصفى ما يكون المتصوِّفة، ويأتي بما يهمه } أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { لأن الخبء هو رزق الهدهد، فهو لا يأكل من الشيء الظاهر على سطح الأرض، بل يضرب بمنقاره الأرض؛ ليأتي لنفسه بما يطعمه.
ويعطينا الحق سبحانه مثلاً آخر بالنملة التي قالت:{ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }[النمل: 18].
وهذه دقة عدالة من هذه النملة، فإنها لم تقل: إن سليمان وجنوده سيحطمون أخواتها من النمل ظلماً لهم، بل قالت: } وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ { لأنكم لا تظهرون تحت أرجلهم.
إذن: كل كائن في الوجود له حياة تناسبه، ولكن الآفة أننا نريد أن نتصور الحياة في كل كائن، كتصورها في الكائن الأعلى وهو الإنسان.
ولا بد لنا أن نعلم أن النبات له حياة تناسبه، والحيوان له حياة تناسبه، والجماد له حياة تناسبه، وكل شيء في الحياة له لون من الحياة المناسبة له.
وقد أوضحنا من قبل أن الحق سبحانه قد قال:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ }[الأنفال: 42].
والهلاك مقابل للحياة، والحياة مقابلة للموت، والهلاك يساوي الموت. والحق سبحانه يصور الحالة يوم القيامة فيقول:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص: 88].
إذن: فالجماد هالك، ولكنه يتمتع بلون من الحياة لا نعرفه، وكذلك كل كائن له حياة تناسبه، والآفة أن الإنسان يريد أن يعرِّف الحياة التي في الجماد كالحياة في الإنسان.
وانظر إلى دقة الأداء القرآني في قوله الحق: } حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً { [يونس: 24].
وقد جاء هذا القول من قبل أن يتقدم العلم ويثبت أن الأرض تشبه الكرة، وأنها تدور، وأن كل ليل يقابله نهار، وكذلك جاء قول الحق سبحانه:{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىا أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىا أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى }[الأعراف: 97ـ98].
إذن: فأمر الله سبحانه يتحقق حين يشاء، وهو أمر واحد عند من يكونون في ضحى أو في ليل.
ثم يقول الحق سبحانه: } فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ { [يونس: 24].
أي: كأنها لم يكن لها وجود.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: } كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { [يونس: 24].
فإذا كانت الدنيا كلها مثل عملية الزرع في الأرض الذي ينمو ويزدهر ويزدان، ثم ينتهي، ألا يجب أن ننتبه إلى أن كل زخرف إلى زوال؛ وعلينا ألا نفتتن بزينة الدنيا ومتاعها في شيء، وأن نحرص على ألا نبغي في الأرض؛ لأن البغي متاع الحياة الدنيا، وهي إلى زوال.

ونجد القرآن يأتي بذكر التفصيل للآيات، ويتبع ذلك بأن هذا التفصيل لقوم " يتفكرون " ، أو " يتذكرون " ، أو " يعقلون " ، أو " يتدبرون ".
وكل هذه عمليات تتناول المعلوم الواحد في مراحل متعددة، فالتعقُّل: هو أن تأتي بالمقدمات؛ لتستنبط ولترى إلى أي نتائج تصل. والتذكُّر يعني: ألا تنسى وألا تغفل عن الأمر الهام. والتفكُّر: هو أن تُعْمل الفكر. والفارق بين الفكر والعقل هو أن العقل أداة التفكُّر. والتدبُّر: هو ألا تنظر إلى ظواهر الأشياء، بل إلى المعطيات الخفية في أي أمر.
والحق سبحانه يقول:{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ }[النساء: 82].
أي: اجعل بصيرتك تمحِّص البدايات والنهايات؛ لتعرف أن المرجع والمصير إلى الله تعالى. والعاقل هو مَنْ يعدّ نفسه للقاء الله سبحانه، وقد يرهق نفسه في الدنيا الفانية؛ ليستريح في الآخرة.
وإذا نظرنا إلى الدنيا والآخرة من خلال معادلة تجارية، سنجد أن الآخرة لا بد وأن ترجح كفتها؛ لأن عمر الإنسان في الدنيا مظنون، ولا يعرف فرد هل يحيا في الدنيا عاماً أو عشرة أو سبعين أو مائة عام.
ومهما طالت الدنيا مع كل الخَلْق فهي منتهية، والنعيم فيها على قدر: إمكاناتك البشرية وعلى قدر تصورك للنعيم، أما الآخرة فهي بلا نهاية، وأمر الإنسان فيها متيقَّن، والنعيم فيها على قدر عطاءات الله تعالى ومراده سبحانه للنعيم. فإن قارنت هذا بذاك وقارنت الدنيا بالآخرة لرجحتْ كفّة الآخرة.
لذلك يقول الحق سبحانه:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 64].
وفي قوله سبحانه: } لَهِيَ الْحَيَوَانُ {. مبالغة في كونها حياة لا فناء فيها. فاتبع منهج الله سبحانه؛ ليأخذك هذا المنهج إلى دار السلام والسلامة من الآفات. واضمن لنفسك الخروج من دار الفناء والأغيار، وَضَعْ يدك في يد من يدعوك إلى دار السلام.
ولذلك يقول الحق سبحانه: } وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىا دَارِ السَّلاَمِ {

(/1375)


وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)


ودار السلام: هي الآخرة التي تختلف عن دار الدنيا المليئة بالمتاعب، هذه الدنيا التي تزهو وتتزخرف، وتنتهي إلى حطيم؛ لذلك يدعو الله تعالى إلى دار أخرى، هي دار السلام؛ لأن من المنغِّصات على أهل الدنيا، أن الواحد منهم قد يأخذ حظه جاهاً، ومالاً، وصحة، وعافية، ولكن في ظل أرق من أمرين: الأول هو الخوف من أن يفوته هذا النعيم وهو حي، والثاني أن يفوت هو النعيم.
أما الآخرة فالإنسان يحيا فيها في نعيم مقيم؛ ولذلك يقول الله سبحانه: { وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىا دَارِ السَّلاَمِ }.
وهذه الآخرة لن يشاغب فيها أحدٌ الآخر، ولن تجد من يأكل عرق غيره مثلما يحدث في الدنيا، وإذا كنا نعيش في الدنيا بأسباب الله، فنحن في الآخرة نعيش بالله سبحانه وتعالى، فكل ما يخطر على بالك تجده.
فإذا كانت الأسباب تتنوع في الدنيا وتختلف قدرات الناس فيها مع أخذهم بالأسباب، فإنهم في الآخرة يعيشون مع عطاء الله سبحانه دون جهد أو أسباب؛ لأن دار السلام هي دار الله تعالى، فالله تعالى هو السلام.
ولله المثل الأعلى، فأنت إذا دعاك ولي أمرك إلى داره، فهو يُعدّ لدعوتك على قدره هو، وبما يناسب مقامه، فما بالك حين يدعوك خالقك سبحانه وقد اتبعت منهجه. إنه سبحانه هو القائل:
{ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }[يس: 55ـ58].
وهذا السلام ليس من البشر؛ لأن من البشر من يعطيك السلام وهو يُكِنُّ لك غير السلام، أو قد يعطيك السلام وهو يريد بك السلام، ولكنه من الأغيار؛ فيتغير فلا يقدر أن يعطيك هذا السلام، لكن إذا ما جاء السلام من الله تعالى، فهو سلام من رب لا يعجزه شيء، ولا يُعوزه شيء، ولا تلحقه أغيار؛ لذلك يقول سبحانه:{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم }[الرعد: 23ـ24].
والملائكة حين يقولون ذلك إنما أخذوا سلامهم من باطن سلام الله تعالى، وحتى أصحاب الأعراف الذين لم يدخلوا الجنة، ويرون أهل الجنة وأهل النار، هؤلاء يلقون السلام على أهل الجنة. وهكذا يحيا أهل الجنة في سلام شامل ومحيط ومطمئن؛ لأن الداعي هو الله سبحانه، ولا أحد يجبره على أن ينقض سلامه.
ودعوة الله سبحانه هي منهجه الذي أرسل به الرسل؛ ليحكم به حركة الحياة حركة إيمانية، يتعايش فيها الناس تعايشاً على وَفْق منهج الله تعالى، بما يجعل هذه الدنيا مثل الجنة، ولكن الذي يرهق الناس في الدنيا أن بعض الناس يعطلون جزئية أو جزئيات من منهج الله سبحانه.

(/1376)


لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)

 

(/1377)


وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)

 

(/1378)


وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)

 

(/1379)


فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)


إذن: فالكائنات التي عُبِدتْ من دون الله تعالى تعلن رفضها لمسألة عبادتها، فإذا كان الطير ـ ممثلاً في الهدهد ـ قد أعلن من قبل اندهاشه من أن بعضاً من البشر قد عبد غير الله تعالى.
واستدل الهدهد ـ على قدرة الحق سبحانه ـ بما يخصُّه هو من الرزق، حيث يعلم أن الحق سبحانه قد عَلِمَ الخبء في السموات والأرض، إذا كان الهدهد قد عرف ذلك فالاستنكَار أمر منطقي من غيره من المخلوقات، سواء أكانت من الملائكة، أو من عيسى عليه السلام، أو من الأصنام و الأشجار والكواكب.
ولذلك نجد الحق سبحانه يضرب المثال بسؤاله للملائكة:{ أَهَـاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ }[سبأ: 40].
فيجيب الملائكةُ بقوله:{ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ }[سبأ: 41].
والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه المواقف في سُوَر القرآن الكريم عرضاً منثوراً مكرراً بما لا يدع للغفلة أن تصيب الإنسان، فمثلاً يقول الحق سبحانه:
{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ }[الأنعام: 128].
ويقول على ألسنة من اتخذوا الشياطين أولياء:
{ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا }[الأنعام: 128].
وقولهم هذا يتضمن الحديث عن ذواتهم والحديث عن الجن.
ولسائل أن يسأل: وكيف يأخذ الجن كثيراً من الإنس؟
ونقول: إن الحق سبحانه قد خلق الجن على هيئة تختلف عن هيئة الإنس، فجعل للجن خواصّاً تختلف عن خواص الإنس، ومن هذه الخواص ما قال عنه الحق سبحانه:{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }[الأعراف: 27].
وأعطى الحق سبحانه للجن قوة أكثر مما أعطى للإنس، وأعطاهم القدرة على النفاذ من السواتر الحديدية والجدران وغيرها، وهذا أمر منطقي مع أصل تكوين الجن، فالجن مخلوق من النار، والإنسان مخلوق من الطين. وهناك اختلاف بين طبيعة كل من النار والطين، فما يخرج من الطين قارٌّ، أي: لا يشع، وما يخرج من النار له إشعاع وحرارة.
بمعنى: أنك لو كنت تجلس في حجرة، وخلف ظهرك في الحجرة الأخرى نار موقدة؛ فالساتر ـ أيا كان ـ سوف يحمل لك بعضاً من حرارة النار، إلا لو كان عازلاً للحرارة.
أما لو كانت هناك تفاحة ـ وهي مخلوقة من الطين ـ موجودة في الحجرة الأخرى، فلن ينفذ طعمها أو رائحتها إليك.
إذن: فالنار لها قانونها، والطين له قانونه. وقانون المادة المخلوقة من الطين لا ينتقل إلا إذا نَقلْتَ الجِرْم إلى المكان الذي توجد فيه.
ونلمح هذه المسألة التقنينية في قصة سيدنا سليمان عليه السلام حين علم أن ملكة سبأ تسير في الطريق إليه لتعلن إسلامها، وأراد سيدنا سليمان عليه السلام أن يأتي لها بعرشها من مكانه قبل أن تصل.

فقال لمن هو في مجلسه:{ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }[النمل: 38]؟
وهذا يدل علىأنه كان في مجلسه أجناس مختلفة، ولكل جنس منهم قدرات مختلفة عن قدرات الجنس الآخر، ونقل العرش من اليمن إلى مكان سيدنا سليمان عليه السلام يحتاج إلى زمن وإلى قوة، فلو أنهم كانوا متساوين في قدرتهم ما قال:{ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي }[النمل: 38].
فكان أول من تقدم لتنفيذ ما أراده سليمان عفريت من الجن ـ لا جِنّاً عاديّاً، فمن الجن من هو خائب قليل الذكاء، ومنهم من هو ذكي، فهم وأن كانوا من جنس واحد فهم متفاوتون أيضاً، وكان عفريت الجن هو أول من تكلم، وقال:{ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ }[النمل: 39].
ولكن مقام سليمان قد يستمر ساعة أو بضع ساعات، والمتكلم هو عفريت من الجن الذي يعلم أن له صفات أقوى من صفات الإنس. أما الإنس العادي ـ ممن كان حاضراً مجلس سليمان ـ فلم يتكلم؛ لأن المطلوب ليس في قدرته، أما الذي تكلم من الإنس فهو مَنْ عنده علم من الكتاب، فقال:{ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }[النمل: 40].
ولم يأخذ الأمر شيئاً من الزمن؛ لذلك عبَّر القرآن التعبير السريع بعد ذلك، فقال:{ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـاذَا مِن فَضْلِ رَبِّي }[النمل: 40].
إذن: فللجن قوة على أشياء لا يقوى عليها الإنس، ولم يأخذ الجنِّي خواصَّه في الخفة والقدرة ومهارة اختزال الزمن بذات تكوينه، ولكن بإرادة المكوِّن سبحانه؛ ولذلك شاء الحق أن يُذكِّر الجن أنهم قد أخذوا تلك الخصوصيات بمشيئته سبحانه، والحق هو القادر على أن يجعل الإنس وهو الأدنى قدرة، قادراً على تسخير الجن؛ ولذلك يحاول الإنس أن يأخذ من تسخير الجن قوة له فيقوى على نظيره من الإنس.
ولكن الحق سبحانه أصدر الحكم على مَنْ يحاول ذلك بأن تسخير الجن يزيد رَهَقاً.
واقرأوا قول الحق سبحانه:
{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَىا مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىا يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }[البقرة: 102].
إذن: فتعليم الجن السحر للإنس دليل على تفوق قدرات الجن وتميزها عن قدرات الإنس.
ولكن الملكين هاروت وماروت حينما عَلَّمَا الإنسان السحر حذَّراه اولاً من أن يأخذ من ذلك فرصة زائدة تطغيه على بني جنسه ويظلم بها، إنما الأمر كله اختبار، فإن تعلَّمته فذلك لتقيَ نفسك من الشر لا لتوقعه بغيرك، ثم إنك ـ أيها الإنسان ـ من الأغيار قد تضمن نفسك وقت التحمُّل، ولكن ماذا عن وقت الاداء؟
مثلما يأتي لك إنسان ليُودِعَ عندك ألفاً من الجنيهات كأمانة، ولكن أتظل على الأمانة، أم أنك قد تنكر المال أصلاً حين يطالبك به صاحبه، أو قد تمر بك أزمة مالية فتتصرف بهذا المال؟
ولذلك تجد الذكي هو مَنْ يقول لمودع هذا المال: " احفظْ عليك مالك، لأني من الأغيار ".

وتلك هي القضية الإيمانية الأصيلة في الكون كله؛ لأن الحق سبحانه هو القائل:
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72]
والأمانة هي ما يكون في ذمة المؤتمن، ولا حجة للمؤتمن عنده إلا ذمته، ولا شهود عليه، ولا يوجد إيصال بتلك الأمانة، بل هي وديعة لا توثيق فيها؛ إلا ذمة المؤتمن، قد يقرُّ بها، وقد يُنكرها.
وعلى ذلك فحقُّ المؤتمن عند المؤتمَن خاضعٌ لخيار المؤتمَن؛ ولذلك وجدنا السماء والأرض والجبال قالت: يا رب لا نريد أن نُدخِلَ أنفسنا في هذه التجربة، افعل بنا ما شئت واجعلنّا مقهورين ولا اختيار لنا، ولا نريد تحمُّل الأمانة.
أما الإنسان فقد ميَّزه الله بالعقل، وقدرة الاختيار بين البدائل؛ لذلك قَبلَ الإنسان حَمْل الامانة، وحين جاء وقت الأداء لم يجد نفسه أميناً على الأَشياء مثلما ظَنَّ في نفسه وقت التحمُّل.
وكذلك الذين يتعلمون السحر، يقول الواحد منهم لنفسه: سوف أتعلمه لأدفع الضُّرَّ عن نفسي، ونقول له: أنت لا تضمن نفسك؛ لأنك من الأغيار، فقد بغضبك أو يثير أعصابك إنسان؛ فتستخدم السحر فتصيب نفسك بالرَّهق.
إذن: فحين قال الله سبحانه:{ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ }[الأنعام: 128].
أي: أخذتم من الإنس كثيراً بأن اعطيتموهم سلاحاً يحقق لهم فرصة وقوة على غيرهم من البشر.
وقد ذكر الحق ـ سبحانه وتعالى ـ لنا أن بعض البشر الذين استجابوا للجن قالوا:{ اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ }[الأنعام: 128].
واستمتاع الإنس بالجن مصدره أن الإنس يأخذ قوة فوق قوة غيره من البشر، واستمتاع الجن بالإنس مصدره أنه سوف يُعين هذا الإنسان على معصيته؛ تطبيقاً لِقَسَمِ إبليس اللعين:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82].
ولكن هذا الاستمتاع في النهاية لا يعطي أمراً زائداً عن المقدور لكل جنس؛ ولذلك تجد أن كل مَنْ يعمل بالسحر وتسخير الجن إنما يعاني؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه:{ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }[الجن: 6].
وأنت تجد رزق الذي يقوم بالسحر أو تسخير الجن يأتي من يد مَنْ لا يعلم السحر، ولو كان في تعلُّم ذلك ميزة فوق البشر؛ لجعل رزقه من مصدر آخر غير من لا يعلمون السحر أو تسخير الجن.
وأنت حين ترى الواحد من هؤلاء، تجد على ملامحه غَبَرَةً، وفي ذريته آفة أو عيباً، فمنهم مَنْ هو أعور أو أكتع أو أعرج؛ لأنه أراد أن يأخذ فرصة في الحياة أكثر من غيره من البشر؛ بواسطة الجن، وهذه الفرصة تزيده رهقاً؛ ولذلك فليلزم كل إنسان أدبه وقدره الذي شاءه الله ـ سبحانه وتعالى ـ له؛ فلا يفكر في أخذ فرصة تزيد من رهقه.

ونحن نرى في البشر مَنْ يستخدم صاحب القوة الجسدية أو قدرة تصويب السلاح؛ ليُرهِب غيره، وقد ينجح في ذلك مرة أو أكثر، ثم ينقلب هذا (الفتوَّة) أو ذلك القاتل المأجور على مَنْ استأجره.
إذن: فلا بد أن يحترم كل إنسان قَدَر الله ـ سبحانه وتعالى ـ في نفسه، وألاّ يأخذ فرصة من جنس آخر؛ يظن أنها تزيده في دنياه شيئاً، لكنها في الواقع ستزيده تعباً وتزيده رهقاً.
ولذلك نجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يقول عنهم:{ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ }[الأنعام: 128].
وهكذا نرى أن مصير الاستمتاع بقوة الجن هو النار للإنس الذي استخدم الجن، وللجن الذي أغوى الإنس.
ثم يعرض لنا الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قضية أخرى في هذه المسألة؛ فيقول سبحانه:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67].
والأخلاء: هم الجماعة التي يجمع أفرادها صحبة ومودَّة، ويتخلّل كل منهم حياة الآخر. وأنت تجد الناس صنفين:
أناساً اتخذوا الخُلَّة في الله تعالى، فيذهبون إلى المساجد، ويستذكرون العلم، ولا يأكلون إلا من حلال، ويقرأون القرآن، وإن همَّ واحد منهم بمعصية وجد من صديقه ما يردّه عن المعصية، ويحجّون إلى بيت الله الحرام، ويعتمرون، وتدور حياتهم في إطار حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: " رجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه " وهذا لون من الخُلَّة.
واللون الآخر يضم أناساً يساعد بعضهم البعض على المعصية، ويشربون الخمر، ويلعبون الميسر، ويفعلون كل المعاصي، فإذا جاء يوم القيامة يقابلون حكم الله تعالى:{ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ }[البقرة: 254].
فلا خُلَّة إلا خُلَّة اللقاء في الله تعالى، فإذا التقى الأخلاء في الله تعالى فرحوا ببعضهم؛ لأن كلاّ منهم حمى أخاه من معصية، أما من كانوا يجتمعون في الدنيا على المعصية، فكل منهم يلعن الآخر، ويصدق حكم الله سبحانه وتعالى:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67].
ولذلك نجد الحوار بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، ونجد الحق سبحانه وتعالى يأتي لنا بهذا الحوار في القرآن:{ فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ }[إبراهيم: 21].
فيرد الآخرون:{ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ }[إبراهيم: 21]ٍ.
وبعد ذلك يأتي اعتراف الشيطان الذي يقول عنه الحق سبحانه:
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ }[إبراهيم: 22].

وهذا الحوار هو الذي يكشف لنا ما سوف يحدث يوم القيامة، ونجد الحق سبحانه يقول:
{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ... }[الحشر: 16].
هذه كلها لقطات من مشاهد يوم القيامة، جاءت في خواطرنا ونحن نتناول قول الحق سبحانه: } فَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ { [يونس: 29].
هكذا يعلن كل مَنْ عُبد من الملائكة أو الرسل أو الأصنام، وبذلك تتم فضيحة الذين عبدوهم من دون الله سبحانه ويأخذون طريقهم إلى النار.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول:{ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ }[الصافات: 22].
ولننتبه هنا إلى أن الأزواج متقدمون في الإغواء والتوجيه إلى الشر، قبل الأعداء؛ لأن الزوج أو الزوجة قد يكون هو الشيطان الملازم الذي يُهيِّيء الانحراف إلى ما يريد.
ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24].
ومثلها مثل قوله سبحانه: } مَكَانَكُمْ { نفهم من ذلك أنهم كانوا معاً في الدنيا وهي دار الاختبار، وهم الآن في دار جبرية الاقتدار؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ }[الصافات: 24ـ28].
أي: كنتم تستعملون قوتكم؛ لتجعلونا نتبعكم، فلا يظنن ظانٌّ أنها قوة البطش فقط، أو قوة التذليل، بل المقصود بذلك أيّ قوة، حتى وإن كانت قوة الإغواء.
إذن: فالمواقف مفضوحة، وهذا لون ومقدمة من ألوان العذاب؛ ليبين الله ـ سبحانه وتعالى ـ صدقه في قوله:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67].
وشاء الحق سبحانه ذلك؛ ليبين لنا كيف يختار الإنسان خليله في الدنيا، فلا يختار الخليل الذي يزيِّن الخطأ والمعصية، بل يختار الذي يعينه على الطاعة.
ويذكر الحق سبحانه موقفاً من مواقف يوم القيامة فيقول سبحانه:
{ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ }[فصلت: 29].
هكذا يكون حال الذين ضلُّوا يوم القيامة، يتبرأون ممن أوقفهم هذا الموقف بل يطلبون من أضلهم لإيقاع العذاب بهم بأنفسهم؛ لذلك يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: } فَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ { [يونس: 29].
هكذا يتبرَّأ الملائكة والرسول الذي عُبِدَ، وحتى الأصنام، من الذين عَبَدُوهم في الدنيا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ {

(/1380)


هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)


وقول الحق سبحانه: { هُنَالِكَ } يعني: في هذا الوقت، أو في هذا المكان. والزمان والمكان هما ظَرْفَا الحدث؛ لأن كل فعل يلزم له زمان ومكان، فإن كان الزمان هو الغالب، فيأتي ظرف الزمان، وإذا كان المكان هو الغالب فيأتي ظرف المكان.
وجاءت { هُنَالِكَ } أيضاً في قصة سيدنا زكريا عليه السلام، إذ يقول الحق سبحانه:{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ }[آل عمران: 38].
أي: في ذلك الوقت الذي قالت فيه مريم ـ رضي الله عنها ـ قولةً أدَّت بها قضية اعتقادية إيمانية لكفيلها، وهو سيدنا زكريا عليه السلام وهو الذي يأتي لها بالطعام، وشاء لها الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن تعلِّمه هي. يقول سبحانه:{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً }[آل عمران: 37].
والرزق ما به انتفع، وكان زكريا ـ عليه السلام ـ يكفلها بكل شيء تحتاجه، لكنه فوجىء بوجود رزق لم يَأت هو به؛ بدليل أنه قال:{ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا }[آل عمران: 37].
وهذه ملحظية ويقظة الكفيل حين يجد مكفوله يتمتع بما لم يأتِ به. وهذه هي قضية " من أين لك هذا "؟، وهي قضية الكفيل العام للمجتمع حين يرى واحداً يتمتع بما لا تؤهله له حركته في الحياة، وبذلك يُكشف مختلس الانتفاع بما يخص الغير دون أن يَعرف كافله، ولو أن كافله أصرَّ على معرفة من أين تأتي مصادر دخله؛ لَحَمى المجتمع من الفساد.
وانظر إلى جواب مريم عليها السلام على قول زكريا عليه السلام الذي ذكره رب العزة سبحانه:{ أَنَّىا لَكِ هَـاذَا }[آل عمران: 37].
قالت مريم:{ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ }[آل عمران: 37].
ثم تعلَّل الجواب:{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
قالت ذلك، لأنه وجد عندها أشياء لا توجد في مثل هذا الوقت من السنة، فعجَبُ سيدنا زكريا عليه السلام ـ إذن ـ كان من أمرين اثنين: شيء لم يأت هو به، وشيء مخالف للفترة التي هو فيها، كأنْ وجد عندها عنباً في زمن غير أوانه، أو وجد برتقالاً في غير أوانه، وسؤاله كان دليل يقظة الكفيل، وإجابتها كانت قضية إيمانية عقدية{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وما دام { مِنْ عِندِ اللَّهِ } ـ سبحانه وتعالى ـ ما طرح حسابك أنت للأشياء في ضوء هذه القضية.
ولكن هل غفل سيدنا زكريا ـ عليه السلام ـ عن قضية الإيمان بأن الله تعالى يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؟
فنقول: لا، لم يغفل عنها، ولكنها لم تكن في بؤرة شعوره حينئذ؛ فجاءت بها قولة السيدة مريم لتذكر بهذه القضية، وهنا تذكَّر زكريا نفسه، كرجل بلغ من الكبر عتياً، وامرأته عاقر، وما دام الله سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب، فليس من الضروري أن يكون شاباً أو تكون زوجته صغيرة لينجب، فجاء الحق معبراً عن خاطر زكريا في قوله:


{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ }[آل عمران: 38].
أي: في هذا الوقت أو ذلك المكان، أو في الاثنين معاً زماناً ومكاناً، وهنا جاءته الإجابة من ربه سبحانه وتعالى:{ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }[مريم: 9].
وقد جاء الحق سبحانه بهذه القضية ليمنع أيَّ ظانٍّ من أن يسيء الظن بعفة مريم عليها السلام؛ لأنها في موقف اللجوء فأنطقها الحق بقوله:{ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وما دام الرزق بغير حساب وفي غير وقته وغير مكانه وبلا سبب وبغير علم كافلها، فعند ذلك تحقق اللجوء إلى الله بالقبول الحسن الذي دعت به امرأة عمران:
{ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا }[آل عمران: 36ـ37].
ويطبقها زكريا عليه السلام على نفسه، ثم تتعرض هي لها، حين يبشِّرها الحق سبحانه بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم ـ عليهما السلام.
فهي ستلد من غير أن يمسسها ذكر، وهي تعلم أن الأسباب جارية في أنه لا يوجد تناسل إلا بوجود ذكر وأنثى، وشاء الحق سبحانه أن يقدِّر لها أن تلد دون هذه العملية، فجاء سبحانه بتلك المقدمة على لسانها{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وحين تساءلت:{ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ }[آل عمران: 47].
جاءتها الإجابة بأن اسمه المسيح عيسى ابن مريم، يقول سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }[آل عمران: 45].
فبيقظتها الإيمانية فطنت إلى أن هذا الطفل سينسب إلى أمه؛ فعرفت أن أباه ملغي؛ وأدركت أن هذا الولد لن يأتي نتيجة زواج ولو فيما بعد، وبذلك كان عليها أن تعود إلى القضية الإيمانية التي ذكرتها:{ إِنَّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران: 37].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: } هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ { [يونس: 30]
أي: في ذلك الوقت تُختبر كل نفس، وترى هل الجزاء طيب أم لا؟ فإن كانت قد عملت الشر؛ فستجد الجزاء شَرّاً.
إذن: فالإنسان وقت النتائج يختبر نفسه بما كان منه.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ { [يونس: 30]
وكأنهم كانوا في الدنيا عند مولىً آخر غير الإله الحقّ سبحانه، والمولى غير الحق هو الشريك أو الشركاء الذين اتخذهم بعض الناس مَوالِيَ لهم، وهنا في اليوم الآخر يُردُّون إلى الإله الحق والمولى الحق سبحانه.
وكلمة " رُدُّوا إلى كذا " لا تدل على أنهم كانوا مع الضِّدِّ، وجاءوا له، بل تدل على أنهم كانوا معه أولاً، ثم ذهبوا إلى الضِّدِّ، ثم رُدُّوا إليه ثانياً، مثل قول الحق سبحانه عن موسى عليه السلام:


{ فَرَدَدْنَاهُ إِلَىا أُمِّهِ }[القصص: 13].
فدلَّت علىأنه كان مع أمه، ثم فارقها، ثم رُدَّ إليها.
وقول الحق سبحانه هنا: } وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ { [يونس: 30]
أي: أنهم كانوا مع الله أولاً، ثم أخذهم الشركاء، وفي هذا اليوم الآخر يرجعون لربهم سبحانه.
والإنسان يكون مع ربّه أولاً بالفطرة التكوينية المؤمنة، ثم يتجه به أبواه إلى المجوسية أو أيّ ديانة أخرى تحمل الشرك بالله تعالى، وهم في ظل تلك الديانات المشركة، كانوا عند مولىً وسيِّدٍ وآمرٍ ومشرِّعٍ، لكنه مَوْلىً غير حق؛ لأن الحق هو الثابت الذي لا تدركه الأغيار.
} هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ { [يونس: 30].
أي: عرفت كل نفس ما فعلت، ويُعرف كل إنسان بفضيحته في جزئيات ذاته، وكذلك الفضيحة العامة لكل إنسان أشرك بالله سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ { [يونس: 30].
أي: أن الآلهة التي عبدوها لا تتعرف إلى أمكنتهم ومواقعهم، وأنهم في خطر؛ فتأخذ بأيديهم؛ لأن هذه الآلهة لا علم لها بهم، ولو أن هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ـ سبحانه ـ على شيء من الحق؛ ووجودوهم في مأزق؛ لكان يجب أن يدافعوا عنهم، لكنهم لم يعرفوا أماكنهم } وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ { [يونس: 30].
أي: ماكنوا يكذبونه كذباً متعمداً.
وبعد أن كشف ـ سبحانه ـ المسألة وما سوف يحدث في الآخرة، وخوَّفهم وبشَّع لهم ما سوف ينتظرهم من مصير إنْ ظلوا على الكفر؛ لعلَّهم يرتدعون، ويتذكرون ضرورة العودة إلى عبادة الإله الحق سبحانه، ياتي الحق سبحانه وتعالى بما يعيد إليهم رُشْدَ الإيمان في نفوسهم، فيقول: } قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ {

(/1381)


قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)


أي: أن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: اسألهم هذا السؤال، ولا يسأل هذا السؤال إلا مَنْ يثق في أن المسئول لو أدار في ذهنه كل الأجوبة، فلن يجد جواباً غير ما عند السائل.
ومثال ذلك من حياتنا ـ والله المثل الأعلى ـ إن جاء لك من يقول: أبي يهملني، فتمسك به، وتسأله: من جاء لك بهذه الملابس وذلك القلم ويُطعمك ويُعلِّمك؟ سيقول لك: أبي.
وأنت لا تسأله هذا السؤال إلا وأنت واثق أنه لو أدار كل الأجوبة فلن يجد جواباً إلا الذي تتوقعه منه، فليس عنده إجابة أخرى؛ لأنك لون كنت تعرف أنه سوف يجيبك إجابة مختلفة لما سألته فكأنك ارتضيت حكمه هو في المسألة.
والحق سبحانه وتعالى قال في بداية هذه الآية الكريمة: { قُلْ } كما أنزل عليه مثيلاتها مما بُدىء بقوله سبحانه: { قُلْ } مثل قوله سبحانه:
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الصمد: 1].
وهذا ما اقتضاه خطاب الحق سبحانه دائماً للخَلْق، ويختلف عن خطاب الخَلْق للخَلْق، فحين تقول لابنك: " اذهب إلى عمِّك، وقُلْ له كذا ". فالابن يذهب إلى العمِّ ويقول له منطوق رسالة الأب، دون أن يقول له: " قُلْ " ، أما خطاب الحق سبحانه للخلق، فقد شاء سبحانه أن يبلِّغنا به رسوله الله صلى الله عليه وسلم كما نزل { قُلْ } فالرسول صلى الله عليه وسلم أمين في البلاغ عن الله تعالى، لا يترك كلمة واحدة من الوحي دون أن يبلِّغها للبشر، وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي أمره، فهو يبلغ ما أمِرَ، حتى لا يحرم آذان خلق الله تعالى من كل لفظ صدر عن الله سبحانه.
وكذلك أمر الحق ـ سبحانه ـ هنا لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول: { مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } [يونس: 31].
ونحن نعلم أن الرزق هو ما يُنتفع به، والانتفاع الأول مُقوِّم حياة، والثاني تَرَفٌ أو كماليات حياة، والرزق الذي هو أصل الحياة هو ماء ينزل من السماء، ونبات يخرج من الأرض.
وهكذا قال الحق سبحانه السؤال والإجابة معروفة مقدَّماً، فلم يَقُلْ لرسوله صلى الله عليه وسلم: " أجِب أنت " بل ترك لهم أن يجيبوا بأنفسهم.
وكذلك جاء الحق سبحانه بسؤال آخر: { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ } [يونس: 31].
والسمع والبصر هما السيدان لملَكَات الإدراك؛ لأن إدراك المعلومات له وسائل متعددة، إنْ أردتَ أنْ تُدرك رائحة؛ فبأنفك، وإن أردتَ أنْ تدرك نعومة؛ فبلمسك وببشرتك، وإنْ أردتَ أن تدرك مذاق شيء فبلسانك، وإنْ أردت أن تتكلم فبأجهزة الكلام وعمدتها اللسان، وإنْ أردتَ أن تسمع فبأذنك.
وكذلك تتجلَّى لك المرائي بعينيك، ثم تأتي إدراكات متعددة من الحواس؛ لتُكوِّن أشياء نسميها الخميرة، توجد منها القضية العقلية الأخيرة، فالطفل أمام النار يجد منظرها جميلاً جذاباً، لكن ما إن يلمسها حتى تلسعه؛ فلا يقرب منها أبداً من بعد ذلك؛ لأنه اختبرها بحواسه فارتكزت لديه القضية العقلية وهي أن هذه نار محرقة، واستقر هذا لديه يقيناً.

وهكذا تكون الإدراكات الحسية إدراكات متعددة تصنع خميرة في النفس تتكون منها الإدراكات المعنوية.
إذن: فوسائل العلم للكائن الحي هي الحواس، وهذه الحواس تعطي العقل معطيات تنغرز فيه لتستقر من بعد ذلك في الوجدان؛ فتصبح عقائد.
إذن: فمراحل الإدراك هي: إدراك حسيٌّ، وتفكُّر عقليٌّ، فانتهاء عَقَدِيٌّ؛ ولذلك نسمِّي الدين عقيدة.
أي: أنك عقدت الشيء في يقينك بصورة لا تحلُّه بعدها من جديد لتحلّله، فهذا يُسمى عقيدة.
ولذلك حينما أراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يقصَّ علينا مراحل الإدراك في النفس الإنسانية؛ ليربي الإنسان معلوماته، قال الحق سبحانه:
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78].
لذلك يقال: " كما ولدته أمه " ، أي: لم يُعْطَ القدرة على استخدام حواسِّه بعد، ثم يجعل له الحق سبحانه الحواس، ويجعله قادراً على استخدامها.
ولم يذكر بقية الحواس، بل جاء بالسيدين، وهما السمع والبصر؛ لأن آيات الكون تحتاج إلى الرؤية، وإبلاغ الرسل يحتاج للسماع، وهما أهم آلتين في البلاغ، فأنت ترى بالعين آيات الكون ومعجزات الرسل، وتسمع البلاغ بمنهج الله سبحانه وتعالى من الرسل.
وقد لفتنا الإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ إلى العجائب فقال: " اعجبوا لهذا الإنسان، ينظر بشحمٍ، ويتكلم بلَحْمٍ، ويسمع بعظمٍ، ويتنفس من خَرْمٍ ".
فالصوت يطرق عظمة الأذن، ويرنّ على طبلتها، ونرى بشحمة العين، وننطق بلحمة اللسان.
وأضاف البعض: " ونشمْ بغضروف، ونلمس بجلد، ونفكر بعجين ". فالإنسان يولد وكأن مخه قطعة من العجين التي تعمل في استقبال المعلومات من الكون وتخزينها فيه، وهي التي ستكون ركيزة لتشكيل الفؤاد من بعد ذلك.
وجاء قول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بوسيلتين من وسائل الإدراك، وترك بقية الوسائل الثلاث الأخرى الظاهرة، مع أن العلم الحديث حين تلكم عن وظائف الأعضاء، احتاط للأمر وقرر أن هذه الحواس هي الحواس الخمس الظاهرة.
وهذا يعني أن هناك حواسّاً أخرى غير هذه سيكشف عنها، وهي حواس لم يكن القدماء يعرفونها، مثل حاسة البَيْنَ بَيْنَ، التي نفرق بها بين أنواع الأقمشة والأوراق وغيرها، وكثافة هذا النوع من ذلك، وهذه الحاسة توجد بين لمستين من إصبعين متقاربين.
وكذلك حاسة العَضَل التي تزن ثقل الأشياء، وتعرف حين تحمل ثقلاً ما مدى الإجهاد الذي يسببه لك، وهل يختلف عن إجهاد حَمْل ثقلٍ آخر.

وحين نظر العلماء في معاني الألفاظ قالوا: " النظائر حين تخالف فلا بد من علّة للمخالفة " فالسمع آلة إدراك، والبصر آلة إدراك، فلماذا قال الحق سبحانه في آلة الإدراك " السمع " ، وقال في الآلة الثانية " الإبصار "؟، ولماذا جاء السمع بالإفراد، وجاء الإبصار بالجمع، ولم يأتْ بالاثنين على وتيرة واحدة؟
فنقول: إن المتكلم هو الله تعالى، وكل كلمة منه لها حكمة وموضوعة بميزان، وأنت، حين تسمع، تسمع أي صوت قادم من أي مكان، لكنك بالعين ترى من جهة واحدة، فإنْ أردتَ أن ترى ما على يمينك فأنت تتجه بعينيك إلى اليمين، وإنْ أردت أن ترى ما خلفك، فأنت تغيِّر من وقفتك، فالأذن تسمع بدون عمل منك، لكن البصر يحتاج إلى عمليات متعددة؛ لترى ما تريد.
وأيضاً فالسمع لا اختيار لك فيه، فأنت لا تستطيع أن تحجب أذنك عن سماع شيء، أما الإبصار فأنت تتحكم فيه بالحركة أو بإغلاق العين.
وجاء الحق ـ سبحانه وتعالى ـ بالسمع أولاً؛ لأن الأذن هي أول وسيلة إدراك تؤدي مهمتها في الإنسان، أما العين فلا تبدأ في أداء مهمتها إلا من بعد ثلاثة أيام إلى عشرة أيام غالباً.
وهنا يقول الحق سبحانه: } أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ { [يونس: 31].
والحق سبحانه يملكها؛ لأنه خالقها وهو القادر على أن يصونها، وهو القادر سبحانه على أن يُعَطِّلها، وقد أعطانا الحق مثالاً لهذا في القرآن فقال عن أصحاب الكهف:{ فَضَرَبْنَا عَلَىا آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }[الكهف: 11]
فَعَطَّل الله سبحانه أسماعهم بأن ضرب على آذانهم، فذهبوا في نوم استمر ثلاثة قرون من الزمن وازدادوا تسعاً.
كيف حدث هذا؟.. إن أقصى ما ينامه الإنسان العادي هو يوم وليلة، ولذلك عندما بعثهم الله تساءلوا فيما بينهم:{ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }[الكهف: 19].
ولكن هيئتهم لم تكن تدل على هذا، فإن شعورهم قد طالت جدّاً، بل إن لونها الأسود قد تبدل وأصبحوا شيباً وكهولاً، ولذلك قال الحق سبحانه:{ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً }[الكهف: 18].
ونلحظ هنا ملحظاً يجب الانتباه إليه، ففي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه: } أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ { [يونس: 31].
بينما يقول في آية أخرى في سورة السجدة:{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ }[السجدة: 9].
ولا بد أن ننتبه إلى الفارق بين " الخَلْق " و " الجَعْل " ، و " الملْك " ، فالخلق قد عرفنا أمره، وملكية كل شيء لله ـ تعالى ـ أمر مُلْزِمٌ في العقيدة، ومعروف، أما " الجَعْل " ، فهو توجيه ما خلق إلى مهمته.
فأنت تجعل الطين إبريقاً، والقماس جلباباً، هذا على المستوى البشري، أما الحق سبحانه وتعالى فقد خلق المادة أولاً، ثم جعل من المادة سمعاً وبصراً، وزاد من بعد ذلك } أَمَّن يَمْلِكُ { ، فمن خَلَق هو الله تعالى، ومن جَعَلَ هو الله تعالى، ومن مَلَكَ هو الله تعالى.

وهو سبحانه ينبهنا إلى ذلك، فالأشياء النافعة لابن آدم يخلقها الله سبحانه، ويجعلها، ثم يُملِّكها له.
أما ذات الإنسان وأبعاضه من سمع وبصر وغيرهما وإن كانت قد خُلقت في الإنسان، وجُعلت له للانتفاع بها، ولكنها ستظل مِلْكاً لله، يبقيها على حالها، او يخطفها أو يصيبها بآفة، أو يعطلها.
إذن: فهي خُلقت لله، وجُعلت من الله، وتظل مملوكة لله، ويُصيِّرها كيف يشاء، فدقات القلب والحب والكراهية والأمور اللا إرادية التي تعمل لصالح الإنسان هي مملكة الله.
والحق سبحانه ـ على سبيل المثال ـ جعل لكلِّ حيوان جلداً؛ ننتفع به وندبغه إلا جلدين اثنين: جلد الإنسان وجلد الخنزير، وقد حُرِّم استخدام جلد الإنسان؛ لكرامته عند خالقه، وحُرِّم استخدام جلد الخنزير؛ ليدُلَّ على حرمته ونجاسته.
وعلينا أن ننتبه إلى أن الحق سبحانه قد خَلَقَ وجَعَلَ ومَلَكَ، ودليل ملكية الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أنه حَرَّم الجنة على المُنتحِر؛ لأنه لا يأخذ الحياة إلا واهبُ الحياة، فأنت أيها الإنسان لستَ مِلْكَ نفسك. ولا عذر لأحد ما دام قد وصله هذا البلاغ، وعليه أن يستوعبه أما من لايستوعب؛ فيلقى مصيره.
لذلك فإنه سبحانه هو الذي رزق، وهو ـ سبحانه ـ الذي يملك.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ { [يونس: 31].
ونحن نعلم أن لكل كائن في الوجود حياة تناسبه، بدليل قول الحق سبحانه:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص: 88].
وما دام كل شيء سيأتي له وقت يهلك فيه، فمعنى ذلك أن لكل شيء حياة، إلا أن حياتنا نحن في ظاهر الأمر عبارة عن الحس والحركة، والإنسان يأكل الخضروات والخبز والفاكهة، ومن هذه المأكولات وغيرها يكوِّن الجسمُ الحيوانات المنوية في الرجل، والبويضات في المرأة، ومنهما يأتي الإنسان، وكذلك يخرج الكتكوت من البيضة المخصَّبة؛ لأن البيضة غير المخصبة لا تُخرِج كتكوتاً؛ فهي بدون حياة؛ ولذلك لا يتكون منها جنين، فهناك فرق بين قابلية الحياة، وبين الحياة نفسها.
وكذلك نواة التمرة، إذا ما ألقيتْ دون أن توضع في الأرض، فلن تكون نخلة أبداً، ولكن إذا ما زُرعتْ في الأرض، ووجدت لها البيئة المناسبة؛ خرجَتْ نخلة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ { [يونس: 31].
والتدبير هو عملية الإدارة لأي شيء؛ حتى يؤدي مهمته، وبالله من يُدير قلبك؟ ومن يدير حركة أمعائك؟ لتستخلص من الطعام ما يفيدك، ثم تخرج ما لا يفيدك.
إياك أن تقول: إنني أنا الذي أدير ذلك؟ ونقول: كنت طفلاً في مرحلة الطفولة، فهل كنت تدير حركة قلبك أو أمعائك؟ ومَنْ الذي يدير حركة رئتيك؟ إن الذي يديرها هو خالقها؛ لذلك اطمئنوا على حركة أجهزتكم التي لا دخل لكم فيها؛ لأن الذي خلقها فيكم قيُّوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يؤوده حفظ ذلك.

ويجيب مَنْ يسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم على كل تلك الأسئلة ـ بأمر الله تعالى ـ الإجابة التي حددها الله سبحانه سلفاً } فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ { [يونس: 31].
إذن: أما كان يجب أن نرهف الآذان، ونُعْمِل الأبصار؛ لنرى قدرة الله سبحانه الذي وهب لنا كل تلك النعم من رزق، وسمع، وبصر، وإحياء ، وإماتة، وإحياء من ميت، وتدبير الأمر كله؟
أما كان يجب أن نقول: يا مَنْ خَلَقْتَنَا ماذا تنتظر مِنَّا؛ لنعمِّر الكون الذي أوجدتنا فيه؟ فكيف ـ إذن ـ يتجه البعض بالعبَادة لغير الله تعالى؛ لشمسٍ أو قمرٍ، أو ملائكة، أو نبيّ، أو صنمٍ؟ كيف ذلك والعبادة معناها إطاعة العابد للمعبود فيما يأمر به؟ وهل هناك إله بغير منهج يأمر به عباده، ومن عبد الشمس هل كَلَّفته بشيء؟.. لا.
إذن: يتساوى عندها مَنْ عبدها، ومَنْ لم يعبدها، وفي هذا نقض لألوهية كل معبود غير الله تعالى.
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: } أَفَلاَ تَتَّقُونَ { [يونس: 31].
فما دام الله سبحانه هو الذي خلق كل ذلك، وأنزل منهجاً، فعليكم أن تجعلوا بينكم وبينه وقاية؛ تحميكم من صفات الجلال، وتقرّبكم من آثار صفات الجمال وأن تسمعوا إلى البلاغ من الرسل عليهم السلام، وإلى مطلوباته سبحانه.
وما دام كل إنسان سيجيب عن أسئلة هذه الآية، ويعترف أن الخالف سبحانه والمالك هو الله تعالى، فعلى الإنسان أن يقي نفسه النار.
والعجيب أن الجميع يجيب بأن الله سبحانه هو الذي خَلَق، فالحق سبحانه يقول:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[الزخرف: 87].
ويقول أيضاً:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[لقمان: 25].
وما دام الله تعالى هو الذي خلق، وزرق، ودبَّر الأمر، فكيف تتركون عبادته وتتجهون لعبادة غيره؟
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ {

(/1382)


فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)


وقد جاء قول الحق سبحانه: { فَذَالِكُمُ } إشاره منه إلى ما ذكره قَبْلاً من الرزق، وملكية السمع والأبصار، وقدرة إخراج الحيّ من الميت، وأخراج الميت من الحي، وتدبير الأمر.
إذن: فقوله سبحانه: { فَذَالِكُمُ } إشارة إلى أشياء ونعم كثيرة ومتعددة أشار إليها بلفظ واحدٍ؛ لأنها كلها صادرة من إله واحد.
{ فَذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } [يونس: 32].
ولا يوجد في الكون حقَّان، بل يوجد حق واحد، وما عداه هو الضلال؛ لذلك يقول الحق سبحانه: { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [يونس: 32].
إذن: أنتم إنْ وجَّهتم الأمر بالربوبية ألى غيره؛ تكونون قد ضللتم الطريق، فالضلال أن يكون لك غاية تريد أن تصل إليها، فتتجه إلى طريق لا يوصِّل إليها. فإن صُرفتم من الإله الحق فأنتم تصلون إلى الضلال.
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بما يبين أنه لا يوجد إلا الحق أو الضلال، فيقول سبحانه: { فَأَنَّىا تُصْرَفُونَ } [يونس: 32].
أي: أنكم إن انصرفتم عن الحق ـ سبحانه وتعالى ، فإلى الضلال، والحقُّ واحد ثابت لا يتغيَّر.
ومَنْ عبد الملائكة أو الكواكب أو النجوم؛ أو بعض رسل الله ـ عليهم السلام ـ أو صنماً من الأصنام؛ فقد هوى إلى الضلال.
وإن كنتم تريدون أن نجادلكم عقلياً، فَلْنقرأ معاً قول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ }

(/1383)


كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)


قوله: { كَذَلِكَ } إشارة إلى ما تقدم من رزق الله تعالى للبشر جميعاً، ومن مِلْك السمع والبصر، ومن تدبير الأمر كله، ومن إخراج الحيّ من الميت، وإخراج الميت من الحي، ذلك هو الإله الحق سبحانه، وقد ثبت ذلك بسؤاله سبحانه وتعالى هذا السؤال الذي علم مُقدَّماً ألا إجابة له إلا بالاعتراف به إلهاً حقاً:{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ }[يونس: 32].
ومثل هذه القضية تماماً قَوْلُ الحق سبحانه: { حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 33].
لأنهم أساءوا الفهم في الوحدانية، وفي العقيدة، واستحقوا أن يُعذَّبوا؛ لأنهم صرفوا الحق إلى غير صاحب الحق.
وقد كان هذا خطاباً للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بعضهم آمن بالله تعالى؛ ولذلك فالعذاب:إنما يحُلّ على مَنْ لم يؤمن.
وهذا القول متحقق فيمَنْ سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، وكذلك حقَّتْ كلمة ربك على هؤلاء الذين فسقوا ولا ينتهون عن فسقهم وكفرهم، وإصرارهم على الانحراف بالعبودية لغير الله الأعلى والرَّبِّ الحق سبحانه وتعالى.
والدليل على العلم الأزليِّ لله سبحانه ما نقرأه في سورة البقرة:{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }[البقرة: 6].
إذن: معلوم لله تعالى مَنْ يؤمن ومَنْ لا يؤمن، ومَنْ يستمر ويُصِرّ على كفره؛ هو الذي يَلْقَى العذاب، بعلم الله تعالى فيه أنه لن يؤمن.
ثم يذكر الحق بعد ذلك ما يمكن أن يُجادَلَ به الكافرون بمنطق أحوالهم، ففي ذوات نفوس غير المؤمنين بإله توجد نزعة فطرية لفعل الخير، وتوجيه غيرهم إليه، وهو موجود حتى في الأمم غير المؤمنة، فكل قوم يُوجِّهون إلى الخير بحسب معتقداتهم، فنجد بين الشعوب غير المؤمنة بإلهٍ حكماء وأطباء وعلماء، وهؤلاء يوجهون الناس إلى بعض الخير الذي يرونه.
ونجد الطفل الصغير يكتسب المعتقدات والعادات والاتجاهات من والديه، ومما يسمعه من توجيهاتهم، فنجده يبتعد عن النار مثلاً أو الكهرباء؛ لأنه ترسخت في ذهنه توجيهات ونصائح غيره؛ بل إنه يتعلم كيف يتعامل مع هذه الأشياء دون أن تصيبه بالضرر.
إذن: يوجد توجيه من الخلق إلى الخلق لجهات الخير، ألا نجد في الدول غير المؤمنة بإله مَنْ يرشد الناس إلى الطرق التي يمكن أن يسيروا فيها باتجاهين، والطرق التي عليهم أن يسيروا فيها باتجاه واحد؟
ألا يوجد مَنْ يدل الناس على المنحنيات الخطرة على الطرق، وكذلك يوجّههم إلى ضرورة خفض سرعة السيارات أمام مدارس الأطفال؟
نعم، يوجد في البلاد غير المؤمنة مَنْ يفعل ذلك.
إذن: فالتفكير في الخير لصالح الأمم أمر طبيعي غريزي موجود في كل المجتمعات، وإذ كان التوجيه للخير يحدث من الإنسان المساوي للإنسان، ألا يكون الله سبحانه هو الأحق بالتوجيه إلى الخير، وهو سبحانه الذي خلق الإنسان، وخلق له ما يقيم حياته على الأرض، ولذلك يقول الحق سبحانه: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ }

(/1384)


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)


وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس: 34].
ومعنى أن الله يسأل القوم هذا السؤال أنه لا بد أن تكون الإجابة كما أرادها هو سبحانه. وإنْ قال قائل: وكيف يأمنهم على مثل هذا الجواب، ألم يكن من الجائز أن ينسبوا هذا إلى غير الله؟
نقول: إن هذا السؤال: لا يُطرح إلا وطارحه يعلم أن له إجابة واحدة، فلن يجد المسئول إجابة إلا أن يقول: إن الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه ولا يمكن أن يقولوا: إن الصنم يفعل ذلك؛ لأنهم يعلمون أنهم هم الذين صنعوا الأصنام، ولا قدرة لها على مثل هذا الفعل.
فالإجابة معلومة سلفاً: إن الله سبحانه وتعالى وحده هو القادر على ذلك، وهذا يوضح أن الباطل لجلج والحق أبلج، وللحق صَوْلة؛ فأنت ساعة تنطق بكلمة الحق في أمر ما، تجدها قد فعلت فِعْلها فيمن هو على الباطل، ويأخذ وقتاً طويلاً إلى أن يجد كلاماً يرد به ما قلته، بل يحدث له انبهار واندهاش، وتنقطع حجته.
ولذلك لم يَقُل الحق سبحانه هنا مثلما قال من قبل:{ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ }[يونس: 31].
بل قال: { قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس: 34].
وجاء بها الحق سبحانه هكذا؛ لأنهم حينما سُئلوا هذا السؤال بهرهم الحق وغلب ألسنتهم وخواطرهم؛ فلم يستطيعوا قول أي شيء.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ نجد وكيل النيابة يضيّق الخناق على المتهم بأسئلة متعددة إلى أن يوجه له سؤالاً ينبهر المتهم من فرط دقته وليس له إلا إجابة واحدة تتأبى طباعة ألا يجيب عنه، فيجيب المتهم معترفاً.
والإنسان ـ كما خلقه الله تعالى ـ صالح لأن يؤمن، وصالح لأن يكفر، فإرادته هنا تتدخل، لكن أبعاضه مؤمنة عابدة مسبحة، فاللسان الذي قد ينطق الكفر، هو في الحقيقة مؤمن مُسبِّحٌ، حامد، شاكر، لكن إرادة الإنسان التي شاءها الله ـ سبحانه ـ متميزة بالاختيار قد تختار الكفر ـ والعياذ بالله ـ فينطق اللسان بالكفر.
وقد تأتمر اليد بأمر صاحبها؛ فتمتد لتسرق، أو تسعى الأقدام ـ مثلاً ـ إلى محل احتساء الخمر، ولكن هل هذه الفاعلات راضية عن تلك الأفعال؟
لا، إنها غير راضية، إنما هي خاضعة لإرادة الفاعل.
وحين يسأل السؤال: من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ فاللسان بفطرية تكوينه المؤمنة يريد أن يتكلم؛ لكنه لا يملك إرادة الكلام، فيبين الحق سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب نيابة عن الأبعاض المؤمنة، فيقول سبحانه: { قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس: 34] وهو بذلك يؤكد الصيغة، ويكفي أن يقول محمد صلى الله عليه وسلم هذا القول مُبلِّغاً عن ربه، وينال هذا القول شرف العندية:
{ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىا تُؤْفَكُونَ } [يونس: 34].

والإفك: هو الكذب المتعمَّد، وهو الافتراء، وهناك فارق بين الكذب غير المتعمد والكذب المتعمد، فالكذب غير المتعمد هو من ينقل ما بلغه عن غيره حسبما فهم واعتقد، وهو لون من ألوان الكذب لا يصادف الحق، ويتراجع عنه صاحبه إن عرف الحق.
أما الافتراء فهو الكذب المتعمد، أي: أن يعلم الإنسان الحقيقة ويقلبها؛ ولذلك نجد العلماء قد وقفوا هنا وقفة؛ فمنهم من قال: هناك صدق، وهناك كذب، لكن علماء آخرين قالوا: لا، إن هناك واسطة بين الصدق والكذب.
ومثال ذلك: أن يدخل ابنٌ على أبيه، بعد أن سمع هذا الابن من الناس أن هناك حريقاً في بيت فلان، فيقول الابن لوالده: هناك حريق في بيت فلان؛ فيذهب الأب ليعاين الأمر، فإن وجد حريقاً فقول الابن صدق، وإن لم يكن هناك حريق فالخبر كاذب، ولكن ناقل الخبر نقله حسبما سمع.
إذن: فهناك فَرْق بين صدق الخبر وصدق المُخْبِر، فمرة يَصْدُق الخبر ويصدُق المخبر، ومرة يصدُق الخبر ولا يصدُق المخبِر، ومرة يصدق المخبر ولا يصدق الخبر.
فهُنا أربعة مواقف، والذين قالوا إن هناك واسطة بين الصدق والكذب هم مَنْ قالوا: إن الصدق يقتضي مطابقة بين الواقع والخبر. أما الكذب فهو ألا يطابق الواقع الخبر.
لذلك يجب أن نفرِّق بين صدق الخبر في ذاته، وصدق المخبر، بأنه يقول ما يعتقد. أما صدق الخبر فهو أن يكون هو الواقع.
وقول الحق سبحانه: } فَأَنَّىا تُؤْفَكُونَ { أي: فكيف تقلبون الحقائق؛ لأنكم تعرفون الواقع وتكذبونه كذباً متعمداً؟
وكلنا نعلم قول الحق سبحانه:{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىا }[النجم: 53].
والمؤتفكة: هي القرى التي كُفئت أعلاها إلى أسفلها، كذلك الكذَّاب يقلب الحقيقة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ {

(/1385)


قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)


وهذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسألهم سؤالاً جديداً، لا إجابة له إلا ما يفرضه الواقع، والواقع يؤكد أن الهداية لا تكون إلا للحق؛ لأن كل كائن مخلوق لغاية، فلا شيء يُخلق عبثاً.
ونحن بقُدرتنا المحدودة نصنع (الميكرفون) و { التليفزيون) أو الثلاجة أو السرير وغيرها، كلّ منها له غاية، وكل له قوانين صيانته الخاصة به، والذي يحدِّد الغاية من هذا المصنوع أو ذاك هو صانعه، ويضع لها قوانين صيانتها؛ لتؤدّي غايتها، فالغاية من أي شيء توجد قبل الشيء نفسه؛ ليوجد الشيء على مقتضى الغاية منه.
وآفة العالم الآن أنهم يعلمون أن الله سبحانه خلق الإنسان، ولكنهم يصنعون من عندهم قوانين لصيانة الإنسان وحركة الإنسان، وهذا غباء وغفلة من الذين يفعلون ذلك، كان عليهم أن يتركوا أمر صيانة الإنسان للقوانين التي وضعها خالق الإنسان سبحانه.
فالحق سبحانه وتعالى قد حدد الغاية من خَلْق الإنسان وحدّد قوانين صيانته، والشر الموجود حالياً بسبب الجهل بغاية الإنسان، والعدول عن المنهج الذي يجب أن يسير عليه الإنسان، فقال الحق سبحانه: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } [يونس: 35].
أي: هل من هؤلاء الشركاء مَنْ يهدي الإنسان إلى غايته؟ هل قالت الشمس ـ مثلاً ـ غايتها؟ هل قالت الملائكة غايتها؟ هل قالت الأشجار أو الأحجار أو الرسل الذين عبدتموهم شيئاً غير مراد الله تعالى؟
إنهم آلهة لا يعرفون الغاية من العابد لهم، ولا يعرفون الطريق الموصل إلى تلك الغاية.
ولذلك يأتي القول الفصل: { قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } [يونس: 35].
فالله هداك أيها الإنسان إلى الحق في كل حركة تتحركها بالمنهج الذي أنزله الله سبحانه مكتملاً على رسوله صلى الله عليه وسلم من بدء " لا إله إلا الله " إلى إماطة الأذى عن الطريق، وهو منهج مستوعب مستوفٍ لكل حركات الإنسان.
وجاءت الإجابة من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم انبهروا بالسؤال وتلجلجوا ولم يوجد عند أي منهم قدرة على المعارضة، فالغاية من خلق الإنسان وغيره يوجزها قول الحق سبحانه:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56].
والعبادة ليست أركان الإسلام فقط، بل هي عمارة الكون كبنيان حيّ للإسلام، والذي حدد الغاية هو الخالق سبحانه، وهو سبحانه الذي يحدد طريق الوصول إليها.
ونحن حين نرغب في الوصول إلى مكان في الصحراء مثلاً، إنما نحدد أولاً المكان، ونختار طريق الوصول، فإن كان الطريق المستقيم مليئاً بالعقبات والجبال، فإنك ستضطر للانحراف عن هذا الطريق وصولاً إلى غايتك، فهذا الطريق المعوج هو الطريق المستقيم؛ لأنه الطريق الذي يجنبنا العقبات.
ومثال ذلك: السيول التي تنزل على هضباب الحبشة، فاختارت لنفسها المجرى السهل فكان نهر النيل، فلا أحد قد حفر النيل مثلما حفرنا الرياحات أو قناة السويس، بل نزل السيل واختار لنفسه الطريق السهل فسار فيه بين التعاريج والرمال والصخور.

ولذلك أنت تجد كل ما لا دخل للبشر به قد يتعرج لينفذ، أما ما صنعه البشر فلا يستطيع ذلك.
وكل خلق لا بد له من غاية؛ لذلك نجد سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام يقول:{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء: 78].
فمن خلق هو الذي يحدد الغاية؛ لأن هذه الغاية توجد عنده أولاً ليخلق، وتتجلى الدقة في قول القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فلم يقل: الذي خلقني يهديني، بل قال: } الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ { مما يدل على أن هذه القضية ستخالَف، وبعد أن يخلق الإنسان سيقوم بعض الناس ـ حماية لمصالحهم ـ بوضع طريق أخرى تخالف الغاية؛ فتوصل إلى الضلال.
أما الحق سبحانه فقد أنزل القرآن فيه الهداية الحقة، فالذي خلق هو الذي يقنن، ولذلك يذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام:{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ }[الشعراء: 79].
وبهذا القول وصل سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى أن الذي رزق الآباء قدرة استنباط الرزق مطعماً ومشرباً هو الله سبحانه.
وذكر القرآن على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام:{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ }[الشعراء: 81].
فالإماتة والإحياء هما من الحق سبحانه، فلا أحد يسأل عمن يملك الإماتة والإحياء، أما عن شفاء المرض فقال:{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }[الشعراء: 80].
فأنت قد تذهب إلى الطبيب وتظن أنه هو الذي يشفيك؛ بل هو يعالج، ولكن الله هو الذي يشفي.
وهكذا نعلم أن قول سيدنا إبراهيم عليه السلام:{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء: 78].
هو كلام منطقي؛ لأن خالق الشيء هو الذي يهدي إلى الغاية من الشيء؛ فالغاية أولاً، ثم الخلق، ثم توضيح الطريق الموصل إلى تلك الغاية، فإذا خولف في شيء من ذلك فلا صلاح لكون أبداً.
وتجد في القرآن على لسان سيدنا موسى عليه السلام:{ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىا كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىا }[طه: 50].
فما دام الحق سبحانه قد خلق فهو يهدي إلى السبيل الموصل إلى الغاية، ويقول القرآن أيضاً:{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَىا * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىا * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىا }[الأعلى: 1ـ3].
وهكذا يتأكد لنا أنه ما دامت هناك غاية، فلا بد من وجود طريق يهدينا إليه من خَلَقَنَا.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه: } قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ { [يونس: 35] لأن سبحانه هو الذي خلق؛ ولذلك فمن المنطقي أن يأتي بعد ذلك التساؤل: } أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَىا { [يونس: 35]؟
وسبب وجود اللام في قوله: } يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ { هو النظرة إلى الغاية، وسبب وجود: } إِلَى الْحَقِّ { هو لفت الانتباه إلى أن الوصول إلى الغاية يقتضي طريقاً، فأراد الحق سبحانه في آية واحدة أن يجمع التعبيرين معاً.

ونحن نعلم أن هذه الآية قد نزلت في الذين اتخذوا لله شركاء، فهم يعترفون بالله تعالى ولكنهم يشركون به غيره، فالله سبحانه وتعالى تفرَّد بالألوهية بربويته للخلق؛ لأنه خلق من عَدَمٍ،وزرق من عُدْمٍ، وخَلَق لنا وسائل العلم ودبَّر لنا الأمر، وأخرج الحي من الميت، وأخرج الميت من الحي، وهدى للحق.
فإين ـ إذن ـ هؤلاء الشركاء الذين اتخذتموهم مع الله تعالى؟ وهل صنع واحد منهم أو كُلُّهم مجتمعين شيئاً واحداً من تلك الأشياء؟
لذلك قال سبحانه: } هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ { [يونس: 35]
إذن: فالذي يهدي هو الذي خَلَق، وهؤلاء الذين أشركوا اعترفوا بالله خالقاً بشهاداتهم حين قال الحق سبحانه:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[الزخرف: 87].
إذن: فالذين أشركوا قد ارتكبوا الإثم العظيم، وهؤلاء الشركاء إما أن يكونوا من الملائكة، أو من الأنبياء والرسل الذين فُتن بهم بعض الناس، وهناك من اتخذ وسائط أخرى مثل: الشمس والقَمر والنجوم؛ وهذه أشياء عُلوية، وبعض الناس اتخذوا وسائط سفلية كالأشجار والأحجار، فهل أي شيء من كل ذلك يهدي إلى الحق؟ وما منهج أي منهم إذن؟ وكيف بلَّغوكم به؟
إن كل هؤلاء يعلمون أن أيّاً منهم لا يستطيع أن يَهدي، بل هو يُهْدَى من الله سبحانه وتعالى، فمن أين قلتم إن الملائكة ستهديكم؟ أو من أين جاء الذين فُتنوا برسولهم واتخذوه إلهاً؟ ومن أ ين جاء هذا الرسول بمنهجه؟
إن كل كائن لا يَهدي إلا بعد أن يُهدى من الله أولاً، وإن كانت الأشياء ـ المتخذة شركاء ـ لا هداية لها، ولا منهج، ولا عقل، ولا تفكير، كالشمس والقمر والنجوم في العلويات، والأشجار والأحجار في السفليات، فماذا قالت هذه الأشياء؟ إنها لم تقل شيئاً.
وهكذا لا يستقيم أمر اتخاذهم شركاء مع الله، حتى الملائكة، فالله هو الذي يختار منهم المَلَكَ الذي يُبلِّغ عن الله سبحانه، وكذلك الرسل عليهم السلام: } أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَىا { [يونس: 35].
} لاَّ يَهِدِّي { تقرأ هكذا، وللغة فيها عملية تخفيف جَرْس لسلامة نطقها واستقامة اللغة العربية، فنحن نعرف أن } يَهِدِّي { يعنى: يهتدي.. أصلها يهتدي.. ويهتدي فيها هاء ساكنة وتاء ودال وياء.. وفيها تقارب لمخارج الحروف، وهذا التقارب يجعل المعنى غائماً، والنطق ثقيلاً، فتقوم اللغة بعملية إبدال وإدغام، وتخلّص من التقاء الساكنين فتصل إلى مسامعنا كما أنزلها الله تعالى لسلامة النطق وجمال المعنى؛ لأن القرآن أدَّب اللغة بكلام السماء؛ لتكون خالدة اللفظ والمعنى. فإذا كنتم على طريق هداية، فالأصل في الهداية هو الله تعالى.

ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: } فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ { [يونس: 35].
أي: ماذا أصاب عقولكم لتحكموا هذا الحكم؛ فتشركوا بالله ما لا منهج له، أو له منهج ولكنه موصول بالله تعالى جاء ليبلغه لهم؟
وساعة تسمع } كَيْفَ { فهي للاستفسار عن عملية عجيبة ما كان ـ في عُرْف العاقل ـ أن تحدث. كأن تقول: " كيف ضربت أباك؟ " أو " كيف سببت أمك؟ " ، وهذا كله من الأمور التي تأباها الفطرة ويأباه الطبع والدين.
وقوله سبحانه: } فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ { كأنه أمر عجيب ما كان يصح أن يحدث؛ لأن الحق سبحانه وحده هو الإله، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغيَّر غاية وطريقاً. والله سبحانه وحده هو الذي حدد لنا الغاية والطريق الموصل إليها، وهو سبحانه القائل:{ وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَىا دَارِ السَّلاَمِ }[يونس: 25].
والمنهج هو الطريق الذي يوصل إلى دار السلام من آفة الأغيار؛ لأن الدنيا كلها أغيار، فأنت قد تكون قوياً ثم تضعف أو صحيحاً فيصيبك المرض، أو غنياً فتفتقر، أو مبصراً فيضيع منك بصرك، أو تكون صحيح الأذن سمعياً فتصير أصم بعد ذلك.
إذن: فهي دنيا أغيار، وهَبْ أن إنساناً أخذ من دنياه كل نصيبه عافية وأمناً وسلامةً وغنًى وكل شيء؛ سنجده في قلق من جهتين: الجهة الأولى أنه يخاف أن يفارقه كل هذا النعيم، أو يخاف أن يترك هو هذا النعيم، هذا ما نراه في حياتنا.
إذن: فالدنيا بما فيها من أغيار لا أمان لها؛ لنفهم أن كل عطاءات المخلوق إنما هي هبة من الخالق سبحانه وتعالى؛ لأنها لو كانت من ذاتك لاستطعت الحفاظ عليها، ولكنها هِبَاتٌ من الحق الأعلى سبحانه.
والأمر الموهوب قد يصبح مسلوباً.
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً {

(/1386)


وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)


وقول الحق سبحانه: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً } [يونس: 36] يفيد أن بعضهم كان يتبع يقيناً؛ لأن مقابل الظن هو اليقين، فالنسب التي تحدث بين الأشياء تربط بين الموضوع والمحمول، أو المحكوم والمحكوم عليه، وهي نسب ذكرناها من قبل، ونذكِّر بها، فهناك شيء أنت تجزم به، وشيء لا تجزم به. وما تجزم به وتُدلِّل عليه هو علم يقين، أما ما لا تستيطع التدليل عليه فليس علم يقين، بل تقليد، كأن يقول الطفل:{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1].
وهذا حق، لكن الطفل لا يستطيع أن يدلل عليه أو أن يقال شيء ومن يقوله جازم به، وهو غير واقع؛ فذلك هو الجهل.
والعلم هو القضية المجزوم بها، وهي واقعة وعليها دليل، على عكس الجهل الذي هو قضية مجزوم بها وليس عليها دليل.
والظن هو تساوي نسبتين في الإيجاب والسلب، بحيث لا تستطيع أن تجزم بأي منهما؛ لأنه إن رجحت كفة كانت قضية مرجوحة، والقضية المرجوحة هي شك أو ظن أو وهم. فالظن هو ترجيح النسب على بعضها. والشك هو تساوي الكفتين.
وقول الحق سبحانه: { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً } [يونس: 36] يبين لنا أن الذين كانوا يعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك إما عناداً ـ رغم علمهم بصدق ما يبلغ عنه، وإما أنهم يعاندون عن غير علم، مصداقاً لقول الحق سبحانه:{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ }[يونس: 39].
وكان الواحد منهم إذا تمعَّن في البلاغ عن الله تعالى والأدلة عليه، يعلن الإيمان، لكن منهم من تمعن في الأدلة وظل على عناده، والذين اتبعوا الظن إنما اتبعوا ما لا يغني من الحق شيئاً.
لذلك يبيّن لهم الحق سبحانه أنه عليم بخفايا نفوسهم، ويعلم إن كان إنكارهم للإيمان نابعاً من العناد أو من العجز عن استيعاب قضية الإيمان؛ لذلك يقول الحق سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } [يونس: 36].
إذن: فقد علم الله سبحانه أزلاً أن بعضهم في خبايا نفوسهم يوقنون بقيمة الإيمان، لكنهم يجحدونها، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }[الأنعام: 33].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى عليم، ولا يخفى عليه أنهم كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبعضهم لم يفهم قيمة الإيمان، ومن علم منهم قيمة الإيمان جحدها، عناداً واستكباراً.
يقول الحق سبحانه:{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }[النمل: 14].
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: { وَمَا كَانَ هَـاذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىا }

(/1387)


وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)


وحين تستمع للقرآن وما فيه من سر الأعداد والإخبار بالمغيبات التي لا تخضع لمنطق الزمان، ولا لمنطق المكان، فالفطرة السليمة توقن أن هذا القرآن لا يمكن أن يُفتَرى، بل لا بد أن قائله ومُنزِّله عليم خبير؛ لأن القرآن جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب السابقة.
أي: أن ما به دائماً هو أمام الناس، أو مواجه لهم، وهو كتاب مصدِّق للكتب السابقة من قبل تحريفها كالتوراة والإنجيل والزبور، وهي الكتب التي سبقت القرآن نزولاً، لا واقعاً، فجاء القرآن مصدِّقاً لها.
أي: هي تصدقه، وهي يصدقها من قبل تحريفها، وهي الكتب التي بشَّرت بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، مثلما جاء في القرآن عن تصديق عيسى عليه السلام بمجيء محمد عليه الصلاة والسلام:{ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ }[الصف:6].
فلما جاء أحمد (محمد صلى الله عليه وسلم) ونزل عليه القرآن صدَّق الإنجيل في قوله هذا، وما جاء في القرآن من عقائد أصيلة هي عقائد جاءت بها كل الكتب السماوية، فالحق سبحانه يقول:
{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىا نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَىا وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }[النساء: 163].
ويقول الحق سبحانه:
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ }[الشورى: 13].
إذن: فهناك أصول جاءت بها كل الكتب السماوية، وهناك كذلك أخبار أخبرت عن حدوثها الكتب السماوية، وأبلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وفيه تلك الأخبار، فمن أين جاء محمد صلى الله عليه وسلم بتلك العقائد الصحيحة، وتلك الأخبار الموجودة في الكتب السابقة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن من أهل الكتاب، ولا عَلِمَ منهم شيئاً.
إذن: فعندما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ما جاء ذكره في الكتب السابقة على القرآن، فهذه الكتب مصدقة لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الأخبار قد وقعت، وهذا تأكيد لصدقه؛ لأنه بشهادة أهل زمانه لم يجلس إلى معلِّم، ولم يقرأ كتاباً، وتاريخه وسيرته معروفة؛ لأنه من أنفسكم، ولم يُعْلَم عنه أنه قد زاول كلاماً بليغاً، أو خطب في قوم قبل الرسالة، أو قال شعراً.
وبعد ذلك فوجىء هو ـ كما فوجئتم أنتم ، بمجيء هذا البيان الرائع، فمن أين جاء به؟
أنتم تقولون إنه هو الذي جاء به، لكنه صلى الله عليه وسلم ينسب الرفعة لصاحبها، ويعلن أنه صلى الله عليه وسلم مُبلِّغ فقط، فيقول ما أمره الله به أن يقوله:{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

[يونس: 16].
ويحضُّ القرآن الكريم النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يسألهم: هل لاحظوا على كلماته ـ من قبلُ ـ البلاغةَ والفصاحةَ أو الشعرَ؟!
ولننظر في " ماكُنَّات " القرآن الكريم، وهي الآيات التي يقول فيها الحق سبحانه: } وَمَا كُنتَ { مثل قوله سبحانه:
{ ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ }[آل عمران: 44].
وهذا أمر ثابت في الأخبار.
وقول الحق سبحانه:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ }[القصص: 44].
والوحي إلى موسى ـ عليه السلام ـ والمكان الذي نزل فيه ذلك الوحي أمر ثابت في الأخبار.
وقول الحق سبحانه:{ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }[القصص: 45].
وكثير من هذه الآيات تجعل محمداً صلى الله عليه وسلم وكأنه يسأل المعاصرين له: كيف أخبرت بوقائع وأخبار لم أكن موجوداً في زمانها أو مكانها؟
لا بد ـ إذن ـ أن الله الحق ـ سبحانه ـ هو الذي أخبرني بما وافق ما عندكم من أخبار.
وبعد ذلك جاء القرآن الكريم مصدقاً لما بين يديه:{ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىا قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }[البقرة: 97].
أي: أنه الكتاب الذي يضم صدق كل حدث قادم؛ لأن القرآن خرق حُجُب وحُجُزَ الماضي والمستقبل.
ونحن نعلم أن الأشياء الغيبية تحدث بسببين؛ الأول: ان يتكلم عن شيء سبق الزمان الذي نزل فيه، فهو يتكلم في الماضي الذي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الاطلاع والتعلم ليعرفه ويعلمه.
وكذلك خرق القرآن الكريم حجب الحاضر الذي عاصر نزوله، هذا الحاضر الذي قد يكون محجوباً بالمكان.
وأضرب هذا المثال ـ ولله المثل الأعلى ـ فقد يحدث حادث في الإسكندرية في نفس الوقت الذي تكون أنت فيه موجوداً بالقاهرة، وأنت تعلم هذا الحدث؛ لأنه محجوب عنك ببعد المكان، وحاجز المكان يتمثل ـ غالباً ـ في الأمور الحاضرة، أما أمور المستقبل فهي محجوبة عنا بالزمان والمكان معاً.
وحين يخبرنا القرآن الكريم بحدث ماضٍ لم يشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتعلمه، ولم يقرأ عنه؛ إذن: فالقرآن إنما يخرق أمامنا حجاب الزمن الماضي. وإذا أخبر القرآن بحدث حاضر في غير مكان نزوله على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا خرق لحجاب المكان مثل قول الحق سبحانه:
{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ }[المجادلة: 8].
وحين سمع المنافقون والكفار هذا القول الكريم، لم ينكروا أنهم قالوا في أنفسهم ما جاء به القرآن، وهكذا خرق القرآن حاجز المكان في أنفسهم هم.

إذن: فأخبار الغيب في القرآن إما خَرْقٌ لزمان ماضٍ أو خرق لزمان الحال، وإما خرق الزمان ومكان الاستقبال.
ونحن نعلم أن القرآن كان ينزل والمسلمون ضعاف، لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا أحد يجير على أحد، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ليعرض الإسلام على أهلها، لعلَّه يلتمس لهم مجيراً من أهل الطائف؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم لا يجد إلا الإيذاء والإعراض، ويوصي بعضاً من صحابته أن يهاجروا إلى الحبشة.
وفي ظل كل هذه الأزمات، ينزل قول القرآن:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].
حتى إن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يستاءل: أيُّ جمع هذا الذي يهزم، ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ ثم تأتي غزوة بدر ويشهد عمر هزيمة وفرار مقاتلي قريش؛ فيرى رأي العين صدق ما جاء به الوحي من قبل.
وهكذا تأكد الجميع أن القرآن الكريم غير مُفتريً، فكيف يُتَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه افتراه؟
وإذا كان هذا القرآن مفترىً، فلماذا لا تفترون مثله؟ وفيكم الشعراء والبلغاء والخطباء؟! ولم يقل محمد صلى الله عليه وسلم أنه بليغ أو خطيب أو شاعر، ولم يطلب القرآن الكريم منهم أن يأتوا بواحد مثل محمد صلى الله عليه وسلم، لا صلة له بالبلاغة أو الفصاحة، بل يطلب منهم أن يأتوا بالفصحاء كلهم، ويدعوهم أن يقولوا مثل آية واحدة من القرآن.
وإن قالوا: إن ما جاء به هو السحر، وإن محمداً ساحر قد سحر العبيد والضعاف، وأدخلهم في الإسلام، فلماذا لم يسحركم محمد؟
إن بقاءكم من غير سحر يدل على أن إطلاقكم كلمة السحر على ما جاء به دعوى كاذبة.
ثم يقول الحق سبحانه: } وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ { [يونس: 37].
فالقرآن قد جاء فيه تفصيل كل الأحكام الصالحة إلى قيام الساعة، أما الكتب السابقة على القرآن فكان تضم الأحكام المناسبة لزمانها، ولأمكنة نزولها.
وهو كتاب } لاَ رَيْبَ فِيهِ { أي: لا شك فيه، يكشف الكفار، ويفضح أرتيابهم وكذبهم، فَهُمْ قد اعترفوا بعظمة القرآن وقالوا:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
إذن: فهم قد عرفوا أن القرآن لا عيب فيه، ولا ريب، حتى من الكافرين به.
ويـأتي الرد على قولهم بالافتراء، في قول الحق سبحانه: } أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ {

(/1388)


أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)


وقد سبق هذا المجيء بالتحدي أسبابُ عجزهم عن النجاح في التحدي؛ لأن الآية السابقة تقرر أن الكتب السماوية السابقة تُصَدِّق نزول القرآن الكريم، وبينها وبين القرآن تصديق متبادل.
فهم مهزومون فيه قبل أن ينزل.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [يونس: 38].
وقد جاء التحدي مرة بالكتاب في قول الحق سبحانه:
{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }[الإسراء: 88].
ولم يستطيعوا، فنزلت درجة التحدي؛ وطالبهم أن يأتوا:{ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ }[هود: 13].
فلم يستطيعوا الإتيان بعشر سور، فطالبهم أن يأتوا بسورة تقترب ـ ولو من بعيد ـ من أسلوب القرآن، فلم يستطيعوا{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }[البقرة: 23].
فكيف ـ إذن ـ من بعد كل ذلك يدَّعون أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن، وهو صلى الله عليه وسلم لم تكن له صلة بالأساليب البلاغية أو الفصاحة؟!
لقد دعاكم أن تأتوا بكل الفصحاء والبلغاء ليفتروا، ولو سورة من مثله، ووضع شرطاً فقال: { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ } [يونس: 38].
لأن الله سبحانه وتعالى هو القادر الوحيد على أن يُنزل قرآناً؛ لذلك دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوا الشركاء؛ وذلك حتى لا يقول الكفار وبعضهم من أهل اللجاجة: سندعوا الله؛ ولذلك يأتي القرآن بالاستنثاء { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [يونس: 38]. وهم بطبيعة الحال غير صادقين في هذا التحدي.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ حين يرسل رسولاً إلى قوم؛ ليعلِّمهم منهجه في حركة الحياة، إنما يريد سبحانه أن تؤدي حركة الحياة إلى الغاية المطلوبة من الإنسان الخليفة في الأرض؛ ولذلك يأتي الرسول من جنس المرسل إليهم؛ ليكون أسوة لهم؛ لأن الرسول إن جاء مَلَكاً لما صحَّت الأسوة، بل لا بد أن يكون بشراً.
والحق سبحانه لا يرسل أي رسول إلا ومعه بينة ودليل صدق على أنه رسول يبلِّغ عن الله تعالى.
والبينة لا بد أن تكون من جنس نبوغ القوم، فلا يأتي لهم بمعجزة في شيء لم يعرفوه ولم يألفوه؛ حتى لا يقولوا: لو تعلمنا هذا لجئنا بمثل ما جاء.
وقد جاء القرآن ليثبت عجزهم عما نبغوا فيه من صناعة الكلام؛ شعراً ونثراً وخطابة.
وكان القرآن هو معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم فصحاء يعقدون للشعر أسواقاً، ويعلِّقون الفائز من هذا الشعر على جدران الكعبة شهرة له وشهادة به.
إذن: فهم أصحاب دراية بصناعة الكلام، وجاءت المعجزة مع الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغوا فيه؛ لتتحداهم.

والتحدي يستدعي استجماع قوة الخصم؛ ليرد على هذا المتحدي، فإذا عجز مع التحدي، يصير العجز ملزماً.
وقد تحدى الحق سبحانه العرب جميعاً بالقرآن كله:{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }[الإسراء: 88].
فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، فتدرَّج القرآن معهم في التحدي فطلب منهم ما هو أقل من ذلك، وهو أن يأتوا بعشر سور مثله في قوله تعالى:{ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ }[هود: 13].
ثم تحداهم بالإتيان بمثل سورة من القرآن.
وعند التأمل نجد أن الأسلوب الذي جاء بطلب سورة كان على لونين: فمرة يقول: } بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ { [يونس: 38].
ومرة يقول:{ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }[البقرة: 23].
وكل من اللونين بليغ في موضعه فـ } بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ { [يونس: 38] تبين أن المثلية هنا محققة، أي: مثل ما جاء من سورة القرآن. وقوله:{ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }[البقرة: 23].
أي: سورة من مثل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أنه لم يجلس إلى معلِّم، ولم يقرأ، ولا عُرف عنه أنه تكلم بالبلاغة في أي فترة من مراحل حياته قبل الرسالة.
وقال الحق سبحانه:{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16].
إذن:{ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }[البقرة: 23].
أي: مثل محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يتعلم وكان أمياً، ولكن لماذا يأتي هذا اللون من التحدي؟
لأنهم قالوا عن القرآن:
{ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[الفرقان: 5].
بل واتهموه في قمة غفلتهم أنه يتعلم من رجل كان بمكة، فيلفتهم القرآن إلى أن الرجل ـ الذي قالوا إنه معلم للرسول صلى الله عليه وسلم ـ كان أعجمياً غير عربي، يقول الحق سبحانه:{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103].
ويريد الحق سبحانه أن يصنفهم، فيقول بعد ذلك: } بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ {

(/1389)


بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)


وهذا الصنف من الناس الذين { كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [يونس: 39]، وهم من أخذتهم المفاجأة حين حُدِّثوا بشيء لا يعرفونه، والناس أعداء ما جهلوا؛ فكذبوا ما جاء به رسول الله صلىالله عليه وسلم من القرآن قبل أن يتبينوا جمال الأداء فيه، ونسق القيم العالية، وإذا ما سنحت لهم فرصة يتبينون فيها جمال الأداء، ودقة الإعجاز فهم يتجهون إلى الإيمان.
ومثال ذلك: عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقد كان كافراً ثم علم أن أخته وزوجها قد أسلما؛ فذهب إليها في منزلها وضربها، فأسال دمها، وسيل الدم من أخت بضربة أخيها مثير لعاطفة الحنان، وهذا ما حدث مع عمر؛ فهدأت موجة عناده، فاستقبل القرآن بروح لا عناد فيها؛ فذهب فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من قبل ذلك ممن: { كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39] أي: لم يعرفوا مراميه، وبمجرد أن سمعوا عن رسالته صلى الله عليه وسلم فجأة، اتهموه بالكذب والعياذ بالله.
ولذلك اقرأ قول الحق سبحانه:{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىا إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً }[محمد: 16].
وهذا يدل على أنهم لم يفهموا ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وتأتي الإجابة من الحق سبحانه وتعالى:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى }[فصلت:44].
إذن: فالقرآن هدى لمن تتفتح قلوبهم للإيمان، أما القلوب المليئة بالبغض لقائله وللإسلام؛ فهؤلاء لا يمكن أن يصح حكمهم.
وإن أراد أي منهم حكماً صحيحاً فليُخرجْ من قلبه ما يناقض ما يسمع، ثم عليه أن يستقبل الأمرين؛ ولسوف يدخل قلبه الأقوى حجة، وهو الإسلام.
إذن: فمن امتلأ قلبه بعقيدة كاذبة؛ لا يمكن له أن يهتدي.
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس: 39].
والتأويل هو ما يرجع الشيء إليه، وهذا يوضح لنا أن هناك أقضية من القرآن لم يأت تفسيرها بعد، ستفسرها الأحداث، وقد يقول القرآن الكريم قضية غيبية، ثم يأتي الزمن ليؤكد هذه القضية، هنا نعرف أن تأويلها قد جاء.
وهؤلاء القوم قد كَذَّبوا من قبل أن يأتي لهم التأويل، وكان عدم مجيء التأويل هو السبب في تأخر بيان الحق في المسألة لتأخر زمنه.
وعلى سبيل المثال، ها هو ذا عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قامت المعركة بين معاوية بن أبي سفيان والإمام علي ـ رضي الله عنه ـ وَقاتَلَ عمَّار في صف عليّ، وقُتِل. هنا تنبه الصحابة إلى تأويل حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:

" ويح عمار.. تقتله الفئة الباغية ".
وهكذا جاء تأويل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تحقق في الواقع، وكان هذا سبباً في انصراف بعض الصحابة عن جيش معاوية.
وهنا يقول الحق سبحانه: } وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ { [يونس: 39],
أي: أن التأويل لم يظهر لهم بعد.
ومن أدوات النفي: " لم " مثل قولنا: " لم يَجيءْ فلان " ، ونقول أيضاً: " لما يجيء فلان " ، والنفي في الأولى جزم غير متصل بالحاضر، كأنه لم يأت بالأمس.
أما النفي بـ " لما " فيعني أن المجيء مُنْتف إلى ساعة الكلام، أي: الحاضر، وقد يأتي من بعد ذلك؛ لأن " لما " تفيد النفي، وتفيد توقُّع الإثبات.
والحق سبحانه يقول:{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا }[الحجرات: 14].
وهؤلاء القوم من الأعراب قالوا: } آمَنَّا { رغم أنهم راءوا المسلمين وقلدوهم زيفاً ونفاقاً، ولم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بعد، وحين سمعوا قول الحق سبحانه:{ وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات: 14].
قالوا: الحمد لله؛ لأن معنى ذلك أن الإيمان سوف يدخل قلوبهم.
وكذلك قول الحق سبحانه:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ }[آل عمران: 142].
فحين سمعوا ذلك قالوا: إذن: وثقنا أنه سيأتي علم الله سبحانه بنا كمجاهدين وصابرين.
وهكذا نعرف أن } لَمَّا { تعني أن المنفي بها متوقع الحدوث. والتأويل كما نعلم هو مرجع الشيء.
وقد جاء في القرآن الكثير من الأخبار لم تكن وقت ذكرها بالقرآن متوقعة، أو مظنة أن توجد. وحين وُجدت ولا دخل لبشر في وجودها، فهذا يعني أن قائل هذا الكلام قد أخذه عَمَّن يقدر على أن يوجد، مثلما جاء في خبر انتصار الروم على الفرس رغم هزيمة الروم.
قال الحق سبحانه:
{ غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ }[الروم: 2ـ5].
جاء هذا الخبر وانتظر المسلمون تأويله، وقد جاء تأويله طبقاً لما أخبر القرآن.
أو أن التأويل سيأتي في الآخرة، وما يؤول الأمر في التكذيب سيعلمونه من بعد ذلك.
والحق سبحانه يقول:{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىا عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ }[الأعراف: 52ـ 53].
هم ينتظرون ما يؤول إليه القرآن وما يؤولون إليه، إن كان في الدنيا فنصر أهل القرآن، وإن كان في الآخرة، فهذا قول الحق سبحانه:
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }[الأعراف: 53].
هذا هو التأويل الذي كذَّبه البعض من قبل.

إذن: فالتأويل:إما أن يكون لمن بقي من الكفار فيرى ما أخبره به القرآن وقد جاء على وفق ما أخبر به نبيٌّ لا يملك أن يتحكم في مصائر الأشياء، وتأتي على وفق ما قال.
فكأن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يجازف بأن يقول كلاماً لا يتحقق؛ فينصرف عنه الذين آمنوا به، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا ما هو واثق ومطمئن من وقوعه؛ لأن الخبر به جاء من لدن عليم خبير.
وإما أن التأويل ـ أيضاً ـ يأتي في الآخرة.
وهنا قال الحق سبحانه: } بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ { [يونس: 39].
والحق سبحانه هنا يلفت رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن ما حدث معه قد حدث مع رسل من قبله، فقال سبحانه في نفس الآية: } كَذَالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ { [يونس: 39].
أي: انظر لموكب الرسل كلهم من بدء إرسال الرسل، هل أرسل الله رسولا ونصر الكافرين به عليه؟.. لا، لقد كانت الغلبة دائماً لرسل الحق عز وجل مصداقاً لقوله سبحانه:{ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي }[المجادلة: 21].
وعرفنا ما حدث للظالمين، فمنهم من أغرقه الله، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أخذه بالصيحة.
إذن: فالتأويل واضح في كل مواكب الرسل التي سبقت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا كان كل قوم من الظالمين قد نالوا ما يناسب رسالة رسولهم، فسينال القوم الظالمين الكافرين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ما يناسب عمومية رسالته صلى الله عليه وسلم.
وحين يقول الحق سبحانه: } فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ { [يونس: 39] لا بد لنا أن نعرف معنى الظلم، إنه نقل الحق لغير صاحبه، والحقوق تختلف في مكانتها، فهناك حق أعلى، وحق أوسط،وحق أدنى.
فإذا جئت للحق الأدنى في أن تنقل الألوهية لغير الله سبحانه وتعالى فهذا قمة الظلم، والحق سبحانه يقول:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
لأن في هذا نقل الألوهية من الله سبحانه إلى غيره، ويا ليت غيره كان صاحب دعوة بينه وبين الله تعالى، لا، فليس ذلك المنقول له الألوهية بصاحب دعوة، بل تطوَّع الظالم من نفسه بذلك، واتخذ من دون الله شريكاً لله، وفي هذا تطوع بالظلم بغير مُدَّع.
وهَبْ أن الله تعالى قال: لا إله إلا أنا، فإما أن القضية صحيحة، وإما أنها غير ذلك، فإن افترض أحد ـ معاذ الله ـ عدم صحتها، فالإله الثاني كان يجب أن يعلن عن نفسه، ولا يترك غيره يسمع له ويعلن عنه، وإلا كان إلهاً أصمَّ غافلاً، ولكن أحداً لم يعلن ألوهيته غير الله سبحانه،؛ لذلك تثبت الألوهية الواحدة للإله الحق سبحانه وتعالى.

وقد بيَّن لنا الحق سبحانه: لا إله إلا أنا، أنا الخالق، أنا الرازق. ولم يصدر عن أحد آخر دعوى بأنه صاحب تلك الأعمال، إذن: فقد صَحَّت الدعوى في أنه لا إله إلا الله.
والدرجة التالية في الظلم هي الظلم في الأحكام، فإذا حكم أحد بحلِّ الربا فهذا ظلم في قضية كبيرة، ولكن إن حكم قاض على مدين بأن يردَّ الدَّين فقط فهذا عدل؛ وكذلك القاضي الذي يظلم في أحكامه إنما ينقل حقوق الناس إلى غيرهم.
إذن: فالظلم يأخذ درجات حسب الشيء الذي وقع فيه الظلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ {

(/1390)


وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)


والكلام هنا في الذين كذَّبوا، فكيف يقسِّم الله المكذبين ـ وهم بتكذيبهم لا يؤمنون ـ إلى قسمين: قسم يؤمن، وقسم لا يؤمن؟
ونحن نعلم أن الإيمان عمل قلوب، لا عمل حواس، فنحن لا نطَّلع على القلوب، والحق سبحانه يعلم مَنْ مِنْ هؤلاء المكذبين يخفي إيمانه في قلبه.
إذن: فمن هؤلاء من يقول بالتكذيب بلسانه ويخفي الإيمان في قلبه، ومنهم من يوافق تكذيبه بلسانه فراغُ قبله من الإيمان، ومن الذين قالوا: إن هذا القرآن افتراء إنما يؤمن بقلبه أن محمداً رسول من الله، وصادق في البلاغ عن الله، ولكن العناد والمكابرة والحقد يدفعونه إلى أن يعلن عدم الإيمان.
وكذلك منهم قسم آخر لا يؤمن ويعلن ذلك.
إذن: فالمقسم ليس هو الإيمان الصادر عن القلب والمعبِّر عنه باللسان، ولكن المُقسِّم هو إيمان بالقلب غير مُعبَّر عنه، ولم يصل إلى مرتبة الإقرار باللسان.
والذي جعل إيمان بعضهم محصوراً في القلب غير مُعبَّر عنه باللسان هو الحقد والحسد والكراهية وعدم القدرة على حكم النفس على مطلوب المنهج.
وبعض العرب حين أعلن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ فيضمن لهم السيادة على الدنيا كلها. ورفضوا أن يقولوا الكلمة؛ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تقال: بل فهموا مضمون ومطلوب الكلمة، وعرفوا أن " لا إله إلا الله " تعني: المساواة بين البشر، وهم يكرهون ألاَّ تكون لهم السيادة والسيطرة في أقوامهم.
وهذا يدل أيضاً على أن الحق سبحانه قد شاء أن يبدأ الإسلام في مكة، حيث الأمة التي تعلن رأيها واضحاً؛ ولذلك نجد أن النفاق لم ينشأ إلا في " المدينة " ، أما في مكة، فهم قوم منسجمون مع أنفسهم، فهم حين أعلنوا الكفر لم يعانوا من تشتت المَلَكَات، لكن المنافقين في المدينة وغيرها هم الذين كانوا يعانون من تشتت الملكات، ومنهم من كان يلعب على الطرفين، فيقول بلسانه ما ليس في قلبه.
ولذلك يُعزِّي الحق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ويُسََرِّى عنه وبين له: إياك أن تحزن لأنهم يكذبونك؛ لأنك محبوب عندهم وموقَّر، فيقول الحق سبحانه:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ }[الأنعام: 33].
أي: أنك يا محمد مُنزَّه عن الكذب؟
ويقول الحق سبحانه:{ وَلَـاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }[الأنعام: 33].
أي: أنه سبحانه يحملها عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحق سبحانه يعلم أن رسوله أمين عند قومه، وهم في أثناء معركتهم معه، نجد الواحد منهم يستأمنه على أشيائه النفيسة.
والذين آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم ولم يعلنوا إيمانهم، والذين لم يؤمنوا، هؤلاء وأولئك أمرهم موكول إلى الله تعالى؛ ليلقوا حسابهم عند الخالق سبحانه؛ لأنه سبحانه الأعلم بمن كذَّب عناداً، ومن كذَّب إنكاراً.

والحق سبحانه هو الذي يُعذِّب ويُعاقِب، وكل إنسان منهم سوف يأخذ على قَدْر منزلته من الفساد؛ لذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: } وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ { [يونس: 40].
والمفسد كما نعلم هو الذي يأتي إلى الشيء الصالح فيصيبه بالعطب؛ لأن العالَم مخلوقٌ قبل تدخُّل الإنسان ـ على هيئة صالحة، وصنعة الله سبحانه وتعالى ـ لم يدخل فيها الفساد إلا بفعل الإنسان المختار، وصنعة الله تؤدي مهمتها كما ينبغي لها.
وأنت أيها الإنسان إن أردت أن يستقيم لك كل أمر في الوجود، فانظر إلى الكون الأعلى الذي لا دخل لك فيه، وستجد كل ما فيه مستقيماً مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ }[الرحمن: 7ـ9].
أي: أتقِنوا أداء مسئولية ما في أيديكم وأحسنوه كما أحسن الله سبحانه ما خلق لكم بعيداً عن أياديكم، والمطلوب من الإنسان ـ إذن ـ أن يترك الصالح على صلاحه، إن لم يستطع أن يزيده صلاحاً؛ حتى لا يدخل في دائرة المفسدين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ {

(/1391)


وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)


وهذه آية تضع الاطمئنان في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَقُل الله سبحانه: " إذا كذَّبوك " بل قال: { إِن كَذَّبُوكَ } [يونس: 41] وشاء الحق سبحانه أن يأتي بالتكذيب في مقام الشك، وأتبع ذلك بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: { فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } [يونس: 41] أي: أبْلِغْهم: أنا لا أريد أن أحْمِلكم على ما أعمل أنا، إنما أريد لكم الخير في أن تعملوا الخير، فإن لم تعملوا الخير؛ فهذا لن يؤثر في حصيلتي من عملي.
وبذلك يتضح لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُجازَى على عدد المؤمنين به، بل بأداء البلاغ كما شاءه الله سبحانه.
وقد شاء الحق سبحانه أن ينقل محمد صلى الله عليه وسلم الخير إلى أمته، فإن ظلوا على الشر؛ فهذا الشر لن يناله لأن خير البلاغ بالمنهج يعطيه صلى الله عليه وسلم خيراً، لأنه يطبِّقه على نفسه، وشر الذين لا يتبعونه إنما يعود عليهم؛ لأن الذين يتأبون على الاستجابة لأي داعٍ إنما يظنون أن الداعي سوف يستفيد.
والبلاغ عن الله، إنما يطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم منهجاً وسلوكاً ويُجازَى عليه.
فلا يجوز الخلط في تلك المسائل { لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } [يونس: 41].
ثم يقول الحق سبحانه على لسان رسول صلى الله عليه وسلم: { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس: 41].
وكلمة { بَرِيءٌ } تفيد أن هناك ذنباً، وهذا القول الحق فيه مجاراة للخصوم، وشاء الحق سبحانه أن يُعلِّم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أدب الحوار والمناقشة، فيقول:{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىا هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 24].
أي: أننا ـ الرسول ومعه المؤمنون ـ وأنتم أيها الكافرون إما على هدى، أو في ضلال. والرسول صلى الله عليه وسلم موقن أنه على هدى وأن الكافرين على الضلال، ولكنه يجاريهم؛ عدالة منه صلى الله عليه وسلم ومجاراة لهم.
كذلك يعلِّمه ربه سبحانه أن يقول:{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا }[سبأ: 25].
أي: أنه يبين لهم: هَبُوا أنِّي أجرمتُ فأنتم لن تُسألوا عن إجرامي، ومن أدب الرسول صلى الله عليه وسلم شاء له الحق سبحانه أن يقول:{ وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[سبأ: 25].
ولم يقل: " ولا نُسأل عما تُجرمون ". وكذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس: 41].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ }

(/1392)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)


وكلمة " مَنْ " تطلق وقد يراد بها المفرد، وقد يراد بها المفردة، وقد يراد بها المثنى، وقد يراد بها الجمع، ومرة يطابق اللفظ فيقول سبحانه:{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ }[الأنعام: 25].
ومرة يقصد المعنى فيقول: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } [يونس: 42].
لأن { مَّن } صالحة للموقعين.
والسماع كما نعلم هو استقبال الأذن للصوت، فإن كان صوتاً مُبْهماً كأصوات الحيوانات أو أصوات الأعواد، فهذه الأصوات لا تفيد إلا ما تفيده النغمة في الجسم من هزة أو ارتجاج.
وإما أن يكون الصوت له معنى تواضُعيٌّ، كاللغات المختلفة التي يتخاطب بها الناس في البلدان المختلفة، فإن تكلمتَ بالإنجليزية في بلد يتكلم أهله بهذه اللغة فهموك وفهمت عنهم. هذا هو معنى التواضع في اللغة، أي: أن المتكلم والسامع على درجة. واحدة من الاتفاق على اللغة.
والنبي صلى الله عليه وسلم عربي يتحدث بلسان عربي مبين لقوم من العرب، فما العائق عن السمع إذن؟
إن العائق عن السمع نفض الأذن لما يأتي من جهة الخصم، والسماع ـ كما نعلم ـ هو استشراف المخاطب إلى ما يفهم من المتكلم، فإن لم يوجد عند المخاطب استشراف إلى أن يسمع، فالكلام يُقال ولا يصل.
إذن: لا بد للسامع من حالة الاستشراف إلى فهم ما يقوله المتكلم. وكما يقول المثل: " إذن من طين وأخرى من عجين ". أو كما تقول المزحة أن واحداً مال على أذن صديق له وقال: " أريد أن أقول لك سِراً " فاقترب الصديق مستشرفاً سماع السر، فقال الرجل: " أريد مائة جنيه كقرض "؛ فقال الصديق: " كأني لم أسمع هذا السر ".
إذن: فالكلام ليس مجرد صوت يصل إلى الأذن، لكن لا بد من استشراف نفسي للتقلي. وهم لا يملكون هذا الاستشراف؛ لذلك قال الحق سبحانه: { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ } [يونس: 42] أي: كان سمعهم لا يسمع.
ومثال ذلك: أننا نجد المدرس الذي يشرح الدرس للتلاميذ، وبين التلاميذ من يستشرف السمع؛ ولذلك يفهم الدرس، أما الذي لا يستشرف فكأنه لم يسمع الدرس.
وهم قد فاتوا الصُّمَّ؛ لأن الأصم قد يفهم بالحركة او الإشارة أو لغة العين، ولكن هؤلاء لا يسمعون ولا يعقلون { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } [يونس: 42].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ }

(/1393)


وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)


والرؤى أيضاً تحتاج إلى استشراف، وأن يُقْبِل المرء على ما يريد أن يراه، وأحياناً لا يكون الرائي مستشرفاً؛ لأن قلبه غير متجه للرؤية.
وسئُل واحد: إنك تقول: من رأى فلاناً الصالح يَهْده الله. فردَّ عليه السامع متسائلاً: كيف تقول ذلك؟! فردَّ القائل: لقد رأى أبو جهل خيراً من هذا، ومع ذلك ظل كافراً. فردَّ السامع: إن أبا جهل لم يَرَ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه رأى يتيم أبي طالب.
وهكذا شرح الرجل أن أبا جهل لم ينظر إلى محمد صلى الله عليه وسلم على أنه رسول؛ لأنه لو نظر إليه بهذا الإدراك لتسللت إليه سكينة الإيمان وهَيبة الخشوع وجلال الورع.
ونحن قد نلقى رجلاً صالحاً في بشرته أدْمة أو سواد، وصلاحه يضيء حوله، وله أسْر من التقوى، وجاذبية الورع.
ولو أن أبا جهل رأى محمداً صلى الله عليه وسلم على أنه رسول لتغيَّر أمره.
وها هو " " فضالة " يحكى عن لحظة أراد فيها أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما اقترب منه؛ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا كنت تحدِّث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: استغفِر الله، ثم وضع يده على صدر فضالة ".
وساعة سمع فضالة هذا، ورأى محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يقول ذلك القول، قال: ما كان أبغض إليَّ من وجهه، ولكني أقبلت عليه فما كان أحَبَّ إليَّ في الأرض كلها من وجهه.
هذا هو السماع، وهذا هو البصر، وكلاهما ـ السمع والبصر ـ أكرم المتعلقات وأشرفها؛ لأن السمع هو وسيلة الاستماع لبلاغ الله عنه، والإنسان قبل أن يقرأ لا بد له من أن يكون قد سمع.
والمقصود هنا بالعمى في قول الحق سبحانه: { أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } [يونس:43] هو عمى البصيرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً }

(/1394)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)


كلمة " الله " هي اسم عَلَمٍ على واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال التي عرفناها في أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين، وإن كان لله تعالى كمالات لا تتناهى؛ لأن الأسماء أو الصفات التي يحملها التسعة والتسعون اسماً لا تكفي كل كمالات الله سبحانه، فكمالاته سبحانه لا تتناهى.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أسألك بكل اسم سمَّيت به نفسك، أو علَّمته أحداً من خَلْقك، أو استأثرت به في علّم الغيب عندك ".
وإن سأل سائل: ولماذا يستأثر الله سبحانه ببعض من أسمائه في علم الغيب؟
أقول: حتى يجعل لنا الله سبحانه في الآخرة مزيداً من الكمالات التي لم نكن نعرفها؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يفتح على رسوله صلى الله عليه وسلم " من محامده وحُسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبله ".
وهذا بعض من فيض لا ينفد من آفاق اسم عَلَمٍ على واجب الوجود، وصفات علم واجب الوجود، والتسعة والتسعون اسماً التي نعلمها هي اللازمة لحياتنا الدنيا، ولكننا سنجد في الآخرة صفات كمال أخرى، وكلمة " الله " هي الجامعة لكل هذه الأسماء، ما عرفناها؛ وما لم نعرفها.
والإنسان منا حين يُقبل على عمل، فهذا العمل يتطلب تكاتُفَ صفات متعددة، يحتاج إلى قدرة، وعلم، وحكمة، ولُطْف، ورحمة، وغير ذلك من الصفات، فإن قلت: باسم القويّ؛ فأنت تحتاج إلى القوة، وإن قلت باسم القادر؛ فأنت تحتاج إلى القدرة، وإن قلت: باسم الحليم؛ فأنت تحتاج إلى الحِلْم، وإن قلت: باسم الحكيم؛ فأنت تحتاج إلى الحكمة، وإن قلت: " باسم الله " فهي تكفيك في كل هذا وغيره أيضاً؛ ولذلك يكون بدء الأعمال بـ " بسم الله " ، فإذا احتجت إلى قدرة وجدتها، وإن احتجت إلى غِنَىً وجدته، وإن احتجت إلى بَسْطٍ وجدته.
وكل صفات الكمال أوجزها الحق سبحانه لنا في أن نقول: " بسم الله ". وحين تبدأ عملك باسم الله؛ فأنت تُقِرُّ بأن كل حَوْلٍ لك موهوب من الله، والأشياء التي تنفعل لك، إنما تنفعل باسم الله، وكل شيء إنما يسخر لك باسم الله، وهو القائل:
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }[يس: 71ـ72]ٍ.
ولو لم يذلِّل الله لنا الأنعام والأشياء لتنفعل لنا ما استطعنا أن نملكها، بدليل أن الله تعالى قد ترك أشياء لم يذللها لنا حتى نتعلَّم أننا لا نستطيع ذلك، لا بعلْمنا، ولا بقُدْرتنا، إنما الحق سبحانه هو الذي يُذلِّل.
فأنت ترى الطفل في الريف وهو يسحب الجمل، ويأمره بالرقود؛ فيرقد، ويأمره بالقيام؛ فيقوم.

أما إن رأينا ثعباناً فالكثير منا يجري ليهرب، ولا يواجهه إلا من له دُرْبة على قتله. والبرغوث الصغير الضئيل قد يأتي ليلدغك ليلاً، فلا تعرف كيف تصطاده؛ لأن الله لم يذلِّله لك.
وكذلك الثمرة على الشجرة إذا قطفتها قبل نضجها تكون غير مستساغة، أما إن قطفتها بعد نضجها فأنت تستمتع بطعمها، ثم تأخذ منها البذرة لتعيد زراعتها، وتضمن بقاء النوع، بل إن الثمرة تسقط من على الشجرة حين تنضج وكأنها تنادي من يأكلها.
وكذلك الإنسان حين يبلغ، أي: يصبح قادراً على أن ينجب غيره، فيكلّفه الله بعد ذلك بالتكاليف الإيمانية؛ لأنه لو كلَّفه قبل ذلك ثم طرأتْ عليه مشاكل المراهقة؛ فقد لا يستطيع أن يتحمل التكليف.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يخلق من عدم، وأن يربِّى حتى يكتمل الإنسان، ثم حدَّد التكليف من لحظة البلوغ، ووضع شرط اكتمال العقل والرشد، وألا توجد آفة أو جنون.
ولا أقوى من الله سبحانه يمكن أن يُكلِّف لتفعل غير ما يريد الله؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يكتمل للإنسان الرشد ساعة التكليف، أم المجنون فلم يكلفه الله سبحانه، وكذلك يسقط التكليف عن المُكْرَه؛ لأن التكليف في مضمونه هو اختيار بين البدائل، وهذه منتهى العدالة في التشريع.
وأنت حين تستقبل التكليف عليك ألا تنظر إلى ما تأخذه منك العبادات، لأنها لا تأخذ من حريتك، بل تحترم أنت حرية الآخرين، ويحترمون هم حريتك، فإن حرَّم عليك أن تسرق، فهو سبحانه قد حماك بأن حرَّم على جميع الخلق أن يسرقوا منك.
إذن: فالقيد قد جاء لصالحك.
وهَبْ أنك أطلقت يدك في الناس، فماذا تصنع لو أطلقوا هم أياديهم فيما تملك؟
وحين حرَّم عليك التكليف أن تنظر إلى محارم غيرك، فهو قد حرم على الغير أن ينظروا إلى محارمك.
وحين أمرك أن تزكِّي، فهو قد أخذ منك؛ ليعطي الفقير من المال الذي استخلفك الله فيه.
فلا تنظر إلى ما أخذ منك، بل انظر إلى ما قد يعود عليك إن أصابك القدر بالفقر، والشيء الذي تستشعر أنه يؤخذ منك فالله سبحانه يعطيك الثواب أضعافاً كثيرة.
وبعد ذلك انظر إلى حركة الحياة، وانظرْ إلى ما حَرَّم الله تعالى عليك من أشياء، وما حلَّل لك غير ذلك؛ فستجد المباح لك أكثر مما منعك عنه.
إذن: فالتكليف لصالحك.
ثم بعد كل ذلك: أيعود شيء مما تصنع من تكاليف عل الحق سبحانه؟ لا.
أيعطيه صفة غير موجودة؟
لا؛ لأن الحق سبحانه قد خلقنا بكل صفات كماله، وليس في عملنا ما يزيده شيئاً.
إذن: فمن المصلحة أن تطبّق التكاليف لأنها تعود عليك أنت بالخير.
وانظر ـ مثلاً ـ إلى الفلاح في الحقل، إنه يحرث الأرض، وينقل السماد، ويبذر، ويروى ويتعب، وبعد ذلك يستريح في انتظار الثمار.

وأنت حين تنفِّذ تكاليف الحق سبحانه فأنت تجد العائد، وأنت ترى في حياتك أن الفلاح الكسول يصاب بحسرة يوم الحصاد، فما بالنا بحساب الآخرة.
والفلاح الذي يأخذ من مخزنة إردبّاً؛ ليزرعه، وهو في هذه الحالة لا ينقص مخزنه؛ لأنه سيعود بعد فترة بخسمة عشر إردبّاً.
وهكذا من ينفِّذ التكاليف يعود عليه كل خير؛ ولذلك أقول: انظر في استقبالات منهج الله تعالى فيما تعطيه، لا فيما تأخذه.
وهكذا ترى أنه لا ظلم؛ لأننا صنعة الله، فهل رأيتم صانعاً يفسد صنعته؟
إذن: فالصانع الأعلى لا يظلم صنعته ولا يفسدها أبداً، بل يُحسِّنها ويعطيها الجمال والرونق؛ لذلك يقول الحق سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { [يونس: 44].
أي: أن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، ومن الظلم جَحْد الحق، وهذا هو الظلم الأعلى، ومن الظلم أن يعطى الإنسان نفسه شهوة عاجلة؛ ليذوق من بعد ذلك عذاباً آجلاً، وهو بذلك يحرم نفسه من النعيم المقيم، وهو حين يظلم نفسه يكون قد افتقد القدرة على قياس عمره في الدنيا، فالعمر مهما طال قصير، وما دام الشيء له نهاية فهو قصير.
والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب الناس، فهو قد نصب لهم آيات باقية إلى أن تقوم الساعة، وكلهم شركاء فيها، وهي الآيات الكونية، وبعد ذلك خَصَّ كل رسول بآية ومعجزة، وأنزل منهجاً بـ " افعل " و " لا تفعل " ، وبيَّن في آيات الكتاب ما المطلوب فعله، وما المطلوب أن نمتنع عنه، وترك لك بقية الأمور مباحة.
والمثال الذي أضربه دائماً: هو التلميذ الذي يرسب آخر العام، هذا التلميذ لم تظلمه المدرسة، بدليل أن غيره قد نجح؛ لذلك لا يصح أن يقال: إن المدرسة أسقطت فلاناً، ولكن الصحيح أن نقول: إن فلاناً قد أسقط نفسه، وأن زميله قد أنجح نفسه، ودور المدرسة في ذلك هو إعلان النتيجة.
ومن الظلم أيضاً أن يستكثر الظالم نعمة عند المظلوم، فيريد أن يأخذها منه، ولا يمكن أن يكون الحق سبحانه وتعالى ظالماً يستكثر نِعَم عباده؛ لأنه مُنزَّه عن ذلك؛ فضلاً عن أن خَلْقه ليس عندهم نِعَم يريدها هو، فهو الذي أعطاها لهم؛ ولذلك لا يأتي منه سبحانه أي ظلم، وإنْ جاء الظلم فهو من الإنسان لنفسه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً {

(/1395)


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)


فهذه الدنيا التي يتلهف عليها الإنسان، ويأخذ حظه فيها، وقد ينسى الآخرة، فإذا ما قامت القيامة فأنت تشعر كأنك لم تمكث في الدنيا إلا ساعة، والساعة هي الساعة الجامعة التي تقوم فيها القيامة، ولكن الساعة في الدنيا هي جزء من الوقت، ونحن نعلم أن اليوم مقسَّم لأربع وعشرين ساعة، وأيضاً تُطلق الساعة على تلك الآلة التي تُعلَّق على الحائط أو يضعها الإنسان على يده، وهي تشير إلى التوقيت.
والتوقيت ثابت ـ بمقدار الساعة والدقيقة والثانية ـ منذ آدم عليه السلام وإلى من سوف يأتون بعدنا، ولكن التوقيت يختلف من مكان إلى آخر، فتشير الساعة في القاهرة ـ مثلاً ـ إلى الثانية ظهراً، وتكون في نيويورك السابعة صباحاً، وتشير في بلد آخر إلى الثالثة بعد منتصف الليل، ولا تتوحد الساعة بالنسبة لكل الخلق إلا يوم القيامة.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ }[الروم: 55].
وهم ـ إذن ـ يُفاجَأون أن دنياهم الطويلة والعريضة كلها مرَّتْ وكأنها مجرد ساعة، وهكذا يكتشفون قِصَر ما عاشوا من وقت، ولا يقصتر الأمر على ذلك، بل إنهم لم ينتفعوا بها أيضاً فهي مدة من الزمن لم تكن لها قيمة.
والحق سبحانه يقول:
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ }[الأحقاف: 35].
أي: أن الدنيا تمر عليهم في لهو ولعب ومشاغل، ولم يأخذوا الحياة بالجد اللائق بها؛ فضاعت منهم وكأنها ساعة.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ } [يونس: 45].
ويوم الحشر ينقسم الناس قسمين: قسم مَنْ كانوا يتعارفون على البر، وقسم مَنْ كانوا يتعارفون على الإثم، فالذين تعارفوا في الحياة الدنيا على البر يفرحون ببعضهم البعض، وأما الذين تعارفوا في الحياة الدنيا علىالإثم فهم يتنافرون بالعداء، والحق سبحانه هو القائل:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67].
وكذلك قال في الذين تعارفوا على الإثم:
{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ }[البقرة: 166].
هم سيتعارفون على بعضهم البعض، ولكن هذه المعرفة لا تدوم، بل تنقلب إلى نكران، فالواحد منهم لا يريد أن يرى مَنْ كان سبباً في أن يؤول إلى هذا المصير، وتعارفهم سيكون تعارف تعنيف.
ويقول الحق سبحانه:
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ } [يونس: 45].
وساعة تسمع كلمة " خسر " فاعرف أن الأمر يتعلق بتجارة ما، والخسارة تعنى: أن يفقد الإنسان المتاجر إما جزءاً من رأس المال، أو رأس المال كله.
ومراحل التجارة ـ كما نعرف ـ إما كسب يزيد رأس المال المتاجَر فيه، وإما الاَّ يكسب التاجر ولا يخسر؛ لكنه يشعر بأن ثمن عمله ووقته في هذه التجارة قد ضاع، وكل ذلك يحدث في الصفقات.

ونجد الحق سبحانه وتعالى يصف العملية الإيمانية في الدنيا بقوله:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىا تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }[الصف: 10ـ11].
ويقول سبحانه:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ }[فاطر: 29].
والتجارة تعتمد على أنك لا تُقبل على عقد صفقة إلا إذا غلب على ظنك أن هذه الصفقة سوف تأتي لك بأكثر مما دفعت فيها.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصفقات الخاسرة:
{ أُوْلَـائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَىا فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }[البقرة: 16].
ويقول أيضاً:
{ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً }[الجمعة: 11].
وشاء الحق سبحانه أن يجعل معنى التجارة واضحاً ومعبِّراً عن كثير من المواقف؛ لأن التجارة تمثِّل جماع كل حركة الحياة؛ فهذا يتحرك في ميدان؛ لينفع نفسه، وينفع غيره، وغيره يعمل في ميدان آخر؛ فينفع نفسه، وينفع غيره.
وبهذا يتحقق نفع الإنسان من حركة نفسه وحركة غيره، وهو يستفيد من حركة غيره أكثر مما يستفيد من حركته هو، ومن مصلحة أي إنسان أن يحسِّن كل إنسان حركته؛ فيرتاح هو؛ لأن ما سوف يصل إليه من حركة الناس سيكون جيد الإتقان.
والتجارة تحمل أيضاً الوساطة بين المنتج والمستهلك.
ولذلك حين أراد الله سبحانه أن نستجيب لأذان الجمعة قال:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }[الجمعة: 9].
ولم يقل الله سبحانه: اتركوا الزراعة أو اتركوا الصناعة، أو اتركوا التدريس، بل اختار من كل حركات الحياة حركة البيع؛ لأن فيه تجارة، والتجارة هي الجامعة لكل حركات الحياة.
والتاجر وسيط بين منتج ومستهلك وتقتضي التجارة شراءً وبيعاً، والشراء يدفع فيه التاجر ثمناً، أما في البيع فهو يأخذ الثمن، والغاية من كل شيء أن يتموَّل الإنسان.
لذلك فالبيع أفضل عند التاجر من الشراء، فأنت تشتري شيئاً وأنت كاره له، لاحتياجك إليه، ولكنك عند بيع البضاعة تشعر بالسعادة والإشراق، ولأن الشراء فيه أخذ، والبيع فيه عطاء، والعطاء يرضي النفس دائماً؛ لأن ثمرة الصفقة تأتيك في لحظتها.
وإن كنت مزارعاً فأنت تُعِدّ الأرض ، وتحرثها، وتبذر البذور، وترويها، وتُشَذِّب النبات، وتنتظر إلى أن ينضج الزرع، وكذلك تقضي الكثير من الوقت في إتقان الصنعة إن كنت صانعاً، لكن البيع في التجارة ياتي لك بالكسب سريعاً، فكأن ضَرْبَ المثل في التجارة، جاء من أصول التجارة بالبيع ولم يأت بالشراء.
إذن: لا بد أن نعتبر أن دخولك في صفقة الإيمان تجارة، تأخذ منها أكثر من رأسمالك، وتربح، أما إن تركت بعضاً من الدِّين؛ فأنت تخسر بمقدار ما تركت، بل وأضعاف ما تركت.

وأنت في أية صفقة قد تعوِّض ما خسرت فيما بعد، وإن استمرت الخسارة فإن أثرها لا يتجاوز الدنيا، ويمكن أن تربح بعدها، وإذا لم تربح، فسيضيع عليك تعبك فقط؛ ولأن الدنيا محدودة الزمن؛ فخسارتها محتملة، أما الخسارة في الزمان غير الموقوت ـ الزمن الدائم ـ فهي خساة كبيرة؛ لأن الآخرة ليس فيها أغيار كالدنيا، وأنت في الآخرة:إما في جنة ذات نعيم مقيم، وفي هذا ربح وكسب كبير، وإما إلى نار، وهذه هي الخسارة الحقيقة.
والخسران الحقيقي أن يكذِّب الإنسان، لا بنعيم الله فقط، ولكن بلقاء الله أيضاً.
يقول الحق سبحانه:
} قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ { [يونس: 45].
أي: أن الله سبحانه لم يكن في بالهم، وهو حين تقوم الساعة يجدون الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمامهم.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً }[النور: 39].
والسراب كما نعلم يراه السائر في الصحراء، وهو عبارة عن انعكاس للضوء؛ فيظن أن أمامه ماء، ولكن إن سار إليه الإنسان لم يجده ماء، وهكذا شبَّه الحق سبحانه عمل الكافر بمن يسير في صحراء شاسعة، ويرى السراب؛ فيظنه ماءً، لكنه سراب، ما إن يصل إليه حتى ينطبق عليه قول الحق سبحانه:
{ حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ }[النور: 39].
أي: أنه يُفاجأ بوجود الله سبحانه وتعالى، فيوفيه الله حسابه.
ولذلك فالذي يكفر بالله ويعمل ما يفيد البشر، فإنه يأخذ حسابه ممن عمل له، ولا يُحسب له ذلك في الآخرة، وتجد الناس يُكرّمونه، ويقيمون له التماثيل أو يمنحونه الجوائز وينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" فعلتَ ليقال، وقد قيل ".
وهنا يقول الحق سبحانه عن الذين كَذّبوا بلقاء الله تعالى:
} وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ { [يونس: 45].
أي: لم يكونوا سائرين على المنهج الذي وضعه لهم خالقهم سبحانه؛ هذا المنهج الذي يمثِّل قانون الصيانة لصنعة الله تعالى، وقد خلق الله سبحانه الإنسان لمهمة، والله سبحانه يصون الإنسان بالمنهج من أجل أن يؤدي هذه المهمة.
والهداية هي الطريق الذي إن سار فيه الإنسان فهو يؤدي به إلى تحقيق المهمة المطلوبة منه؛ لأن الحق سبحانه قد جعله الخليفة في الأرض.
ومن لا يؤمن برب المنهج سبحانه وتعالى ولا يطبق المنهج فهو إلى الخسران المبين، أي: الخسران المحيط.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ {

(/1396)


وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)


وقول الحق سبحانه: { وَإِمَّا } مكونة من " إن " و " ما " مدغومتين، وهنا يبين لنا الحق سبحانه أنه يعد الذين كذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالعذاب والهوان والعقاب والفضيحة.
أي: يا محمد، إما أن ترى ما قلناه فيهم من خذلان وهوان، وإما أن نتوفينَّك قبل أن ترى هذا في الدنيا، ولكنك ستراه في الآخرة حين تشاهدهم في الهوان الأبدي الذي يصيبهم في اليوم الآخر.
وفي هذا تسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول الحق سبحانه:
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } [يونس: 46] أي: أن نريك ما وعدناهم من الخذلان والهوان في هذه الحياة، وإن لم تره في الحياة الدنيا فلسوف ترى هوانهم في الآخرة، حيث المرجع إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه سيصيبهم في أنفسهم بأشياء فوق الهوان الذي يُرى في الناس؛ كحسرة في النفس، وكبْت للأسى حين يرون نصر المؤمنين.
أما الذي يُرى فهو الأمر الظاهر، أي: الخذلان، والهزيمة، والأسى، والقتل، وأخْذ الأموال، وسَبْي النساء والأولاد، أو غير ذلك مما سوف تراه فيهم ـ بعد أن تفيض روحك إلى خالقها ـ فسوف ترى فيهم ما وعدك الله به.
وأنت لن تحتاج إلى شهادة من أحد عليهم، لأنه سبحانه: { شَهِيدٌ عَلَىا مَا يَفْعَلُونَ } [يونس: 46].
وكفاك الله سبحانه شهيداً:{ وَكَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً }[النساء: 79].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ }

(/1397)


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)


والحق سبحانه لا يظلم أحداً، ولا يعذب قوماً إلا بعد أن يكفروا بالرسول الذي أرسله إليهم، وهو سبحانه القائل:
{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر: 24].
وهو سبحانه القائل أيضاً:
{ لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }[الأنعام: 131].
فلا تجريم ولا عقوبة إلا بنص وببيان لتجريم هذا الفعل أو ذاك، بإرسال الرسل؛ حتى لا يحتج أحد بأنه لم يصل إليه شيء يحاسب بمقتضاه.
والحق سبحانه هنا يبيِّن أن لكل أمة رسولاً يتعهدها بأمور المنهج.
وقد خلق الحق سبحانه كل الخلق، وكانوا موحِّدين منذ ذرية آدم ـ عليه السلام ـ ثم اقتضت الأحداث أن يتباعدوا، وانتشروا في الأرض، وصارت الالتقاءات بعيدة، وكذلك المواصلات، وتعددت الآفات بتعدد البيئات.
ولكن إذا تقاربت الالتقاءات، وصارت المواصلات سهلة، فما يحدث في الشرق تراه في لحظتها وأنت في الغرب، فهذا يعني توحُّد الآفات أو تكاد تكون واحدة؛ لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، أما في الأزمنة القديمة، فقد كانت أزمنة انعزالية، تحيا كل جماعة بعيدة عن الأخرى؛ ولذلك كان لا بد من رسول لكل جماعة؛ ليعالج داءات البيئة، أمَا وقد التقت البيئات، فالرسول الخاتم يعالج كل الداءات.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [يونس: 47].
وقد حكى التاريخ لنا ذلك، فكل رسول جاء آمن به البعض، وكفر به البعض الآخر، والذين آمنوا به انتصروا، ومَنْ كفروا به هُزِمُوا.
أو أن الآية عامة { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } أي: تُنادي كل أمة يوم القيامة باسم رسولها، يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويا أمة موسى، ويا أمة عيسى... إلخ.
والحق سبحانه يقول:
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلاءِ شَهِيداً * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىا بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً }[النساء: 41ـ42].
إذن: فالحق سبحانه هنا يبيِّن أن لكل أمة رسولاً جاءها بالبلاغ عن الله، وقد آمن به مَنْ آمن، وكفر به مَنْ كفر، وما دام الإيمان قد حدث ـ وكذلك الكفر ـ فلا بد من القضاء بن المؤمنين والكافرين.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [يونس: 47].
وما دام في الأمر قضاء، فلا بد أن المؤمن يَعتبر الكافر منازعاً له، وأن الكافر يَعتبر المؤمن منازعاً له، ويصير الأمر قضية تتطلب الحكم؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
{ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [يونس: 47].
أي: يُقضي بينهم بالعدل، فالمؤمنون يتقصَّى الحق سبحانه حسناتهم ويزيدها لهم، أما الكافرون فلا توجد لهم حسنات؛ لأنهم كفروا بالله الحق؛ فيوردهم النار، وهم قد أبلغهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي يوم يُسألون فيه عن كل شيء، فاستبعدوا ذلك وقالوا:


{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ }[الصافات: 16ـ17].
لقد تعجبوا من البعث وأنكروه، لكنهم يجدونه حتماً وصدقاً.
ويشاء الحق سبحانه أن يُدخل عليهم هذه المسألة دخولاً إيمانياً، فيقول:{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ }[ق: 15].
فأنتم إذا متُّم وتحلَّلتم في التراب، أيعجز الله سبحانه أن يخلقكم من جديد؟ لا؛ إنه سبحانه القائل:
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }[ق: 4].
أي: أنه سبحانه يأمر العناصر الخاصة بكل إنسان أن تتجمَّع كلها، وليس هذا بعسير على الله الذي خلقهم أولاً.
وهم كَذَّبوا واستنكروا واستهزأوا بمجيء يوم القيامة والبعث، وبلغ استهزاؤهم أن استعجلوا هذا اليوم، وهذا دليل جهلهم، وكان على الواحد منهم أن يفر من هول ذلك اليوم.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك على ألسنتهم: } وَيَقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا الْوَعْدُ {

(/1398)


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)


هذا الإنكار والتكذيب والاستهزاء هو منطق المشركين والملحدين في كل زمان ومكان، وفي العصر القريب قاله الشيوعيون عندما قاموا بثورتهم الكاذبة، وذبحوا الطبقة العليا في المجتمع بدعوى رفع الظلم عن الفقراء.
وإذا ما كانوا قد آمنوا بضرورة الثواب والعقاب، فمن الذي يحكم ذلك؟ هل الظالم يحكم على ظالم، فتكون النتيجة أن الظالم سيهلك بالظالم، وقد حدث، فأين الشيوعيون الآن؟
لماذا لم يلتفتوا إلى أن لهذا الكون خالقاً يعاقب من ظلموا من قبل، أو من يظلمون من بعد؟
إنهم لم يلتفتوا؛ لأنهم اتخذوا المادة إلهاً، وقالوا: لا إله، والحياة مادة، فأين هم الآن؟
وإن كنتم قد تملّكتم في المعاصرين لكم، وادعيتم أنكم نشرتم العدل بينهم، فماذا عن الذين سبقوا، والذين لحقوا؟
هم ـ إذن ـ لم يلتفتوا إلى أن الله سبحانه وتعالى قد شاء ألا يموت ظالم إلا بعد أن ينتقم الله منه.
وهم لم يلتفتوا إلى أن وراء هذه الدار داراً أخرى يجُازَى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وكان المنطق يقتضي أن يؤمن هؤلاء بأن لهذا الكون إلهاً عادلاً، ولا بد أن يجيء اليوم الذي يجازى فيه كل إنسان بما عمل، ولكنهم سخروا مثل سخرية الذين كفروا من قبلهم، وجاء خبرهم في قول الله سبحانه على ألسنتهم: { وَيَقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [يونس: 48].
ولكن وعد الله حق، ووعد الله قادم، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول من الله، يبلغ ما جاء من عند الله تعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه شيئاً.
ولذلك يقول القرآن بعد ذلك: { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً }

(/1399)


قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)


والرسول صلى الله عليه وسلم يبرِّىء نفسه من كل حَوْل وطَوْل، ويعلن ما أمره الحق سبحانه أن يعلنه، فهو صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً؛ لأن النفع أو الضر بيد خالقه سبحانه، وهو سبحانه وتعالى خالقكم، وكل أمر هو بمشيئته سبحانه.
وهذه الآية جاءت ردّاً على سؤالهم الذي أورده الحق سبحانه في الآية السابقة:{ وَيَقُولُونَ مَتَىا هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }[يونس: 48].
لقد تساءلوا بسخرية عن هذا الوعد بالعذاب، وكأنهم استبطأوا نزول العذاب تهكُّماً، وهذا يدل على أن قول الحق سبحانه:
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }[يونس: 47].
هذه الآية لم تنزل ليوم القيامة، بل نزلت لتوضح موقف مَنْ كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم والذين قالوا بعد ذلك:
{ مَتَىا هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }[يونس: 48].
وهذا يعني أنهم قالوا هذا القول قبل أن تقوم القيامة، والآية التي توضح أن لكل أمة رسولاً تؤيدها آيات كثيرة، مثل قوله سبحانه:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15].
وكذلك قول الحق سبحانه:
{ لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }[الأنعام: 131].
وكذلك قول الحق سبحانه:
{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً }[طه: 134].
وكل ذلك يؤيد أن الرسول المرسل إلى الأمة هو الرسول الذي جاء بمنهج الله تعالى، فآمن به قوم، وكذَّب به آخرون، وقضى الله بين المؤمنين والكافرين بأن خذل الكافرين ونصر المؤمنين.
وإن استبطأ الكافرون الخذلان فلسوف يرونه؛ ولذلك أمر الحق سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } [يونس: 49].
أي: أنكم إن كنتم تسألون محمداً صلى الله عليه وسلم عن الضر والنفع، فهو صلى الله عليه وسلم مبلِّغ عن الله تعالى، ولا يملك لنفسه ضَرّاً ولا نفعاً، فضلاً عن أن يملك لهم هم ضَرّاً أو نفعاً، وكل هذا الأمر بيد الله تعالى، ولكل أمة أجلٌ ينزل بالذين كفروا فيها بالعذاب، ويقع فيها القول الفصل.
وقول الحق سبحانه:
{ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } [يونس: 49].
يفيدُ أن مشيئة الله هي الفاصلة، ويدل على أن النبي والناس لا يملكون لأنفسم الضر أو النفع؛ لأن الإنسان خُلِق على هيئة القَسْر في أمور، وعلى هيئة الاختيار في أمور أخرى، والاختيار هو في الأمور التكليفية مصداقاً لقوله سبحانه:{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29].
وأنت حُرٌّ في أن تطيع أو أن تعصي، وكل ذلك داخل في نطاق اختيارك، وإن صنع الإنسان طاعة، فهو يصنع لنفسه نفعاً، وإن صنع معصية، صنع لنفسه ضَرّاً.

إذن: فهناك في الأمور الاختيارية ضر ونفع.
ومثال ذلك: من ينتحر بأن يشنق نفسه، فهو يأتي لنفسه بالضر، وقد ينقذه أقاربه، وذلك بمشيئة الله سبحانه.
إذن: ففي الأمور الاختيارية يملك الإنسان ـ بمشيئة الله ـ الضر أو النفع لنفسه، والله سبحانه يبين لنا أن لكل أمة أجلاً، فلا تحددوا أنتم اجال الأمم؛ لأن آجالهم ـ استئصالاً، أو عذاباً ـ هي من عند الله سبحانه وتعالى.
والعباد دائماً يعجلون، والله لا يعجل بعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد سبحانه، فالله تعالى مُنزَّه أن يكون موظفاً عند الخلق، بل هو الخالق الأعلى سبحانه وتعالى.
وهو سبحانه القائل:
{ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ }[الأنبياء: 37].
وهو سبحانه القائل:
{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }[الإسراء: 11].
إذن: فالحق سبحانه يؤخِّر مراداته رحمة بالخَلْق، وإذا جاء الأجل فهو لا يتأخر عن ميعاده، ولا يتقدم عن ميعاده.
لذلك يقول الحق سبحانه:
} إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ { [يونس: 49].
وقوله سبحانه: } يَسْتَقْدِمُونَ { ليست من مدخلية جواب الشرط الذي جاء بعد } إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ { [يونس: 49].
لأن الجواب هو: } فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ {.
فهم لا يستقدمون قبل أن يحين الأجل.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً {

(/1400)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)


وهذا رَدٌّ شافٍ على استعجالهم للعذاب، فإن جاءكم العذاب فَلْنَرَ ماذا سيكون موقفكم.
وهُمْ باستعجالهم العذاب يبرهنون على غبائهم في السؤال عن وقوع العذاب.
وقول الحق سبحانه: { أَرَأَيْتُمْ }. أي: أخبروني عما سوف يحدث لكم.
وشاء الحق سبحانه أن يأتي أمر العذاب هنا مبهماً من جهة الزمان فقال سبحانه:
{ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً } [يونس: 50].
والبيات مقصود به الليل؛ لأن الليل محل البيتوتة، و النهار محل الظهور.
والزمن اليومي مقسوم لقسمين: ليل، ونهار.
وشاء الحق سبحانه إبهام اليوم والوقت، فإن جاء ليلاً، فالإنسان في ذلك الوقت يكون غافلاً نائماً في الغالب، وإن جاء نهاراً، فالإنسان في النهار مشغول بحركة الحياة.
والحق سبحانه يقول في موضع آخر:
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىا أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ }[الأعراف: 97].
ويقول سبحانه:
{ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىا أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ }[الأعراف: 98].
ولو نظرت إلى الواقع لوجدت أن العذاب يأتي في الليل وفي النهار معاً، لأن هناك بلاداً يكون الوقت فيها ليلاً، وفي ذات الوقت يكون الزمن نهاراً في بلاد أخرى.
وإذا جاء العذاب بغتة، وحالوا إعلان الإيمان، فلن ينفعهم هذا الإيمان؛ لأن الحق سبحانه يقول فيمن يتخذ هذا الموقف:
{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[يونس: 91].
فإن جاءكم العذاب الآن لما استقلتم منه؛ لأنه لن ينفعكم إعلان الإيمان، ولن يقبل الله منكم، وبذلك يصيبكم عذاب في الدنيا، بالإضافة إلى عذاب الآخرة، وهذا الاستعجال منكم للعذاب يضاعف لكم العذاب مرتين، في الدنيا، ثم العذاب الممتد في الآخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ }

(/1401)


أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)


أي: إذا ما وقع العذاب فهل ستؤمنون؟
إن إعلان إيمانكم في هذا الوقت لن يفيدكم، وسيكون عذابكم بلا مقابل.
إذن: فاستعجالكم للعذاب لن يفيدكم على أي وضع؛ لأن الإيمان لحظة وقوع العذاب لا يفيد.
ومثال ذلك: فرعون حين جاءه الغرق{ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ }[يونس: 90].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ }

(/1402)


ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)


وهذا إخبار عن العذاب القادم لمن كفروا ويلقونه في اليوم الآخر، فهم بكفرهم قد ظلموا أنفسهم في الدنيا، وسيلقون العذاب في الآخرة، وهو { عَذَابَ الْخُلْدِ } أي: عذاب لا ينتهي.
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله: { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ }.
أي: أن الحق سبحانه لم يظلمهم، فقد بلغهم برسالة الإيمان عن طريق رسول ذي معجزة، ومعه منهج مفصَّل مؤيَّد، وأمهلهم مدة طويلة، ولم يستفيدوا منها؛ لأنهم لم يؤمنوا.
إذن: فسيلقون عذاب الخلد، وقد جاء سبحانه هنا بخبر عذاب الخلد؛ لأن عذاب الدنيا موقوت، فيه خزي وهوان، لكن محدوديته في الحياة يجعله عذاباً قليلاً بالقياس إلى عذاب الآخرة المؤبد.
وجاء الحق سبحانه بأمر عذاب الخلد كأمر من كسبهم، والكسب زيادة عن الأصل، فمن يتاجر بعشر جنيهات، قد يكسب خمسة جنيهات.
وهنا سؤال: هل الذي يرتكب معصية يكسب زيادة عن الأصل؟
نعم؛ لأن الله سبحانه حرَّم عليه أمراً، وحلله هو لنفسه، فهو يأخذ زيادة في التحليل، وينقص من التحريم وهو يظن أنه قد كسب بمفهومه الوهمي الذي زين له مراد النفس الأمارة، وهذا يعني أنه ينظر إلى واقع اللذة في ذاتها، ولا ينظر إلى تبعات تلك اللذة، وهو يظن أنه قد كسب، رغم أنه خاسر في حقيقة الأمر.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ }

(/1403)


وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)

 

(/1404)


وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)


وساعة ياتي العذاب فالإنسان يرغب في الفرار منه، ولو بالافتداء.
وانظر كيف يحاول الإنسان أن يتخلص من كل ما يملك افتداء لنفسه، حتى ولو كان يملك كل ما في السموات وما في الأرض.
ولكن هل يتأتى لأحد ـ غير الله سبحانه ـ أن يملك السموات والأرض؟
طبعاً لا.
إذن: فالشر لا يتأتَّى. وهَبْ أنه تأتَّى، فلن يصلح الافتداء بملك ما في السموات وما في الأرض؛ لأن الإنسان الظالم في الدنيا قد أخذ حق الغير، وهذا الغير قد كسب بطريق مشروع ما أخذه الظالم منه، والظالم إنما يأخذ ثمرة عمل غيره، ولو صحَّ ذلك لتحوَّل البعض إلى مغتصبِين لحقوق الغير، ولأخذوا عرق وكدح غيرهم، ولتعطلت حركة الحياة.
ولذلك إن لم يردع الله ـ سبحانه وتعالى ـ الظالم في الدنيا قبل الآخرة لاستشرى الظلم، وإذا استشرى الظلم في مجتمع، فالبطالة تنتشر فيه، ويحاول كل إنسان أن يأخذ من دم وعرق غيره، وبهذا يختلّ ميزان العدل وتفسد حركة الحياة كلها.
وهَبْ أن الظالم أخذ مُلْك الدنيا كلها، وأراد أن يفتدى به نفسه ساعة يأتي العذاب، ويفاجأ بأن كسبه من حرام لا يُقْبَل فداءً، أليس هذا هو الخسران الكبير؟ وهذه ظاهرة موجودة في دنيا الناس.
وهَبْ أن واحداً ارتشى أو اختلس أو سرق، ويفاجئه القانون ليمسكه من تلابيبه فيقول: خذوا ما عندي واتركوني. ولن يقبل القائمون على القانون ذلك. وإن كان مثل هذا التنازل يحدث في (الجمارك) فنرى من يتنازل عن البضائع المهربة مقابل الإفراج عنه، هذا ما يحدث في الدنيا، لكنه لن يحدث في الآخرة.
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه:
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ }[البقرة: 48].
وقال الحق سبحانه في آية أخرى:
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }[البقرة: 123].
وقال بعض المشككين أن الآيتين متشابهتان، ولم يلتفتوا إلى أن كل آية تختلف عن الأخرى في التقديم للعدل، والتأخير للشفاعة.
والبلاغة الحقَّة تتجلَّى في الآيتين؛ لأن القارىء لصَدْر كل آية منهما، والفاهم للمَلَكه اللغوية العربية أن عَجُز كل آية يناسب صدرها.
ومن يقرأ قول الحق سبحانه:
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ }[البقرة: 48].
يرى أنه أمام نفسين: النفس الأولى هي التي تقدِّم الشفاعة، والنفس الثانية هي المشفوع لها. والشفاعة هنا لا تُقبل من النفس الأولى الشافعة، وكذلك لا يُقبل العدل.
وفي الآية الثانية لاتُقبل الشفاعة ولا العدل من النفس المشفوع لها، فهي تحاول أن تقدم العدل أولاً، ثم حين لا ينفعها تأتي بالشفيع.

وهكذا جاء التقديم والتأخير في الآيتين مناسباً للموقف في كل منهما.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ { [يونس: 54].
وفي هذا القول تعذُّرِ ملْك النفس الواحدة لكل ما في الأرض، ولو افترضنا أن هذه النفس ملكته فلن تستطيع الافتداء به؛ وتكون النتيجة هي ما يقوله الحق سبحانه:
} وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ { [يونس: 54].
أي: أخفوا الحسرة التي تأتي إلى النفس، وليس لها ظاهر من انزعاج لفظي أو حركي.
إن كلاّ منهم يكتم هَمَّه في قبله؛ لأنه ساعة يرى العذاب ينبهر ويُصعَق ويُبهَت من هول العذاب، فتجمد دماؤه، ولا يستطيع حتى أن يصرخ، وهو بذلك إنما يكبت ألمه في نفسه؛ لأن هول الموقف يجمِّد كل دم في عروقهم، ويخرس ألسنتهم، ولا يستطيع أن ينطق؛ لأنه يعجز عن التعبير الحركي من الصراخ أو الألم.
ونحن نعلم أن التعبير الحركي لون من التنفيس البدني، وحين لا يستطيعه الإنسان، فهو يتألم أكثر.
هم ـ إذن ـ يُسرُّون الندامة حين يرون العذاب المفزع المفجع، والكلام هنا عن الظالمين، وهم على الرغم من ظلمهم، فالحق سبحانه يقول: } وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ { [يونس: 54].
وهؤلاء رغم كفرهم واستحقاقهم للعذاب يلقون العدل من الله، فَهَبْ أن كافراً بالله بمنأى عن الدين ظلم كافراً آخر، أيقف الله سبحانه من هذه المسألة موقفاً محايداً.
لا؛ لأن حق خَلْق الله سبحانه ـ الكافر المظلوم ـ يقتضى أن يقتص الله سبحانه له من أخيه الكافر الظالم؛ لأن الظالم الكافر، إنما ظلم مخلوقاً لله، حتى وإن كان هذا المظلوم كافراً.
ولذلك يقضي الله بينهم بالحق، أي: يخفِّف عن المظلوم بعضاً من العذاب بقدر ما يثقله على الظالم.
هذا هو معنى } وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ { لأنها تتطلب قضاء، أي: عدم تحيز، وتتطلب الفصل بين خصومتين.
ويترتب على هذا القضاء حكم؛ لذلك يبين لنا الحق سبحانه أنهم ـ وإن كانوا كافرين به ـ إلا أنه إن وقع من أحدهم ظلم على الآخر، فالحق رب الجميع وخالق الجميع، كما أعطاهم بقانون الربوبية كل خير مثلما أعطى المؤمنين، فهو سبحانه الذي أعطى الشمس، والماء، والهواء، وكل وسائل الرزق والقُوت لكل الناس ـ مؤمنهم، وكافرهم ـ فإذا ما حدث ظلم بين متدينين بدين واحد، أو غير متدينين، فلا بد أن يقضي فيه الحق سبحانه بالفصل والحكم بالعدل.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ {

(/1405)


أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)


و " ألا " في اللغة يقال عنها " أداة تنبيه " وهي تنبه السامع أن المتكلم سيقول بعدها كلاماً في غاية الأهمية، والمتكلم ـ كما نعلم ـ يملك زمام لسانه، بحكم وضعه كمتكلم، لكن السامع يكون في وضع المُفاجَأ.
وقد يتكلم متكلم بما دار في ذهنه ليبرزه على لسانه للمخاطب، ولكن المخاطب يفاجأ، وإلى أن ينتبه قد تفوته كلمة أو اثتنان مما يقوله المتكلم.
والله سبحانه وتعالى يريد ألاَّ يفوت السامع لقوله أي كلمة، فأتى بأداة تنبيه تنبه إلى الخبر القادم بعدها، وهو قول الحق سبحانه:
{ إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [يونس: 55].
هكذا شاء الحق سبحانه أن تأتي أداة التنبيه سابقة للقضية الكلية، وهي أنه سبحانه مالك كل شيء، فهو الذي خلق الكون، وخلق الإنسان الخليفة، وسخَّر الكون للإنسان الخليفة، وأمر الأسباب أن تخضع لمسببات عمل العامل؛ فكل من يجتهد ويأتي بالأسباب؛ فهي تعطيه، سواء أكان مؤمناً أو كافراً.
وإذا خدمت الأسبابُ الإنسانَ، وكان هذا الإنسان غافلاً عن ربه أو عن الإيمان به، ويظن أن الأسباب قد دانت له بقوته، ويفتن بتلك الأسباب، ويقول مثلما قال قارون:
{ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي }[القصص: 78].
فالذي نسي مسبِّب الأسباب، وارتبط بالأسباب مباشرة، فهو ينال العذاب، إن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة؛ فكأن الحق سبحانه ينبههم: تَنَّبهوا أيها الجاهلون، وافهموا هذه القضية الكبرى: { إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [يونس: 55].
فإياك أيها الإنسان أن تغترَّ بالأسباب، أو أنك بأسبابك أخذت غير ما يريده الله لك، فهو سبحانه الذي أعطاك وقدَّر لك، وكل الأسباب تتفاعل لك بعطاء وتقدير من الله عز وجل.
وفي أغيار الكون الدليل على ذلك، ففكرك الذي تخطِّط به قد تصيبه آفة الجنون، والجوارح مثل اليد أو القدم أو اللسان أو العين أو الأذن قد تُصاب أيُّ منها بمرض؛ فلا تعرف كيف تتصرف.
وكل ما تأتي فيه الأغيار؛ فهو ليس من ذاتك، وكل ما تملكه موهوب لك من مسبِّب الأسباب.
فإياك أن تنظر إلى الأسباب، وتنسى المسبِّب؛ لأن لله ملك الأشياء التي تحوزها والأدوات التي تحوز بها؛ بدليل أنه سبحانه حين يشاء يسلبها منك، فتنبه أيها الغافل، وإياك أن تظن أن الأسباب هي الفاعلة، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق الأسباب؛ ثم يشاء ألا تأتي بنتائجها، كمن يضع بذور القطن ـ مثلاً ـ ويحرث الأرض، ويرويها في مواعيدها، ثم تأتي دودة القطن لتأكل المحصول.
إذن: فمردُّ كل مملوك إلى الله تعالى.
واعلمْ أن هناك مِلْكاً، وإن هناك مُلْكاً، والمِلْك هو ما تملكه؛ جلباباً؛ أو بيتاً، أو حماراً، إلى غير ذلك، أما المُلْك فهو أن تملك من له مِلْك، وتسيطر عليه، فالقمة ـ إذن ـ في المُلْك.

وانظر إلى قول الحق سبحانه:
{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ }[آل عمران: 26].
إذن: فالمُلك في الدنيا كله لله سبحانه.
وكلمة " ألا " جاءت في أول الآية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ لتنبِّه الغافل عن الحق؛ لأن الأسباب استجابت له وأعطته النتائج، فاغترَّ بها، فيجعل الله سبحانه الأسباب تختلف في بعض الأشياء؛ ليظل الإنسان مربوطاً بالمسبِّب.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية:
} أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ { [يونس: 55].
والوعد إن كان في خير فهو بشارة بخير يقع، وإن كان بِشَرٍّ فهو إنذار بشرّ يقع؛ ويغلب عليه كلمة " الوعيد ".
إذن: ففي غالب الأمر تأتي كلمة " وعد " للأثنين: الخير والشر، أما كلمة " وعيد " فلا تأتي إلا في الشر.
والوعد: هو إخبارٌ بشي سيحدث من الذي يملك أن يُحْدِث الشيء.
وإنفاذ الوعد له عناصر: أولها الفاعل، وثانيها المفعول، وثالثها الزمان، ورابعها المكان، ثم السبب.
والحدث يحتاج إلى قدرة، فإن قلت: " آتيك غداً في المكان الفلاني لأكلمك في موضوع كذا " فماذا تملك أنت من عناصر هذا الحدث؛ إنك لا تضمن حياتك إلى الغد، ولا يملك سامعك حياته، وكذلك المكان الذي تحدد فيه اللقاء قد يصيبه ما يدمِّره، والموضوع الذي تريد أن تتحدث فيه، قد يأتي لك خاطر ألا تتحدث فيه من قبل أن يتم اللقاء.
وهَبْ أن كل العناصر اجتمعت، فماذا تملك أنت أو غيرك من عناصر الوعد؟ لا شيء أبداً.
ولذلك يعلِّم الله سبحانه خَلْقه الأدب في إعطاء الوعود، التي لا يملكونها، فيقول سبحانه:
{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ }[الكهف: 23ـ24].
وحين تقدِّم المشيئة فإن حدث لك ما يمنع إنفاذ الوعد فلن تكون كذاباً.
وهكذا يعلّمنا ربنا صيانة أخبارنا عن الكذب، وجعلنا نتكلم في نطاق قُدراتنا، وقُدراتنا لا يوجد فيها عنصر من عناصر الحدث، لكن إذا قال الله سبحانه، ووعد، فلا رادّ لما وعد به سبحانه؛ لأنه منزَّه عن أن يُخْلف الميعاد؛ لأن عناصر كل الأحداث تخضع لمشيئته سبحانه، ولاَ تتأبَّى عليه، ووعده حق وثابت.
أما أنت فتتحكم فيك الأغيار التي يُجريها الحق سبحانه عليك.
وهَبْ أنك أردت أن تبني بيتاً، وقلت للمهندس المواصفات الخاصة التي تريدها في هذا البيت، لكن المهندس لمي يستطع أن يشتري من الأسواق بعضاً من المواد التي حددتها أنت، فأنت ـ إذن ـ قد أردت ما لا يملك المهندس تصرُّفاً فيه.
لكن الأمر يختلف بالنسبة للخالق الأعلى سبحانه؛ فهو الذي يملك كل شيء، وهو حين يَعد يصير وَعْدُه محتَّم النفاذ، ولكن الكافرين ينكرون ذلك؛ ولذلك قال الله سبحانه:
} وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { [يونس: 55].
أي: أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة، فقد سبق أن قالوا:
{ مَتَىا هَـاذَا الْوَعْدُ }[يونس: 48].
أو أن } أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { تعني: أن الإنسان يجب ألاَّ يضع نفسه في موعد دون أن يقدِّم المشيئة؛ لأنه لا يملك من عناصر أي وعد إلا ما يشاؤه الله تعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ {

(/1406)


هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)


ونحن نعلم أن حركة الحياة، والمِلْك والمُلْك، هي فروع من الأحياء، وهو سبحانه حَيٌّ؛ لأنه مالك الأصل، وهو القادر على أن يميت، وكل ما يصدر عن الحياة يسلبه الله سبحانه بالموت فهو مالك الأشياء، والأسباب التي تُنتج الأشياء، ولا يفوته شيء من وعد ولا وعيد، ونحن نحيا بمشيئته سبحانه، ونموت بمشيئته سبحانه، فلن نفلت منه.
لذلك قال سبحانه: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فمن لا يعتبر بأمر الأحياء؛ عليه أن يرتدع بخوف الرجعة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ }

(/1407)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)


والخطاب هنا للناس جميعاً؛ لأن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى:
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة: 104].
فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج.
والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافّةً بأصول العقائد، مثل قول الحق سبحانه:
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ }[النساء: 1].
أما المؤمنون فسبحانه يكلّفهم بخطابه إليهم، من مثل قول الحق سبحانه:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }[البقرة: 183].
ومثل قول الحق:
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }[البقرة: 178].
أي: أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائماً في الأحكام التي يخطاب بها المؤمنين، أما في أصول العقائد والإيمان الأعلى بالواجد الموجِد، فهذا يكون خطاباً للناس كافة.
والحق سبحانه يقول هنا:
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ } [يونس: 57].
والأية هنا تصوِّر الموعظة وكأنها قد تجسَّدت وصار لها مجيء، رغم أن الموعظة هي كلمات، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطى للموعظة صورة الحركة التي تؤثِّر وتحضُّ على الإيمان.
والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بلَفْظ ٍمؤثِّر، ويقال: فلان واعظ متميز، أي: أن كلامه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل، والموعوظ دائماً أضعف من الواعظ، وتكون نفس الموعوظ ثقيلة، فلا تتقبل الموعظة بيسر إلا ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الأداء؛ لأن الموعوظ قد يقول في نفسه: لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني، وأنت أعلى مني. فإذا قدَّر الواعظ هذ الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه.
ولنتذكر الحكمة التي تقول: " النصح ثقيل، فلا تجعلوه جَدَلاً، ولا ترسلوه جَبَلاً، واستعيروا له خِفَّةالبيان "؛ وذلك لتستميل أذن السامع إليك فتأتي له بالأسلوب الجميلَ المقنع الممتع الذي يعجبه، وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه.
والموعظة تختلف عن الوصية؛ لأن الوصية عادة لا تتأتى إلا في خلاصة حكمة الأشياء، وهَبْ أن إنساناً مريضاً وله أولاد، وحضرته الوفاة، فيقولم بكتابة وَصِيَّته، ويوصيهم بعيون المسائل.
والحق سبحانه يقول هنا:
{ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ } [يونس: 57].
والموعظة إما أن تسمعها أو تفرضها، ولأنها موعظة قادمة { مِّن رَّبِّكُمْ } فلا بد من الالتفات والانتباه، وملاحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب، لا من الإله؛ لأن الإله يريدك عابداً، لكن الرب هو المربِّي والكفيل، وإن كفرت به.
وهذه الموعظة قادمة من الرب، أي: أنها من كمالات التربية، ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية تتوزع مابين قسمين: القسم الأول هو مقوِّمات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قُوت ورزق ـ وهذه المقومات للمؤمن، وللكافر ـ والقسم الآخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة الحياة، وهذه للمؤمن فقط.
إذن: فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم؛ لأنه هو الذي خَلَق من عَدَم وأمَدّ من عُدْم، ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط، بل شملت نعمته كل الخلق.

إذن: فالموعظة تجيء ممن يُعطي ولا ينتظر منك شيئاً، فهو سبحانه مُنزَّه عن الغرض؛ لأنه لن ينال شَيئاً منك فأنت لا تقدر على شيء مع قدرته سبحانه.
والموعظة القادمة بالمنهج تخصُّ العقلاء الراشدين؛ لأن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولاً، ويختار بين البدائل، أما حركة المجنون فهي غير مرتَّبة ولا منسَّقة، ولا تمر على عقله؛ لأن عقله مختل الإدراك وفاقد للقدرة على الاختيار بين البدائل.
ولكن لماذا يُفسِد العاقل الاختيار بين البدائل؟
إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى، والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ { [يونس: 57].
أي: أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من غِلّ يؤثر في أحكامكم، وحقد، وحسد، ومكر، ويُنقِّي باطن الإنسان؛ لأن أي حركة من حركات الإنسان لها نبع وجداني، ولا بد أن يُشفى النبع الوجداني؛ ليصحَّ؛ حتى تخرج الحركات من الجوارج وهي نابعة من وجدان طاهر مُصفّى وسليم؛ وبذلك تكون الحركات الصادرة من الإنسان سليمة.
ولذلك قال الحق سبحانه:
} وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ { [يونس: 57].
وجاءت كلمة " الشفاء " أولاً، لتبيِّن أن الهداية الحقَّة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن تُخْرِج ما في قلبه من أهواء، ثم تدلَّه إلى المنهج المستقيم.
وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة؟ نجيب: إن الشفاء هو إخراج لما يُمْرِض الصدور، أما الرحمة فهي اتْباع الهداية بما لا يأتي بالمرض مرة أخرى، وأقرأ إن شئت قول الحق سبحانه:
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ }[الإسراء: 82].
وهكذا يتبيَّن لنا أثر الموعظة: شفاء، وهدى، ورحمة، إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط، ولكن تعالج جذور المرض.
إذن: فشفاء الصدور يجب أن يتم أولاً؛ لذلك نجد الطبيب الماهر هو من لا ينظر إلى ظواهر المرض فقط ليعالجها، ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر، على عكس الطبيب غير المدرَّب العَجُول الذي يعالج الظاهر دون علاج جذور المرض.
ومثال ذلك: طبيب الأمراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثوراً؛ فهو يعالجها بما يطمسها ويزيلها مؤقَّتاً، لكنها تعود بعد قليل، أما الطبيب المدرَّب الفاهم فهو يعالج الأسباب التي تُنتج البثور، ويزيلها بالعلاج الفعَّال؛ فيقضي على أسباب ظهورها.
وفي القرآن الكريم نجد قصة ابتلاء سيدنا أيوب عليه السلام، فقد قال له الحق سبحانه:
{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }[ص: 42].
أي: اضربْ برجلك ذلك المكان يخرجْ لك منه ماء بارد، تغتسل منه؛ فيزيل الأعراض الظاهرة، وتشرب منه ليعالج أصل الداء.
إذن: فالموعظة وكأنها تجسَّدت، فجاءت من ربكم ـ المأمون علكيم ـ شفاءً حتى تعالج المواجيد التي تصدر عنها الأفعال، وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة، لا تحلُّل فيها، وهدى إلى الطريق الموصِّل إلى الغاية الحقَّة، ورحمة إن اتبعها الإنسان لا يُصَابُ بأيِّ داءٍ، وهذه الموعظة تؤدي إلى العمل المقبول عند الله سبحانه.
ولكن إنْ صحَّتْ لك الأربعة النابعة من الموعظة: الشفاء، والهدى، والرحمة والعمل الصالح، فإيّاك أن تفرح بذلك؛ ففوق كل ذلك فضل الله عليك؛ ولذلك يقول الحق سبحانه: } قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ {

(/1408)


قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)


وأنت وكل المؤمنين مهما عملوا في تطبيق منهج الله، فكلُّنا بعبادتنا لن نؤدي حَقَّ النعم الموجودة عندنا قبل أن نُكَلَّف، وعلينا أن نتدبَّر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا إلا أنْ يتغمَّدني الله برحمته ".
إذن: فإن افتخر إنسان بطاعته لله، فهذه الطاعة تعود على العبد في دنياه، وهو لن يؤدي بطاعته حق كل النعم التي أسبغها الله عليه.
ومثال ذلك: إن العبد لا يُكلَّف إلا عند البلوغ، أي: في سنّ الخامسة عشر تقريباً، فإ نظر إلى النعم التي أسبغها الله تعالى عليه حتى وصل إلى هذه السِّنِّ، فهو لن يحصيها، فما بالنا بالنعم التي تغمرنا في كل العمر، وحين يجازينا الحق في الآخرة، فهو لا يجازينا بالعدل، بل يعاملنا بالفضل.
إذن: إياك أن تقول: أنا تصدَّقتُ بكذا، أو صلّيت كذا؛ حتى لا تورثك استجابتك لمنهج الله غروراً بعملك التعبُّديِّ، وتذكَّر القول المأثور: " رُبَّ معصية أورثتْ ذُلاً وانكساراً، خيرٌ من طاعةٍ أورثتْ عِزّاً واستكبارا ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ }

(/1409)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)


إن تمتع الإنسان في الحياة بالمُلْك والمِلْك، فكل ذلك يحتاج إلى استبقاء الحياة بالرزق الذي يهبُنَا الحق سبحانه إيّاه، وكذلك استبقاء النوع بالتزواج بين الذكر والأنثى.
ولكن الرزق الذي يستبقي الحياة لا بُدَّ أن يكون حلالاً؛ لذلك حدَّد لنا الحق سبحانه وتعالى المحرَّمات فلا تقربها، وأنت عليك بالالتزام بما حدَّده الله، فلا تدخل أنت على ما حلّل الله لتحرِّمَه؛ لأن الحق سبحانه حدَّد لك من الطعام ما يستبقي حياتك ويعطيك وقوداً لحركة الحياة، فعاملْ نفسك كما تعامل الآلة التي تصنعها، فأنت تعطي كل آلة الوقود المناسب لها لتؤدي مهمتها، كذلك جعل الله سبحانه لك المواصفات التي تنفعك وتستفيد منها وتؤدي حركات الحياة بالطاقة التي يمدّك بها ما حَلَّله الله لك.
وكذلك حرَّم الله عليك ما يَضُرُّك.
وإياك أن تقول: ما دامت هذه الأشياء تضرّني فلماذا خلقها الله؛ لأن عليك أن تعرف أن هناك فارقاً بين رزق مباشر، ورزق غير مباشر، وكل ما في الكون هو رزق، ولكنه ينقسم إلى رزق مباشر تستفيد منه فوراً، وهناك رزق غير مباشر.
ومثال ذلك: النار، فأنت لا تأكل النار، لكنها تُنضِج لك الطعام.
إذن: فهناك شيء مخلوق لمهمة تساعد في إنتاج ما يفيدك.
والحق سبحانه قد حلّل لك ـ على سبيل المثال ـ لحم الضأن والماعز، والإبل والبقر وغيرها، وحرَّم عليك لحم الخنزير، فلا تسألْ: لماذا خلق الله الخنزيرَ؛ لأنه خَلقه لمهمةٍ أخرى، فهو يلملم قاذورات الوجود ويأكلها، فهذا رزق غير مباشر، فاتركه للمهمة التي أراده الله لها.
وبعض الناس قد حرَّم على نفسه أشياء حلَّلها الله تعالى، وهم بذلك يُضيّقون على أنفسهم، ويظن البعض أنه حين يحلّل ما حرَّم الله أنه يوسِّع على نفسه، فيأمر الحق سبحانه رسول صلى الله عليه وسلم أن يقول:
{ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ } [يونس: 59].
أي: أخبِروني ما أنزل الله لكم من رزق، وهو كل ما تنتفعون به، إما مباشرةً، وإما بالوسائط، فكيف تتدخلون بالتحليل والتحريم، رغم أن الذي أنزل الرزق قد بيَّن لكم الحلال والحرام؟!
وكلمة { أَنزَلَ } تفيد أن الرزق كله قادم من أعلى، وكل ما ترونه حولكم هو رزق، تنتفعون به مباشرة، أو بشكل غير مباشر، فالمال الذي تُشترى به أغلب الأرزاق لا يأكله الإنسان، بل يشتري به ما يأكله.
وكلمة { أَنزَلَ } تعني: أوْجَدَ، وخلق مِنْ أعلى، وما دام كل شيء قد وُجد بمشيئة مَنْ هو أعلى من كل الوجود، فكل شيء لصالحك مباشرة أو بوسائط.
ولا تأخذ كلمة { أَنزَلَ } من جهة العلوّ الحسية، بل خُذها من جهة العلوِّ المعنوية، فالمطر ـ مثلاً ـ ينزل من أعلى حسيّاً، ويختلط بالأرض فيأخذ النبات غذاءه منها، والرزق بالمطر ومن الأرض مُقدَّر ممّن خَلَق، وهو الأعلى سبحانه.

وقد قال الحق سبحانه:
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ }[الحديد: 25].
نعم، فقد أنزل الحق سبحانه منهجه على الرسل عليهم السلام لتصلح حياة الناس، وأنزل الحديد ايضاً، هذا الذي نستخرجه من الجبال ومن الأرض.
إذن: فالمراد هنا بالإنزال، أي: الإيجاد ممن هو أعلى منك لصالحك أيها الإنسان.
وما دام الحق سبحانه هو الذي أنزل الرزق، وبيَّن الحلال والحرام، فلماذا تُدخِلون أنوفكم في الحلال والحرام، وتجعلون بعض الحلال حراماً، وبعض الحرام أو كُلَّ الحرام حلالاً؟ لماذا لا تتركون الجَعْل لمن خَلَق وهو سبحانه أدْرى بمصلحتكم؟
} قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ { [يونس: 59].
أي: هل أعطاكم الله سبحانه تفويضاً في جَعْلِ الحلال حراماً، والحرام حلالاً؟ } أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ { [يونس: 59] أي: على الله تتعمدون الكذب.
وقد جاء الحق سبحانه بالحلال والحرام ليبيِّن لنا مدى قُبح السلوك في تحريم ما أحلّ الله، وتحليل ما حرَّم الله.
ويشير الحق سبحانه ـ في إجمال هذه الآية ، إلى آيات أخرى فَصَّلت الحرام، وسبق أن تناولناها بخواطرنا، مثل قوله تعالى:
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىا اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }[المائدة: 103].
والبَحيرة ـ كما ذكرنا ـ هي الناقة التي أنجبتْ خمس بُطونٍ آخرها ذَكَر، وكانوا يشقُّون أذنها، ويعلنون أنها قامت بواجبها ويتركونها سائمة غير مملوكة، لا يركبها أحد، ولا يحمل عليها أحد أيَّ حِمْل، ولا يحلبها أحد، ولا يجزّ صوفها أحد، ثم يذبحها خُدَّام الآلهة التي كانوا يعبدونها، وسَمَّوها " بَحيرة " ، لأنهم كانوا يشقون آذانها علامةً على أنها أدَّتْ مهمتها.
أما السائبة فهي غير المربوطة؛ لأن الربط يفيد الملكية، وكان الواحد منهم إذى شفي من مرض أو أراد شيئاً وَهَبَ أن يجعل ناقةً لخدَّام الأصنام، واسمها سائبة، وهي أيضاً لا تُركب، ولا تُحلب، ولا يُحمل عليها، ولا أحد يتعرَّض لها.
والوصيلة: هي الأنثى تلدها الناقة في بطن واحدة مع ذكر، فيقولون: " وَصَلَتْ أخاها "؛ فلا يذبحونه للأصنام من أجل أخته.
} وَلاَ حَامٍ { والحام: هو الفَحْل الذي يحمي ظهر نفسه بإنجاب عشرة أبْطُن، فلا يركبه أحد بعد ذلك، ولا يُحمَل عليه، ويترك لخدَّام الأصنام.
هذه هي الأنعام المحلَّلة التي حرَّموها على أنفسهم، بينما يأكلها خُدَّام الأصنام، وفي ذكر عدم تحريم تلك الأنعام رأفة بهم.
وهناك أيضاً قول الحق سبحانه:
{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَـاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

[الأنعام: 143ـ144].
إذن: فقد حَرَّموا بعضاً مما أحلَّ الله لهم، وقالوا ما أورده القرآن:
{ وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَىا اللَّهِ وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىا شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ }[الأنعام: 136].
وأجمل الحق سبحانه كل ذلك في قوله الحق:
} قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ { [يونس: 59].
وهكذا تدخَّلوا في تحريم بعض الحلال وحلَّلوا بعضاً من الحرام، وفي هذا تعدٍّ ما كان يجب أن يقترفوه؛ لأن الحق سبحانه هو خالقهم، وهو خالق أرزاقهم، وفي هذا كذب متعمَّد على الله سبحانه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ {

(/1410)


وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)


وهذه الآية توضح أن كل أمر بحساب، فالذين يفترون على الله الكذب سيجدون حسابهم يوم القيامة عسيراً، فالحق سبحانه منزّه عن الغفلة، ولو ظنوا أنه لا توجد آخرة ولن يوجد حساب، فهم يخطئون الظن.
ولو استحضروا ما أعدَّه الله لهم من العذاب والنكال يوم القيامة لما فعلوا ذلك، ولكنهم كالظَّان بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ غافل عن أفعالهم، وكأنها أفعال لا حساب عليها، ولا كتابة لها، ولا رقيب يحسبها:
ثم يقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } [يونس: 60].
إن الله سبحانه متفضِّل على كل خَلْقه ـ وأنتم منهم ـ بأشياء كثيرة؛ فلم تحرمون أنفسكم من هذا الفضل؟! ولو شكرتم الله تعالى على هذال التفضل لزاد من عطائكم، لكنكم تنسون الشكر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ }

(/1411)


وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)


والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ما تكون يا محمد في شأن. والشأن: هو الحال العظيم المتيمز الذي يطرأ على الأمر.
ونحن في حياتنا اليومية نقول: ما شأنك اليوم أو ما حالك؟ وهنا يجيب السامع بالشيء الهام الذي حدث له أو فعله، ويتناسى التافة من الأمور.
ولذلك يصف الله تعالى نفسه فيقول:
{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن: 29].
أي: لا تظنوا أن ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ خلق النواميس والقوانين، وقال لها: اعملي أنتِ، لا فهو سبحانه كل يوم في شأن.
ولذلك حين سئل أحد العلماء: ما شأن ربك الآن؛ وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ؟ فقال: " أمور يبديها ولا يبتديها ".
أي: أنه سبحانه قد رسم كل شيء، وجعل له زماناً ليظهر، فهو سبحانه قيُّوم، أي: مُبَالغ في القيام على مصالحكم؛ ولذلك يطمئننا سبحانه ـ وقد جعل الليل لنومنا وراحتنا ـ بأنه سبحانه قيوم لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وهو يراعينا.
فالحديث في الآية التي نحن بصددها موجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } [يونس: 61].
وشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يهتم به ليس المأكل ولا المشرب، إنما المهم بالنسبة له هو بلاغ الرسالة بالمنهج بـ " افعل و " لا تفعل ".
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ } [يونس: 61].
و " منه " هنا بمعنى اللام، أي: ما تتلو له، وتعني تأبيداً لآيات القرآن.
وهناك في موضع آخر من القرآن يقول الحق سبحانه:
{ مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ }[نوح: 25]
أي: أغرقوا لأجْل خطيئاتهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نفهم ما تكون في شأن وما تتلو لأجل هذا الشأن من قرآن، فالنبي صلى الله عليه وسلم في شأن هام هو الرسالة، ويتلو من القرآن تأبيداً لهذا الشأن وهو البلاغ بالمنهج.
ويدخل في هذا الشأن ما فوِّض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حسب قول الحق سبحانه:
{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر: 7].
ومثال ذلك: تحديد كيفية الصلاة وعدد ركعات كل صلاة، وكذلك نِصَاب الزكاة، وهذه أمور لم يأت بها القرآن تفصيلاً، ولكن جاءت بها الأحاديث النبوية.
إذن: فهناك تفويض من الحق للرسول صلى الله عليه وسلم ليكتمل البلاغ بمنهج الله، بنصوص القرآن، وبتفويض الله تعالى له أن يشرِّع.
إذن: فكل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بلاغ عن الله بالنص القرآني، , وإما تطبيق فعليّ للنص القرآني بالحديث النبوي، وبالأسوة التي تركها لنا صلى الله عليه وسلم في سُنَّته.

والحُجَّة على الحُكم ـ أي حُكم ـ يأتي بها القرآن، فإن كانت الأحكام غير صادرة من الله مباشرة، فيكفي فيها أنها صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفويض من الله تعالى ليشرِّع.
وبذلك نردُّ على المنافقين الذين إذا حُدِّثوا بشيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا: " بيننا وبينكم كتاب الله " وهدفهم أن يردُّوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فِعْلاً، أو قولاً أو إقراراً.
ثم ينقل الحق سبحانه الخطاب من المفرد إلى الجماعة فيقول جَلَّ شأنه:
} وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً { [يونس: 61].
وفي هذا انتقال للسامعين للقرآن، والمبلَّغ إليهم هذا المنهج، فكل عمل إنما يشهده الحق سبحانه.
والعمل هو مجموع الأحداث التي تصدر عن الإنسان، فكل حدث يصدر من الإنسان ـ ولو بِنيَّة القلب ـ يسمَّى عملاً؛ لأن عمل القلوب هو النية. ولكن إذا صدر الحدث من اللسان كان قولاً، وإذا صدر الحدث من بقية الجوارح كان فعلاً.
وهكذا ينقسم العمل إلى قسيمن: قول، وفعل.
وقد اختُصَّ حدث اللسان باسم القول؛ لأن أصل مستندات التكليف كلهم قولية.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ { أي: تسرعون إلى العمل بنشاط وحيوية وإقبال مما يدل على حسن الاستجابة للمنهج فور أن يبلَّغه الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإقبال على العمل التكليفي بهذا الشوق، وتلك اللهفة، وحسن الاستقبال، وإخلاص الأداء، كل هذه المعاني يؤول إليها قول الحق سبحانه: } إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ { كما يفيض ماء الإناء إذا امتلأ لينزل. أي: أن تقبلوا علىأعمال التكليف بسرعة وانصباب وانسكاب.
وقد قال الحق سبحانه:{ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ }[البقرة: 198].
أي: شَرَعْتُم في الذهاب مسرعين؛ لأنكم أدَّيتم نُسُكاً أخذتم منه طاقة، وتقبلون بها على نُسُك ثانٍ.
إذن: فالحق سبحانه يشهد كل عمل منكم، لكن ماذا عن النيَّات وما يُبيَّت فيها من خواطر.
ها هو الحق سبحانه يخبرنا أن كل شيء مهما صغر واختفى فهو معلوم ومحسوب.
يقول الحق سبحانه:
} وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ { [يونس: 61].
أي: كل أمورك، وأمور الخلق، والمخلوقات كلها معلومة لله تعالى، ومكتوبة في كتاب مبين واضح، فلا أحد بقادر على أن يختلس حركة قلب، أو يختلس حركة ضمير، وكملة " يعزب " تعني: يغيب ويختفي.
والحق سبحانه يخبرنا أنه لا يضيع عنده جزاء أي عمل أو نية مهما بلغ العمل أو النية أدنى درجة من القِلَّة.
ولم يوجد عند العرب ما يضرب به المثل على الوزن القليل إلا الذَّرَّة، وهي النملة الدقيقة الصغيرة جِدّاً، ثم أطلقت الذرة على الهَبَاء الشائع في الجو، ويمكنك أن ترى هذا الهَبَاء إن جلست في حجرة مظلمة مغلقة، ثم دخلها شعاع من ضوء، هنا ترى هذا الضوء وهو يمر من الثقب وكأنه سهم، وترى مكوِّنات هذا السهم من ذرات الهباء المتحركة الموجودة في الجو، تلك الذرات التي لا تراها وأنت في الضوء فقط أو في الظلام فقط، ولكن التناقض بين الضوء والظلام يُبرزها.

وأنت لا تدرك الشيء ولا تحسه لأمرين: إما لتناهيه في الصغر، وإما لتناهيه في الكبر؛ فلا تحيط به، وحين تقدم العلم التطبيقي اخترعوا المَجَاهر التي تُكبِّر الشيء المتناهي في الصغر آلاف، أو ملايين المرات.
وأنت لو وضعت جلدك تحت عدسة المجهر فسترى فجوات وكأنها آبار لم تكن تراها أو تحسها من قبل؛ لأنها بلغت من الدقة والصِّغر بحيث لا تستطيع عيناك أن تدركها، فإن رأيتها بالمجهر كَبُرَت فترى فجوات وتعاريج وعُلُوّاً وانخفاظاً ـ مهما كان الجلد الذي تراه تحت المجهر ناعماً.
وكذلك أنت لا تقدر على إدراك الشيء الضخم، وقد تفصل بينك وبين الشيء الكبير مسافة؛ فتراه أصغر من حجمه، وكلما ابتعد صَغُرَ، فأنت إذا رأيت ـ مثلاً ـ رجلاً طويلاً على مسافة كبيرة، فأنت تراه وكأنه طفل صغير، وكلما اقترتب منه زاد طوله في عينيك.
إذن: لا الضخامة ولا البُعد ولا القِلَّة تمنع من علم الحق سبحانه لأي شيء.
وقد خاطب الحق سبحانه العرب بأصغر ما عرفوه، وهو الذرة، أي: النملة الصغيرة.
وأنت إذا وطأتَ نملة في أرض رملية فهي لا تموت، بل تدخل في فجوات الرمل، وتجد لنفسها طريقاً إلى سطح الأرض مرة أخرى.
قد بيَّن الحق سبحانه هذه المسألة حين تحدَّث عن سليمان ـ عليه السلام ـ في وادي النمل، فقال تعالى:
{ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }[النمل: 18].
لأنهم لا يرونهم؛ لحجمهم المتناهي في الصغر.
وهكذا يعطينا الحق سبحانه بياناً عن كل أمة في الحياة، وأن من بينهم جنوداً يحرسون بيقظة، فالنملة قامت بإنذار قومها من سليمان وجنوده، لأنهم لن يروا النمل الصغير.
إذن: الذَّرُّ إما أن يكون النمل الصغير، وإما أن يكون الذرَّات الهبائية.
وأراد الله سبحانه أن يضرب لنا مثلاً بإحاطة علمه في أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة.
ويعزب، أي: يغيب، ويقال: " هذا البئر ماؤه عازب " ، أي قادم من عمق بعيد، ويحتاج استخراجه إلى دَلْوٍ وحبال طويلة.
ونسمِّي الرجل الذي يبعد عن أهله " عَزَب ".
وقول الحق سبحانه: } وَمَا يَعْزُبُ {. أي: لا يبعد ولا يغيب عنه أصغر شيء ولا أكبر شيء.
يقول سبحانه ذلك؛ ليطمئننا أن كل خاطرة من خواطر الإنسان إنما يشهدها الله، ويَعْلَمُها، وهو المُجَازِي عليها.
وإن استطاع إنسان أن يُعمِّي على قضاء الأرض، فلن يستطيع أن يُعمِّي على قضاء السماء.

ومسألة الذرَّة والصغر يقول عنها الحق سبحانه:
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7ـ8].
هذا للمتساوِي في الثقل والوزن، أما إن كان أصغر من الذرة، فقد ذكره الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فقال:
} وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ { [يونس: 61].
وعلى زمن نزول القرآن الكريم لم يكن أحد يعرف أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وكنا جميعاً حتى ما قبل الحرب العالمية الأولى لا نعلم أن هناك شيئاً أصغر من الذرة، وكان العلماء يعتقدون أن الذرة هي الجزء الذي لا يتجزَّا؛ لأنها أصغر ما يقع عليه البصر، فضرب الله مثلاً بالأقل في زمن نزول القرآن.
ولما تقدم العلم بعد الحرب العالمية الأولى واخترعت ألمانيا آلةً لتحطيم الذرة قيل عنها: إنها آلة تحطيم الجوهر الفرد. أي: الشيء الذي لا ينقسم، وهذه الآلة مكونة من اسطوانتين مثل اسطوانتي عَصَّارة القصب، والمسافة بين الاسطوانتين لا تكاد تُرَى، وحين حَطَّمت ألمانيا ما قيل عنه " الجوهر الفرد " تحول إلى ما هو أقل منه، وتفتَّتت الذرّة.
وقد جعل الحق سبحانه المقياس في الصغر هو الذرة.
وحين اخترعت ألماينا تلك الآلة توجَسّ المتصلون بالدين وخالوا أن يقال: إن الحق سبحانه لم يذكر ما هو أقل من الذرة، ولكنهم التفتوا إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فقرأوا قول الحق سبحانه:
} وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ { [يونس: 61].
و } وَمَا يَعْزُبُ { أي: لا يبعد أو يغيب } عَن رَّبِّكَ { أي: عن عِلْمه } مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ {. أي: وزن ذَرَّة.
وقديماً قلنا: إن البعض يقول: إن " من " قد تكون حرفاً زائداً في اللغة، كقولنا: " ما جاءني مِنْ رجل " وتعرب كلمة " من ": حرف جر زائد، و " رجل ": فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة التي منع من ظهورها اشتعال المحلِّ وهو " اللام " بحركة حرف الجر الزائد.
ولكن في كلام الله لا يوجد حرف زائد، فـ " مِنْ " في قوله: } مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ {. أي: من بداية ما يقال له " مثقال ".
ويقول الحق سبحانه في آية أخرى.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىا وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ }[سبأ: 3].
وكلمة } وَرَبِّي { مُقْسَمٌ به، وحرف " الواو " هو حرف الجر، ولم يأت هنا بالشهادة، وجاء بالغيب، ولم يأت بعلم الغيب في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها.
وعالم الشهادة، تعني: أنه عَالِمٌ بكل ما يشهد، ويظن البشر أنها غير مُحَاطٍ بها لعظمتها؛ أو لأن الله غيب فلا يرى إلا الغيب، لكن الحق سبحانه يرى ويعلم الغيب والشهادة.

لقد قال الحق كلمة " مقال ذرة " ثلاث مرات:
مرة حين قال سبحانه:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }[الزلزلة: 7].
ومرة حين قال هنا:
} مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ { [يونس: 61].
وجاء بـ " من " هنا ليبين أنه لا يغيب عن الله تعالى من بداية ما يقال له " مثقال ".
وقال الحق سبحانه في موضع آخر:
{ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ }[سبأ: 3].
وجاء بالسموات أولاً، وجاء في الآية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ بالأرض أولاً، وهو في الآيتين يتكلم عن علمه للغيب، فيأتي بمثقال الذرة ويقدِّم السماء ويأتي بها مفردة، ثم يأتي بما هو أقل من الذرة ويقدِّم الأرض.
وهذا كله من إعجاز أساليب القرآن التي أراد البعض من المستشرقين أن يعترضوا عليها، وكانت جميع اعتراضاتهم نتيجة لعجزهم عن امتلاك مَلَكة الأداء البياني.
وإنْ عرضنا الرد على تساؤلاتهم نجد أن الحق سبحانه قَدَّم الأرض في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لأنه سبحانه يتكلم عن أهل الأرض:
} وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ { [يونس: 61].
وجاء أيضاً بالسماء، وهي السماء الدنيا التي يراها أهل الأرض.
أما الآية الأخرى فهو سبحانه يقول:
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىا وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ }[سبأ: 3].
والكلام هنا عن الساعة، وعلمها عند الله تعالى، ولم تنزل من السموات إلى السماء الدنيا حتى نقول للمكلَّفين في الأرض: قوموا ها هي الساعة.
ولذلك جاء الحديث هنا عن السموات أولاً؛ لأن علم الساعة عند ربِّي، ولن ينزل إلا بمشيئته سبحانه.
وهكذا جاء كل أسلوب لا بإجمال المعنى، ولكن بدقة جزئياته، فتكلم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وآية سبأ عن العلم والذرَّة، والسماء والأرض، وكل آية جاءت الكلمات فيها بتقديم أو تأخير يناسب مجالها.
ثم يقول الحق سبحانه: } إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ { [يونس: 61].
ولنا أن نلتفت إلى أن الاستثناء هنا لا يُخْرِج ما قبله، بل كل شيْ مكتوب في الكتاب المبين، ونحن في الدنيا نجد الإنسان إن كان له دَين عند آخر فهو يحتفظ بالوثائق المكتوبة التي تُسجِّل ما له وما عليه. ولكن، أيحتفظ الحق سبحانه بأعمالنا ونيَّاتنا مكتبوة كحجة له، أم حجة لنا؟
إنه سبحانه يعلم أزلاً كل أعمالنا، ولكنه يُسجِّل لنا بالواقع تلك الأعمال والنيات؛ لنعلم عن أنفسنا ماذا فعلنا؛ لتنقطع حجة من أساء إذا وقع به العقاب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ {

(/1412)


أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)


وجاءت هذه الآية بعد كلامه الحق عن نفسه سبحانه بأنه عالم الغيب، ولا يخفى عليه شيء، وشاء الله سبحانه بذلك أن يعلّمنا أنه قد يفيض على بعض خلقه فيوضات الإمداد على قَدْر رياضات المرتاضين، فَهَبْ أن الله قد امتن عليك بنفحة، فإياك أن تقول إنها من عندك، بل هي من عند عالم الغيب سبحانه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وعلى ذلك فلا يقال: إن فلاناً قد عَلِم غيباً لأنه وليٌّ لله، بل لنقل: " إن فلانا مُعَلَّمُ غَيْبٍ "؛ لأن الغيب ما غاب عن الناس، وما يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك فهو ليس غيباً مطلقاً.
ومثال ذلك: الرجل الذي سُرق منه شيء، هو لا يعرف أين يوجد الشيء الذي سُرق منه، ولكنه اللص يعرف، وكذلك من ساعد اللص وأخفاه وأخفى له المسروقات، كل هؤلاء يعلمون، وأيضاً الجن الذين كانوا في نفس مكان السرقة يعلمون، وهذا ليس غيباً مطلقاً.
وأيضاً أسرار الكون التي كانت غيباً موقوتاً، مثل جاذبية الأرض، والسالب والموجب في الكهرباء، وتلقيح الرياح للسحاب لينزل الماء، كل ذلك كان غيباً في زمن ما، ثم شاء الحق سبحانه فحدَّد لكل أمرٍ منها ميعادَ كشفٍ، فصارت أموراً مشهورة.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك؛ ليعمل الإنسان ويجتهد ليكشف أسرار الكون.
ومن العجيب أن الباحث قد يعمل من أجل كشف معين، فيصادف كشفاً آخر؛ لأن الله تعالى قد أذن لذلك الكشف الذي كان غيباً أن يولد، وإن لم يبحث عنه أهل الأرض.
ومن اكتشف " البنسلين " رأى العفن الأخضر حول بعض المواد العضوية فبحث عن أسرار ذلك، واكتشف " البنسلين ".
و " أرشميدس " الذي اكتشف قانون الطفو، واستفادت منه صناعات السفن والغواصات، وكل ما يسير في البحر، وقد اكتشاف قانون الطفو صدفة.
إذن: ففي الكون غيب قد يصير مَشْهَداً، إما بمقدِّمات يتابعها خَلْقُ الله بالبحث، وإما أن تأتي صدفة في أثناء أي بحث عن شيء آخر.
ومثال ذلك: عصر البخار الذي بدأ من رجل رأى إناء مُغَطّى يغلي فيه الماء، فضل غطاء الإناء يرتفع ليُخرج بعضاً من البخار، وانتبه الرجل إلى أن البخار يمكن أن يتحول إلى طاقة تجرّ العربات التي تسير على عَجَل، وهكذا جاء عصر البخار.
إذن: فميلاد بعض من أسرار الكون كان تنبيهاً من الله تعالى لأحد عباده لكي يتأمل؛ ليكتشف سِرّاً من تلك الأسرار.
وأغلب أسرار الكون تم اكتشافها صدفة، لنفهم أن عطاء الله بميلادها ـ دون مقدمات من الخَلْق ـ أكثر مما وُصِِل إليه بالعطاء من مقدمات الخلق.
ولذلك تجد التعبير الأدائي في القرآن عن لونَي الغيب، تعبيراً دقيقاً لنفهم أن هناك غيباً عن الخلق جميعاً وليست له مقدمات، ولا يشاء الله سبحانه له ميلاداً، واستأثر الله بعلمه؛ فلا يعلمه إلا هو سبحانه.

يقول الحق سبحانه:
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ }[البقرة: 255].
هذا هو الغيب الذي يكشفه الله سبحانه لهم، إما بالمقدمات، أو بالصدفة، وقد نسب المشيئة له سبحانه، والإحاطة من البشر، وهذا هو غيب الابتكارات.
أما الغيب الآخر الذي لا يعلمه أحد إلا هو سبحانه ولا يُجَليِّه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول الحق عنه:
{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ }[الجن: 26ـ27].
إذن: فالحق سبحانه يفيض من غيبه الذاتي على بعض خَلْقه، والقرآن الكريم فيه الكثير من الغيب، وأفاضة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحققت الأحداث كما جاءت في القرآن.
والحق سبحانه يهب بعضاً من خلقه بعضاً من فيوضاته، وقد أعطى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بعضاً من الهِبَات وحدَّد من يعطيه بعضاً من الغيب:
{ إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ }[الجن: 27].
وهي ليست للحصر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسوة، وقال فيه الحق سبحانه:
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }[الأحزاب: 21].
ومن يعمل بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم ويقتدي به؛ يهبه الله تعالى هِبةً يراها الناس فيعرفون أن مَنْ يتّبع الرسول صلى الله عليه وسلم كقدوة يعطيه الله سبحانه الهبات النوارنية، ولكن هذه الهِبَة ليست وظيفة، وليست (دُكَاناً) للغيب، بل هي مِنْ عطاءات الله تعالى.
وانظر إلى دقة القرآن حين يقول:
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ }[الأنعام: 59].
أي: أنه سبحانه لم يُعْطِ مفتاح الغيب لأحد، والوليّ من أولياء الله إنما يأخذ الهبة منه سبحانه، لكن مفتاح الغيب هو عند الله وحده.
وعندما نتأمل قول الحق سبحانه:
} أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { [يونس: 62].
نجد أن كلمة " وليّ " من وَلِيَهُ، يليه، أي: قريبٌ منه، وهو أول مَفزَع يفزع إليه إن جاءه أمر يحتاج فيه إلى معاونة من غيره، وإن احتاج إلى نصرة فهو ينصره، وخيره يفيض على مَنْ والاه.
ومَنْ يقْرُب عالماً يأخذ بعضاً من العلم، ومَنْ يقرب قويّاً يأخذ بعضاً من القوة، ومَنْ يقرب غنيّاً، إن احتاج، فالغني يعطيه ولو قَرْضاَ.
إذن: فالوَاليّ هو القريب الناصر المُعِين المُوالِي.
وتطلق " الولي " مرةً لله سبحانه، وقد قال القرآن:
{ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ }[الشورى: 9].
لأنه سبحانه القريب من كل خَلْقه، عكس الخَلْق الذين يقتربون من بعضهم أو يتباعدون حسب إمكاناتهم، أما الله سبحانه وتعالى فهو الوليّ المُطلَق، فقُربه مِنْ خَلْقٍ لا يبعده عن خَلقٍ، ولا يشغله شيء عن شيء، فهو الوليّ الحقُّ، وهو سبحانه يقول:


{ هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ }[الكهف: 44].
فمن يحتاج إلى الولاية الحقَّة فَليلجأ إلى الله، وهو سبحانه يُفيض على الأوفياء لمنهجه من الولاية.
ونجد التعبير القرآني الدقيق:
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة: 257].
فهو سبحانه يقرب من عباده المؤمنين، والمؤمنون يقربون من الله تعالى في قول الحق سبحانه:
} أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ { [يونس: 62].
إذن: فالولاية المطلقة لله، وإنْ قُيِّدت بشيء مضافٍ ومضافٍ إليه، فهي مرة تكون من المؤمنين لله، ومرة تكون من الله للمؤمنين.
والحق سبحانه لا تحكمه قوانين؛ فبطَلاقة قُدرته سبحانه إذا رأى في إنسانٍ ما خَصْلة من خير، فيكرمه أولاً، فيصير هذا العبد طائعاً من بعد ذلك.
وتسمع من يقول: إن فلاناً قد خُطف من المعصية أي: أنه كان عاصياً، ثم أحب الله تعالى خَصْلة خيرٍ فيه، فهداه.
ومثال ذلك: الرجل الذي سقى كلباً، بل احتال ليسقيه بأن ملأ خُفَّه بالماء من البئر ليروي ظمأ الكلب؛ فغفر الله ـ سبحانه وتعالى ـ له سيئاته.
هذا الرجل لم يكن ليروي الكلب نفاقاً للكلب، ولكن لأن الرجل شعر بالعطف على كائن ذي كبد رطبة.
إذن: فليست المسائل عند الله تعالى آلية أو ميكانيكية، بل طلاقة قُدرته سبحانه تقدّر كل موقف كما قدَّرتْ اختلاف الخَلْق، ولذلك قال سبحانه:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ }[الروم: 22].
فليس عند الله تعالى قالب يضع فيه الخلق، بل سبحانه يخلق الطويل والقصير والسمين والرفيع والأشقر والزنجي، وهذا بعضٌ من طلاقة قدرته سبحانه، وبرحمته سبحانه قرب من خَلْقه الذين آمنوا أولاً، وقربه سبحانه منهم:{ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }[البقرة: 257].
فمن يتبع المنهج يأخذ النور، فإذا علم الله سبحانه عمله بمنهجه فهو سبحانه يُقرّبه قُرْباً أكثر فيعطيه هبةً اصطفائية يراها الذين حوله وقد يقتدون به.
والحق سبحانه يريد من المؤمن الأدب مع خَلْق الله، فإذا علم سيئةً عن إنسان فعليه أن يسترها، لأن الحق سبحانه يحب السَّتْر ويحب من يَستر.
وأنت قد تكره إنساناً تعلم عنه سيئةً ما، وقد تكره كل حسنة من حسناته، فيريد الله ألاّ يحرمك من حسنات مَنْ له سيئة فيسترها عنك لتأخذ بعضاً من حسناته، ويأمرك الحق ألاّ تحتقر هذا المسيء؛ لأنه قد يتمتع بخَصْلة خير واحدة، فيكرمه الله سبحانه من أجلها أولاً، ثم يطيعه هذا العبد ثانياً.
والحق سبحانه يقول في الحديث القدسي:
" يا ابن آدم أنا لك محبٌّ فبحقّي عليك كن لي مُحِبّاً ".
ويقول الله سبحانه في حديث قدسي:
" أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ".


وفي هذا القول يضع مسئولية القُرب من الله في يد الخَلْق، ويضيف الحق سبحانه:
" وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".
ومن يريد أن يأتيه الله هرولة فليذهب إلى الله ماشياً.
إذن: فالإيمان بالله يسلِّم المؤمن مفتاح القرب من الله.
ومن يكن من أصحاب الخُلُق الملتزمين بالمنهج يُقرِّبْه الله منه أكثر وأكثر.
إذن: فمن الناس مَنْ يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، ويدق على باب الحق، فينفتح له الباب، ومن الناس مَنْ يصل بكرامة الله أولاً إلى طاعة الله ثانياً.
ولله المثل الأعلى: أنت كواحد من البشر قد يدق بابك إنسانٌ يحتاج إلى لقمة أو صدقة فتعطيه، وهناك إنسان آخر تحب أنت أن تعطيه، وعندما تعطيه يطيعك من منطلق الإحسان إليه، فما بالنا بعطاء الحق لعباده؟
إذن: فمنهم مَنْ يصل بكرامة الله إلى طاعة الله، ومنهم من يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، وحين يصل الإنسان إلى القرب من الله، ويقرب الله من العبد، هنا يكون العبد في معية الله، وتفيض عليه هذه المعية كثيراً.
وقد قال أبو العلاء المعري لمحبوبته:أنت الحبيبُ ولكني أعوذ بِهِ من أن أكون حبيباً غير محبوبِأي: أنه يستعيذ بالله من أن يكون محباً لمن يرفض حبّه، ولكن محبة الله تختلف عن محبة البشر، وسبحانه لا يعامل محبيه كذلك، فأنت حين تحب الله يقرّبك أكثر وأكثر، ويسمَّي ذلك " المصافاة " ، فإذا أفاض الله سبحانه على بعض خَلْقه هِباتٍ من الكرامات فعلى العباد الذين اختصهم الحق سبحانه بذلك أن يُحسنوا الأدب مع الله، وألا يتبجَّح واحد منهم متفاخراً بعطاء الله سبحانه له.
فالمباهاة بالكرامات تضيعها، ويسلبها الحق سبحانه من الذي يتبجَّح بها ويتفاخر ويتباهى، فمن تظاهر بالكرامة ليس له كرامة.
إذن: فالحق سبحانه يريد أن يكون العبد دائماً في معيّيته، وهو سبحانه الذي بدأ وبيَّن بالآية الواضحة أنه سبحانه وليّ المؤمنين؛ ولذلك سيخرجهم من الظلمات إلى النور. فقال:
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }[البقرة: 257].
ونحن نعلم أنه سبحانه يأتي بالمحسَّات ليبيِّن المعنويات؛ لأن إلْفَ الإنسان أولاً بالمحسَّات، وهي أقرب إلى تقريب المراد،فحين يضرب الحق سبحانه لنا المثل بالكفر والإيمان، يصف الكفر بالظلمة، والإيمان بالنور، إنما يريد الحق أن يجعل لك المراد واضحاً موصولاً بمفهومك.
وإذا كنا نتجنَّب معاطب الظلمات الحسية، أليس الأجدر بها ـ أيضاً ـ أن نتجنب معاطب الظلمات المعنوية، إن الظلمة الحسية تستر الأشياء فلا نرى الأشياء، وقد نرتطم بأضعف شيءٍ فنحطِّمه أو نصطدم بأقوى شيء فيحطمنا.
إذن: فَحَجْب المرائي يسبِّب الكوارث، أما حين يأتي النور؛ فهو يبيِّن ملامح الأشياء فتسير على هُدىً وأنت مطمئن.

وهَبْ أنك في مكان مظلم ويوجد شيء آخر في مكان منير، فأنت في الظلمة ترى مَنْ يوجد في النور، وهذه مسألة لم يفطن لتفسيرها علماء ما قبل الإسلام، حيث كانوا يظنون أن الرؤية إنما تحدث من انتقال شعاع من عين الرائي إلى المرئيِّ، حتى جاء " الحسن بن الهيثم " العالم الإسلامي واكتشف قوانين الضوء، وكشف خطأ ما سبقه من نظريات، وحدَّد أن المرئي هو الذي يصدر منه شعاع إلى الرائي، وإذا ما كان المرئي في ظُلمةٍ فلن يراه أحد، ولو كان هناك شعاع يخرج من الرائي؛ لرأى الإنسان في الظلام.
إذن: أول ولاية من الله للمؤمنين أنه سبحانه يخرجهم من الظلمات إلى النور، والظلمة المعنوية أقوى من الظلمة الحسية، وكذلك النور المعنوي أقوى من النور الحسّي، فعالَمُ القيم قد يكون أقوى من عالم الحس؛ لأن الجبر في عالم الحسّ يمكن أن يحدث، أما في عالم القيم فهو أمر شاق؛ ولذلك قال الشاعر:جراحاتُ السنانِ لها التئامُ ولا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُويقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { [يونس: 62].
و " ألا " كما أوضحنا من قبل أداة تنبيه من المتكلَم للمخاطب حتى لا تفوته كلمة واحدة مما يجيء في الخطاب.
وقوله سبحانه: } لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ { [يونس: 62]. أي: لا خوف عليهم من غيرهم } وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ { [يونس: 62] أي: أن الحزن لن يأتي منهم، والخوف يكون من توقع شيء ضار لم يقع حتى الآن، ولكنه قد يحدث في المستقبل.
وفي حياتنا اليومية نجد الأب يمسك بيد ابنه في الزحام خوفاً عليه، وقد ترى وليّاً من أولياء الله وقد أصيب ابنه في حادث أو مات الابن، تجد الوليّ في ثبات لأنه يعلم حكمة الله في قضائه، فلا تتطوع أنت بالخوف عليه.
إذن: فالخوف يأتي من المستقبل، وهو أمر مرتقب، أما الحزن فهو إحساس يحدث على شيء فات.
والحق سبحانه يقول:
{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىا مَا فَاتَكُمْ }[الحديد: 23].
والحزن على ما فات عبث؛ لأن ما فات لا يعود.
وأولياء الله تعالى لا خوف عليهم؛ لأنهم دائماً بصدد معرفة حكمة الله، ومَنْ لا يعرف حكمة الله تعالى في الأشياء قد يقول: " إن فلاناً هذا مسكين "؛ لأنك لا تعرف ماذا جرى له.
وأما الحزن فهو مشاعر قلبية يريد الله من المؤمن أن تمر على باله.
وقد قال صلى الله عليه وسلم حين افتقد ابنه: " وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " ولكنه حزن الوَرَع الذي يتجلَّى في قوله صلى الله عليه وسلم:
" إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ".
وبين الله سبحانه لنا شروط الولاية فيقول: } الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ {

(/1413)


الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)


والإيمان هو الأمر الاعتقادي الأول الذي يُبنى عليه كل عمل، ويقتضي تنفيذ منهج الله، الأمر في الأمر، والنهي في النهي، والإباحة في الإباحة.
والتقوى ـ كما علمنا ـ هي اتقاء صفات الجلال في اله تعالى، وأيضاً اتقاء النار، وزاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات من تصدر عنه التقوى؛ لأنها مراحل، " فقال صلى الله عليه وسلم يصف المتقين:
" هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لَعلَى نور ".
وقد سئُل عمر ـ رضي الله عنه ـ عن المتقين فقال: " الواحد منهم يزيدك النظر إليه قُرباً من الله ". وكأنه ـ رضي الله عنه ـ يشرح لنا قول الحق سبحانه:
{ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ }[الفتح: 29].
وساعة ترى المتقي لله تُسَرُّ وتفرح به، ولا تعرف مصدر هذا السرور إلا حين يقال لك: إنه ملتزم بتقوى الله، وهذا السرور يلفتك إلى أن تقلده؛ لأن رؤياه تذكِّرك بالخشوع، والخضوع، والسكينة، ورقَّة السَّمْت، وانبساط الأسارير.
والواحد من هؤلاء ينظر إلى الكون ولا يجد في هذا الكون أي خَلَل، بل يرى كل شيء في موضعه تماماً، ولا يرى أي قُبح في الوجود، وحتى حين يصادف القبح، فهو يقول: إن هذا القبح يبيِّن لنا الحُسْن، ولولا وجود الباطل ومتاعبه لما عشق الناسُ الحقّ، وهكذا يصير الباطل من جنود الحق.
إن وجود الشرّ يدفع الناس إلى الخير؛ ولذلك يقال: كُنْ جميلاً في دينك تَرَ الوجود جميلاً؛ لأنك حين ترى الأشياء وتقبل قدر الله فيها، هنا يفيض الله عليك بهبات من الفيض الأعلى، وكلما تقرَّبت إلى الله زاد اقتراب الله سبحانه منك، ويفيض عليك من الحكمة وأسرار الخلق.
ومثال ذلك: العبد الصالح الذي آتاه الله من عنده رحمة وعلَّمه من لدنه علماً، هذا العبد يعلّم موسى عليه السلام، فحين قارن بين خَرْق العبد الصالح لسفينة سليمة، ولم يكن يعلم أن هناك حاكماً ظالماً يأخذ كل سفينة غَصْباً؛ ولذلك ناقش موسى العبد الصالح، وتساءل: كيف تخرق سفينة سليمة؟ وهنا بيَّن له العبد الصالح أن الملك ا لظالم حين يجد السفينة مخروقة فلن يأخذها، وهي سفينة يملكها مساكين.
وحين قَتل العبدُ الصالح غلاماً، كان هذا الفعل في نظر موسى جريمة، ولم يعلم سيدنا موسى ما علمه العبد الصالح أن هذا الولد سوف يسيء إلى أهله، وأمر الله العبد الصالح بقتله قبل البلوغ حتى لا يفتن أهله، وسوف يدخل هذا الولد الجنة ويصير من دعاميص الجنة.
ويقال: إن من يموت من قبل البلوغ ليس له مسكن محدّد في الجنة، بل يذهب حيث يشاء؛ فهو كالطفل الصغير الذي يدخل قصراً، ولا يطيق البقاء في مكان واحد، بل يذهب هنا وهناك، وقد يذهب إلى حيث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر الصديق، أو عند أي صحابي جليل.

وأيضاً حين دخل سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ مع العبد الصالح إلى قرية واستطعما أهلها فرفضوا أن يطعموهما ـ وطلب الطعام. هو أصدق ألوان السؤال ـ فأبى أهل القرية أن يطعموهما، وهذا دليل الخسَّة واللؤم؛ فأقام العبد الصالح الجدار الآيل للسقوط في تلك القرية.
ولم يكن سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ قد علم ما علمه العبدُ الصالح من أن رجلاً صالحاً قد مات وترك لأولاده كنزاً تحت هذا الجدار، وبناه بناية موقوتة بزمن بلوغ الأبناء لسن الرشد؛ فيقع الجدار ليحد الأبناء ما ترك لهم والدهم من كنز، ولا يجرؤ أهل القرية اللئام على السطو عليه.
إذن: هذه هباتٌ من فيض الحق سبحانه على عباده الصالحين، وهو سبحانه وتعالى يجعل مَثَل هؤلاء العباد كالصواري المنصوبة التي تهدي الناس، أو كالفنار الذي يهدي السفن في الظلمة.
ويقول الحق سبحانه: } لَهُمُ الْبُشْرَىا فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا {

(/1414)


لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)


والبُشرى: من البِِشْر والبشارة والتبشير، وكلها مأخوذة من البشرة، وهي الجلد؛ لأن أي انفعال في باطن النفس الإنسانية إنما ينضح على البشرة، فإذا جئت للإنسان بأمر سارٍّ تجد أثر هذا السرور على أساريره، وإن جئت للإنسان بخبر سيِّىء تجد الكدر وقد ظهر على بشرته، فالبشرة هي أول منفعل بالأحداث السارة أو المؤلمة.
وحين يقال: " بشرى " فهذا يعني كلاماً إذا سمعه السامع يظهر على بشرته إشراق وسرور؛ لأنه كلام مبشِّر بخير.
وحين " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البشرى، قال: " إنها الرؤية الصالحة تُرى للمؤمن أو يراها " ، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ".
وقد أوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا ستة أشهر، وأوحي إليه في اليقظة ثلاثة وعشرين عاماً، فإذا نسبت الستة أشهر إلى الثلاثة والعشرين عاماً، تجد أن الستة أشهر تمثل جزءاً من ستة وأربعين جزءاً.
والرؤيا ليست هي الحُلْم؛ لأن الرؤيا هي شيء لم يشغل عقلك نهاراً، وليس للشيطان فيه دخل.
والمثل العامي يقول: " الجوعان يحلم بسوق العيش " فإن كان ما يراه الإنسان في أثناء النوم له علاقة بأمر يشغله، فهذا هو الحلم، وليس للرؤيا، وإن كان ما يراه الإنسان في أثناء النوم شيئاً يخالف منهج الله، فهذه قذفة من الشيطان.
إذن: فهناك فارق بين الرؤيا والحلم، وأضغاث الأحلام.
البشرى ـ إذن ـ هي الرؤيا الصالحة، أو هي المقدمات التي تُشْعر خَلْق الله بهم فتتجه قلوب الناس إلى هؤلاء الأولياء، وقد تجد واحداً أَحبه الله تعالى في السماء، " فيقول الله سبحانه وتعالى لجبريل عليه السلام: " إني أحب فلاناً فأحبَّهُ. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء فيقول: إن الله يَحب فلاناً فأحِبُّوه، فيحبه أهل السماء. قال: ثم يُوضع له القبول في الأرض ".
وساعة تراه مكتوباً له القبول، فالكل يُجمعون على أن في رؤيتهم لهذا المحبوب من السماء سَمْتاً طيباً، وهذه هي البشرى.
أو أن البشرى تأتي لحظة أن يأتي مَلَكُ الموت، فيُلْقي عليه السلام، ويشعر أن الموت مسألة طبيعية، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }[النحل: 32].
أو ساعة يبيضُّ الوجه حين يأخذ الإنسان من هؤلاء كتابه بيمينه، وهذه بشرى في الدنيا وفي الآخرة.
والحق سبحانه يقول:{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ }

[فصلت: 30ـ31].
إذن: فهؤلاء الأولياء يتلقون من فيوضات الله عليهم بواسطة الملائكة ويتميزون عن غيرهم؛ لأن الواحد منهم قد يفرض على نفسه نوافل فوق الفروض؛ لأن الفروض هي أقل القليل من التكاليف.
وقد يرى واحد منهم أن القيام بالفروض لا تناسب مع حبه لله تعالى؛ فيزيد من جنسها على ما فرض الله، ويصلِّي ـ بدلاً من خمسة فروض ـ عشرة أخرى نوافل، أو يصوم مع رمضان شهراً أو اثنين، أو يصوم يومي الاثني والخميس من كل أسبوع.
وهذا دليل على أنه وجد أن الفروض قليلة بالنسبة لدرجة حبه لله تعالى، وأن الله تعالى يستحق أكثر من ذلك، وهذا معناه أن مثل هذا العبد قد دخل في مقام الود مع الله تعالى، وهنا يفيض الله سبحانه وتعالى عليه بما يشاء، وينال من رضوان الله ما جاء في الحديث القدسي:
" من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْلَهُ التي يمشي عليها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ".
وهكذا تختلف المقاييس بين عبد يحب الله تعالى ويؤدي فوق ما عليه، وعبد آخر يقوم بالتكاليف وحدها.
ويُنهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله:
} لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { [يونس: 64].
وما دام الحق سبحانه قد قال: } لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ { فلن تجد أحداً قادراً على ذلك، كما أن الخلق مقهورون كلهم يوم القيامة؛ ومَنْ كان يبيح له الله تعالى أن يملك شيئاً في الدنيا لم يعد مالكاً لشيء، بدليل أن الكل سيسمع قول الحق سبحانه:
{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].
وما دام الحق سبحانه قد وعد ببشرى الدنيا وبشرى الآخرة، فلا تبديل لما حكم به الله، فلا شيء يتأبَّى على حكم الله تعالى، والوعد بالبُشريات في الدنيا وفي الآخرة فوز عظيم مؤكد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً {

(/1415)


وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)


تجيء هذه الآية بعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى اعتراضات الكفار، وإيذاءهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له وقولهم فيه ما قالوه، وفيما قالوه ما أحزنه صلى الله عليه وسلم؛ لذلك طلب منه الحق سبحانه ألاَّ ينفعل لما قالوه انفعال الحزين، فقد قالوا: ساحر، وكاذب، ومُفْتَرٍ، ومجنون، وقد نفى عنه الحق سبحانه كل ما قالوه، فلو كان محمد صلى عليه وسلم ساحراً فلماذا لم يسحرهم هم أيضاً، وهل للمسحور إرادة مع الساحر؟!
إذن: كَذَّبَ قولَهم في أنه صلى الله عليه وسلم سحر عبيدَهم وأولادَهم.
وقالوا: مجنون، ولم يكن في سلوكه صلى الله عليه وسلم أدنى أثر من جنون، وفنَّد أقوالهم هذه بقوله سبحانه:
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 1ـ4].
فالمجنون لا يكون على خُلُق عظيم أبداً.
وحين قالوا: إنه افترى القرآن، تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل ما قال، وعجزوا عن ذلك رغم أنهم مرتاضون للشعر والأدب والبيان.
وقول الحق سبحانه:
{ وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [يونس: 65] لأن أقوالهم لا حصيلة لها من الوقوف أمام الدعوة؛ لأن { الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [يونس: 65] والعزة هي القوة، والغلبة، ويقال: هذا الشيء عزيز، أي: لا يوجد مثله، وهو سبحانه العزيز المُطْلَق؛ لأنه لا إله إلا هو لا يُغلَب ولا يُقهَر.
وتلحظ حين تقرأ هذه الآية وجود حرف " الميم " فوق كلمة { قَوْلُهُمْ } وتعني: ضرورة الوقف هنا.
ولسائل أن يقول:
كيف يلزم الوقف هنا مع أن القرآن الكريم مبنيٌّ على الوصل؛ وآخر حرف في كل سورة تجده مُنوَّناً، وليس في القرآن ما يُلزم الوقف للقارىء؟
وأقول رَدّاً على هذا التساؤل: إن العلماء حين لاحظوا ضعف مَلَكة اللغة؛ جاءوا بهذا الوقف ليتفهم القارىء ـ الذي لا علم له بالبيان العربي ـ كيف يقرأ هذه الآية، فهَبْ أن واحداً لا يملك فطنة الأداء، فينسب { إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [يونس: 65] إلى { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [يونس: 65]. ويخطىء الفهم، ويظن ـ معاذ الله ـ أن العزة لله هي أمر يُحزِن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك جاء العلماء بالوقف هنا لندقِّق القراءة ونُحْسِن الفهم.
ولذلك علينا أن نقرأ { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [يونس: 65] ثم نتوقف قبل أن نتابع القراءة { إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } [يونس: 65ِ]؛ وبهذا نفهم المعنى: يجب ألاَّ تحزن يا محمد؛ لأن أقوالهم لن تغيّر في مجرى حتمية انتصارك عليهم.
ويريد الحق سبحانه هنا أن يطمئن رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر محدد، هو أنه صلى الله عليه وسلم مهمته هي البلاغ فقط، وليس عليه أن يُلزمهم بالإيمان برسالته والتسليم لمنهجه.

وبيّن له الحق سبحانه: أنهم إذا ما صدُّوا بعد بلاغك، فلا تحزن مما يقولون؛ فأقوالهم لا يقوم عليها دليل، ولا تنهض لها حُجَّة، وقد جاء فيهم قول الحق سبحانه:
{ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ }[النمل:14].
وأقوالهم لن تقف في سبيل دعوتك، وسيُتمُّ الله نوره، ولا يوجد أعز من الله سبحانه وتعالى، ولن يجير أحد على أحداً، فهو سبحانه يُجير ولا يُجار عليه.
وإذا كانت العزة هي القهر والغلبة، وقد تكون عزة حُجّة، وقد تكون عزة حلْف، وقد تكون عزة حكمة، وكل واحد من خلق الله سبحانه قد توجد له عزة مجالٍ ما أو محيط ما، لكن العزة لله سبحانه شاملة مطلقة في كل محيطٍ وفي كل مجال، شاملة لكل شيء وأي شيء.
ولماذا لم يأت الحق سبحانه بأسلوب القَصْر في هذه الآية؟
أي: أن تأتي الصفة للموصوف وتنفيها عما عداه؛ كأن نقول: " لزيدٍ مالٌ ليس لغيره ". وإذا قدمنا الجار والمجرور ـ وهو المتعلّق ـ فنقول: " لفلانٍ كذا " ، وهذا يعني ان غير فلانٍ ليس له كذا.
وإنْ قلنا: " فلان له كذا " فيصح أن نقول: " ولفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا، ولفلانٍ كذا ".
أما إذا قلت: " لفلان كذا " فمعناها: امتناع أن يكون لغير فلان شيء من مثل ما قلت.
وهنا يقول الحق سبحانه: } إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً { [يونس: 65] وجاء بالتأكيد ولم يأت لها بأسلوب القصر الذي يعطي العزة لله سبحانه وينفيها عن غيره؛ لأنه لا يوجد لهذه الآية مناهض، وهو كلام ابتدائي يخبر به الله سبحانه خبراً كونياً بأن العزة لله جميعاً.
وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول ذلك ـ وهو خالق الخلق ـ فلن تأتي قضية كونية تناقضها، ولو وجدت ـ معاذ الله ـ قضية كونية تناقضها، فالآية لن تكون صادقة. وهذا لم ولن يحدث أبداً مع آيات الحق سبحانه؛ لأنه هو خالق الكون، وهو مُنزل الآيات؛ فلا يمكن أن يحدث تناقض أبداً بين الكون وكلام خالق الكون سبحانه وتعالى:
وقد حدث أن ادعى بعضهم العزة لنفسه وقالوا:
{ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ }[المنافقون: 8].
وكان مغزى قولهم هو ادعاء العزة لأنفسهم، وادعاء الذلة للمؤمنين.
إذن فالعزة قد ادُّعيت، وما دامت قد ادعيت فلماذا لم تأت بأسلوب القصر؟
نقول: لا، لقد شاء الحق سبحانه أن يقول:
{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون: 8].
فالعزة لله لا تتعداه، ولكنه سبحانه شاء أن تكون عزة رسوله صلى الله عليه وسلم وعزة المؤمنين من باطن عزة الله تعالى.
وقول الحق سبحانه هنا:
} إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً { أي: في كل ألوانها هي لله سبحانه وتعالى، إن كانت عزة حكمه فهو الحكيم، وإنْ كانت عزة القبض على الأمور فهو العزيز، وإن كانت عزة الحلْم فهو الحليم، وإنْ كانت عزة الغضب والانتقام فهو المنتقم الجبّار، وكلُّ ألوان العزة لله تعالى:
} هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [يونس: 65].

وما دامت العزة هي الغلبة والقهر، فالله سبحانه يسمع من يستحق أن يُقهر منه، وما دام الأمر فيه قول فهو يجيء بالسمع، وإنْ كان فيه فعل، فهو يأتي بصفة العليم، فهو السميع لما يُقال والعليم بما يُفعل.
ونحن نعلم أن المنهيَّ عنه هنا هو: } وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ { [يونس: 65].
لذلك كان المناسب أن يقال: } هُوَ السَّمِيعُ { أولاً.
ويريد الحق سبحانه أن يدلِّل على هذه القضية دلالة كونية في آيات الله تعالى في الكون، وليس في الوجود أو الكون مَنْ يقف أمامه سبحانه؛ لذلك لا بد أن نلحظ أن قانون " العزة لله جميعاً " محكوم بأن لله تعالى ما في السموات وما في الأرض.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: } أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات {

(/1416)


أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)


فالحق سبحانه ـ إذن ـ لن يَخرج كائنٌ مَنْ كان عن ملكه.
وساعة تجد الحق سبحانه يبيِّن الشيء وضده، فهو يأتي بالقانون والإطار{ للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }[البقرة: 284].
ومثال ذلك: حين تبع قوم فرعون موسى ـ عليه السلام ـ وقومه، قال أصحاب موسى:{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[ الشعراء: 61].
قالوا ذلك؛ لأنهم رأوا البحر أمامهم، فشاء الحق سبحانه أن يبيِّن لهم أن البحر لن يعوق مشيئته سبحانه، ولم ينفلت البحر من قوة الله تعالى؛ لأن لله ما في السموات وما في الأرض، والبحر منها؛ لذلك انفلق البحر، فكان فِرْقٍ كالطود العظيم.
فلا شيء يخرج عن مُلكه سبحانه تعالى؛ ولذلك يأتي الحق سبحانه بالنقيض، فبعد أن جعل الحق سبحانه لهم مسلكاً في البحر، وكل فرْق كالطود العظيم، ويظل البحر مفلوقاً فيدخل قوم فرعون فيه.
والحق سبحانه يقول لموسى عليه السلام:{ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }[الدخان: 24].
فيأمر الحق سبحانه البحر أن يعود كما كان؛ فيغرق قوم فرعون بعد أن أنجى الله ـ سبحانه وتعالى ـ موسى ـ عليه السلام ـ ومن معه، فأهلك وأنجى بالشيء الواحد؛ لأنه سبحانه له ما في السموات وما في الأرض، وليبيِّن الحق سبحانه لنا أنه لا شيء في كون الله تعالى يقوم مقام عزته سبحانه أبداً.
وهناك مثال آخر: حين يقول نوح ـ عليه السلام ـ لابنه:{ يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا }[هود: 42].
فيردّ الابن قائلاً:
{ سَآوِي إِلَىا جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ }[هود: 43].
وهذا كلام صحيح من ناحية أن الجبل يعلو مستواه عن مستوى المياه، ولكن ابن نوح نسي أن لله تعالى جندياً آخر هو الموج؛ فكان من المغرَقين.
صحيح أن ابن نوح فطن إلى أن السفينة سوف تستوي على " الجدوى " ، وأن من يركبها لن يغرق، وكذلك من يأوي إلى الجبل العالي، لكنه لم يفطن إلى الموج الذي حال بينه وبين الجبل؛ فكان من المغرقين.
إذن: فكل كائن هو مؤتمر بأمر الله تعالى، وما دامت العزة لله جميعاً فمصداقها أن لله تعالى ما في السموات وما في الأرض، وليس هناك كائن في الوجود يتأبَّى على أن يكون جندياً من جنود الحق سبحانه، فيكون جندياً للإهلاك، وجندياً للنجاة في نفس الوقت.
وقول الحق سبحانه هنا: (ألا) نعلم من أن (ألا) أداة تنبيه للسامع فلا يؤخذ على غرَّة ولا تفوته حكمة من حكم الكلام، وينتبه إلى أن هناك خطاباً عليه أن يجمع عقله كله ليحسن استقبال ما في هذا الخطاب.
ويقول الحق سبحانه:
{ أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ } [يونس: 66].
ولقائل أن يقول: هناك كثير من الكائنات غير العاقلة، وقوله هنا { مَن } مقصود به الكائنات العاقلة؟
ولنا أن نتساءل للرَّدِّ على هذا القائل:
وهل هناك أي شيء في الوجود لا يفهم عن الله؟
طبعاً لا، والله سبحانه وتعالى هو القائل عن الأرض:


{ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىا لَهَا }[الزلزلة: 4ـ5].
إذن: فكل الكائنات في عُرف الاستقبال عن الله سبحانه سواء بـ " مَنْ " أو بـ " ما " ، وكل من في الوجود يفهم عن الله.
ونلحظ أن الحق سبحانه يأتي مرة بالقول:{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً }[آل عمران: 83].
ومرة يقول الحق سبحانه: } أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ { [يونس: 66].
كما جاء في هذه الآية التي نحن بصددها الآن.
شاء الحق سبحانه ذلك، لأن هناك جنساً في الوجود يوجد في السماء ويوجد في الأرض، وهم الملائكة المُدَبِّرَات أمْراً، هؤلاء هم المقصودون بأن لله ما في السموات والأرض.
ولله سبحانه وتعالى أيضاً جنس في السموات لا يوجد في الأرض وهم الملائكة المهيمون العالين، وليس لهم وجود على الأرض، كما أن لله تعالى جنوداً في الأرض ليس لهم وجود في السماء، فإن لا حظنا الملائكة المدبرات أمراً، نجد أن قول الحق سبحانه:
{ للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }[البقرة: 284].
مناسب لها.
وإن لا حظنا أن لله ملائكة مهيمين في السماء، وجنوداً في الأرض لا علاقة لهم بالسماء يكون مناسباً لذلك قول الحق سبحانه:
} أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ { [يونس: 66].
وما دام كل شيء في الكون مملوكاً لله تعالى فلا شيء يخرج عن مراده سبحانه، فلا يوجد مثلاً غار يدخله كائن فراراً من الله؛ لأنه سبحانه قادر على أن يسد الغار، وإن شاء الله سبحانه أن يساعد من دخل الغار فهو تعالى يعمي بصر من يرقب الغار.
إذن: فلن يجير شيء على الله تعالى، وستظل له صفة العزة لا يخدشها خادش من وجود الله في الكون.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ { [يونس: 66].
ومعنى اتباعهم شركاء كأن هناك شركاء، رغم أن الأصل والحقيقة ألاَّ شركاء له سبحانه.
إذن: فهم يتبعون غير شيء؛ والدليل على ذلك موجود في طي القضية، فهم يبعدونهم من دون الله تعالى، ومعنى العبادة أن يطاع أمر وينهى نهي، وما يعبدونه من أشياء لا أوامر لها ولا نواهي؛ فليس هناك منهج جاءوا به.
إذن: فلا ألوهية لهم.
إذن: فالأصل ألا شركاء لله تعالى، ولو كان له شركاء لأنزلوا منهجاً ولأوجدوا أوامر، وكان لهم نواهٍ؛ لأن الذي يقول: " اعبدني " إنما يحدد طريقة وأسلوب العبادة. وهاتوا واحداً من الذين تتبعونهم وتدعون لهم يكون له منهج، ولن يستطعيوا ذلك، ولاحق سبحانه هو القائل:


{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42].
أي: أننا لو افترضنا أن هناك آلهة ولها مظهر قوة كالشمس التي تضيء والقمر الذي ينير، والمطر الذي ينزل من السماء، والملائكة التي تدبِّر الأمر، لو صدَّقنا أن كل هؤلاء آلهة، فهم سيبحثون عن الإله الواحد الأحد؛ ليأخذوا منه القوة التي ظننتم أنها لهم.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }[المؤمنون: 91].
إذ لو كان هذا الأمر صحيحاً لكانت هناك ولايات إليهة.
ولذلك قال الحق سبحانه:
{ أُولَـائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىا رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ }[الإسراء: 57].
وهم قالوا إنهم يعبدون الملائكة، وعليهم أن يعلموا أن الملائكة نفسها تعبد الله سبحانه وتعالى، وما دام لا يوجد شركاء لله لتتبعوهم؛ إذن: فأنتم تتبعون الظن.
لذلك جاء قول الحق سبحانه:
} إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ { [يونس: 66].
ونحن نجد الذين أولعوا بأن يُوجِدوا في القرآن ظاهر تعارض ليشكِّكوا فيه، قالوا: إن هذه الآية مثال على ذلك؛ فيقولون: في بداية الآية يقول: } وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ { [يونس: 66].
فينفي أن المشركين يتبعون شركاء لله، ثم يأتي في آخر الآية فيقول إنهم يتَّبعون الظن والخرص، ففي أولها ينفي الاتباع، وفي آخرها يثبته.
وهذا جهل ممن قال بهذا وادعى أن هناك تناقضاً في الآية، فالله سبحانه ينفي أن يكون ما يدعوه هؤلاء المشركون شركاء لله في ملكه، فللَّه من في السموات ومن في الأرض، ولكنه يثبت أنهم يتَّبعون الظن والخرص والتخمين.
ونقول: ما هو الظن؟ وما هو الخرص؟
إن الظن حكم بالراجح كما أوضحنا من قبل في النسب من أن هناك نسبة إنْ لم تكن موجودة فهي مشكوك فيها، أو نسبة راجحة، أو أن نسبة تساوي فيها الشك مع الإثبات، فإنْ كان الشك مساوياً للإثبات فهذا هو الشك. وإن رجحت، فهذا هو الظن. أما المرجوح فنسميه وهماً.
الظن ـ إذن حكم بالراجح. والخًَرْص: هو التخمين، والقول بلا قاعدة أو دليل.
والحق سبحانه يقول هنا:
} إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ { [يونس: 66].
والقرآن حين يوجه خطاباً فهو يأتي بالخطاب المستوعب لكل ممكن، وهو سبحانه حكم عليهم هنا أنهم يتَّبعون الظن والخرص.
ونحن نعلم أن الكافرين قسمان: قسم يُعْلم حقيقة الشيء، ولكنه يغيّر الحقيقة إلى إفك وإلى خَرْص، وقسم آخر لا يعرف حقيقة الشيء، بل يستمع إلى من يعتقد أنه يعرف.
إذن: فهناك مُتَّبِع ـ بكسر الباء ـ وهناك مُتَّبًَع ـ بفتح الباء ـ المُتَّبَع ـ بفتح الباء ـ يعلم أن ما يقوله هو كلام ملتوٍ، يشوّه الحقيقة ويزينها، أما المتّبع ـ بكسر الباء ـ فيظن أنه يتبع أناساً عاقلين أمناء فأخذ كلامهم بتصديق.

إذن: فالمتبع (بكسر الباء) يكون الظن من ناحيته، أما المتبع (فتح الباء) فيكون الخَرْصو الكذب والافتراء من ناحيته؛ ولذلك يقول لنا الحق سبحانه:
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }[البقرة: 78].
هؤلاء ـ إذن ـ يصدِّقون ما يقال لهم؛ لأنهم أميُّون، والكلام الذي يقال لهم راجح، وهم لو فكروا بعقولهم لما انتهوا إلى أنه كلام راجح.
أما الآخرون فيقول فيهم الحق سبحانه:
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً }[البقرة: 79].
وهؤلاء هم الذين يأتي منهم الخَرْص والإفك وقول الزور والبهتان.
إذن: فالكفار إن كانوا من الأميين فهم من أهل الظن، وينطبق عليهم قول الحق سبحانه: } إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ { [يونس: 66].
وإن كانوا من القادة والرؤساء فهؤلاء هم من ينطبق عليهم قول الحق سبحانه: } وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ { [يونس: 66].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ {

(/1417)


هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)


وشاء الحق سبحانه بعد أن بيَّن الإيمان والمؤمنين، وما يمكن أن يدَّعيه الكافرون في نبيِّ الرسالة، وبعد أن بيَّن المنهج، ها هو سبحانه يأتي بالكلام عن آياته سبحانه في الكون تأييداً للمطلوب بالمجود.
فالمطلوب أن نؤمن برسول يبلِّغ منهجاً عن الله؛ ليكون هذا المنهج نافعاً لنا، وإنْ أراد أحد دليلاً على ذلك فلينظر إلى الآيات التي وجدت للإنسان من قبل أن يُكلِّف، أهي في مصلحته أم غير مصلحته؟
وما دامت الآيات الموجودة في الكون ـ والمسخَّرة للإنسان ـ تفيد الإنسان في حياته، فلماذا لا يشكر من أعطاه كل تلك النعم، وقد أعطى الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الإنسان من قبل التكليف الكثير من النعم، وفور أن يصل إلى البلوغ يصير مكلَّفاً.
إذن: فالله سبحانه لم يكلِّف أحداً إلا بعد أن غمره بالنعم النافعة له باعتقاد من العبد وصدق من الواقع.
فإذا ما جاء لك التكليف، فَقِسْ ما طُلِب منك على ما وُجِد لك، فإذا كنت تعتقد أن الآيات الكونية التي سبقت التكليف نافعة لك قبل أن يطلب منك " افعل كذا " و " لا تفعل كذا "؛ فَخُذْ منها صدقاً واقعاً يؤيد صدق ما طُلِب منك تكليفاً، فكما نفعك في الأولى، فالحق سبحانه سينفعك باتباعك التكليف، واستقبلْ حركة الحياة على ضوء هذا التكليف؛ لتسعد.
ونحن نعلم أن الأصل في الإنسان أن يرتاح أولاً ليتحرك، ثم يتعب، ثم يرتاح؛ ولذلك نجد التكاليف قد جاءت على نفس المنوال، فقد أراحك الحق سبحانه إلى سن البلوغ وأخذت نعم الله تعالى وتمتعت بها إلى سن البلوغ، ارتحت اختياراً، وارتحت في مراداتك، ثم تجيء " افعل " و " لا تفعل " لتلتزم بما يُصْلِح لك كل أحوالك.
وإذا كان التكليف سيأخذ منك بعضاً من الجهد، فهناك فاصل زمني للراحة، وأنت في حياتك تجد وقتاً للراحة، ووقتاً للحركة، والراحة تجعلك تسعى بنشاط إلى الحركة، والحركة تأخذ منك الجهد الذي تحب أن ترتاح بعده.
إذن: فالحركة تحتاج للراحة، والراحة تحتاج للحركة.
وجاء الحق سبحانه إلى الفترة الزمنية المسماة " اليوم " ، فبيَّن لنا أنه كما قسَّم الوجود الإنساني إلى مرحلتين:
الأولى: هي ما قبل البلوغ ولا تكليف فيها.
والثانية: هي ما بعد البلوغ وفيها التكليف.
فقد قسَّم الله سبحانه أيضاً " اليوم " إلى وقت للراحة ووقت للحركة، فقال الله تعالى { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } [يونس: 67].
فكما خلق سبحانه لنا اليوم وفيه وقت للراحة، ووقت للحركة، كذلك شرع الحق سبحانه منهج الدين؛ لتستقيم حركة الحياة؛ لأن الإنسان ـ الخليفة في الأرض ـ لا بد أن يتحرك، لا بد أن تكون حركته على مقتضى " افعل كذا " و " لا تفعل كذا " ، وما لم يَرِدْ فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح؛ إن شاء فعله، وإن شاء لم يفعله.

(/1418)


قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)


ونفس نص الآية الكريمة يكذِّبهم فيما يدَّعونه.
ومثال ذلك: أنك حين تقول: " اتخذ فلان بيتاً " أي: أن فلاناً له ذاتية سابقة على اتخاذه للبيت، وبها اتخذ البيت، فإذا قيل: { اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } [يونس: 68].
فهذا اعتراف منهم بكمال الله تعالى وذاتيته قبل أن يتخذ الولد.
وهم قد اختلفوا في أمر هذا الولد، فمنهم من قال: إن الملائكة هن بنات الله وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك، ومنهم من قال: عزير ابن الله وهم اليهود وقد كذَّبهم الله سبحانه في ذلك، وطائفة من المسيحيين قالوا: إن المسيح ابن الله، وكذَّبهم الحق سبحانه في ذلك.
ثم ما الداعي أن يتخذ الله الولد؟
هل استنفد قوته حتى يساعده الولد؟!
وهل يمكن أن يضعف سبحانه ـ معاذ الله ـ فيمتد بقوة الولد أو يعتمد عليه؟!
مثلما يقال حين يواجه شيخٌ شابّاً، ويعتدي الشاب على الشيخ، فيقال للشاب: احذر؛ إن لهذا الشيخ ولداً أقوى منك؛ فيرتدع الشاب، أو أن يقول الشيخ للشاب: إن أبنائي يفوقونك في القوة، وفي هذا اعتداد بالأولاد.
ويريد الحق سبحانه أن يغفل كل هذه الدعاوي ولتكون حركة الحياة متماسكة متلازمة، لا متعارضة ولا متناقضة؛ لذلك ينبغي أن يكون المحرِّك إلهاً واحداً تصدر منه كل الأوامر، فلا تعارض في تلك الأوامر؛ لأن الأوامر إن صدرت عن متعدد فحركة الحياة تتصادم بما يبدد الطاقة ويفسد الصالح.
ولذلك لا بد أن يكون الأمر صادراً من آمر واحد يُسْلَّم له كل أمر، وهذا الإله منزَّه عن كل ما تعرفه من الأغيار، فله تنزيه في ذاته؛ فلا ذات تشبه ذاته، ومنزَّه في صفاته؛ فلا صفة تشبه صفته، ومنزَّه في أفعاله؛ فلا فعل يشبه فعله.
وحتى نضمن هذه المسألة لا بد أن يكون الإله واحداً، ولكن بعضاً من القوم جعلوا لله شركاء، ومن لم يجعل له شريكاً، توهَّم أن له ابناً وولداً.
ونقول لهم:
إن كلمتكم: { اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } [يونس: 68] ترد عليكم؛ لأن معنى اتخاذ الولد أن الألوهية وُجِدَت أولاً مستقلة، وبهذا الألوهية اتخذ الولد.
ومن المشركين من قال: إن الملائكة بنات الله.
فردَّ عليهم الحق سبحانه:
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَىا * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىا }[النجم: 21ـ22].
والكمال كله لله سبحانه فهو كمال ذاتي؛ ولذلك يأتي في وسط الآية ويقول تعالى:
{ سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ } [يونس: 68].
وسبحانه تعني: التنزيه، وهو الغني أي: المستغني عن مُعِين كما تستعينون أنتم بأبنائكم، وهو دائم الوجود؛ فلا يحتاج إلى ابن مثل البشر، وهم أحداث تبدأ وتنتهي؛ لذلك يحبون أن يكون لهم أبناء كما يقول الشاعر:ابني يا أنا بعد ما أقَضي ويقال: " من لا ولد له لا ذِكْر له " ، كأن الإنسان لما علم أنه يموت لا محالة أراد أن يستمر في الحياة في ولده.

ولذلك حين يأتي الولد للإنسان يشعر الإنسان بالسرور والسعادة، والجاهل هو من يحزن حين تلد له زوجته بنتاً؛ لأن البنت لن تحمل الاسم لمن بعدها، أما الولد والحفيد فيحملان اسم الجد، فيشعر الجد أنه ضمن الذِّكْر في جيلين.
إذن: فاتخاذ الولد إما استعانة وإما اعتداد، والحق سبحانه غنيٌّ عن الاستعانة، وغني عن الاعتداد؛ لأنك تعتد بمن هو أقوى منك، وليس هناك أقوى من الله تعالى، وهو سبحانه لا يحتاج لامتداد؛ لأنه هو الأول وهو الآخر، وعلى ذلك ففكرة اتخاذ الولد بالنسبة لله تعالى لا تصح على أي لون من ألوانها.
ولذلك يقول الحق سبحانه مرادفاً لتلك الفكرة: } سُبْحَانَهُ { لأنها تقطع كل احتمالات ما سبقها، ويُتْبعِ ذلك بقوله: } هُوَ الْغَنِيُّ { لأنه غني عن اتخذا الولد، وغني عن كل شيء، وقوله: } سُبْحَانَهُ { تنزيه له، والتنزيه: ارتفاع بالمُنَزَّه عن مشاركة شيءٍ له ـ في الذات أو الأفعال.
وإذا ورد شيء هو لله وصفٌ ولخَلْقه وصفٌ، فإياك أن تأخذ هذه الصفة مثل تلك الصفة.
فإن قابلت غنياً من البشر، فالغني في البشر عَرَضٌ، أما غنى الله تعالى ففي ذاته سبحانه.
وأنت حي والله سبحانه حي، ولكن أحياتك كحياته؟ لا؛ لأن حياته سبحانه لم يسبقها عدم، وحياتك سبقها عدم، وحياته سبحانه لا يلحقها عدم، وأنت يلحق حياتك العدم.
والله موجود وأنت موجود، لكن وجوده سبحانه وجود ذاتيٌّ، ووجودك وجود عَرَضِيٌّ.
وإذا قال الحق سبحانه:
إن له ـ سبحانه وتعالى ـ يداً{ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ }[الفتح: 10].
فلا يمكن أن تكون يد الله سبحانه مثل يدك؛ لأن ذاته سبحانه ليست كذاتك، وصفاته سبحانه ليست كصفاتك، وهو سبحانه القادر الأعلى، ولا يمكن أن يكون مقدوراً لأحد.
ولذلك حين يتجلَّى الله سبحانه لخلقه، فسوف يتجلى بالصورة التي تختلف عن كل خيال العبد، وهذه الصورة تختلف من عبد إلى آخر، ولو كانت الصورة التي يتجلى بها الله سبحانه مقدوراً عليها لكان معنى ذلك أن هناك ذهناً بشرياً قد قدر على الإحاطة بها. وما خطر ببالك فالله سبحانه بخلاف ذلك؛ لأن ما خطر بالبال مقدور عليه لأنه خاطر، والله سبحانه لا ينقلب أبداً إلى مقدور عليه.
وأنت حين تأتي بمسألة في الحساب أو الهندسة ـ مثلاً ، وتعطيها لتلميذ ويقوم بحلها، فمعنى ذلك أن عقله قد قدر عليها، أما إن جئت لتلميذ في المرحلة الإعدادية ـ مثلاً ـ بمسألة هندسية مقررة على طلبة كلية الهندسة؛ فعقله لن يقدر عليها.
إذن: لو أن الإنسان قد أدرك شيئاًً عن الله غير ما قاله الله لا نقلب الإله إلى مقدور عليه، والحق سبحانه مُنَزَّه عن ذلك؛ لأنه القادر الأعلى الذي لا ينقلب أبداً إلى مقدور.

لذلك يعلِّمنا الحق سبحانه أن نقول تنزيهاً لله تعالى كلمة } سُبْحَانَهُ { ، وهو التنزيه الواجب عن كل شيء يخطر ببال الإنسان عن الله تعالى، وهذه السبحانية أو هذا التنزيه هو صفة ذاتية في الله تعالى، قبل أن يوجد شيء، وبعد أن خَلَق الخَلْق، فعلى كل المخلوقات تنزيهه، وبدأ الخلق في التسبيح.
والتسبيح فعل مستمر لا ينقطع ولا ينقضي؛ لذلك تجد استدلالات القرآن في السور التنزيهية تؤكد ذلك، فيقول الحق سبحانه:
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }[الإسراء: 1].
وإياك أن تظن أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد سرى بقرار من نفسه، بل الذي أسرى به هو الحق سبحانه، فلا تظن أن المسافة يمكن أن تمنع مشيئة الحق المطلقة، ولا المكان، ولا الزمن؛ لأن الفعل منسوب لله تعالى، ولا يمكن أن نقيس فعلاً منسوباً لله تعالى بقياس الزمان أو المكان، أو حسب قانون الحركة النسبية، لأن الحق سبحانه له طلاقة القدرة، وأنت بشر مجرد حادث محدود الزمان والمكان.
وأنت إذا سِرْت من هنا إلى الإسكندرية ـ مثلاً ـ على قدميك فستقطع المسافة في أسابيع، وإن امتطيت دابة فقد تأخذ في الوصول إلى الإسكندرية أياماً، وإن ركبت سيارة فسوف تقطع المسافة في ساعتين، وإن ركبت صاروخاً، فستصل خلال دقائق.
أي: أنك كلما زادت قوة أداة الوصول قَلَّ زمن الوصول، وهذا موجز نظرية الحركة، وإذا كان الذي أسرى هو الله سبحانه، وهو قوة القوى، لذلك لا يمكن أن يقاس بالنسبة لمشيئة قوة أخرى، أو أن يقاس الأمر ببُعد أو قُرْب المكان أو كيفية الزمان الذي تعرفه.
وإياك أن تفهم أن إسراء الله تعالى مثل إسرائك؛ لأن الفعل إنما يأخذ قوته من الفاعل، وما دام الفاعل هو الله سبحانه فلا أحد بقادر أن يَحُدَّ أفعاله بزمن.
وقد استهل الحق سبحانه سورة الإسراء بالسبحانية وآياتها الأولى تتكلم في أدق شيء تكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذاته بأنه قد أسْرِيَ به، وبذلك أثبت بحادث الإسراء حقيقة المعراج، وأن الناموس قد خُرِق له، وحدَّثنا عما نعلم لنصدِّق حديثه عما لا نعلم، وحتى نقيس ما لا نعلم على ما نعلم، فيتأكد لنا صدقه صلى الله عليه وسلم في حديثه عما لا نعلم.
كلمة " سبحانه " ـ إذن ـ هي للتنزيه، وهي لله تعالى أزلاً قبل أن يَخلق الخَلق، فقد شهد سبحانه لذاته أنه إله واحد، ثم شهدت الملائكة، ويتكرر التسبيح من كل المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه.
وأنت تجد سور القرآن الكريم التي جاء فيها التسبيح مؤكدة أنه سبحانه مُنزَّه، وله التسبيح من قبل أن يخلق الخلق، ثم خلق الخلق؛ ليسبِّحوا، ففي سورة الحديد يقول سبحانه:


{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[الحديد: 1].
ويقول سبحانه في سورة الحشر:
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ }[الحشر: 1].
فهل سبَّح كل من في السموات ومن في الأرض مرة واحدة وانتهى الأمر؟ لا؛ لأن الله سبحانه يقول:
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ }[الجمعة: 1].
ويقول سبحانه في سورة التغابن:
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[التغابن: 1].
إذن: فالسبحانية لله أزلاً، وسبَّح ويسبِّح الخَلْق وكل الوجود بعد أن خلقه الله سبحانه، سموات وأرض وما فيهما ومن فيهما، وما بقى إلا أنت أيها الإنسان فسبِّحْ باسم ربك الأعلى.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
} قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ { [يونس: 68].
وعلة التسبيح والتنزيه عن أن يكون له ولد تأتي في قوله تعالى: } هُوَ الْغَنِيُّ {؛ لأن اتخاذ الولد إنما يكون عن حاجة، إما استعانة، وإما اعتماداً، وإما اعتداداً، وإما امتداداً، وكل هذه أمور باطلة بالنسبة له سبحانه، وهو الحق الأعلى، وهو سبحانه القائل في آية أخرى:
{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ }[البقرة: 116].
والقنوت معناه: الإقرار بالعبودية لله تعالى والخضوع له وإطاعته.
ويقول سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { [يونس: 68].
و " إنْ " قد تأتي للنفي في مثل قول الحق سبحانه:
{ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ }[المجادلة: 2].
وفي قول الحق سبحانه هنا:
} إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـاذَآ { [يونس: 68].
أي: ليس عندكم حُجَّة تدل على أن الله تعالى اتخذ ولداً.
ولذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
} أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ { [يونس: 68]
أي: أنكم لا تملكون إعلاماً من الله تعالى بذلك، فلا إعلام عن الله إلا من الله، وليس لأحد أن يُعْلِم عن ربه، فهو سبحانه من يُعْلِم عن نفسه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ {

(/1419)


قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)


والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن الإيمان وثمرته ونهايته ياتي بالفَلاَح كنتيجة لذلك الإيمان، فهو سبحانه القائل:
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }[الشمس: 9].
وهو سبحانه القائل:
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }[المؤمنون: 1].
ويقول أيضاً:
{ أُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }[الأعراف: 157].
وكلها من مادة " الفلاح " وهي مأخوذة من الأمر الحسي المتصل بحياة الكائن الحي، فمقومات وجود الكائن الحي: نَفَس، وماء، وطعام، والتنفس يأتي من الهواء الذي يحيط بالأرض، والماء ينزل من السماء أو يُستنبط مما تسرب في باطن الأرض. والطعام يأتي من الأرض، وكل ما أصله من الأرض يُستخرج بالفلاحة.
لذلك نقول: إن الفلاَحة هي السبب الاستبقائي للحياة، فكما يُفْلِح الإنسان الأرض، ويشقها ويبذر فيها البذور، ثم يرويها، ثم تنضج وتخرج الثمرة، ويقال: أفلح، أي: أنتجت زراعته نتاجاً طيباً.
وشاء الحق سبحانه أن يمسِّي الحصيلة الإيمانية الطيبة بالفلاح.
وبيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، فإن كنت تريد ثمرة فابذل الجهد.
وإياك والظن أن الدين حينما يأخذ منك شيئاً في الدنيا أنه يُنْقِص ما عندك، لا، بل هو يُنمِّي لك ما عندك.
والمثل الذي أضربه دائماً ـ ولله المثل الأعلى ـ نجد الفَلاَّح حين يزرع فداناً بالقمح، فهو يأخذ من مخزنه إردباً؛ ليستخدمه كبذور في الأرض، ولو كانت امرأته حمقاء لا تعرف أصول الزراعة ستقول له: " أنت أخذت من القمح، وكيف تترك عيالك وأنت تنقصهم من قوتهم؟ "
هذه المرأة لا تعلم أنه أخذ إردبَّ القمح المُخَزَّن؛ ليعود به بعد الحصاد عشرة أو خمسة عشر إردّباً من القمح.
كذلك مطلوب الله سبحانه في الدنيا قد يبدو وكأنه ينقصك أشياء، لكنه يعطيك ثمار الآخرة ويزيدها.
إذن: فالفلاح مادة مأخوذة من فلح الأرض وشقها وزرعها لتأخذ الثمرة.
وكما أنك تأخذ حظك من الثمار على قدر حظك من التعب ومن العمل، فذلك أمر الآخرة وأمر الدنيا.
ومثال ذلك: الفلاح الذي يحرث الأرض، ويحمل للأرض السماد على المطية، ثم يستيقظ مبكراً في مواعد الري، تجد هذا الفلاح في حالة من الانشراح والفرح في يوم الحصاد، وأمره يختلف عمن يهمل الأرض ويقضي الوقت على المقهى، ويسهر الليل أمام التلفزيون، ويأتي يوم الحصاد ليحزن على محصوله الذي لم يحسن زراعته.
وقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } [يونس: 69].
أي: هؤلاء الذي يقولون عن الله تعالى أو في الله تعالى بغير علم من الله، هم الذين لا يفلحون.
وأوضحت من قبل أن كل ما يتعلق بالله تعالى لا يُعْلَم عنه إلا عن طريق الله. لكن ما الذي يحملهم على الافتراء؟
نعم، إن كل حركة في الحياة لا بد أن يكون الدافع إليها نفعاً، وتختلف النظرة إلى النفع وما يترتب عليه، فالطالب الكسول المتسكع في الشوارع، الرافض للتعلم، نجده راسباً غير موفق في مستقبله، أما التلميذ الحريص على علومه، فهو من يحصل على المكانة اللائقة به في المجتمع، والتلميذ الأول كان محدود الأفق ولم ير امتداد النفع وضخامته، بل قصر النفع على لذة عاجلة مُضحِّياً بخيرٍ آجِلٍ.

والذي جعل هؤلاء يفترون على الله الكذب هو انهيار الذات، فكل ذات لها وجود ولها مكانة، فإذا انهارت المكانة، أحس الإنسان أنه بلا قيمة في مجتمعه.
والمثل الذي ضربته من قبل بحَلاَّق الصحة في القرية، وكان يعالج الجميع، ثم تَخرَّجَ أحد شباب القرية في كلية الطب وافتتح بها عيادة، فإن كان حلاق الصحة عاقلاً، فهو يذهب إلى الطبيب ليعمل في عيادته ممرضاً، أو (تمرجياً)، أما إن أخذته العزة بالإثم، فهو يعاند ويكابر، ولكنه لن يقدر على دفع علْم الطبيب.
وكذلك عصابة الكفر ورؤساء الضلال حينما يُفاجَآون بمَقْدِم رسول من الله، فهم يظنون أنه سوف يأخذ السيادة لنفسه، رغم أن أي رسول من رسل الله تعالى ـ عليه السلام ـ إنما يعطي السيادة لصاحبها، ألا وهو الحق الأعلى سبحانه.
وحين يأخذ منهم السيادة التي كانت تضمن لهم المكانة الوجاهة والشأن والعظمة، فهم يصابون بالانهيار العصبي، ويحاولون مقاومة الرسول دفاعاً عن السلطة الزمنية.
ومثال ذلك: هو مَقْدِمُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان البعض يعمل على تنصيب عبد الله بن أبيّ ليكون مَلكاً؛ ولذلك قاوم الرجل الإسلام، وحين لم يستطع آمن نفاقاً، وظل على عدائه للإسلام، رغم أنه لو أحسن الإسلام واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لنال أضعاف ما كان يسأخذه لو صار ملكاً.
وهكذا قادة الضلال وأئمة الكفر، هم مشفقون على أنفسهم وخائفون على السلطة الزمنية؛ لأن الرسول حينما يجيء إنما يُسوِّي بين الناس؛ لذلك يقفون ضد الدعوة حفاظاً على السلطة الزمنية.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن سبب افترائهم الكذب: } مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ {

(/1420)


مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)


ويعزُّ ـ إذن ـ على قادة الكفر وأئمة الضلال أن يسلبهم الرياسة والسيادة داعٍ جديد إلى الله سبحانه وتعالى، ويخافون أن يأخذ الداعي الجديد لله الأمر منهم جميعاً، لا إلى ذاته، ولكن إلى مراد ربه.
ولو كان الداعي إلى الله تعالى يأخذ السلطة الزمنية لذاته؛ لقلنا: ذاتٌ أمام ذاتٍ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أوضح أنه يعود ـ حتى فيما يخصه ـ إلى الله سبحانه وتعالى.
ويكشف لنا الحق سبحانه الكسب القليل الذي يدافعون عنه أنه:
{ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا } [يونس: 70]؛ لأن كُلاً منهم يحب أن يقنع نفسه، بِحُمْق تقدير المنفعة، وكلمة " الدنيا " لا بد أن منها حقيقة الشيء المنسوبة إليه.
والاسماء ـ كما نعلم ـ هي سمات مسميات، فحين تقول: إن فلاناً طويل، فأنت تعطيه سمة الطول.
وحين تقول: " دنيا " فهي من الدُّنُوِّ " أو " الدناءة ".
وإن اعتبرت الدنو هو طريق موصل إلى القيمة، فهذا أمر مقبول؛ لأن الدرجة الأولى في الوصول إلى الأعلى هي الدنو، وتلتزم بمنهج الله تعالى فتصعد عُلوّاً وارتفاعاً إلى الآخرة.
إذن: فمن يصف الدنيا بالدناءة على إطلاقها نقول له: لا، بل هي دنيا بشرط أن تأخذها طريقاً إلى الأعلى، ولكن من لا يتخذها كذلك فهو من يجعل مكانته هي الدنيئة، أما من يتخذها طريقاً إلى العلو فهو الذي أفلح باتِّباع منهج الله تعالى.
إذن: فالدنيا ليست من الدناءة؛ لأن الدين ليس موضوعه الآخرة، بل موضوعه هو الدنيا، ومنهج الدين يلزمك بـ " افعل " و " لا تفعل " في الدنيا، والآخرة هي دار الجزاء، والجزاء على الشيء ليس عين موضوعة، وأنت تستطيع أن تجعل الدنيا مفيدة لك إنْ جعلتها مزرعة للآخرة.
وإياك أن تعمل على أساس أن الدنيا عمرها ملايين السنين؛ لأنه لا يعنيك كعائش في الدنيا إن طال عمرها أم قَصُرَ، بل يعنيك في الدنيا مقدار مُكْثِك فيها، وعمرك فيها مظنون، بل وزمن الدنيا كله مظنون، وهناك من يموت وعمره ستة أشهر، وهناك من يموت وعمره مائة سنة، وكلٌّ يتمتع بقدر ما يعيش، ثم يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
وهؤلاء الذين ضَلُّوا وقالوا على الله سبحانه افتراء، هؤلاء لن يفلتوا من الله؛ لأن مرجعهم إليه سبحانه ككل خَلْقه، وهؤلاء المُضِلُّون لم يلتفتوا إلى عاقبة الأمر، ولا إلى من بيده عاقبة الأمر،ولم يرتدعوا.
ولكن من نظر إلى عاقبة الأمر وأحسن في الدنيا فمرجعه إلى حسن الثواب والجنة، ومن لم ينظر إلى عاقبة الأمر وافترى على الله ـ سبحانه وتعالى ـ الكذب فالمآب والمآل إلى العذاب مصداقاً لقوله تعالى:
{ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [يونس: 70].

ودرجة العذاب تختلف باختلاف المعذِّب، فإن كان المعذِّب ضعيفاً، فتعذيبه يكون ضعيفاً، وإن كان المعذِّب متوسط القوة؛ فتعذيبه يكون متوسطاً، أما إن كان المعذِّب هو قوة القوى فلا بد أن يكون عذابه شديداً، وهو سبحانه الحق القائل:
{ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }[هود: 102].
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مبدأ تنزيه الألوهية عن اتخاذ الولد، فهو سبحانه الغنيُّ الذي له ما في السموات والأرض، وبيَّن لنا سبحانه أننا يجب أن نأخذ المنهج من مصدر واحد وهو الرسل المبلِّغون عن الله تعالى، شاء الحق سبحانه أن يكلمنا عن موكب الرسالات؛ لأن الكلام حين يكون كلاماً نظرياً ليس له واقع يسنده، فقد تنسحب النظرية عليه.
أما إن كان للكلام واقع في الكون يؤيد الكلام النظري، فهذا دليل على صحة الكلام النظري؛ ولذلك فنحن حين نحب أن نضخِّم مسألة من المسائل في داء اجتماعي، نحاول أن نصنع منه رواية، أي: أمراً لم يحدث حقيقة، ولكننا نتخيل أنه حقيقة؛ لنبيِّن الأمر النظري في واقع متخيَّل.
ويقص علينا الحق سبحانه في القرآن قصصاً من الموكب الرسالي؛ ليبيِّن للكفار: أنكم لن تستطيعوا الوقوف أمام هذه الدعوة، وأمامكم سِجل التاريخ وأحداث الرسل مع أممهم؛ المؤيدين بالمؤمنين؛ والكفار المعاندين والمعارضين، فإن كان قوم من السابقين قد انتصروا على رسولهم، فللكفار الحق في أن يكون لهم أمل في الانتصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا بد أن يكون هذا الكلام موجهاً إلى أناس لهم علم ببعض أحداث الموكب الرسالي. ولكن قد يكون علم هذا قد بهت؛ لأن الزمان قد طال عليه.
وهنا يقول الحق سبحانه: } وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ {

(/1421)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)


ولقائل أن يقول: ولماذا جاء الله سبحانه هنا بخبر نوح ـ عليه السلام ـ ولم يأت بخبر آدم ـ عليه السلام ـ أو أدريس ـ عليه السلام ـ وهُمَا من الرسل السابقين على نوح عليه السلام؟
ومن هنا جاءت الشبهة في أن آدم لم يكن رسولاً؛ لأن البعض قد ظن أن الرسول يجب أن يحمل رسالته إلى جماعة موجودة من البشر، ولم يفطن هؤلاء البعض إلى أن الرسول إنما يُرْسَل لنفسه أولاً.
وإذا كان آدم ـ عليه السلام ، أول الخلق فهو مُرسَل لنفسه، ثم يبلِّغ من سوف يأتي بعده من أبنائه.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى التجربة لآدم ـ عليه السلام ـ في الجنة، فكان هناك أمر، وكان هناك نهي هو{ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ }[البقرة: 35].
وحَذَّره من الشيطان، ثم وقع آدم عليه السلام في إغواء الشيطان، وأنزله الله تعالى إلى الأرض واجتباه، وتاب عليه، ومعه تجربته، فإن خالف أمر ربه فسوف يقع عليه العقاب، وحذره من اتباع الشيطان حتى لا يخرج عن طاعة الله تعالى.
إذن: فقد أعطاه الحق سبحانه المنهج، وأمره أن يباشر مهمته في الأرض؛ في نفسه أولاً، ثم يبلغه لمن بعده.
وكما علَّمه الحق سبحانه الأسماء كلها، علَّم آدم الأسماء لأبنائه فتكلموا: وكما نقل إليهم آدم الأسماء نقل لهم المنهج، وقد علمه الحق سبحانه الأسماء؛ ليعمر الدنيا، وعلَّمه المنهج؛ ليحسن العمل في الدنيا؛ ليصل إلى حسن جزاء الآخرة.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا }[طه: 121].
ويتبعها الحق سبحانه بقوله تعالى:
{ ثُمَّ اجْتَبَاهُ }[طه: 122].
ومعنى الاجتباء: هو الاصطفاء بالرسالة لنفسه أولاً، ثم لمن بعده بعد ذلك، والحق سبحانه هو القائل:
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى }[البقرة: 38].
والهدى: هو المنهج المنزَّل على آدم عليه السلام، والرسالة ليست إلا بلاغ منهج وهدى من الله سبحانه للخلق.
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15].
فالسابقون لنوح ـ عليه السلام ـ هم من أبلغهم آدم عليه السلام، والدليل هو ما جاء من خبر ابني آدم في قول الحق سبحانه:
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً }[المائدة: 27].
وهما قد قدَّما القربان إلى الله تعالى.
إذن: فخبر الألوهية موجود عند ابني آدم بدليل قول الحق سبحانه:
{ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }[المائدة: 27].
إذن: فهم قد أقروا بوجود الله تعالى، وأيضا عرفوا النهي،؛ لأنه في إحدى الآيتين قال:
{ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }

[المائدة: 28].
إذن: فالذين جاءوا بعد آدم ـ عليه السلام ـ عرفوا الإله الواحد، وعلموا المنهج.
إذن: فالذين يقولون: إن آدم ـ عليه السلام ـ لم يكن رسولاً، نقول لهم: افهموا عن الله جيداً، كان يجب أن تقولوا: هذه مسألة لا نفهم فيها، وكان عليهم أن يسألوا أهل الذِّكْر ليفهموا عنهم أن آدم ـ عليه السلام ـ رسول، وأن من أولاده قابيل وهابيل، وقد تكلما في التقوى.
أما لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالحديث عن نوح، عليه السلام، فلنا أن نعلم أن آدم عليه السلام هو الإنسان الأول، وأنه قد نقل لأولاده المنهج المُبلَّغ له، ودلَّهم على ما ينفعهم، ثم طال الزمن وأنشأت الغفلة، فجاء إدريس عليه السلام، ثم تبعته الغفلة، إلى أن جاء نوح عليه السلام.
وهنا يأتي لنا الحق سبحانه بخبر نوح ـ عليه السلام ـ في قوله:
} وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ { [يونس: 71].
والنبأ: هو الخبر الهام الذي يلفت الذهن، وهو الأمر الظاهر الواضح.
والحق سبحانه يقول:
{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ }[النبأ: 1ـ3].
إذن: فالنبأ هو الخبر الهام المُلْفِت، وقد جاء هنا خبر نوح ـ عليه السلام ـ الذي يُبلِّغ قومه أي: يخاطبهم، وهو قد شهد لنفسه أنه رسول يبلِّغ منهجاً.
وكلمة " قَوْمِ " لا تطلق في اللغة إلا على الرجال، يوضح القرآن ذلك في قوله الحق سبحانه:
{ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىا أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ }[الحجرات: 11].
إذن: فالقوم هم الرجال، والمرأة إنما يُبنى أمرها على السر، والحركة في الدنيا للرجل، وقد شرحنا ذلك في حديث الحق سبحانه لآدم ـ عليه السلام ـ عن إبليس، فقال تعالى:
{ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىا }[طه: 117].
ولأن الخطاب لآدم فقد قال الحق سبحانه:{ فَتَشْقَىا }[طه: 117].
ولم يقل: فتشقيا؛ مما يدل على أن المرأة لا شأن لها بالأعمال التي خارج البيت والتي تتطلب مشقة، فالمرأة تقرُّ في البيت؛ لتحتضن الأبناء، وتُهيِّىء السكن للرجل بما فيها من حنان وعاطفة وقرار واستقرار. أما القيام والحركة فللرجل.
فالحق سبحانه يقول:
{ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىا }[طه: 117].
إذن: فالكدح للرجل ومتطلبه القيام لا القعود.
ثم يقول الحق سبحانه على لسان نوح ـ عليه السلام.
} ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي { [يونس: 71].
وهنا يُحنِّن نوح قومه بإضافات التحنن، أي: جاء بالإضافة التي تُشْعِر المخاطبين بأنه منهم وهم منه، وأنه لا يمكن أن يغشهم فهم أهله، مثل قول النائب الذي يخطب في أهل دائرته الانتخابية: " أهلي وعشيرتي وناخبيّ " وكلها اسمها إضافة تحنن.

وكذلك مثل قول لقمان لابنه:
{ يابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
وقوله:
{ يابُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ }[لقمان: 16].
وقوله:{ يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ }[لقمان: 17].
وهذا إضافات التحنن وفيها إيناس للسامع أن يقرب ويستجيب للحق.
} ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي { [يونس: 71].
و " الكاف والياء والراء " تأتي لمعنيين:
الأول: كبر السن، وهي: كبر يكبر.
والثاني: العظمة والتعظيم، إلا أن التعظيم يأتي ليبيِّن أنه أمر صعب على النفس، مثل قول الحق سبحانه:
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }[الكهف: 5].
أي: أن هذه الكلمة التي خرجت من أقوالهم أمر صعب وشاق، وهي قولهم:
{ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً }[الكهف: 4].
وهذه الكلمة إنما تعظم على المؤمن، وهي مسألة صعبة لا يمكن قبولها فلا يوجد مؤمن قادر على أن يقبل ادعاء خلق من خلق الله تعالى أن له سبحانه ولداً.
ومرة تكون العظمة من جهة أخرى، مثل قول الحق سبحانه:
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ }[الشورى: 13].
أي: عَظُم على المشركين، وصَعب على أنفسهم، وشَقَّ عليهم ما تدعوهم إليه من أن الإله هو واحد أحد، ولا سلطان إلا له سبحانه.
وهكذا، إن كانت الكلمة مناقضة للإيمان فهي تكبر عند المؤمنين، وإن كانت الكلمة تدعو الكافرين إلى الإيمان فهي تشق عليهم.
وهنا يأتي على لسان سيدنا نوح عليه السلام:
} إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي { [يونس: 71].
ونحن نعلم أن سيدنا نوحاً ـ عليه السلام ـ مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
أي: أن حياته طالت كثيراً بين قومه، كما أن تقريعه للكافرين جعله ثقيلاً عليهم.
أو أن: } كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي { [يونس: 71].
تعني: أنه حمَّلهم ما لا يطيقون؛ لأن نوحاً ـ عليه السلام ـ أراد أن يُخرجهم عما ألفوا من عبادة الأصنام، فشقَّ عليهم ذلك.
إذن: فمبدأ عبادة الإله الواحد يصعب عليهم.
أو أن الأصل في الواعظ أو المبلِّغ أن يكون على مستوى القيام وهم قعود، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يتكلم مع الحواريين وهو واقف، والوقوف إشعار بأن مجهود الهدي يقع على سيدنا عيسى ـ عليه السلام ـ بينما يقعد الحواريون ليستمعوا له في راحة.
إذن: فقول الحق سبحانه:
} إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي { [يونس: 71].
أي: إن صعب عليكم ما أدعوكم اليه.
ويصح أن نأخذها من ناحية طول الوعظ والتكرار في ألف سنة إلا خمسين عاماً، أو أن مقامي كبر عليكم، بمعنى: أننا انقسمنا إلى قسمين؛ لأن المنهج الذي أدعو إليه لا يعجبكم، وكنت أحب أن نكون قسماً واحداً.

(/1422)


فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)


أي: إن توليتم عن دعوتي لعبادة الإله الحق، فأنا أدعوكم إلى مثيل لكم هو أنا، بل أدعوكم إلى من هو فوقي وفوقكم، فأنا لا أريد أن أستولي على السلطة الزمنية منكم، ولا أبحث عن جاهٍ، فالجاه كله لله تعالى.
والله لا يحتاج إلى جاهٍ منكم لأن جاهه سبحانه ذاتي فيه، ولكن لنمنع جبروتكم وتجبُّركم؛ لتعيشوا على ضوء المنهج الحق؛ لتكون حياتكم صالحة، وكل ذلك لمصلحتكم.
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ } [يونس: 72] فهل يُمَالىء نوح ـ عليه السلام ـ أعداءه.
إن الإنسان يُمَالىء العدو؛ لأن يخاف أن يوقع به شرّاً، ونوح عليه السلام لا يخافهم؛ لأنه يعتمد على الله تعالى وحده، بل هو يدلُّهم على مواطن القوة فيهم، وهو يعلم أن قوتهم محدودة، وأن شرهم مهما بلغ فهو غير نافذ، وقد لا يكون منهم شر على الإطلاق، فهل هناك نفعٌ سيعود على نوح ـ عليه السلام ـ ويُمنَع عنه؟
لا؛ لأنه يعلن أنه لا يأخذ أجراً على دعوته.
هم ـ إذن ـ لا يقدرون على ضُرِّه، ولا يقدرون على نفعه، وهو لا يريد منهم نفعاً؛ لأن مركزه بإيمانه بالله الذي أرسله مركزٌ قويٌّ.
وهو لا يسألهم أجراً، وكلمة " أجر " تعني: ثمن المنفعة، والأثمان تكون عادة في المعاوضات، إما أن تكون ثمناً للأعيان والذوات، وإما أن تكون ثمناً للمنفعة.
ومثال ذلك: أن إنساناً يرغب في شراء " شقة " في بيت فيذهب إلى رجل يملك بيتاً، ويطلب منه أن يبيع له عدداً من الأسهم بقيمة الشقة.
وهناك آخر يريد أن يستأجر شقة فيذهب إلى صاحب البيت؛ ليدفع له قيمة إيجار شقة في البيت، اي: يدفع له قيمة الانتفاع بالشقة، والأجر لا يُدفع إلا لطلب منفعة مُلِحَّة.
وكان على نوح ـ عليه السلام ـ أن يطلب منهم أجراً؛ لأنه يهديهم إلى الحق، هذا في أصول التقييم للأشياء؛ لأنه يقدِّم لهم نفعاً أساسياً، لكنه يعلن أنه لا يطلب أجراً وكأنه يقول: إن عملي كان يجب أن يكون له أجر؛ لأن منفعته تعود عليكم، وكان من الواجب أن آخذ أجراً عليه.
ولكن نوحاً ـ عليه السلام ـ تنازل عن الأجر منهم؛ لأنه أراد الأجر الأعلى، فلو أخذ منهم؛ فلسوف يأخذ على قدر إمكاناتهم، ولكن الأجر من الله تعالى هو على قدر إمكانيات الله سبحانه وتعالى، وفارق بين إمكانات المحدود العطاء وهو البشر، ومن له قدرة عطاء لا نهاية لها وهو الله سبحانه وتعالى.
وهنا يقول: { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } [يونس: 72].
فهذا التولِّي والإِعراض لا يضرُّني ولا ينفعني؛ لأنكم لا تملكون لي ضُرّاً ولا تملكون لي نفعاً؛ لأني لن آخذ منكم أجراً.

ومن العجيب أن كل مواكب الرسل ـ عليهم السلام ـ حين يخاطبون أقوامهم يخاطبونهم بهذه العبارة:
{ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }[ص: 86].
إلا في قصة سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ وقصة موسى عليه السلام، فعن قصة سيدنا إبراهيم يأتي قول الحق سبحانه:
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }[الشعراء: 69ـ74].
ولم يأت الحق سبحانه فيها بشيء عن عدم السؤال عن الأجر.
وأيضاً في قصة سيدنا موسى ـ عليه السلام، قال الحق سبحانه:
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىا هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ }[الشعراء: 12ـ17].
وهنا أيضاً لا نجد قولاً لموسى ـ عليه السلام ـ في عدم السؤال عن الأجر.
أما هنا في قصة نوح ـ عليه السلام ـ فنجد قول الحق سبحانه:
} فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ { [يونس: 72].
وكذلك جاء نفس المعنى في قصة هود عليه السلام، حيث يقول الحق سبحانه:
{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىا رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء: 123ـ127].
وجاء نفس المعنى أيضاً في قوم ثمود، إذ قال الحق سبحانه:
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىا رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء: 141ـ145].
وكذلك جاء نفس القول على لسان لوط عليه السلام، فيقول الحق سبحانه:
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىا رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء: 160ـ164].
ونفس القول جاء على لسان شعيب عليه السلام في قول الحق سبحانه:
{ كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىا رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء: 176ـ180].
إذن: فغالبية الموكب الرسالي يأتي على ألسنتهم الكلام عن الأجر:
{ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ }[الشعراء: 164].
فكأن الرسل عليهم السلام يقولون للبشر الذين ارسلوا إليهم: لو أنكم فطنتم إلى حقيقة الأمر لكان من الواجب أن يكون لنا أجر على ما نقدمه لكم من منفعة، لكنَّا لا نريد منكم أنتم أجراً، إنما سنأخذ أجرنا من ربِّ العالمين؛ لأن المنفعة التي نقدمها لكم لا يستطيع بشر أن يقوِّمها، وإنما القادر على تقييمها هو واضع المنهج ـ سبحانه ـ ومُنزِله على رسله.

وها هو القرآن الكريم يأتي على لسان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول:
{ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىا }[الشورى: 23].
أما لماذا لم تأت مسألة الأجر على لسان سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ فنحن نعلم أن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا؛ دعا عمه، وكان للعم حظ تربية إبراهيم، وله على سيدنا إبراهيم حق الأبوة.
وكذلك سيدنا موسى عليه السلام، فقد دعا فرعون، وفرعون هو الذي قام بتربية موسى، وكانت زوجة فرعون تريده قرة عين لها ولزوجها، حتى إن فرعون فيما بعد قد ذكَّره بذلك، وقال:
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ }[الشعراء: 18].
أما هنا في دعوة سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ فيأتي قول القرآن على لسان نوح بما يوضِّح الأمر لقوم نوح:
فإن توليتم فلا حزن لي، ولا جزع؛ لأنكم لن تصيبوني بضُرٍّ، ولن تمنعوا عني منفعة؛ لأنكم لم تسألوني أن آتي لكم بالهدى لآخذ أجري منكم، ولكن الحق سبحانه هو الذي بعثني، وهو الذي سيعطيني أجري، وقد أمرني سبحانه أن أكون من المسلمين له حَقّاً وصدقاً.
وفي حياتنا نجد أن صديقاً يرسل إلى صديقه عاملاً من عنده ليصلح شيئاً، فهو يأخذ الأجر من المرسل، لا من المرسل إليه، وهذا أمر منطقي وطبيعي.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ {

(/1423)


فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)


وكأن الأمر الذي وقع من الحق سبحانه نتيجة عدائهم للإيمان كان من الممكن أن يشمله؛ لأنه لا يقال: نجَّيتُك من كذا إلا إذا كان الأمر الذي نجيتك منه، توشك أن تقع فيه، وكان هذا بالفعل هو الحال مع الطوفان، فالحق سبحانه يقول:
{ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً }[القمر: 11ـ12].
ومن المتوقع أن تشرب الأرض ماء المطر، لكن الذي حدث أن المطر انهمر من السماء والأرض أيضاً تفجَّرتْ بالماء؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
{ فَالْتَقَى المَآءُ عَلَىا أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ }[القمر: 12].
أي: أن ذلك الأمر كان مقدَّراً؛ حتى لا يقولن أحد: إن هذه المسألة ظاهرة طبيعية.
لا إنه أمر مُقدَّر، وقد كانت السفينة موجودة بصناعة من نوح عليه السلام؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بذلك في قوله تعالى في سورة هود:{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }[هود: 37].
ويقول الحق سبحانه في الآية التي بعدها:
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }[هود: 38].
ويركب نوح ـ عليه السلام ـ السفينة، ويركب معه من آمن بالله تعالى، وما حملوا معهم من الطير والحيوان من كُلِّ نوع اثنين ذكراً وأنثى.
وقول الحق سبحانه:
{ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ } [يونس: 73].
يوحي أن الذي صعد إلى السفينة هم العقلاء من البشر، فكيف نفهم مسألة صعود الحيوانات والطيور إلى السفينة؟
نقول: إن الأصل في وجود هذه الحيوانات وتلك الطيور أنها مُسخَّرة لخدمة الإنسان، وكان لا بد أن توجد في السفينة؛ لأنها ككائنات مسخّرة تسبِّح الله، وتعبد الحق سبحانه، فكيف يكون علمها فوق علم العقلاء الذين كفرو بعضهم، ثم أليس من الكائنات المسخَّرة ذلك الغراب الذي علَّم " قابيل " كيف يواري سوأة أخيه؟! إنه طائر، لكنه علم ما لم يعلمه الإنسان!
والحق سبحانه هو القائل:
{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ }[المائدة: 31].
ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصددها الآن:
{ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } [يونس: 73].
وكلمة " الفُلْك " من الألفاظ التي تطلق على المفرد، وتطلق على الجماعة.
وقول الحق سبحانه: { فَنَجَّيْنَاهُ } نعلم منه أن الفعل من الله تعالى، وهو سبحانه حين يتحدث عن أي فعل له، فالكلام عن الفعل يأتي مثل قوله سبحانه:
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9].
ولكنه حين يتحدث عن ذاته، فهو يأتي بكلمة تؤكد الوحدانية وتكون بضمير الإفراد مثل:{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ }[طه: 14].
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ } [يونس: 73].

كلمة " أنجى " للتعددية، وكلمة " نَجَّى " تدل على أن هناك معالجة شديدة للإنجاء، وعلى أن الفعل يتكرر.
وقول الحق سبحانه:
} وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ { [يونس: 73].
تعني: أن الخليفة هو من يجيء بعد سابق، وكلمة " الخليفة " تأتي مرة للأعلى، مثل الحال هنا حيث جعل الصالح خليفة للصالح، فبعد أن أنجى الله سبحانه العناصر المؤمنة في السفينة، أغرق الباقين.
إذن: فالصالحون على ظهر السفينة أنجبوا الصالحين من بعدهم.
ومرة تأتي كلمة " الخليفة " للأقل، مثل قول الحق سبحانه:
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ }[مريم: 59].
فهنا تكون كلمة الخليفة موحية بالمكانة الأقل، وهناك معيار وضعه الحق سبحانه لتقييم الخليفة، هو قول الحق سبحانه:
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ }[يونس: 14].
ولأن الإنسان مخيَّر بين الإيمان والكفر، فسوف يَلْقَى مكانته على ضوء ما يختار.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىا لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً }[النور: 55].
إذن: فالخليفة إما أن يكون خليفة لصالحٍ، وإما أن يكون صالحاً يَخْلُفُ فاسداً.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا { [يونس: 73].
والآيات ـ كما قلنا من قبل ـ إما آيات الاعتبار التي تهدي إلى الإيمان بالقوة الخالقة، وهي آيات الكون كلها، فكل شيء في الكون يدلُّكَ على أن هذا الكون مخلوق على هيئة ولغاية. بدليل أن الأشياء في هذا الكون تنتظم انتظاماً حكيماً.
وإذا أردت أن تعرف دقة هذا الخلق، فانظر إلى ما ليدك فيه دَخْلٌ، وما ليس ليدك فيه دخل؛ ستجد كل ما ليس ليدك فيه دخل على درجة هائلة من الاستقامة، والحق سبحانه يقول:
{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40].
أما ما ليدك فيه دخل، فاختيارنا حين يتدخل فهو قد يفسد الأشياء.
وهكذا رأينا أن الآيات الكونية تلفت إلى وجود الخالق سبحانه وهي مناط الاستدلال العقلي على وجود الإله، أو أن الآيات هي الأمور العجيبة التي جاءت علىأيدي الرسل ـ عليهم السلام ـ لتقنع الناس بأنهم صادقون في البلاغ عن الله سبحانه وتعالى.
ثم هناك آيات القرآن الكريم التي يقول فيها الحق سبحانه:
{ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ }[آل عمران: 7].
وهي الآيات التي تحمل المنهج.
وحين يقول الحق سبحانه:
} وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا { [يونس: 73].
فهو يعلِّمنا أنه أغرق من كذَّبوا بالآيات الكونية ولم يلتفتوا إلى بديع صنعه سبحانه، وحكمة تكوين هذه الآيات، وترتيبها ورتابتها، وهم أيضاً كذَّبوا الآيات المعجزات، وكذلك كذَّبوا بآيات الأحكام التي جاءت بها رسلهم.

وينهي الحق سبحانه وتعالى هذه الآية بقوله:
} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ { [يونس: 73].
والخطاب هنا لكل من يتأتَّى منه النظر، وأوَّلُهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول مُخاطَب بالقرآن.
وأنت حين تقول: " انظر "؛ فأنت تُلْفِت إلى أمر حسِّي، إن وجَّهت نظرك نحوه جاء الإشعاع من المنظور إليه، ليرسم أبعاد الشيء؛ فتراه.
والكلام هنا عن أمور غائبة، فهي أحداث حسية وقعت مرة واحدة ثم صارت خبراً، فإن أخبرك بها مخبر فيكون تصديقك بها على مقدار الثقة فيه.
فمن رأى عصا موسى ـ عليه السلام ـ وهي تلقف الحبال التي ألقاها السحرة؛ آمن بها، مثلما آمن من شاهد النار عاجزة عن إحراق إبراهيم عليه السلام، ومن رأى عيسى عليه السلام وهو يُشفي الأكْمَهَ والأبْرص ويُحيي الموتى بإذن الله تعالى، فقد آمن بما رأى، أما من لم ير تلك المعجزات فإيمانه يتوقف على قدر توثيقه لمن أخبر، فإن كان المخبر بذلك هو الله سبحانه وفي القرآن الكريم فإيماننا بتلك المعجزات هو أمر حتمي؛ لأننا آمنا بصدق المبلِّغ عن الله تعالى.
ونحن نفهم أن الرسالات السابقة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كانت رسالات موقوتة زماناً ومكاناً، لكن الإسلام جاء لينتظم الناس الموجَّه إليهم منذ أن أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة.
لذلك جاء القرآن آيات باقيات إلى أن تقوم الساعة، وهذا هو السبب في أن القرآن قد جاء معجزة عقلية دائمة يستطيع كل من يدعو إلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: محمد رسول من عند الله تعالى، وتلك هي معجزته.
وساعة يقول الحق سبحانه: } فَانْظُرْ { فمثلها مثل قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].
وحادثة الفيل قد حدثت في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبطبيعة الحال فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير حادثة الفيل، ولكن الذين رأوها هم الذين كانوا يعيشون وقتها، وهذا ما يلفتنا إلى فارق الأداء، فعيونك قد ترى أمراً، وأنذك قد تسمع خبراً، ولكن من الجائز أن تخدعك حواسك، أما الخبر القادم من الله تعالى، وإن كان غائباً عنك الآن وغير مسموع لك فخذه على أنه أقوى من رؤية العين.
ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الحق: " ألم تعلم " وجاء بالقول:
{ أَلَمْ تَرَ }[الفيل: 1].
وأقول: ليدلنا الله سبحانه على أن العلم المأخوذ من الله تعالى عن أمر غيبي عليك أن تتلقاه بالقبول أكثر من تلقيك لرأي العين.
إذن: } فَانْظُرْ { تعني: اعلمْ الأمر وكأنه مُجسَّم أمامك؛ لأنك مؤمن بالله تعالى وكأنك تراه، ومُبلِّغك عن الله سبحانه هو رسول تؤمن برسالته، وكل خبر قادم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه سولم لا يمكن أن يتسرب إليه الشك، ولكن الشك لا يمكن أن يتسرب إلى المخبر الصادق أبداً.

ولقائل أن يقول: ولماذا لم يقل الحق: " فانظر كيف كان عاقبة الكافرين " بدلاً من قول الحق سبحانه:
} فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ { [يونس: 73].
وهنا نقول:
إن الحق سبحانه وتعالى قد بيَّن أنه لم يعذِّب قبل أن يُنْذِر، فهو قد أنذر أولاً، ولم يأخذ القوم على جهلهم.
" فانظر " ـ كما نعلم ـ هي خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل أمته أيضاً، وجاء هذا الخبر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن صادف من قومك يا محمد ما صادف قوم نوح ـ عليه السلام ـ فاعلمْ أن عاقبتهم ستكون كعاقبة قوم نوح.
وفي هذا تحذير وتخويف للمناوئين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىا قَوْمِهِمْ {

(/1424)


ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)


وكلمة " بعث " هنا تستحق التأمل، فالبعث إنما يكون لشيء كان موجوداً ثم انتهى، فيبعثه الله تعالى.
وكلمة { بَعَثْنَا } هذه تلفتنا إلى الحق سبحانه أول ما خلق الخلق أعطى المنهج لآدم عليه السلام، وأبلغه آدم لأبنائه، وكل طمس أو تغيير من البشر للمنهج هو إماتة للمنهج.
وحين يرسل الحق سبحانه رسولاً، فهو لا ينشيء منهجاً، بل يبعث ما كان موجوداً، ليذكِّر الفطرة السليمة.
وهذا هو الفرق بين أثر كلمة " البعث " عن كلمة " الإرسال " ، فكلمة البعث تشعرك بوجود شيء، ثم انتهاء الشيء، ثم بعث ذلك الشيء من جديد، ومثله مثل البعث في يوم القيامة، فالبشر كانوا يعيشون وسيظلون في تناسل وحياة وموت إلى يوم البعث، ثم يموت كل الخلق ليبعثوا للحساب.
ولم يكن من المعقول أن يخلق الله سبحانه البشر، ويجعل لهم الخلافة في الأرض، ثم يتركهم دون منهج؛ وما دامت الغفلة قد طرأت عليهم من بعد آدم ـ عليه السلام ـ جاء البعث للمنهج على ألسنة الرسل المبلِّغين عن الله تعالى.
وبعد نوح ـ عليه السلام ـ بعث الحق سبحانه رسلاً، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى:
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } [يونس: 74].
أي: من بعد نوح، فمسألة نوح ـ عليه السلام ـ هنا تعني مقدمة الرَّكْب الرسالي؛ لأن نوحاً عليه السلام قد قالوا عنه إنه رسول عامٌّ للناس جميعاً أيضاً، مثله مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو لم يُبعث رسولاً عامّاً للناس جميعاً، بل كان صعوده إلى السفينة هو الذي جعله رسولاً لكل الناس؛ لأن سكان الأرض أيامها كانوا قِلّة.
والحق سبحانه قد أخذ الكافرين بذنبهم وأنجى المؤمنين من الطوفان، وكان الناس قسمين: مؤمنين، وكافرين، وقد صعد المؤمنون إلى السفينة، وأغرق الحق سبحانه الكافرين.
وهكذا صار نوح ـ عليه السلام ـ رسولاً عامّاً بخصوصية من بقوا وهم المرسَل إليهم بخصوصية الزمان والمكان.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىا قَوْمِهِمْ } [يونس: 74].
فهل قَصَّ الله تعالى كل أخبار الرسل عليه السلام؟ لا؛ لأنه سبحانه وتعالى هو القائل:
{ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }[غافر: 78].
وجاء الحق عز وجل بقصص أولي العزم منهم، مثلما قال سبحانه:
{ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىا مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }[الصافات: 147].
فمن أرسله الله تعالى إلى من هم أقل من مائة ألف، فقد لا يأتي ذكره، ونحن نعلم أن الرسول إنما كان يأتي للأمة المنعزلة؛ لأن العالم كان على طريقة الانعزال، فنحن مثلاً منذ ألف عام لم نكن نعلم بوجود قارة أمريكا، بل ولم نعلم كل القارات والبلاد إلا بعد المسح الجوي في العصر الحديث، وقد توجد مناطق في العالم نعرفها كصورة ولا نعرفها كواقع.

ونحن نعلم أن ذرية آدم ـ عليه السلام ـ كانت تعيش على الأرض، ثم انساحت في الأرض؛ لأن الأقوات التي كانت تكفي ذرية آدم على عهده، لم تعد تكفي بعدما اتسعت الذرية، فضاق الرزق في رقعة الأرض التي كانوا عليها، وانساح بعضهم إلى بقية الأرض.
والحق سبحانه هو القائل:
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً }[النساء: 100].
وهكذا انتقل بعض من ذرية آدم ـ عليه السلام ـ إلى مواقع الغيث، فالهجرة تكون إلى مواقع المياه؛ لأنها أصل الحياة.
ويلاحظ مؤرِّخو الحضارات أن بعض الحضارات نشأت على جوانب الأنهار و الوديان، أما البداوة فكانت تتفرق في الصحاري، مثلهم مثل العرب، وكانوا في الأصل يسكنون عند سد مأرب، وبعد أن تهدم السد وأغرق الأرض، خاف الناس من الفيضان؛ لأن العَدُوَّين اللذين لم يقدر عليهما البشر هما النار والماء.
وحين رأى الناس اندفاع الماء ذهبوا إلى الصحاري، وحفروا الآبار التي أخذوا منها الماء على قَدْر حاجتهم؛ لأنهم عرفوا أنهم ليسوا في قوة المواجهة مع الماء.
وهكذا صارت الانعزالات بين القبائل العربية، مثلها كانت في بقية الأرض؛ ولذلك اختلفت الداءات باختلاف الأمم؛ ولذلك بعث الحق سبحانه إلى كل أمة نذيراً، وهو سبحانه القائل:
{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر: 24].
وقصَّ علينا الله سبحانه قصص بعضهم، ولم يقصص قصص البعض الآخر.
يقول الحق سبحانه:
{ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ }[غافر: 78].
وهنا يقول الحق سبحانه:
} ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىا قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ { [يونس: 74].
فهل هؤلاء هم الرسل الذين لم يذكرهم الله؟
لا؛ لأن الحق سبحانه أرسل بعد ذلك هوداً إلى قوم عاد، وصالحاً إلى ثمود، وشعيباً إلى مدين، ولم يأت بذكر هؤلاء هنا، بل جاء بعد نوح ـ عليه السلام ـ بخبر موسى عليه السلام، وكأنه شاء سبحانه هنا أن يأتي لنا بخبر عيون الرسالات.
وما دام الحق سبحانه قد أرسل رسلاً إلى قوم، فكل قوم كان لهم رسول، وكل رسول بعثه الله تعالى إلى قومه.
وكلمة " قوم " في الآية جمع مضاف، والرسل جمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، مثلما نقول: هَيَّا اركبوا سياراتكم، والخطاب لكم جميعاً، ويعني: أن يركب كل واحد منكم سيارته.
وجاء كل رسول إلى قومه بالبينات، أي: بالآيات الواضحات الدالة على صدق بلاغهم عن الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
} فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَىا قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ { [يونس: 74].
أي: أن الناس جميعهم لو آمنوا لانقطع الموكب الرسالي، فموكب إيمان كل البشر لم يستمر، بل جاءت الغفلة، وطبع الله تعالى على قلوب المعتدين.

والطبع ـ كما نعلم ـ هو الختم.
ومعنى ذلك أن القلب المختوم لا يُخرج ما بداخله، ولا يُدخل إليه ما هو خارجه؛ فما دام البعض قد عشق الكفر فقد طبع الله سبحانه على هذه القلوب ألاّ يدخلها إيمان، ولا يخرج منها الكفر، والطبع هنا منسوب لله تعالى.
وبعض الذين يتلمَّسون ثغرات في منهج الله تعالى يقولون: إن سبب كفرهم هو أن الله هو الذي طبع على قلوبهم.
ونقول: التفتوا إلى أنه سبحانه بيَّن أنه قد طبع الى قلوب المعتدين، فالاعتداء قد وقع منهم أولاً، ومعنى الاعتداء أنهم لم ينظروا في آيات الله تعالى، وكفروا بما نزل إليهم من منهج، فهم أصحاب السبب في الطبع على القلوب بالاعتداء والإعراض.
وجاء الطبع لتصميمهم على ماعشقوه وألفوه، والحق سبحانه وتعالى هو القائل في الحديث القدسي:
" أنا أغنى الشركاء عن الشرك ".
ولله المثل الأعلى، فأنت تقول لمن يَسْدِر في غَيِّه: ما دمت تعشق ذلك الأمر فاشبع به.
ومَثَل هؤلاء الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم، مثل الذين كذَّبوا من قبل وكانوا معتدين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىا وَهَارُونَ {

(/1425)


ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)


وكل من موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ رسول، وقد أخذ البعث لهما مراحل، والأصل فيها أن الله تعالى قال لموسى ـ عليه السلام:
{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى }[طه: 13].
وقال الحق سبحانه وتعالى لموسى ـ عليه السلام:
{ اذْهَبَآ إِلَىا فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىا }[طه: 43].
ثم سأل موسى ـ عليه السلام ـ ربه سبحانه وتعالى أن يشدَّ عَضُدَه بأخيه، فقال الحق سبحانه وتعالى:
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَىا }[طه: 36].
لأن موسى ـ عليه السلام ـ أراد أن يفقه قوله، وقد رجى موسى ربه سبحانه وتعالى بقوله:
{ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي }[طه: 27ـ28].
وبعد ذلك جاء تكليف هارون بالرسالة مع موسى عليه السلام.
وقال الحق سبحانه:{ اذْهَبْ إِلَىا فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىا }[طه: 24].
فالأصل ـ إذن ـ كانت رسالة موسى ـ عليه السلام ـ ثم ضم الله سبحانه هارون إلى موسى إجابة لسؤال موسى، والدليل على ذلك أن الآيات كلها المبعوثة في تلك الرسالة كانت بيد موسى، وحين يكون موسى هو الرسول، وينضم إليه هارون، لا بد ـ إذن ـ أن يصبح هارون رسولاً.
ولذلك نجد القرآن معبِّراً عن هذا:{ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ }[طه: 47].
أي: أنهما رسولان من الله.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الشعراء: 16].
فهما الاثنان مبعوثان في مهمة واحدة، وليس لكل منهما رسالة منفصلة، بل رسالتهما واحدة لم تتعدد، وإن تعدد المرسل فكانا موسى وهارون.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ حين يوفد ملك أو رئيس وفداً إلى ملك آخر، فيقولون: نحن رسل الملك فلان.
وفي رسالة موسى وهارون نجد الأمر البارز في إلقاء الآيات كان لموسى. ولكن هارون له أيضاً أصالة رسالية؛ لذلك قال الحق سبحانه:
{ إِنَّا رَسُولاَ }[طه: 47].
ذلك أن فرعون كان متعالياً سَمْجاً رَذْل الخُلُق، فإن تكلم هارون ليشد أزر أخيه، فقد يقول الفرعون: وما دخلك أنت؟
ولكن حين يدخل عليه الاثنان، ويعلنان أنهما رسولان، فإن رد فرعون هارون، فكأنه يرد موسى أيضاً.
أقول ذلك حتى نغلق الباب على من يريد أن يتورك القرآن متسائلاً: ما معنى أن يقول القرآن مرة " رسول " ومرة " رسولا "؟
وفي هذا ردٌّ كافٍ على هؤلاء المتورّكين.
ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىا وَهَارُونَ إِلَىا فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ } [يونس: 75].
والملأ: هم أشراف القوم، ووجوهه وأعيانه والمقرَّبون من صاحب السيادة العليا، ويقال لهم: " ملأ "؛ لأنهم هم الذين يملأون العيون، أي: لا ترى العيون غيرهم.
وفرعون ـ كما نعلم ـ لم يصبح فرعوناً إلا بالملأ؛ لأنهم هم الذين نصَّبوه عليهم، وكان " هامان " مثلاً يدعم فكرة الفرعون، وكان الكهنة يؤكدون أن الفرعون إله.

ولكل فرعون ملأ يصنعونه، والمثل الشعبي في مصر يقول: " قالوا لفرعون من فَرْعَنك، قال: لم أجدا أحداً يردّني ".
أي: أنه لم يجد أحداً يقول له: تَعقَّلْ. ولو وجد من يقول له ذلك لما تفرعن.
والآيات التي بعث بها الله سبحانه إلى فرعون وملئه مع موسى وهارون من المعجزات الدالة على صدق نبوة موسى وهارون ـ عليهما السلام، وفيها ما يُلْفِت إلى صدق البلاغ عن الله.
أو أن الآيات هي المنهج الذي يثبت وجود الخالق الأعلى، لكن فرعون وملأوه استكبروا. والاستكبار: هو طلب الكبر، مثلها مثل " استخرج " أي: طلب الإخراج، ومثل " استفهم " أي: طلب الفهم. ومن يطلب الكبر إنما يفتعل ذلك؛ لأنه يعلم أن مقوماته لا تعطيه هذا الكبر.
وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله:
} وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ { [يونس: 75].
وشرُّ الإجرام ما يتعدى إلى النفس، فقد يكون من المقبول أن يتعدى إجرام الإنسان إلى أعدائه، أما أن يتعدى الإجرام إلى النفس فهذا أمر لا مندوحة له، وإجرام فرعون وملئه أودى بهم إلى جهنم خالدين مخلدين فيها ملعونين، وفي عذاب عظيم ومهين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا {

(/1426)


فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)


وقد جاءهم الحق على لسان الرسل ـ عليهم السلام ـ وعلى كل إنسان أن يفهم أنه حين يستقبل من الرسول رسالة الحق، فليفهم أنها رسالة ليست ذاتية الفكر من الرسول، بل قد أرسله بها الله الخالق الأعلى سبحانه وتعالى.
ولذلك فالمتأبَّى على الرسول، لا يتأبَّى على مساوٍ له؛ لأن الرسول هو مُبلِّغ عن الله تعالى، والله سبحانه هو الذي بعثه، ويجب على الإنسان أن يعرف قدر البلاغ القادم من الله الحق، لأنه سبحانه هو الحق الأعلى، وهو الذي خلق كل شيء بالحق: سماء مخلوقة بالحق، وأرض مخلوقة بالحق، وشمس تجري بالحق، ومطر ينزل بالحق، وكل شيء ثابت ومتحرك بقوانين أرادها الحق سبحانه.
ولو سيطر الإنسان ـ دون منهج ـ على قوانين الكائنات لأفسدها؛ لأن الفساد إنما يتأتى مما للإنسان دخل فيه، ويدخل إليه بدون منهج الله.
والفساد إنما يجيء من ناحية اختيار الإنسان للبدائل التي لا يخضع فيها لمنهج الله تعالى.
ولذلك إن أردتم أن تستقيم حياتكم استقامة الكائنات العليا التي لا دخل لكم فيها، فامتثلوا لمنهج الحق وميزانه؛ لأنه سبحانه هو القائل:
{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ }[الرحمن: 7ـ 8].
أي: إن كنتم تريدون أن تعتدل أموركم، وتنضبط انضباط الكائنات الأخرى فالتكن إرادة الاختيار المخلوقة لكم خاضعة لمنهج الله تعالى، وتسير في إطار هذا المنهج الرباني.
وحين نتأمل قول الحق سبحانه:
{ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا } [يونس: 76].
نجد في هذا القول توجيهاً إلى أن الحق لم يأت من ذوات الرسل؛ فهذه الذوات لا دخل لها في الموضوع، وإياك أن تهاجم رسالة حق جاءتك من إنسان لا تحبه، بل ناقش الحق في ذاته، ولا تدخل في متاهة البحث عمَّن جاء بهذا الحق، وانظر إلى من كفروا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَهُمْ من قالوا:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].
وهم بذلك قد أدخلوا النازل عليه القرآن في الحكم، مع أن العقل كان يقتضي أن ينظروا إلى القرآن في ذاته، وأن يأخذوا الحكمة من أي وعاء خرجت.
وعليك أنت أن تستفيد من هذا الأمر، وخُذ الحكمة من أي قائل لها، ولا تنظر إلى من جاءت الحكمة منه، فإن كنت تكرهه فأنت ترفض أن تأخذ الحكمة منه، وإن كانت تحبه أخذتها. لا، إن عليك أن تأخذ الحكمة ما دامت قد جاءت بالحق؛ لأنك إن لم تأخذها أضعت نفسك.
والحق هو الشيء الثابت، وإن ظهر في بعض الأحيان أن هناك من طمس الحق، وأن الباطل تغلّب عليه، فهذا يعني ظهور المفاسد؛ فيصرخ الناس طالبين الحق.

وانتشار المفاسد هو الذي يجعل الناس تستدعي الحق، وتتحمس له؛ لأن الباطل حين يَعَضُّ الناس، تجدهم يتجهون إلى الحق ليتمسكوا به.
والحق سبحانه هو القائل:
{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }[الرعد: 17].
والحق سبحانه هنا يضرب المثل النازل كسيل من السماء على الجبال، فيأخذ كل وادٍ أسفل الجبال على قدر احتماله، ويرتوى الناس، وترتوي الأرض، لكن السيل في أثناء نزوله على الجبال إنما يحمل بعضاً من الطمي، والقش، ويستقر الطمي في أرض الأودية؛ لتستفيد منه، أما القش والقاذورات فتطفو على سطح الماء، وتسمى تلك الأشياء الطافية زَبَداً، وساعة تضعها في النار، فهي تصدر أصواتاً تسمى (الطشطشة).
ومثال ذلك: حين نوقد النار؛ لنصهر الحديد، نجد الخبث هو الذي يطفو، ويبقى الحديد النقي في القاع.
هذا الزبد الذي وجد فوق الماء ينزاح على الجوانب، ومثال ذلك: ما نراه على شواطىء البحر حين يقذف الموج بقاذورات على الشاطىء، هذه القاذورات التي ألقتها البواخر، فيلفظها البحر بالموج، وهذا الزبد يذهب جُفاءً، أما ما ينفع الناس فيبقى في الأرض؛ لذلك يقول الحق سبحانه:
{ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ }[الرعد: 17].
إذن: فالله سبحانه يترك للباطل مجالاً، ولكن لا يسلم له الحق، بل يترك الباطل؛ ليحفز غيرة الناس على الحق، فإن لم يغاروا على الحق غار هو عليه.
وهنا يقول الله سبحانه وتعالى:
} فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ { [يونس: 76].
ولأنهم كانوا مشهورين بالسحر؛ ظنوا أن الآيات التي جاءت مع موسى ـ عليه السلام ـ هي السحر المبين، أي: السحر الظاهر الواضح.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قَالَ مُوسَىا أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ {

(/1427)


قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)


وفي هذه الآية ما يوضح رد سيدنا موسى عليه السلام:
{ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـاذَا } [يونس: 77].
والذين يتوركون على القرآن يقولون: كيف يأتي القرآن ليؤكد أنهم قالوا إن هذا لسحر مبين، ثم يأتي في الآية التي بعدها ليقول إنهم قالوا متسائلين: أسحرٌ هذا؟
وفَهِم هؤلاء الذين يتوركون على القرآن أن كلمة { أَسِحْرٌ هَـاذَا } من كلماتهم، ولكن هذا هو قول موسى عليه السلام، وكأن موسى عليه السلام قد تساءل؛ ليعيدوا النظر في حكمهم: هل ما جاء به سحر؟ وهذا استفهام استنكاري، وأريد به أن يؤكد أن هذا ليس بسحر، ولكن جاء بصيغة التساؤل؛ لأنه واثق أن الإجابة الأمينة ستقول: إن ما جاء به ليس سحراً.
ولو جاء كلام موسى ـ عليه السلام ـ كمجرد خَبَر لكان يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، لكنه جاء بصيغة الاستفسار؛ لأن المكذِّب له سيجيب بلجلجة.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ أنت حين تذهب لشراء قماش، فيقول لك البائع: إنه صوف خالص ونقي، فتمسك بعود كبريت وتشعل النار في خيط من القماش، فإن احترق الصوف كما يحترق البلاستيك أو القماش الصناعي، فأنت تقول للبائع: وهل هذا صوف نقي يا رجل؟ وهنا لن يجيب البائع إلا بالموافقة، أو بصمت العاجز عن حجب الحقيقة.
إذن: أنت إن طرحت الأمر بستفهام إنكاري فهذا أبلغ من أن تقوله كخبر مجرد؛ لأن السامع لك لا بد أن يجيب.
وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى عليه السلام:
{ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } [يونس: 77].
يفيد ضرورة النظر إلى الحق مجرداً عمَّن جاء به.
ولذلك لم يقل موسى عليه السلام: أتقولون للحق لما جئناكم به: إنه سحر مبين؟
إن القول الحكيم الوارد في الآية الكريمة هو تأكيد على ضرورة النظر إلى الحق مجرداً عمّن جاء به.
وينهي الحق سبحانه هذه الآية بقوله:
{ أَسِحْرٌ هَـاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ } [يونس: 77].
إذن: فسيدنا موسى ـ عليه السلام ـ قد أصدر الحكم بأن السحر لا ينفع، ولكن الآيات التي جاء بها من الحق سبحانه قد أفلحت، فقد ابتلعت عصاه ـ التي صارت حية ـ كل ما ألقوه من حبالهم؛ وكل ما صنعوه من سحر.
وأراد الحق سبحانه لعصا موسى أن تكون آية معجزة من جنس ما نبغ فيه القوم.
فالله سبحانه حين يرسل معجزةً إلى قوم؛ يجعلها من جنس ما نبغوا فيه؛ لتكون المعجزة تحدياً في المجال الذي لهم به خبرة ودربة ودراية؛ فأنت لن تتحدى رجلاً لا علم له بالهندسة؛ ليبنى لك عمارة، ولكنك تتحدى مهندساً أن يبني لك هرماً؛ لأن العلوم المعاصرة لم تتوصل إلى بعض ما اكتشفه القدماء ولم يسجلوه في أوراقهم، أو لم يعثر على كشف يوضح كيف فرَّغوا الهواء بين كل حجر وآخر فتماسكت الحجارة.

وقول الحق سبحانه وتعالى هنا:
} وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ { [يونس: 77].
يبين لنا أن الفلاح مأخوذ من العملية الحسية التي يقوم بها الفلاح من جهد في حرث الأرض ووضع البذور، وري الأرض وانتظار الثمرة بعد بذل كل ذلك الجهد.
والفلاح أيضاً مأخوذ من فلح الحديد، أي: شق الحديد، ككتل أو كقطع، ولا يصلح إلا إذا أخذ الحديد الشكل المناسب للاستعمال.
وقول الحق سبحانه:
} وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ { [يونس: 77].
هو لَفْتٌ لنا أن السحر نوع من التخييل، وليس حقيقةً واقعةً.
ولذلك قال الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن.
{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ }[الأعراف: 116].
وقال الحق سبحانه أيضاً:
{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىا }[طه: 66].
إذن فالسحر هو تخييل فقط وليس تغييراً للحقيقة.
ولأن معجزة موسى ـ عليه السلام ـ تحدَّت كل القدرات؛ لذلك أعلن فرعون التعبئة العامة بين كل من له علاقة بالسحر، الذي هم متفوقون فيه، أو حتى من لهم شبهة معرفة بالسحر.
ولأن السحر مجرد تخييل، وجدنا السحرة حين اجتمعوا وألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقى موسى عصاه، فإذا بعصاه قد تحولت إلى حية تلقف ما صنعوا، وهنا ماذا فعل السحرة؟
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة طه:
{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا }[طه: 70].
لأن الساحر يرى ما يفعله على حقيقته، وهم خيَّلوا لأعين الناس، لكنهم يرون حبالهم مجرد حبال أو عصيهم مجرد عصى.
أما عصا موسى ـ عليه السلام ـ فلم تكن تخييلاً، بل وجدها السحرة حية حقيقية، ولقفت بالفعل ما صنعوا؛ ولذلك خرُّوا ساجدين، وأعلنوا الإيمان برب موسى وهارون.
هم ـ إذن ـ لم يعلنوا الإيمان بموسى وهارون، بل أعلنوا الإيمان:
{ بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىا }[طه: 70].
لأنهم عرفوا بالتجربة أن ما ألقاه موسى ليس سحراً، بل هو مِنْ فعل خالق أعلى.
وكان ثبات موسى ـ عليه السلام ـ في تلك اللحظة نابعاً من التدريب الذي تلقَّاه من ربه، فقد سأله الحق سبحانه:
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَىا * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىا غَنَمِي }[طه: 17ـ18].
وقد أجمل موسى وفصَّل في الرد على الحق سبحانه؛ إيناساً وإطالة للأنس بالله تعالى، وحين رأى أنه أطال الإيناس أوجز وقال بأدب:
{ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىا }[طه: 18].
إذن: فقد أدركته أولاً شهوة الأنس بالله تعالى، وأدرك ثانياً أدب التخاطب مع الله تعالى، ودرَّبه الحق سبحانه على مسألة العصا حين أمره أولاً أن يلقيها، فصارت أمامه حية تسعى، ولو كانت من جنس السحر لما أوجس منها خيفة ولرآها مجرد عصا.
إذن: فالفرق بين معجزة موسى وسحرة فرعون، أن سحرة فرعون سحروا أعين الناس وخُيِّل إلى الناس من سحرهم أن عصيَّهم وحبالهم تسعى، لكن معجزة موسى ـ عليه السلام ـ في إلقاء العصا، عرفوا هم بالتجربة أن تلك العصا قد تغيرت حقيقتها.
والعصا ـ كما نعلم ـ أصلها فرع من شجرة، وكان باستطاعة الحق سبحانه وتعالى أن يجعلها تتحول إلى شجرة مثمرة، لكنها كانت ستظل نباتاً.
وشاء الحق سبحانه أن ينقلها إلى المرتبة الأعلى من النبات؛ وهي المرحلة الحيوانية، فصارت حية تلقف كل ما ألقاه السحرة.
ويقول الحق سحبانه بعد ذلك: } قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا {

(/1428)


قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)


وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية، ينسبونها لموسى ـ عليه السلام ـ رغم أن موسى عليه السلام قد نسب مجيء المعجزة إلى الله تعالى.
وكان واجب المرسل إليه ـ فرعون وملئه ـ أن ينظر إلى ما جاء به الرسول، لا إلى شخصية الرسول.
ولو قال فرعون لموسى: " جيْءَ بك " لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن الإيمان بأن هناك إلهاً أعلى، ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها؛ لذلك جاء قوله: { أَجِئْتَنَا } فنسب المجيء على لسان فرعون لموسى عليه السلام.
ولماذا المجيء؟
يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه:
{ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [يونس: 78].
والالتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له، وما دام الإنسان بصدد شيء؛ فكل نظره واتجاهه يكون إليه، وكان قوم فرعون على فساد وضلال، وليس أمامهم إلا ذلك الفساد وذلك الضلال.
وجاء موسى عليه السلام؛ ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلال، فقالوا:
{ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [يونس: 78].
وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم، فقد كانوا يقلدون آباءهم، والتقليد يريح المقلِّد، فلا يُعْمِل عقله أو فكره في شيء ليقتنع به، ويبني عليه سلوكه.
والمثل العامي يصور هذا الموقف بعمق شديد حين يقول: " مثل الأطرش في الزفة " أي: أن فاقد السمع لا يسمع ما يقال من أي جمهرة، بل يسير مع الناس حيث تسير؛ ولا يعرف له اتجاهاً.
والمقلِّد إنما يعطل فكره، ولا يختار بين البدائل، ولا يميز الصواب ليفعله، ولا يعرف الخطأ فيتجنَّبه.
وفرعون وملؤه كانوا على ضلال، هو نفس ضلال الآباء، والضلال لا يكلف الإنسان تعب التفكير ومشقة الاختيار، بل قد يحقق شهوات عاجلة.
أما تمييز الصواب من الخطأ واتباع منهج السماء، فهو يحجب الشهوة، ويلزم الإنسان بعدم الانفلات عكس الضلال الذي يطيل أمد الشهوة.
إذن: فالمقلد بين حالتين:
الحالة الأولى: أنه لا يُعْمِل عقله، بل يفعل مثل من سبقوه، أو مثل من يحيا بينهم.
والحالة الثانية: أنه رأى أن ما يفعله الناس لا يلزمه بتكليف، ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه بمنهج، فلا يكسب ـ على سبيل المثال ـ إلا من حلال، ولا يفعل منكراً، ولا يذم أحداً، وهكذا يقيد المنهج حركته، لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين، فالحركة تتسع ناحية الشهوات.
ولذلك أقول دائماً: إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية، فالنشء ما دام لم يصل إلى البلوغ فأنت تلاحظ أنه بلا ذاتية ويقلد الآباء، لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد، وقد يقول للآباء: أنتم لكم تقاليد قديمة لا تصلح لهذا الزمان، لكن إن تشرَّب النشء القيم الدينية الصحيحة؛ فسيمتثل لقانون الحق، ويحجز نفسه عن الشهوات.

ونحن نجد أبناء الأسر التي لا تتبع منهج الله في تربية الأبناء وهم يعانون من أبنائهم حين يتسلط عليهم أقران السوء، فيتجهون إلى ما يوسع دائرة الشهوات من إدمان وغير ذلك من المفاسد.
لكن أبناء الأسر الملتزمة يراعون منهج الله تعالى؛ فلا يقلدون آحداً من أهل السوء؛ لأن ضمير الواحد منهم قد عرف التمييز بين الخطأ والصواب.
ثم إن تقليد الآباء قد يجعل الأبناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم، أما تدريب وتربية الأبناء على إعمال العقل في كل الأمور، فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الأفضل إن اتبع الآباء منهج الله تعالى، وتتكون ذاتية الابن على ضوء منهج الحق سبحانه، فلا يتمرد الابن متهجاً إلى الشر، بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلاحاً.
التقليد ـ إذن ـ يحتاج إلى بحث دقيق؛ لأن الإنسان الذي سوف تقلده، لن يكن مسئولاً عنك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً }[لقمان: 33].
إذن: فأمر الابن يجب أن يكون نابعاً من ذاته، وكذلك أمر الأب، وعلى كل إنسان أن يُعْمِل عقله بين البدائل.
ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة مَنْ قلَّدوا الآباء:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ }[البقرة: 170].
ثم يرد عليهم الحق سبحانه:
{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[البقرة: 170].
فإذا كانت المسألة مسألة تقليد، فلماذا يتعلم الابن؟ ولماذا لا ينام الأبناء على الأرض ولا يشترون أسرَّة؟ ولماذا ينجذبون إلى التطور في الأشياء والأدوات التي تسهِّل الحياة؟
فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر، وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الأفضل.
إذن: فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل؛ لنختار بين البدائل، وإذا كان المنهج قد جاء من السماء، فَلْتهْتدِ بما جاء لك ممن هو فوقك، وهذا الاهتداء المختار هو السُّمو نحو الحياة الفاضلة.
يقول الحق سبحانه:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ }[المائدة: 104],
أي: أنهم أعلنوا أنهم في غير حاجة للمنهج السماوي فَردَّ عليهم القرآن:
{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[المائدة: 104].
وهكذا نجد أن القرآن قد جاء بموقفين في آيتين مختلفتين عن المقلّدين:
الآية الأولى: هي التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى:
{ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[البقرة: 170].
والآية الثانية: هي قول الحق سبحانه وتعالى:
{ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[المائدة: 104].

وهم في هذه الآية أعلنوا الاكتفاء بما كان عليه آباؤهم.
وهناك فارق بين الآيتين، فالعاقل غير من لا يعلم؛ لأن العاقل قادر على الاستنباط، ولكن من لا يعلم فهو يأخذ من استنباط غيره.
إذن: فالذين اكتفوا بما عند آبائهم، وقالوا:
{ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ }[المائدة: 104].
هؤلاء هم الذين غالوا في الاعتزاز بما كان عند آبائهم؛ لذلك جاء في آبائهم القول بأنهم لا يعلمون.
أي: ليس لهم فكر ولا علم على الإطلاق، بل يعيشون في ظلمات من الجهل.
وهنا يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه:
} قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ { [يونس: 78].
أي: هل جئت لتصرفنا، وتحوِّل وجوهنا أو وجهتنا أو طريقنا وتأخذنا عن وجهة آبائنا الذين نقلدهم؛ لتأخذ أنت وأخوك الكبرياء في الأرض؟
وهكذا يتضح أنهم يعتقدون أن الكبرياء الذي لهم في الأرض قد تحقق لهم بتقليدهم آباءهم، وهم يحبون الحفاظ عليه، والأمر هنا يشمل نقطتين:
الأولى: هي تَرْكُ ما وجدوا عليه الآباء.
والثانية: هي الكبرياء والعظمة في الأرض.
ومثال ذلك: حين يقول مقاتل لآخر: " ارْمِ سيفك " وهي تختلف عن قوله: " هات سيفك " ، فَرَمْيُ السيف تجريد من القوة، لكن أخذ السيف يعني إضافة سيف آخر إلى ما يملكه المقاتل الذي أمر بذلك.
وهم هنا وجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبة مركبة.
الأولى: هي ترك عقيدة الآباء.
والثانية: هي سلب الكبرياء، أي: السلطة الزمنية والجاه والسيادة والعظمة والائتمار، والمصالح المقضية، فكل واحد من بطانة الفرعون يأخذ حظه حسب اقترابه من الفرعون.
ولذلك أعلنوا عدم الإيمان، وقالوا ما يُنهي به الحق سبحانه الآية الكريمة الي نحن بصددها:
} وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ { [يونس: 78].
أي: أن قوم فرعون والملأ أقرُّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها، ورفضوا الإيمان بما جاء به موسى وهارون ـ عليهما السلام.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي {

(/1429)


وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)


وكان فرعون يعلم تقدُّم السحرة في دولته، ويكفي أنه شخصياً خَيَّل للناس أنه إله، وجاء أمره أن يأتي أعوانه بالسحرة، وفور أن قال الأمر جيء بالسحرة.
وأورد الحق سبحانه في الآية التي بعد ذلك. { فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ }

(/1430)


فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)


وكأن المسافة بين نطق فرعون بالأمر وبين تنفيذ الأمر هي أضيق مسافة وقتية، وذلك حتى نفهم أن أمر صاحب السلطان لا يحتمل من الناس التأجيل أو التباطؤ في التنفيذ.
والقرآن حينما يعالج أمراً من الأمور فهو يعطي صورة دقيقة للواقع، ولا يأتي بأشياء تفسد الصورة.
يقول الحق سبحانه:
{ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَىا أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } [يونس: 80].
وفي هذه الآية تلخيص للموقف كله، فحين علم السحرة أن فرعون يحتاجهم في ورطة تتعلق بالحكم، فهذه مسألة صعبة وقاسية، وعليهم أن يسرعوا إليه.
ولم يأت الحق سبحانه هنا بالتفصيل الكامل لذلك الموقف؛ لأن القصة تأتي بنقاطها المختلفة في مواضع أخرى من القرآن، وكل آية توضح النقطة التي تأتي بذكرها.
لذلك لم يقل الحق سبحانه هنا: إن أعوان فرعون نادوا في المدائن ليأتي السحرة، مثلما جاء في مواضع أخرى من القرآن.
ولم يقل لنا إن السحرة أرادوا أن يستفيدوا من هذه المسألة، وقالوا للفرعون:
{ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ }[الأعراف: 113].
ووَضْع مثل هذا الشرط يوضح لنا طبيعة العلاقات في ذلك المجتمع، فطلبهم للأجر، يعني أن عملهم مع الفرعون من قبل ذلك كان تسخيراً وبدون أجر، ولما جاءتهم الفرصة ورأوا الفرعون في ازمة؛ طالبوا بالأجر.
ووعدهم فرعون بالأجر، وكذلك وعدهم أن يكونوا مقرَّبين؛ لأنهم لو انتصروا بالسحر على معجزة موسى؛ ففي ذلك العمل محافظة وصيانة للمُلْك، ولا بد أن يصبحوا من البطانة المستفيدة، ووعدهم الفرعون بذلك شحذاً لهمتهم ليبادروا بإبطال معجزة موسى؛ ليستقر عرش الفرعون.
وشاء الحق سبحانه الإجمال هنا في هذه الآية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ وجاء ببقية اللقطات في المواضع الأخرى من القرآن.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَىا أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } [يونس: 80].
وألقى السحرة عِصيَّهم وحبالهم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: { فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَىا مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ }

(/1431)


فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)


ونحن نعلم أن الحق سبحانه هنا شاء الإجمال، ولكنه بيَّن بالتفصيل ما حدث، في آية أخرى، قال فيها سبحانه عن السحرة:
{ قَالُواْ يامُوسَىا إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ }[الأعراف: 115].
ونحن نعلم أن المواجهة تقتضي من كل خصم أن يدخل بالرعب على خصمه؛ ليضعف معنوياته.
وهنا أوضح لهم موسى ـ عليه السلام ـ أن ما أتوا به هو سحر ومجرد تخييل.
وقد أعلم الحق سبحانه نبيه موسى ـ عليه السلام ـ أن عصاه ستصير حية حقيقية، بينما ستكون عصيهم وحبالهم مجرد تخييل للعيون.
وقال لهم موسى ـ عليه السلام ـ حكم الله تعالى في ذلك التخييل:
{ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس: 81].
وهكذا جاء القول الفصل الذي أنهى الأمر وأصدر الحكم فيما فعل فرعون ومَلَؤُه والسحرة، فكل أعمالهم كانت تفسد في الأرض، ولولا ذلك لما بعث الله سبحانه إليهم رسولاً مؤيَّداً بمعجزة من صنف ما برعوا فيه، فهم كانوا قد برعوا في السحر، فأرسل إليهم الحق سبحانه معجزة حقيقية تلتهم ما صنعوا، فإن كانوا قد برعوا في التخييل، فالله سبحانه خلق الأكوان بكلمة " كُنْ " وهو سبحانه يخلق حقائق لا تخييلات.
ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد ذلك: { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ }

(/1432)


وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)


فالمسألة التي يشاؤها سبحانه تتحقق بكلمة " كن " فيكون الشيء.
وقوله سبحانه وتعالى:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].
و " كن فيكون " عبارة طويلة بعض الشيء عند وقوع المطلوب، ولكن لا توجد عبارة أقصر منها عند البشر؛ لأن الكاف والنون لهما زمن، وما يشاؤه الله سبحانه لا يحتاج منه إلى زمن، والمراد من الأمر " كن " أن الشيء يوجد قبل كلمة " كن "؛ لأن كل موجود إنما يتحقق ويبرز بإرادة الله تعالى.
ويريد الحق سبحانه هنا أن يبيِّن لنا أن الحق إنما يأتي على ألسنة الرسل، ومعجزاتهم دليل على رسالتهم؛ ليضع أنوف المجرمين في الرَّغام، وليريح العالم من إضلالهم ومن مفاسدهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىا إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ }

(/1433)


فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)


وإذا كان السحرة ـ وهم عُدَّة فرعون وعتاده لمواجهة موسى ـ أعلنوا الإيمان، فعاقبهم الفرعون وقال:
{ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ }[طه: 71].
فهذا يدل على أن فكرة الألوهية كانت ما تزال مسيطرة على عقله؛ ولذلك خاف الناس من إعلان الإيمان؛ ولذلك قال الحق سبحانه:
{ فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىا إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ } [يونس: 83].
وكلمة " ذرية " تفيد الصغار الذين لم تلمسهم خميرة من الفساد الذي كان منتشراً، كما أن الصغار يتمتعون بطاقة من النقاء، ويعيشون في خُلُوٍّ من المشاكل، ولم يصلوا إلى مرتبة السيادة التي يُحْرَصُ عليها، ومع ذلك فهم قد آمنوا:
{ عَلَىا خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [يونس: 83].
وكلمة { عَلَىا خَوْفٍ } تفيد الاستعلاء، مثل قولنا: " على الفرس " أو " على الكرسي " ويكون المستعلي في هذه الحالة متمكّناً من المستعلى عليه "؛ ومن يستعلي إنما يركب المستعلي، ويحمل المستعلي العبء.
ولكن من استعمالات " على " أنها تأتي بمعنى " مع ".
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه:
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىا حُبِّهِ }[الإنسان: 8].
أي: يطعمون الطعام مع حبه.
وحين يأتي الحق سبحانه بحرف مقام حرف آخر فلا بد من علة لذلك.
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه وتعالى:
{ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه: 71].
جاء الحق سبحانه بالحرف " في " بدلاً من " على "؛ ليدل على أن عملية الصلب ستكون تصليباً قوياً، بحيث تدخل أجزاء المصلوب في المصلوب فيه.
وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىا حُبِّهِ }[الإنسان: 8].
فكأنهم هم المستعلون على الحب؛ ليذهب بهم حيث يريدون.
وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى:
{ عَلَىا خَوْفٍ } [يونس: 83].
أي: أنهم فوق الخوف يسير بهم إلى دهاليز توقُّع الآلام.
وهم هنا آمنوا: { عَلَىا خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [يونس: 83].
والكلام هنا من الحق الأعلى سبحانه يبيِّن لنا أن الخوف ليس من فرعون؛ لأن فرعون إنما يمارس التخويف بمن حوله، فمثلهم مثل زُوَّار الفجر في أي دولة لا تقيم وزناً لكرامة الإنسان.
وفرعون في وضعه ومكانته لا يباشر التعذيب بنفسه، بل يقوم به زبانيته.
والإشارة هنا تدل على الخوف من شيعة فرعون وملئهم.
وقال الحق سبحانه هنا: { يَفْتِنَهُمْ } ، ولم يقل: " يفتنوهم "؛ ليدلنا على ملحظ أن الزبانية لا يصنعون التعذيب لشهوة عندهم، بل يمارسون التعذيب لشهوة عند الفرعون.
وهكذا جاء الضمير مرة جمعاً، ومرة مفرداً، ليكون كل لفظ في القرآن جاذباً لمعناه.
وحين أراد المفسرون أن يوضحوا معنى (ذرية) قالوا: إن المقصود بها امرأة فرعون (آسية)، وخازن فرعون، وامرأة الخازن، وماشطة فرعون، ومَنْ آمن مِنْ قوم موسى ـ عليه السلام ـ وكتم إيمانه.

كل هؤلاء منعتهم خشية عذاب فرعون من إعلان الإيمان برسالة موسى؛ لأن فرعون كان جَبَّاراً في الأرض، مدّعياً للألوهية، وإذا ما رأى فرعون إنساناً يخدش ادعاءه للألوهية؛ فلا بد أن يبطش به بطشة فاتكة.
لذلك كانوا على خوف من هذا البطش، فقد سبق وأن ذبح فرعون ـ بواسطة زبانيته ـ أبناء بني إسرائيل واستحيا نساؤهم، وهم خافوا من هولاء الزبانية الذي نفَّذوا ما أراده فرعون.
ولذلك جاء الضمير مرة تعبيراً عن الجمع في قوله سبحانه وتعالى:
} وَمَلَئِهِمْ { [يونس: 83].
وجاء الضمير مفرداً معبراً عن فرعون الآمر في قوله سبحانه وتعالى:
} أَن يَفْتِنَهُمْ { [يونس: 83].
فهم خافوا أن يفتنهم فرعون بالتعذيب الذي يقوم به أعوانه.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل:
} وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ { [يونس: 83].
والمسرف: هو الذي يتجاوز الحدود، وهو قد تجاوز في إسرافه وادَّعى الألوهية.
وقد قال الحق سبحانه ما جاء على لسان فرعون:
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَىا }[النازعات: 24].
وقال الحق سبحانه أيضاً:
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص: 38].
وعلا فرعون في الأرض علوَّ طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين.
وقال الحق سبحانه على لسان فرعون:
{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي }[الزخرف: 51].
إذن: فقد كان فرعون مسرفاً أشد الإسراف.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَقَالَ مُوسَىا ياقَوْمِ {

(/1434)


وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)


وهنا شرطان، في قوله تعالى:
{ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ } [يونس: 84].
وجاء جواب هذا الشرط في قوله سبحانه:
{ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } [يونس: 84].
ثم جاء بشرط آخر هو: { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [يونس: 84].
وهكذا جاء الشرط الأول وجوابه، ثم جاء شرط آخر، وهذا الشرط الآخر هو الشرط الأول وهو الإسلام لله؛ لأن الإيمان بالله يقتضي الإسلام وأن يكونوا مسلمين.
ومثال ذلك في حياتنا: حين يريد ناظر إحدى المدارس أن يعاقب تلميذاً خالف أوامر المدرسة ونظمها، ويستعطف التليمذ الناظر، فيرد الناظر على هذا الاستعطاف بقوله: " إن جئت يوم السبت القادم قَبِلتك في المدرسة إن كان معك وليُّ أمرك؛ ومجيء ولي الأمر هنا مرتبط بالموعد الذي حدده الناظر لعودة التلميذ لصفوف الدراسة، وهكذا نجد أن الشرط الآخر مرتبط بالشرط الأول.
وهنا يتجلَّى ذلك في قول الحق سبحانه:
{ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [يونس: 84].
والإيمان ـ كما نعلم ـ عملية وجدانية قلبية، والإسلام عملية ظاهرية، فمرة ينفذ الفرد تعاليم الإسلام، وقد ينفك مرة أخرى من تنفيذ التعاليم رغم إيمانه بالله، ومرة تجد واحداً ينفذ تعاليم الإسلام نفاقاً من غير رصيد من إيمان.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
{ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ }[البقرة: 25].
ونجده سبحانه يبيِّن هذا الأمر بتحديد قاطع في قوله تعالى:
{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا }[الحجرات: 14].
والإيمان عملية قلبية؛ لذلك يأتي الأمر الإلهي:
{ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ }[الحجرات: 14].
أي: أنكم تؤدون فروض الإسلام الظاهرية، لكن الإيمان لم يدخل قلوبكم بعد.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } [يونس: 84].
وهكذا نرى أن التوكل مطلوب الإيمان، وأن يُسلم الإنسان زمامه في كل أمر إلى مَنْ آمن به؛ ولذلك لا ينفع الإيمان إلا بالإسلام، فإن كنتم مسلمين مع إيمانكم فتوكلوا على الله تعالى.
لكن إن كنتم قد آمنتم فقط ولم تسلموا الزمام لله في التكاليف إلى الله في " افعل " و " لا تفعل " ، فهذا التوكل لا يصلح.
وهكذا يتأكد لنا ما قلناه من قبل من أنك إذا رأيت أسلوباً فيه شرط تقدم، وجاء جواب بعد الشرط، ثم جاء شرط آخر، فاعلم أن الشرط الأخير هو المقدَّم، لأنه شرط في الشرط الأول، وبالمثل هنا فإن التوكل لن ينشأ إلا بالإسلام مع الإيمان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { فَقَالُواْ عَلَىا اللَّهِ تَوَكَّلْنَا }

(/1435)


فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)


أي: أنهم استجابوا لدعوة موسى ـ عليه السلام ـ بمجرد قولهم: { عَلَىا اللَّهِ تَوَكَّلْنَا }.
وإذا تقدم الجار على المجرور فمعنى ذلك قَصْر وحَصْر الأمر، وهنا قصر وحصر التوكل على الله تعالى، ولا توكل على سواه.
ويأتي بعد ذلك دعاؤهم:
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [يونس: 85].
والفتنة: اختبار، وهي ـ كما قلنا من قبل ـ ليست مذمومة في ذاتها، بل المذموم أن تكون النتيجة في غير صالح من يمر بالفتنة.
ويقال: فتنت الذهب، أي: صهرت الذهب، واستخلصته من كل الشوائب، ونحن نعلم أن صُنَّاع الذهب يخلطونه بعناصر أخرى؛ ليكون متماسكاً؛ لأن الذهب غير المخلوط بعناصر أخرى لا يتماسك.
والفتنة التي قالوا فيها:
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [يونس: 85].
هي فتنة الخوف من أن يرتد بعضهم عن الإيمان لو انتصر عليهم فرعون وعذَّبهم، وكأنهم يقولون: يا رب لا تسلّط علينا فرعون بعذاب شديد.
هذا إن كانوا مفتونين، فماذا إن كانوا هم الفاتنين؟
إنهم في هذه الحالة لو لم يتبعوا الدين التتبع الحقيقي لما علم فرعون وآله أن هؤلاء الذين أعلنوا الإيمان هم مسلمون بحق، وهم لو انحرفوا عن الدين لقال عنهم آل فرعون: إنهم ليسوا أهل إيمان حقيقي.
ونجد سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ وهو أبو الأنبياء وله قدره العظيم في النبوة، يقول:
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ }[الممتحنة: 5].
ودعوة إبراهيم عليه السلام تعلمنا ضرورة التمسك بتعاليم الدين؛ حتى لا ينظر أحد إلى المسلم أو المؤمن ويقول: هذا هو من يعلن الإيمان ويتصرف عكس تعاليم دينه.
ولذلك كان سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ يؤدي الأوامر بأكثر مما يطلب منه، ويقول فيه الحق سبحانه:
{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }[البقرة: 124].
أي: أنه كان يتم كل عمل بنية وإتقان؛ لأنه أسوة، فلم يقم بعمل إيماني بمظهر سطحي.
إذن: فإن كانوا هم المفتونين، فهم يدفعون الفتنة عن أنفسهم، وإن كانوا هم الفاتنين؛ فعليهم التمسك بتعاليم الدين؛ حتى لا يتهمهم أحد بالتقصير في أمور دينهم، فيزداد الكافرون كفراً وضلالاً.
وجاء قول الحق سبحانه:
{ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [يونس: 85].
ليدل على انشغالهم بأمر الدين، فاتنين أو مفتونين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

(/1436)


وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)


وهنا توضح الآية الكريمة أنهم إن كانوا مشغولين بأمر الغير من الكافرين فهذا يعني أنهم طمعوا في إيمان العدو؛ لعل هذا العدو يعود إلى رشد الإيمان.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
وهم أرادوا إيمان العدو رغم أنه ظالم.
وهكذا يعلّم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الخلق أنه من حُمْق العداوة أن يدعو الإنسان على عدوِّه بالشر؛ لأن الذي يتعبك من عدوك هو شرُّه، ومن صالحك أن تدعو له بالخير؛ لأن هذا الخير سيتعدى إليك.
وعلى المؤمن أن يدعو لعدوِّه بالهداية، لأنه حين يهتدي؛ فلسوف يتعدَّى لانفع إليك، وهذه من مميزات الإيمان أن نفعه يتعدَّى إلى الغَيْر.
وهم حين دعوا ألاَّ يجعلهم الله فتنةً للقوم الظالمين، فإن ذلك يوضّح لنا أن الظلم درجاتٌ، وأن فرعون وملأه كانوا في قمة الظلم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].
فقمة الظلم أن تأخذ حَقَّ الغير وتعطيه لغير صاحب الحق. وفرعون وملؤه أشركوا بالله ـ سبحانه وتعالى ـ فظن فرعون أنه إله، وصدَّقه من حوله.
فقمة الظلم هو الشرك بالله سبحانه، ثم بعد ذلك يتنزل إلى الظلم في الكبائر، ثم في الصغائر.
وقولهم في دعائهم للحق سبحانه:
{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [يونس: 86].
أي: اجعلنا بنجوةٍ من هؤلاء.
وكان الذي يخيف الأقدمين هو سيول المياه، حين تتدفَّق، ولا ينجو إلا مَنْ كان في ربوةٍ عالية ـ والنجوة هي المكان المرتفع ـ وهذا هو أصل كلمة " النجاة ".
وهنا يقول الحق سبحانه على لسانهم:
{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [يونس: 86].
والرحمة هي الوقاية من أن يجيء الداء.
والحق سبحانه يقول:
{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ }[الإسراء: 82].
والشفاء إذا وُجد الدَّاء، والرحمة هي ألاَّ يجيء الداء.
وأراد الحق سبحانه أن يكرم ـ بعد ذلك ـ موسى عليه السلام وقومه فقال سبحانه وتعالى: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا وَأَخِيهِ }

(/1437)


وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)


وأوضحنا من قبل أن موسى وهارون عليهما السلام رسولان برسالة واحدة، وأن الوَحْي قد جاء للاثنين برسالة واحدة.
فالحق سبحانه ساعة يختار نبيّاً رسولاً، فإنما يختاره بتكوينٍ وفطرةٍ تؤهّله لحَمْل الرسالة النطق بمرادات الله تعالى.
وإذا كان الخَلْق قد صنعوا آلات ذاتية الحركة من مواد جامدة لا فكر لها ولا رَويّة، مثل الساعة التي تُؤذِّن، أو المذياع يذيع في توقيت محدد، إذا كان البشر قد صنعوا ذلك فما بالنا بالله سبحانه الخالق لكل الخلق والكون ومرسل الرسل؟
إنه سبحانه وتعالى يختار رسله بحيث يسمح تكوين الرسول أن يؤدي المهمة الموكولة إليه في أي ظرف من الظروف.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا وَأَخِيهِ } [يونس: 87].
يبيِّن لنا أن الوحي شمل كلاً من موسى وهارون عليهما السلام، بحيث إذا جاء موقف من المواقف يقتضي أن يتكلم فيه موسى، فهارون أيضاً يمكن أن يتكلم في نفس الأمر؛ لأن الشحنة الإيمانية واحدة، والمنهج واحد.
وقد حدث ذلك بعد أن أغرق فرعون وقومه، وخلا لهم الجو، فجاء لهم الأمر أن يستقروا في مصر، وأن يكون لهم فيها بيوت.
ولكن لنا أن نسأل:
هل فرعون هذا هو شخص غرق وانتهى؟
لا.. إن فرعون ليس اسماً لشخص، بل هو تصنيف لوظيفة، وكان لقب كل حاكم لمصر قديماً هو " فرعون "؛ لذلك لا داعي أن نشغل أنفسنا: هل هو تحتمس الأول؟ أو رمسيس؟ أو ما إلى ذلك؟ فهب أن فرعون المعنيَّ هنا قد غرق، ألا يعني ذلك مجيء فرعون جديد؟
نحن نعلم من التاريخ أن الأسر الحاكمة توالت، وكانوا فراعنة، وكان منهم من يضطهد المؤمنين، ولا بد أن يكون خليفة الفرعون أشد ضراوةً وأكثر شحنةً ضد هؤلاء القوم.
وقول الحق سبحانه وتعالى في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } [يونس: 87].
نجد فيه كلمة " مصر " وهي إذا أطلقت يُفهم منها أنها " الإقليم ".
ونحن هنا في بلدنا جعلنا كلمة " مصر " علماً على الإقليم الممتد من البحر المتوسط إلى حدود السودان، أي: وادي النيل.
ومرة أخرى جعلنا من " مصر " أسماً لعاصمة وادي النيل.
ونحن نقول أيضاً عن محطة القطارات في القاهرة: " محطة مصر ".
وقول الحق سبحانه هنا:
{ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا } [يونس: 87].
نفهم منه أن التبؤُ هو اتخاذ مكان يعتبر مباءةً؛ أي: مرجعاً يبوء الإنسان إليه.
التبؤُّ ـ إذن ـ هو التوطن في مكان ما، والإنسان إذا اتخذ مكاناً كوطن له فهو يعود إليه إن ذهب إلى أي بلد لفترة.

ويعتبر الخروج من الوطن مجرد رحلة تقتضي العودة، وكذلك البيت بالنسبة للإنسان؛ فالواحد منا يطوف طوال النهار في الحقل أو المصنع أو المكتب، وبعد ذلك يعود إلى البيت للبيتوتة.
والبيوت التي أوصى الله سبحانه وتعالى بإقامتها لقوم موسى وهارون ـ عليهما السلام ـ كان لها شرط هو قول الحق سبحانه:
} وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً { [يونس: 87].
والقِبلة هي المتجَه الذي نصلي إليه.
ومثال ذلك: المسجد، وهو قبلة مَنْ هو خارجه، وساعة ينادي المؤذن للصلاة يكون المسجد هو قبلتنا التي نذهب إليها، وحين ندخل المسجد نتجه داخله إلى القلبة، واتجاهنا إلى القبلة هو الذي يتحكم في وضعنا الصفِّي.
والأمر هنا من الحق سبحانه:
} وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ { [يونس: 87].
فإقامة البيوت هنا مشروطة بأن يجعلوا بها قبلة لإقامة الصلاة بعيداً عن أعين الخصوم الذين يضطهونهم، شأنهم شأن المسلمين الأوائل حينما كان الإسلام ـ في أوليته ـ ضعيفاً بمكة، وكان المسلمون حين ذاك يصلون في قلب البيوت، وهذا هو سر عدم الجهر بالصلاة نهاراً، وعدم الجهر يفيد في ألا ينتبه الخصوم إلى مكان المصلين.
وأما الجهر بالصلاة ليلاً وفجراً، فقد كان المقصود به أن يعلمهم كيفية قراءة القرآن.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً { [يونس: 87].
وقد يكون المقصود بذلك أن تكون البيوت متقابلة.
وإلى يومنا هذا أن نظرت إلى ساحات اليهود في أي بلد من بلاد الدنيا تجد أنهم يقطنون حيّاً واحداً، ويرفضون أن يذوبوا في الأحياء الأخرى.
ففي كل بلد لهم حي يسكنون فيه، ويسمى باسم " حي اليهود ". وكانت لهم في مصر " حارات " كل منها تسمى باسم " حارة اليهود ".
وقد شاء الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ذلك وقال في كتابه العزيز:
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ }[البقرة: 61].
وهم يحتمون بتواجهم معاً، فإن حدث أمر من الأمور يفزعهم؛ يصبح من السهل عليهم أن يلتقوا:
أو } وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً { [يونس: 87].
أي: أن يكون تخطيط الأماكن والشوارع التي تُبنى عليها البيوت في اتجاه القبلة.
وأي خطأ معماري مثل الذي يوجد في تربيعة بناء مسجد الإمام الحسين بالقاهرة، هذا الخطأ يوجب الاتجاه إلى اليمين قليلاً مما يسبب بعض الارتباك للمصلين؛ لأن الانحراف قليلاً إلى اليمين في أثناء الصلاة يقتضي أن يقصر كل صف خلف الصف الآخر.
وحين نصلي في المسجد الحرام بمكة، نجد بعضاً من المصلين يريدون مساواة الصفوف، وأن تكون الصفوف مستقيمة، فنجد من ينبه إلى أن الصف يعتدل بمقدار أطول أضلاع الكعبة، ثم ينحي الصف.
وكذلك في الأدوار العليا التي أقيمت بالمسجد الحرام نجد الصفوف منحنية متجهة إلى الكعبة.
ولذلك أقول دائماً حين أصلي بالمسجد الحرام: إن معنى قول الإمام: " سووا صفوفكم " أي: اجعلا مناكبكم في مناكب بعضكم بعض، أما خارج الكعبة فيكفي أن نتجه إلى الجهة التي فيها الكعبة، ونحن خارج الكعبة لا نصلي لعين الكعبة، ولكننا نصلي تجاه الكعبة؛ لأننا لو كنا نصلي إلى عين الكعبة لما زاد طول الصف في أي مسجد عن اثني عشر متراً وربع المتر، وهو أطول أضلاع الكعبة.

وقول الحق سبحانه هنا:
} وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً { [يونس: 87].
أي: خططوا في إقامة البيوت أن تكون على القبلة، وبعض الناس يحاولون ذلك، لكن تخطيط الشوارع والأحياء لا يساعد على ذلك.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ { [يونس: 87].
وهذا الأمر نفهم منه أن الصلاة فيها استدامة الولاء لله تعالى، فنحن نشهد ألا إله إلا الله مرة واحدة في العمر، ونُزكِّي ـ إن كان عندنا مال ـ مرة واحدة في السنة، ونصوم ـ إن لم نكن مرضى ـ شهراً واحداً هو شهر رمضان، ونحج ـ إن استطعنا ـ مرة واحدة في العمر.
ويبقى ركن الصلاة، وهو يتكرر كل يوم خمس مرات، وإن شاء الإنسان فَلْيُزِد، وكأن الحق سبحانه وتعالى هنا ينبه إلى عماد الدين وهي الصلاة.
ولكن مَن الذي اختار المكان في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؟ هل هو موسى وأخوه هارون؟ أم أن الخطاب لكل القوم.
نلحظ هنا أن الأمر بالتبوّء هو لموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ أما الأمر بالجعل فهو مطلوب من موسى وهارون والأتباع؛ لذلك جاء الجعل هنا بصيغة الجمع.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ { [يونس: 87].
وفي هذا تنبيه وإشارة إلى أن موسى هو الأصل في الرسالة؛ لذلك جاء له الأمر بأن يحمل البشارة للمؤمنين.
ونلحظ هنا في هذه الآية أن الحق سبحانه جاء بالتثنية في التبوء، وجاء بالجمع في جعل البيوت، ثم جاء بالمفرد في نهاية الآية لينبهنا إلى أن موسى ـ عليه السلام ـ هو الأصل في الرسالة إلى بني إسرائيل.
والبشرى على الأعمال الصالحة تعني: التبشير بالجنة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَقَالَ مُوسَىا رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ {

(/1438)


وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)


والزينة: هي الأمر الزائد عن ضروريات الحياة ومقوماتها الأولى، فاستبقاء الحياة يكون بالمأكل لأي غذاء يسدُّ الجوع، وبالمشرب الذي يروي العطش.
أما إن كان الطعام منوَّعاً فهذا من ترف الحياة، ومن ترف الحياة الملابس التي لا تستر العورة فقط، بل بالزي الذي يتميز بجودة النسج والتصميم والتفصيل.
وكذلك من ترف الحياة المكان الذي ينام فيه الإنسان، بحيث يتم تأثيثه بفاخر الرياش، ولكن الضرورة في النوم يكفي فيها مكان على الأرض، وأي فراش يقي من برودة الأرض أو حرارتها.
إذن: فالزائد عن الضرورات هو زينة الحياة، والزينة تأتي من الأموال، والرصيد الأصيل في الأموال هو الذهب، ثم تأخذ الفضة المرتبة الثانية.
ومن مقومات الاقتصاد أن الذهب يعتبر قيمة الرصيد لغنى أية دولة، مهما اكتشفوا من أحجار أغلى من الذهب.
وهذه الأحجار الكريمة ـ كالماس مثلاً ـ إن كُسِرت أو خُدِشت تقل قيمتها، لكن الذهب مهما تفتَّت فأنت تعيد صَهْرَه، فتستخلَص ذهباً مُجمَّعاً.
وكان الفراعنة الأقدمون يحكمون مصر حتى منابع النيل، وكانوا يسخِّرون الناس في كل الأعمال، وحتى استخراج الذهب سواء من المناجم أو من غربلة رمال بعض الجبال لاستخلاص الذهب منها.
وأنت قد تستطيع استخلاص الذهب من أماكن معينة، ولكن الفرق دائماً إنما يكون في القيمة الاقتصادية لاستخراج الذهب، فحين يكون المنجم وفير العطاء، فيه كثير من عروق الذهب، هنا يصبح استخراج الذهب مسألة مريحة اقتصادياً.
أما إن كانت التكلفة أعلى من القيمة الاقتصادية للذهب المستخرج، فلا أحد يستخرج هذا الذهب.
وأنت إن نظرت إلى زينة الفراعنة تجد قناع " توت عنخ آمون " آية في الجمال، وكذلك كانت قصورهم في قمة الرفاهية، ويكفي أن ترى الألوان التي صنعت منها دهانات الحوائط في تلك الأيام؛ لتعرف دقة الصنعة ومدى الترف، الذي هو أكثر بكثير من الضرورات.
وفي هذه الآية الكريمة يقول الحق سبحانه:
{ وَقَالَ مُوسَىا رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [يونس: 88].
وهم لم يَضِلُّوا فقط بل أرادوا أن يُضِلّوا غيرهم؛ لذلك تحملوا وِِزْر ضلالهم، ووزر إضلال غيرهم.
فهل أعطاهم الله سبحانه المال والزينة للضلال والإضلال؟
لا، فليس ذلك علة العطاء، ولكن هناك لام العاقبة، مثلما تعطي أنت إبنك عشرة جنيهات وتقول له: افعل بها ما تريد، وأرجو أن تتصرف فيها تصرفاً يعود عليك بالخير. وقد ينزل هذا الابن ليشتري شيئاً غير مفيد ولا يشتري ـ مثلاً ـ كتباً تفيده.
هنا أنت أعطيت هذا الابن قوة شرائية لكنه لم يحسن التصرف فيها، وغاية الاختيار هَدَتْه إلى اللعب. وهذا ما يسمى لام العاقبة، ولام العاقبة لا يكون المقصود بها سبب الفعل، ولكنها تأتي لبيان عاقبة الفعل.

وحين أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينجي موسى ـ عليه السلام، في طفولته من القتل أوحى إلى أم موسى ـ عليهما السلام ـ بقوله تعالى:
{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي }[القصص: 7].
ولا توجد أم تُقبل على تنفيذ مثل هذا الأمر؛ لأنه موت محقق؛ لأن الابن إن خُطف أو فُقِد فهذا كله موت مظنون، أما إلقاؤه في الماء فليس فيه موت مظنون، بل موت مؤكد، إن لم يُنجِّه الله تعالى.
ولكن أم موسى ـ لإيمانها بالله ـ فعلت ما أوحى به الله ـ سبحانه وتعالى ـ لها؛ لأن الوارد من الله تعالى لا يجد في الفطرة منازعاً له.
أما نزغات الشيطان فهي تجد ألف منازع لها في النفس، وكذلك هواجس النفس.
ولذلك نفَّذت أم موسى ما أوحى الله تعالى به إليها، وإن كان مخالفاً للعقل والمنطق.
وحين التقطه آل فرعون، وقد كانوا يقتلون الأطفال، وألقى الحق سبحانه وتعالى محبة موسى في قلوبهم، قال:
{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }[طه: 39].
فهم ساعة رؤيتهم لموسى ـ عليه السلام ـ وهو طفل، أحبُّوه فلم يقتلوه، وهكذا نفذت مشيئة الله تعالى ووعده لأمه:
{ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }[القصص: 7].
أي: أن لموسى ـ عليه السلام ـ مهمة مسبقة أرادها له الحق سبحانه.
ولذلك نجد أن هناك أوامر متتابعة جاء بها القرآن الكريم في مسألة إلقاء أم موسى لابنها، فقال الحق سبحانه:
{ إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّكَ مَا يُوحَىا * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ }[طه: 38ـ39].
وكلها أوامر من الحق سبحانه، فتراه زوجة فرعون فتقول لزوجها:
{ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ }[القصص: 9].
فهل كان فرعون يعلم أن هذا الطفل الذي التقطه سيكون عدوّاً له؟
لا، لقد التقطه وأعطاه حياة الترف؛ ليكون قُرَّة عين له، وهذه علة الالتقاط، ولكن العاقبة انتهت إلى أن يكون عدوّاً؛ ولو كانت العلة هي العداوة لما التقطه فرعون أو لقتله لحظة الالتقاط.
ولذلك يترك الحق سبحانه وتعالى في كونه أشياء تكسر مكر البشر؛ فأخذه فرعون وربَّاه، وكانت العاقبة غير ما كان يتوقع فرعون.
وقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصددها: } لِيُضِلُّواْ { نفهم منه أن ـ سبحانه وتعالى ـ لم يُعْطِهم المال ليضلوا، ولكنهم هم الذين اختاروا الضلال.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى الكثير من الناس مالاً وجاهاً وأرادوا به الخير، وهكذا نرى اختيار الإنسان، إن له أن يضل أو يهتدي.
وقد قال موسى عليه السلام تنفيساً عن نفسه:
} رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُوبِهِمْ { [يونس: 88].
ومعنى الطمس أي: إخفاء المعالم؛ مثل قول الحق سبحانه:


{ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىا أَدْبَارِهَآ }[النساء: 47].
ومعنى الطمس هنا: إخفاء معالم تلك الوجوه؛ فتكون قطعة واحدة بلا جبهة أو حواجب أو عينين أو أنف أو شفاه أو ذقن.
إذن: فالطمس هو إهلاك الصورة التي بها الشيء. ودعوة موسى ـ عليه السلام ـ هنا:
} اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ { [يونس: 88].
أي: امسخها.
وقال بعض الرواة أنها مُسخت، فمن كان يملك بعضاً من سبائك الذهب وجدها حجارة، ومن كان يملك أحجاراً كريمة كالماس وجدها زجاجاً.
أو أن } اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ { [يونس: 88].
أي: أذهبهما؛ لأن الأموال كانت وسيلة إضلال.
وقوله عليه السلام بعد ذلك:
} وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىا يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ { [يونس: 88].
أي: أحْكمْ يا رب الأربطة على تلك القلوب؛ فلا يخرج ما فيها من كفر، ولا يَدخل ما هو خارجها من الإيمان؛ لأن هؤلاء قد افتروا افتراءً عظيماً، وأن تظل الأربطة على قلوبهم؛ حتى يروا العذاب الأليم.
ولماذا دعا موسى ـ عليه السلام ـ على آل فرعون هذا الدعاء، ولم يَدْعُ مثلما دعا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون "
والإجابة: لا بد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلعه على أن هؤلاء قوم لن تفلح فيهم دعوة الإيمان.
وكان خوف موسى ـ عليه السلام ـ لا من ضلال قوم فرعون، ولكن من استمرار إضلالهم لغيرهم.
إذن: فقد دعا عليهم موسى ـ عليه السلام ـ بما جاء في هذه الآية:
} رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىا يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ { [يونس: 88].
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه:
{ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا }[غافر: 85].
وهكذا يتبين لنا الفارق بين إيمان الإلجاء والقصر وبين إيمان الاختيار.
فحين يأتي الرسول داعياً إلى الإيمان يصبح من حق السامع لدعوته أن يؤمن أو أن يكفر؛ لأن الله تعالى قد خلق الإنسان وله حق الأختيار، أما إيمان الإلجاء والقصر فهو لاينفع الإنسان.
ومثال ذلك: فرعون، فساعة أن جاءه العذاب أعلن الإيمان. فالحق سبحانه وتعالى يقول:
{ حَتَّىا إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[يونس: 90].
وإذا كان موسى ـ عليه السلام ـ قد دعا على قوم فرعون، فقد سبقه نوح عليه السلام في مثل هذا الدعاء مما أورده القرآن في قوله:
{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً }[نوح: 26ـ27].
واستجاب الحق سبحانه لدعوة موسى عليه السلام. } قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا {

(/1439)


قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)


ويلاحظ أن الذي دعا هو موسى عليه السلام، ولكن قوله سبحانه: { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [يونس: 89] يدل على أن هارون ـ عليه السلام ، قد دعا مع موسى.
وقد قلنا من قبل: إننا إن نظرنا إلى الإصالة في الرسالة لوجدنا موسى ـ عليه السلام ـ هو الأصيل فيها، وجاء هارون ليشد عضده، وإن نظرنا إلى طبيعة الاثنين فكل منهما رسول، والاثنان لهما رسالة واحدة.
وما دام الحق سبحانه قد ارسل الاثنين لمهمة واحدة، فإن انفعل واحد منهما لشيء فلا بد أن ينفعل الآخر لنفس الشيء؛ لذلك فلا يوجد ما يمنع أن هارون ساعة سمع أخاه داعياً بمثل هذا الدعاء، قد دعا هو أيضاً بالدعاء نفسه، أو أنه ـ أي: هارون ـ قد دعا بهذا الدعاء سِرّاً.
والدعاء معناه: أنك تفزع إلى من يقدر على تحقيق ما لا تقدر عليه، فأنت لا تدعو إلا في أمر عَزَّتْ عليك أسبابه؛ فتقول: إن لي ربّاً أومن به، وهو يقدر على الأسباب لأنه خالق الأسباب، وقادر على أن يعطى بلا أسباب، والمؤمن الحق يستقبل الأحداث، لا بأسبابه، ولكن بقدرة مَنْ آمن به، وهو المسِّبب الأعلى سبحانه.
ولذلك تجد موسى عليه السلام ومعه قومه حين وصلوا إلى شاطىء البحر، وكان من خلفهم قوم فرعون يطاردونهم، فقال قوم موسى:
{ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ }[الشعراء: 61].
فَرَدَّ موسى عليه السلام:
{ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62].
أي: لا ترتِّبوا الأمر بترتيب البشر؛ لأن معي رب البشر، فجاءه الإنقاذ:
{ فَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }[الشعراء: 63].
إذن: فالدعاء إنما يكون فزعاً إلى من يقدر على أمر لا تقدر عليه.
والموضوع الذي كان يشغل موسى وهارون عليهما السلام هو بقاء آل فرعون على ضلالهم وإصرارهم على إضلال غيرهم، فلا بد أن يدعو كل منهما نفس الدعاء، ومثل هذا نجده في غير الرسل ونسميه " التخاطر " ، أي: التقاء الخواطر في لحظة واحدة.
ومثال ذلك في التاريخ الإسلامي، لحظة أن كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مشغولاً بالتفكير في جيش المسلمين المقاتل في إحدى المعارك، وكان عمر في المدينة يخطب على المنبر، فإذا به يقول فجأة: " يا سارية الجبل " وهي كلمة لا موضع لها في منطق الخطبة، ولكن كان فكره مشغولاً بالقائد الذي يحارب، وسمع القائد ـ وهو على البعد ، الأمر؛ فانحاز إلى الجبل.
ويقال في هذه المسألة: إن الخاطر قد شغل مع الخاطر، مثلما تطلب أحداً في الهاتف فيرد عليك الشخص الذي تريد الكلام معه قائلاً: لقد كنت على وشك أن أتصل بك هاتفيّاً، وهذا يعني أن الخاطرين قد انضبطا معاً.

وإذا كان هذا ما يحدث في حياتنا العادية، فما بالنا بما يحدث في الأمور الصفائية؛ وفي أرقى درجاتها وهي النبوة؟
أو أن الذي دعا هو موسى وما كان هارون إلا مؤمِّناً، والمؤمِّن هو أحد الداعيين، وما دام الحق سبحانه قد قَبِل دعوة موسى عليه السلام، فقد قَبِل أيضاً دعوة المؤمِّن معه.
ويظن بعض الناس أن إجابة الدعوة هي تحقيق المطلوب فور الدعاء، ولكن الحقيقة أن إجابة الدعوة هي موافقة على الطلب، أما ميعاد إنجاز الطلب، فقد يتأجل بعض الوقت، مثلما حدث مع دعوة موسى عليه السلام على فرعون وملئه، فحين دعا موسى، وأمَّن هارون، جاءت إجابة الدعاء: } قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا { [يونس: 89] بعد أربعين عاماً، ويحقق الله سبحانه الطمس على المال.
فالسماء ليست موظفة عند من يدعو، وتقبل أي دعاء، ولكن قبول الدعوة يقتضي تحديد الميعاد الذي تنفذ فيه.
وهذه أمور من مشيئة الله سبحانه؛ فالحق سبحانه وتعالى منزَّه عن أن يكون منفِّذاً لدعاء ما، ولكنه هو الذي بيده مقاليد كل أمر، فإذا ما أجيبت دعوة ما، فهو سبحانه بمشيئته يضع تنفيذ الدعوة في الميعاد الملائم؛ لأنها لو أجيبت على الفور فقد تضر.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }[الإسراء: 11].
لذلك يحدد الحق سبحانه ميعاد تطبيق الدعوة في مجال التنفيذ والواقع.
وهو سبحانه وتعالى يقول:
{ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ }[الأنبياء: 37].
والإنسان يعرف أنه قد يكون قد دعا بأشياء، فحقق الله سبحانه الدعاء وكان شرّاً، وكم من شيء يدعو به الإنسان ولم يحققه الله تعالى وكان عدم تحقيقه خيراً.
إذنك فالقدرة العليا رقيبة علينا، وتعلم ما في صالحنا؛ لأننا لسنا آلهة تأمر بتنفيذ الدعوات، بل فوقنا الحكيم الأعلى سبحانه:
ولذلك نقول في بيان قول الحق سبحانه:
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ }[يونس: 11].
لأن الإنسان قد يدعو بالشر على نفسه، ألا تسمع أمّاً تدعو على ابنها أو ابنتها رغم حبها لهما، فلو استجاب الله لدعائها على أولادها الذين تحبهم أليس في ذلك شر بالنسبة للأم.
والولد قد يقول لأمه مغاضباً: يا رب تحدث لي حادثة؛ حتى تستريحي مني. فهَبْ أن الله استجاب لهذا الدعاء، أيرضي ذلك من دعا على نفسه أو يرضي أمه؟
طبعاً لا؛ فإذا كان الله سبحانه قد أبطأ عليك بدعاء الشر فهذا خير لك، فعليك أن تأخذ إبطاء الله سبحانه عليك بدعاء الخير على أنه خير لك.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يقول لموسى وهارون عليهما السلام:
} قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ { [يونس: 89].
أي: ابقيا على الطريق السوي، ولا تُدْخِلا نفسيكما فيما لا علم لكما به. أليس الحق سبحانه هو القائل:{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }[هود: 45ـ46].
أي: كُنْ مؤدَّباً مع ربك حين تدعو وتنفِّس عن نفسك، ودَعْ لحكمة الحكيم الإجابة أو عدمها، وقد تكون الإجابة فورية أو مؤجَّلة إلى حين أوانها، وكلاهما خير.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه {

(/1440)


وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)


قال الحق سبحانه:
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } [يونس: 90] لأن الاجتياز لم يكن بأسباب بشرية، بل بفعل يخرج من أسباب البشر، فلو أن موسى عليه السلام قد حفر نفقاً تحت الماء، أو لو كان قد ركب سفناً هو وقومه لكان لهم مشاركة في اجتياز البحر، لكن المجاوزة كانت بأسباب غير ملوحظة بالنسبة للبشر، فالحق سبحانه هو الذي أوحى لموسى:
{ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء: 63].
ومياه البحر كأية مياه أخرى تخضع لقانون السيولة، والاستطراق هو وسيلة السيولة، وهي عكس التجمد الذي يتسم بالتحيز.
والاستطراق هو الذي قامت عليه أساليب نقل المياه من صهاريج المياه التي تكون في الأغلب أعلى من طول أي منزل، ويتم ضخ المياه إليها؛ لتتوزع من بعد ذلك حسب نظرية الأواني المستطرقة على المنازل، أما إذا كانت هناك بناية أعلى طولاً من الصهريج، هنا يقوم سكان المبنى بتركيب مضخة لرفع المياه إلى الأدوار العالية.
وإذا كان قانون البحر هو السيولة والاستطراق، فكيف يتم قطع هذا الاستطراق؟
يقول الحق سبحانه:
{ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }[الشعراء: 63].
فكيف تحول الماء إلى جبال يفصل بينها سراديب وطرق يسير فيها موسى عليه السلام وقومه؟
كيف يسير موسى وقومه مطمئنين؟
لا بد أنها معية الله سبحانه التي تحميه، وهي تفسير لقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62].
ورغم ذلك يتبعهم فرعون وجنوده لعله يدركهم، وأراد سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ بمجرد نجاحه في العبور هو وقومه أن يضرب البحر بعصاه؛ ليعود إلى قانون السيولة، ولو فعل ذلك لما سمح لفرعون وجنوده أن يسيروا في الممرات التي بين المياه التي تحولت إلى جبال، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يريد غير ذلك، فقد أراد الحق سبحانه أن ينجي ويهلك بالشيء الواحد، فأوحى لموسى عليه لسلام:
{ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ }[الدخان: 24].
أي: اترك البحر على حاله؛ فينخدع فرعون وجنوده، وما إن ينزل آخر جندي منهم إلى الممر بين جبال الماء؛ سيعود البحر إلى حالة السيولة فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى وقومه.
ويقول الحق سبحانه:
{ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } [يونس: 90].
فهل كان هذا الإتباع دليل إرادة الشر؟
أكان من الممكن أن تكون نية الفرعون أن يدعو موسى وقومه إلى العودة إلى مصر ليستقروا فيها؟
لا، لم تكن هذه نية الفرعون؛ لذلك قال الحق سبحانه عن هذا الإتباع: { بَغْياً وَعَدْواً } [يونس: 90].
أي: أنه اتباع رغبة في الانتقام والإذلال والعدوان.
ويصور القرآن الكريم لحظة غرق فرعون بقوله:
{ حَتَّىا إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ } [يونس: 90].
والإدراك: قصد للمدرك أن يلحق بالشيء، والغرق معنى، فكيف يتحول المعنى إلى شيء يلاحق الفرعون؟
نعم، فكأن الغرق جندي من الجنود، وله عقل ينفعل؛ فيجري إلى الأحداث:
{ حَتَّىا إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس: 90].

والإيمان إذا أطلق فهو الإيمان بالقوة العليا، بدليل أن الحق سبحانه وتعالى قد قال:
{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا }[الحجرات: 14].
لأن الإيمان يتطلب انقياد القلب، والإسلام يقتضي اتباع أركان الإسلام، فالإيمان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل آمنت بالله ثم استقم ". وفي هذا القول ذكر محدد بأن الإيمان إنما يكون لله الأعلى.
لكن لو قلت ـ مثلاً: " آمنت أنك رجل طيب " فهذا إيمان له متعلق، أما إذا ذُكِر الإيمان بإطلاق فهو ينصرف إلى الإيمان بالله تعالى؛ ولذلك قال الله سبحانه للأعراب:
{ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا }[الحجرات: 14].
وهنا يأتي القول على لسان فرعون:
} آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ { [يونس: 90].
والخلاف هنا كان بين الفرعون كجهة كفر، وبين موسى وهارون وقومهما كجهة إيمان، وأعلن فرعون إيمانه، وقال أيضاً:
} وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ { [يونس: 90].
ولم يقبل الله ذلك منه بدليل قوله الحق سبحانه: } آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ {

(/1441)


آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)


وهذا يعني: أتقول إنك آمنت الآن وإنك من المسلمين. إن قولك هذا مردود؛ لأنه جاء في غير وقته، فهناك فرق بين إيمان الإجْبار وإيمان الاختيار، أتقول الآن آمنت وأنت قد عصيت من قبل، وكنت تفسد في الأرض.
وكان من الممكن أن يقبل الله سبحانه منه إيمانه وهو في نجوة بعيدة عن الشر الذي حاق به.
فالحق سبحانه لا يقبل إيمان أحد بلغت روحه الحلقوم، فهذا إيمان إجبار، لا إيمان اختيار.
ولو كان المطلوب إيمان الإجبار لأجبر الحق سبحانه الخلق كلهم على أن يؤمنوا، ولما استطاع أحد أن يكفر بالله تعالى، وأمامنا الكون كله خاضع لإمره الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يتأبى فيه أحد على الله تعالى.
وقدرة الحق ـ عز وجل ـ المطلقة قادرة على إجبار البشر على الإيمان، لكنها تثبت طلاقة القدرة، ولا تثبت المحبوبية للمعبود.
وهذه المحبوبية للمعبود لا تثبت إلا إذا كان لك خيار في أن تؤمن أو لا تؤمن. والله سبحانه يريد إيمان الاختيار.
إذن: فالمردود من فرعون ليس القول، ولكن زمن القول.
ويقال: إنها رُدَّتْ ولم تُقبل ـ رغم أنه قالها ثلاث مرات ـ لأن قوم موسى في ذلك الوقت كانوا قد دخلوا في مرحلة التجسيم لذات الله وادعوا ـ معاذ الله ـ أن الله ـ تعالى عما يقولون ـ جلس على صخرة وأنزل رِجْليه في حوض ماء، وكان يلعب مع الحوت.. إلى آخر الخرافات التي ابتدعها بنو إسرائيل.
وحين أعلن فرعون أنه آمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، فهذا يعني أنه لم يؤمن بالإله الحق سبحانه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك. { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ }

(/1442)


فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)


ونحن نعرف أن الإنسان مكوَّن من بدن، وهو الهيكل المادي المصوَّر على تلك الصورة التي نعرفها، وهناك الروح التي في البدن، وبها تكون الحركة والحياة.
وساعة نقول: " بدن " ، فافهم أنها مجردة عن الروح، مثلما نقول: جسد. وإذا أطلقت كلمة " جسد " فمعناها الهيكل المادي المجرد من الروح.
والحق سبحانه هو القائل:
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىا كُرْسِيِّهِ جَسَداً }[ص: 34].
وكان سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ يستمتع بما آتاه الله سبحانه من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الجن والرياح وعلّمه كل اللغات، وكان صاحب الأوامر والنواهي والهيمنة، ثم وجد نفسه قاعداً على كرسيه بلا حراك وبلا روح، ويقدر عليه أي واحد من الرعية، ثم أعاد الله له روحه إلى جسده، وهو ما يقوله الحق سبحانه:
{ ثُمَّ أَنَابَ }[ص: 34].
أي: أنه أفاق لنفسه، فعلم أن كل ما يملكه هو أمر مُفاضٌ عليه، لا أمر نابع من ذاته.
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه:
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } [يونس: 92].
وباللهِ، لو لم يأمر الحق البحر بأن يلفظ جثمان فرعون، أما كان من الجائز أن يقولوا: إنه إله، وإنه سيرجع مرة أخرى؟
ولكن الحق سبحانه قد شاء أن يلفظ البحر جثمانه كما يلفظ جيفة أي حيوان غارق؛ حتى لا يكون هناك شك في أن هذا الفرعون قد غرق، وحتى ينظر من بقي من قومه إلى حقيقته، فيعرفوا أنه مجرد بشر، ويصبح عبرة للجميع، بعد أن كان جباراً مسرفاً طاغية يقول لهم:
{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص: 38].
وبعض من باحثي التاريخ يقول: إن فرعون المقصود هو " تحتمس " ، وإنهم حلَّلوا بعضاً من حثمانه، فوجدوا به آثار مياه مالحة.
ونحن نقول: إن فرعون ليس اسماً لشخص، بل هو توصيف لوظيفة، ولعل أجساد الفراعين المحنطه تقول لنا: إن علة حفظ الأبدان هي عبرة؛ وليتعظ كل إنسان ويرى كيف انهارت الحضارات، وكيف بقيت تلك الأبدان آية نعتبر بها.
وقد تعرض القرآن لمسألة الفرعون، فقال الحق سبحانه:
{ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ }[الفجر: 10].
ويقول سبحانه في نفس السورة عن كل جبار مفسد:
{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر: 14].
ونلحظ أن كلام الحق سبحانه عن فرعون في سورة الفجر كان كلاماً يضمُّ إلى جانب حضارة الفراعنة حضارات أخرى قديمة، مثل حضارة عاد وحضارة ثمود.
وكذلك تكلم الحق سبحانه عن الفرعون في أثناء لقطات قصة موسى عليه السلام، ولكن الكلام يختلف في قصة يوسف عليه السلام، فلا تأتي وظيفة الفرعون، بل يحدثنا الحق سبحانه عن وظائف أخرى، هي وظية " عزيز مصر " ـ أي: رئيس وزرائها ـ ويحدثنا الله سبحانه عن ملك مصر بقوله:


{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ }[يوسف: 50].
ولم يُكْتَشَف الفارق بين وظيفة " الفرعون " ووظيفة " الملك " في التاريخ المصري إلا بعد أن جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وفك " شامبليون " رموز اللغة الهيروغليفيه من خلال نقوش حجر " رشيد " ، فعرفنا أن حكام مصر القديمة كانوا يسمون " الفراعنة " إلا في فترة كانت فيها مصر تحت حكم " ملوك الرعاة " أو " الهكسوس " الذين أغاروا على مصر، وحكموها حكماً ملكياً وقضوا على حكم الفراعنة، ثم عاد الفراعنة إلى حكم مصر بعد أن خلصوها من سيطرة " الهكسوس ".
وهكذا نجد أن إشارة القرآن في قصة يوسف ـ عليه السلام ـ كانت إلى الملك، ولم يأت فيها بذكر فرعون، وهذا دليل على أن القرآن قد سبق بعلمه أي اكتشاف، وكلما جاء اكتشاف جديد أو ابتكار حقيقي، نجده يؤيد كتاب الله.
ويُنهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله:
} وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ { [يونس: 92].
وهذا القول يوضح أن هناك من يغفل عن الآيات، وهناك من لا يغفل عنها، وينظر إلى تلك الآيات ويتأملها ويتدبرها، ويتساءل عن جدوى كل شيء، فيصل إلى ابتكارات واختراعات ينتفع بها الإنسان، أّذِن بميلادها عند البحث عنها؛ لتستبين عظمة الله في خلقه.
وحين ينظر الإنسان في تلك الابتكارات سيجدها وليدة أفكار مَنْ نظروا بإمعان، وامتلكوا قدرة الاستنباط، ولو لم يغفل الناس عن النظر في آيات الكون، والسموات والأرض، لزادت الابتكارات والاختراعات، والحق سبحانه هو القائل:
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].
وحين ننظر إلى مكتشف قانون الجاذبية " نيوتن " الذي رأى ثمرة تفاح تسقط من شجرتها، نجد أن هناك عشرات الآلاف أوالملايين من البشر شاهدوا من قبله مشهد سقوط ثمرة من على شجرة، ولكن نيوتن وحده هو الذي تفكر وتدبر ما يحدث أمامه إلى أن أهتدى إلى اكتشاف قانون الجاذبية.
وجاء من بعد نيوتن من بنى سفن القضاء التي تستفيد من هذا القانون وغيره.
وكذلك نجد من صَمَّم الغواصات، والبواخر العملاقة التي تشبه المدن العائمة، هؤلاء اعتمدوا على من اكتشف قانون " الطفو " وقاعدة " أرشميدس " الذي لاحظ أنه كلما غطس شيءٌ في المياه، ارتفع الماء بنفس حجم الشيء الغاطس فيه.
كل هؤلاء اكتشفوا ـ ولم يخلقوا ـ أسراراً كانت موجودة في الكون، وهم تميَّزوا بالانتباه لها.
وكذلك العالم الذي اكتشف " البنسلين " قد لاحظ أن أصيصاً من المواد العضوية كانت تنزل منه قطرات من الماء العفن، ورأى الحشرات التي تقترب من هذا الماء تموت، فأخذ عينة من هذا العفن وأخذ يُجري عليها بعض التجارب في معمله إلى أن اكتشف " البنسلين ".

وقول الحق سبحانه:
{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].
فكأنهم لو لم يعرضوا لاستنبطوا من آيات الكون الشيء الكثير.
وكذلك القصص التي تأتي في القرآن، إنما جاءت ليعتبر الناس ويتأملوا، فحين يرسل الله رسولاً مؤيَّداً بمعجزة منه لا يقدر عليها البشر؛ فعلى الناس أن يسلّموا ويقولوا: " آمنا " ، لا أن يظلوا في حالة إعادة للتجارب السابقة؛ لأن ارتقاءات البشر في الأمور المادية قد تواصلت؛ لأن كل جيل من العلماء يأخذ نتائج العلم التي توصل إليها مَنْ سبقوه، فلماذا لا يحدث هذا في الأمور العقدية؟
ولو أن الناس بدأوا من حيث انتهى غيرهم؛ لوجدنا الكل مؤمناً بالله تعالى، ولأخذ كل مولود الأمر من حيث انتهى أبوه، ولَوصَل خير آدم إلى كل من وُلِدَ بعد ذلك، لكن آفة البشر أن الإنسان يريد أن يجرب بنفسه.
ونحن نجد ذلك في أمور ضارة مثل: الخمر، نجدها ضارة لكل من يقرب منها، فإذا حرَّمها الدين وجدنا من يتساءل: لماذا تُحرَّم؟
وكذلك التدخين؛ نجد من يجربه رغم أن التجارب السابقة أثبتت أضراره البالغة، ولو أخذ كل إنسان تجارب السابقين عليه؛ فهو يصل عمره بعمر الآخرين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ {

(/1443)


وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)


وكلمة " تبوأ " تعني إقامة مباءة أي: البيوت التي يكون فيها السكن الخاص، وإذا أطلقت كلمة " مبوأ " فهي تعني الإقليم أو الوطن.
والوطن أنت تتحرك فيه وكذلك غيرك، أما البيت فهو للإنسان وأسرته كسكن خاص.
أما الثري فقد يكون له جناح خاص في البيت، وقد يخصص الثريُّ في منزله جناحاً لنفسه، وآخر لولده وثالثاً لابنته.
أما غالبية الناس فكل أسرة تسكن في " شقة " قد تتكون من غرفة أو اثتنتين أوثلاثة حسب إمكانات الأسرة.
إذن: فيوجد فرق بين تبؤُّء البيوت وتبوء المواطن، فتبؤُّء المواطن هو الوطن.
وسبق أن قال الحق سبحانه لموسى وهارون عليهما السلام:
{ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً }[يونس: 87].
هذا في التبوء الخاص، أما في التبوء العام فهو يحتاج إلى قدرة الحق تعالى، وهو سبحانه يقول هنا:
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } [يونس: 93].
والحق سبحانه أتاح لهم ذلك في زمن موسى ـ عليه السلام ـ وأتاح لهم السكن في مصر والشام، وهو سبحانه القائل:
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }[الإسراء: 1]ٍ.
وما دام الحق سبحانه قد بارك حول فلا بد أن فيه خيراً كثراً، ولا بد أن تكون الأرض التي حوله مُبوَّاً صدق.
وكلمة " الصدق " تعني جماع الخير والبر؛ " ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: " نعم " وحين سئل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: " نعم ". وحين سئل أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: " لا ".
ولذلك فأنت تجد في الإسلام عقوبة على الزنا، وعقوبة تقام على السارق، أما الكذب فهو خصلة لا يقربها المسلم؛ لأن عليه أن يكون صادقاً. وكل خصال الخير هي مُبوَّأَ الصدق.
ولذلك نجد قول الحق سبحانه:
{ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }[الإسراء: 80].
وقول الحق سبحانه:
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ }[يونس: 2].
وقول الحق سبحانه:
{ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ }[الشعراء: 84].
أي: اجعل لي ذكرى حسنة فلا يقال فلان كان كاذباً، وأما قدم الصدق فهي سوابق الخير التي يسعى إليها؛ ولذلك كان الجزاء على الصدق هو ما يقول عنه الحق سبحانه:
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ }[القمر: 55].
وهو مقعد عند مليك لا يبخل، ولا يجلس في رحابه إلا من يحبه، ولا يضن بخيره على من هم في رحابه.
ومقعد الصدق هو جزاء لمن استجاب له ربه فأدخله مدخل صدق، وأخرجه مخرج صدق، وجعل له لسان صدق، وقدم صدق.
وبعد أن بوَّأ الحق سبحانه بني إسرائيل مُبوَّاً صدق، في مصر والشام، وبعد أن قال لهم:


{ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ }[البقرة: 61].
أي: أن الحق سبحانه حقق قوله:
} وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ { [يونس: 93].
وأنجاهم من فرعون، وكان من المفترض أن تستقيم أمورهم.
ويقول الحق سبحانه:
} فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّىا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ { [يونس: 93].
والمقصود بذلك هو معرفتهم بعلامات الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من ترقب مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤمن به، ومنهم من تمادى في الطغيان؛ لذلك قطَّعهم الله ـ سبحانه ـ في الارض أمماً.
وحين ننظر إلى دقة التعبير القرآني نجده يحدد مسألة التقطيع هذه، فهم في كل أمة يمثلون قطعة، أي: أنه سبحانه لم يُذِبْهم في الشعوب. بل لهم في كل بلد ذهبوا إليه مكانٌ خاصٌّ بهم، ولا يذَوبون في غيرهم.
والحق سبحانه يقول:
{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ }[الإسراء: 104].
وقد يقول أحد السطحيين: وهل هناك سكن في غير الأرض؟
ونقول: لنا أن نلحظ أن الحق سبحانه لم يحدد لهم في أية بقعة من الأرض يسكنون، فكأن الحق سبحانه قد بيَّن ما أصدره من حكم عليهم بالتقطيع في الأرض أمماً؛ فهو سبحانه القائل:
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً }[الأعراف: 168].
وإذا كنا نراهم في أيامنا هذه وقد صار لهم وطن، فاعلم أن الحق سبحانه هو القائل:
{ وَقَضَيْنَآ إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً }[الإسراء: 4].
وقد قال في آخر سورة الإسراء:
{ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }[الإسراء: 104].
والمجيء بهم لفيفاً إنما يعني أن يجمعهم في وطن قومي لتأتي لهم الضربة القاصمة التي ذكرها الحق سبحانه في قوله:
{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً }[الإسراء: 7].
لأننا لن نستطيع أن نحاربهم في كل بلد من البلاد التي قطَّعهم الله فيها، لكنهم حين يجتمعون في مكان واحد، إنما يسهل أن ينزل عليهم قضاء الله.
وحين ننظر إلى رحلتهم نجد أن " يثرب " كانت المكان الذي اتسع لهم بعد اضطهادات المجتمعات التي دخلوا إليها، وحين اجتمعوا في يثرب صار لهم الجاه؛ لأنهم أهل علم، وأهل اقتصاد، وأهل حرب.
وهم قد اجتمعوا في المدينة؛ لأن المخلصين من أهل الكتاب أخبروهم أن هذه المدينة هي المهجر لنبي ورسول يأتي من العرب في آخر الزمان؛ فمكثوا فيها انتظاراً له، وكانوا يقولون لكفار قريش: " لقد أظل زمان يأتي فيه نبي نتبعه، ونقتلكم فيه قَتل عاد وإرم ".
وكان من المفروض أن يؤمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم، لكنه إن أطل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنور رسالته حتى أنكروه خوفاً على سلطتهم الزمنية.

وهو ما تقول عنه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّىا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ { [يونس: 93].
أي: أن علمهم بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم هو مصدر اختلافهم، فمنهم من سمعوا إشارات عنه صلى الله عليه وسلم وعرفوا علاماته صلى الله عليه وسلم؛ فآمنوا به، ومنهم من لم يؤمن به.
وهم لم يختلفوا من قبل وكانوا متفقين، وتوعَّدوا المشركين من قريش. وما إن أهلَّ الرسول صلى الله عليه وسلم به " الأوس " و " الخزرج " أنه رسول من الله تعالى قد ظهر بمكة، فقالت الأوس و الخزرج: إنه النبي الذي توعَّدتنا به يهود، فهيا بنا لنذهب ونسبقهم إليه قبل أن يسبقونا، فيقتلونا به.
فكأن اليهود هم الذين تسببوا في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ لأن الأوس والخزرج سبقوهم إليه؛ وهذا لنعلم كيف ينصر الله تعالى دينه بأعدائه.
ولذلك نجد أنهم في اختلافهم " يأتي عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإذا أنا آمنت بك يا رسول الله سيقولون فيَّ ما يسيء إليَّ؛ لذلك فقبل أن أعلن إسلامي اسألهم عنِّي.
وكان ابن سلام في ذلك يسلك سلوكاً يتناسب مع كونه يهودياً، ولما اجتمع معشر اليهود،سألهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما تقولون في ابن سلام؟
قالوا: حَبْرُنا وشيخنا وهو الورع فينا، وبعد أن أثنوا عليه ثناء عظيماً، قال ابن سلام: يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وهنا بدأ اليهود يكيلون له السِّباب، فقال ابن سلام: ألم أقُلْ لك يا رسول الله إنهم قوم بُهْت "
إذن: فمعنى قوله سبحانه:
} فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّىا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ { [يونس: 93].
أي: أن أناساً منهم بقوا على الباطل، وأناساً منهم آمنوا بالرسول الحق صلى الله عليه وسلم.
وينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى:
} إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ { [يونس: 93].
أي: أن الله سبحانه وتعالى سوف يقضي بن ما جاءوا في صف الإيمان، وبين مَنْ بَقَوْا على اليهودية المتعصبة ضد الإيمان.
ونحن نلحظ أن كلمة } بَيْنَهُمْ { توضح أن الضمير عام، لهؤلاء ولأولئك.
ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى يقضي يوم القيامة بين المؤمنين والكافرين، ويقضي أيضاً بين الكفارين، فمنهم من كان ظالماً لكافر، ومنه من كان مختلساً أو مرتشياً، ومنهم من عمل على غير مقتضى دينه؛ لذلك يقضي الله سبحانه بينهم.
والآية تفيد العموم في القضاء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بين كل مؤمن وكافر، وبين كل تائب وعاصٍ.
ويقو الحق سبحانه بعد ذلك: } فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ {

(/1444)


فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)


والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال من البداية إنه لا يشك في رسالته، وحين وعده أهله بالسيادة قال:
" والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته ".
نقول: إن الحق سبحانه وتعالى يضمر خطاب الأمة في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأتباع حين يقرأون ويسمعون الخطاب وهو موجَّه بهذا الأسلوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهم لن يستنكفوا عن أيِّ أمر يصدر إليهم.
ومثال ذلك: لو أن قائداً يصدر أمراً لاثنين من مساعديه اللذين يقودان مجموعتين من المقاتلين، فيقول القائد الأعلى لكل منهما: إياك أن تفعل كذا أو تصنع كذا. والقائد الأعلى بتعليماته لا يقصد المساعدين له، ولكنه يقصد كل مرءوسيهم من الجند.
وجاء الأمر هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتفهم أمته أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان ليتأبَّى على أمر من أوامر الله، بل هو صلى الله عليه وسلم ينفّذ كل ما يؤمر به بدقة؛ وذلك من باب خطاب الأمة في شخصية رسولها صلى الله عليه وسلم.
وقول الحق سبحانه:
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ } [يونس: 94].
هذا القول دليل على أن الذين عندهم علم بالكتاب من السابقين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعرفون الحقائق الواضحة عن رسالته صلى الله عليه وسلم.
وإن الذين يكابرون ويكفرون برسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته إنما يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
وقد قال عبد الله بن سلام: " لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد ".
إذن: فالحق عندهم واضح مكتوبٌ في التوراة من بشارة به صلى الله عليه وسلم، وهذا يثبت أنك يا محمد صادق في دعوتك، بشهادة هؤلاء.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:

{ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [يونس: 94].
والحق القادم من الله تعالى ثابت لا يتغير؛ لأنه واقع، والواقع لا يتعدد، بل يأتي على صورة واحدة.
أما الكذب فيأتي على صور متعددة.
ولذلك فمهمة المحقِّق الدقيق أن يقلِّب أوجه الشهادات التي تقال أمامه في النيابة أو القضاء؛ حتى يأتي حكمه مصيباً لا مدخل فيه لتناقض، ولا يعتمد على تخيُّل أو أكاذيب.
وقول الحق سبحانه:
{ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ } [يونس: 94].
إنما يدل على أن الذين قرأوا الكتاب قد عرفوا أنك رسول الله حقّاً، ومنهم من ترك معسكر اليهودية، وجاء إلى معسكر الإيمان بك؛ لأن الحق الذي جاء لا دخل للبشرية فيه، بل جاء من ربك:
{ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [يونس: 94].

ومجيْ الخطاب بهذا الشكل، هو كما قلت موجَّه إلى الأمَّة المؤمنة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحق سحبانه يقول:
{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }[الزمر: 65].
هذا القول نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن غير المعقول أن يشرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكل الآيات التي تحمل معاني التوجيه في الأمور المنزَّه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصَّة بأمته.
وأيضاً يقول الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[يونس: 95].
والقول الحكيم ساعة يوجِّه إلى الخير قد يأتي بمقابلة من الشر؛ لتتضح الأشياء بالمقارنة.
ونحن في حياتنا اليومية نجد الأب يقول لابنه: اجتهد في دروسك، واستمع إلى مدرِّسيك جيّداً حتى تنجح، فلا تكن مثل فلان الذي رسب، والوالد في هذه الحالة يأتي بالإغراء الخيِّر، ويصاحبه بمقابله، وهو التحذير من الشر.
وقد قال الشاعر:فالوَجْهُ مثلُ الصُّبحِ مُبْيَضُّ والشَّعْرُ مثلُ الليلِ مُسْوَدُّضِدَّانِ لمّا استجمعا حَسُنَا والضِّدُّ يُظْهِر حُسنَهُ الضِّدُّويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ {

(/1445)


وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)


وآيات الله سبحانه كما نعرفها متعددة؛ إما آيات كونية وهي الأصل في المعتقد الأول بأن خالقها هو الخالق الأعلى سبحانه، وتُلْفِت هذه الآيات إلى بديع صُنْعه سبحانه، ودقة تكوين خلقه، وشمول قدرتِه.
وكذلك يُقصد بالآيات؛ المعجزات المنزلة على الرسل ـ عليهم السلام ـ لتظهر صدق كل رسول في البلاغ عن الله تعالى.
وآيات القرآن الكريم التي تحمل منهج الله.
وهم كانوا يُكذِّبون بكل الآيات.
والخطاب في هذه الآية هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء معطوفاً على ما في الآية السابقة، حيث يقول الحق سبحانه:
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ }[يونس: 94].
وكل ما يريد من مثل هذا القول لا يصح أن نفهم منه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الممكن أن يشك، أو من المحتمل أن يكون من الذين كذَّبوا بآيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولكن إيراد مثل هذا الأمر، هو إيراد لدفع خواطر البشرية، أيًا كانت تلك الخواطر، فإذا وجدنا الخطاب المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم في التنزيل، فغاية المراد اعتدال موازين الفهم في أمّته تعليماً وتوجيهاً؛ لأن المنهج مُنزّل عليه لتبليغه لأمته فهو شهيد على الأمم.
وإذا كانت الآية التي سبقت توضح: إن كنت في شك فاسأل، فهو سبحانه يعطيه السؤال؛ ليستمع منه إلى الجواب، وليُسْمعه لكل الأمة؛ الجواب القائل: أنا لا أشك ولا أسأل، وحسبي ما أنزل الله سبحانه عليَّ.
ألم يَرِدْ في القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى يقول للملائكة يوم القيامة بمحضر من عبدوا الملائكة، ويشير إلى هؤلاء الذين عبدوا الملائكة ومخاطباً ملائكته.
{ أَهَـاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ }[سبأ: 40].
ونحن نعلم أن الملائكة:
{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم: 6].
والحق سبحانه يعلم مسبقاً جواب الملائكة، وهم يقولون:
{ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ }[سبأ: 41].
ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يُسْمِع من في الحشر كلهم جواب الملائكة وهم يستنكرون أن يعبدهم أحد من الخَلق، فهؤلاء الخلق إنما عبدوا الجن.
إذن: فالسؤال جاء؛ ليبين الرد عليه، مثلما يرد عيسى عليه السلام حين يُعبد من بعض قومه، ويسأله سبحانه عن ذلك:
{ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ }[المائدة: 116].
فيأتي الجواب:
{ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }[المائدة: 116].
إذن: فالمراد أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنا لا أشك ولا أسأل.
والشك ـ كما نعلم ـ معناه: تساوي كفة النفي وكفة الإثبات، فإن رجحت واحدة منهما فهذا ظن، وتكون المرجوحة وَهْماً وافتراء وكذباً.
وكلمة " الشك " مأخوذة من مسألة حسية، فنحن نرى الصيادين وهم يصعون كل سمكة بعد اصطيادها في خيط يسمى " المشكاك ".

وكذلك نرى من يقوم بـ (لضْم) العقود، وهو يشك الحبة في الخيط.
من هذا نأخذ أن الشك معناه: ضَمُّ شيء إلى شيء، ومنه الشكائك، وهي البيوت المنتظمة بجانب بعضها البعض.
ومنه " شاك السلاح " أي: الذي ضَمَّ نفسه إلى الدرع.
فالشك هو ضم شيء إلى شيء، وفي النسب تضم النفي والإثبات معاً؛ لأنك غير قادر على أن ترجِّح أحدهما.
وكل خطاب في الشك يأتي على هذا اللون.
والآية التي نحن بصددها تقول:
} وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ { [يونس: 95].
ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نفسه آية من الآيات، وهكذا نرى أن الخطاب مُوجَّه لأمته، فمن المستحيل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم من المكذِّبين لآيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ لأن التكذيب بآيات الله تعالى يعني: إخراج الصدق إلى الكذب، وإخراج الواقع إلى غير الواقع.
والذين كذبوا بالآيات إما أنهم لا يؤمنون بإله، أو يؤمنون بإله ولا يؤمنون برسول، أو يؤمنون بإله ويؤمنون برسول ولا يؤمنون بما أنزِل على الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذي يؤيد هذا وجود آية في آخر السورة يقول فيها الحق سبحانه:
{ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ }[يونس: 104].
فكأن الخطاب المقصود منه الأمة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ {

(/1446)


إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)


وهذا القول يوضح لنا أن الحق سبحانه وتعالى قد علم عِلْماً أزليّاً بأنهم لن يُوجِّهوا اختيارهم للإيمان.
فحكمه هنا لا ينفي عنهم مسئولية الاختيار، ولكنه علم الله الأزلي بما سوف يفعلون، ثم جاءوا إلى الاختيار فتحقق علم الله سبحانه وتعالى بهم من سلوكهم.
وحُكمْه سبحانه مبنيٌّ على الاختيار، وهو حكم تقديري.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ حين يأتي وزير الزراعة، ويعلن أننا قدَّرنا محصول القطن هذا العام، بحساب مساحة الأراضي المنزرعة قطناً، وبالمتوسط المتوقع لكل فدان، وقد يصيب الحكم، وقد يخيب نتيجة العوامل والظروف الأخرى المحيطة بزراعة القطن، فمن المحتمل أن يُصاب القطن بآفة من الآفات، مثل: دودة اللوزة، أو دودة الورقة.
إذن: ففي المجال البشري قد يصيب التقدير وقد يخطىء؛ لأن الإنسان يُقدِّر بغير علم مُطْلق، بل بعلم نسبي.
أما تقدير الحق سبحانه فهو تقدير أزلي، وحين يُقدّر الحق سبحانه فلا بد من وقوع ما قدَّره.
ولذلك يجب أن نفرق بين قضاء حكم لازم قهري ليس للإنسان فيه تصرف، وبين قدر قد قُدِّر من الله تعالى أن يفعله الإنسان باختياره، وهذه هي عظمة علم الغيب.
ومثال ذلك: هو سلوك أبي لهب، فقد نزل فيه قرآن يُتلَى:
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ }[المسد: 1ـ2].
وقد نزلت السورة وأبو لهب على قيد الحياة؛ لأن الحق سبحانه قد علم أزلاً أن خواطر أبي لهب لن تدفعه إلى الإيمان، ولو أن أبا لهب امتلك ذرة من ذكاء لجاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أنت قلت عنِّي إنني سأصْلَى النار، لكن ها أنذا أعلن أنني أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.
لكن ذلك الذكاء لم يكن يملكه أبو لهب، فقد علم الله أزلاً أن خواطره لن تدفعه إلى الإسلام، مثلما دفعت حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص. وكان إسلام هؤلاء رغم وقوفهم ضد النبي صلى الله عليه وسلم أمراً وارداً.
وقد يُقدِّر البشر التقدير، لكن هذا التقدير إنما يتم حسب المعلومات المتاحة لهم، ولا يملك إنسان علماً كونيّاً أزليّاً بتقديراته، فعلمه محدود، وقد يأتي الأمر على غير ما يُقدِّر؛ لأن الإنسان لا يملك ما يقدر.
ولا يقولنَّ أحدٌ: إن الله يعاقب بعد أن قدَّر مسبقاً؛ لأن تقدير الحق سبحانه نابع من علمه الأزلي، وهم كانوا يتمتعون بحق الاختيار. والله سبحانه هو القائل:
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىا رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ }[التوبة: 124ـ125].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىا يَرَوُاْ }

(/1447)


وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)


إذن: فمجيء الآيات وتكرارها لن يفيدهم في الاتجاه إلى الإيمان؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيتوجهون باختيارهم إلى الكفر؛ فقد قالوا ـ من قبل ـ ما أورده الحق سبحانه في كتابه العزيز:
{ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىا فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً }[الإسراء: 90ـ93].
وكأن الحق سبحانه يأمر رسوله أن يقول موضحاً: لستُ أنا الذي يُنزل الآيات، بل الآيات من عند الله تعالى، ثم يأتي القرآن بالسبب الذي لم تنزل به تلك الآيات التي طلبوها، فيقول سبحانه:
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ }[الإسراء: 59].
إذن: فقد نزلت آيات كثيرة لمن سبق في المعاندة و المعارضة، ويقابل قضية عرض الإيمان عليه بكفر يملأ قلبه.
فإن كان هناك من يبحث عن الإيمان فليدخل على بحث الإيمان بدون مُعتقد سابق، ولينظر إلى المسألة، وما يسمح به قلبه فليُدخله فيه؛ وبهذا الاختيار القلبي غير المشروط بمعتقد سابق هو قمة القبول.
وقد قال الحق سبحانه في الآيات السابقة كلاماً في الوحدانية، وكلاماً في الآيات المعجزات، وكلاماً في صدق النبوة، وكلاماً عن القيامة، وقصَّ لنا سبحانه بعضاً من قصص مواكب الرسل، من نوح عليه السلام، ثم فصَّل قليلاً في قصة موسى وهارون عليهما السلام، ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة يونس عليه السلام.
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه جاء بقصة نوح عليه السلام في إطناب، ثم جاء بخبر عن رسل لم يَقُلْ لنا عنهم شيئاً، ثم جاء بقصة موسى وهارون عليهما السلام، ثم سيأتي من بعد ذلك بقصة يونس عليه السلام، فالسورة تضم ثلاثاً من الرسالات: رسالة نوح، ورسالة موسى وهارون، ورسالة يونس: وهو الرسول الذي سُمِّيت السورة باسمه.
ولسائل أن يقول: ولماذا جاء بهؤلاء الثلاثة في هذه السورة؟
وأقول: لقد تعبنا كثيراً، ومعنا كثير من المفسرين حتى نتلمَّس الحكمة في ذلك، ولماذا لم تأت في السورة قصة هود، وثمود،وشعيب، وكان لا بد أن تكون هناك حكمة من ذلك.
هذه الحكمة فيما تجلى لنا أن الحق سبحانه وتعالى يعرض موكب الرسالة وموكب المعارضين لكل رسول، والنتيجة التي انتهى إليها أمر الأعداء، وكذلك النتيجة التي انتهى إليها أمر الرسول ومَنْ آمن به.
ونجد الذين ذكرهم الله سبحانه هنا قد أهلكوا إهلاكاً متحداً بنوع واحد في الجميع، فإهلاك قوم نوح كان بالغرق، وكذلك الإهلاك لقوم فرعون كان بالغرق، وكذلك كانت قصة سيدنا يونس لها علاقة بالبحر، فقد ابتلعه الحوت وجرى في البحر.

إذن فمَنْ ذُكِر هنا من الرسل كان له علاقة بالماء، أما بقية الموكب الرسالي فلم تكن لهم علاقة بالماء.
ونحن نعرف أن الماء به الحياة، وبه الإهلاك؛ لأن واهب الحياة يهب الحياة بالشيء، ويُهلك بالشيء نفسه. وكأن الحق سبحانه يبيِّن لنا الحكمة: أنا أهلكتُ بالغرق هناك، ونجَّيْتُ من الغرق هنا.
إذن: فطلاقة القدرة الإلهية هي المستولية على هذه السورة، كما تظهر طلاقة القدرة في مجالات أخرى، وبألوان أخرى.
وسُميِّت هذه السورة باسم يونس؛ لأن الحق سبحانه أرسله إلى أكثر من مائة ألف، وهم الأمة الوحيدة في هذا المجال التي استثناها الحق سبحانه من الإهلاك، فقد أغرق قوم نوح، وأغرق قوم فرعون؛ فكلاهما قد كذَّب الرسل، ولكن قوم يونس أول ما رأوا البأس آمنوا فأنجاهم الله سبحانه.
وسُمِّيت السورة باسم من نجا؛ لأنه عاد إلى الحق سبحانه قبل أن يعاين العذاب، ولكنهم رأوا فقط بشائر العذاب، فنجَّوا أنفسهم بالإيمان.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: } فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا {

(/1448)


فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)


وهكذا يبيِّن لنا الحق سبحانه أن هناك كثيراً من القرى لم تؤمن إلا وقت العذاب، فلم ينفع أيّاً منهم هذا الإيمان، ولكن قوم يونس قبل أن تأتي بشائر العذاب والبأس أعلنوا الإيمان فَقَبِل الحق سبحانه إيمانهم؛ لأنه سبحانه لا يظلم عباده.
فمَنْ وصل إلى العذاب، وأعلن الإيمان من قلب العذاب لا يُقبَلُ منه، ومن أحس واستشفَّ بواكير العذاب وآمن فالحق سبحانه وتعالى يقبله.
وكملة " لولا " إذا سمعتها فمثلها مثل " لوما " ، وإذا دخلت " لولا " على جملة اسمية فلها حكم يختلف عن حكمها لو دخلت على جملة فعلية، فحين تدخل على جملة اسمية مثل: " لولا زيد عندك لأتيتك " تفيد أن امتناع المجيء هو بسبب وجود زيد، لكنها إن دخلت على جملة فعلية فيقال عنها: " أداة تحضيض وحَثّ " مثل قول الحق سبحانه:{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ }[التوبة: 122].
أي: أنه كان يجب أن ينفر من كل طائفة عدد ليتدارسوا أمور الدين.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا:
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } [يونس: 98].
أي: أنه لو أن هناك قرية آمنت قبل أن ينزل بها العذاب لأنجيناها كما أنجينا قوم يونس، أو كنا نحب أن يحدث الإيمان من قرية قبل أن يأتيها العذاب.
إذن: فقوم يونس هنا مُسْتثنون؛ لأنهم آمنوا قبل أن يأتيهم العذاب.
وهناك آية أخرى تتعلق بهذه القصة، يقول فيها الحق سبحانه:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ }[الصافات: 143ـ144].
أي: أن الذي منع يونس عليه السلام أن يظل في بطن الحوت إلى يوم البعث هو التسبيح.
وهنا يبيِّن الحق سبحانه الاستثناء الذي حدث لقوم يونس حين يقول:
{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ } [يونس: 98].
أي: أن الإيمان نفع قرية قوم يونس قبل أن يقع بهم العذاب.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ } [يونس: 98].
ونحن نعلم أن كلمة " قرية " تعني: مكاناً مُهيّأ، أهله متوطنون فيه، فإذا ما مَرَّ عليهم زائر في أي وقت وجد عندهم قرىً أي: وجبة طعام.
ونحن نجد من يقول عن الموطن كثير السكان كلمة " بلد " ، وهؤلاء من يملكون طعاماً دائماً، أما من يكونون قلة قليلة في موطن ففي الغالب ليس عندهم من الطعام إلا القليل الذي يكفيهم ويكفي الزائر لمرة واحدة.
وتسمى مكة المكرمة " أم القرى "؛ لأن كل القرى تزورها.

وقرية قوم يونس اسمها " نينوى " قد حكى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الذهاب للطائف، وهي قرية العبد الصالح يونس بن مَتَّى، وهي في العراق ناحية الموصل، ويونس هو من قال عنه الله سبحانه:
{ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً }[الأنبياء: 87].
وكلمة " مغاضب " غير كلمة " غاضب " ، فالغاضب هو الذي يغضب دون أن يُغضبه أحد، لكن المغاضب هو من أغضبه غيره.
وكذلك كلمة " هجر " ، ومهاجر، فالمهاجر هو من أجبره أناس على أن يهاجر، لكن من هجر هو من ذهب طواعية بعيداً.
والمغاضبة ـ إذن ـ تكون من جهتين، وتسمى " مفاعلة ".
والحق سبحانه يقول:
{ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىا فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }[الأنبياء: 87].
وسُمِّي سيدنا يونس عليه السلام بذى النون؛ لأن اسمه اقترن بالحوت الذي ابتلعه.
وكلنا نعرف القصة، حينما دعا قومه إلى الإيمان وكفروا به في البداية؛ لأن الرسول حين يجيء إنما يجيء ليقوِّم الحياة الفاسدة؛ فيضطهده من يعيشون على الفساد؛ لأنهم يريدون الاحتفاظ بالجبروت الذي يسمح لهم بالسرقة والاختلاس وإرواء أهواء النفس، فلما فعلوا ذلك مع سيدنا يونس ـ عليه السلام ـ خرج مغاضباً، أي: أنهم أغضبوه.
والمغاضبة ـ كما قلنا ـ من المفاعلة وتحتاج إلى عنصرين، مثلما أوضحنا أن الهجرة أيضاً مفاعلة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، بل ألجأه قومه إلى أن يهاجر، فكان لهم مدخل في الفعل.
وأبو الطيب المتنبي يقول في هذا المعنى:إذَا ترحَّلت عن قومٍ وقد قَدروا ألاَّ تُغادِرهم فَالرَّاحِلون هُمُأي: إن كنت تعيش مع قوم، وأردت أن تفارقهم وقد قدروا أن تعيش معهم، فالذي رحل حقيقة هم هؤلاء القوم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد خروج يونس مغاضباً:
{ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ }[الأنبياء: 87].
أي: أنه رجَّح أن الحق سبحانه لن يُضيِّق عليه الأرض الواسعة، وسيهيىء له مكاناً آخر غير مكان المائة الألف أو يزيدون الذين بعثه الله تعالى إليهم.
وكان من المفروض أن يتحمل الأذى الصادر منهم تجاهه، لكن هذا الظن ـ والظن ترجيح حكم ـ يدلنا على أن معارضة دعوته كانت شديدة تُحْفِظ وتملأ القلب بالألم والتعب.
وكان عليه أن يُوطِّن نفسه على مواجهة مشقات الدعوة.
والقرية التي أرسِل إليها يونس عليه السلام هي قرية: " نينوى " ،وهي التي جاء ذكرها في أثناء حوار بين النبي صلى الله عليه وسلم والغلام النصراني " عداس " الذي قابله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف.
" وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب إلى الطائف ليطلب من أهلها النصرة بعد أن آذاه قومه في مكة فلم يجد النصير، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم قريباً من حائط بستان.
فلما رآه صاحبا البستان ـ عتبة وشيبة ابنا ربيعة ـ وما لقي من السفهاء؛ تحركت له رحمهما، فدعوا غلاماً لهما نصرانياً، يقال له عَدَّاس، فقالا له: خُذْ قِطْفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عَدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كُلْ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ومنْ أهل أيِّ البلاد أنت يا عدَّاس، وما دينك؟ ". قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى "؛ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متَّى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي " ، فأكبَّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّل رأسه ويديه وقدميه.
ولما سأل صاحبا البستان عدَّاساً عن صنيعه هذا. قال لهما: لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي ".


ونحن نعلم أن العبد الصالح ـ يونس عليه السلام ـ قد تأثر وحزن وغضب من عدم استجابة قومه لرسالته الإيمانية، إلى أن رأوا غَيْماً يملأ السماء وعواصف، والقى الله تعالى في خواطرهم أن هذه العواصف هي بداية عذاب الله لهم؛ فَهُرعوا إلى ذوي الرأي فيهم، فاشاروا عليهم بأن هذه هي بوادر العذاب، وقالوا لهم: عليكم بإرضاء يونس؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسله، فآمِنوا به ليكشف عنك الغُمَّة.
وهُرع الناس إلى الإيمان بالحي الذي لا يموت، الحيُّ حين لا حيَّ، والقيوم والمُحيي والمميت.
وذهب قوم يونس عليه السلام لاسترضائه؛ وحين رضي عنهم بدأوا ينظرون في المظالم التي ارتكبوها، حتى إن الرجل منهم كان ينقض ويهدم جدار يته؛ لأنه فيه حجراً قد اختلسه من جار له.
وكشف الله سبحانه وتعالى عنهم العذاب، وهنا يقول سبحانه:
} كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ { [يونس: 98].
ومن لوازم قصة يونس عليه السلام، ليست المغاضبة فقط، بل قصته مع الحوت، فقد كان عليه السلام بعد مغاضبته لقومه قد ركب سفينة، فلعبت بها الأمواج فاضطربت اضطراباً شديداً، وأشرفت على الغرق بركابها؛ فألقوا الأمتعة في البحر؛ لتخِفَّ بهم السفينة؛ فاستمر اضطرابها، فاقترعوا على أن يلقوا إلى البحر من تقع عليه القرعة، فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه السلام.

مثلما نركب مصعداً، فنجد الضوء الأحمر وقد أضاء إنذاراً لنا بأن الحمولة زائدة، وأن المصعد لن يعمل فيخرج منه واحد أو أكثر حتى يتبقى العدد المسموح به، وعادة يكون الخارج من أحسن الموجودين خُلقاً، لأنهم أرادوا تسهيل أعمال الآخرين.
كذلك كان الأمر مع السفينة التي ركبها يونس عليه السلام، كادت أن تغرق، فاقترعوا، وصار على يونس أن ينزل إلى البحر.
والحق سبحانه يقول:
{ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ }[الصافات: 141].
ونزل يونس عليه السلام إلى البحر فالتقمه الحوت وابتلعه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن وجود سيدنا يونس عليه السلام في بطن الحوت:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ }[الصافات: 143ـ144].
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
} كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا { [يونس: 98].
وعذاب الخزي في الحياة الدنيا يمكن أن تراه مُجسَّداً فيمن افترى وتكبَّر على الناس، ثم يراه الناس في هوان ومذلة، هذا هو عذاب الخزي في الدنيا، ولا بد أن عذاب الآخرة أخْزَى وأشَدُّ.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
} وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىا حِينٍ { [يونس: 98].
أي: أنهم نَجَوْا من الهلاك بالعذاب إلى أن انتهت آجالهم بالموت الطبيعي.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: } وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ {

(/1449)


وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)


والحق سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أنه إن قامت معركة بين نبي مرسل ومعه المؤمنون به، وبين من كفروا به، فلا بد أن يُنزِل الحق سبحانه العذاب بمن كفروا.
وإياك أن تفهم أن الحق سبحانه إلى يحتاج عبادة الناس؛ لان الله عَزَّ وجل قديم أزليٌّ بكل صفات الكمال فيه قبل أن يخلق الخلق، وبكماله خلق الخلق، وقوته سبحانه وتعالى في ذاته، وهو خالق من قبل أن يخلق لخلق، ورازق قبل أن يخلق الزرق والمرزوق، والخلق من آثار صفات الكمال فيه، وهو الذي أوجد كل شيء من عدم.
ولذلك يُسمّون صفاته سبحانه وتعالى صفات الذات؛ لأنها موجودة فيه من قبل أن يوجد متعلقها.
فحين تقول: حيٌّ، ومُحْيٍ، فليس معنى ذلك أن الله تعالى موصوف بـ " مُحْيٍ " بعد أن وجد مَنْ يحييه، لا، إنه مُحيٍ، وبهذه الصفة أحيا.
ولله المثل الأعلى، وهو سبحانه مُنزَّه عن كل تشبيه: قد نرى المصوِّر أو الرسام الذي صنع لوحة جميلة، هنا نرى أثر موهبة الرسم التي مارسها، واللوحة ليست إلا أثراً لهذه الموهبمة.
الحق سبحانه وتعالى ـ إذن ـ له كل صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق، وبصفات الكمال خَلَق الخَلْق.
فإياك أن تفهم أن هناك أمراً قد جَدَّ على الله تعالى، فلا شيء يجِدُّ علىالحق سبحانه، وهو سبحانه لا ينتفع من خلقه بل هو الذي ينفعهم.
ونحن نعلم أن الإيمان مطلوب من الإنسان، وهو الجنس الظاهر لنا ونحن منه، ومطلوب من جنس آخر أخبرنا عنه الله ـ تبارك وتعالى ـ وهو الجن.
وأما بقية الكون فمُسبِّح مؤمن بالله تعالى، والكون عوالم لا حصر لها، ولكلٍّ نظام لا يحيد عنه.
ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يُدخِل الثقلين ـ الإنس والجن ـ في نظام التسخير ما عَزَّ عليه ذلك؛ لكن هذا التسخير يثبت له القدرة ولا يثبت له المحبوبية.
ولذلك ترك الحق سبحانه الإنسان مختاراً ليؤمن أو لا يؤمن، وهذا ما يثبت له المحبوبية إن جئته مؤمناً، وهذا يختلف عن إيمان القَسْر والقهر، فالإيمان المطلوب من الإنسان أو الجن هو إيمان الاختيار.
وأما إيمان القسر والقهر، فكل ما في الكون من عوالم مؤمن بالحق سبحانه، مُسبِّح له.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }[الإسراء: 44].
وهذا ليس تسبيح دلالة ورمز، بل هو تسبيح حقيقي، بدليل قوله سبحانه وتعالى:{ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }[الإسراء: 44].
فإن فقَّهك الله تعالى في لغاتهم لعلمت تسبيح الكائنات، بدليل أنه عَلَّم سليمان عليه السلام منطق الطير، وسمع النملة تقول:
{ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

[النمل: 18].
والهدهد قال لسليمان عليه السلام ما رآه عن بلقيس ملكة سبأ:
{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ }[النمل: 24].
إذن: فكل ما في الكون مُسبِّح لله تعالى، يسير على منهجه سبحانه ما عدا المختار من الثقلين: الإنسان والجان؛ لأن كلاً منهما فيه عقلٌ، وله مَيْزة الاختيار بين البدائل.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أن خلق للإنسان الاختيار حتى يذهب المؤمن إليه اختياراً، ولو شاء الحق سبحانه وتعالى أن يجبر الإنسان على الإيمان لَفعلَ.
أقول ذلك حتى لا يقولن أحد: ولماذا كل هذه المسائل من خَلْق وإرسال رُسل، وتكذيب أناس، ثم إهلاك المكذِّبين؟
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
} وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ { [يونس: 99].
إذن: فالحق سبحانه خلق الإنسان وسخَّر له كل الأجناس، ولم يجبره على الإيمان، بل يقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحبّاً مخلصاً لقومه وعشيرته، وذاق حلاوة الإيمان، وحزن لأنهم لم يؤمنوا، فينبهه الحق سبحانه وتعالى أن عليه مهمة البلاغ فقط، فلا يكلّف نفسه شَططاً.
والحق سبحانه وتعالى شاء أن يجعل للإنسان حقَّ الاختيار وسخَّر له الكون، ومن الناس من يؤمن، ومن الناس من يكفر، بل ومن المؤمنين من يطيع مرة، ويعصي أخرى، وهذه هي مشيئة الحق ليتوازن الكون، فكل صفة خيِّرة إنْ وجد من يعارض فيها فهذا ما شاءه الله سبحانه وتعالى للإنسان، فلا تحزن يا رسول الله؛ فالحق سبحانه وتعالى شاء ذلك.
وإنْ غضب واحد من أن الآخرين لم يعترفوا بصفاته الطيبة نقول له: إن الحق سبحانه هو خالق الكون وهو الرازق، قد كفروا به وألحدوا، وجعلوا له شركاء، فتَخلَّقوا بأخلاق الله؟
ولذلك قال الحق سبحانه:
} وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ { [يونس: 99].
إنه سبحانه وتعالى يريد إيمان المحبة وإيمان الاختيار.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ {

(/1450)


وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)


هكذا يُبيِّن لنا الحق سبحانه أن أحداً لا يؤمن إلا بإذن من الله تعالى؛ لأن معنى أن تؤمن أن يكون إيمانك إيمان فطرة نتيجة تفكُّر في سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجَاج، وبحار تَزْخر، ورياح تَصْفِر، كل ذلك يدل على وجود الخالق سبحانه.
لكن أتَرَكَ الله سبحانه وتعالى الناس للفطرة؟
لا، بل أرسل سبحانه لهم الرسل ليذكِّروهم بالآيات الموجودة في الكون، ولينتبه الغافل؛ لأنه سبحانه لا يريد أن يأخذ الناس على حين غفلة.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىا بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ }[الأنعام: 131].
لذلك ينبههم الحق سبحانه بأن هناك أشياء كان يجب أن تُذكر، وكأن الحق سبحانه يُبيِّن لنا: إياكم أن تفهموا أن أحداً يخرج عن مُلكي إلا بإرادتي، فأنا بخلقي له مختاراً سمحت له أن يكفر أو يؤمن، وسمحت له أن يطيع أو أن يعصي.
كل ذلك من أجل أن يثبت لي صفة المحبوبية.
لذلك فلا أحد يؤمن إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يكفر إلا بإذنه سبحانه؛ لأن مَنْ خلقه مختاراً عَلِمَ برضاء منه بما يكون من المخلوق، فالكافر لم يكفر قهراً، والمؤمن لم يؤمن قهراً من الله سبحانه.
وساعةَ يأتي الرسول ليعرض قضية الإيمان، يتذكر الإنسان إيمان الفطرة ويقول: لقد جاء هذا الرسول بهذا المنهج ليعدِّل لي حياتي، فلا بد أن أرْهِفَ له السمع.
وساعة يُقْبِل العبد على الله تعالى، فسبحانه يأذن له أن يدخل إلى حظيرة الإيمانَ.
إن العبد مِنَّا إذا ما ذهب للقاء عبد مثله له سيادة وجاه، ويدرك العبد صاحب السيادة والجاه ـ بفضل من الله ـ السبب الذي جاء من أجله العبد الآخر؛ فيقول صاحب السيادة لمعاونيه: لا تُدْخِلوه. وهو يقول ذلك؛ لأن الله سبحانه أطلعه على ما في قلب العبد الآخر من غلًّ ومن حقدٍ ومن نفاق.
أما إذا دقَّ بابه عبد آخر، فتجده يأمر معاونيه أنْ يُدخلوه وأن يفسحوا له؛ لأنه علم بما في قلبه من محبة ورغبة في صِدْق اللقاء والمودة.
إذا كان هذا يحدث بين العباد، وهم كلهم أغيار، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى؟
والله سبحانه هو القائل في حديث قدسي: " من ذكرني في نفسه ذكرتُه في ملأ خير منه ".
ما بالنا بالعبد إذا دخل على الإيمان بالله غير مشحون بعقيدة عدا الله.
إذن: أقْبِلْ على الله سبحانه وعلى ذكر الله، وأنت إنْ ذكرت الله في نفسك، فالله يذكرك فيه نفسه، وإن ذكرته في ملأ ذكرك في ملأ خير منه، فالملأ الذي ستذكره فيه ملأ خَطَّاءٌ، والله سبحانه سيذكرك في ملأ طاهر.
ويقول الحق سبحانه في ذات الحديث القدسي:

" إنْ تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً ".
والذراع أطول من الشِّبر.
ويقول: " وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ".
فالمشي قد يُتعب العبد، لذلك يُسرع إليه الحق عز وجل، وهو سبحانه بكل ربوبيته ما إنْ يعلمْ أن عبداً قد صفا قلبه من خصومة الله تعالى في شيء، حتى يفتح أمامه أبواب محبته سبحانه، فيحبِّب فيه خلقه، ويجعل له مدخل صدق في كل أمر ومخرج صدق من كل ضيق، وهو الحق القائل:
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ }[محمد: 17].
ونلحظ أن الحق سبحانه يؤكد في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنه لو شاء لآمن مَنْ في الأرض جميعاً؛ ليبيِّن لنا أنه حتى إبليس الذي دخل في جدالٍ مع الله، لو شاء الحق سبحانه لآمن إبليس.
وجاء الحق سبحانه بهذا التأكيد؛ لِيُحْكِمَ الأمرَ حول كل خَلْقه ومخلوقاته، فلا يشذ منهم أحد.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[يونس: 99].
أراد الحق سبحانه أن يُنبِّه رسوله صلى الله عليه وسلم وكل المؤمنين أنه:
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }[البقرة: 256].
لأن مطلوبات الدين ليست هي المطلوبات الظاهرة فقط التي تقع عليها العين، فهناك مطلوبات أخرى مستترة، فَهَبْ إنك أكرهت قالباً أتستطيع أن تُكرِه قلباً؟
والحق سبحانه وتعالى يريد قلوباً لا قوالب.
وهكذا لا يصلح الإكراه في قضية الدين، ولكن على الإنسان ألاَّ يسحب الإكراه إلى غير موضعه أو مجاله؛ لأنك قد تجد مسلماً لا يصلّي فينهره صديقه، فيردّ: لا إكراه في الدين. وهذا استخدام غير صحيح واستدلال خاطىء؛ لأن الإكراه في الدين إنما يكون ممنوعاً في القضية العقدية الأولى.
ولكن مَنْ أعلن أنه مسلم، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا إعلان بالالتزام بكل أحكام الإسلام، وهو محسوب على الإسلام، فإنْ أخلْ بحكمٍ من أحكام الإسلام فلا بد من محاسبته.
ولا إكراه في الدين، فيما يخصُّ القضية العقدية الأولى، وأنت حُرٌّ في أن تدخل إلى الإسلام أو لا تدخل، فإنْ دخلت الإسلام فأنت ملتزم باحكام الإسلام؛ لأنك آمنت به وصِرْتَ محسوباً عليه، واحفظ حدود الإسلام ولا تكسرها؛ لأنك على سبيل المثال ـ لا قدر الله ـ إن سرقت؛ تٌقطع يدك، وإنْ زنيت تُرجَم أو تُجلد، وإنْ شربت الخمر تُجلد؛ لأنك قبلتَ قواعد الإسلام وشريعته.
وإنْ رأى واحدٌ مسلماً يسرق، فلا يقولن إن الإسلام يُسرِّق،ولكن إن رآه يُعاقَب، فهو يعرف أن الإسلام يعاقب مَنْ يجرم.
إذن: فـ{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }[البقرة: 256].
تخص المنع عن الإكراه على أصل الدين، ولكن بعد أن تؤمن فأنت ملتزم بفرعيات الدين، وتعاقب إنْ خرجتَ على الحدود.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " مَيَلُ القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقَوْا من الماء مرُّوا على مَنْ فوقهم فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خُرْقاً ولم نُؤذِ مَنْ فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وأن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً ".


إذن: فالالتزام بفروع الدين أمر واجب ممن دخل الدين دون إكراه، وإنْ خدش حكماً من الأحكام يُعاقب.
وهناك ما هو أشدُّ من ذلك، وهو حكم مَنْ ارتد عن الإسلام، وهو القتل.
وقد يقول قائل: إن هذا الإمر يمثل الوحشية. فنقول له: إن من التزم بالدين، إنما قد علم بداية أنه إنْ آمن ثم ارتد، فسوف يُقتَل؛ ولذلك فليس له أن يدخل إلى الإسلام إلا بيقين الإيمان.
وهذا الشرط للدين؛ لا على الدين. فلا تدخل على الدين إلا وأنت متيقِّن أن أوامر الدين فوق شهواتك، واعلمْ أنك إنْ دخلتَ على الدين ثم تَخلَّيْتَ عنه فسوف تُقْتَل، وفي هذا تصعيب لأمر دخول الدين، فلا يدخله أحد إلا وهو واثق من يقينه الإيماني، وهذا أمر محسوب للدين لا ضد الدين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ { [يونس: 100].
والرجس: هو العذاب، وهو الذنب، ويجعله الحق سبحانه وتعالى على الذين لا يعقلون؛ لأن قضية الدين إذا طُرِحَتْ على العقل بدون هَوىً؛ لا بُدَّ أن ينتهي العقل إلى الإيمان.
ولذلك تجد القمم الفكرية حين يدرسون الدين؛ فهم يتجهون إلى الإسلام؛ لأنه هو الدين الذي يشفي الغُلَّة، أما الذين أخذوا الدين كميراث عن الآباء، فهم يظلون على حالهم.
وبعض القمم الفكرية في العالم التي اتجهت إلى اعتناق الإسلام، لم تتجه إليه بسبب رؤيتهم لسلوك المسلمين؛ لأن سلوك المنسوبين للإسلام في زماننا قد ابتعد عن الدين.
ولذلك فقد اتجهت تلك القمم الفكرية للإسلام إلى دراسة مبادىء الإسلام، وفرَّقوا بين مبادىء الدين، وبين المنتمين للدين، وهذا إنصاف في البحث العقلي؛ لأن الدين حين يُجرِّم عملاً، فليس في ذلك التجريم إذْنٌ من الدين بحدوث مثل هذا الفعل المجرم، بدليل تقدير العقاب حسب خطورة الجريمة.
فالحق سبحانه قد قال:
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }[المائدة: 38].
إنه الإذن باحتمال ارتكاب السرقة، وكذلك الأمر بالنسبة للزنا، وغير ذلك من الجرائم التي جعل لها لحق سبحانه عقوبات تتناسب مع الضرر الواقع على النفس أو المجتمع من وقوعها، فإذا رأيت مسلماً يسرق، فتذكَّر العقاب الذي أوقعه الإسلام على السارق، وإنْ رأيتَ مسلماً يزني، فَتذكَّر العقوبة التي حددها الحق سبحانه للزاني.
وهكذا الحال في جميع الجرائم.
وكبار المفكرين العالميين الذين يتجهون إلى الإسلام إنما يدرسون مبادىء الدين مفصولة عن سلوك المسلمين المعاصرين، الذين ابتعدوا عن مبادىء الدين الحنيف.

وها هو ذا " جينو " المفكر الفرنسي يقول: " الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف المسلمين، فلو كنتُ قد عرفتُ المسلمين قبل الإسلام لكان هناك احتمال لزلزلة في النفس تجعلني أتردد في الدخول إلى هذا الدين الرفيع المقام ".
إذن: فإعمال العقل الراقي لا بد أن يؤدي إلى الإسلام لأنه فطرة الله، والإسلام يُنمِّيها، ويرتقي بها، والعقل هو مَنَاطُ التكليف.
والرجس والذنب والعذاب كله إنما يقع على الذين لا يُعْمِلون عقولهم، وإعمال العقل المتعقل للقيم ينفي الرجس؛ لأنهم سيُقبلون على التدين بإذن الله تعالى لهم أن يدخلوا على الإيمان به.
وإذا سألني سائل: ما هو العقل؟ وما هو مَناَطُ التكليف؟
نجد أن كلمة " عقل " مأخوذة من عِقَال البعير، وهو ما يُشَدُّ على رُكْبته حتى لا ينهض، ويظل سكاناً، وحين يريد صاحبه أن يُنهضه فهو يفكُّ العقال.
وأهل الخليج يضعون على رؤوسهم غطاء للرأس (غُتْرة) ويثبتونه بنسيج مغزول على هيئة حلقتين، ويسمون هاتين الحلقتين " العقال "؛ لأنه يمنع غطاء الرأس من أن يحركه الهواء، أو يُطيّره.
إذن: فالعقل أراده الله سبحانه لنا ليحجزنا عن الانطلاق والفوضى في تحقيق شهوات النفس؛ لأنه سبحانه قد خلق النفس البشرية، ويعلم أنها تحب الشهوات العاجلة، فأراد سبحانه للإنسان أن يكبح جماح تلك الشهوات بالعقل.
فحين يفكر الإنسان في تحقيق الشهوة العاجلة، يجد عقله وهو يهمس له: إنك ستستمتع بالشهوة العاجلة دقائق، وأنت قد تأخذها من غيرك؛ من محارمه أو من ماله، فهل تسمح لغيرك أن يأخذ شهوته العاجلة منك؟
إذن: عليك أن تعلم أن العقل إنما أراده الله سبحانه لك ليعقلك عن الحركة التي فيها هَوى، وتحقق بها شهوة ليست لك، ومغبَّتها متعبة.
ويخطىء مَنْ يظن أن العقل يفتح الباب أمام الانطلاق اللا مسئول باسم الحرية، ونقول لمن يظن مثل هذا الظن: إن العقل هو مَنَاطُ التكليف، وهو الذي يوضِّح لك آفاق المسئولية في كل سلوك.
ومن عدالة الحق سبحانه أنه لم يكلِّف المجنون؛ لأن حكم المجنون على الأشياء والأفعال هو حكم غير طبيعي؛ لأنه يفتقد آلة الاختيار بين البدائل.
وكذلك لم يكلف الله سبحانه مَنْ لي ينضج بالبلوغ؛ لأنه غير مُسْتوفٍ للمَلَكات، ولم تستوِ لديه القدرة على إنجاب مثيل له.
وقد ضربنا من قبل المثل بالثمرة، وقلنا: إنه لا يقال إن الثمرة نضجت وصار طَعْمها مقبولاً مستساغاً إلا إذا أصبحت البذرة التي فيها قادرة على أن تنبت منها شجرة إن زرعناها في الأرض.
وأنت مثلاً حين تقطع البطيخة، وتجد لُبَّها أبيض اللون فأنت لا تأكلها، وتحرص على أن تأكل البطيخة ذات البذر الذي صار أسود اللون؛ لأنه دليل نُضْج البطيخة، وأنت حين تأخذ هذا اللبَّ وتزرعه ينتح لك بطيخاً.

إذن: فاكتمال الإنسان بالبلوغ يتيج لعقله أن يَزِنَ السلوك قبل الإقدام عليه، والتكليف إنما يكون للعاقل البالغ غير المكرة بقوةٍ تقهره على أن يفعل ما لا يعقله.
أما قبل البلوغ فالتكليف ليس من الله، بل من الأسرة، لتدربه على الطاعة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا: " مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرِّقوا بينهم في المضاجع ".
وهنا نجد أن الذي يأمر هو الأب وليس الله، والذي يعاقب هو الأب، وليس الله، وما إن يصل الابن إلى مرحلة البلوغ يبدأ تكليفه من الله.
أما إذا جاء مَنْ يُكْرِهه على أن يرتكب معصية بقوة تفوق قوته كأن يمسك (مسدساً) ويقول له: إن لم تشرب الخمر أطلقتُ عليك النار، فهنا يرفع عنه التكليف.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الشريف: " إن الله تجاوز عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما اسْتُكرِهوا عليه ".
فالعقل ـ إذن ـ هو مناط التكليف، وعمله أن يختار بين البدائل في كل شيء، ففي الطعام مثلاً نجد مَنْ يهوى وضع (الشطة) فوق الطعام؛ لأنها تفتح شهيته للطعام، وبعد أن يأكل نجده صارخاً من الحموضة، ويطلب المهضِّمات، وقد لا تفلح معه، بل وقد تُفسد له الغشاء المخاطي الموجود على جدار المعدة لحمايتها، فَرُبَّ أكْله منعتْ أكلات؛ ولذلك نجد عقله يقول له: احذر من هذا اللون من المشهيات؛ لأنه ضارٌّ بك.
وهكذا نجد العقل هو الذي يوضح للإنسان نتائج كل فعل، وهو الذي يدفع إلى التأني والإجادة في العمل؛ ليكون ناتج العمل مفيداً لك ولغيرك باستمرار، ولم يأتِ العقل للإنسان ليستمرىء به الخطأ والخطايا.
وهكذا نجد أن العقل يدرك ويختار السلوك الملائم لكل موقف، بل إن العقل يدعو الإنسان إلى الإيمان حتى في مرحلة ما قبل التكليف، فحين يتأمل الإنسان بعقله هذا الكون لا بُدَّ أن يقوده التأمل إلى الاعتراف بجميل صنيع الخالق سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ {

(/1451)


قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)


وهنا يُحدِّثنا الحق سبحانه عن عالم المُلْك الذي تراه، ولا يتكلم عن عالم الملكوت الذي يغيب عنك، وكأنك إن اقتنعت بعالم الملك، وقلت: إن لهذا العالم خالقاً إلهاً قادراً قوياً، وتؤمن به؛ هنا تهبُّ عليك نفحات الغيب؛ لتصل إلى عالم الملكوت؛ لأنك اكتشفت في داخلك أمانتك مع نفسك، وأعلنت إيمانك بالخالق سبحانه، ورأيت جميل صُنْعه في السماء والكواكب، وأعجْبتَ بدقة نظام سَيْر تلك الكواكب.
وترى التوقيت الدقيق لظهور الشمس والقمر ومواعيد الخسوف الكلي أو الجزئي، وتُبهر بدقة المنظِّم الخالق سبحانه وتعالى، ولن تجد زحام مرور بين الكواكب يعطل القمر أو يعطل الأرض، ولن يتوقف كوكب ما لنفاد وقوده، بل كما قال الله سبحانه وتعالى:
{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40].
ونحن في حياتنا حين نرى دقة الصنعة بكثير فيما هو أقل من السماء والشمس والقمر، فنحن نكرِّم الصانع، وقد أكرمت البشرية مصمِّم التلغراف، ومصمم جهاز التليفزيون، فما بالنا بخالق الكون كله سبحانه.
ويكفي أن نعلم أن الشمس تبعد عنا مسافة ثماني دقائق ضوئية، والثانية الضوئية تساوي ثلاثمائة ألف كيلوا متر، وهي شمس واحدة تراها، غير آلاف الشموس الأخرى في المجرَّات الأولى، وكل مجرَّة فيها ملايين من المجموعات الشمسية، ويكفي أن تعلم أن الحق سبحانه قد أقسم بالشمس، وقال عن كوكب الشِّعْرى:
{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىا }[النجم: 49].
لأن كوكب الشعرى أكبر من الشمس.
وحين تتأمل السموات والأرض تجد في الأرض جبالاً شامخة، وتمر عليها فتُدْهش من دقة التكوين ودقة التماسك، وتجد في داخلها نفائس ومعادن بدرجات متفاوتة، وقد تجد أسطع الجبال مُكوَّنة من مواد خصبة بشكل هشٍّ، فإذا ما نزل عليها المطر، فهو يصحبها معه إلى الأرض؛ لأنها تكون مجرد ذرات كذرات برادة الحديد، وتتخلل الأرض التي شقَّقتها حرارة الشمس.
والمثل الواضح على ذلك هو ما كان يحمله النيل من غِرْيَن في أثناء الفيضان إلى الدلتا قبل بناء السد العالي، وكانت مياه النيل في أيام الفيضان تشبه مادة " الطحينة " من فرط امتزاجها بذرات الغِرْين، وفي مثل هذا الغرين يوجد الخِصْب الذي نأخذ منه الأقوات.
ولو أن الجبال كلها كانت هشَّة التكوين، لأزالها المطر مرة واحدة، وجعلها مجرد مسافة نصف متر مضاف لسطح الأرض، ولاختفى الخصب من الأرض بعد سنوات، لكن شاء الحق سبحانه أن يجعل الجبال متماسكة، وجعل سطحها فقط هو الهش لينزل المطر في كل عام مرة؛ ليحمل الخصب إلى الأرض.
ومَنْ يتأمل هندسة التكوين في الاقتيات يجد الجبال مخازن للقوت.
فالبشر يحتاجون إلى الحديد ليصنعوا منه ما يفيدهم، سواء أكان آلات لحرث الأرض، أو أي آلات أخرى تساعد في تجميل الحياة، وتجد الحديد مخزوناً في الجبال.

وكذلك نجد المواد الأخرى مثل الفوسفات أو المنجنيز، أو الرخام، أو الفيروز أو الغازات.
إذن: فالمطمور في الجبال إما للاقتيات، أو وسيلة إلى الاقتيات، أو وسيلة للتَّرف فوق الاقتيات.
وحين ينزل المطر فوق الجبال فهو يأخذ الخِصْب من الطبقة الهشَّة على سطح الجبال وتبقى المواد الأخرى كثروات للناس، ففي إفريقيا مثلاً توجد مناجم للفحم والماس، وفي بلاد أخرى تجد عود الطيب، وهو عبارة عن جذور أشجار.
وأنت لو شققت الأرض كقطاع من محيط الأرض إلى المركز تجد الأرض الخصبة مع الصحراء، مع المياه، مع الجبال، متساوية في الخير مع القطاع المقابل للقطاع الأول.
وقد تختلف نوعيات العطاء من موقع إلى آخر على الأرض، فأنت لو حسبت مثلاً ما أعطاه المطر للنيل من خِصْب الجبال من يوم أن خلق الله ـ عز وجل ـ النيل في أرض وادي النيل في إفريقيا، وحسبت ما أعطاه النفط (البترول)، في صحراء الإمارات مثلاً، ستجد أن عطاء النيل يتساوى مع عطاء البترول، رغم أن اكتشاف البترول قد تَمَّ حديثاً.
وكل قُوتٍ محسوب من مخازن القوت، وكل قوت له زمن، فهناك زمن للفحم، وزمن للبترول، كل ذلك بنظام هندسي أنشأه الحكيم الأعلى سبحانه.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال: } يَعْقِلُونَ { في مجال النظر في السموات وفي الأرض، فهذه دعوة لتأمل عجائب السموات والأرض.
ومن تلك العجائب أن الجبال الشاهقة لها قمة، ولها قاعدة، مثلها مثل الهرم، وتجد الوديان على العكس من الجبال؛ لأن الوادي يكون بين جبلين، وتجد رأس الوادي في أسفله، ورأس الجبل في قمته.
وحين ينزل المطر فهو يمرُّ برأس الجبل الضيق؛ ليصل إلى أسفل قاع الوادي الضيق، وكلما نزل المطر فهو يأخذ من سطح الجبل؛ ليملأ مساحة الوادي المتسعة، وكلما ازداد الخلق، زاد الله سبحانه رقعة الاقتيات.
ومثال ذلك تجده في الغِرْيَن القادم من منابع النيل؛ ليأتي إلى وادي النيل والدلتا، وكانت هذه الدلتا من قبل مجرد مستنقعات مالحة، وشاء الحق سبحانه أن تتحول إلى أرض خصبة.
وحين نتأمل ذلك نرى أن كل شيء في الكون قد أوجده الحق سبحانه بحساب.
والذي يفسد الكون هو أننا لا نقوم بتكثير ما تكاثر، بل ننتظر إلىأن تزدحم الأرض بمن عليها، ثم نفكر في استصلاح أراضٍ جديدة، وكان يجب أن نفعل ذلك من قبل.
وكلما نزل المطر على الجبال فهي تتخلخل وتظهر ما فيها من معادن، يكشفها الإنسان ويُعْمِل عقله في استخدامها.
والمؤمن حين يرى ذلك يزداد إيماناً، وكلما طبَّق المؤمن حُكْماً تكليفياً مأموراً به، يجد نور الإيمان وهو يشرق في قلبه.
وليُجرِّب أي مسلم هذه التجربة، فليجرب أن يعيش أسبوعاً في ضوء منهج الله سبحانه وتعالى، ثم يَزنْ نفسه ويُقيِّمها ليعرف الفارق بين أول الأسبوع وآخر الأسبوع، سيكتشف في هذا الأسبوع أنه يصلي في مواقيت الصلاة، وسيجد أنه يعرق في عمله ليكسب حلالاً، وسيجد أنه يصرف ماله في حلال.

زنْ نفسك يقينياً في آخر الأسبوع ستجد أن نفسك قد شفَّت شفافية رائعة؛ لتجد ضوء ونور الإيمان وهو يصنع انسجاماً بينك وبين الكون كله في أبسط التفاصيل وأعقدها أيضاً.
ومثال ذلك: إنك قد تجد الرجل من هؤلاء الذين أسبغ عليهم تطبيقُ منهج الله الشفافيةَ تسأله زوجته: ماذا نطبخ اليوم؟ فيقول لها: فَلْنقْضِ اليوم بما بقي من طعام أمس، ثم يُفَاجأ بقريب له يزوره من الريف، وقد جاءه ومعه الخير.
لقد وصل الرجل إلى درجة من الشفافية تجعله منسجماً مع الكون كله، فيصله رزق الله تعالى له من أيِّ مكان.
وتجد الشفافية أيضاً في أعقد الأمور، ألم يَقُلْ يعقوب عليه السلام:
{ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ }[يوسف: 94].
وكان إخوة يوسف ـ عليه السلام ـ ما زالوا على أبواب مصر خارجين منها للقاء أبيهم، حاملين قميصَ يوسف، الذي أوصاهم يوسف بإلقائه على وجه أبيه ليرتد إليه بصره.
لقد جاءت ريح يوسف عليه السلام لأبيه يعقوب؛ لأن يعقوب عليه السلام قد عاش في انسجام مع الكون، ولا توجد مُضارة بينه وبين الكون.
والمثال الحيّ لذلك هو فرح لكون لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم مولده، لقد فرح الكون بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكون عابد مُسبِّح لله سبحانه، فحين يأتي مَنْ يدعو العباد إلى التوحيد لا بُدَّ أن يفرح الكون، أما مَنْ يَعْصِ الله تعالى، فالكون كله يكرهه ويلعنه، ويتلاعن الاثنان.
وقد فرح الكون بمجيء الرسول الذي أراد الله سبحانه أن تنزل عليه الرسالة الإلهية ليعتدل ميزان الإنسان مع الكون.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ { [يونس: 101].
والكون كله أمامهم، فلماذا لا ينظرون؟ إنهم يبصُرون ولا يستبصرون، مثل الذي يسمع ولا يسمع؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى:
} وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ { [يونس: 101].
إذن: فعدم إيمانهم أفقدهم البصيرة والتأمل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: } فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ {

(/1452)


فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)


وهؤلاء الذين لا يؤمنون يظلون في طغيانهم يعمهون، وكأنهم ينتظرون أن تتكرر معهم أحداث الذين سبقوا ولم يؤمنوا، لقد جاءهم الرسول ببيان ككل المكذِّبين السابقين.
ونحن نعلم أن اليوم هو وحدة من وحدات الزمن، وبعده الأسبوع، وبعد الأسبوع نجد الشهر، ثم نجد السنة، وكلما ارتقى الإنسان قسَّم اليوم إلى ساعات، وقسَّم الساعات إلى دقائق، وقسَّم الدقائق إلى ثوانٍ.
ولكما تقدمت الأحداث في الزمن نجد المقاييس تزداد دقة، واليوم ـ كما قلنا ـ جعله الله سبحانه وتعالى وحدة من وحدات الزمن، وهو مُكوَّن من ليل ونهار.
ولكن قد يُذكر اليوم ويُراد به ما حدث فيه من أحداث مُلْفِتة، مثلما نقول: " يوم ذى قَرَد " و " يوم حنين " و " يوم أحُد ".
إذن: فقد يكون المقصود باليوم الحدث البارز الذي حدث فيه، وحين ننظر في التاريخ، ونجد كتاباً اسمه " تاريخ أيام العرب " ، فنجد " يوم بُعَاث " و " يوم أوطاس " وكل يوم يمثل حرباً.
إذن: فاليوم ظرف زمني، ولكن قد يُقصَد به الحدث الذي كان في مثل هذا اليوم.
ومثال ذلك أنك قد تجد من أهل الزمن المعاصر مَنْ عاش في أزمنة سابقة فيتذكر الأيام الخوالي ويقول: كانت الأسعار قديماً منخفضة، وكان كل شيء مُتوفراً، فيسمع مَنْ يرد عليه قائلاً: لقد كانت أياماً، أي: أنها أيام حدث الرخاء فيها.
إذن: فقد يُنسَب اليوم إلى الحدث الذي وقع فيه.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ } [يونس: 102].
والذين خلوا منهم قوم نوح عليه السلام وقد أغرقهم الله سبحانه، وقوم فرعون الذين أغرقهم الله تعالى أيضاً.
والله سبحانه هو القائل:
{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[العنكبوت: 40].
وهذه أيام حدثت فيها أحداث يعلمونها، فهل هم ينتظرون أياماً مثل هذه؟
بالطبع ما كان يصحُّ لهم أن يستمرئوا الكفر، حتى لا تتكرر معهم مآسٍ كالتي حدثت لمن سبقهم إلى الكفر.
ونحن نجد في العامية المثل الفطري الذي ينطق بإيمان الفطرة، فتسمع من يقول: " لك يوم يا ظالم " أي: أن اليوم الذي ينتقم فيه الله تعالى من الظالم يصبح يوماً مشهوراً؛ لأن الظالم إنما يفتري على خلق الله؛ لذلك يأتي له الحق سبحانه بحدث ضخم يصيبه فيه الله تعالى ويذيقه مجموع ما ظلم الناسَ به.
وقول الحق سبحانه وتعالى:
{ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ } [يونس: 102].
وقوله هنا: { فَانْتَظِرُواْ } فيه تهديد، وقوله: { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ } [يونس: 102] فيه بشارة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سينتظر هذا اليوم ليرى عذابهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فسوف يتحقق له النصر في هذا اليوم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ }

(/1453)


ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)


والحق سبحانه قد أنجْى ـ مِنْ قَبْل ـ رُسله ومَنْ أمنوا بهم، لتبقى معالم للحق والخير.
ومن ضمن معالم الخير والحق لا بد أن تظل معالم الشر، لأنه لولا مجيء الشر بالأحداث لتي تعَضُّ لناس لما استشرف الناس إلى الخير.
ونحن نقول دائماً: إن الألم الذي يصيب المريض هو جندي من جنود العافية؛ لأنه ينبه الإنسان إلى أن هناك خللاً يجب أن يبحث له عن تشخيص عند الطبيب، وأن يجد علاجاً له.
والألم يوجد في ساعات اليقظة والوعي،ولكنه يختفي في أثناء النوم، وفي النوع رَدْع ذاتيٌّ للألم.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 103].
هذا القول يقرر البقاء لعناصر الخير في الدنيا.
وكلما زاد الناس في الإلحاد زاد الله تعالى في المدد، ففي أيِّ بلد يُفْترى فيها على الإيمان ويُظلم المؤمنون، ويكثر الطغاة؛ تجد فيها بعض الناس منقطعين إلى الله تعالى، لتفهُّم حقيقة القيم، وحين تضيق الدنيا بالظلمة والطغاة تجدهم يذهبون إلى هؤلاء المنقطعين لله، ويسألونهم أن يدعوا لهم.
وقد ألزم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ هنا نفسه بأن يُنجِي المؤمنين في قوله سبحانه: { كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 103].
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ }

(/1454)


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)


والشَّكُّ معناه: وضَعْ أمرين في كِفَّتين متساويتين.
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعرض على الكافرين قضية الدين، وأن يضعوها في كفة، ويضعوا في الكفة المقابلة ما يؤمنون به.
ويترك لهم الحكم في هذا الأمر.
هم ـ إذن ـ في شك: هل هذا الدين صحيح أم فاسد؟
وعَرْض الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر الدين للحكم عليه، يعني: أن أمر الدين ملحوظ أيضاً عند أيِّ كافر، وهو ينتبه أحياناً إلى قيمة الدين.
فإن كنتم في شكٍّ من الدين الذي أنزِلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل ينتصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه عليهم، أم تكون لهم الغلبة؟
وحين يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الدين عليهم، ويترك لهم الحكم، فهذه ثقة منه صلى الله عليه وسلم بأن قضايا دينه إنْ نظر إليها الإنسان ليحكم فيها، فلا بد أن يلتجىء الإنسان إلى الإيمان.
ويحسم الحق سبحانه وتعالى أمر قضية الشرك به، ويستمر أمره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول:
{ فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ } [يونس: 104].
أي: أنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعبد الشركاء وأن يعبد الله؛ لأنه لن يعبد إلا الله { وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ } [يونس: 104].
ثم جاء سبحانه بالدليل الذي لا مراء فيه، الدليل القوي، وهو أن الحق سبحانه وتعالى وحده هو المستحق للعبادة؛ لأنه { الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } ، ولا يوجد مَنْ يقدر أو يتأبى على قَدَر الله سبحانه حين يُميته.
وهنا قضيتان:
الأولى: قضية العبادة في قوله سبحانه: { فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } [يونس: 104].
وكان لا بُدَّ أن يأتي أمر المسألتين معاً: مسألة عدم عبادة الرسول لمن هم من دون الله، ومسألة تخصيص الله تعالى وحده بالعبادة.
والفصل واضح بما يُحدِّد قطع العلاقات بين معسكر الإيمان ومعسكر الشرك، كما أورده الحق سبحانه في قوله:
{ قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ }[الكافرون: 1ـ6].
والذين يقولون: إن في سورة (الكافرون) تكراراً لا يلتفتون إلى أن هذا الأمر تأكيد لقطع العلاقات؛ ليستمر هذا القطع في كل الزمن، فهو ليس قطعاً مؤقَّتاً للعلاقات.
وهذا أول قَطْع للعلاقات في الإسلام، بصورة حاسمة ليست فيها أية فرصة للتفاهم أو للمساومة، ويظل كل معسكر على حاله.
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة النصر:
{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً }

[النصر: 1ـ3].
هنا يتأكد الأمر، فبعد أن قطع الرسول صلى الله عليه وسلم العلاقات مع معسكر الشرك، جاء نصر الله سبحانه وتعالى وفَتْحه، فَهُرِع الناس من معسكر الشرك إلى معسكر الإيمان.
هم ـ إذن ـ الذين جاءوا إلى الإيمان.. هذه هي القضية الأولى:
} فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ { [يونس: 104].
وهم كانوا يعبدون الأصنام المصنوعة من الحجارة.
وأنت إذا نظرتَ إلى الأجناس في الوجود، فأكرمها هو الإنسان الذي سخَّر له الحق سبحانه بقية الأجناس لتكون في خدمته.
والجنس الأقل من الإنسان هو الحيوان.
ثم يأتي الجنس الأقل مرتبةً من الإنسان و الحيوان، وهو النبات.
ثم يأتي الجماد كأدنى الأجناس مرتبةً، وهم قد اتخذوا من أدنى الأجناس آلهة، وهذه هي قمة الخيبة.
وتأتي القضية الثانية في قول الحق سبحانه وتعالى:
} وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ { [يونس: 104] فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفض العبادة لمن هُمْ دون الله سبحانه، فمعنى ذلك أنه لن يعبد سوى الله تعالى.
وليس هذا موقفاً سلبياً، بل هو قمة الإيجاب؛ لأن العبادة تقتضي استقبال منهج الله بأن يطيع أوامره، ويجتنب نواهيه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً {

(/1455)


وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)


وما دام الخطاب مُوجَّهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ككل خطاب مِنَ الحقِّ سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، إنما ينطوي على الأمر لكل مؤمن.
وإذا ما عبد المؤمن الله سبحانه فهو يستقبل أحكامه؛ ولذلك يأتي الأمر هنا بألا يلتفت وجه الإنسان المؤمن إلى غير الله تعالى،فيقول الحق سبحانه:
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } [يونس: 105].
فلا يلتفت في العبادة يميناً ولا يساراً، فما دام المؤمن يعبد الله ولا يبعد غيره، فليعلم المؤمن أن هناك ـ أيضاً ـ شِرْكاً خفياً، كأن يعبد الإنسان مَنْ هم أقوى أو أغنى منه، وغير ذلك من الأشخاص التي يُفتن بها الإنسان.
ونحن عرفنا من قبل قول الحق سبحانه:
{ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً }[النساء: 125].
والحنف أصله ميل في الساق، وتجد البعض من الناس حين يسيرون تظهر سيقانهم متباعدة، وأقدامهم مُلْتفَّة، هذا اعوجاج في التكوين.
أما المقصود هنا بكلمة (حنيفاً) أي: معوج عن الطريق المعوج، أي: أنه يسير باستقامة.
ولكن: لماذا يأتي مثل هذا التعبير؟
لأن الدين لا يجيء برسول جديد ومعجزة جديدة، إلا إذا كان الفساد قد عَمَّ؛ فيأتي الدين؛ ليدعو الناس إلى الميل عن هذا الفساد. وفي هذا اعتدال لسلوك الأفراد والمجتمع.
ويحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن نقع في الشرك الخفي بعد الإيمان بالله تعالى.
ويأتي الكلام عن هذا الشرك الثاني في قول الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يونس: 105].
وهذا الشرك الثاني هو أقل مرحلة من شرك العبادة، ولكن أن تجعل لإنسان أو لأيِّ شيء مع الله عملاً.
فإن رأيت ـ مثلاً ـ للطبيب أو للدواء عملاً، فَقُل لنفسك: إن الطبيب هو مَنْ يصف الدواء كمعالج، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يشفي، بدليل أن الطبيب قد يخطىء مرة، ويأمر بدواء تحدث منه مضاعفات ضارة للمريض.
وعلى المؤمن ألا يُفتنَ في أيِّ سبب من الأسباب.
ونذكر مثالاً آخر لذلك، وهو أن بلداً من البلاد ذات الرقعة الزراعية المتسعة أعلنت في أحد الأعوام أنها زرعت مساحة كبيرة من الأراضي بالقمح بما يكفي كل سكان الكرة الأرضية، ونبتت السنابل وأينعتْ، ثم جاءتها ريح عاصف أفسدت محصول القمح، فاضطرت تلك الدولة أن تستورد قمحها من دول أخرى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ }

(/1456)


وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)


والمشرك من هؤلاء لحظة أنْ عبدَ الصنم ودعاه من دون الله تعالى، فهل استجاب له؟ وحين عبده هل قال الصنم له: افعل كذا، ولا تفعل كذا؟
إن الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة لم يكُنْ لها منهج، ولا أحد منها ينفع أو يضر، وحين يجيْ النفع لا يعرف الصنم كيف بمنعه، وحين يجيء الضُّر لا يقدر الصنم أن يدفعه.
إذن: فمَنْ يدعو من دون الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو دعاء لمن لا ينفع ولا يضر.
ومَنْ يفعل ذلك يكون من الظالمين؛ لأن الظلم هو إعطاء حقًّ لغير ذي حق، سواء أكان في القمة، أو في غير القمة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ }

(/1457)


وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)


هذا كلام الربوبية المستغنية عن الخلق، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس، ودعاهم إلى الإيمان به، وأن يحبوه؛ لأنه يحبهم، ويعطيهم، ولا يأخذ منهم؛ لأنه في غِنىً عن كل خلقه.
ويأتي الكلام عن الضُّر هنا بالمسِّ، { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } [يونس: 107].
ونحن نعلم أن هناك " مساً " و " لمساً " و " إصابة ".
وقوله سبحانه هنا عن الضر يشير إلى مجرد المسِّ، أي: الضر البسيط، ولا تَقُلْ: إن الضر ما دام صغيراً فالخلق يقدرون عليه، فلا أحد يقدر على الضر أو النفع، قَلَّ الضر أم كَبُر، وكَثُر النفع أو قَلَّ، إلا بإذن من الله تعالى.
والحق سبحانه وتعالى يذكر الضر هنا بالمسّ، أي: أهو الالتصاقات، ولا يكشفه إلا الله سبحانه وتعالى.
ومن عظمته ـ جَلَّ وعلا ـ أنه ذكر مع المس بالضر، الكشفَ عنه، وهذه هي الرحمة.
ثم يأتي سبحانه بالمقابل، وهو " الخير " ، وحين يتحدث عنه الحق سبحانه، يؤكد أنه لا يرده.
ونحن نجد كلمة { يُصَيبُ } في وَصْف مجيْ الخير للإنسان، فالحق سبحانه يصيب به من يشاء مِنْ عباده.
ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بهذه النهاية الجميلة في قوله تعالى:
{ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس: 107].
وهكذا تتضح لنا صورة جلال الخير المتجلي على العباد، ففي الشر جاء به مسّاً، ويكشفه، وفي الخير يصيب به العباد، ولا يمنعه.
والله تعالى هو الغفور الرحيم؛ لأنه سبحانه لو عامل الناس ـ حتى المؤمنين منهم ـ بما يفعلون لعاقبهم، ولكنه سبحانه غفور ورحيم؛ لأن رحمته سبقت غضبه؛ ولذلك نجده سبحانه في آيات النعمة يقول:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ }[النحل: 18].
وجاء الحق سبحانه بالشكِّ، فقال { إِن } ولم يقل: " إذا تعدون نعمة الله "؛ لأن أمر لن يحدث، كما أن الإقبال على العَدِّ هو مظنَّة أنه يمكن أن يحصي؛ فقد تُعدُّ النقود، وقد يَعدّ الناظر طلاب المدرسة، لكن أحداً لا يستطيع أن يُعدّ أو يُحصى حبَّات الرمال مثلاً.
وقال الحق سبحانه وتعالى:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ }[النحل: 18].
وهذا شَكُّ في أن تعدوا نِعمة الله.
ومن العجيب أن العدَّ يقتضي التجمع، والجمع لأشياء كثيرة، ولكنه سبحانه جاء هنا بكلمة مفردة هي { نِعْمَةَ } ولم يقل: " نِعَم " فكأن كل نعمة واحدة مطمور فيها نِعَمٌ شتَّى.
إذن: فلن نستطيع أن نعدَّ النِّعَم المطمورة في نعمة واحدة.
وجاء الحق سبحانه بذكر عَدِّ النعم في آيتين:
الآية الأولى تقول:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }[إبراهيم: 34].
والآية الثانية تقول:
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }

[النحل: 18].
وصَدْر الآيتين واحد، ولكن عَجُزَ كل منهما مختلف، ففي الآية الأولى:{ إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }[إبراهيم: 34].
وفي الآية الثانية:{ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }[النحل: 18].
لأن النعمة لها مُنْعِم؛ ومُنْعَم عليه، والمنعَم عليه ـ بذنوبه ـ لا يستحق النعمة؛ لأنه ظلوم وكفار، ولكن المنعم سبحانه وتعالى غفور ورحيم، ففي آية جاء مَلْحظ المنعِم، وفي آية أخرى جاء ملحظ المنعَم عليه.
ومن ناحية المنعَم عليه نجده ظَلُوماً كفَّاراً؛ لأنه يأخذ النعمة، ولا يشكر الله عليها.
ألم تَقْلُ السماء: يارب! ائذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم؛ فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك.
وقالت الأرض: ائذن لي أن أخسف بابن آدم؛ فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك.
وقالت الجبال: ائذن لي أن أسقط على ابن آدم.
وقال البحر: ائذن لي أن أغرق ابن آدم الذي طَعِم خيرك، ومنع شُكْرك.
هذا هو الكون الغيور على الله تعالى يريد أن يعاقب الإنسان، لكن الله سبحانه رب الجميع يقول: " دعوني وعبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم "
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: } قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ {

(/1458)


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)


إذن: فالحق سبحانه لم يُقصِّر مع الخلق، فقد خلق لكم العقول، وكان يكفي أن تفكّروا بها لتؤمنوا من غير مجيء رسول، وكان على هذه العقول أن تفكر في القويُّ الذي خلق الكون كله، بل هي التي تسعى لتطلب أن يرسل لها القويّ رسولاً بما يطلبه سبحانه من عباده، فإذا ما جاء رسول ليخبرهم أنه رسول من الله ويحمل البلاغ منه، كان يجب أن تستشرف آذانهم لما يقول.
إذن: كان على العباد أن يهتدوا بعقولهم؛ ولذلك نجد أن الفلاسفة حين بحثوا عن المعرفة، قالوا: إن هناك " فلسفة مادية " تحاول أن تتعرف على مادية الكون، وهناك " فلسفة ميتافيزيقية " تبحث عما وراء المادة.
فَمَنْ أعلمَ الفلاسفة ـ إذن ـ أن هناك شيئاً وراء المادة.
وكأن العقل مجرد ساعةً يرى نُظُم الكون الدقيقة كان يجب أن يقول: إن وراء الكون الواضح المُحَسِّ قوة خفية.
ولم يذهب الفلاسفة إلى البحث فيما وراء المادة، إلا لأنهم أخذوا من المادة أن وراءها شيئاً مستوراً.
والمستور الذي وراء المادة هو الذي يعلن عن نفسه، فهو أمر لا نعرفه بالعقل.
وقديماً ضربنا مثلاً في ذلك، وقلنا: هَبْ أننا جالسون في حجرة، ودقَّ جرس الباب، فعلم كل مَنْ في الحجرة أن طارقاً بالباب، ولم يختلف أحد منهم على تلك الحقيقة.
وهذا ما قاله الفلاسفة حين أقرُّوا بوجود قوة وراء المادة، ولكنهم تجاوزوا مهمتهم، وأرادوا أن يُعرِّفونا ماهية أو حقيقة هذه القوة، ولم يلتفتوا إلى الحقيقة البديهية التي تؤكد أن هذه القوة لا يمكن أن تُعْرَف بالعقل؛ لأننا ما دُمْنا قد عرفنا أن بالباب طارقاً يدق؛ فنحن لا نقول من هو، ولا نترك المسألة للظن، بل نتركه هو الذي يحدد لنا مَنْ هو، وماذا يطلب؟ لأن عليه هو أن يخبر عن نفسه.
اطلبوا منه أن يعلن عن اسمه وصفاته، وهذه المسائل لا يمكن أن نعرفها بالعقل.
إذن: فخطأ الفلاسفة أنهم لم يقفوا عند تعقُّل أن هناك قوة من وراء المادة، وأرادوا أن ينتقلوا من التعقُّل إلى التصور، والتصورات، لا تأتي بالعقل، بل بالإخبار.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } [يونس: 108].
والحق ـ كما نعلم ـ هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، وأن يأتي الحق من الرب الذي يتولى التربية بعد أن خلق من عدم وأمدَّ من عُدْم، ولا يكلفنا بتكاليف الإيمان إلا بعد البلوغ، وخلق الكون كله، وجعلنا خلفاء فيه.
وهو ـ إذن ـ مأمون علينا، فإذا جاء الحق منه سبحانه وتعالى، فلماذا لا نجعل المنهج من ضمن التربية؟
لماذا أخذنا تربية المأكل والملبس وسيادة الأجناس؟
كان يجب ـ إذن ـ أن نأخذ من المربِّي ـ سبحانه وتعالى ـ المنهج الذي ندير به حركة الحياة؛ فلا نفسدها.

وحين يقول الحق سبحانه:
} جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ { [يونس: 108].
فمعنى ذلك أنه لا عُذْر لأحد أن يقول: " لم يُبلغْني أحدٌ بمراد الله " ، فقد ترك الحق سبحانه العقول لتتعقل، لا أن تتصور.
وجاء التصوُّر للبلاغ عن الله تعالى، حين أرسل الحق سبحانه رسولاً يقول: أنا رسول من الله، وهو القوة التي خلقت الكون، وكان علينا أن نقول للرسول بعد أن تَصْدُق معجزته: أهلاً، فأنت مَنْ كنا نبحث عنه، فَقُل لنا: ماذا تريد القوة العليا أن تبلغنا به؟
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
} فَمَنِ اهْتَدَىا فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ { [يونس: 108].
لأن حصيلة هدايته لا تعود على مَنْ خلقه وهداه، بل تعود عليه هو نفسه انسجاماً مع الكون، وإصلاحاً لذات النفس، وراحة بال، واطمئناناً، وانتباهاً لتعمير الكون بما لا يفسد فيه، وهذا الحال عكس ما يعيشه مَنْ ضل عن الهداية.
ويقول الحق سبحانه عن هذا الصنف من الناس:
} وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا { [يونس: 108].
وكلمة } ضَلَّ { تدل على أن الإنسان الذي يضل كانت به بداية هداية، لكنه ضَلَّ عنها.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: } وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ { [يونس: 108].
وأنت لا توكِّل إنساناً إلا لأن وقتك لا يسع، وكذلك قدرتك وعلمك وحركتك، وهنا يُبلغ الرسول القوم: أنا لا أقدر أن أدفع عنكم الضلال، أو أجبركم على الهداية؛ لأني لست وكيلاً عليكم، بل عليَّ فقط مهمة البلاغ عن الله سبحانه وتعالى، وهذا البلاغ إن استمعتم إليه بخلاء القلب من غيره، تهتدوا.
وإذا اهتديتم؛ فالخير لكم؛ لأن الجزاء سيكون خلوداً في نعيم تأخذونه مقابل تطبيق المنهج الذي ضيَّق على شهوات النفس، ولكنه يهدي حياة نعيم لا يفوته الإنسان، ولا تفوت النعم فيه الإنسان.
وإذا كان الإنسان مِنَّا يقبل أن يتعب؛ ليتعلَّم حرفة أو عملاً أو صنعة أو مهنة؛ ليسكب الإنسان من إتقان هذا العمل بقية عمره.
أليس على هذا الإنسان أن يُقبِل على العبادة التي تصلح باله، وتسرع به إلى الغاية انسجاماً مع النفس، ومع المجتمع، وتقويماً وتهذيباً لشهوات النفس، وينال من بعد ذلك خلود النعيم في الآخرة.
أما من يستكثر على نفسه الجدَّ والاجتهاد في تحصيل العلم، أو تعلُّم مهنة أو حرفة، فهو يحيا في ضيق وعدم ارتقاء، فهو لا يبذل جهداً في التعلّم.
ونرى مَنْ يتعلم ويبذل الجهد، وهو يرتقي في المستوى الاجتماعي والاقتصادي؛ ليصل إلى درجة الدكتوراة ـ مثلاً ـ أو التخصص الدقيق الذي يأتي له بِسعَة الرزق.
وكلما كانت الثمرة التي يريدها الإنسان أينع وأطول عمراً كانت الخدمة من أجلها أطول.

وقارن بين خدمتك لدينك في الدنيا بما ينتظرك من نعيم الآخرة؛ وسوف تجد المسافة بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة شاسعاً، ولا مقارنة.
وقول الحق سبحانه:
} وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا { [يونس: 108].
نجد فيه كلمة } عَلَيْهَا { وهي تفيد الاستعلاء على النفس، أي: أنك بالضلال ـ والعياذ بالله ـ تستعلي على نفسك، وتركب رأسك إلى الهاوية.
وفي المقابل تجد قول الحق سبحانه:
} فَمَنِ اهْتَدَىا فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ { [يونس: 108].
وتجد " اللام " هنا تفيد المِلْك؛ لذلك يقال: " فلان له " و " فلان عليه ".
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه في ختام سورة يونس: } وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىا إِلَيْكَ {

(/1459)


وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)


وإذا كان الحق سبحانه قد أورد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ }[يونس: 108].
فهذا يعني البلاغ بمنهج الله ـ تعالى ـ النظري، ولا بُدَّ أن يثق الناس في المنهج، بأن يكون الرسول هو أول المنفذين للمنهج، لأنه ـ معاذ الله ـ لو غشَّ الناس جميعاً لما غشَّ نفسه.
إذن: فبعد البلاغ عن الحق سبحانه، وتعريف الناس بأن الهداية لا يعود نفعها على الحق، بل هي للإنسان، فيملك نفسه؛ ويملك زمام حياته، فيسير براحة البال في الدنيا إلى نعيم الآخرة، وأن الضلال لا يعود إلا باستعلاء الإنسان على نفسه؛ ليركبها إلى موارد التهلكة.
والرسول صلى الله عليه وسلم ليس وكيلاً عنكم، يأتي لكم بالخير حين لا تعملون خيراً، ولا يصرف عنكم الشر وأنتم تعملون ما يستوجب الشر.
ولذلك كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هو النموذج والأسوة.
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }[الأحزاب: 21].
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىا إِلَيْكَ } [يونس: 109].
أي: عليك أن تكون الأسوة، وحين تتَّبع ما يوُحَى إليك؛ ستجد عقبات ممن يعيشون على الفساد، ولا يرضيهم أن يوجد الإصلاح، فَوطِّن العزم على أن تتبع ما يوحى إليك، وأن تصبر.
ومجيء الأمر بالصبر دليل على أن هناك عقبات كثيرة، وعليك أن تصبر وتعطي النموذج لغيرك، والثقة في أنه لو لم يكن هناك خير في اتباع المنهج لما صبرت عليه؛ حتى يأتي حكم الله { وَاصْبِرْ حَتَّىا يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [يونس: 109].
وليس هناك أعدل ولا أحكم من الله سبحانه وتعالى.
وهذه السورة التي تُخْتَم بهذه الآية الكريمة، تعرضت لقضية الإيمان بالله،ـ قمة في عقيدة لإله واحد يجب أن نأخذ البلاغ منه سبحانه؛ لأنه الرب الذي خلق من عَدَم، وأمدَّ من عُدْم، ولم يكلِّفنا إلا بعد مرور سنوات الطفولة وإلى البلوغ؛ حتى يتأكد أن المكلَّف يستحق أن يُكلَّف بعد أن انتفع بخيرات الوجود كله، وتثبَّت من صدق الربوبية.
ومعنى الربوبية هو التربية، وأن يتولى المربِّي المربَّى إلى أن يبلغ حَدَّ الكمال المرجوّ منه.
وقد صدقتْ هذه القضية في الكون.
إذن: نستمع إلى الرب ـ سبحانه وتعالى ـ الذي خلق، حين يُبِّين لنا مهمتنا في الحياة بمنهج تستقيم به حركة الحياة، ويستقيم أمر الإنسان مع الغاية التي يعرفها قبل أن يخطو أي خطوة.
ومن المحال أن يخلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ المخلوق ثم يُضيِّعه، بل لا بد أن يضع له قانون صيانة نفسه؛ لأن كل صنعة إنما يضع قانونها ويحدد الغاية لها مَنْ صنعها، فإذا ما خالفنا ذلك نكون قد أحَلْنا وغيَّرنا الأمور، وأدخلنا العالم في متاهات، وصار لكل امرىء غاية، ولكل امرىء منهج، ولكل عقل فكر، ولَصار الكون متضارباً؛ لأن الأهواء ستتضارب، فتضعف قوة الأفراد؛ لأن الصراع بين الأنداد يُضعِف قوة الفرد عن معالجة الأمر الذي يجب أن يعالجه.

(/1460)


الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)


وتبدأ الآية بحروف توقيفية مقطعة من الحروف التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم، اي: أن كل حرف من تلك الحروف يُنطَق بمفرده، والحرف ـ كما نعلم ـ له اسم، وله مسمى، ونحن حين نكتب أو نتكلم نكتب أو ننطق بمسمى الحرف لا باسمه ولكن بعض سور القرآن الكريم تبدأ بحروف نقرأها باسم الحرف، وما عداها يُنطق فيها بمسميات الحرف.
وإن أردنا معرفة الفارق بينهما، فنحن نقرأ في أول سورة البقرة ونقول: " ألف. لام. ميم " رغم أنها مكتوبة:{ الم }[البقرة:1].
إذن: فنحن ننطقها بمسميات الحروف عكس قراءتنا لقول الحق سبحانه:
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }[الشرح: 1].
ونحن ننطقها بأسماء الحروف.. لماذا؟
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمعها هكذا من جبريل عليه السلام، والقرآن أصله سماع، وأنت لا تقرأ قرآناً إلا إذا سمعت قرآناً؛ لتعرف كيف تقرأ الحروف المقطعة بأسماء الحروف، وتقرأ بقية الآيات بمسميات الحروف.
وكنا قديماً قبل أن نحفظ القرآن " نصحح " اللوح، أي: أن يقرأ الفقيه أولاً ليُعلمنا كيف نقرأ قبل أن نحفظ.
والذي يُتعب الناس أنهم يريدون أن يقرأوا القرآن الكريم دون أن يجلسوا إلى فقيه أو دون أن يستمعوا إلى قارىء للقرآن.
ونقول لهم: إن القرآن ليس كتاباً عادياً نقرأه، إن القرآن كتاب له خاصية مميزة، فَصُور الحروف تختلف، فمرة ننطق اسم الحرف، ومرة نقرأ مسمى الحروف.
وقول الحق سبحانه: { الر } في أول سورة هود؛ يجعلنا نلحظ أنه من العجيب في فواتح السور ـ التي بدأت بهذه الحروف ـ أن القرآن مبنيٌّ على الوصل دائماً، فأنت لا تأتي إلى آخر الآية وتقف، لا، بل كل القرآن وَصْل، مثلما نقرأ قول الله سبحانه:
{ مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }[الرحمن: 64ـ66].
وإن كان هناك فاصل بين كل آية وغيرها، إلا أن الآيات كلها مبنية على الوصل.
وفي آخر سورة يونس يقول الحق سبحانه:
{ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }[يونس: 109].
فلو لم تكن موصولة لنطقت الحرف الأخير مبنياً على السكون، ولكنك تقرأه منصوباً بالفتحة. وهي موصولة بما بعدها (بسم الله الرحمن الرحيم).
ومن العجيب أن فواتح السور مع أنها مكونة من حروف مبنية على الوصل إلا أننا نقرأ كل حرف موقوفاً، فلا نقول: " ألفٌ لامٌ ميمٌ " بل نقول: " ألفْ لامْ ميمْ ".
وكذلك نقرأ في أول سورة مريم " كافْ هاءْ ياءْ عينْ صادْ " ، ولا نقرأ الحروف بتشكيلها الإعرابي، وهذا يدل على أن لها حكمة لا نعرفها.
وفي القرآن الكريم آيات بُدئت بحرف واحد مثل قول الحق سبحانه:
{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ }[ص: 1].

وقول الحق سبحانه:
{ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ }[ق: 1].
وقول الحق سبحانه:
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }[القلم: 1].
ونلحظ أن الحرف في هذه السور ليس آية، ولكنك تقرأ قول الحق سبحانه:{ حـم }[الشورى: 1].
وهي آية، وكذلك تقرأ قول الحق سبحانه:
{ عسق }[الشوى: 2] كآية مع أنها حروف مقطعة، وتقرأ قول الحق سبحانه:
{ كهيعص }[مريم:1] كآية بمفردها.
وتقرأ قول الحق سبحانه:{ طه }[طه: 1] كآية بمفردها.
وكذلك تقرأ قول الحق:{ يس }[يس: 1] كآية بأكملها.
وتجد أيضاً:{ المص }[الأعراف: 1] كآية.
و{ طسم }[ " الشعراء: والقصص ": 1] كآية.
وتجد أيضاً{ المر }[الرعد: 1] ملتحمة بما بعدها في آية واحدة.
وتقرأ في أول سورة النمل:{ طس }[النمل: 1] ملتحمة بما بعدها في آية واحدة.
إذن: فالمسألة لا نسق لها، ومعنى ذلك أن لكل موقف وكل حرف حِكمة، والحكمة نجدها حين نتأمل العالم المادي في الحياة، فنفطن إلى عبر الله سبحانه وتعالى في آيات الكون المحسَّة، ويجد الدليل على صدق الله تعلى فيما لم نعلم.
ومثال ذلك: حين ينزل الإنسان في فندق راق فهو يجد لكل غرفة مفتاحاً، وهذا المفتاح لا يفتح إلا باب غرفة واحدة، ولكن في كل طابق من طوابق الفندق هناك مفتاح مع المسئول عن الطابق يسمى " سيد المفاتيح " وهو يفتح كل غرف الطابق، وقد صنعوا ذلك؛ حتى لا يفتح كل نزيل غرفة الآخر.
ومع التقدم العلمي جعلوا الآن لكل غرة بطاقة الكترونية، ما إن يُدخلها الإنسان من فتحة معينة من باب الغرفة حتى ينفتح الباب، وكل غرفة لها بطاقة معينة، وأيضاً يوجد مع مسئول الطابق في الفندق بطاقة واحدة، تفتح كل غرف الطابق.
وأنت حين تقرأ فواتح السور فافهم أن كل آية لها مفتاح، وكل حرف في هذه الفواتح قد يشبه المفتاح، وإن لم يكن معك المفتاح ذو الأسنان التي تفتح باب الغرفة؛ فلن تنفتح لك السورة.
إذن: فكتاب الله له مفاتيح، ونحن نقرأ حروفاً مُقطَّعة على أنها آية، أو نقرأها كجزء من آية.
وتقول من قبل القراءة: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لتخلص نفسك من الأغيار المناقضة لمنهج قائل القرآن، ثم تضع البطاقة الخاصة مثل قول الحق سبحانه وتعالى:{ الم }[البقرة: 1].
فينفتح لك باب البقرة.
وهكذا نعرف أن هناك مفتاحاً، وأن هناك فاتحاً وخذ فواتح السور على أنها مفاتيح، وكل مفتاح له شكل ونحت معين، إن نقلته لسورة أخرى فهو لا يفتحها.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: } الر { وهي مكونة من ثلاثة حروف، مثل } الم { ، وقد وردت في خمس سور من القرآن الكريم هي: يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر.
ولكن } الم { تقرأ كآية، ولكنها هنا من مقدمة سورة " هود " جزء من آية رغم أنك تقرأها مثلها مثل سورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف وسورة إبراهيم، وتقرأها كآية.

وايضاً } المص { هي أربعة حروف تقرأها آية في سورة الأعراف، وهناك أربعة حروف في أول سورة الرعد، وتقرأها كجزء من آية في سورة الأعراف.
إذن: فليس هناك قانون لهذه الحروف التي في أوائل السور، بل كل حرف له خصوصية لم تتكشف كل أسرارها بعد، لهذا ذهب بعض المفسرين إلى قولهم " الله أعلم بمراده ".
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ { [هود: 1].
والله سبحانه يقول مرة عن القرآن أنه: } كِتَابٌ { ومرة يقول:
{ قُرْآنٍ }[يونس: 61].
والقرآن يُقرأ، والكتاب يُكتب، وشاء الحق سبحانه ذلك؛ ليدُلَّك على أن الحافظ للقرآن مكانان: صدور، وسطور. فإن ضَلَّ الصدر، تذكر السطر.
ولذلك " حين أراد المسلمون الأوائل جمع القرآن، ومطابقة ما في الصدور على ما في السطور، وضعوا أسساً لتلك العملية الدقيقة، من أهمها ضرورة وجود شاهدين على كل آية، ووقفوا عند آخر آيتين في سورة التوبة، ولم يجدوا إلا شاهداً واحداً هو " خزيمة " ، وصدَّقوا " خزيمة " وكتبوا الآيتين عنه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد منحه وساماً، حين قال عنه: " من شهد له خزيمة فهو حسبه ".
إذن: فإطلاق صفة الكتاب على القرآن، سببها أنه مكتوب، وهو قرآن؛ لأنه مقروء.
ولم تكن الكتابة في الأزمنة القديمة مسألة سهلة، فلم يكن يُكتب إلا النفيس من الأعمال، أو لأن القرآن كتاب؛ لأنه في الأصل مكتوب في اللوح المحفوظ.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى واصفاً القرآن:
} كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ { [هود: 1].
ومادة الحاء والكاف والميم تدل على أمر مُحسٍّ وهو إتقان البناء، بحيث يمنع عنه الفساد؛ فلا خلل فيه، ولا تناقض، ولا تعراض ولا انهيار.
ولا بد من توازن هندسي لكل فتحة في البناء؛ حتى لا تكون الفتحات التي في البناء متوازية على خط واحد، فتحدث شروخ في الجدران أو انهيار البناء كله. هذا هو إحكام البناء في عالم المحسَّات.
وشاء الحق سبحانه أن يصف القرآن، وهو الجامع لكل المنهج بأنه:
} كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ { [هود: 1].
فخذوا من هذا الإحكام ما يمنع فسادكم؛ لأن القرآن جاء على هيئة تمنع الفساد فيه، وعقد منع الفساد يكون الإصلاح والصلاح.
ولو نظرتَ إلى أن القرآن الكريم في اللوح المحفوظ ستجده قد نزل جملة واحدة، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وجاء الوحي بعد ذلك حسب الأحداث التي تتطلب الأحكام، وقد نثر الحق سبحانه في القرآن أحكاماً وفصولاً ونجوماً.
إذن: فالقرآن قد أحكِم أولاً، ثم فُصِّل.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
} كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ { [هود: 1].
والفواصل الكبيرة في القرآن هي السور، والفواصل الصغيرة هي الآيات، وأراد المسلمون أن يشجعوا حفظ القرآن، فقسموه إلى ثلاثن جزءاً، وكل جزء قسموه إلى حزبين، وكل حزب قسموه إلى أربعة أرباع، لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور، وكل سورة هي مجموعة من الآيات.

وقد يكون المعنى أن القرآن قد أحْكِمَ وفُصِّل؛ لأنه نزل منهجاً جامعاً من الله سبحانه وتعالى.
وحين تنظر إليه تجده مُنَّوعاً، فمرة يتكلم في العقيدة وقمتها،ومرة يتكلم في النبوة وموكبها الرسالي، والمعجزات، ومرة يتكلم في الأحكام، ومرة يتكلم في القصص، والأخلاقيات، والكونيات.ومرة يتكلم في علم الفرائض.
إذن: فهو مفصل في اللفظ أو في المعنى، وهو يتناول معاني كثيرة، وكل معنى تتطلبه العقيدة، قمة في الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويتناول الجزئيات حتى أدق التفاصيل.
أو أحكم نزولاً؛ لأنه قد نزول مرة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم فُصِّل حسب الحَوادث، وهذا أدْعَى إلى أن تتعلق النفس بكل نجم من نجوم القرآن حين ينزل وقت طلبه.
وأنت حين تُعِد لنفسك صيدلية صغيرة في البيت، قد تأتي فيها بكل الأدوية، لكن إن أصابك صداع، فقد تفتش عن أقراص " الأسبرين " فلا تجدها. أما إذا أرسلت إلى الصيدلية الكبيرة، فسوف تجد " الأسبرين " حين تحتاجه.
وكذلك حين تكون ظمآن، قد تفتح ثلاجة بيتك فلا تجد زجاجة الماء رغم أنها أمامك، وذلك بسبب لهفة العطش.
إذن: فنزول القرآن منجمعاً شاءه الحق ـ سبحانه ـ لتنتعش النفس الإنسانية وهي تعشق استقبال القرآن.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىا مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }[الإسراء: 106].
وقد جاء في القرآن على لسان الكافرين:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً }[الفرقان: 32].
فيكون الرد من الحق سبحانه:
{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32].
ولو كان القرآن قد نزل مرة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما التفت الناس إلى كل ما جاء فيه،ولكن شاء الحق سبحانه وتعالى أن ينزل القرآن مُنجَّماً على الرسول صلى الله عليه وسلم، ليكون في كل نجم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواقف المختلفة، والرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أمته من بعده في حاجة إلى تثبيتات متعددة حسب الأحداث التي تعترضهم، ولذلك قال الحق سبحانه:
{ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32].
فساعة أن يسمع المؤمنون نجماً من نجوم القرآن، يكونون أقدر على استيعابه وحفظه وتطبيق الأحكام التي جاءت فيه.
ولم يُنزل الحق سبحانه آية واحدة، بل أنزل آياتٍ، بدليل أنهم إن جاءوا بحكم ما، فهو سبحانه وتعالى ينزل الحق في هذا الحكم وأكثر تفصيلاً؛ ولذلك يقول سبحانه:
{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33].
ولو نزل القرآن جملة واحدة، فكيف يعالج أسئلتهم التي جاءت في القرآن: } يَسْأَلُونَكَ عَنِ {.

ويضرب الله مثلاً بالبعوضة، فيتساءلون ساخرين: كيف يضرب الله مثلاً بالبعوضة.
فينزل قول الحق سبحانه:
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }[البقرة: 26].
ولو كانوا عقلاء لتساءلوا: كيف ركَّب الحق سبحانه في هذا الكائن الضئيل ـ البعوضة ـ كل أجزاء الكائن الحي؛ من محلِّ الغذاء إلى قدرة الهضم، إلى محل التنفس، إلى محل الدم، إلى محل الأعصاب.
وكان يجب أن يأخذوا من هذا الخلق دلائل العظمة؛ لأن عظمة الصنعة تكون في أمرين: إما ضخامة الشيء المصنوع، وإما أن يكون الشيء المصنوع تحت إدراك الحس.
ومثال ذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ أن الفنيين حين صنعوا ساعة " بج بن " التفت الناس إلى ضخامة تلك الساعة، ودقة أدائها، وحين صنع الفنيون في " سويسرا " ساعة دقيقة وصغيرة جداً في حجمها، زاد إعجاب الناس بدقة الصنعة.
وهكذا نجد أن القدرة تتجلى في صناعة الشيء الكبير في الحجم، أو صناعة الشيء الدقيق جداً؛ فما بالنا بخالق الكون كله، بأكبر ما فيه وأصغر ما فيه.
والحق سبحانه وتعالى يضرب المثل بالذبابة فيقول:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ }[الحج: 73].
فول اجتمع الخلق المشركون أو المتجبرون وسألوا أصنامهم أن يخلقوا لهم ذبابة، أو حتى لو حاولوا هم خَلْق ذبابة لما استطاعوا، ولا يقتصر الأمر على ذلك العجز فقط، بل يتعداه إلى عجز آخر:
{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73].
فإن جاءت ذبابة على أي طعام، وأخذت بعضاً من الطعام، فهل يستطيع أحد أن يستخلص من الذبابة ما أخذته؟
لا، كذلك نرى ضعف الاثنين: الطالب والمطلوب.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ { [هود: 1].
فالإحكام لا يتناقض مع التفصيل؛ لأن الحق سبحانه هو الذي أحكم، وهو سبحانه الذي فصَّل، وهو سبحانه حكيم بما يناسب الإحكام، وهو سبحانه خبير بما يناسب التفصيل، بطلاقة غير متناهية.
وهو سبحانه حكيم يخلق الشيء مُحْكماً لا يتطرق إليه فساد، وهو سبحانه خبير عنده علم بخفايا الأمور.
ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الأنعام: 103].
فالله سبحانه لا تدركه عين، وعينه ـ سبحانه وتعالى ـ لا تغفل عن أدق شيء وأخفى نية.
إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى:
} الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ { [هود: 1].
يبيِّن لنا أن القرآن كلام الله القدير الذي بُني على الإحكام، ونزل مُحْكماً جملة واحدة، ثم جاءت الأحداث المناسبة لينزل من السماء الدنيا نجوماً مفصلة تناسب كل حدث.
وأحكام الكتاب ثم تفصيله له غاية، هي الغاية من المنهج كله، ويبيِّنها الحق سبحانه في الآية التالية: } أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ {

(/1461)


أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)


إذن: فقد أحكمت آيات الكتاب وفصِّلت لغاية هي: ألا نعبد إلا الله.
والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر، وفيما نهى.
وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي، والمعبود الذي لا أمر له ولا نهي لا يستحق العبادة، فهل مَنْ عَبَدَ الصنم تلقَّى من أمراً أو نهياً؟
وهل مَنْ عَبَدَ الشمس تلقَّى منها أمراً أو نهياً؟
إذن: فكلمة العبادة لكل ما هو غير الله هي عبادة باطلة؛ لأن مثل تلك المعبودات لا أمر لها ولا نهي، وفوق ذلك لا جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها.
والعبادة بدون منهج " افعل " و " لا تفعل " لا وجود لها، وعبادة لا جزاء عليها ليست عبادة.
وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه:
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ } [هود: 2].
غير قوله سبحانه:
{ اعْبُدُواْ اللَّهَ }[المائدة: 72].
ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن يقولوا للناس:{ اعْبُدُواْ اللَّهَ }[الأعراف: 59].
ولكن هنا يقول الحق سبحانه: { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ } [هود: 2].
فكأنه سبحانه يواجه قوماً لهم عبادة متوجهة إلى غير من يستحق العبادة؛ فيريد سبحانه أولاً أن يُنهي هذه المسألة، ثم يثبت العبادة لله.
إذن: فهنا نفي وإثبات، مثل قولنا: " أشهد ألا إله إلا الله " ، هنا ننفي أولاً أن هناك إلهاً غير الله، ونثبت الألوهية لله سبحانه.
وأنت لا تشهد هذه الشهادة إلا إذا وُجد قوم يشهدون أن هناك إلهاً غير الله تعالى، ولو كانوا يشهدون بألوهية الإله الواحد الأحد سبحانه؛ لكان الذهن خالياً من ضرورة أن نقول هذه الشهادة.
ولكن قول الحق سبحانه { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ } [هود: 2].
معناه النفي أولاً للباطل، وإذا نُفِي الباطل لا بد أن يأتي إثبات الحق، حتى يكون كل شيء قائماً على أساس سليم.
ولذلك يقال: " درء المفسدة مقدَّم دائماً على جلب المنفعة " فالبداية ألا تعبد الأصنام، ثم وجِّه العبادة إلى الله سبحانه.
وما دامت العبادة هي طاعة الأمر، وطاعة النهي، فهي ـ إذن ـ تشمل كل ما ورد فيه أمر، وكل ما ورد فيه نهي.
وإنْ نظرت إلى الأوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق.
وكل حركة تتطلبها الحياة لإبقاء الصالح على صلاحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح، فهذه عبادة.
إذن: فالإسلام لا يعرف ما يقال عنه " أعمال دنيئة " ، و " أعمال شريفة " ولكنه يعرف أن هناك عاملاً دنيئاً وعاملاً شريفاً.

وكل عامل يعمل عملاً تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلاحه وعدم الإفساد، فهذا عامل شريف؛ وقيمة كل امرىء فيما يحسنه.
وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة؛ لأن هناك أمراً بما يجب أن يكون، وهناك نهياً عما يجب ألا يكون، وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو لا تفعله، فإذا نظرت إلى نسبة ما تؤمر به، ونظرت ألى ما تُنهى عنه بالنسبة لأعمال الحياة، لوجدت أنها نسبة لا تتجاوز خمسة في المائة من كل أعمال الحياة، ولكنها الأساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان ".
وأعداء الإسلام يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الأركان الخمسة، ولكن هذه الأركان هي الأعمدة التي تقوم عليها عمارة الإسلام.
وأركان الإسلام هي إعلان استدامة الولاء لله تعالى، وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين؛ لأنه يصلح الحياة.
وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الأرض، أما العلوم ا لأخرى فهي مطلوبة لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم، وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك تدعيماً لرفعة الإسلام.
إذن فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين، ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها، فلا يأتي إنسان لا يعرف صحيح الدين ليتكلم والعَوْل، والرد؛ لأن المسلم قد تمر حياته كلها ولا يحتاج رأياً في قضية التوريث، أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم، وغير ذلك.
وإن تعرَّض المسلم لقضية مثل هذه، نقول له: أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى المختصين بهذا العلم، وهم أهل الفقه والفتوى، لأنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى الطبيب، وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس، وإن تعرضت لعملية محاسبية تذهب إلى المحاسب، فإن تعرضت إى أي أمر ديني، فأنت تسأل عنه أهل الذكر.
وأنت إذا نظرت إلى العبادة، تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة، وسبق أن ضربت لذلك مثلاً وقلت: هَبْ أن إنساناً يصلي، ولا يفعل شيئاً في الحياة غير الصلاة، فمن أين له أن يشتري ثوباً يستر به عورته ما دام لا يعمل عملاً أخر غير الصلاة، وهو إن أراد أن يشتري ثوباً، فلا بد له من عمل يأخذ مقابله أجراً، ويشتري الثوب من تاجر التجزئة، الذي اشترى الأثواب من تاجر الجملة، وتاجر الجملة اشتراها من المصنع، في الدين؛ لأن العلم بالدين يقتضي اللجوء إلى أهل الذكر.
فإن قيل: الدين للجميع، نقول: صدقت بمعنى التدين للجميع، أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة.

وأهل الذكر أيضاً في العلوم الأخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم، كما في الطب أو الهندسة أو غيرهما، وكذلك الأعمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتاً وتتطلب جهداً، فما بالنا بالذي يُصلح أسس إقامة الناس في الحياة، وهو التفقه في الدين.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }[التوبة: 122].
فنحن لا نطلب من كل مسلم ـ مثلاً ـ أن يدرس المواريث ليعرف العَصبة وأصحاب الفروض، وأولي الأرحام، والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر، والمصنع الآخر نسج الثياب من غزل القطن أو الصوف. والقطن جاء من الزراعة، والصوف جاء من جز شعر الأغنام.
وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلاتك، هذا الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل.
وانظر لنفسك واسألها: ما أفطرتَ اليوم؟
وأقلُّ إجابة هي: أفطرت برغيف وقليل من الملح، وستجد أنك اشتريت الرغيف من البقال، وجاء البقال بالرغيف من المخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن، والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن الغلال التي جاءت من الحقل. وكذلك تمت صناعة ألات الطحن في مصانع أخرى قد تكون أجنبية.
وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات، فهناك الفلاح الذي حرث، وهناك مصمم آلة الطحن الذي درس الهندسة، وهناك عالم " الجيولوجيا " الذي درس طبقات الأرض ليستخرج الحديد الخام من باطنها، وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام؛ ليستخلص منه الحديد النقي الصالح للتصنيع.
وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك، وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي، فلا تقل: " سأنقطع للعبادة " بمعنى أن تقصر حياتك على الصلاة فقط، لأن كل حركة تصلح في الحياة هي عبادة، وإن أردت ألا تعمل في الحياة، فلا تنتفع بحركة عامل في الحياة. وإذا لم تنتفع بحركة أي عامل في الحياة، فلن تقدر أن تصلي، ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي.
إذن فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء " افعل " و " لا تفعل ".
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ { [هود: 2].
والنذير: هو من يُخبر بشرٍّ زمنه لم يجيء، لتكون هناك فرصة لتلافي العمل الذي يُوقع في الشر، والبشير هو من يبشِّر بخير سيأتي إن سلك الإنسان الطريق إلى ذلك الخير.
إذن: الإنذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء.
وفي الإنذار تخويف ونوع من التعليم، وأنت حين تريد أن تجعل ابنك مُجِداً في دراسته؛ تقول له: إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلان الذي أصبح صعلوكاً تافهاً في الحياة.

إذن: فأنت تنذر ابنك؛ ليتلافى من الآن العمل الذي يؤدي به إلى الفشل الدراسي.
وكذلك يبشر الإنسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم.
إذن: فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام الإنسان مُتَّبعاً ما جاء بالمنهج الحق في ضوء " افعل " و " لا تفعل " ، وما لم يرد فيه " افعل " و " لا تفعل " فهو مباح.
وعلى الإنسان المسلم أن يُبصِّر نفسه، ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء " افعل " هو العمل المباح، وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء " لا تفعل " ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل هذا الفعل، وعلى المسلم تحرِّي الدقة في مدلول كل سلوك.
ونحن نعلم أن التكليفات الإيمانية قد تكون شاقة على النفس، ومن اللازم أن نبيِّن للإنسان أن المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير.
ومثال ذلك: حين نجد الفلاح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم؛ ليضعه على ظهر الحمار ويذهب به إلى الحقل؛ ليخلطه بالتربة، وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظاراً ليوم الحصاد.
ويبيِّن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ هنا على لسان رسوله أن الأمر بعدم عبادة أي كائن غير الله، هو أمر من الله سبحانه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نذير وبشير من الله.
وقول الحق سبحانه وتعالى:
} أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ { [هود: 2].
فيه نفي لعبادة غير الله، وإثبات لعبودية الله تعالى.
وهذا يتوافق ويتسق مع الإنذار والبشارة؛ لأن عبادة غير الله تقتضي نذيراً، وعبادة الله في الإسلام تقتضي بشيراً.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان ويعلم ضعف الإنسان، ومعنى هذا الضعف أنه قد يستولي عليه النفع العاجل، فيُذهبه عن خير آجلٍ أطول منه، فيقع في بعض من غفلات النفس.
لذلك بيَّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلات النفس عليه أن يستغفر الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يبخل برحمته على أحدٍ من خلقه.
وإن طلب العبد المذنب مغفرة الله، فسبحانه قد شرع التوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى طاعة الله تعالى.
ولا يقع عبد في معصية إلا لأنه تأبَّى على منهج ربه، فإذا ما تاب واستغفر، فهو يعود إلى منهج الله سبحانه، ويعمل على ألا يقع في ذنب جديد.
وهنا يقول الحق سبحانه: } وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ {

========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حمل مكتبة الإمام ابن أبي الدنيا - الإصدار الأول

من مشكاة مكتبة الإمام ابن أبي الدنيا - الإصدار الأول المؤلف ابن أبي الدنيا     وصف الكتاب برنامج موسوعي يعتني بجمع مؤلفات الإمام أبو بكر عب...